مصير المجرَّات
يعتمد مصير المجرَّات على مصير الكون. هناك ثلاثة سيناريوهات أساسية يجب تدبُّرها، ومع أن المنظِّرين خرجوا علينا بالعديد من التنويعات على هذه الأفكار الأساسية، فإن هذه الفروق الدقيقة لا تغيِّر على نحو جذري من الاحتمالات الثلاثة لمصير المجرَّات. الاحتمال الأول هو أن الكون سيواصل تمدُّده بالطريقة عينها تقريبًا التي يتمدَّد بها اليوم، بتسارعٍ ثابت، وتؤيِّد الإحصائيات الخاصة بالمشاهدات المتاحة في الوقت الحاضر هذا الاحتمال، لكن ليس على نحو حاسم بما يكفي لاستبعاد الخيارَيْن الآخَرين. الاحتمال الثاني هو أن معدل التمدد نفسه سيتسارع، أما الاحتمال الثالث فهو أن التسارع سينقلب إلى تباطؤ في نقطةٍ ما في المستقبل القريب؛ ومن ثَمَّ سينهار الكون في «انسحاق عظيم» هو النسخة المعكوسة زمنيًّا للانفجار العظيم.
أيضًا تنكمش المجرَّات على هذه الأطر الزمنية الطويلة، وهذا يرجع جزئيًّا إلى أنها تفقد الطاقة من خلال إشعاع الجاذبية، الذي ليس له سوى تأثيرٍ طفيفٍ وفق أي إطار زمني بشري، لكنه يتراكم بدرجة كبيرة عبر تريليونات الأعوام. وتنكمش المجرَّات أيضًا بسبب المواجهات التي تحدث بين النجوم، والتي فيها يكتسب أحد النجوم طاقةً ويُدفَع نحو الفضاء الموجود بين المجرَّات، فيما يفقد النجم الآخَر طاقةً ويهوي إلى مدارٍ أضيق حول مركز المجرَّة. وبالطريقة عينها، ستنكمش أيضًا العناقيد المجرِّيَّة، وفي النهاية ستسقط المجرَّات المنفردة والعناقيد المجرِّية داخل ثقوب سوداء فائقة تكوَّنَتْ بفعل هذه العملية.
يمكنك أن تعتبر هذه نهايةَ القصة؛ لأنه لا شيء يمكن تمييزه بوصفه مجرَّةً سيوجد في ذلك الوقت، لكن ستظل الثقوب السوداء والباريونات موجودةً، على صورة نجوم ملفوظة وبقايا من الغاز. وإذا توافر وقت كافٍ، فإنه حسب نظرية فيزياء الجسيمات فإن هذه المكونات النهائية للكون ستختفي هي الأخرى. وللإشارة إلى الإطار الزمني المعني، سأتجاهل مؤقتًا الثابت الكوني، وأنظر إلى الصورة القديمة التي وفقها يتمدَّد الكون بثبات، لكن ببطء أكثر مع مرور الوقت، وهو ما يمنحنا وقتًا لا نهائيًّا للتدبُّر.
ماذا عن الثقوب السوداء؟ الغريب في الأمر أنها ستعاني المصير ذاته. هناك رابطٌ عميق بين توصيف الثقب الأسود في إطار كلٍّ من النسبية العامة والديناميكا الحرارية ونظرية الكم، ومفتاح هذا الأمر هو ذلك المبدأ الذي يقع في أساس فيزياء الكم والمعروف باسم مبدأ عدم اليقين، وهذا المبدأ يخبرنا أن هناك أزواجًا معينة من الخصائص في العالم الكمي تجتمع بطريقة معينة بحيث يصير من المستحيل لكلتا الخاصيتين في أي زوج أن تمتلكا قيمةً محدَّدة بدقة في الوقت عينه. ليس هذا راجعًا إلى قصورٍ في وسائل القياس، بل هو ملمح أصيل للكيفية التي يسير بها الكون. ومن هذه الأزواج الطاقة والزمن. وفي سياق مصير الثقوب السوداء، فإن ما يهم هو أن عدم اليقين الذي يكتنف العلاقة بين الطاقة والزمن يخبرنا بأنه لا يوجد حقًّا ما يُسمَّى الفضاء «الخاوي»، فإذا تصوَّرت حيِّزًا صغيرًا للغاية من الفضاء الخاوي، فربما تظن أنه لا يحتوي على أي طاقة على الإطلاق، لكن مبدأ عدم اليقين الكمي يخبرنا بأن هذا الحيِّز «ربما» يحتوي على مقدار معين من الطاقة، بشرط أن يحدث هذا لفترة تقلُّ عن وقت معين. وكلما كبر مقدار الطاقة تحتَّمَ أن يقلَّ مقدار الزمن؛ وبذا يمكن لفقاعة صغيرة من الطاقة أن تظهر إلى الوجود بغتةً، ثم تختفي، دون أن يتم رصدها. وبما أن الطاقة يمكن معادلتها بالكتلة، فإن هذا يعني أن بإمكان أي زوج من الجسيمات — إلكترون وبوزيترون مثلًا — أن يظهر إلى الوجود بغتةً من لا شيء على الإطلاق، بشرط أن يختفي ثانيةً على الفور.
لكن ماذا لو لم يكن هناك وقت كي يحدث كل هذا؟ إذا كان الثابت الكوني ثابتًا بحق، فإن معدل تمدُّد الكون يتسارع بمعدل ثابت، وكل شيء خارج نطاق مجموعتنا المحلية من المجرَّات، التي تنتمي إليها مجرَّة درب التبانة، سيُحمَل بعيدًا عن أنظارنا في غضون مائتَيْ مليار عام. فالفضاء خارج فقاعتنا المحلية سيتمدَّد بسرعةٍ تفوق سرعةَ الضوء، ولن تكون أي إشارة آتية من الخارج قادِرةً على أن تصل إلى أيِّ راصدين في مجرَّة درب التبانة، أو أيًّا ما ستكون المجرَّة قد صارت عليه؛ ومن ثَمَّ سيكون هناك أفقٌ كوني منكمش يعين حد المشاهدات. والعملية التي وصفتُها للتو ستستمر في الحدوث، سواء خارج الفقاعة أو داخلها، لكن من الناحية العملية فإنه في غضون نحو عشرة أضعاف العمر الحالي للكون، لن يكون هناك شيء يمكن رؤيته خارج جزيرة النجوم الآخِذة في الخفوت الممثلة في تلك المجرَّة الفائقة المندمجة، أيًّا كان نوعها، التي تشكَّلت من مكونات المجموعة المحلية. هذا هو التصوُّر الراجح اليوم من منظور التكهُّنات الفلكية، ومع ذلك فهناك احتمالات أكثر دراماتيكية. فماذا لو لم يكن «الثابت» الكوني ثابتًا بالفعل؟
لقد وضعت دراساتُ المستعرات العظمى الحدودَ بشأن المقدار الذي يمكن أن يكون الثابت الكوني قد غيَّر به الكون إبَّان تطوُّره؛ بَيْدَ أنها ليست جيدة بما يكفي بحيث تثبت أن هذا الثابت كان ثابتًا بالفعل منذ الانفجار العظيم؛ فلربما يكون من الأجدر أن نسميه المعامل الكوني؛ وذلك للسماح بإمكانية تغيُّره مع مرور الوقت. وقد شجَّع هذا بعض المنظِّرين على التكهُّن بشأن الكيفية التي يمكن بها — لتغيُّرٍ في قيمة كثافة الطاقة المظلمة للكون — أن يؤثِّر على تمدُّد المكان ومصير المجرَّات. إن الاحتمالَ الأول، الذي يقضي بأن المعدل الذي يتسارع به تمدُّد الكون ربما يكون هو نفسه آخِذًا في التسارع، يغيِّر تمامًا من نظرتنا لموضعنا في الكون؛ لأنه يشير إلى أننا لا نعيش في مرحلة مبكرة من عمر كونٍ مقدَّر له أن يعيش حياة مديدة، ولكن ربما نكون بالفعل قد قطعنا ثلث الطريق منذ الانفجار العظيم وحتى نهاية كل شيء مادي، بل والأكثر إثارةً أن هذه الفكرة تقترح أنه لو ظلت الحياةُ الذكية باقيةً في الكون، فسيتمكَّن الراصدون من مشاهدة هذا الدمار النهائي حتى النهاية تقريبًا (وهذه تكهُّنات تنطبق على أحد النماذج الممكنة للكون، وليست حقائق مؤكدة تنطبق على كوننا. ورأيي الشخصي أنها محض تخيُّلات، وإنْ كانت تخيُّلات ممتعة!)
يُشار إلى هذا السيناريو أحيانًا باسم «التمزُّق العظيم»؛ وذلك لأسباب ستتضح قريبًا. وهو يبدأ من افتراض أن تمدُّد الكون مسئول عن خلق الطاقة المظلمة، وفي الوقت ذاته — كما سبق أن أوضحتُ — تتسبَّب الطاقة المظلمة في جعل الكون يتمدَّد على نحوٍ أسرع. ويعني المزيدُ من التمدد وجودَ المزيد من الطاقة المظلمة، التي تعني بدورها مزيدًا من التمدُّد، الذي يعني مزيدًا من الطاقة المظلمة، وهكذا دواليك. كل هذا متَّسقٌ مع قوانين الفيزياء المعروفة، لكن هذه القوانين لا تفرضه. وإذا ظل المعامل الكوني صغيرًا كما هو اليوم، فلن تجد الأجرامُ على غرار الشمس والنجوم والمجرَّات أي صعوبةٍ في مقاومة التمدُّد الكوني لمئات المليارات من الأعوام؛ وذلك لأن جاذبيتها تتغلَّب على تأثيرات الطاقة المظلمة. لكن في سيناريو التمزُّق العظيم الجامح، سرعان ما سيأتي وقت تتغلَّب فيه الطاقة المظلمة — التي تعمل كدأبها دومًا كقوة مضادة للجاذبية — على الجاذبية، وحتى الأجرام التي نظنها متماسكة ستتمزَّق إربًا بفعل التمدد. هذا مثال على النمو الأُسِّي، لكن حتى في أقصى سيناريوهات التمزُّق العظيم تطرُّفًا التي تسمح بها المشاهدات، مع أن النهاية ستحدث بعد ما يزيد عن ٢٠ مليار عام؛ فإنه لن يحدث شيء غريب للأجرام التي في حجم المجرَّات حتى المليار عام الأخير أو نحو ذلك.
في ذلك الوقت، ستتغلب الطاقة المظلمة على قوى الجاذبية التي تحافظ على تماسك المجموعة المحلية من المجرَّات معًا، وسيحدث هذا بعد ٢٠ مليار عام من الآن؛ أي أسرع بعشرة مليارات عام مما لو كان الثابت الكوني ثابتًا دون تغيير بالفعل. بحلول ذلك الوقت، ستظل المجرَّة البيضاوية الكبيرة التي تكوَّنت عن طريق اندماج مجرتَيْ درب التبانة وأندروميدا موجودةً على صورة يمكن التعرُّف عليها، ومع أن الشمس ستكون قد فنت منذ ما يزيد عن العشرة مليارات عام، فقد تكون هناك كائنات ذكية تعيش على كواكب أخرى شبيهة بالأرض تدور حول نجوم شبيهة بالشمس، وتكون قادرةً على أن تشاهد ما سيحدث بينما يواصل حجم المعامل الكوني الزيادة، وسيظل «الأفق» الكوني في ذلك الوقت على مسافةٍ قدرها نحو ٧٠ ميجا فرسخًا فلكيًّا.
وبدايةً من هذه النقطة، يكون من المنطقي ألَّا نقيس مرور الأحداث بالزمن المنقضي منذ الانفجار العظيم، وإنما بالزمن المتبقي على التمزُّق العظيم. فقبل نحو ٦٠ مليون عام على النهاية، ستبدأ مجرَّتنا — وكل المجرَّات — في التبخُّر مع بلوغ الطاقة المظلمة درجةً من القوة تجعلها تتغلَّب على قوة الجاذبية بين النجوم، لكن سيظل من الممكن لأي منظومة كوكبية كالمجموعة الشمسية أن تهيم عبر الفضاء دون ضرر. وقبل التمزُّق العظيم بثلاثة أشهر فقط، ستكون الروابط الجذبية التي تجمع الكواكب بنجومها قد ضعفت، وأيُّ حضارةٍ لديها من التكنولوجيا ما يمكِّن الراصدين من البقاء أحياءً بعد هذه الكارثة ستصل إلى نهايتها حين يتمزَّق كوكبها إربًا بفعل التمدُّد الكوني، وهو ما سيحدث قبل حوالي نصف ساعة من نهاية المادة. وفي الكسر الأخير من الثانية، ستتمزق الذرات والجسيمات إربًا حتى تصير عدمًا، مخلِّفة وراءها زمكانًا منبسطًا خاويًا. وتقترح بعض النسخ المتطرفة من هذه الفكرة أنه قد يُولَد كون جديد من هذا الفراغ، وأن كوننا ربما يكون قد نشأ من فراغ كهذا. لكن من منظور المجرَّات، يمكن القول بأنه لو صحَّ هذا السيناريو فإن النهاية ستقع بعد حوالي ٢٠ مليار عام، وقبل ٦٠ مليون عام على التمزُّق العظيم.
لكن ماذا لو افترضنا أن المعامل الكوني يتناقص مع مرور الوقت؟ فقد يقلُّ وصولًا إلى الصفر، وهو ما يعيدنا مجدَّدًا إلى صورة الكون الآخِذ في التمدُّد إلى الأبد، مع فناء المادة وتبخُّر الثقوب السوداء، هذه الصورة التي بدأتُ بها هذا الاستعراض. لكن لماذا نتوقَّف عند هذا الحد؟ إن المعادلات تسمح بإمكانية أن يصير هذا العامل سالبًا، وهذا يجعل فناء الكون أقرب، بل ربما يكون الوقت الذي يفصلنا عنه في المستقبل أقل من الوقت الذي يفصلنا عن الانفجار العظيم في الماضي. لكن النهاية ستأخذ شكلًا مختلفًا هذه المرة؛ إذ لن تأتي على صورة تمزُّق عظيم، وإنما على صورة «انسحاق عظيم»، وهو حدثٌ مكافئ للانفجار العظيم، ولكن على نحو معكوس.
ومجدَّدًا سأستخدم أكثر النسخ تطرُّفًا للسيناريو المتفق مع مشاهداتنا للكون الفعلي ومع قوانين الفيزياء المعروفة. وتمامًا مثلما يعمل المقدار الموجب من الطاقة المظلمة عمل الجاذبية المضادة، ويجعل الكون يتمدَّد على نحو أسرع، يعمل المقدار السالب من الطاقة المظلمة عمل الجاذبية ويجذب أجزاء الكون بعضها إلى بعض، بحيث يمكن عكس التمدُّد الكوني. وتشير المشاهدات التي أُجرِيت إلى الآن، مقترنةً بالاعتبارات النظرية، إلى وجود نطاق من الاحتمالات لهذا النوع من الانخفاض في قيمة المعامل الكوني، وهو ما يعني أن الانسحاق العظيم يمكن أن يحدث في وقت قريب مقداره ١٢ مليار عام من الآن، أو في وقت بعيد في المستقبل يصل إلى ٤٠ مليار عام من الآن. وكشأن الحالة السابقة، من الأفضل توصيف الأحداث من منظور الزمن المتبقِّي على النهاية، وهو ما يمكن التعبير عنه أيضًا من حيث الحجم المنكمش للجزء القابل للرصد من الكون. وبما أن كل شيء ينكمش بالطريقة عينها، بما في ذلك أُفقنا، فإن العمليات نفسها تمامًا ستجري في كل مكان في الآن عينه. وبحلول ذلك الوقت، لن يكون الراصدون الأذكياء موجودين ليشهدوا سكرات موت الكون.
حين يتوقَّف تمدُّد الكون ثم يبدأ في السير على نحو معكوس، فإنه سيؤثِّر على كل شيء في الكون في الآن عينه؛ لأن المكان نفسه يتأثَّر بفعل القيمة المتغيرة للمعامل الكوني. لكن بسبب الوقت المحدود الذي يستغرقه الضوء في الانتقال عبر الفضاء، فأي راصدٍ سيوجد بعد انعكاس التمدُّد مباشَرةً، أينما كان في الكون، لن يرى كونًا تهيمن عليه المجرَّات ذات الإزاحة الزرقاء. فالضوء القادم من المجرَّات القريبة سيُزاح إزاحة زرقاء، لكن الضوء القادم من المجرَّات البعيدة، الذي قضى السواد الأعظم من رحلته وهو يعبر فضاءً آخِذًا في التمدُّد، سيظل على إزاحته الحمراء. وستكون أي حضارة معمرة قادرة على أن تحتفظ بسجلاتٍ تبيِّن انتشارَ «أفق الإزاحة الزرقاء» إلى الخارج بسرعة الضوء، إلى أن تسود الإزاحات الزرقاء في نهاية المطاف بالفعل.
وفيما يخص المجرَّات، فإن انهيار الكون لن يؤثِّر عليها لمليارات الأعوام، وستتواصل عمليات تكوُّن النجوم والاندماج المجرِّي التي وصفتُها سلفًا كما في السابق، مع اقتراب العناقيد المجرِّيَّة بعضها من بعض واندماجها في النهاية، وستصير عمليات اندماج المجرَّات أكثر شيوعًا، لكن دون أن يسبِّب ذلك أي مشكلات لأشكال الحياة التي تعيش على كواكب كالأرض؛ بل سيأتي تهديد الحياة بالفعل من أضعف ملامح كوننا تأثيرًا في الوقت الحالي؛ أي إشعاع الخلفية المتخلِّف عن الانفجار العظيم.
إن إشعاع الخلفية الميكروني الكوني متخلِّف عن الكرة النارية التي وُلِد منها كوننا. وبين ٣٠٠ ألف عام و٤٠٠ ألف عام بعد الانفجار العظيم، وقت حدوث الانفصال بين المادة والإشعاع، كانت درجة حرارة هذا الإشعاع تناهِز حرارة سطح أي نجمٍ اليوم، ثم بردت حرارته حتى وصلت إلى ٢٫٧ درجة كلفينية (−٢٧٢٫٣ درجة مئوية) بينما استطال كي يملأ الفضاء المتاح. لكن حين ينكمش الفضاء المتاح، سيُزاح الإشعاع إزاحة زرقاء وينضغط، بحيث ترتفع حرارته في عملية معاكسة تمامًا لتلك التي أدت إلى برودته. وفي الوقت الذي تكون فيه العناقيد المجرِّيَّة قد بدأت في الاندماج، وتكون كلُّ المجرَّات بدأت الانخراط في عمليات اندماج، سيكون حجمُ الكون واحدًا على المائة من حجمه الحالي، وستكون درجةُ حرارة السماء نحو ١٠٠ درجة كلفينية، وهو رقم ليس كافيًا لإثارة القلق بعدُ. لكن في غضون بضعة ملايين الأعوام، ستتجاوز حرارة إشعاع الخلفية درجة ذوبان الجليد: ٢٧٣ درجة كلفينية، ولن يكون هناك أي ثلج أو جليد في أي مكان في الكون. ربما تظل الحياة ممكنةً، لكن مع مواصلة درجة الحرارة في الارتفاع ستتجاوز الحرارةُ نقطةَ غليان الماء: ٣٧٣ درجة كلفينية، وسرعان ما تبدأ السماء كلها في التوهُّج بدرجة أكبر وأكبر مع مرور الوقت.
وقبل الانسحاق العظيم بمليارَيْ عام، ستصير الحياةُ مستحيلةً، وستتشوَّه المجرَّات إلى مجموعة مبعثرة من النجوم. وقبل النهاية بأقل من المليون عام بقليل سوف «تتفكَّك» كلُّ المادة الباريونية — خلا تلك الموجودة في مأمن داخل النجوم — إلى مكوِّناتها المشحونة كهربيًّا، وفي ذلك الوقت ستعاود المادة والإشعاع الاتحادَ في عناقٍ حميمٍ. وهذا حدثٌ معاكِس تمامًا لعملية الانفصال التي وقعت بعد الانفجار العظيم، وستقع هذه العملية في وقت مماثل تمامًا — قبل النهاية بحوالي ٣٠٠ ألف إلى ٤٠٠ ألف عام — للوقت الذي وقعت فيه عملية الانفصال بعد البداية. الفارق هو أن النجوم — أو على الأقل قلوبها — يمكنها البقاء في هذه الكرة النارية إلى أن يصل الكون إلى واحدٍ على المليون من حجمه الحالي وتتجاوز درجة حرارته ١٠ ملايين درجة، وهو ما يقارب الحرارة داخل النجوم؛ وعندئذٍ فحتى قلوب النجوم ستذوب في الكرة النارية. وفي النهاية، سيختفي كل شيء في نقطة تفرُّد، مثل نقطة التفرُّد الموجودة في قلب أيِّ ثقب أسود، أو تلك التي وُلِد منها الكون.
وهذا يقودنا إلى تكهُّنٍ مثيرٍ للاهتمام يقضي بأن كوننا ربما يكون قد وُلِد بنفس الطريقة تمامًا، من انهيار كون سابق، أو مرحلة سابقة من كوننا، وهو ما قد يستتبع وجود دورة متكررة من التمدد والانهيار والارتداد. لكن ليس أيٌّ من هذا له علاقة بمصير المجرَّات التي نراها في كوننا؛ ففي سيناريو الانسحاق العظيم، ستتشوَّه المجرَّات إلى درجةٍ يستحيل معها التعرُّف عليها قبل النهاية بحوالي مليار عام، ربما بعد نحو ١١ مليار عام من الآن.
لكنَّ سيناريوهَي التمزُّق العظيم والانسحاق العظيم محض تكهُّنات أُقدِّمها هنا بالأساس كي أبيِّنَ حدودَ ما يمكن أن يحدث. ففي حدود علمنا، ليس من الممكن أن يعاود الكون الانهيار في وقتٍ يقل عن ١٢ مليار عام، كما أن التمزُّق العظيم لن يطيح بالمجرَّات إلا بعد نحو ٢٠ مليار عام. منذ ثلاثين عامًا كان هناك قدر مماثل من عدم اليقين، يتراوح بين ١٢ مليار عام و٢٠ مليار عام، في تقديرات الفلكيين للزمن الذي انقضى منذ الانفجار العظيم؛ بَيْدَ أن هذا الزمن قد تحدَّدَ بدقة اليوم بالرقم ١٣٫٧ مليار عام، وهذا تقدُّمٌ كبير، وربما نأمل في حدوث تقدُّمٍ مماثل في الأعوام الثلاثين القادمة فيما يخص فهمنا لمصير الكون.
إلا أن أفضل تكهُّنٍ حاليٍّ لمصير المجرَّات هو أن الثابت الكوني ثابت بحق، وأنه مع أن التسارع التدريجي في معدل تمدُّد الكون قد يتسبَّب في حدوث تمزُّق عظيم بطيء في نهاية المطاف، فإن هذا سيحدث في وقت بعيد للغاية في المستقبل، لدرجة أنه لا يستحق أن نشغل أنفسنا به. وفق تلك الصورة، فإن المجرَّات آمِنة لمدة بضعة مليارات الأعوام القادمة؛ أي ما يزيد عن عشرة أضعاف عمر الكون الحالي، وسيكون هناك وقت وفير كي يتوصَّل راصدون آخَرون أذكياء إلى الكيفية التي سينتهي بها كل شيء بدقة.