ممارسات الترجمة ودورة رأس المال الثقافي: بعض ترجمات ملحمة الإنيادة بالإنجليزية
تهدف معظم النصوص التي تُترجَم اليوم، في عصرنا الحالي، إلى توصيل المعلومات، سواء كانت عن الكمبيوتر أو السيارات ومضخَّات نقل السوائل وما شابه ذلك، وتهدف ترجماتٌ أخرى — وهي الآن أقلِّية، وإن لم تكن دائمًا كذلك — إلى تنشيط دورة رأس المال الثقافي. والفرق بين المعلومات ورأس المال الثقافي بالمعنى الذي قدَّم بيير بورديو المصطلحَ الأخير به يمكن صَوغُه بإيجاز فيما يلي: المعلومات هي ما تحتاجه لأداء عملك على المستوى المهني، ورأس المال الثقافي هو ما تحتاجه حتى يرى الناس أنك تنتمي إلى «الدوائر الصحيحة» في المجتمع الذي تعيش فيه.
ويمكن أن يقال إن الهدف من نمطٍ ثالثٍ من الترجمات يقع على مستوى التسرية عن النفس؛ فلهذا الغرض يترجم المترجمون الروايات ويدور الحوار بين المُمثِّلين في الأفلام السينمائية أو يُطبَع على الشاشة. كما يمكن أن يقال إن الهدف من نمطٍ رابعٍ من الترجمات هو محاولة إقناع القارئ بالقيام بعمل معيَّن، لا بغيره. ويستند هذا التمييز غير الدقيق بين الأنماط الأربعة للترجمة إلى وجود أربعة أنماط من النصوص بصفة عامة. وهذا تقسيم أوَّليٌّ إلى حدٍّ بعيد، بطبيعة الحال. ومن أسباب ذلك التي لا يُستهان بها أن كثيرًا من النصوص التي تنقل المعلومات أو تسعى إلى الإقناع تحاول أيضًا أداء ذلك بأسلوب يتضمَّن بعض التسرية، وأن كثيرًا من النصوص التي تُكتَبُ أساسًا للتسرية عن القارئ يمكن القول بأنها تُقدِّم معلومات أيضًا بل وتنجح في بعض الأحيان في الإقناع بالقيام بعملٍ ما.
لكنني سوف أركِّز فيما يلي على النمط الثاني من النصوص/الترجمات؛ أي النصوص التي قد يكون هدفها الأساسي تقديم معلومات، أو التسرية، أو مزيجًا من هذا وذاك، أو محاولة الإقناع، ولكنها تَحظى بالاعتراف بها باعتبارها تنتمي إلى «رأس المال الثقافي»، لثقافة معيَّنة، أو ﻟ «الثقافة العالمية». ورأس المال الثقافي المذكور يُنقَل ويُنشَر ويُنظَّم بعدَّة وسائل من بينها الترجمة، لا فيما بين الثقافات فقط بل أيضًا داخل إطار الثقافة الواحدة. ولقد شهد تاريخ الترجمة محاولات لنقل رأس المال الثقافي على نطاقٍ واسع، كما حدث فيما يُسمَّى «مدارس الترجمة» في طليطلة (بإسبانيا) أو في بغداد، ومثل سياسات محمد علي الرامية إلى إدخال العلوم والفنون والآداب والتكنولوجيا الفرنسية في مصر في القرن التاسع عشر، ولكننى لن أتعرَّض هنا لهذه المحاولات بل سوف أرصد حظوظ بعض ترجمات ملحمة الإنيادة التي كتبها فيرجيل، إلى اللغة الإنجليزية، وإن لم أعتزِم، على الإطلاق، رَصْدَ «تاريخ» الترجمات الإنجليزية لهذه الملحمة، مهما يكن تقريبيًّا؛ إذ إنني أريد أن أُبيِّن وحسب كيف يمكن الاستفادة من مفهوم رأس المال الثقافي في دراسة الترجمة الأدبية.
إذن فالرأسمال الثقافي هو رأس المال الذي يستطيع المثقفون إلى الآن أن يزعموا امتلاكه، بل وإلى حدٍّ ما، أن يتحكَّموا فيه، بخلاف رأس المال الاقتصادي الذي لم يعُد معظم المثقفين قادرين على الزعم — مجرَّد الزعم — بامتلاكه؛ فالرأسمال الثقافي هو ما يجعلك مقبولًا في مجتمعك عند انتهاء عملية التكيُّف الاجتماعي المعروفة باسم «التعليم»، وحتى إن كنتَ من علماء الذرَّة أو تُمارس مهنةً بالغة التخصص؛ فالمجتمع يتوقع منك القدرة على المشاركة في مناقشة موضوعات معيَّنة، من رمبرانت إلى فيليب روث، ومن واتو إلى فتجنشتاين.
كان القرن السابع عشر يعتبِر أن الإحاطة بشعر فيرجيل، لا بملحمته الإنيادة وحسب، من رأس المال الثقافي، بل في قلب ذلك المفهوم نفسه، أو قريبًا منه. ولم يعُد ذلك الافتراض من البديهيات في عصرنا الحالي، ويقول ديفيد ويست (١٩٩٠م) المترجم الأخير للإنيادة في مقدمته، بنبرة المُدافع عن عمله إلى حدٍّ ما. إن النص الذي ترجمه «لم يعُد من النصوص التي عفى عليها الزمن» (ص٨)، وعبارته ذات وقارٍ شديد من شأنه أن يجعل قوة تأكيده نفسها تُشير، على الأقل، إلى بعض الشكوك الباطنة، ولكن بعض المترجمين المُحدَثين يلجئون إلى القياس، فيُقيمون الصِّلات بين بعض جوانب الأصل وجوانب الزمن الذي يعيشون فيه، وغرضهم إقناع القرَّاء بأنهم لن يضيعوا وقتهم، وأن قراءة ما يرونه «نصًّا عتيقًا»، لولا أنه لا يزال يُعتبَر رأسمالٍ ثقافيًّا، قد تثبت فائدتها لهم آخر الأمر. وعلى سبيل المثال نجد أن روبرت فيتزجيرالد (١٩٩٠م) يقول للقارئ إنه قرأ الإنيادة «في الشهور الأخيرة للحرب العالمية الثانية» (ص٤١٤) ويُضيف قائلًا: «إن معركة أكتيوم التي خاضها سلاح البحرية عندنا وقعت قبل الظهر بوقتٍ طويل» (ص٤١٤) أي إنه يربط ما بين المعارك الفاصلة في الحرب الأهلية بين أنطونيو وأوغسطوس وبين الحرب في المحيط الهادئ، ويُضيف أيضًا «إن عمليات الإنزال البحري ستكون في جزيرة هونشو، ولسوف أكون هناك، وتزيد أهمية ذلك عن المتعة الأدبية» (ص٤١٤). ويأخذنا رولف همفريز (١٩٥٣م) إلى سنوات ماكارثي، فيطرح بعض الأسئلة الإنكارية مثل «ما نوع هذه الدعاية التي تجعل الأعداء، بصفة عامة، أشد جاذبيةً وتنوُّعًا وأقدر على إثارة التعاطف معهم مما نحن عليه؟» (ص٨) ومِثل «فلا ينبغي لمنظَّمةٍ وطنية من نوعٍ ما التحقيقُ مع هذا الكاتب المُخرِّب، الذي يتلقَّى المال سِرًّا من إحدى الدول الأجنبية» (ص٩). وأما ألن ماندلبوم (١٩٨١) فهو الذي يربط بين ترجمة الملحمة وحرب فيتنام قائلًا: «إن السنوات التي قضيتها في هذه الترجمة وسَّعَت من نطاق ذلك الاستياء الشخصي؛ فإن هذه الدولة (التي لم أعد أستطيع أن أشير إليها، بسبب حرب فيتنام، باسم «المجتمع»؛ فهو لفظٌ بريء) قد فعلَت ما لم نكن نتصوَّره وجاءت بالبشاعة نفسها» (ص١١). وأما الحرب في البوسنة وفي رواندا، والتطهير العِرْقي، فلا بد أن تنتظر الترجمة التالية، ولكنني واثقٌ كل الثقة أنها سوف تجد لها مكانًا ما في مقدمة الترجمة.
وأما أصحاب الترجمات الأولى للإنيادة، من جافن دَجْلاس إلى جون درايدن ومَن تلاهما، فلم يكونوا بحاجةٍ إلى إدراج مثل هذه الأقوال في مقدماتهم، بل ولم تكن جماهير قُرَّائهم تتوقع منهم ذلك؛ لأن فيرجيل كان يُمثِّل لهم رأسمالٍ ثقافيًّا، بل رأسمالٍ من الطبقة الأولى، وإن لم يكن السبب مقصورًا على كونه فيرجيل إذ يقول جون جيلوري (١٩٩٣م) إن الرأسمال الثقافي، في المقام الأول، «رأسمال لُغَوي، فهو الوسيلة التي يصل بها المرء إلى معرفة لغة يقبلها المجتمع ويُقدِّرها خير تقدير» (ص٩). وفي زمن درايدن كانت اللاتينية لا تزال قادرةً على أن تزعم كونها تلك اللغة، على عكس ما أصبحت الحال عليه قَطْعًا في زمن همفريز. وهكذا فإن ترجمة فيرجيل كانت تعني، من زمن درايدن حتى سنجلتون، جَعْل اللاتينية — بصورةٍ ما — في متناوَل أيدي قُرَّائك. وسوف يتَّضح أن عدَّة أشكالٍ قد ابتُكِرَت لتحقيق ذلك، ولكن هذه الأشكال كانت تشترك في ظاهرةٍ واحدة، أي إنها كانت تُمثِّل أنماطًا من الترجمة التي لا تحاول أن تحلَّ محلَّ الأصل، بل أنْ تستكمله، في حين أن الترجمات الحديثة تسعى أساسًا لاحتلال مكانه، كانت عدم معرفة فيرجيل في زمان فيرجيل يمكن أن تعني استبعاد الفرد من المجتمع الراقي، بصفةٍ خاصة، كما كان يمكن أن تعني أيضًا للطبقة البورجوازية الناهضة، وهو الأهم، الاستبعاد من «التعامل»، بكل معاني هذه الكلمة مع المجتمع الراقي. وأما الجهل باللاتينية، من ناحيةٍ أخرى، فكان من المؤكَّد أن يعني الاستبعاد، والحرمان من الاستفادة لا من «التعامل» بالمعنى التجاري الواضح للكلمة بالضرورة، ولكن من الحراك الاجتماعي الذي كان يطمح إليه الذين يشاركون في ذلك الضرب من التعامل؛ أي الحصول على «الفوائد الثقافية والمادِّية التي ينالها مَن أصاب قدرًا من التعليم العالي» (ص٩).
ولم تكن الأرستوقراطية في زمن درايدن تحتاج إلى الحراك الذي يُعلي مكانتها، فقد كانت إمَّا على القمة أصلًا أو بدأت الانحدار من تلك القمة، وغدت تتطلَّع إلى الحصول على رأسمال اقتصادي — لا ثقافي — لإيقاف الانحدار المذكور. وأما الرأسمال الثقافي فكانت البورجوازية الطامحة في حاجةٍ ماسَّةٍ إليه، وسرعان ما أتاحت المشاركة في رأسمالها الاقتصادي للأرستوقراطية حتى تكتسب الرأسمال الثقافي الذي تتمتَّع به الأرستوقراطية، وبعبارةٍ أخرى نقول إن ترجمة فيرجيل لم تكن تواجه جمهورًا متجانسًا، وهو ماكان درايدن يدركه؛ إذ يشكو في مقدمته من أنه لم يستطع تكريس الوقت الذي كان يرجوه للترجمة قائلًا: «كل ما أستطيع قوله إنني كنت أحتاج إلى وقت أطول، ولكن مطالبة بعض أنصاري ازداد صخبها إلى الحد الذي لم أعد معه قادرًا على تأجيل نشر الترجمة» (ص٣). ومع ذلك فإن درايدن، في المقدمة نفسها، المُهداة إلى راعٍ له من الأرستوقراطية، يستشهد بسطورٍ باللاتينية من الكتاب العاشر للإنيادة، ويُردِف ذلك بقوله: «ولا أُقدِّم هنا ترجمتي لهذه الأبيات الشعرية (وإن كنت أعتقد أنني لم أُخفِق في ترجمتِها) لأنني أعرف أن جنابك العالي تعرف الأصل خير المعرفة؛ ومن ثم لم أشَأْ أن أدعك ترى نص فيرجيل والنص الذي كتبتُه متجاورَين هنا» (ص٢٧).
ومن المشكوك فيه إنْ كان جميع أنصار درايدن «يعرفون الأصل خير المعرفة» على نحو ما يصف به درايدن «صاحب الجناب العالي». وهكذا فإن درايدن يُترجم لفئتين على الأقل من فئات جمهور القرَّاء، الأولى منها أرستوقراطية، وهي التي قد لا تحتاج إلى مترجم يُمكِّنها من الحصول على رأس المال الثقافي الذي يُمثِّله فيرجيل، أو تتعلَّق بأهداب وهمٍ يُوحي إليها أنها لا تحتاج إليه، والثانية هي البورجوازية، وخصوصًا أفراد الشريحتين الوسطى والدنيا من هذه الطبقة، وهي التي تحتاج فعلًا إلى مترجم وتُريد الاطِّلاع على نص فيرجيل بل واكتساب اللغة اللاتينية نفسها، وبالإضافة إلى ذلك أن تتعلم الحديث المقبول عن نصِّ فيرجيل، وليس من قَبيل المصادفة إذن أن ترجمة درايدن لا تقتصر على إدراج حواشٍ خاصة بالحقائق المرتبطة بالنص، بل وتُشارك أيضًا في المناقشات الدائرة بين شُرَّاح ونُقَّاد فيرجيل، مثل ماكروبيوس، وبونتانوس، ورويبوس، وسيجريس، وهو يُحدِّد «اعتراضاتهم الرئيسية» على فيرجيل في مقدمته، قائلًا: إنها موجَّهة «ضد مغزى الملحمة أو العبرة منها، وضد المدة أو طول الفترة الزمنية التي يستغرقها الحديث في الملحمة، وما لديهم من اعتراضات على أخلاق البطل فيها» (ص١٧). وأما مغزي فيرجيل (أي استعداده لمناصرة السياسات التي وضعها أوغسطوس، وهو موضوعٌ يعود همفريز إلى ذِكره في مقدمته، كما أُشيرَ إلى ذلك آنِفًا) وأخلاق إينياس، فربما لم تكن من الألغاز العويصة عند فئة القرَّاء الذين لم يتلقَّوا التعليم الرسمي الذي يتضمَّن دراسة الآثار الأدبية الكلاسيكية بالتفصيل، ومن ناحية أخرى، فإن مجرَّد إدراك مشكلة طول الفترة الزمنية باعتبارها مشكلة، كان يقتضي من المترجم إطلاع هذه الفئة من القرَّاء على شتَّى نظريات الملحمة الشائعة في زمن درايدن، خصوصًا النظريات الفرنسية التي كانت تُصِرُّ على وجوب عدم تجاوز الزمن الذي تستغرقه الملحمة مدة عامٍ واحد.
إذن فإن توزيع الرأسمال الثقافي وتنظيمه من خلال الترجمة يعتمدان، على الأقل، على العوامل الثلاثة التالية، وهي التي سوف نُضيف إليها عوامل أخرى في غِمار التحليل: (١) حاجة الجمهور أو بالأحرى حاجاته، وحاجة الجماهير أو حاجاتها، وهو العامل الذي سأتصدَّى له أخيرًا، و(٢) راعي الترجمة أو مَن دفعَ إلى وضعِها، و(٣) المكانة العليا النسبية للثقافتين، المصدر والمستهدَفة، واللغة الخاصة بكلٍّ منهما.
ولنبدأ بالعامل الثالث؛ لا يُهِمُّنا إن كان صاحب «الجناب العالي» الذي يخاطبه درايدن تحديدًا يستطيع فعلًا مقارنة ترجمة درايدن بالأصل اللاتيني. ولكن المهم فعلًا هو أن تلك الإمكانية كانت قائمة، بل وأنها كانت تُحدِّد — إلى درجةٍ بعيدة — كيف يقرأ الترجمةَ جانبٌ على الأقل من الجمهور الذي وُضعت من أجله، ولا نكاد نتصوَّر اليوم وجود قرَّاء فعلًا (ولا بد أن نفترض وجود عددٍ كبيرٍ منهم) لم يكونوا يقرءون الترجمة لما يمكن أن تُقدِّمه من معلومات، على نحو ما هو معتادٌ حاليًّا، بل — دون مبالغة — للنظر فيما فعله المترجم بالنص أو فيما أضرَّه فيه. وربما يكون أقرب ما يشبه ذلك في زماننا ما يفعله مُدَرِّسو النصوص الكلاسيكية الذين لا يحتاجون إلى الترجمات التي يضعها طلابهم حتى يفهموا الأصل بل للتحقُّق من مطابقة هذه الترجمات للأصل لكي يحكموا على مدى فهم الطلاب له، هذه الطريقة في قراءة الترجمات تُلقي بعبءٍ كبير على كاهل المترجِم، بطبيعة الحال؛ فالمترجم (وقد اتَّضح أن جميع المترجمين المذكورين في هذا النص من الذكور) لا بد أن يقيس كل ما يكتبه بما في الأصل، والمترجمون المُحدَثون لا يزالون يزعمون أنهم يفعلون ذلك، بل ويفعلونه حقًّا، ولكن ليس استنادًا إلى المفهوم القائم على وجود عددٍ كبير نسبيًّا من القرَّاء القادرين فعلًا على قياس درجة التزام المترجم بما يقوله مؤلف النص الأصلي.
وفيما يتعلَّق بترجمات الإنيادة المنشورة على مدى ثلاثمائة سنة بعد نشر جافين دَجْلاس ترجمته للمرة الأولى عام ١٥٥٣م، ظلَّت اللغة اللاتينية، والأصول اللاتينية، على الدوام تشغل وعي القرَّاء، وسواءٌ كانت تكتسب قيمتها من اعتبارها جانبًا من التعليم وفق المذهب «الهوماني» (الإنساني) أو يُطمَح إليها باعتبارها وسيلة للتقدم الاجتماعي فأمرٌ لا يهم؛ فالواقع يقول: إن الترجمات (ناهيك بالكتابات الأصلية) كانت تُوضَع تحت ظلال اللاتينية، وهو حالٌ لا يختلف عن إلقاء الإنجليزية اليوم بظلِّها على الإنتاج الأدبي والثقافي في شتَّى أرجاء العالم.
ولننظر الآن في العامل الثاني: فالرُّعاة أو الدافعون إلى الترجمة يتولَّون التكليف بها أو على الأقل يتولَّون نشرها على الجمهور، والمنطق يقول إذن إنهم سيكون لهم رأيٌ على الأقل في تشكيل الاستراتيجيات التي يختارها مختلف المترجمين في ترجماتهم. ففي حالة ترجمة كريستوفر بيت للإنيادة لم يكن الراعي سوى الشاعر العظيم ألكسندر بوب. وكما يقول جون كوننجتون (١٩٠٠) في تاريخه لترجمات الإنيادة إلى الإنجليزية، التي تُمثِّل جانبًا من مقدمته الطويلة لترجمته الخاصة للملحمة: «كان بيت صديقًا مقرَّبًا من سبنس، صديق بوب، وأبدى الشاعر العظيم — بكلمات لا يبدو أنها حُفِظَت — موافقته على تجربةٍ لولاه لما أمكن تحقيقها» (ص٢٩)، وبعد قرنين كتب سيسيل داي لويس ترجمته (١٩٥٢م) بناءً على تكليف راعٍ مختلف كل الاختلاف؛ إذ يقول في مقدمته «يَسَّرَ من حل مشكلتي أنني كُلِّفْتُ بالترجمة بقصد إذاعتها في الراديو» (ص٨) ثم يعرض بعد ذلك القرارات الاستراتيجية الجوهرية التي اتخذها نتيجةً لذلك قائلًا: إنه كان عليه «زيادة الزخم إلى حدٍّ كبير» (ص٨) و«تنويع الأماكن … يمكن تحقيقه بصورة أفضل من خلال النظم» (ص٨) و«الحاجة إلى الحفاظ على انتباه المستمع» (ص٨) وهو ما دفعه إلى «استخدام تعبيرٍ عامِّيٍّ حادٍّ جريءٍ هنا وهناك، أو عبارةٍ مُبتذَلة قد تُنبِّه السامع بظهورها في سياق غير مألوف» (ص٨). ومع ذلك، فإن الرُّعاة أو الدافعين على الترجمة لا يمكن تحديدهم بهذه السهولة، فقد يكونون من تُجَّار الكتب الذين يكتشفون نقصًا معيَّنًا في السوق، وقد يكون الدافع شيئًا غامضًا مثل «توقُّعات الجمهور»، وهي التي قد تتجسَّد في لحظة من اللحظات في أشخاص تُجَّار الكتب المذكورين آنِفًا، وقال كوننجتون عن ترجمة بيريسفورد للإنيادة عام ١٧٩٤: «كانت ترجمة كوبر لهوميروس قد ظهرت لِتَوِّها. وقد أدرك الجميع ما هي حقًّا عليه من امتيازٍ نادر. وكان من المُغري من ثَمَّ أنْ يحاول أحدهم تكرار الطريقة والرد بترجمة فيرجيل» (ص٢٧). وأما «الطريقة» المقصودة فكانت استعمال النَّظْم المرسَل بدلًا من الشعر المُقَفَّى الذي استخدمه درايدن، بحيث تُمثِّل من ثَمَّ إعادة النظر في الموقع الرئيسي الذي يشغله درايدن في سلسلة نسب ترجمات الإنيادة إلى الإنجليزية.
وكان المترجمون القدماء ينظرون إلى درايدن نظرةً مختلفة؛ إذ إن كريستوفر بيت الذي نشر ترجمته للمرة الأولى في عام ١٧٤٠م؛ أي بعد نَشْرِ ترجمة درايدن بنحو أربعين سنة، يشعر بأنه لا بد له من تقديم «تبرير» في تصديره، وذلك كما يقول: «لمنع القارئ من أن يتخيَّل أنني أحاول منافسة درايدن في ترجمته؛ فلا يوجد اسمٌ أُكِنُّ له مقدارًا أكبر من الإجلال والاحترام الحقيقي من اسمه» (ص٧)، ثم يعترف بيت، بعد ذلك، قائلًا: إنني استعَرْت، في أماكن مختلفة، نحو خمسين أو ستين سطرًا كاملًا من السيد درايدن، وأعتقد أنني لا أحتاج إلى الاعتذار عما أبَحْتُهُ لنفسي، بل أخشى أن يتمنَّى القارئ لو أنني استعَرْتُ عددًا أكبر من السطور من ترجمته النبيلة» (ص٨)، وللمرء الحق في أن يسأل عن سبب إحساس بيت بضرورة وضع ترجمة خاصة به، ولا ترجع الإجابة فقط إلى التحدي الذي تفرضه المنافسة، ما دام بيت يعرف كما هو واضح، أنه سوف يشتبك في معركةٍ خاسرة مع درايدن، ناهيك بفيرجيل. ولكن الإجابة تَكمُن في مفهوم الرعاية المشار إليه آنِفًا؛ إذ إن بوب أراد من بيت أن يُجرِّب الترجمة بنفسه، وما إن تُحقِّق ترجمةٌ معيَّنة مكانةً ترفعها فوق كل ما ينافسها، كما كان حال ترجمة درايدن في وقتٍ مبكِّر من تاريخ ترجمات الإنيادة إلى الإنجليزية، حتى يمكن النظر إلى تلك الترجمة، أو الظن بأنها، على الأقل، تُؤثِّر في الترجمات اللاحقة تأثيرًا سلبيًّا؛ أي إنها تكاد تجعل «مِن غير المُتصوَّر» على المترجمين اللاحقين أن يتجاوزوا المعايير التي وضعَتْها الترجمة التي غدت معيارية، ويتَّهم درايدن معارضوه بأن استخدامه للقافية قد «خنق» التجديد؛ إذ يقول ريتشاردز «إن ضرورات استخدام القافية تُشكِّل عقبةً كَئُودًا في طريق الاختيار الحر لِلُّغة المطلوبة لتمثيل معاني المؤلِّف الأصلي بأدق صورة وأنسبها» (ص١٣) كما أنه يصُبُّ لعناته على الترجمات المُتَّسِمة ﺑ «الإسهاب المُوهِن للنص» (ص١٥) ويعتقد معارضو درايدن أن المترجمين لم يلجأوا كثيرًا للترجمة بالنظم المُرسَل، وهو البديل عن القافية، وذلك، على وجه الدقة، بسبب نجاح درايدن، وإن كان النظم المرسَل «هو البحر الشعري الخاص بالملاحم الإنجليزية، ويُعتبَر في نظري أنسب بحرٍ تتطلَّبه إعادة صوغ ملحمة تنتمي إلى أمة أخرى» (رودز، ١٨٩٣م، ص٨).
ويلجأ المترجمون المنافسون، من أجل الخلاص من «السيطرة الخانقة» التي تفرضها الترجمة المعتمَدة، إلى اتخاذ موقفٍ متوقَّع يمكن وصفه ﺑ «البُنُوَّة السلبية» أو الحط من قيمة الأسلاف الذين قد يُزعَم أن عملهم يشغل مكانة «الترجمة المعتمَدة»، فيقول جافن دَجْلاس إن إعادة صوغ كاكستون للإنيادة لا يشبه الأصل إلا «كما يشبه الشيطانُ القديسَ أوغسطينوس» (ص٨)، وفيرفاكس تايلور (١٩٠٧م) يذمُّ درايدن بما يشبه المدح قائلًا: «يجوز لنا أن نعتبر أن ترجمة درايدن تشغل المكان الأول بين ترجمات الإنيادة إلى اللغة الإنجليزية الحديثة، على الرغم من افتقارها إلى الأمانة» (ص١٢)، ويحاول ج، ك، ريتشاردز أن يستبعد كوننجتون قائلًا: «إن الصورة التي تَبرُز خلف صفحة المترجم ليست صورة بوبليوس فيرجيليوس مارو، بل صورة السِّير وولتر سكوط» (ص١٢). والسبب، كما يراه ريتشاردز، يكمُن في الإيقاعات الطليقة الرنَّانة للبحر الشعري، وهو البحر المناسب للأساطير المنظومة على الحدود بين اسكتلندا وإنجلترا أو لرومانسات زمن الفروسية» (ص١٠)؛ أي إنه يقول، بعبارةٍ أخرى. إن كوننجتون ربما كان يحاول أن يزيد من قدرة ترجمته على «التسلية» ويرفع من قيمتها باستخدام أسلوب كتابة الشعر القصصي الذي أشاعه السِّير وولتر سكوط وأحبه الناس حُبًّا جَمًّا، ولكن هذا كان فيما يبدو بمثابة خيانةٍ في نظر الذين يعتبرون أن القيمة القائمة على احتمال القدرة على التسلية ليست من العوامل التي يجب أن نأخذها مأخذ الجد في نقل الرأسمال الثقافي.
وفي إطار تعليق ريتشاردز على ترجمة كوننجتون، يضرب المثال بأحد العوامل الثابتة الأخرى التي تنتمي إلى السلسلة التي نعمل على تثبيتها، ألا وهو عامل القياس. ولقد أشرتُ إليها باختصارٍ آنِفًا على مستوى ما يُسمَّى عادةً ﺑ «المضمون» عند مناقشة محاولات المترجمين المُحدَثين ﻟ الإنيادة إقناع قرَّائهم بأن هذه الملحمة لا تزال جديرةً بالقراءة، خصوصًا عند ترجمتِها. ولكن القياس يوجد على مستوًى آخر أيضًا، ويشير فيرفاكس تايلور إلى أحد هذه العوامل عندما يقول: «كان فيرجيل يستخدم بحر الداكتيل السداسي التفعيلة [الموازي للهَزَجِ التام عندنا] لأن التقاليد الأدبية في زمانه كانت تقضي باستخدام هذا البحر في كتابة الملاحم، ويمكن أن نُقِيم الحُجَّة بالمنطق نفسه على أن التقاليد الإنجليزية تشير إلى أن النَّظْم المرسَل هو الوسيط الصحيح» (ص١٤)، أي إن المرء يقارن بين تقاليد اللغتين — عادةً بطريقة تظلم ما يُفضِّله إلى حدٍّ ما — ويجد «الترخيص» في التقاليد الأصلية والمستهدفة بطرائق كثيرة مختلفة؛ فالمنطق يقول إنه يمكن التوصل إلى نتائج كثيرة مختلفة، فبينما نجد فيرفاكس تايلور مثلًا يستند إلى التقاليد تأييدًا لاتِّخاذ النَّظْم المرسَل نمطًا شعريًّا مثاليًّا لترجمة فيرجيل، يُظهِر جون كوننجتون ميلًا أكبر إلى حدٍّ ما في اتجاه تقاليد اللغة المستهدَفة ويقول: «من المفهوم تمامًا هذه الأيام أن كتابة النثر فنٌّ يُضارِع فن كتابة الشعر» (ص٤٨)؛ ومن ثم فقد ترجم الإنيادة بمزيجٍ من الشعر والنثر. وأما ديفيد ويست، فيُفسِّر القياس بأسلوب آخر قائلًا: «لا أعرف أحدًا في نهاية قرننا [أى القرن العشرين] يقرأ الشعر القصصي الطويل بالإنجليزية، وأنا أريد للإنيادة أن تُقرَأ» (ص١٠).
وأخيرًا يمكن أن نرى أن القياس، أو عدم إجراء القياس، يقوم بدورٍ معيَّن على المستوى الأيديولوجي؛ أي الشبكة الفكرية التي تتكوَّن من الآراء والمواقف التي تُعتبر مقبولة في مجتمع معيَّن وفي وقت معيَّن، والتي من خلالها يصل القرَّاء والمترجمون إلى النصوص. انظر إلى المناقشات التي كانت ملتهبةً أحيانًا واستمرَّت حتى عام ١٨٠٠م تقريبًا، حول معاملة إينياس، بطل الملحمة، لحبيبته الملكة دايدو، وبعد ذلك نجد أن الموضوع يختفى تقريبًا عن الأنظار، ولكنه ولا شك يدعو بشدة إلى إحيائه. ولا بد أن يتمتَّع دون شكٍّ ببث حياةٍ زاخرة فيه عندما تظهر أول ترجمة للإنيادة في إطار المذهب النسوي [مذهب نُصرة المرأة]، وكان المترجمون قبل عام ١٨٠٠م قد وضعوا ثلاثة خطوط دفاعية عن فيرجيل، أو عن إينياس، أو عنهما معًا. فأما درايدن فكان يعتبر الأرباب مسئولين مسئوليةً تامَّة عما حدث قائلًا: «من المُحال تبرير انعدام حساسية البطل إلا بأن جوبيتر رب الأرباب قد أصدر أمرًا مطلقًا بذلك» (ص٣٢)، وذلك على نحو ما فعله جافين دَجْلاس قبله قائلًا: «فإذا كان الأمر الذي أصدرَتْه الأرباب جعله يحْنَثُ في يمينه، فإنهم يتحمَّلون المسئولية، ولا يُلام إينياس المذكور على ما فعل» (ص١٧). وأما بيت فيُنْحِي باللائمة على دايدو وحدها، قائلًا: إنها «جسورة، مشبوبة العاطفة، طَموحٌ وخَئُون، ولكن خصيصتها المميزة هي التظاهُر بما ليس فيها» (ص٩)، ولكن جوزيف تراب يُلقِي المسئولية على إينياس لا على فيرجيل قائلًا: «على الرغم من أن دوافع الأرباب القوية تُمثِّل «ذريعةً» تُعفِي إينياس إلى حدٍّ كبير، فإنها لا تُبرِّر موقفه. لقد كانت تلك نقيصةً فيه لا في الشاعر» (ص٢٢٣).
وعلى العكس من ذلك نجد أن قصة هَجْر إينياس للملكة دايدو قد استُخدِمَت لتدعيم قِيَم المجتمع المستهدَف باعتبارها نموذجًا سلبيًّا. ويعرض جافين دجلاس القضية بوضوحٍ وجلاء في مقدمته قائلًا: «إنني آمُرُ ذوات العاطفة المشبوبة بالاتِّعاظ بما حدث لدايدو، وأن يحْذَرْنَ الأغراب من أبناء الأمم الخرقاء، وألا يقترفن ما يُلقي بهن في جهنم» (ص١٨٣). ومن الصعب أن نتصور أن يقول أُسْقُفٌ كلامًا غير هذا، ما دام قد قرَّر أن يقول شيئًا. وأما درايدن، الذي كان أبعد ما يكون عن منزلة الأساقفة. وكان يخاطب مجتمعًا لا يتمتَّع بأشد الأخلاق صرامة، فيُقدِّم لنا هذا التعليق الساخر: «قد تتعلم الفتيات مما حدث لدايدو، وعليهن أن يأخذن العبرة منها فلا يحتمين بكهفٍ لأنه أسوأ ملجأ يمكن اللجوء إليه هربًا من المطر، خصوصًا إن كان في صحبة الفتاة حبيبٌ لها» (ص٣١).
وقد تَصالحَ المترجمون لا مع الشبكات الفكرية المختلفة وحسب، بل مع الشبكات النوعية المختلفة أيضًا. وتحقيقًا لذلك عليهم أن يعتنقوا المبادئ الشِّعرية السائدة في الثقافة المستهدَفة في وقت إنجاز الترجمة، وكذلك من حيث التوتُّر القائم بين المبادئ الشعرية للأدب المصدر والمبادئ الشعرية للأدب المستهدَف، فهو توتُّرٌ لا بد للمترجم أن يفُضَّه، ومعظم المشاكل في هذا المجال من المحتمل أن يواجهها المترجم في إطار ما يُسمَّى ﺑ «الشكل» لا في إطار ما يُسمَّى ﺑ «المضمون». وكان درايدن وخلفاؤه الذين تَلَوه مباشرةً يرون أن مفهوم «الشكل» يتَّسِع ليشمل فكرة الملحمة نفسها، وأفكارهم في هذا الموضوع تُقدِّم لنا نموذجًا واضحًا للبُنُوَّة؛ إذ يمتدح درايدن فكرة فيرجيل عن الملحمة؛ لأنها «لا تتضمَّن شيئًا ذا طبيعةٍ أجنبية»، «مثل الروايات التافهة التي أدرجها أريوسطو وغيره في قصائدهم»، مُناصرًا بكل حسمٍ المفهوم الكلاسيكي للملحمة ومدافعًا عنه ضد الرومانسات التي أشاعها أريوسطو وكذلك بوياردو، ويتبنَّى بيت مقولة درايدن حرفيًّا، حتى بشكلها الطباعي. ثم يُضيف إليها المزيد قائلًا: إن [الملحمة الحقَّة] «لا تتضمَّن شيئًا ذا طبيعةٍ أجنبية، مثل الروايات التافهة، التي يُدرِجها أريوسطو، بل وتاسو وفولتير في قصائدهم، وهي التي تُضلِّل القارئ وتَهَبُهُ نوعًا آخر من المتعة» (ص٦). ويقول: إن تلك المتعة من النوع الذي يتسبَّب في إعادة «اللين [إلى النفس] وسَلْب قوَّتها وانحلالها واتجاهها نحو الرذيلة» (ص٦). وهكذا يتخذ بيت موقفًا أكثر صرامة في الدفاع عن الملحمة الكلاسيكية بإدراجه تاسو وفولتير جنبًا إلى جنب مع أريوسطو؛ إذ إن الحل الوسط الذي كان تاسو قد توصَّل إليه — أي مَزْج الملحمة الكلاسيكية بالرومانس — كان يُعتبَر مقبولًا تقريبًا منذ نشره الملحمة التي كتبها بعنوان «تحرير أورشليم» ونشر كتابه النظري عن الملحمة بعنوان المقالات، ويُقدِّم تراب أخيرًا صورته المُعدَّلة لحُجَّة درايدن قائلًا: «إنَّ وَصْف المشاعر الدفَّاقة وتصويرها (كما يفعل فيرجيل) … يختلف عن وصفِها وإلهابها (كما يفعل أوفيد)، ولكن كُتَّاب الرومانسات والروايات الحديثة يتحمَّلون أكبر مسئولية عن هذا» (ص١٩٣).
والواضح أن التضخُّم الناجِم عن استخدام المزدوَجات المُقفَّاة، وهو الذي بدأه درايدن وغيره ممن «أعاقوا أنفسهم» كما يقول جيمز رودز «بالنزول على مقتضيات النظم المُقفَّى» (ص٨)، ووصل إلى مرحلةٍ أفلَتَ زمامه فيها عند كوننجتون، كان يحتاج إلى من يضع حدًّا له باستخدام النظم المرسل. ولو أن الطول النسبي كان حقًّا المعيار الوحيد للحكم على الترجمات لكانت ترجمة ريتشاردز أفضل من الترجمات الأخرى التي وضعها المنافسون الذين يقيس نفسه بهم.
وتتضمَّن المبادئ الشعرية استخدام المفردات؛ إذ ينبغي من الزاوية المثالية أن تتفق مع مفردات الأصل ومع مفردات الجمهور الذي يكتب المترجمُ من أجله. ودرايدن على وعيٍ كامل بهذا؛ إذ يقول في مقدمته الطويلة: «ربما أكون أول إنجليزي وضع نُصْبَ عينيه المحاكاة الدقيقة للشاعر [فيرجيل] من حيث البحر الشعري، واختيار الألفاظ، ووضْعها في السياقات الكفيلة بتحقيق عذوبة الجرس» (ص٥١). ولكنه لا يقتصر على ذلك بل يُضيف قائلًا: «لقد حاولتُ أن أجعل فيرجيل يتكلم الإنجليزية التي كان يمكن أن يتكلمها لو كان قد وُلِد في إنجلترا وفي هذا العصر» (ص٦١). وكما هو متوقَّع، كان غيره من المترجمين يعزفون عن جعل فيرجيل يتكلم الإنجليزية السائدة في زمانهم، وخصوصًا الإنجليزية التي تتضمَّن كلمات وعبارات لم تكن شائعة في اللاتينية في عصر فيرجيل، بدافعٍ من احترام استخدام فيرجيل للَّاتينية، ويدعو جاكسون نايت (١٩٥٨) على سبيل المثال، إلى استخدام لغة إنجليزية ذات غرابة طفيفة أحيانًا ما دامت اللاتينية عند فيرجيل تكسوها الغرابة أحيانًا (ص٢٢)، وهو في الوقت نفسه يدعو إلى استعمال مستوًى من اللغة الإنجليزية يتَّسِم بعدم التعبير عن الشخصية قدر الطاقة، ولا يرتبط زمنيًّا بالإنجليزية في منتصف القرن العشرين» (ص٢٢) وإن كنا نتصوَّر أنه لن يبلغ في ابتعاده عن الشخصية وعدم انتمائه الزمني ما بَلَغَتْه اللغة المستخدمة في ترجمة الكلاسيكيات في العصر الفكتوري؛ إذ كانت هذه الترجمات تعتمد على لغةٍ كان يعتقد أنها «لازَمَنية» وإن كان الرأي حاليًّا يميل بازدياد إلى اعتبارها «عتيقة» وحسب؛ ومن ثم فإنها تأتي بنتيجةٍ عكسية من حيث إمكان مُتْعَتِها للقارئ. وانظر ترجمة فيرفاكس تايلور للسطور الخمسة الأولى من الكتاب الرابع من الإنيادة:
وسوف أتصدَّى أخيرًا للعامل الأول ألا وهو حاجة الجمهور الذي يمكن أن يقرأ النص أو حاجات الجماهير؛ فهذه هي المسئولة عن الاستراتيجيات المختلفة التي يستخدمها مختلف المترجمين في أوقاتٍ شتَّى. بل إنه يمكن اعتبارها العامل الذي يسترشد به المترجم في عمله على أول المستويات الأساسية؛ ألا وهو المستوى الذي تُتَّخَذ فيه أشمل القرارات الاستراتيجية. والحاجات المختلفة المشار إليها من العوامل المسئولة عن ازدواج سلسلة النسب الذي تنتمي إليه ترجمات فيرجيل إلى الإنجليزية، اعتبارًا من القرن السابع عشر. فأما السلسلة الأولى فتتكوَّن من مترجمين مثل درايدن، أهم ما يشغلهم محاكاة الأصل والتعادل معه، ولكن من دون تجاهُل تعريف القرَّاء في الوقت نفسه بالنظرات المعاصرة إلى الأصل. وأما السلسلة الأخرى التي بدأت بعد نسيان كثيرٍ من الترجمات الأولى، فتضم المترجمين الذين حاولوا أن يجعلوا الرأسمال الثقافي الذي يُمثِّله فيرجيل واللغة التي كان يكتب بها متاحًا لأكبر عدد ممكن من القرَّاء، وبأكبر عدد من الأشكال التي كان المعتقَد أن تساعدهم على تحقيق هذا الغرض. وسوف أنتقل الآن لتقديم مناقشة موجَزة لهذه الأشكال، وللمواقف من ورائها.
يقول جوزيف تراب في مقدمته لترجمته التي نُشرت أول مرة عام ١٧٣٥ إنه «من المُحال الاستمتاع بشِعر الشاعر فيرجيل، إلا إذا فهم المرء معانيه ومبانيه باعتباره كاتبًا» (ص٣). ويقول تراب بعد ذلك إنه «من المقطوع به أن كثيرًا من السادة من ذوي الشمائل الطيبة والأحكام الرهيفة في المدن وفي الريف كادوا ينسَون اللاتينية (وإن لم ينسَوها تمامًا) أو لا يحيطون بها الإحاطة الكافية لقراءة فيرجيل باللغة الأصلية» (ص٣)، وهؤلاء «السادة» هم الجمهور الذي يوجه تراب ترجمته إليه، وهو يُشكِّل ترجمته داعيًا لتلبية احتياجاتهم. وانظر إلى مقولته التالية: «ولمَّا كانت هذه الحواشي بالإنجليزية، فإن الصعوبة الرئيسية التي يصادفها هؤلاء السادة في قراءة الشُّرَّاح قد أُزِيلَت تمامًا (تراب، ص٤). وتراب يشير هنا إلى الحواشي التي كثيرًا ما تُقتبَس من الشُّرَّاح المعتمَدين المشار إليهم آنِفًا. وكانت هذه الحواشي تُكتَب وتُطبَع، لسوء الحظ، باللغة اللاتينية في معظم طبعات الإنيادة المتاحة عندما نشر تراب ترجمته. إن لم يكن في جميع الطبعات. وهكذا فإن كتابة الحواشي المصاحبة لترجمته بالإنجليزية أيضًا تُعتبر بلا شك عاملًا إضافيًّا يُشجِّع القرَّاء على شراء عمل تراب، وعلى أية حال فقد مكَّنَتْه الحواشي أن يقول بثقةٍ أكبر «سوف أكون قد وقعت في ضلالٍ كبير إن لم يستطع القرَّاء من خلال هذه الترجمة والحواشي معًا أن يزيدوا من فهمهم لفيرجيل باللغة اللاتينية» (ص٤).
وتوجد ترجمات أخرى تحاول أن تُحقِّق الغايتين معًا، فبعضها مثل ترجمة أندروز التي نُشرت عام ١٧٦٦م، تزعم قدرتها على أن تكون «أدبًا رفيعًا» وفي الوقت نفسه «مدخلًا» مفيدًا إلى القصيدة. ويقول أندروز إن «ترجمته موجَّهة على غِرار ذلك» إلى «الشُّبَّان في مجتمعنا الذين درجوا على حب العلم». ثم يُضيف قائلًا: «ولم أجد في غمار عملي أي تناقضٍ بين هاتين الغايتين» (ص٨). وربما كان قرَّاؤه يختلفون معه، وهم الذين يقول إنهم قد «يحتاجون إلى المزيد من المساعدة في الأبنية النحوية»، ما دامت ترجمته لم تُطبَع منها طبعةٌ ثانية قط، ومما له مغزاه أن موقف أندروز تجاه نشر الرأسمال الثقافي يكتنفه بعض الغموض، فهو ينعَى ما يراه حقيقةَ مجتمعِه ألا وهي أن «المستويات المنخفضة من التعليم، مثل التي لا بد من توافرها لمن يمارس التجارة والمؤامرات السياسية، تبدو شائعةً بين العامَّة.» ثم يُضيف قائلًا: إن العلم لا يستطيع أن يتفاخر، من ناحية أخرى، «بوجود علماء أفذاذ مثل الذين شهِدَتْهم القرون السابقة» (ص ٦–٧). ويبدو أن أندروز يعني أن الذين شرعوا في تكديس رءوس أموال اقتصادية لا يأبَهُون عمومًا لرأس المال الثقافي، وأنه قلِقٌ إزاء هذه الحال، مفصحًا بذلك عما يُعتبَر، في جوهره، رد فعلٍ أرستوقراطيًّا يقول إن انتشار التعليم على نطاقٍ واسع جعله يفقد ما كان عليه يومًا ما.
ومن الطريف أن التصدير الذي كتبه تراب لترجمته يناقض تمامًا رد الفعل الأرستوقراطي الظاهر في تصدير أندروز، وهو ما سوف يزداد إيضاحه فيما يلي؛ إذ إن تراب كان يرى أن على البورجوازية الطامحة أن تكتسب معرفةً بالتراث الكلاسيكي بكل وسيلةٍ ممكنة. وأما حين يتوقَّف «طموح» البورجوازية؛ أي حالَمَا تنجح في أن تشغل مواقع السلطة الحقَّة، فسوف تبدأ في حماية ما أصبح «لها» رأسمال ثقافيًّا، وصيانته من نوع الانتشار الذي غدا «يسيرَ المأخذ»، على نحو ما يظهر في تصدير سنجلتون، الذي نُشير إليه أدناه.
أعمال فيرجيل مترجمة إلى النثر الإنجليزي، بصورة قريبة من الأصل بقدر ما يسمح به اختلاف المصطلح اللغوي بين اللغتين اللاتينية والإنجليزية، إلى جانب وجود النص ونظام البناء اللاتيني في الصفحة نفسها. وأما الحواشي النقدية والتاريخية والجغرافية والكلاسيكية فهي بالإنجليزية، مقتبَسة من أفضل الشُّرَّاح القُدامى والمُحدَثين، بالإضافة إلى عددٍ كبير من الحواشي الجديدة كل الجِدَّة، والكتاب يصلح للاستخدام في المدارس، وللأفراد من السادة.
ويُقدِّم ديفيدسون في هذا الكتاب من ثلاثة أسطر إلى خمسة من النص الأصلي في أعلى الصفحة، ومن تحتها تأتي الترجمة والحواشي، على نحو ما يتوقَّع قرَّاء القرن العشرين، ولكنه يُقدِّم أيضًا شيئًا آخر يُدرِجه في أبرز مكانٍ أي تحت الأصل وفوق الترجمة والحواشي. وهذا الشيء يُسمَّى «الترتيب» أي ترتيب تتابُع الكلمات منطقيًّا، بعد انتزاعها من أماكنها في السطور المنظومة وإعادة كتابتها نثرًا. وهذه التقنية، بطبيعة الحال، من روافد تقاليد عريقة في تدريس اللاتينية. وكان المفترض فيها أن «يفسر» الطالب النص [وفق قواعد اللغة] حتى يزيد من فهمه له. وهذا هو المقصود ﺑ «الأبنية النحوية» التي يشير إليها أندروز على نحو ما أوردناه آنِفًا.
فلْننظر إلى السطرين الأولين من الكتاب الرابع لإيضاح الأمر، يقول النص اللاتيني:
[مكتبة بون الكلاسيكية] تُثبِت أن قسمًا كبيرًا من جمهور القرَّاء، لأسبابٍ مختلفة، يستحق تقديم الأعمال الكلاسيكية بالإنجليزية، فتلاميذ المدارس لا يزالون مُولَعِين ﺑ «المخابئ السرية» كما كان حالهم في أيام تراب، والمعلِّمون في المدارس قد بدءوا يحتملون، بتعديلات معيَّنة، ما لا يستطيعون القضاء عليه … والذين يُحيطون باللغات الكلاسيكية من دون معونة تُذكَر أو دون معونة على الإطلاق من المعلِّمين — وربما كانوا يُمثِّلون طبقةً يزداد عدد أفرادها — يجدون في الكتاب بديلًا طبيعيًّا عن المعلم، كما أن لدينا طبقةً كبيرة من القرَّاء الذين يستعصي عليهم اكتساب اللاتينية واليونانية استعصاء اللغة القبطية. ومع ذلك فإنهم يهتمُّون بمعرفة ما قاله القدماء وأقوالهم (ص٤٨).
والكلمة المحورية فيما يقوله كوننجتون هي بوضوح كلمة «يستحق»، وهو يواصل حديثه لتعداد مختلف صور اكتساب المعرفة [بالأعمال الكلاسيكية] من الترجمة الحرفية التي يستخدمها التلاميذ، مرورًا بالكتاب الذي وضعه ديفيدسون، إلى مكتبة بون الكلاسيكية التي نشرت ترجمته. ولكن الموقف يتغير. فإذا كانت المجموعتان اللتان يشير إليهما كوننجتون أوَّلًا لا تزالان تطَّلِعان على شعر فيرجيل وتتعلَّمان اللغة اللاتينية، بصورةٍ من الصور، فإن المجموعة الثالثة لم تعد تَنعَم بذلك. وهكذا فإن ترجمة كوننجتون تُعتبر من أوائل الترجمات التي حاولتْ أن تحلَّ محلَّ الأصل بالنسبة لنمط معيَّن من القرَّاء.
ويُعتبَر ر. سي. سنجلتون من بين آخِر الذين اتخذوا الموقف المضاد؛ إذ كان يكره الترجمة أو بالأحرى الترجمات التي تَسهُل قراءَتُها، وَفق ما كان ناشرو سلسلة الكتب في مكتبة بون الكلاسيكية يعتزمون لها أن تكون، وإن لم تُحقِّق دائمًا هذه الغاية، ما دام الكثير منها كان مكتوبًا بلغةٍ إنجليزية فكتورية تطمح إلى أن تصبح «لازَمَنية». وكان سبب كراهيته أنَّ ذلك يجعل الرأسمال الثقافي الذي تُمثِّله الأعمال الكلاسيكية متاحًا للجميع بلا استثناء سواء اجتهدوا للحصول على هذه المَزِيَّة أم لا. وهنا يكمُن — في رأي سنجلتون — ظلمٌ فادح ينبغي القضاء عليه اقتصاديًّا ومعنويًّا. وهكذا يعلن سنجلتون في مقدمته أن «ترجمة أعمال فيرجيل كلها يمكن الحصول عليها بسهولة مقابل نصف الثمن المدفوع في هذا الكتاب؛ والكتاب نفسه لا يتضمَّن أكثر من نصف أعماله» (ص١٠). و«الكتاب» الذي يُشير إليه ذو عنوانٍ يكشف عن مشروع سنجلتون إذ يقول: «أعمال فيرجيل، مترجمة ترجمةً دقيقة إلى الإيقاع الإنجليزي، وموضَّحةٌ بشعر الشعراء البريطانيين في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر.» ولهذا المشروع منطقه المحتوم، «فما دام المرء سوف يكتشف»، حسبما يفترض سنجلتون، «أن أحد العناصر الرئيسية» في نماذج الكتابة الجيدة، سواء في كتابات ديكنز أو في صحيفة التايمز «يكمُن في الإيقاع» (ص٨)، فعلى الطلاب أن يتعلموا الترجمة الإيقاعية. ويقول سنجلتون إنه أراد مساعدتهم على أداء هذه المهمة، «ورأى أنه من المفيد في سبيل تحقيق ذلك تقديم بعض المقتطفات من كبار الشعراء البريطانيين على شكل حواشٍ» (ص٢٤)، فعلى سبيل المثال عندما تُعِيد دايدو تأكيد ما أقسمَتْ عليه من عدم الزواج مرة أخرى بعد وفاة زوجها، قائلةً، في ترجمة سنجلتون «إن لم يرسَخْ في ذهني العزم ويَثبُت/حتى ما يتزحزحَ قطُّ بألا أتمنَّى أن أرتبط بنَيْرِ زواجٍ مع أيِّ أحد» (ص١٣٣ ب) فإن كلماتها يؤكدها المقتطَف التالي من مسرحية فارس مالطه التي كتبها بومونت وفلتشر «وعليها ألا تمكُثَ قُربِي، فيميني قد نقشَتْها في قلبي/أقسمتُ على ذاك ولن أحنِث/فإذا ما حان الحِنْثُ به …» (ص١٣٣) وفي النهاية لن يكون أمام الطالب خيارٌ غير النجاح، ما دام يتبع السبيل الذي خطَّهُ سنجلتون له «وهكذا، بعد أن تتوافر للطالب كلماته وعباراته من الشعراء الإنجليز، وبعد أن يتلقَّى الأفكار والصور من فيرجيل، عليه أن يصوغ ما اكتسبه صَوغًا إيقاعيًّا» (ص١٥). والجانب المُذهِل حقًّا في مشروع سنجلتون أنه قد يكون من بين آخِر مَن حاولوا السير على خطٍّ أحمرَ ما انفكَّ يزداد شُحوبًا بين نمطين من الكلام الذي يحظى ﺑ «القبول الاجتماعي» وكذلك «القيمة الرفيعة»؛ ألا وهما اللاتينية التي كانت قد بدأت تفقد ما يكفل لها تلك المكانة، ونوعٌ معيَّن من الإنجليزية، وهو على وجه الدقة لغة «ديكنز وصحيفة التايمز»، وهي التي كادت تشغل آنذاك تلك المكانة. وهذا هو السبب الذي يجعل الترجمة في نظره جهدًا مبذولًا في الكتابة، وهي التي لم تكن قد تمكَّنَت من شغل مكان الأصل، وإن كانت جاهزةً لأن تشغله.
وفي الوقت نفسه نجد أن سنجلتون يُعرِب عن ضيقه من أن الذين يكدحون اثنتي عشرة سنة في دراسة النحو اللاتيني حتى يبلغوا آخر الأمر مرحلة القدرة والتمكُّن والحق في قراءة نص فيرجيل الأصلي، يُحرَمون ظُلمًا من ثمار كَدِّهِم بسبب ما يسميه «أية ترجمة تقريبًا» (انظر أدناه) وهي التي تُتِيح الاطِّلاع على فيرجيل حتى لمن لم يُكابِد ما كابدوه اثنتي عشرة سنة؛ ومن ثم فإن سنجلتون يُصدِر الحكم الصارم التالي: «إذ إنني أرى في عِدَاد الشر المُستطير أن يملك الطالب ترجمةً لمؤلف تُشكِّل جانبًا من جوانب دراسته» (ص١١)، فاختصار الطريق أمرٌ سيئ، ولا يقتصر ذلك على الصغار، بل ينسحب على كل من يتعرَّضون ﻟ «أضرار معنوية خطيرة» بالحصول على «معونةٍ عادةً ما تكون ممنوعة» (ص١١). ولكن ترجمة سنجلتون موجَّهة، كما يقول: «لاستخدام المعلم» (ص١٥)، ويشعر المرء أن المعلِّم يقف في الجبهة لصد هجمات سقيمي الذوق، ومِن واجبه أن يتأكد من قراءة الأعمال الكلاسيكية باللغة الأصلية، واستمرار ذلك. ولا بد للمعلم في تنفيذ المهمة التي كُلِّفَ بها من دون أن يحيد عن الصراط المستقيم، أن ينتفع بكل معونة يستطيع الحصول عليها، بما في ذلك ترجمة سنجلتون؛ «إذ ما أكثر ما يُضطَرُّ المعلم بسبب الإرهاق وضعف الحماس، والصُّداع والانهماك — وهي توابع الجهد الذهني — إلى الترحيب بأية ترجمة تقريبًا باعتبارها نعمةً وفضلًا! وربما لن ينظر إلى هذا الكتاب في ساعات الوهن نظرة الرافض له» (ص١٦)؛ أي إن سنجلتون يُقدِّم ترجمته لأنه يريد على وجه الدقة ألا يستسلم المعلِّم «لأية ترجمة تقريبًا».
ولم يكن سنجلتون ليتصوَّر أن هذا الجانب من مشروعه قد بدأ التراجع السريع إلى عالم الماضي، وأنه بعد انقضاء مائة عام وحسب على نشر ترجمته للمرة الأولى. كان الهبوط السريع لِلَّاتينية قد بدأ في النظام التعليمي، وهو الذي يراقب خلق الرأسمال الثقافي ودورته إلى حدٍّ أكبر كثيرًا من الترجمة. وهكذا نشأت الحال التي نجد فيها المعلم كما يقول كوننجتون، مضطرًّا إلى «احتمال … ما لا يستطيع القضاء عليه»؛ إذ أصبحت تلك هي القاعدة لا الاستثناء. وسوف تقوم الترجمات، من الآن فصاعدًا، بالحلول محلَّ الأصول، بدلًا من استكمالها، فتُقدِّم لقرَّائها فيرجيل فقط، لا فيرجيل وبعض المداخل إلى اللاتينية، ومن دون أن تحاول، رغم ذلك، تعليمهم كتابة الكلام الذي يحظى ﺑ «القبول الاجتماعي» و«القيمة» الرفيعة.