نقل البذور إلى تربة أخرى: الشعر والترجمة
تَزخَر رفوف المكتبات بكتبٍ لا تُحصَى. وربما كانت تكفي لملء مكتباتٍ كاملة، من الهُراء الذي تُملِيه الأهواء الذاتية عن الشعر، وإن قُورِنَت كمية الشروح والتعليقات المسهبة بالشعر المكتوب فعلًا فلا بد أن تبلغ ضعفَيه على الأقل. ويزعم جانبٌ كبير من هذه الكتابات أن الشعر شيءٌ خاصٌّ متميز، وأن الشاعر يتميز بخصيصةٍ جوهرية تُمكِّنه من إبداع نمطٍ فائق من النصوص، وهو القصيدة. كما يكثُر الهُراء المكتوب عن الشعر والترجمة أيضًا. وربما كان أشهر ما قيل من هذا اللون عبارة روبرت فروست، البالغة السخف؛ ألا وهي: «إن الشعر هو ما يضيع في الترجمة»، وهي التي تُوحي بأن الشعر كيانٌ غير محسوس يستعصي على الوصف (حضور؟ روح؟) وأنه وإن كان يُبنَى باللغة فمِن المُحال نقلُه عبر اللغات.
ويرجع جانبٌ كبير من هذا الخطأ إلى فترة ما بعد الرومانسية، بأفكارها الغامضة عن الشعراء باعتبارهم كائنات تختلف عن سائر البشر، يتلقَّون الوحي الإلهي وكثيرًا ما تحفزهم الرغبة في الموت، ويكفي أن يتناول الممثل الكوميدي عباءةً سوداء فيلتف بها فوق خشبة المسرح حتى يصيحَ الجمهور «شاعر!» ويضحك. وهذه الصورة للشاعر باعتباره شابًّا مستضعفًا يتمتَّع بحساسيةٍ مرهفة (فالمرأة لا تظهر في هذه الأسطورة!)، قد ازداد تشجيعها في العالم الأنجلوسكسوني بفضل قضايا الوعي الطبقي، فما إن ثبَّتَ الأدب الإنجليزي أقدامه في الجامعات في السنوات الأولى من القرن العشرين، حتى ارتفعت مكانة الشعر في السُّلَّم الاجتماعي، وابتعد عن الجماهير، متَّجِهًا إلى النخبة الفكرية والاجتماعية التي استولت عليه وزعمت أنها تملِكه.
ولكن هذه الحال المؤسفة ليست — لحُسنِ الحظ — عالمية؛ فالشعراء يقومون بوظائف بالغة الاختلاف في شتَّى المجتمعات. وهذا عاملٌ لا بد أن يأخذه المترجم في اعتباره. ففي أوروبا الشرقية أيام الشيوعية — مثلًا — كان الشعر يُبَاعُ في طبعات ذات خطٍّ كبير (وقد حلَّت محلَّها الآن الروايات الغرامية الغربية وروايات الجرائم الجماهيرية)، وكان الشعراء شخصياتٍ مهمة، وكانوا كثيرًا ما يُعارِضون الظلم والطغيان في شعرهم، كما حدث في أمريكا اللاتينية، وفي شيلي بعد وفاة بابلو نيرودا في عام ١٩٧٣م، أن خرج الناس إلى الشوارع وكان الجميع، حتى الفلاحون والعمال الأُمِّيُّون في الريف، يستشهدون ببعضٍ من إنتاجه الشعري الضخم.
كان نيرودا يرى أن دور الشاعر يقضي بأن ينطق بلسان مَن حُرِمُوا القدرة على الكلام؛ فالشاعر في نظره يمنح صوتًا لمن لا صوت لهم. وكان الشاعر في أماكن أخرى يقوم بدور ضمير المجتمع، أو مؤرِّخ المجتمع. والشاعر في بعض الثقافات هو «الشامان» (العرَّاف) أو خالق السحر، أو المعالج، وفي ثقافات أخرى منشد الحكايات ومن يتولَّى التسرية عن الناس، وصاحب المكانة المركزية في المجتمع المحلِّي. وإذا تأملنا عدد المرات التي حُبِسَ فيها الشعراء أو عُذِّبوا بل وقُتِلوا فسوف ندرك درجة السلطة التي يمكن أن تكون في أيدي الشعراء. وكانت الملكة إليزابيث الأولى، وهي أيضًا شاعرة ومترجمة، ترأس اللجان التي سنَّت القوانين التي قضَتْ بإعدام الشعراء الأيرلنديين الذين كان يُظَنُّ أنهم مخرِّبون خونة. وهذا التصوير الموجَز للأدوار المنوَّعة للشاعر يؤكد اختلاف دور الشاعر باختلاف السياقات الثقافية. وهذا أمرٌ بالغ الأهمية للمترجم؛ فإن مثل هذه الاختلافات الثقافية قد تؤثِّر فعلًا في عملية الترجمة الفعلية، ومعنى هذا استحالة قياس الشعر بمقياس واحد، باعتباره رأسمال ثقافيًّا، في جميع الثقافات.
لو كان من الحكمة إلقاء زهرة من زهور البنفسج في بوتقة من أجل اكتشاف المبدأ العلمي للونها ورائحتها، فمن الحكمة نقل إبداعات الشاعر من لغة إلى لغة أخرى. لا بد أن ينمو النبات مرة أخرى من بذرته، وإلا فلن يخرج أية أزهار، وهذا هو العبء الذي خلَّفَتْه لنا لعنة برج بابل.
ويُستشهَد أحيانًا بهذه الفقرة للدلالة على استحالة الترجمة؛ فهي تقول إن من السخف إخضاع زهرة للتحليل العلمي من أجل البَتِّ في أُسُس رائحتها ولونها، مثل محاولة نقل قصيدة كُتِبَت بلغة معيَّنة إلى لغة أخرى. ولكن لنا أن نقرأ الوصف التصويري الذي يُورِده شيلي لصعوبات عملية الترجمة قراءةً أخرى؛ فالصورة الشعرية التي يستخدمها تُشير إلى التغيير والنبت والنمو من جديد؛ أي إنها ليست صورة ضياعٍ وذبول. فحُجَّته تقول إنه على الرغم من استحالة نقل قصيدة من لغة إلى لغة أخرى، فمن الممكن فعلًا إعادة غرسها؛ أي إنه يمكن وضع البذرة في تربة جديدة حتى يتمكَّن النبات الجديد من النمو. وإذن فإن مهمة المترجم هي تحديد تلك البذرة ومعرفة مكانها ثم الشروع في نقلها إلى تربة أخرى.
والشاعر والمترجم البرازيلي أوغسطو دي كامبوس، الذي يُعَدُّ من كبار ممارسي الترجمة وفق مبادئ «ما بعد الاستعمار»، يرفض القول بأن الشعر ينتمي إلى لغةٍ أو ثقافة معيَّنة، قائلًا: «ليس للشعر — تعريفًا — وطن، أو قُل، بالأحرى: إن له وطنًا أعظم» (دي كامبوس، ١٩٧٨م). وإذا كان النص ليس مِلْكًا لثقافةٍ مفردة فللمترجم الحق كل الحق في المساعدة على نقله عبر الحدود اللغوية.
حتى نهاية القرن الثامن عشر، لم يكن شيكسبير قد ظفر بأي صيتٍ خاص في إنجلترا. بل إن الإنجليز كانوا يرونه أقل قيمةً من معاصريه: بن جونسون، وفلتشر، وبومونت وغيرهم. وقد نشأت شهرته في ألمانيا، ثم نُقِلَت منها إلى إنجلترا.
أي إن تولستوي يقول: إن الإنجليز عجزوا عن إدراك عبقرية كاتبٍ من أبناء جلدتهم، ولم يعرفوه إلا بطريقة غير مباشرة؛ أي من خلال الألمان. وهذا منظورٌ يدعو إلى القلق إن كنت إنجليزيًّا، ولكنه مفيد في تأكيد الدور المهم الذي كثيرًا ما تقوم به الترجمة؛ فالترجمة، كما يقول فالتر بنيامين، تضمن البقاء للنص، وكثيرًا ما يواصل بقاءه لأنه قد تُرجِم وحسب، (بنيامين، ١٩٢٣).
من المخيف أن هذا الوحش يلقى مناصرةً في فرنسا، وفي ذروة الفاجعة والرعب، كنت أنا أول من تكلَّم عن شيكسبير هذا، وكنت أنا أول من نبَّهَ الفرنسيين إلى اللآلئ القليلة التي يمكن أن نجدها في كومة الرَّوْث الهائلة المذكورة، لم يخطر ببالي قطُّ أنني سوف أُسهِم بما فعلتُ في الجهد المبذول للوطء على تاجَي راسين وكورني من أجل تكليل جبين هذا الدجَّال الهمجي بأكاليل الغار.
كان فولتير يشكو من الثورة في الذوق، وفي أصول الدراما الشعرية فعليًّا، وهي الثورة التي أحدثَها كُتَّابٌ مثل شيكسبير. والأمر يتعلق هنا — بطبيعة الحال — بمسألةٍ جوهرية في تاريخ الترجمة ولها ارتباطٌ خاص بترجمة الشعر؛ ألا وهي قدرة الترجمة على التأثير في نظام أدبي، وقدرة النصوص المترجمة على التغيير والتجديد. ولكن إن كان الشعر حقًّا هو ما يضيع في الترجمة، فكيف يمكن أن توجد القدرة المذكورة؟ لا بد أن الإجابة قائمةٌ في طرائق تَلَقِّي/استقبال النصوص المترجمة من جانب النظام المستهدَف، وهي التي ترتبط ارتباطًا بالغ التعقيد بالزمن والمكان والتقنية؛ لأن الترجمة لا تُحدِث تأثيرًا في نظامٍ مستهدَف إلا إذا كانت في ذلك النظام فجوةٌ تُمثِّل حاجةً خاصَّة، وإلا إذا كانت مهارة المترجم قادرةً على تقديم «منتَج نهائي» يتجاوز درجة القبول وحسب.
ليست النصوص الأصلية أيقونات. بل إنها أنساق حركةٍ رمزية مشفَّرة. ففيها المقصِد والحُجَّة، والتعبير عنهما معًا في ثيمة معيَّنة. وهي ليست جامدة أو ليِّنة، بل هي في جوهرها حركة. وأحب أن أتصور أنها مثل أسماء الفاعل وأسماء المفعول، لا مثل الأفعال أو مثل الأسماء. والأعمال الأدبية القائمة أمام المترجم لها شخصيتها المميزة، ولها طبيعة تشبه مادَّتها، وتدل على شخصية محدَّدة، ولكنها لا تستطيع إيضاح مادتها إلا حين تعمل بمُقتضاها. وهذا العمل هو الجانب الذي يُمثِّل الفعل [بمفهومه النحوي] الذي لا بد منه للكشف عن الأسماء فيها، وبهذا المعنى تصبح الأصول الأدبية أسماء فاعل وأسماء مفعول؛ أي إن الأسماء فيها تعمل بأن تصبح أفعالًا، وهي تصبح أفعالًا بأن تُتِيح للأسماء فيها أن تعمل.
إن ويل يحاول هنا تعريف الطبيعة الخاصة للنص، وهي التي يسميها علامة «شخصيتها المحددة». ولكنه يساعدنا أيضًا بتذكيرنا أن النصوص تتكوَّن من لغة وأنها تتشكَّل من أسماء وأفعال وشتَّى أنواع الأنساق اللفظية والنحوية. وهذا هو البُعد الذي على المترجم أن يهتمَّ به في المقام الأول. وأما في ترجمة الشعر فينبغي أن تكون المرحلة الأولى هي القراءة الذكية للنص المصدر، وهي عملية تفصيلية لفك الشفرات وتأخذ في اعتبارها الظواهر النصية والعوامل الخارجة عن النص. فإذا لم نُنْعِم النظر في القصيدة ونقرأها بالانتباه اللازم وشرَعْنا في القلق على ترجمة «روح» شيءٍ من دون وجود ما يُمكِّننا من تعريف هذه الروح فسوف نصل إلى طريقٍ مسدود.
وكثيرًا ما تعتمد قراءة إحدى القصائد على الجدلية الدائرة بين مقوِّمات القصيدة المطبوعة على الصفحة وبين المعارف غير النصية التي نواجهها بها. ومن أفضل الشعراء المعاصرين عندي الشاعرة البريطانية الباكستانية مونيزا ألفي. وعملها مُستمَدٌّ من خبرتها باعتبارها امرأةً تنتمي إلى أكثر من ثقافة واحدة، وأن صفة الهجين تُمثِّل عنصرًا أساسيًّا من عناصر إبداعها. وهي تكتب من واقع خبرتها باعتبارها «بين بين»؛ فهي امرأة لها مكانها في ثقافتين. وربما لا تنتمي تمامًا، بسبب ذلك، إلى أيهما وحسب. وهكذا فإن كتابتها ترمُزُ للوضع الذي يشغله الملايين في عالم اليوم. ومن الثيمات التي تعود إليها في الكثير من قصائدها ثيمة الانتماء وعدم الانتماء. ومن هذه القصائد قصيدةٌ غير مُقَفَّاة من ثمانية أسطر عنوانها «الوصول ١٩٤٦م» (ألفي، ١٩٩٣م).
الذي لا يعرفه طارق أن ذلك كان يوم الاثنين، يوم الغسيل التقليدي عند الإنجليز، وجهله بهذه الحقيقة الأولية عن الإنجليز يؤكد كونه أجنبيًّا، ويُلمح إلى صعوبات في المستقبل. أضف إلى ذلك أن صورة الغسيل تؤكد التضادَّ بين ما يراه في إنجلترا وبين ما رآه من الحكام البريطانيين المُتعالين في الهند، والمفترض أن غسيل هؤلاء كان دائمًا يختفي عن الأنظار حيث يتولَّاه الخدم الهنود. وهكذا يتأكد التضاد بين المثل الأعلى «الإمبراطوري» والواقع المبتذَل للحياة اليومية.
ولكن معرفة أن يوم الاثنين يوم الغسيل لا تكفي لفهم ما يجري في القصيدة، فصورة الغسيل تُذكِّرنا بالمثل القديم عن عدم غسل الملابس المتَّسخة علنًا، والملابس المتَّسخة في هذه الحال حقيقية ورمزية، أي إن ملابس الإمبريالية المتَّسخة ترمز لها الملابس التي ينشرها الإنجليز لتجف. وفي إشارة طارق الساذجة التالية بشأن حديقة الإنجليزي، تبرز مجموعة أخرى من الإحالات؛ فالقصيدة الكبرى للعصر الإمبريالي، قصيدة الشاعر كيبلنج بهاء الحديقة تُصوِّر إنجلترا كلها في صورة حديقة، حديقة رائعة تحيط بمنزل فاخر، ويعمل على الحفاظ على جمالها حشدٌ من البُستانِيِّين المخلصين وتختفي تحت الطبقات التي تتكوَّن منها هذه القصيدة صورة الحديقة الإنجليزية المثالية في القرن التاسع عشر.
وكل مترجمٍ يتصدَّى لهذه القصيدة يواجه مهمة معقَّدة حقًّا. فأما المفردات الدلالية فهي مباشرة، وإن كان شكل الأسطر الثمانية المُحكَم يُمكِّن ألفي من إبراز كلمات معيَّنة في بداية الأسطر ونهايتها. وآخر كلمة في القصيدة هي الصفة «لاذع» ومجال دلالاتها بالغ الاتِّساع، وهي تُستخدَم هنا في وصف يوم الاثنين. وربما — وعلى الأرجح — تُشير إلى حالة الطقس [بمعنى «قارس»] حتى وهي تُلمح إلى توقُّع آلامٍ في المستقبل. والمشكلة الرئيسية ليست لفظية أو نحوية أو شكلية بل هي مشكلة المعرفة اللازمة للقارئ حتى يتمكَّن من إدراك الدلالات المضمَرة في النص؛ فالنص لا يُصرِّح بمعظمها بل يُلمح إليها وحسب. والبيانات الجغرافية دقيقة. فإذا لم يكن القارئ يعرف أن «يوستون» محطة قطارات في لندن فلن تكون لرحلة طارق دلالة كبيرة. والفكاهة الخاصة بالغسيل تُنشئ الهيكل الأساسي للقصة. بل إن العنوان نفسه له دلالة؛ إذ إن طارق يصل إلى لندن في لحظة «البين بين»؛ فالحرب العالمية انتهت عام ١٩٤٥م، ولم يُعلَن استقلال الهند وقيامُ دولة باكستان إلا عام ١٩٤٧م. وكان طارق ينتمي للموجة الأولى من المهاجرين في الفترة التي تَلَت الحرب. وربما يكون قد وصل قبل موعده، أو بعد أن فات الموعد. والمشكلات الخاصة بنقل «نبتة» قصيدة كهذه، وهي التي تستند في أساسها على فكرة النُّزوح الثقافي وتعتمد على مقدارٍ كبير من المعرفة الإضافية، مشكلات تُرهِق المترجم باعتباره قارئًا وكاتبًا.
ومن ثَمَّ فإن «الشكل المحاكى» يسود بين المترجمين في الفترة التي تضعف فيها مفاهيم الأنواع الأدبية، ويطعن فيها الناس في الأعراف الأدبية، وتتعرَّض الثقافة المستهدَفة كلها للنوازع الخارجية وتفتح صدرها لها.
والاستراتيجية الثانية التي يضع هومز خطوطها العريضة تتضمَّن تحويرًا شكليًّا، فهو يستخدم ما يسميه «الشكل القياسي» في القول بأن المترجِم يُحدِّد أولًا وظيفة الشكل الأصلي ثم يحاول بناء مثيلٍ له في اللغة المستهدَفة. وأوضحُ مثالٍ على هذه التقنية هي ترجمة البحر الفَرنسي السداسي التفعيلة إلى النظم المرسَل بالإنجليزية [الخماسي التفعيلة] والعكس بالعكس. وتستخدم الدراما الكلاسيكية لكلٍّ من هاتين اللغتين هذين الشكلين. وعلى غِرار ذلك فعندما وضع أ. ف. ريو ترجمته لملحمتَيْ هوميروس للنشر في سلسلة بنجوين عام ١٩٤٦م، قال في تصديره إن الإلياذة يجب أن تُعتبر مأساة وأن الأوديسية رواية، ثم طبَّقَ حُجَّته عمليًّا بأن ترجمَ الأوديسية باعتبارها رواية، نثرًا لا نظمًا.
وهو يُعرِّف الاستراتيجية الثالثة بأنها «مُشتقَّة من المضمون»، أو «الشكل العضوي». ويقول: إن المترجم يبدأ خطواته بالمادة الدلالية للنص المصدر ويُتِيح لها أن تُشكِّل نفسها. وهذه في جوهرها استراتيجية عزرا باوند في ترجمة الشعر الصيني. وقد أصبحت الاستراتيجية المُهَيمِنة في القرن العشرين، وزاد من تدعيمها أيضًا نشأة النظم الحر وتطوُّره. وفي هذا اللون من الترجمة يُنظَر إلى الشكل باعتباره مستقلًّا عن المضمون، لا باعتباره يتكامل معه.
ويصف هومز الفئة الرابعة بأنها «الشكل المنحرف أو الخارجي»، وفي هذا النمط من الترجمة، ينتفع المترجم بشكلٍ جديد لا يُشير إليه النص المصدر أية إشارة، سواءٌ من زاوية الشكل أو المضمون. وقد يجوز لنا أن نقول إن عزرا باوند يفعل ذلك في بعض أجزاء أناشيده. ولكننا نرى بصفة عامة فائدةً أكبر في ضمِّ فكرة هومز عن الشكل «العضوي» وفكرته عن الشكل «الخارجي» في استراتيجية واحدة، واستخدام مصطلح «العضوي» لهما معًا. ويترجم دي كامبوس قصيدة وليم بليك الوردة العليلة إلى قصيدة «مُجسَّدة»؛ أي حيث تُطبَع الكلمات البرتغالية في الصفحة على شكل وردة أو زهرة ويختفي في داخلها النص آخر الأمر، وهو ما يمكن اعتباره شكلًا «عضويًّا» أو «خارجيًّا» إذا واصلنا استخدام مصطلحَيْ هومز. ولكن مثل هذا التمييز لا طائل من ورائه، والذي نستطيع أن نقوله هو أن ترجمة دي كامبوس تتجلَّى فيها حساسيته للنص ورغبته في التجريب بطرائق لم تكن متاحةً لبليك قبل قرنين من الزمان.
ويقول هومز إن الاستراتيجية العضوية كانت الاستراتيجية المفضَّلة في القرن العشرين، ولكنه يُبيِّن انحدار نسبها بوضوحٍ من شيلي، وهو الذي أشرنا آنِفًا إلى استخدامه صورةً عضوية في الإشارة إلى عملية الترجمة. وفكرة الترجمة باعتبارها عمليةً عضوية تَبرُز بوضوحٍ وجلاء في تفكير عزرا باوند؛ إذ كان — مثل كثيرٍ من الشعراء وأصحاب نظريات الترجمة من قبله ومن بعده — مشغولًا بتحديد المراحل التي تُمثِّل خطوات نقل القصيدة من لغة إلى لغة أخرى.
شرُّ ما تتَّسِم به ترجمة شعر العصور الوسطى إلى الإنجليزية أنه من أصعب الأمور أن تُقرِّر كيف تُترجِم عملًا كُتِبَ وَفقًا لمعايير معيَّنة إلى لغةٍ تخضع الآن لمعايير مختلفة. هل تترجم كنيسة سانت هيلير إلى تقاليد فن الباروك؟ لن تستطيع كما يعرف الجميع أن تترجمها إلى اللغة الإنجليزية في ذلك العصر، فاللغة البروفنسالية التي كان يتكلمها ملوك أسرة بلانتاجينيت [١١٥٤–١٣٣٩م] تنتمي إلى لهجات جنوب فرنسا التي تُسمَّى «لانج دوك».
والواقع أن نبرة باوند هنا ساخرة، فهو يعرف مثل الجميع أن قدرًا كبيرًا من شعر العصور الوسطى قد تُرجِم فعلًا في القرن التاسع عشر إلى لغة إنجليزية تُحاكي طابع العصور الوسطى أو إلى ضَربٍ من «لغة الترجمة» التى ترمي إلى الإيماء بأن النص الأصلي قديم. وتقول حُجَّة باوند إن هذا سخف: فالمنتج النهائي غير مُمتِعٍ للقارئ؛ لأنه مكتوبٌ بلغةٍ تفتقر إلى الحيوية لأنها متكلَّفةٌ تمامًا ولا يتكلمها أحد.
وكان ما يشغل باوند في المقام الأول أن يترجم نصوصًا من زمنٍ سابق أو من ثقافات غير غربية، ومن هنا قلَّ تأكيده لمشكلات ترجمة الخصائص الشكلية للنصوص؛ لأنه كان يدرك أن الأشكال تتفاوت فيما بين الأداب المختلفة. وأما ما يُصِرُّ عليه فهو أنَّ على المترجم أن يكون قارئًا أولًا وقبل كل شيء. ونستنبط من حواشيه وتعليقاته الكثيرة على الترجمة وجود خطٍّ فكريٍّ ينسب إلى المترجم مسئوليةً مزدوَجة. فعلى المترجم أن يُجيد القراءة، وأن يعي ماهيَّة النص المصدر، وأن يفهم خصائصه الشكلية وديناميَّته الأدبية، إلى جانب مكانته في النظام المصدر، وعليه أن يأخذ في اعتباره أخيرًا الدور الذي قد يُناطُ بالنص في النظام المستهدَف، ويُذكِّرنا باوند مرارًا وتكرارًا أن الترجمة يجب أن تصبح عملًا فنيًّا في ذاتها، وأيُّ شيءٍ أقل من ذلك عبثٌ لا طائل من ورائه.
والباحثون في الترجمة يحاولون مرارًا وتكرارًا حل مشكلة العلاقات المتداخلة بين البناء الشكلي للقصيدة، ووظيفته في سياق اللغة المصدر، والإمكانيات المتاحة في اللغة المستهدَفة. ويتحدث روبرت بلاي عن ثماني مراحل للترجمة (بلاي، ١٩٨٤م) ويتحدث أندريه ليفيفير في كتابه عن ترجمة شعر كاتونلوس عن سبع استراتيجيات ومشروع خاص (ليفيفير ١٩٧٥م). والعنصر المفقود في الكتابات الكثيرة عن الشعر والترجمة عنصر المرح أو فكرة الفرح أو التلاعب؛ إذ إن متعة الشعر تكمُن في إمكان اعتباره خبرةً فكرية وعاطفية للقارئ والكاتب معًا. والقصيدة — مثل النص المقدس — تقبل قراءات وتفسيرات واسعة النطاق، وتتضمَّن الإحساس باللعب. فإذا عامَلَ المترجم نصًّا من النصوص باعتباره شيئًا ثابتًا مصمتًا لا بد أن تُفَكَّ شفرتُه بانتظام بالطريقة الصحيحة، فقدَ ذلك الإحساس باللعب.
وإذا رأينا لافتةً تقول: «المشي على الكلأ ممنوع» فإننا نجد فيها نهيًا عن شيء، إنه نصٌّ يتكوَّن من أربع كلمات له وظيفة محددة، ولو تصدَّينا لترجمتها فسوف نترجم وظيفتها، وليس بالضرورة عناصرها الدلالية. ولكن ما عسى أن نفعل بنصٍّ آخر من أربع كلمات يرِدُ في ديوان الشاعر الإيطالي العظيم جيوسبي أُنْجاريتي، وهو:
وقد كتب أوكتافيو باث مقالًا واضحًا عن ترجمة الشعر يُميِّز فيه تمييزًا بالغ الأهمية بين مهمة الشاعر ومهمة المترجم قائلًا:
إن الشاعر المستغرق في حركة اللغة، المشغول بالألفاظ دومًا، يختار كلماتٍ معدودة، أو تختاره هذه الكلمات. وفي غِمار جَمْعِه بينها يبني قصيدته: أي إنها كيانٌ لفظي يتكوَّن من حروف لا تقبل التبديل أو الحركة. وأما نقطة انطلاق المترجم فليست حركة اللغة التي تُمثِّل مادة الشاعر الأولية، بل اللغة الثابتة في القصيدة. إنها لغةٌ تجمَّدَت لكنها حيَّة، وخطوات المترجم تُمثِّل عكسًا لخطوات الشاعر؛ إذ إنه لا يبني نصًّا لا يتغيَّر من حروفٍ متحركة بل يُفكِّك عناصر النص، ويُحرِّر العلامات حتي تدور دورتها ثم يُعيدها مرة أخرى إلى اللغة.
أي إن الشاعر «يلعب» باللغة ثم ينتهي بخلق قصيدةٍ ما، من طريق تثبيت اللغة على نحوٍ لا يسمح بتغييرها. ولكن مهمة المترجم تختلف اختلافًا كاملًا، وتتضمَّن لونًا مختلفًا من «اللعب»؛ إذ يبدأ المترجم باللغة التي ثبَّتَها الشاعر، ثم يكون عليه أن يشرع في تفكيكها وإعادة تجميع الأجزاء بلغةٍ أخرى. ويقول باث إن عملية تحرير العلامات لِتدور دورتها تُمثِّل عكس العملية الإبداعية الأصلية. فمُهِمَّة المترجم أن يُنشئ نصًّا مُماثِلًا بلغةٍ أخرى؛ ومن ثَمَّ فإن المترجم ليس كاتبًا أوَّلًا يتحوَّل إلى قارئ، بل هو قارئٌ أوَّلًا يُصبح كاتبًا، والذي يحدث في نظر باث أن القصيدة الأصلية تُصبح قائمةً داخل قصيدةٍ أخرى، حيث لا تصبح «نسخة منها بل صورة أخرى لها».
وهذه النظرة إلى عملية الترجمة ذات فائدةٍ جمَّة، أو قُل إنها «تُحرِّرُنا» إلى حدٍّ بعيد، فهي من الزاوية النظرية تتصل بفكرة فالتر بنيامين عن قدرة الترجمة على إكساب النص حياة أخرى، وتمكينه من البقاء، بل وأحيانًا بَعْث الحياة فيه؛ أي إنها نظرة تحرير للترجمة؛ لأنها تتجنَّب تمامًا السؤال العويص بشأن كون الترجمة أو عدم كونها نسخة أقل مرتبةً من الأصل؛ فالواقع أن مهمة المترجم نوعٌ مختلف وحسب من مهام الكاتب، وهي نابعة من المهمة الأولية للقراءة.
ومن المترجمين الذين ما فَتِئْتُ أعود إليهم المرة تِلْوَ المرة وعامًا بعد عام السِّير توماس وايات، أحد الشعراء الذين يعود إليهم فضل إدخال شكل السونيتة في اللغة الإنجليزية في أوائل القرن السادس عشر، وأنا دائمًا ما أرجع إليه لأن ترجماته بارزةٌ متميزة حتى في ذلك العصر المُتَّسِم بالنشاط الترجمي على نطاقٍ واسع، وذلك على الرغم من أنه لم يُعبِّر عن أية آراء في الترجمة، أو على الأقل لم يصلنا منها شيءٌ إن كان قد فعل، والباحث ر. أ. ريبهولتس — الذي قام بتحقيق ونشر الطبعة الكاملة لشعر وايات عام ١٩٧٨م — لا يُبدِي رضاه عن ترجمات وايات، فأحيانًا يصِفُها بأنها ترجمات لبترارك، وأحيانًا بأنها محاكاةٌ حرة لشعر بترارك، بل وحتى محاكاة بالغة التحرُّر لشعر ذلك الشاعر (ريبهولتس، ١٩٧٨م). ومن المحتمَل أن عدم رضاه يرجع إلى أننا لو وضعنا ترجمات وايات لبترارك جنبًا إلى جنب مع النصوص الأصلية، فسوف نواجه مثالًا لما يسميه باث «الممارسة التحريرية» للترجمة؛ إذ إنَّ وايات يتخذ من بترارك نقطة انطلاقٍ له، ويُحرِّر «العلامات» حتى تدور دورتها الموجَّهة إلى جمهور قُرَّاءٍ يختلف اختلافًا تامًّا، بلغةٍ أخرى وفي عصرٍ آخر.
وفيما يلي النص الإيطالي:
[وفيما يلي الترجمة النثرية الدقيقة الكاملة للنص الإيطالي التي تكرَّم بإهدائها إليَّ الأستاذ الدكتور عبد الرازق عيد، رئيس قسم اللغة الإيطالية وآدابها بجامعة القاهرة — المترجم].
وتتميز هذه القصيدة بعنصرين: الأول هو الصورة الشعرية في السطرين ٧–٨؛ أي صورة البخيل الذي يستمتع بجمع كنوزه إلى الحد الذي يُنسيه إدراك ما بذل في سبيلها من جهد، والثاني صورة الطوق الذي يُحيط برقبة الظَّبْيَة، كما تقول التفاصيل الواردة في الأبيات ٩–١١؛ فالرسالة المنقوشة بالماس والتوباز تقول: «يجب ألا يلمسَني أحد، فإن قيصر الذي يملِكُني هو القادر وحده على تحريري.»
وتُمثِّل «ترجمة» وايات نقل البذرة من بترارك إلى تربةٍ أخرى:
وصورة البخيل الذي يعتزُّ بكنوزه غير موجودة في النص الإنجليزي، ولكننا نجد في موقعها نفسه صورةً أخرى، وذلك على وجه الدقة في السطرين ٩–١٠، وتُواصِل الصورة التي يأتي بها وايات فكرة التعب والإحباط من خلال فكرة الرجل الذي يحاول اصطياد الريح في شبكة.
وأما أهم جوانب التغيير فنجدها في السطور الستة الأخيرة؛ فالظَّبْيَة في قصيدة وايات تضع حول رقبتها طوقًا فيه جواهر أيضًا، ولكن «رسالته» مختلفة؛ فالظَّبْيَة في قصيدة بترارك تنتمي لقيصر، وفي يده وحده مَنْحُها حريتها، وَفْقَ ما يقوله النص. ولكن نص وايات لا يتضمَّن أية إشارة إلى الحرية، والظَّبْيَة عنده تلبس طوقًا فيه نقشٌ باللاتينية، وتحذيرٌ يقول إنها وحشيةٌ على الرغم من أنها تبدو أليفة.
ونستطيع أن نبدأ في فهم ما حدث في عملية الترجمة عندما ننظر في السياقَين اللذَيْن أبدع فيهما هذان الكاتبان نصَّيْهِما اللذَيْن يتَّسِمان بأوجُه شبهٍ كبيرة، وأوجُه اختلافٍ كبيرة أيضًا، فقصيدة بترارك كانت جزءًا من سلسلة قصائد تتناول حبَّه بلا طائل لحبيبته لورا ومحاولاته الجاهدة أن يقترب من الله من خلال هذا الحب. واستخدامه للفظ قيصر يُذكِّرنا بالتقسيم في الكتاب المقدس ما بين مملكة الأرض ومملكة السماء. ولكن وايات كان يعيش في عصرٍ آخر، عصر النهضة الأوروبية ومذهبها الإنساني (الهوماني)، عصر ماكيافيلي والنُّظُم الجديدة في قصور الملوك، وهو الذي بدأ الناس فيه يطعنون في فكرة الذل أمام الله، وإن لم يطعنوا قطُّ في وجود الله. فالمتحدث في قصيدة وايات لا يرى رؤيا صوفية من أي لون، بل يحاول عبثًا أن يفوز بامرأةٍ تنتمي لشخصٍ آخر. ويبدو أنها كانت تفعل ما جعله يطمع فيها. وصوته صوت العاشق الساخر المهموم، الذي تخلَّى عن المطاردة يأسًا. وكونُ هذه القصيدة رمزيةً وتُشير في الحقيقة إلى حب وايات للملكة آن بولين، زوجة الملك هنري الثامن، الذي كان الشاعر يعمل في خدمته، يُضيف بُعْدًا آخر إلى قراءة القصيدة.
هل قصيدة وايات ترجمةٌ لبترارك؟ إنها ترجمة بطبيعة الحال، ترجمة تُمكِّنُنا من رؤية مدى مهارة المترجم في قراءة النص المصدر وإعادة صوغه لإبداع شيءٍ جديد ذي حيوية. لقد أبقى على شكل الأصل، فأدخل من ثَمَّ شكلًا شعريًّا جديدًا إلى النظام الأدبي المستهدَف، وهو ما يُؤكِّد حُجَّة جيمز هومز بأن الشكل المُحاكى يمكن فعلًا أن يقوم بوظيفة التجديد في اللحظات الحاسمة في التاريخ الأدبي. ومع ذلك فقد أجرى تعديلاتٍ دقيقةً في ذلك الشكل، فأوجد إمكانياتٍ جديدةً له في اللغة المستهدَفة؛ إذ إنه يُبقِي على صورة المحبوبة كظبيةٍ بيضاء، ولكنه يُغيِّر العلاقة بين السيدة وبين عاشقها؛ أي إن المنظور مختلف، وهو ما أدَّى إلى اختلاف النغمة، وإن كانت تتمشَّى مع العصر الذي كان يعيش فيه ويكتب. فإذا شرحنا ما يقوله بونفوا كان لنا أن نقول إن الطاقة المتولِّدة عن النص المصدر هائلةٌ إلى الحد الذي مكَّنَ المترجم من اتِّباعها ومن ثَمَّ إبداع شيءٍ عظيم خاص به.
ولنا في هذه اللحظة أن نؤكِّد أمرين: الأول أن ترجمة الشعر تقتضي مهارةً في قراءة كل جزءٍ فيه بقدر ما تقتضي مهارة الكتابة، والثاني أن القصيدة نصٌّ لا ينفصل المضمون فيه عن الشكل. ولأنهما لا ينفصلان لا ينبغي لأي مترجم أن يحاول أن يُثبِت أن أيهما أقل دلالةً من الآخر، بل على المترجم أن يتبيَّن حدوده وأن يعمل في إطار تلك القيود. ومن المفيد أن نذكر قول جيمز هومز إن كل مترجمٍ يضع ترتيبًا هَرَمِيًّا معيَّنًا لمقوِّمات النص أثناء القراءة ثم يُعيد تشفير هذه المقوِّمات بترتيبٍ هَرَمِيٍّ جديد في اللغة المستهدَفة. فإذا قارنَّا الترجمة والمصدر برز لأعيُنِنا الترتيب الهرمي للمقوِّمات المذكورة، ويصِف هومز هذه العملية بأنها «ترتيبٌ هرميٌّ للعناصر المتقابلة» (هومز، ١٩٧٨م).
ومن أشد المناهج النقدية فائدةً في تناوُل الترجمة المنهج المقارن الذي خضع للتجرِبة وحَظِيَ بالثقة. فعندما نُقارن ترجمات مختلفة للقصيدة نفسها، نستطيع أن نرى تنوُّع استراتيجيات الترجمة التي يستخدمها المترجمون، وأن نضع هذه الاستراتيجيات في سياقٍ ثقافي، من خلال فحص المعايير الجمالية في النظام المستهدَف والنصوص المترجمة. ومن أهم ما ينبغي ألا نستخدم المنهج المقارن في وضع الترجمات في جدولٍ مثل جدول ترتيب فِرَق أندية كرة القدم في الدوري العام، قائلين إن «س» أعلى من «ص» بل أن نفهم ما حدث في عملية الترجمة الفعلية.
ربما يكون أشهر نشيد في الجحيم الذي كتبه دانتي [في الكوميديا الإلهية] النشيد الخامس، عندما يُقابل دانتي العاشقَيْن القتيلَيْن باولو وفرانشيسكا دا راميني في الحلقة الثانية من الجحيم، وهي الحلقة التي يُعاقَب فيها مرتكبو خطيئة الشهوة، وتتولَّى فرانشيسكا نفسها قصَّ قصة غرامهما غير المشروع وقيام زوج فرانشيسكا، وهو أخو باولو بقتلهما معًا، وذلك أثناء هبوب ريح الجحيم السوداء بإلقائهما في طريق الشاعر الذي يصيبه الرعب من مَرْآهما، بل يصل رعبه من قصة حبهما ومقتلهما الوحشي إلى أن يُصاب بالإغماء، وهو إغماءٌ سيكون له دلالته على امتداد رحلته، ما دام إغماؤه دائمًا ما يصاحب لحظات جَيَشان عواطفه.
وذروة قصة فرانشيسكا يمكن أن تُعتبر قصيدةً داخل قصيدة، تقول:
هنا تُلخِّص فرانشيسكا قصتهما قائلةً إن حبهما قهَر «الجسم الجميل» الذي لا تُسمِّيه قط، وإنها لا تزال مُستاءةً من طريقة موتهما. وتقول إن قوة حبهما كانت هائلةً إلى الحد الذي ربط بينهما في الموت إلى الأبد، وإنَّ قاتِلهما سوف يُلقَى به في مكانٍ في أعماق الجحيم بعد موته، الذي لم يحدث إلى الآن.
وأما قارئ هذا النص في القرن الثالث عشر، فيجد أنَّ من أوضح ملامحه الإشارةَ المباشرة إلى قصيدةٍ شهيرة كتبها جويدو جوينيزيلي، أحد مؤسسي مذهب «الأسلوب العذب الجديد»، وعنوانها «دائمًا ما يغزو الحبُّ القلبَ الرقيق». وكان دانتي شديد الإعجاب بهذا الشاعر، ولكن ما يترتَّب على «الأسلوب العذب» المذكور واضحٌ هنا: فالحب غير المشروع يؤدِّي إلى الهبوط في الجحيم، وباولو وفرانشيسكا يعترفان بأن قراءة كتاب من شعر الحب هي التي أذْكَتْ نار عاطفتهما، وإشارة دانتي المتعمَّدة إلى شعر الحب الذي كان معجبًا به أيَّما إعجاب ويسعى لكتابته يومًا ما تُضمِرُ فكرةً جادَّة عن ضرورة إعلاء مرتبة الأخلاق فوق مرتبة الجمال، فالمسئولية الأخلاقية لا يقتصر حملها على القُرَّاء، بل يشارك الكُتَّابُ في تحمُّلِها. وهكذا فإن دانتي باعتباره كاتبًا يتحمَّل مسئوليةً ما عن سقوط هذين العاشقَين، والألم الذي يشعر به عند سماع قصتهما يزيده وَعْيُهُ بهذا عُمْقًا. ومن المحتمل أن قارئ النص في القرن الثالث عشر لم يكن ليجد أية صعوبة في فهم «الحُجَّة» المقدَّمة من خلال الإشارات المتعمَّدة إلى «الأسلوب العذب الجديد»، وابتداء كل وحدة تتكوَّن من ثلاثة أبيات في هذه الفقرة يُشير إلى أهميتها من حيث البناء الشكلي ويجعلها بارزةً بين سائر فقرات النشيد.
وقد بذل المترجمون جهدًا جهيدًا واتَّبَعُوا طرائق شتَّى في ترجمة هذه السطور. واخترتُ من بين عشرات الترجمات الإنجليزية لها «عَيِّنَةً» بدأتُها بترجمة كيري، صاحب أول ترجمة كاملة للكوميديا الإلهية حتى روبرت ديرلينج (١٩٩٦م) الذي نشر أخيرًا ترجمته الجديدة الخاصة ﻟ الجحيم. فأما كيري (١٨١٤) الذي لا يستخدم القافية فإنه يستخدم لغةً إنجليزية تشبه لغة العصور الوسطى، مُتَّبِعًا في ذلك أعراف بدايات القرن التاسع عشر، وذلك ما فعله لونجفيلو في ترجمته عام ١٨٦٧م، ومن الطريف أن بايرون قد اختار ترجمة قصة فرانشيسكا، مُقتطِفًا إيَّاها من سائر النشيد. وأما تشارلز إليوت نورتون، في عام ١٩٤١م، فإنه حوَّل العمل كله إلى نثر، ولكنه حافظَ على لغة العصور الوسطى، ولكن ترجمة دوروثي سايرز في عام ١٩٤٩م، المنشورة في سلسلة بنجوين، المكتوبة أيضًا بلغةٍ تشبه إنجليزية العصور الوسطى، تلتزم بالقافية في الترجمة كلها، وقد صدرت أخيرًا ترجمتان غير مُقَفَّيَتَيْن بالإنجليزية الحديثة بقلم سيسون (١٩٨٠م) وديرلنج (١٩٩٦م).
فلننظر في هذه الترجمات المختلفة للأسطر الستة الأولى من الفقرة السابقة:
وجميع المترجمين — بغضِّ النظر عن الشكل الذي استخدموه — يحافظون على ابتداء كل مجموعةٍ من ثلاثة أسطر بالكلمة نفسها. وأما فيما عدا هذا، فأوضحُ ما يظهر لنا وجود اختلافات بين الترجمات، واستعصاء بعض الأجزاء في معظمها على الفهم، والذي يحدث في النص الإيطالي أن قصة فرانشيسكا تغير تركيزها عدَّة مرات، فهي تبدأ بعبارة مثبتة عن الحب و«القلب الرقيق»، ثم تنتقل فتصف كيف سيطر الحب على باولو، ثم ترجع مباشرة إلى مشاعرها في التوِّ واللحظة، وهى تقول لدانتي إنها لا تستطيع أن تنسى ظروف مقتلها، وهو ما يُنبِّه القارئ إلى أنها لم تعرف التوبة، ومن ثَمَّ فقد حُقَّ عليها أن تدخل النار، وإبراز تعبير «لا أزال أندبه» في آخر السطر الثالث يُؤكِّد تضادَّه مع معنى «يُعفِي» في السطر الرابع، وهكذا ندرك أن فرانشيسكا هنا في الجحيم لا لأن زوجها لم «يَعْفُ» عنها بل لأنها لم تستطع أن تعفُوَ عنه، وتستهلُّ وحدة الأسطر الثلاثة الثانية مرة أخرى بجملةٍ عن الحب، ولكنها منفيَّةٌ تُؤكِّد قسوة طغيان الحب، ثم تنتقل لتصِف سلطان الحب، الذي لا ينتهي، عليها؛ أي إن شوقها إلى باولو يصمُدُ حتى بعد الموت، وإن كانت ترجمة كيري تجعل الهاء في «إنه» [السطر السادس] ضميرًا يعود على باولو لا على الغرام.
والمشكلة التي يشتركون في مواجهتها هنا — بطبيعة الحال — أن هذه الأسطر قد كُتِبَت عمْدًا بأسلوبٍ معيَّن وأنها ذات بناءٍ متعمَّد الغموض، فلا يقتصر ما يظهر في هذه الأبيات على شخصية فرانشيسكا بل يتجاوزها إلى تعبيرٍ أخلاقي يستند إلى سيرة المؤلف عن الدور المَنُوط بالكاتب. وقد اختفى هذا الجانب من جوانب النص في الترجمة. ففي القرنين التاسع عشر والعشرين لم يعُدْ يرى الناس معنًى للمثل الأعلى للحب الرفيع، كما اختفت فكرة الخطيئة والتوبة، إلا باعتبار هذا وذاك من الطرائف الفكرية. بل إن قصيدة دانتي نفسها أصبحت من الطرائف الفكرية، والمحرِّرون والمترجمون يُقدِّمون إلى القُرَّاء هوامش مُفصَّلة لتمكينهم من تفهُّم النص، ومكانة العمل تقضي بأن يُقرَأ ويُترجَم، وقد يقول باوند إن فكرة الكوميديا الإلهية باعتبارها قصيدةً قد تبخَّرَتْ في موقعٍ ما أثناء الترجمة.
ويقول بونفوا إن العمل لا بد أن يكون أخَّاذًا وإلا استحالت ترجمته. ومن المؤكَّد أن باوند كان يتَّفق مع هذه المقولة؛ إذ إنه إن كانت الترجمة، كما يقول ليفيفير وغيره، إعادة كتابة، فلا بد أن تكون العلاقة بين من يكتب ومن يُعيد الكتابة علاقةً مُثمِرة. وترجمات القصائد تُمثِّل جانبًا من جوانب القراءة المستمرَّة؛ فالكُتَّاب يُبدِعون من أجل القرَّاء، وقدرة القارئ على إعادة تشكيل النص عاملٌ أساسي. فاختلاف القرَّاء يؤدِّي إلى اختلاف القراءات، واختلاف المترجمين يؤدِّي إلى اختلاف الترجمات. والمهم في ترجمة الشعر أن تستوعب القصيدةُ المترجمَ إلى الحد الذي يجعله قادرًا على تبديلها تبديلًا إبداعيًّا من خلال المتعة التي تُولِّدُها القراءة. وإذا اتَّبعنا وجهة نظر بونفوا، قلنا إنه لم يستطع أحد مترجمي دانتي، على ما يظهر، أن يعيش مرة أخرى الإحساس الذي أنشأها ولا يزال كامنًا فيها، بل يبدو أنهم اعتبروا النص كِيانًا حجريًّا صلبًا فانطلقوا يضربونه بِمَعاوِلِهم، ويُبرِّر بونفوا مدخله الخاص إلى الترجمة فيتحدث عن إطلاق طاقةٍ خلَّاقة يمكن للمترجم الانتفاع بها.
وإذا نظرنا إلى الصور الإيجابية للترجمة باعتبارها إطلاقًا للطاقات، وتحريرًا للعلامة اللغوية حتى تدور دورتها، ونقلًا للبذور إلى تربةٍ أخرى، وإعادة إزهار للنبات في لغةٍ قادرة على ذلك، وجدنا أنها تبتعد ابتعادًا شديدًا عن السلبية التي يقول بها فروست ودعاةُ استحالة الترجمة. والواقع أن قدرًا كبيرًا من هذه الصور قديم، ولم نشهد إلا منذ عهدٍ قريب، في إطار رفض دُعاة ما بعد الحداثة اعتبار النص كيانًا حجريًّا صلبًا، كيف برز الحديث عن الترجمة باعتبارها عامل تحرير. ومن المُحال الإبقاء على الحدود ما بين النص المصدر والنص المستهدَف، وهي التي لم يُبَتَّ فيها بوضوح في أي نوعٍ أدبي قط. إن كان للقصيدة أن تظلَّ قصيدةً بلغةٍ مختلفة. وربما كان أوجزُ تعليقٍ على العلاقة الحيوية بين الكاتب وبين المترجم/المحرِّر للقصيدة يتمثَّل في الأسطر التالية التي كتبها لورد روسكومون، ديللون ونتويرث، منذ أكثر من ثلاثمائة عام:
عندما ينصهر مَن يُعيد الكتابة انصهارًا كاملًا مع المصدر، تُترجَمُ القصيدة. وتواتُر حدوث هذا يُبرِّر احتفالنا به. ليس الشعر ما يضيع في الترجمة، بل ما نَكسِبُه من خلال الترجمة والمترجمين.
١٠٠ والحبُّ الذي يُشعل القلب الرقيق سريعًا، تيَّمَهُ بالجسم الجميل، الذي انتُزِع مني، بطريقةٍ لا تزال تُحزِنُني.
١٠٣ الحبُّ الذي لا يُعفِي محبوبًا من مبادلة الحب، سيطر على كياني بلذَّة، وهو كما ترى لا يفارقني بعدُ.
١٠٦ «الحبُّ قادَنَا إلى موتٍ واحد: وقابيل ينتظر مَن أطفأ سراج حياتنا»، حُمِلَتْ منهما هذه الكلمات إلينا (دانتي أليجيري، الكوميديا الإلهية، الجحيم، دار المعارف، القاهرة، ١٩٥٩م، ص١٣٠).