العالم المادي
مِمَّ تتكون المجرَّات؟ الإجابة الواضحة هي أنها تتكون من النجوم الحارة الساطعة، وسُحُب الغاز والغبار الباردة المظلمة. وهذه بالأساس هي نفس نوعية المادة التي تتكوَّن منها الأرض، وتتكون منها أجسادنا؛ وأعني بهذا: المادة الذرية. والذرات تتكون من نوًى كثيفة، مكوَّنة من بروتونات ونيوترونات، تحيط بها سُحُبٌ من الإلكترونات، بحيث يقابل كلُّ بروتونٍ داخل النواة إلكترونًا داخل السحابة. وداخل النجوم، تُنتزَع الإلكترونات بعيدًا عن النوى كي تشكِّل نوعًا من المادة يُعرَف باسم البلازما؛ بَيْدَ أنها لا تزال في جوهرها نفس نوعية المادة العادية. البروتونات والنيوترونات تنتمي إلى عائلةٍ من الجسيمات تُعرَف إجمالًا باسم الباريونات، وكثيرًا ما يُستخدَم مصطلح «المادة الباريونية» من جانب الفلكيين للإشارة إلى المادة التي تتكون منها النجوم وسحب الغاز والكواكب والبشر. أما الإلكترونات فهي تنتمي إلى عائلة أخرى تُعرَف باسم اللبتونات، لكن بما أن كتلة الإلكترون أقل من واحد على الألف من كتلة البروتون أو النيوترون، فإن الباريونات تهيمن من حيث الكتلة على هذا النوع من المادة المألوفة.
كل المادة الباريونية الموجودة في الكون جرى تصنيعها في الانفجار العظيم، من الطاقة الصافية بما يتفق والمعادلة: الطاقة تساوي الكتلة مضروبةً في مربع سرعة الضوء، والتي يمكن بطبيعة الحال أن تُعاد كتابتها على نحو معكوس؛ بحيث إن الكتلة تساوي الطاقة مقسومةً على مربع سرعة الضوء. إن حسابَ مقدار المادة الباريونية المُنتَجة في الانفجار العظيم عمليةٌ يسيرة للغاية، بشرط أن نكون على يقين من أن حرارة الانفجار العظيم كانت تبلغ مليار درجة على الأقل، والدليل على هذا يأتينا من هسيس الضوضاء الراديوية الضعيف الذي يمكن رصده قادمًا من كل الاتجاهات من الفضاء. فهذه الخلفية من الضوضاء الراديوية تُفسَّر بوصفها الإشعاع المتخلِّف عن الكرة النارية للانفجار العظيم ذاته، وقد أُزِيحت إزاحة حمراء بمعاملٍ قدره ألف، بحيث باتت تظهر الآن على صورة إشعاع ميكروني ذي درجة حرارة قدرها ٢٫٧ درجة فوق الصفر المطلق (٢٫٧ درجة كلفينية)، ومن هذه المشاهدات يمكننا العودة بالزمن إلى الوراء لحساب الحرارة التي كان عليها الكون في أي زمن في الماضي، حين كان أصغر حجمًا ومن ثم أقلَّ من حيث الإزاحة الحمراء. فبعد مرور ثانية واحدة على مولد الزمن، كانت درجة الحرارة ١٠ مليارات درجة كلفينية، وبعد مائة ثانية من البداية كانت تبلغ مليار درجة كلفينية، وبعد ساعة واحدة قلَّت الحرارة إلى ١٧٠ مليون درجة كلفينية. وعلى سبيل المقارنة، تبلغ درجة الحرارة في قلب الشمس نحو ١٥ مليون درجة مئوية.
في مثل هذه الظروف تكون المادة في حالة بلازما، كما الحال داخل الشمس، ويُتقاذَف الإشعاع بين الجسيمات المشحونة كهربيًّا. وإشعاع الخلفية الميكروني نفسه يأتينا من زمنٍ تلا بداية الكون بنحو ٣٠٠ ألف عام، حين كان الكون قد برد لبضعة آلاف درجة كلفينية، بما يساوي تقريبًا حرارة سطح الشمس اليوم. بعد ذلك، ارتبطت الإلكترونات السالبة الشحنة بالبروتونات الموجبة الشحنة داخل الذرات المتعادلة الشحنة، وصار بإمكان الإشعاع التدفُّق عبر الفضاء، تمامًا مثلما يتدفق من سطح الشمس.
الخطوة البديهية التالية هي مقارنة هذا التنبؤ لمقدار المادة الباريونية الموجود في الكون بالمقدار الذي يمكننا رؤيته في المجرَّات والنجوم الساطعة، وهذه عملية حسابية تقريبية مبنية على فهمنا لسطوع النجوم وكتلها وعلى عدد النجوم الموجودة في المجرَّات؛ بَيْدَ أنها تشير إلى أن نحو خُمْس المادة الباريونية — أي أقل من واحد بالمائة من المقدار الإجمالي للمادة المطلوبة كي يكون الكون منبسطًا — موجودٌ في المادة الساطعة، بينما الأربعة أخماس الأخرى موجودة في سحب الغاز والغبار الموجودة بين النجوم، أو ربما على صورة نجوم ميتة مُنطَفِئة، وبعض هذا موجود على صورة نوع من الضباب الشفاف من الهيدروجين والهليوم يحيط بالمجرَّات مثل مجرتنا. ومع ذلك، كما ذكرت من قبلُ، فنحن نعلم من الكيفية التي تدور بها المجرَّات حول نفسها، ومن الكيفية التي تتحرك بها عبر الفضاء، أنها واقعةٌ تحت هيمنة مقدارٍ من المادة أعظم كثيرًا من هذا. وهذه المادة يمكن فقط أن تكون مادةً مظلمة باردة غير باريونية من نوعٍ ما، تتألَّف من جسيم أو جسيمات لم يسبق أن جرى اكتشافها في أي تجربة على الأرض من قبلُ قطُّ. يُطلَق على هذه المادة اسم: «المادة المظلمة الباردة»، ويُعَدُّ رصد هذه المادة أحدَ المهام الأكثر إلحاحًا أمام فيزيائيِّي الجسيمات اليوم.
تأتينا الأدلة على وجود المادة المظلمة الباردة من الكيفية التي تتحرك بها المجرَّات؛ كيفية دورانها حول نفسها وكيفية تحرُّكها عبر الفضاء. من الممكن قياس دوران أي مجرَّة قرصية باستخدام تأثير دوبلر المألوف، الذي يبيِّن الكيفية التي تتحرك بها النجوم الموجودة على الجانب الآخَر من المجرَّة مقترِبةً منَّا مع دوران المجرَّة، بينما النجوم الموجودة على الجانب الآخَر تتحرك مبتعدة عنَّا، وهذا يصلح فقط في حالة المجرَّات التي تُرى من جهة الحافة تقريبًا، لكنَّ هناك عددًا وفيرًا من هذه المجرَّات للدراسة. إن تأثير دوبلر يزيد الإزاحة الحمراء على أحد جانبَي القرص، بينما يقلِّلها على الجانب الآخَر؛ وبذا يبيِّن قياسُ الإزاحة الحمراء في مواضع مختلفة على امتداد القرص الكيفيةَ التي تتحرك بها النجوم حول مركز المجرَّة. النقطة الحاسمة هنا هي أنه خارج النواة المركزية للمجرَّة القرصية، حيث تحدث أمور أخرى مثيرة للاهتمام، تكون سرعة الدوران ثابتةً على طول المسافة نحو حافة القرص المرئي؛ فكل النجوم في القرص تتحرك بالسرعة عينها من حيث الكيلومتر لكل ثانية، وهذا يختلف تمامًا عن الكيفية التي تدور بها كواكب المجموعة الشمسية في مداراتها حول الشمس.
الكواكب أجرام صغيرة تدور حول كتلة مركزية ضخمة، وتهيمن جاذبية الشمس على حركتها؛ ولهذا السبب فإن السرعة التي تتحرك بها الكواكب، بالكيلومتر لكل ثانية، تتناسب عكسيًّا مع مربع المسافة بينها وبين مركز المجموعة الشمسية. يبعُد المشتري عن الشمس مسافةً أكبر من تلك التي يبعدها كوكب الأرض عنها؛ ومن ثَمَّ فهو يتحرك على نحوٍ أبطأ من كوكب الأرض، كما أن مداره حول الشمس أكبر. لكن جميع النجوم في قرصِ أيِّ مجرَّة تتحرك بالسرعة عينها. لا تزال النجوم البعيدة عن المركز لها مدارات أكبر؛ ومن ثَمَّ فهي لا تزال تستغرق وقتًا أكبر كي تتمَّ دورة كاملة حول المجرَّة؛ بَيْدَ أن النجوم كلها تتحرك بالسرعة المدارية عينها عبر الفضاء.
وهذا تحديدًا هو نمط السلوك المتوافق مع الحركة المدارية لأجسام خفيفة نسبيًّا مطمورة داخل مقدار أكبر من المادة الممارسة لقوة الجاذبية؛ مثل حبات الزبيب التي تدور داخل رغيف من خبز الزبيب. والنتيجة الطبيعية هي أن المجرَّات القرصية، بما فيها مجرَّة درب التبانة، تدور داخل سُحُبٍ أكبر بكثير، أو هالات، من مادة مظلمة غير مرئية. إنها مادة منتشرة من نوعٍ ما؛ لذا لا بد أن تكون على صورة جسيمات أشبه بجسيمات الغاز، التي لها كتلةٌ وتؤثِّر على المادة المعتادة تأثيرًا جذبيًّا، لكنها لا تتفاعل مع المادة المعتادة بأي طريقة أخرى (على سبيل المثال، من خلال الكهرومغناطيسية) وإلا كُنَّا قد لاحظناها. في هذه الصورة، تكون جسيمات المادة المظلمة الباردة موجودةً في كل مكان، بما في ذلك المكان الذي تقرأ فيه هذه الكلمات، وهي تمر باستمرار عبر جسدك دون أن تؤثِّر فيه. فهناك آلاف، وربما عشرات الآلاف، من جسيمات المادة المظلمة الباردة في كل متر مكعب من كل شيء، وأيضًا في كل متر مكعب من «العدم»، وهو ذلك المسمَّى الذي يُطلَق على الفضاء الخاوي.
أيضًا تكشف المادة المظلمة الباردة عن وجودها من خلال تأثيرها على العناقيد المجرِّيَّة، ومن الممكن استخدام إزاحة دوبلر التي لا تُقدَّر بثمنٍ كي نعرف الطريقة التي تتحرك بها المجرَّات المنفردة داخل العناقيد المجرِّيَّة نسبةً إلى مركز العنقود، ونطاق السرعات الخاص بكل المجرَّات داخل أي عنقود. إن العناقيد المجرِّيَّة توجد فقط بفضل الجاذبية التي تحافظ على تماسكها، ودون الجاذبية كان من شأن تمدُّد الكون أن يسحب المجرَّات بعضها بعيدًا عن بعض وينشرها عبر الفضاء، لكنَّ هناك حدودًا لمقدار تأثير قيد الجاذبية هذا. فإذا ألقيت كرةً في الهواء، فستعاود الكرة السقوطَ إلى الأرض؛ لأن الجاذبية تسحبها لأسفل، لكن إذا تمكَّنْتَ من إلقاء الكرة بقوة كافية فستفلت من كوكب الأرض تمامًا وتواصل طريقها عبر الفضاء. يُطلَق على الحد الأدنى من السرعة الرأسية المطلوب لعمل ذلك اسم: «سرعة الإفلات»، وهي تعتمد فقط على كتلة الجسم الذي تحاول الإفلات منه ومدى بُعْدك عن مركز الكتلة. على سطح الأرض تبلغ سرعة الإفلات ١١٫٢ كيلومترًا في الثانية، وإذا جمعت الكتل الخاصة بكل المجرَّات الموجودة داخل العنقود المجري، والتي يُستدَلُّ عليها من واقع سطوعها — مع تضمين هامشٍ ملائمٍ لهالات المادة المظلمة الخاصة بها — يمكننا حساب سرعة الإفلات من العنقود المجري. ويتضح لنا أنه كي يحافظ العنقود على قبضته الجذبية على المجرَّات الموجودة به، فلا بد من أن يكون هناك المزيد من المادة المظلمة في «الفضاء الخاوي» الموجود بين المجرَّات، إضافةً إلى المادة المظلمة الموجودة في الهالات الخاصة بالمجرَّات المنفردة؛ فالكون كله مملوءٌ بضباب غير مرئي من المادة المظلمة الباردة.
كان من الممكن أن يسبِّب هذا إحراجًا لعلماء الكونيات؛ لأنه وقتَ تنقيحِ هذه الحسابات حتى مستوى الدقة الذي أوردتُه هنا، في حدود نهاية القرن العشرين، كانت هناك أدلة أخرى على أن الكون منبسطٌ بالفعل. وقد جاءت هذه الأدلة من دراسات إشعاع الخلفية الميكروني الكوني، التي أجرتها المعدات المحمولة على المناطيد والأقمار الصناعية التي تحلِّق فوق طبقات الغلاف الجوي الحاجبة. وهذه المعدات تتمتع في وقتنا الحالي بدرجة عالية من الدقة؛ بحيث إنها تستطيع التقاط أيِّ تفاوتاتٍ في حرارة الإشعاع من مكانٍ لآخَر في السماء، بحيث ترصد البقع الحارة والباردة (نسبيًّا) التي انطبعت على الإشعاع حين كان عمر الكون بضع مئات الآلاف من الأعوام.
قبل أن يبرد الكون إلى النقطة التي أمكن فيها للذرات المتعادلة كهربيًّا أن تتكون، كان الإشعاع والجسيمات المشحونة كهربيًّا للمادة مرتبطة معًا بطريقةٍ ما، بحيث إن الاختلافات في كثافة المادة في الأماكن المختلفة من الكون كانت مرتبطةً باختلافات في درجة حرارة الإشعاع. وبعد نحو ٣٠٠ ألف عام على الانفجار العظيم، حين برد الكون إلى درجة الحرارة الحَرِجة، انفصل الإشعاع والمادة كلٌّ منهما عن الآخر، وتُرِك الإشعاع وهو مطبوع عليه نمطٌ من البقع الحارة والباردة تتوافق مع نمط تفاوتات الكثافة في المادة الباريونية في ذلك الوقت؛ وكأنه حفرية للتوزيع الواسع النطاق للباريونات عند وقت الانفصال. ولأن الضوء يتحرك بسرعة محدودة، ففي خلال ٣٠٠ ألف عام لا يمكنه أن يقطع أكثر من ٣٠٠ ألف سنة ضوئية؛ لذا في الوقت المنقضي بين الانفجار العظيم وبين الانفصال كانت أكبر مناطق الكون التي أمكنها أن تتسم بأي مقدار من التجانس الداخلي قد نمت بحيث بلغ حجمها ٣٠٠ ألف سنة ضوئية عرضًا، وهذا يعني أن أكبر الرقع المتجانسة التي يمكن رؤيتها في خريطة إشعاع الخلفية في السماء، تتوافق مع الرقع الكونية التي كان حجمها ٣٠٠ ألف سنة ضوئية عرضًا عند وقت الانفصال.
= | (المادة الباريونية) + (المادة المظلمة الباردة) | |
+ (الطاقة المظلمة) | ||
= | ٠٫٠٤ + ٠٫٢٣ + ٠٫٧٣ | |
= | ١ |
كان السيد ميكوبر (من رواية ديفيد كوبرفيلد) سيقول عن هذا: «النتيجة، السعادة.» ولأسباب بديهية، تُعرَف هذه الحزمةُ كلها باسم «علم كونيات المادة والطاقة المظلمة»، وهو أحد الانتصارات العظيمة للعلم.
المرحلة التالية في تطوير فهمنا للكون — وهو الأمر الذي لا يزال لم يكتمل بعدُ — هي تفسير أصل نوعية المجرَّات التي نراها في الكون في إطار علم كونيات المادة والطاقة المظلمة. لكن قبل أن نتمكَّن من عمل هذا نحتاج إلى إحصاء محتويات العالم المادي — أي الأنواع المختلفة من المجرَّات التي علينا تفسير منشئها — نظرًا لأن هذه المجرَّات، للأسف، لا تنقسم على نحوٍ تامٍّ إلى مجرَّات قرصية وأخرى بيضاوية.
الأجزاء المرئية للمجرَّات الحلزونية كمجرَّة درب التبانة تشكِّل البنية الكلاسيكية ذات الجزأين الخاصة بالقرص والانتفاخ النووي المركزي، مع أنه في بعض الحالات يكون الانتفاخ صغيرًا للغاية. الأذرع الحلزونية هي خصائص القرص الأكثر وضوحًا للعين، لكن الكمية الضخمة من الغبار والغاز تماثلها في الأهمية؛ لأنها تمثِّل المادة الخام لتكوُّنِ النجوم الفتِيَّة الحارة بالقرص، والمعروفة باسم: «نجوم التصنيف ١». أما النجوم الموجودة داخل الانتفاخ المركزي وفي العناقيد الكروية حول أي مجرَّة قرصية، فهي النجوم الأقدم المعروفة باسم: «نجوم التصنيف ٢». قد تمتلك المجرَّات الحلزونية قضبانًا مركزية، وقد لا تمتلك، وقد تكون هذه القضبان ملمحًا مؤقتًا يظهر لدى كل المجرَّات الحلزونية في وقتٍ ما من تطوُّرها. المجرَّات الأشد سطوعًا هي مجرَّات حلزونية، ومن المتفق عليه الآن أن كل المجرَّات القرصية بها ثقوب سوداء في قلوبها، كذلك الثقب الموجود في مركز مجرَّة درب التبانة. وقد تحتوي أكبر المجرَّات الحلزونية على ما يصل إلى ٥٠٠ مليون نجم.
المجرَّات القرصية العديمة الأذرع الحلزونية (التي تُعرَف أحيانًا، لأسباب تاريخية، بالمجرَّات العدسية) لا تزال تملك بنية القرص والانتفاخ الأساسية، لكنها تفتقد سُحُبَ الغبار. وهذه المجرَّات تتألَّف في أغلبها من «نجوم التصنيف ٢»، ونستنتج من هذا أنها استهلكت كلَّ المادة المكوِّنة للنجوم واستقرت في مرحلة كهولة هادئة. والمجرَّات العدسية البعيدة التي تُرَى من زوايا مختلفة يمكن بالكاد التمييزُ بينها وبين المجرَّات البيضاوية، لكن لو أمكن قياس دورانها من خلال تأثير دوبلر فسيكون هذا مؤشرًا أكيدًا على طبيعتها الحقيقية كمجرَّات عدسية.
المجرَّات البيضاوية لا تدور حول نفسها ككل، وإنما تدور نجومٌ منفردة فيها حول مركز المجرَّة. في المجرَّات البيضاوية القريبة التي يمكن دراستها تفصيلًا يكون من الممكن تبيُّن تيارات من النجوم تسير في مدارات مختلفة صوب اتجاهات مختلفة، على غرار تيارات النجوم الموجودة في مجرَّة درب التبانة ولكن بحجم أكبر. وهذا التنوع من تيارات النجوم ذات الاتجاهات المختلفة هو ما يعطي المجرَّات البيضاوية شكلَها الإجمالي الذي هو — تحديدًا — أشبه بالكرة الممطوطة أو المنضغطة. تهيمن على هذه المجرَّات «نجوم التصنيف ٢» القديمة، وهي من الظاهر تبدو شبيهةً بانتفاخ المجرَّة القرصية لكن دون قرص. بعض المجرَّات البيضاوية على الأقل تحوي غبارًا، عادةً في الحلقات الموجودة حول مركز المجرَّة، لكن لا تحدث في هذه الحلقات عمليةُ تكوُّنِ النجومِ بصورة كبيرة في الوقت الحاضر. ومع أن أشد المجرَّات سطوعًا هي المجرَّات الحلزونية، فإن أكبر المجرَّات حجمًا هي المجرَّات البيضاوية العملاقة التي تحوي أكثر من تريليون نجمٍ، ويبلغ عرضها مئات من الكيلو فرسخ الفلكي. لكن أصغر المجرَّات في الكون أيضًا يبدو أنها مجرَّات بيضاوية، وتحوي فقط بضعة ملايين من النجوم، وعادةً ما يكون عرضُها كيلو فرسخًا فلكيًّا واحدًا أو نحو ذلك، وأصغر هذه المجرَّات القزمة تناهز أكبر العناقيد النجمية الكروية في الحجم، وهو ما يُعَدُّ دليلًا على الأرجح على أصل العناقيد الكروية. ولا يمكننا رؤية مثل هذه المجرَّات البالغة الصغر إلا في المناطق القريبة منَّا؛ حيث إن نصف المجرَّات العشرين أو نحو ذلك القريبة منَّا هي مجرَّات بيضاوية قزمة، ومن المرجح بشدة أن تكون أغلب المجرَّات في الكون مجرَّات قزمة كهذه، لكننا نعجز عن رؤيتها بسبب وقوعها على مسافات عظيمة.
أي مجرَّة لا تندرج تحت وصف المجرَّات البيضاوية أو القرصية تُصنَّف على أنها مجرَّة غير منتظمة، والمجرَّات غير المنتظمة تحتوي عادةً على مقدار كبير من الغبار والغاز، تجري فيه عمليةُ تكوُّنٍ نَشِطة للنجوم. ولأنه لا توجد بِنية محددة جيدًا كبنية المجرَّات الحلزونية، فإن هذا يُنتج رقعًا من مناطق تكوُّن النجوم في أرجاء المجرَّة، وهو ما يعطيها مظهرًا مرقَّعًا غير منتظم في الصور الفوتوغرافية. كان من المعتاد تصنيف سحابتَيْ ماجلان — وهما مجرَّتان صغيرتان واقعتان في أسر قبضة الجاذبية الخاصة بدرب التبانة — على أنهما مجرتان غير منتظمتَيْن، لكن وُجِد الآن أن لهما بِنية حلزونية قضيبية أساسية، تصعب رؤيتها بسبب الطبيعة غير المنتظمة لعملية تكوُّن النجوم. وبعض المجرَّات غير المنتظمة قد يكون بقايا أو أجزاءً من مجرَّات أكبر تفتتت مدِّيًّا بفعل اقترابها عن كثب من مجرَّات أخرى، ومثل هذه المقابلات القريبة يمكن رؤيتها وهي تحدث في أرجاء الكون. وفي بعض الحالات، يمكن رؤية المجرَّات وهي تمر بجوار مجرَّات أخرى، فتستطيل وتتشوَّه بفعل القوى المدِّيَّة، وفي أمثلة أخرى، تتصادم المجرَّات بعضها ببعض، وقد تندمج معًا خلال هذه العملية؛ وهو دليل مهم — كما سنرى — بشأن أصل أنواع المجرَّات التي نراها حولنا.
يمكن أيضًا أن تتسبَّب المقابلات بين المجرَّات في حدوث فوراتٍ ضخمة من عمليات تكوُّن النجوم، وهي العمليات التي يشير إليها الفلكيون، على نحو مبتذل، باسم الانفجارات النجمية. لا يوجد تعريفٌ رسمي لمجرَّة الانفجار النجمي، لكنها تلك المجرَّة التي يكون فيها معدلُ تكوُّنِ النجوم عظيمًا للغاية، لدرجة أن كلَّ الغاز والغبار المتاح سيُستهلَك في وقتٍ أقصر بكثير من عمر الكون؛ ومن ثَمَّ لا بد أنها ظواهر عابرة. في بعض مجرَّات الانفجار النجمي تتكوَّن النجوم بمعدلٍ يبلغ مئات الكتل الشمسية في العام، وهو أسرع بنحو مائة مرة من معدل تكوُّن النجوم في مجرتنا، ومن شأن هذا أن يستهلك كل المادة المتاحة في غضون نحو مائة مليون عام؛ أي أقل من ١ بالمائة من عمر الكون.
بعض مجرَّات الانفجار النجمي — خاصة الصغيرة منها — تبدو شديدة الزرقة؛ لأن الضوء القادم منها يهيمن عليه ضوءُ النجوم الحارة الفتِيَّة الزرقاء. وهذه المجرَّات تحتوي على القليل من الغبار، وهو ما نتج على الأرجح من تعرُّضها لاضطرابٍ بسبب التفاعل أو الاندماج مع منظومة نجمية أخرى، والذي استثار سُحُبَ الغاز الغبارية وأطلق عملية تكوُّن النجوم المتفجِّرة التي استنزفت هذا المخزون. تحدث عمليات تكوُّنِ النجوم المتفجرة داخل هذه المجرَّات في عناقيد مكتنزة من النجوم يصل عرضها إلى ٢٠ سنة ضوئية (٦ أو ٧ فراسخ فلكية)، وهي أشد سطوعًا من شمسنا بمائة مليون مرة. على الطرف الآخَر من المقياس، بعض مجرَّات الانفجار النجمي تكون كبيرةَ الحجم للغاية وشديدةَ الحُمرة، ويتم رصدها على الأطوال الموجية للأشعة تحت الحمراء باستخدام معدات محمولة إلى الفضاء على الأقمار الصناعية؛ وسبب هذا هو أنها محاطة بكميات هائلة من الغبار، الذي يمتص الضوء الصادر عن النجوم الفتِيَّة داخل المجرَّة، ويعيد إشعاعه على أطوال موجية للأشعة تحت الحمراء. تخترق تليسكوبات الأشعة السينية الغبار مباشَرةً، وتكشف عن أن الكثير من مجرَّات الانفجار النجمي هذه لها قلوبٌ نَشِطة مزدوجة، وهذا يشير إلى أنها ربما تكوَّنَتْ نتيجة اندماج مجرَّتَيْن معًا. إن القلب المزدوج يتكوَّن من ثقبين أسودين، كلٌّ منهما قادمٌ من إحدى المجرتين المندمجتين، لكنهما لم يندمجا بعدُ. وقد وُجِد أن مجرَّات الانفجار النجمي شائعة الوجود؛ وذلك حين امتلك الفلكيون التكنولوجيا التي تمكِّنهم من النظر إليها، وعرفوا ما عليهم أن يبحثوا عنه.
أيضًا يفسِّر وجودُ الثقوب السوداء في قلوب هذه المجرَّات السببَ وراء إظهار بعض هذه المجرَّات علاماتٍ على النشاط العنيف في نُوَيَّاتها، مع حدوث انفجارات تطيح بالمادة للخارج نحو الفضاء. اكتُشِفت هذه الأجرام تدريجيًّا على مدار عقود عديدة، باستخدام أنواع مختلفة من الرصد التليسكوبي في أجزاء مختلفة من الطيف الكهرومغناطيسي؛ كالضوء المرئي والموجات الراديوية، والأشعة تحت الحمراء، والأشعة السينية، وهكذا. ونتيجة لذلك، مُنِحت هذه الأجرامُ العديدَ من الأسماء المختلفة، لكن يُعتقَد الآن أنها كلها أفرادٌ في عائلة وحيدة؛ ومن ثَمَّ يضمُّ المسمَّى الشامل «نواة المجرَّة النَّشِطة» مجموعةً متنوعة من هذه الأجرام التي تحمل أسماءً على غرار «مجرَّات زايفرت»، و«المجرَّات إن»، و«أجرام لاسرتا»، و«المجرَّات الراديوية»، و«النجوم الزائفة». ويُعتقَد الآن أن هذه الأجرام كلها تحصل على طاقتها بفضل العملية نفسها، التي تتضمَّن سقوط المادة في (أو على) ثقب أسود فائق الضخامة، بحيث يكون الاختلاف في درجة شدة هذه العملية، لا في نوعها.
حين تسقط المادة على ثقب أسود تتحرَّر طاقة الجاذبية المرتبطة بها، وتتحول إلى طاقة حركة مع زيادة سرعة المادة. والأمر عينه يحدث على مقياس أصغر إذا ألقيتَ شيئًا من نافذة الطابق العلوي؛ فالجسم يسقط إلى الأسفل بسرعة متزايدة بينما يتم تحويلُ طاقة الجاذبية إلى حركة، وبعد ذلك حين يرتطم بالأرض تتحول طاقةُ الحركة إلى حرارة، تتقاسمها الجزيئات الموجودة في الأرض، والتي تتحرك بشكل أسرع قليلًا بينما يسخن ذلك الجزء من الأرض قليلًا. وتستفيد تقنيةُ «النقطة الساخنة» المستخدَمة في النقل التليفزيوني للأحداث الرياضية كمباريات الكريكيت من هذا؛ كي تبيِّن تحديدًا الموضعَ الذي ضربته الكرة.
أيضًا تتصادم جسيماتُ المادة الساقطة داخل الثقب الأسود بعضها مع بعض، وتزداد حرارتها بينما تندفع إلى الثقب، مكوِّنةً قرصًا دوَّارًا من المادة الحارة يُعرَف باسم: «القرص المزوِّد». إن مجال جاذبية الثقب الأسود شديدٌ للغاية، لدرجة أنه من الممكن إطلاق مقدار كبير من الطاقة بهذه الطريقة؛ ما يصل إلى ١٠ بالمائة من طاقة الكتلة — الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء — الخاصة بالمادة الساقطة في الثقب. وإذا كان الثقب الأسود المركزي للمجرَّة له كتلة مقدارها مائة مليون مرة قدر كتلة الشمس فقط — أيْ نحو ٠٫١ بالمائة من كتلة كل النجوم الساطعة الموجودة في المجرَّة المحيطة مجتمعةً — فلن يحتاج إلا لابتلاع ما يعادل نجمَيْن في حجم الشمس كلَّ عامٍ؛ كي يوفِّر ناتج الطاقة الذي يُرَى في أغلب نوى المجرَّات النَّشِطة.
كل المجرَّات الضخمة تمر على الأرجح بمرحلةٍ من هذا النشاط، ثم تستقر في هدوء — شأن مجرَّة درب التبانة — حين يُبتلَع كلُّ «الوقود» الموجود قرب الثقب الأسود المركزي. لكن من الممكن أن تعاود نشاطها مجدَّدًا إذا حدث أن تسبَّبَ اقترابُها من مجرَّةٍ أخرى في إحداث ما يكفي من النشاط بحيث يتوافر مخزون جديد من الغاز والغبار — بل والنجوم أيضًا — كي يندفع داخل الثقب الأسود. وأي نجوم تعاني من هذا المصير تتمزَّق إربًا بفعل القوى المدِّيَّة عائدةً إلى الجسيمات المكوِّنة لها قبل أن تُبتلَع بوقت طويل.
عادةً ما تشع الطاقة الصادرة عن المصدر المركزي في اتجاهَيْن على جانبَيْن متقابلين للمجرَّة، وهذا يرجع غالبًا إلى أن القرص المزوِّد من المادة الموجودة حول الثقب الأسود يمنع الطاقة من الإفلات على امتداد «خط الاستواء». ومن الممكن أن يُطلَق كلٌّ من المادة والطاقة من المنطقة المركزية للمجرَّة نتيجةً لذلك، وهو ما يكوِّن أحيانًا تياراتٍ رفيعة تتفاعل مع المنطقة المحيطة، بحيث تطلق دفقات من الضوضاء الراديوية على كلا جانبَي المجرَّة. إن أكثر نوى المجرَّات النَّشِطة نشاطًا، تلك الفئة المعروفة بالنجوم الزائفة (أو الكويزرات)، الشديدة السطوع لدرجة أنه يكون من الصعب للغاية — وأحيانًا من المستحيل — رؤية النجوم الموجودة في المجرَّة المحيطة بسبب وهجها؛ ونتيجة لهذا فهي تبدو كالنجوم في الصور الفوتوغرافية العادية، ولا تتكشف طبيعتها الحقيقية إلا من خلال قياس إزاحاتها الحمراء. وهي في المعتاد تشع من الطاقة أكثر من ١٠ آلاف مرة من المقدار الذي تشعه كل نجوم مجرَّة درب التبانة مجتمعةً، ومن الممكن رؤية بعضٍ من هذه النجوم — حتى باستخدام تليسكوبات بصرية موجودة على سطح الأرض — على مسافات تزيد عن ١٣ مليار سنة ضوئية، بإزاحات حمراء تزيد عن ٦، والكثير منها له إزاحة حمراء تزيد عن ٤، وهو ما يكافئ مسافة قدرها نحو ١٠ مليارات سنة ضوئية. لكن النجوم الزائفة ساطعةٌ على نحو استثنائي، وليس من الضروري أن تكون مطابقة لما يحيط بها، ولحسن الحظ أن عددًا كبيرًا من أجرام بعيدة أشدَّ خفوتًا بكثيرٍ — مجرَّات هادئة نسبيًّا أقرب في الزمن إلى الانفجار العظيم — رُصِدت باستخدام تليسكوب هابل الفضائي، وقد دُفِع نحو أقصى حدود قدراته.
تكمن أهمية دراسة الأجرام الموجودة على مسافات عظيمة عبر الكون في أننا حين ننظر إلى جرم يقع — مثلًا — على مسافة ١٠ مليارات سنة ضوئية، فإننا نراه بواسطة الضوء الذي صدر عنه منذ عشرة مليارات عام مضت؛ فهذا هو «الزمن المنقضي»، وهو يعني أن التليسكوبات هي أشبه على نحوٍ ما بآلات الزمن؛ من حيث إنها تُظهِر لنا ما كان عليه الكون في وقت سابق. إن الضوءَ القادم من أي مجرَّة قرصية قديمٌ؛ بمعنى أنه قضى وقتًا طويلًا في رحلته إلينا؛ بَيْدَ أن المجرَّة التي نراها باستخدام ذلك الضوء مجرَّةٌ شابَّة، وقد بيَّنت الدراسات المبكرة للنجوم الزائفة أنها كانت أكثر شيوعًا حين كان الكون أصغر عمرًا، وهو ما لنا أن نتوقَّعه إذا كانت تحصل على طاقتها بواسطة التراكم وتخبو حين تبتلع كل المادة المتاحة. تاريخيًّا، كان هذا أحدَ الأدلة التي رجَّحَتْ كفةَ الميزان لصالح نموذج الانفجار العظيم على فكرة الحالة الثابتة. لكن أعمق المشاهدات التي أُجرِيت بواسطة تليسكوب هابل الفضائي، والتي تكافئ زمنًا منقضيًا مقداره أكثر من ١٣ مليار عام، تخبرنا بما هو أكثر من ذلك بكثير.
ثمة أمرٌ عجيب آخَر بشأن كل هذا يجب ذكره؛ ففي حالة الأجرام البعيدة، نظرًا لأن الضوء يكون قد استغرق وقتًا طويلًا في رحلته إلينا، فإن الكون يكون قد تمدَّدَ بمقدار كبير خلال الفترة التي كان الضوء فيها في طريقه إلينا؛ لذا مع أن الزمن المنقضي البالغ مثلًا ٤٫٢٥ أعوام يعني ضمنًا أننا ننظر إلى جرمٍ يقع على مسافة ٤٫٢٥ سنوات ضوئية منَّا، فإن الزمن المنقضي البالغ ٤٫٢٥ مليارات عام يعني ضمنًا أننا ننظر إلى جرم كان على مسافة ٤٫٢٥ مليارات سنة ضوئية حين بدأ الضوء رحلته، لكنه الآن على مسافة أبعد من هذا بكثير، وفي هذه الحالة تزيد المسافة بأكثر من الضعف (بل الأمر أكثر تعقيدًا من هذا؛ نظرًا لأن المسافة التي على الضوء أن يقطعها تبدأ في الازدياد ما إن يبدأ الضوء رحلته، لكن هذا التبسيط المفرط سيكفي لتوضيح النقطة المنشودة). وهذا يثير مشكلات تتعلَّق بالتحديد الدقيق لما نعنيه بمصطلح «المسافة الحالية» بيننا وبين مجرَّة بعيدة؛ خاصة أنه بما أن لا شيء يتحرك بسرعة أكبر من سرعة الضوء فما من وسيلة لدينا لقياس «المسافة الحالية». لذا، كشأن الفلكيين الآخَرين، سأستخدم الزمن المنقضي بوصفه المؤشر الرئيس لمقدار المسافة بيننا وبين أي جرم، دون محاولة تحويل هذا الرقم إلى مسافة لأي جرم يقع خارج منطقتنا المحلية من الكون. و«المسافات» المشار إليها في مواضع سابقة من هذا الكتاب ينبغي في الواقع اعتبارُها مكافِئةً للأزمنة المنقضية.
من بين المزايا العديدة التي تتسم بها معدات التسجيل الفوتوغرافية والإلكترونية مقارَنةً بالعين البشرية، فإن أهمها هو أنه كلما نظرتْ هذه المعداتُ زاد مقدار ما تراه. العين البشرية تمنحنا بالأساس نظرةً حاليَّة لما يحيط بنا، وهي تمكِّننا من رؤية الأشياء — كالنجوم — التي تكون أشد سطوعًا من حدٍّ معين. وإذا كان الجسم خافتًا إلى درجة تتعذَّر معها رؤيته، فما إن تتكيَّف العينُ مع الظلام فلن تتمكَّن من رؤيته مهما حدَّقَت في اتجاهه، إلا أن الكواشف الموجودة في التليسكوبات الحديثة تواصِل مراكَمةَ الضوء القادم من المصادر الخافتة ما دامت موجَّهةً نحوها. وسيكشف زمنُ التعريض الطويل عن الأجسام الخافتة بأكثر ما يفعل زمن التعريض القصير؛ لأن الفوتونات (جسيمات الضوء) القادمة من المصدر تسقط على الكاشف واحدًا تلو الآخَر؛ ومن ثَمَّ تنمو الصورة الإجمالية تدريجيًّا. وفي أقوى الأمثلة على تطبيق هذه العملية إلى الآن، وجَّهَ الفلكيون في الفترة بين ٢٤ سبتمبر ٢٠٠٣ و١٦ يناير ٢٠٠٤ تليسكوب هابل الفضائي لما مجمله مليون ثانية نحو بقعة صغيرة من السماء في كوكبة الكور، وكانت البقعة تبدو كأنها خالية تمامًا من المجرَّات في الصور الفوتوغرافية العادية. جرت عملية جمع الصور الإلكترونية في ٨٠٠ عملية تعريض منفصلة، ثم خُزِّنَت الصور إلكترونيًّا وجُمِّعت في جهاز كمبيوتر؛ كي تمنحنا ما يكافئ تعريضًا واحدًا طويلًا مقداره الزمني أكثر من أحد عشر يومًا، وقد بيَّنَت الصورة الناتجة أن هذه البقعة من السماء التي تبدو خالية تمامًا هي في الواقع تعجُّ بالمجرَّات، بعضها يُرَى بواسطة ضوء غادرها حين كان الكون أقل عمرًا من ٨٠٠ مليون عام، بإزاحة حمراء مقدارها نحو ٧.
تُعرَف هذه الصورة باسم «حقل هابل فائق العمق»، وبقعة السماء الظاهرة في الصورة تكافئ جزءًا على ثلاثة عشر مليون جزء من مساحة السماء كلها؛ أي لا تزيد عن حجم حبة رمل محمولة على طول ذراعك، وقد وُصِفت من جانب الفلكيين القائمين على التقاط الصورة بأنها تعادل النظر للسماء عبر ماصة طولها متران ونصف متر. ومع ذلك فهذه البقعة الصغيرة من السماء تحتوي على نحو ١٠ آلاف مجرَّة مرئية في صورة حقل هابل فائق العمق، والمجرَّات الأكثر إثارةً للاهتمام هنا هي تلك الأشد خفوتًا واحمرارًا، التي لها أكبر زمن منقضٍ. والضوء الصادر عن هذه المجرَّات بعينها تسلَّلَ ببطء بالغ إلى الكاشف الموجود بتليسكوب هابل الفضائي بمعدل يبلغ فوتونًا واحدًا في الدقيقة.
مع احتواء صورة حقل هابل فائق العمق على العديد من المجرَّات الطبيعية، بما فيها مجرَّات بيضاوية وأخرى حلزونية، فإن هذه المجرَّات الأبعد لها تشكيلة متنوعة من الأشكال العجيبة، وبعضها منخرط دون شك في تفاعلات مع البعض الآخَر. بعض المجرَّات تبدو مرتَّبة على نحو أشبه بالحلقات على سوارِ معصمٍ، بينما البعض الآخَر طويل ورفيع مثل خلَّة الأسنان، وهناك مجموعة متنوعة من الأشكال الغريبة الأخرى. في تلك الأوقات المبكرة من تاريخ الكون، لم تكن هناك مجرَّات بيضاوية أو حلزونية؛ فلا شيء يشبه نوعية المجرَّات الموجودة بالقرب منَّا. ويفسِّر الفلكيون هذا على أنه دليل على أنهم التقطوا صورة خاطفة للمراحل المبكرة من تكوُّن المجرَّات، قبل أن تستقرَّ المجرَّات في الأنواع ذات البنية المنتظمة التي نراها في الكون في الأزمنة الأقرب. ويتوقَّع الفلكيون أنهم حين يتمكَّنون من النظر لمسافةٍ أبعدَ في الماضي بفضل الجيل القادم من التليسكوبات، فإنهم لن يروا شيئًا على الإطلاق؛ إذ سينظرون وقتها للفترة التي تُسمَّى «العصر المظلم» الواقعة بين الزمن الذي انفصل فيه الإشعاع عن المادة بعد مُضي بضع مئات آلاف الأعوام على الانفجار العظيم، والزمن الذي تكوَّنت فيه أولى المجرَّات بعد مُضي بضع مئات ملايين الأعوام على الانفجار العظيم، وفي هذه الحالة سيكون عدم رصد أي شيء بمنزلة تأكيد ناجح لنظرية علمية. وقد تكون أقدم الأجرام الظاهرة في صورة حقل هابل فائق العمق نفسها واقعةً على تخوم العصر المظلم، نحو ٤٠٠ مليون عام على الانفجار العظيم، بإزاحة حمراء قدرها ١٢.
وأروع شيء بشأن هذه المجرَّات — أو ربما حريٌّ بنا أن نسمِّيَها المجرَّات الأولية — هو أنها وُجِدت من الأساس في هذا الوقت المبكر من عمر الكون. ففي غضون أقل من مليار عام، تحوَّلَ الكون من بحر من الغاز الحار إلى مكان وجدت فيه بالفعل تكتلات المادة الكبيرة بما يكفي بحيث تُكَوِّن المجرَّات التي نراها في وقتنا الحالي، بحيث أحكمت هذه المجرَّات — بفعل الجاذبية — قبضتها على المادة التي لولاها لكانت قد انتشرت على نحوٍ رقيقٍ مع تمدُّد الكون. وما كان هذا ليحدث لو لم يكن هناك نوع من البذور تنمو منه المجرَّات؛ قلوب ذات تأثير جذبي قوي بما يكفي للتغلُّب على ترقُّق المادة عبر الكون. وقد كان إثبات أن هذه القلوب هي الثقوب السوداء الفائقة الضخامة هو الحلقة الأخيرة في نموذجٍ لتكوُّن المجرَّات من شأنه أن يفسِّر الكيفية التي صارت بها المجرَّات، كمجرَّة درب التبانة، على ما هي عليه، ويفسر في نهاية المطاف — بما أننا جزءٌ لا يتجزَّأ من مجرَّة درب التبانة — السبب وراء وجودها هنا من الأساس.