أصل المجرَّات
قبل أن ننظر بالتفصيل إلى تفسير الكيفية التي صارت بها المجرَّات على ما هي عليه، من المنطقي أن نبدأ ببيانِ ما يبدو عليه الكون في وقتنا الحاضر؛ وذلك حتى تكون لدينا فكرةٌ واضحة عمَّا نحاول تفسيره. وصفتُ بالفعل طبيعة المجرَّات المنفردة ومظهرها، وذكرتُ حقيقةَ أن أغلب المجرَّات توجد في عناقيد مجرِّيَّة تُبقِي الجاذبية على تماسكها؛ بَيْدَ أن هناك طبقةً أخرى من البنية داخل الكون، وهي تقدِّم خيوطًا مهمة بشأن أصل المجرَّات؛ فعلى أكبر نطاقات الحجم، تصطفُّ المجرَّات (وتحديدًا، مجموعات المجرَّات والعناقيد الصغيرة) في خيوطٍ تتقاطع عبر الكون، ويقابِل بعضها بعضًا في تقاطعاتٍ توجد فيها عناقيد ضخمة من المجرَّات، وبين هذه الخيوط هناك مناطق أكثر إظلامًا يندر فيها وجود المجرَّات. عادةً ما يُشبَّه الأمر بصورة ملتقطة من الفضاء لمساحة كبيرة من العالم المتقدم، كأوروبا أو أمريكا الشمالية، أثناء الليل. فالطرق التي تقطع البلاد مضاءةٌ بواسطة مصابيح الطرق وبواسطة أضواء السيارات المارة، وهي تتقابل عند المدن ذات الإضاءة الساطعة، أما بين هذه الطرق فهناك المناطق الريفية المظلمة. الفارق الأساسي هو أن توزيع المجرَّات في الكون ثلاثيُّ الأبعاد، وهو ما يشكِّل بنيةً أشبهَ بالزَّبَد كما تُرَى من الأرض، وهو ما ظهر في أحدث عمليات مسح الإزاحة الحمراء للمناطق المجاورة من الكون، حتى إزاحة قدرها نحو ٠٫٥. وعلى العكس من العناقيد المجرِّيَّة والعناقيد المجرِّيَّة الفائقة، فهذه الخيوط ليست مرتبطةً بفعل الجاذبية، وإذا واصلنا تشبيهها بالطرق فسنقول إنها مجرد خطوط سير تتحرك على امتدادها المجرَّات بينما تمسك كتلُ المادة بعضها ببعض. بَيْدَ أن وجودها يكشف بالفعل عن مقدار المادة المشارك في عملية التماسك هذه.
لقد خضع النمط الإجمالي لتوزيع المجرَّات في الأبعاد الثلاثة للدراسة بقدرٍ كبير من التفصيل على يد فِرَقٍ من الفلكيين الذين يضعون خرائط لتوزيع ملايين المجرَّات في السماء، مستخدمين الإزاحات الحمراء في تحديد المسافات إليها. وهذه المشاهدات للمناطق الكونية القريبة نسبيًّا يمكن مقارنتها بنمط البقع الحارة والباردة التي تُرَى في إشعاع الخلفية الميكروني — والمطبوعة على إزاحات حمراء مقدارها ١٠٠٠ — وأيضًا مقارنتها بالمحاكاة الحاسوبية للكيفية التي يمكن أن تنمو بها المجرَّات في عددٍ متنوِّع من النماذج المختلفة للكون. يقضي الفهم النظري للطريقة التي بدأ بها الكون في التمدُّد بأنه خلال مرحلة الكرة النارية، حين كانت المادة الباريونية والإشعاع مرتبطَيْن معًا عن كثب، كان الفضاء تغطِّيه على نحوٍ متقاطع موجاتٌ صوتية على كل الأطوال الموجية وصولًا إلى الحجم المحدود، المذكور سابقًا، الذي تمليه سرعة الضوء. وبعد الانفصال — كما رأينا — ظلَّ الإشعاع يحمل بصمةً للنمط الذي صنعته الموجات الصوتية، بينما استقرت المادة الباريونية في كتل من المادة تُبقِي الجاذبية على تماسكها. وعن طريق تطبيق الأساليب الإحصائية في تحليل أنماط المجرَّات التي نراها في الكون من حولنا، صار الفلكيون الآن قادرين على رصد توقيع هذه الموجات الصوتية (التي يُطلَق عليها «القمم الصوتية») في توزيع المادة نفسها.
في عام ٢٠٠٥ أفاد فريقان يستخدمان تحليلات مختلفة بأن التفاوتات الإحصائية في توزيع المجرَّات، والتي تُرَى في عمليات المسح الكبيرة الثلاثية الأبعاد، تُظهِر بصمةَ هذه الموجات الصوتية الآتية من الانفجار العظيم. على صعيد المشاهدات، كل شيء يتوافق على نحو أنيق؛ بَيْدَ أن عمليات المحاكاة الحاسوبية تخبرنا أنه من المستحيل لبِنًى ذات حجم كبير كتلك التي نراها في الكون اليوم أن تنمو من التموُّجات الحاضرة في الكرة النارية للانفجار العظيم في الوقت المتاح منذ حدوث الانفجار العظيم، إذا كان الشيء الوحيد الذي يجتذب الباريونات للتجمُّع في كتلٍ هو جاذبيتها الخاصة فحسب. خلاصة الأمر هي أنه مع أن الموجات الصوتية ربما كانت كبيرة من حيث امتلاكها لطول موجي كبير، فإنها كانت كذلك ضحلة، لا تتجاوز محض تموجات في البحر الكوني.
لا ينبغي أن تفاجئنا الحاجةُ إلى قدر إضافي من التأثير الجذبي؛ نظرًا لأنني ناقشت بالفعل الأدلة على وجود المادة المظلمة من الطريقة التي تدور بها المجرَّات المنفردة، وحقيقة أن العناقيد المجرِّيَّة متماسكة بفعل قوة الجاذبية. لكن هذا دليل مختلف تمامًا على وجود المادة المظلمة، وعمليات المحاكاة الحاسوبية دقيقة للغاية لدرجة أنها يمكنها أن تخبرنا على نحوٍ دقيقٍ بمقدار المادة المظلمة المطلوب لإحداث التأثير المنشود.
والنتائج واضحة؛ فإحصائيًّا، تبدو المحاكاة تمامًا مثل الكون الحقيقي؛ ولهذا السبب وقع اختياري عليها. وهي تمثِّل الفئة الوحيدة من هذه النماذج التي تبدو على هذا الشكل. وانطلاقًا من نوعية نمط عدم الانتظام الذي يُرَى في إشعاع الخلفية الميكروني، فإن نوعية توزيع المجرَّات التي نراها في الكون اليوم لا يمكن أن تنتج في ١٣ مليار عام إلا إذا كان الكون منبسطًا، وكان مقدار المادة المظلمة أكبر بستِّ مرات من المادة الباريونية، وكان الثابت الكوني يسهم بنحو ٧٣ بالمائة في كثافة كتلة الكون. وهذا، بطبيعة الحال، هو نموذجُ المادةِ والطاقة المظلمة الفائقُ النجاح. والسر وراء تكوين البنية المرصودة هو أنه ما إن تنفصل المادة الباريونية عن الإشعاع وتكون حرةً في الحركة كما تشاء، فإنه في مناطق الكون المبكر التي تتسم بالفعل بكثافة أعلى بدرجة طفيفة من المادة المظلمة، جذبت هذه المادة الغازَ الباريوني إلى ما يشبه الأخاديد الجذبية، حيث صارت سُحُب الغاز كثيفةً بما يكفي لأن تنهار وتكوِّن المجرَّات والنجوم، الموزَّعة في نمط رغوي عبر الكون. ففي الفراغات المظلمة الواقعة بين الخيوط الساطعة لا تزال توجد تقريبًا نفس كثافة الباريونات والمادة المظلمة الباردة، وكل ما تطلَّبه الأمر هو تموُّج صغير (بمعنى ضحل) هنا وهناك كي تتشكَّل الظروف المطلوبة لجعل سُحُب الغاز تنهار. وهنا يمكن تغيير التشبيه المذكور سابقًا والخاص بشبكة الطرق، ونقول إن الخيوط الساطعة يمكن النظر إليها بوصفها أنهارًا تتدفق على امتدادها الباريونات. هذا هو الهيكل الأساسي الذي في إطاره يؤمن الفلكيون الآن بأنهم يملكون فهمًا جيدًا للكيفية التي تكوَّنت بها المجرَّات المنفردة.
بعد الانفصال مباشَرةً، كانت المادة الباريونية لا تزال حارَّة للغاية بما يمنعها من الانهيار بدرجة كبيرة، حتى في وجود المادة المظلمة. لكن الأمر المهم للغاية هو أن المادة المظلمة — نظرًا لأنها باردة — بدأت في الانهيار فورًا في المواضع التي كانت فيها الكثافة أعلى قليلًا من المتوسط. وحتى مُضي نحو ٢٠ مليون عام على الانفجار العظيم — وهو ما يتوافق مع إزاحة حمراء مقدارها نحو ١٠٠ — كان الكون متجانسًا إلى حدٍّ بعيد، لكن جسيمات المادة المظلمة الباردة كانت تشرع في اجتذاب بعضها البعض مكوِّنة كتلًا متماسكةً بفعل الجاذبية، قادرةً على الإمساك بالمادة ومنعها من الانسياق للتمدُّد الكوني إلى الخارج. وانطلاقًا من نفس نوع التموجات الموجود في إشعاع الخلفية، كان بمقدور المادة المظلمة الباردة بإزاحة حمراء قدرها ما بين حوالي ٢٥ و٥٠ أن تشكِّل كتلًا تحتوي على مقدارٍ من الكتلة يعادل كتلة كوكب الأرض، لكنها تمتد على مساحة كبيرة تعادل مساحة المجموعة الشمسية. وقد تركَّزَ السواد الأعظم من كتلة هذه السحب الكروية بالقرب من المركز، وكانت السحب التي تكوَّنت بهذه الطريقة تمتلك تأثيرًا جذبيًّا قويًّا بما يكفي لبعضها على بعض بحيث قاومت التمدد الكوني وكوَّنت عناقيد، وعناقيد من العناقيد، وهكذا دواليك في بنية هرمية «من الأسفل إلى الأعلى». وهذا جعل المادة الباريونية تنساب نحو أكبر تركيزات الكتلة، مكوِّنة النجوم وبعد ذلك المجرَّات عند نقاط التقاء الخيوط أثناء عمل ذلك، ومنتجة مظهر «الطريق السريع الكوني» الخيطي للكون.
أوائل الأجرام الساطعة التي ظهرت في الكون كانت النجوم الضخمة، التي تعادل كتلتُها ما بين بضعة عشرات إلى بضع مئات المرات قدر كتلة الشمس، وهذه النجوم تختلف للغاية عن النجوم الموجودة حولنا اليوم؛ لأنها كانت تحتوي فقط على الهيدروجين والهليوم المنتجَيْن في الانفجار العظيم، دون وجودٍ لأيٍّ من العناصر الثقيلة. كانت أولى منظومات تكوُّن النجوم جزءًا من بنية خيطية أكبر تمتد على نحو هرمي عبر الكون، ولا تزال آخِذة في التطور مع تدفُّق العناقيد المجرية والعناقيد المجرية الفائقة معًا في خيوط. ويقترح هذا النموذج أن مناطق تكوُّن النجوم ظهرت بعد نحو ٢٠٠ مليون عام على الانفجار العظيم، وأن كل منطقة منها احتوت من الكتلة على ما بين مائة ألف إلى مليون مرة قدر كتلة الشمس، وكان حجمها بين ٣٠ و١٠٠ سنة ضوئية، وهي مقارِبة في الحجم لسُحُب الغاز والغبار التي تتكوَّن في النجوم اليوم في مجرَّة درب التبانة؛ بَيْدَ أن هذه «السُّحُب» تكوَّنت بالأساس من المادة المظلمة.
تشير عمليات المحاكاة الخاصة بالطريقة التي يمكن للباريونات أن تتكتَّل بها كي تكوِّن النجوم في مثل هذه السحب إلى أن بنيةً خيطيةً، شبيهةً بالبنية الخيطية الأوسع نطاقًا، تطوَّرت داخل كل سحابة، مع تركُّز المادة عند نقاط التقاء الخيوط. ومع زيادة الكثافة، صارت التصادمات بين الذرات أكثر شيوعًا، وتجمَّعت بعض ذرات الهيدروجين معًا مكوِّنةً جزيئات هيدروجين، وهذه الجزيئات برَّدَتِ الغاز الموجود داخل السحابة عن طريق إطلاق الأشعة تحت الحمراء، كما تفعل جزيئاتُ الهليوم الأمرَ عينه وإن كان على نحوٍ أقل كفاءةً. وهذا التبريد وحده هو ما مكَّنَ الغاز الباريوني الموجود في السحابة من الانهيار بدرجةٍ أكبر مكوِّنًا النجوم الأولية، وهو ما فصل الباريونات بدرجةٍ ما عن المادة المظلمة.
في مناطق تكوُّن النجوم اليوم، تسير عملية التبريد على نحوٍ أكثر كفاءةً بكثير، وذلك بفضل وجود العناصر الثقيلة؛ ولهذا السبب تكون السُّحُب قادرةً على الانهيار بالمقدار الذي تفعله قبل تكوُّنِ النجوم. لكن في سُحُب تكوُّن النجوم البدائية كان كلُّ شيء يحدث على درجة حرارة أعلى، ونتيجةُ ذلك أن أُولَى عُقَد تكوُّن النجوم في السحابة كانت كتلتها تتراوح بين بضع مئات وألف كتلة شمسية. وكما الحال في عملية تكوُّن النجوم اليوم، كان من الصعب للغاية لهذه السحب أن تتشظَّى، ولم يكن بمقدور أي سحابة سوى أن تكوِّن القليل من النجوم (ليس أكثر من ثلاثة نجوم على الأرجح)، مع الإطاحة ببعض الكتلة بعيدًا بسبب ازدياد حرارة النجوم الأولية.
كانت النتيجة تكوُّن أول مجموعة من النجوم (والتي سُمِّيت على نحوٍ محيِّر «نجوم التصنيف ٣» نتيجة التسمية التقليدية للنجوم في مجرتنا) تبلغ كتلتها في المعتاد بضع مئات المرات قدر كتلة الشمس، وتبلغ درجة حرارة سطحها نحو ١٠٠ ألف درجة كلفينية، وتطلق إشعاعًا قويًّا في نطاق الأشعة فوق البنفسجية من الطيف. وهذا الإشعاع، الذي ملأ الكون المبكر، لا يزال مرئيًّا اليوم، لكن نتيجة للإزاحة الحمراء هو يُرَى اليوم على صورة وهج من الأشعة تحت الحمراء رصده تليسكوب سبيتزر الفضائي.
مع أن أوائل النجوم كانت ساطعةً، فإنها كانت قصيرة الأجل. إن عمر النجم يتناسب عكسيًّا مع كتلته؛ لأن النجوم الضخمة يجب أن تحرق المزيد من الوقود كي تحافظ على تماسُكها ولا تنهار بفعل ثقل وزنها. وفي غضون بضعة ملايين الأعوام — لا نزال في غضون نحو ٢٠٠ إلى ٢٥٠ مليون عام من الانفجار العظيم — كانت النجوم التي بدأت حياتها بكتلٍ تتراوح تقريبًا بين ١٠٠ إلى ٢٥٠ مرة قدر كتلة الشمس قد انفجرت تمامًا مع نهاية حياتها، ناشرةً مادتها في أرجاء سحب الغاز المحيطة، وهذه المادة تضمَّنَتْ أوائل العناصر الثقيلة، التي جعلت عملية التبريد أكثر كفاءةً بكثير عند تكوُّن الجيل التالي من النجوم، وهو ما جعل تركيزات تكوُّن النجوم في المناطق التي دفعَتْها الموجاتُ الانفجارية — الآتية من النجوم المتفجرة — إلى الانهيار، تصير أصغر كثيرًا وتُكوِّن أوائل النجوم المقاربة في الحجم للنجوم الموجودة في مجرَّة درب التبانة اليوم. وفي الواقع، لا يزال بعضٌ من نجوم الجيل الثاني تلك حاضرًا في مجرتنا؛ إذ يُقدَّر أن أقدم «نجوم التصنيف ٢» يتجاوز عمره ١٣٫٢ مليار عام؛ ومن ثَمَّ فهي تكوَّنَتْ في غضون نحو ٥٠٠ مليون عام تقريبًا من الانفجار العظيم.
النجوم التي تزيد كتلتها بنحو ٢٥٠ مرة عن كتلة الشمس لا تتمزق بالكامل عند موتها، وبدلًا من هذا فإن أغلب المادة التي تحتوي عليها تنهار مكوِّنة ثقبًا أسود. هذه النجوم البدائية تكوَّنَتْ في أشد تركيزات المادة كثافةً في الكون في ذلك الوقت؛ لذا من المرجح أن الثقوب السوداء كانت قريبةً بعضها من بعض بما يكفي كي يحدث اندماج بينها وأن تنمو الثقوب السوداء إلى أحجامٍ فائقةِ الضخامة. لا أحد يمكنه أن يعرف يقينًا من أين أتت الثقوب السوداء الفائقة الضخامة الموجودة اليوم في قلوب المجرَّات، لكن يبدو ممكنًا على الأقل أن هذا الاندماج للثقوب السوداء المتخلفة عن الجيل الأول من النجوم قد بدأ العملية التي تشكَّلت بموجبها الثقوب السوداء الفائقة الضخامة التي تتغذى على المادة المحيطة بها.
وتبيِّن الحسابات أن العملية التي وصفتُها يمكنها أن تكوِّن مجرَّةً بحجم مجرَّة درب التبانة في الوقت المتاح — بضعة مليارات عام — بشرط أن تكون للثقب الأسود المركزي كتلةٌ لا تقل عن مليون كتلة شمسية. ولحسن الحظ تكشف المشاهدات عن أن كتلة الثقب الأسود الموجود في قلب مجرَّة درب التبانة تزيد عن كتلة الشمس بنحو ثلاثة ملايين مرة؛ ومن ثَمَّ كل شيء يتوافق جيدًا. لكن مع أن الفلكيين يملكون نموذجًا متسقًا داخليًّا للكيفية التي تكوَّنت بها المجرَّات الأولى، لا يزال هناك الكثير من الأمور التي تحتاج لتفسير؛ منها تلك العلاقة المثيرة للاهتمام بين كتلة الثقب الأسود القابع في قلب المجرَّة وخصائص المجرَّة المحيطة به.
من المفيد أن نتذكَّر أن الدراسة الخاصة بالثقوب السوداء الفائقة الضخامة حديثةٌ نسبيًّا، فلا يمكن دراسة الثقوب السوداء على نحوٍ مباشِرٍ إلا في المجرَّات القريبة، حيث يُكشَف عن وجود جرم ضخم مركزي من خلال قياس سرعات النجوم التي تدور بالقرب منه؛ وذلك باستخدام تأثير دوبلر. جرى تحديد أول ثقب أسود فائق الضخامة في عام ١٩٨٤، ومنذ ذلك الوقت وحتى نهاية القرن العشرين كان مجرد العثور على ثقب أسود يمثِّل حدثًا مهمًّا؛ فالعدد المعروف منها لا يكفي مطلقًا لعمل أي تعميمات بشأن خصائصها. لكن بحلول عام ٢٠٠٠، ارتفع عدد الثقوب السوداء الفائقة الضخامة إلى ٣٣، ويتم العثور على واحد أو اثنين كلَّ عام. هذا يكفينا للبدء في محاولة فهم العلاقة بين هذه الأجرام وبين المجرَّات التي تحويها.
في بداية القرن الحادي والعشرين، اكتشف الفلكيون علاقةً بين كتلة الثقب الأسود المركزي في المجرَّة وبين كتلة انتفاخ النجوم الموجود في مركز القرص، أو كتلة المجرَّة كلها في حالة المجرَّات البيضاوية. لا توجد علاقة ارتباط مع خصائص القرص نفسه؛ فالأقراص تبدو كأنها إضافة ثانوية تَلَتْ تطوُّرَ الانتفاخ. وبما أن الانتفاخ الموجود في مركز المجرَّة القرصية يشبه عن كثب مجرَّةً بيضاوية، يبدو من المرجح أن كل المجرَّات البيضاوية البدائية نمَتْ حول ثقوب سوداء بالطريقة عينها، لكن لم تُطوِّر جميعها أقراصًا، ربما بسبب نقص المواد الخام التي يمكن أن يتكوَّن القرص منها؛ لذا عند الإشارة إلى الخصائص العامة للمجرَّات البيضاوية والانتفاخات الموجودة في المجرَّات القرصية، يستخدم الفلكيون مصطلحَ: «السطح الكروي».
تتحدَّد كتل الثقوب السوداء الفائقة الضخامة عن طريق قياس سرعات النجوم القريبة للغاية من مركز السطح الكروي. ويمكن تقدير كتلة السطح الكروي من واقع سطوعه، لكن من الممكن أيضًا حساب السرعة المتوسطة للنجوم في السطح الكروي كله من خلال أخذ متوسط تأثير دوبلر للمنظومة الكبرى، وهو ما يقدِّم مقياسًا لما يُطلَق عليه: «تشتُّت السرعة». وهذا مقياس منفصل تمامًا، ويمكن استخدامه للكشف عن كتلة السطح الكروي بالطريقة عينها التي تكشف بها حركةُ المجرَّات داخل العنقود المجرِّي عن كتلة العنقود ككلٍّ. وبجمع هذه العناصر معًا يتبيَّن أن الثقوب السوداء الأكثر ضخامةً توجد في الأسطح الكروية الأكبر حجمًا. ليس هذا مدعاة للدهشة في حقيقة الأمر، لكن المفاجأة هي أن علاقة الارتباط بين الاثنين دقيقة للغاية؛ فالثقب الأسود المركزي دائمًا ما تساوي كتلته ٠٫٢ بالمائة من كتلة السطح الكروي.
هذه نسبة ضئيلة للغاية من الكتلة الكلية للسطح الكروي، لدرجة أنها توضِّح بجلاء أن الثقب الأسود نفسه ليس مسئولًا عن مقدار السرعة الذي تتحرك به النجوم الموجودة في السطح الكروي؛ إذ إن كل ما «تلاحظه» هذه الثقوب — من منظور الجاذبية — هو كتلتها الإجمالية (بمعنى الكتلة المجمعة للنجوم، وأي سحب باقية من الغاز والغبار موجودة بين النجوم)؛ ومن ثَمَّ فالسطح الكروي لا يدري فعليًّا أن هناك ثقبًا أسود موجودًا به؛ وإذا أُزِيل هذا الثقب منه، فسيظل السطح الكروي على حاله دون تغيير؛ سواء من حيث المظهر أو السلوك.
مع أن علاقة الارتباط يُعبَّر عنها على أبسط صورة من منظور الكتلة، فإن الجانب الأكثر أهمية هو أن نجوم السطح الكروي الموجودة حول الثقب الأسود الفائق الضخامة تتحرك على نحو أسرع، وهذا إشارة إلى أن سُحُب المادة الباريونية التي تكوَّنت منها النجومُ انهارت بوتيرة أكبر داخل هالة المادة المظلمة الخاصة بها خلال عملية تكوُّن المجرَّة. بعبارة أخرى: الثقوب السوداء نَمَتْ في المنظومات التي شهدت حالاتِ انهيارٍ أكثر، وهو ما يشير إلى أن الانهيار يغذِّي الثقب الأسود أثناء نموه. تتحدَّد كتلة الثقوب السوداء بفعل عملية الانهيار، ويبدو من غير المرجح بشدة أن الثقوب السوداء الفائقة الضخامة قد تكوَّنت أولًا، ثم نمت المجرَّات حولها؛ إذ من المؤكد أن الاثنتين نمَتَا معًا — في عملية يشار لها أحيانًا باسم التطور المشترك — من البذور التي وفَّرتها الثقوب السوداء الأصلية التي تبلغ كتلتها بضع مئات المرات قدر كتلة الشمس، ومن المواد الخام الموجودة في سُحُب الباريونات الكثيفة في العقد الموجودة في البنية الخيطية.
لا تزال تفاصيل الكيفية التي حدث بها هذا التطور التكافلي المشترك غير معروفة، لكن من السهل أن نرى بشكل عام كيف أن الطاقة المتدفقة من أي ثقب أسود أولًا ستؤثِّر على الطريقة التي تتكوَّن بها النجوم في المادة المحيطة، ثم ستوقف نمو الثقب الأسود ونشاطه في نقطة حرجة عن طريق دفع سُحُب الغاز والغبار المحيطة بعيدًا، وفي الوقت ذاته توقف المرحلة المبكرة السريعة لتكوُّن النجوم. هذا يتوافق مع المشاهدات الخاصة بمجرَّات الانفجار النجمي التي فيها تُرَى رياحٌ تحمل من المادة ما يعادل ألف كتلة شمسية وهي تتدفق خارجةً من المناطق المركزية، وهذه الرياح — أثناء عملها — ستنشِّط عمليةَ تكوُّن النجوم في السُّحُب الكثيفة الموجودة بين النجوم، والتي تضغطها بينما تهب عليها. وبينما يبتلع الثقب الأسود ٠٫٢ بالمائة فقط من الكتلة المتاحة، فإن نحو ١٠ بالمائة من المادة الباريونية يتحوَّل إلى نجوم.
العمليات التي وصفتُها إلى الآن تفسِّر أصلَ المجرَّات البيضاوية والقرصية الأصغر حجمًا، لكن المجرَّات البيضاوية العملاقة يبدو أنها تكوَّنَتْ — كما سبق أن ألمحت — من خلال عمليات اندماج لمجرَّات صغيرة الحجم. في الوقت الحالي، تقترب مجرتا درب التبانة وأندروميدا كلٌّ منهما من الأخرى بسرعةٍ قدرها مئات الكيلومترات في الثانية. ليس مُقدَّرًا للمجرتين أن تتصادَمَا تصادُمًا مباشِرًا، لكن في غضون عشرة مليارات عام على الأكثر ستندمج المجرتان معًا مكوِّنتَيْن مجرَّةً بيضاوية واحدة عملاقة. وثمة أدلة على أن مجرَّة أندروميدا قد نَمَتْ إلى حجمها الحالي عن طريق ابتلاع مجرَّة أخرى كبيرة الحجم نسبيًّا؛ نظرًا لأنه يبدو أنها تمتلك قلبًا مزدوجًا، لكن الاندماج المتوقَّع بين المجرتين القرصيتين الناضجتين سيكون حدثًا أشد إثارةً بكثير.
كان يُعتقَد سابقًا أنه في حالة مجرتَيْ درب التبانة وأندروميدا سيتراوح الإطار الزمني لحدوث كل هذا بين نحو خمسة مليارات عام وعشرة مليارات عام من الآن، بعد أن تكون حياةُ الشمس بوصفها نجمًا ساطعًا قد انتهت. لكن في عام ٢٠٠٧ قدَّمَ فريقٌ من مركز هارفرد سميثسونيان للفيزياء الفلكية حسابات أشارت إلى أن تشوُّهَ مجرَّة درب التبانة يمكن أن يبدأ في غضون مليارَيْ عام فقط، وهو الوقت الذي يمكن أن تكون فيه حياة ذكية باقية في مجموعتنا الشمسية بحيث تشهد هذا الحدث. لكن على أي مراقبٍ أن يتحلى بالصبر؛ لأنه حتى على أساس هذا الإطار الزمني المنقح سيستغرق الاندماج ثلاثة مليارات عام أخرى كي يكتمل، وبحلول ذلك الوقت، ستُزاح الشمس المسنَّة إلى مدارٍ يبعد ٣٠ كيلو فرسخًا فلكيًّا عن مركز المنظومة المندمجة، وهو ما يعادل نحو أربعة أضعاف المسافة التي تبعدها حاليًّا عن مركز مجرَّة درب التبانة. ومع أنه لم يتحدَّد بعدُ إن كان هذا الإطار الزمني المنقح مقبولًا، فإن النتيجة النهائية واحدة على أي حال، أيًّا كان وقت حدوثها.
يمكن أيضًا أن تتسبَّب المواجهات القريبة في انكماش المجرَّات؛ ففي العناقيد المجرية الثرية، تتحرك المجرَّات المنفردة («النحلات» الموجودة في «السرب») بسرعة كبيرة للغاية تحت تأثير الجاذبية، لدرجة أنها تعجز عن الاندماج وإنما تمرق مجتازة بعضها البعض في مواجهات خاطفة تجرِّدها من الغاز والغبار، بل ومن النجوم أيضًا، وترسل المادة متدفِّقة إلى الخارج نحو الفضاء الموجود بين المجرَّات، حيث تشكِّل ضبابًا حارًّا يمكن رصده عند الأطوال الموجية الخاصة بالأشعة السينية. وتستقر أكبر المجرَّات في مركز مثل هذه العناقيد، وكأنها أنثى عنكبوت جالسة وسط شبكتها، وتلتهم أي شيء يقترب منها، ويزداد حجمها بينما تفعل ذلك.
إن نحوَ واحد بالمائة من المجرَّات التي تُرَى على إزاحات حمراء منخفضة يمر على نحوٍ نَشِط بالمراحل الأخيرة من عمليات اندماج؛ بَيْدَ أن هذه العمليات تستغرق وقتًا قليلًا للغاية، مقارَنةً بعمر الكون، لدرجة أن الإحصاءات تشير إلى أن نحو نصف العدد الإجمالي للمجرَّات المرئية بالقرب منَّا نتج عن حالات اندماجٍ بين مجرتَيْن ذواتَيْ حجم متقارِب عبر السبعة أو الثمانية مليارات عام الماضية. والمجرَّات القرصية نفسها، على غرار درب التبانة، يبدو أنها تكوَّنَتْ من وحدات فرعية أصغر حجمًا، بحيث بدأت بالسطح الكروي وأضافت إلى نفسها بعض الأجزاء مع مرور الوقت. ذكرتُ بالفعل تياراتِ النجوم التي يمكن تفسيرها بوصفها بقايا أجرام أقل حجمًا اقتنصتها مجرَّتُنا، وعن طريق سبر أغوار الماضي على نحوٍ أكبر نجد دليلًا آخَر يدعم هذه الفكرة يتمثَّل في العناقيد الكروية، التي يمكن الاستدلال على أعمارها بدقة جيدة عن طريق دراسة تركيبها باستخدام التحليل الطيفي.
احتوى أوائل النجوم على نذر يسير للغاية من العناصر الأثقل من الهيدروجين والهليوم، بينما امتلأت النجوم الشابة بالعناصر التي صُنعت داخل النجوم السابقة بطريقة معروفة جيدًا. كلُّ عنقودٍ كروي يتكوَّن من نجوم لها العمر ذاته، وهو ما يؤكِّد أنها تكوَّنت معًا من سحابة غاز وغبار واحدة، لكن للعناقيد الكروية أعمارًا مختلفةً فيما بينها، وهو ما يبيِّن أنها تكوَّنت في أزمنة مختلفة. وأقدم هذه العناقيد الكروية يزيد عمره قليلًا عن ١٣ مليار عام، وهو ما يتوافق على نحو طيب مع فهمنا للوقت الذي تكوَّنت فيه أُولَيات المجرَّات. إن تبايُنَ أعمار العناقيد الكروية يدعم فكرة أن الجزء من مجرتنا الواقع خارج الانتفاخ الأصلي للسطح الكروي تكوَّنَ من مئات الآلاف من سُحُب الغاز الأصغر، كلٌّ منها به من المادة ما يساوي نحو مليون كتلة شمسية. وكلما اصطدمت سحابة غاز بالمجرَّة الآخذة في النمو، فمن شأنها أن ترسل موجةً صدمية تتماوج عبر السحابة وتطلق عمليةً لتكوُّن النجوم في قلبها، مكوِّنة عنقودًا كرويًّا جديدًا. ومن شأن السواد الأعظم من المادة الآتية من السحابة أن يرتبط بفعل الجاذبية، وأن يتباطأ بفعل الاحتكاك كي يصير جزءًا من قرص المواد النامي حول انتفاخ السطح الكروي. ظلَّ بعض العناقيد الكروية باقيًا حتى وقتنا الحاضر، بينما تمزَّق البعض الآخَر بفعل القوى المدِّيَّة حين حدث أن أخذتها مداراتها إلى عمق بعيد نحو مركز المجرَّة. إلا أن عمليات المحاكاة الحاسوبية تُظهِر أن عملية الاستقرار هذه بأسرها تعمل فقط داخل الإطار الزمني المتاح — هذا إن حدثت من الأساس — إن كانت توجد مادة مظلمة تسهم في مجال الجاذبية الإجمالي؛ بحيث يكون مقدار المادة المظلمة أكبر بعدة مرات من المادة الباريونية. ومن دون المادة المظلمة، لا يكون بمقدور المجرَّات القرصية أن تنمو، ولم تكن أي بذور كروية لتوجد بحيث تنمو منها المجرَّات في المقام الأول.