أبواب القياس: ملحمة كاليفالا باللغة الإنجليزية
سأحاول فيما يلي إثبات قوة القياس في بناء النصوص، أو حتى في بناء نُظُمِ نصوص. وأقول أوَّلًا إن القياس أقوى عامل في عملية المُثاقَفة، وهي التي تنهض الترجمة فيها بدورٍ بالغ الأهمية. وسوف أحاول تحليلها لهذا السبب، مستخدمًا شتَّى ترجمات ملحمة كاليفالا إلى اللغة الإنجليزية، وهي مجموعةٌ من الشعر الشفاهي الفنلندي، بُنِيَت بعناية حتى تصبح الملحمة القومية الفنلندية، قياسًا على الملحمة الكلاسيكية، وأيضًا — إلى حدٍّ ما — قياسًا على قصص البطولة النثرية للشعوب الجرمانية الشمالية، مُتَّخِذًا منها مثالًا، وصُلْبُ حُجَّتي يقول إن الآداب المكتوبة بلغاتٍ غير منطوقة على نطاقٍ واسع، لن يُكتَبَ لها الانضمامُ إلى ما يُمكن تسميته ﺑ «الأدب العالمي»، إلا إذا خضعَتْ للنظام النصِّي أو صور تشكيل الكلام — أو أي اسمٍ آخر يريد المرء أن يُطلقه عليه — الذي يُعتبَر الأساس الذي بُنِيَ عليه مفهوم «الأدب العالمي»؛ أي إنَّ على هذه الآداب أن تُبدِع شيئًا ما قياسًا على عنصرٍ من عناصر «الأدب العالمي» القائم فعلًا، سواءٌ كان ذلك العنصر في الواقع جزءًا من أدبها القومي في ذلك الشكل أو لم يكن. ففي القرن التاسع عشر، وهو الإطار الزمني الذي يُهِمُّنا هنا. كان النظام النصي لا يزال يتَّسِم اتِّسَامًا كبيرًا بالفصل بين الأنواع. ولم تكن الحداثة بمفاهيمها المختلفة عن المزج بين الأنواع و«القص واللصق» قد برزت على المسرح. وكانت الرومانسية التي تتفاخر بأنها حطمت نير الكتب التي وضعَتْها الكلاسيكية الجديدة لمبادئ فن الشعر لا تزال تُميِّز بين شكل الملحمة — مثلًا — وشكل القصيدة الغنائية، أو غيرها من الأنواع، فإن ملحمة كاليفالا وترجماتها إلى الإنجليزية تُقدِّم لنا دراسة حالةٍ بالغة الطرافة عن الخضوع ﻟ «الأدب العالمي» عن وعيٍ ومن دون وعي. ومن خلال دراسة الحالة المذكورة أريدُ أن أُثبِتَ القيمة العليا لوجود نظام نصي، وهو «شبكة» من نوعٍ ما من أنماط النصوص المقبولة والتي يمكن قبولها، ويسبق وجودها اللغة نفسها، وهي التي تَبُتُّ فيما إذا كان نصٌّ ما سوف يُقبَل أو يُرفَض في ثقافة معيَّنة، إلى جانب وجود نظام فكري مماثل لدراسات الترجمة. وقد يتصادف أن يلتقي النظام النَّصِّي والشبكات الفكرية مع لغة من اللغات، أو أمة من الأمم، كما هو الحال في الأدبَين الصيني والياباني. ولكن الأغلب أن تسبق هذه النُّظُم والشبكات أكثر من لغة واحدة، وأكثر من أمة واحدة، ويمكن للمرء في هذا السياق أن يتحدث عن شيءٍ مثل الشبكة «الغربية»، وهي التي يشهد على وجودها وجودُ الملحمة مثلًا في اليونانية واللاتينية وفي عددٍ من اللغات الأخرى، ووجود الرومانسية مثلًا، في صورة فئات فكرية تتجاوز اختلافات الأمم فيما بينها، كما يمكن للمرء أيضًا أن يتحدث عن شبكات الشرق الأدنى التي تضمُّ الآداب والمجتمعات العربية والفارسية والعثمانية، بل والأوردية، والواقع أن وجود شبكات تسبق وجود اللغات والمجتمعات، التي أحيانًا ما تختلف اختلافات جذرية فيما بينها، هو الحال السائد؛ إذ إن وجود مثل هذه الشبكات يمكن افتراض سَبْق وجوده على مختلف اللغات والآداب والمجتمعات الهندية والإفريقية. وعندما يسبق وجود الشبكات وجود اللغات والثقافات والمجتمعات، فإن نمط أحد الأنواع الأدبية الذي ينشأ في أحد الآداب، ولْنَقُلْ إنه الملحمة الكلاسيكية، يمكنه أن يُملي — بل ويُملي فعلًا — كيف ينبغي أن تُكتَب الأعمال الأدبية بلغةٍ أخرى، فيما يتعلق بالبناء والمفردات والعناصر الأخرى، في حين أن الشبكة الفكرية السائدة قد تُملي فعلًا كيف ينبغي تصوُّر شيءٍ من «العصر البطولي» الذي كُتِبَتْ فيه الملاحم، وأنا أعتمد في اختياري ملحمة كاليفالا مثالًا أو نموذجًا اعتمادًا هائلًا حقًّا على الأهمية «العابرة للثقافات» لهذه الشبكات، لسببٍ لا يُستهان به وهو أنني أجهل اللغة التي كُتِبَتْ بها كاليفالا كل الجهل، لكنني أقول إن المفهومَين التوأمين — أي مفهوم القياس ومفهوم الشبكات — يتمتَّعان بأهمية أساسية إلى الحد الذي يُؤكِّد صحة ما سوف أقوله فيما بعد ويدعم أهميته.
وقبل أن أخطو خطوةً أخرى أريد أن أُوضح إيضاحًا تامًّا أن استعمالي مصطلح «سَبْق الوجود» فيما يتعلق بالشبكات المذكورة آنِفًا، ليس المقصود به أية إيحاءات ظاهرة بالفكرة التفكيكية التي تقول ﺑ «الوجود المسبَق دائمًا»، فليست الشبكات محتومة، ولا هي كامنة حتمًا في أية آثار لأي شيءٍ يُحتمَل أن يكون قد وُجِدَ افتراضًا قبل أن يبدأ البشر الكتابة. ولكنها مبانٍ تاريخية أوجدَتْها قوًى واضحةٌ نسبيًّا ويمكن متابعة «آثارها» بيُسرٍ شديد، وهي تُصان لفترة زمنية معيَّنة ثم يجري تغييرها أو نبذها.
كانت اسكتلندا لا تزال تتألَّم بعد وقعة كولودين [التي لقي جيش اسكتلندا فيها هزيمةً مُنكَرة على أيدي الإنجليز عام ١٧٤٦م] وهكذا رحَّبْتُ بنشر شِعر أوسيان [المترجَم] ولكن رد الفعل في أوروبا وصل إلى حد «جنون» الوَلَع. وقد أثبتت البحوث الحديثة أن النصوص كانت تستند إلى مادَّةٍ أصلية ولكن ماكفيرسون [الذي ترجمها] كان يفتقر إلى الخبرة العلمية اللازمة لإنصافها. وفي غضون ذلك كانت الخبرة العلمية تتطوَّر في الجانب الآخر من أوروبا حيث كان المؤرِّخ الفنلندي هنريك جابرييل بورثان وتلاميذه يرَون في ماكفيرسون روحًا تُماثِل روحهم على الأقل.
والذي حدث أن اسكتلندا التي شاهدَتْ نهاية وجودها باعتبارها أمةً مستقلَّة بعد الهزيمة في موقعة كولودين، حاولَتْ تعويض ذلك ﺑ «اكتشاف» أدب قومي، ولا يتَّسِع المقام لذكر التفاصيل الخاصة باصطناع جيمز ماكفيرسون لشعر أوسيان، أو اصطناع أية نصوص أخرى زعم أنه «ترجمها عن اللغة الغيلية أو اللغة الأيرلندية» كما يقول العنوان الكامل لكتابه شذرات من الشعر القديم المنشور عام (١٧٦٠م)؛ فالحقيقة البارزة من زاوية حُجَّتِنا تقول إنه إذا أرادت أمَّة أن تصبح أمَّةً حقًّا في أواخر القرن الثامن عشر، وخصوصًا في القرن التاسع عشر في أوروبا، فإنها كانت تحتاج إلى أدب قومي عريق، بحيث تمتدُّ جذوره حتى تصل إلى «ضباب الزمان» — أو ما يشبه هذه الاستعارة — خصوصًا إذا كانت تلك الأمة لا تستطيع أن تصبح أمَّةً بالمعنى السياسي، أو على الأقل بالصورة التي تريدها.
ولمَّا كان على الأدب القومي أن يضرب بجذوره حتى يصل إلى ضباب الزمان. ولمَّا كان هذا الضباب قد أنتج النوع الأدبي للملحمة، في أقدم الآداب القومية المعروفة آنئذٍ، وهما اليوناني والسنسكريتي، كان على الآداب القومية غير المعترَف بها حتى تلك اللحظة وتريد الانضمام إلى «زمالة» الأدب العالمي، أن تُنشئ ملاحم خاصة بها حتى تدعم قضية «انضمامها». وكان ذلك على وجه الدقة ما فعله ماكفيرسون من أجل اسكتلندا بعد نجاح «أوسيان»: إذ إنه وعد الجمعية الاسكتلندية بملحمة، ثم قدَّم ملحمتين لا ملحمةً واحدة، وصدرت الأولى وعنوانها فينجال، ملحمة شعرية قديمة، في ستة كتب، عام ١٧٦٢م، وأصدر الثانية بعدها بسرعة، وهي تيمورا التي نُشرتْ بعد الأولى بعامٍ واحد.
وكان ذلك أيضًا ما انطلق «المؤرِّخ الفنلندي هنريك جابرييل بورثان وتلاميذه» يعملون من أجل إنجازه لِلُّغة الفنلندية، وفي المقدمة التي كتبها فرايبرج (١٩٨٨م) لترجمته لملحمة كاليفالا نجد أنه يبالغ في تصوير المسألة بقوله: «إن أبناء فنلندا استطاعوا من خلال كاليفالا إنشاد ما يثبت وجودهم»، ولكنهم لم يُنشِدوا ما يُثبِت وجودهم. بل إن وجودهم كان نتيجة إنشادٍ واعٍ تمامًا نتيجةً للمشروع الذي وضعه بورثان، وتبنَّاه فون بيكر، ونفَّذَه لونروت، واستخدام فرايبرج لكلمة «الوجود» المشار إليها تدل على «العملية» التي أحاول تحليلها هنا، فلا يمكن أن يُعنَى ﺑ «الوجود» إلا «الوجود داخل السياق الشامل للأدب العالمي» أو شيئًا من هذا القبيل، ما دام أبناء فنلندا — كما هو مفترض — واعِين بوجودهم. لقد نشأ مشروع بورثان/فوق بيكر/لونروت لأن أبناء فنلندا لم يعودوا قانِعِين بالوجود «لأنفسهم» بل كانوا يريدون اعتراف العالم الخارجي بهم، عالم الأمم الأخرى، وعالم الأدب العالمي.
وفرايبرج على حقٍّ في قوله إن مشروع العثور على ملحمةٍ فنلندية قومية، أو مشروع بنائها كان دليلًا على «المدى الذي وصل إليه تشكيل الحركة القومية في ظل القوة الدافعة للتغيُّرات الجغرافية السياسية، وهي التغييرات التي كانت تتطلَّب استجابةً ثقافية لسد الفجوة، لا العكس.» وعلى الرغم من أن مقولته تقصد فنلندا، فإنها تنطبق أيضًا على أممٍ أخرى، وهي في الواقع من العناصر الأساسية للشبكة الفكرية (لا النصية) للرومانسية، وهي التي كانت مصدر إلهام للروح القومية في شتَّى أرجاء أوروبا، و«استحضرت» رؤيا تبرز فيها جميع الأمم، صغيرها وكبيرها، وقد شغلت مواقعها في «سيمفونية» الأمم. لقد فقدَ أبناء اسكتلندا استقلال أمتهم عندما قام ماكفيرسون (وعلينا أن نذكر أنه نشر ترجمته الخاصة للإلياذة في ١٧٧٣م) ببناء ملاحمهم من أجلهم. ولم يكن أبناء فنلندا قد استطاعوا بعدُ أن يصبحوا أُمَّةً مستقلَّة حين قام لونروت بالعمل نفسه، في المناخ الذي «رسخت فيه جذور فكرة «الدولة – الأمة» الفنلندية في هلسنكي وفي سانت بيترسبيرج، وحين أدرك الناس مغزاها» (برانش، ١٩٨٥م، ص٢٩)، وفي كلا الحالين كان الأشخاص الذين بَنَوا الملاحم حقًّا «لا تشغلهم الأمانة للمصادر بقدر ما يشغلهم إثبات صحة وجود ثقافة قومية» (بوزلي، ١٩٨٩م، ص١٦). ولكن التشابه بين الحالين ينتهي هنا، وحاشايَ أن أزعم أن لونروت كانت لديه أدنى رغبة في معالجة المادة التي جمعها في رحلاته في طول فنلندا وعرضها، بالأسلوب نفسه الذي عالج به ماكفيرسون المادة التي وجدها — أو تظاهر بأنه وجدها — في رُبُوع اسكتلندا.
ولا بد من الإشارة إلى مسألتين قبل أن نُعَلِّقَ على مشروع لونروت بمزيدٍ من التفصيل، الأولى أن اللغة كانت تلعب دورًا أشدَّ غموضًا في بناء وإعادة بناء الملاحم التي تستعملها الأمم ذوات اللغات غير المنطوقة على نطاقٍ واسع، من دورها في إعادة بناء الملاحم للأمم التي كانت لغاتها ولا تزال منطوقةً على نطاقٍ واسع، فمثلًا كان أوائل علماء فقه اللغة الألمان الذين حقَّقوا ونشروا ملحمة نيبلونجنليد [التي كُتِبَتْ عام ١٢٠٠م] قد تمكَّنوا من ذلك باللغة الألمانية، كما هو واضح، ولكن الباحثين الفنلنديين الذين أرادوا بناء (أو إعادة بناء) ملحمة فنلندية قومية لم يكونوا قادرين على مناقشة مشروعهم باللغة التي كانوا يعتزمون إحياء مجدها الذي ضاع من زمنٍ بعيد، «فباستثناء فون بيكر، أستاذ لونروت. كان القوميُّون الأوائل مضطرِّين بالضرورة إلى استخدام اللغة السويدية؛ إذ كانت اللغة الأدبية الوحيدة التي يعرفونها» (فرايبرج، ١٩٨٨م، ص١٣) وعلى غِرار ذلك، كانت جمعية الأدب الفنلندي، التي أُنشِئَتْ عام ١٨٣١م، «مضطرَّةً لكتابة محاضرها باللغة السويدية على مدى عقودٍ طويلة؛ لأنه لم يكن من بين أعضائها مَن يُجيد معرفة اللغة الفنلندية إلى الحد اللازم» (يانيك، ١٩٩١م، ص٥٨). وهكذا فإن اللغة في هذه الحالة، كما كان حالها في الكثير من الأمم الأوروبية الصغرى — وأول مَن يخطر لنا هم التشيكيون والفلمنك — لم تلعب الدور الذي أصبحنا مُهَيَّئين لتصوُّره نتيجة النزعة الرومانسية لكتابة التاريخ، وهي من «التشكيلات» المفترضة وحسب، لك أن تضع خُطَطًا لإحياء الأدب الفنلندي أو التشيكي أو الفلمنكي، ولكنك تضع هذه الخطط باللغات السويدية والألمانية والفرنسية؛ أي لك، بعبارةٍ أخرى، أن تبذل قُصارى جهدك لاستحضار «روح» لغةٍ ما، ولكنك قَطعًا لم تكن «تأثَّرتَ» بها عندما بدأت جهدك اللغوي لتوفير جسد لتلك «الروح».
والمسألة الثانية أن جمهور القرَّاء الفعلي للملحمة القومية، داخل الأولى، لا يكاد يكتسب أية أهمية، والتعليق الحصيف على ملحمة كاليفالا الذي كتبه جون ﻫ. وورينين في موسوعة كوليار يُلخِّص الموقف على النحو التالي: «إذا كان المثقَّفون بعد عام ١٨٣٥م قد هلَّلُوا لملحمة كاليفالا باعتبارها أثرًا باهرًا من آثار التراث الثقافي ومُنجَزات أبناء فنلندا في الماضي السحيق، فإن الملحمة لم تصبح قطُّ كتابًا شعبيًّا أو كنزًا شعبيًّا، (فلقد ظلَّت الطبعة الأولى التي لم تَزِدْ على خمسمائة نسخة كافيةً عشر سنوات) (٧٠٤ أ/ب)، ولكنه لم يكن من المطلوب أن تصبح فعلًا «كتابًا شعبيًّا»، كان يكفي الإعلان عن كونها كذلك، وما دام الرُّكن المطلوب في الشبكة التي تُنظِّم الانتماء إلى «سيمفونية» الأمم قد مُلِئَ فيمكن السماح بدخول اللغة الفنلندية والفنلنديين إلى دوائرها المسحورة، في حين أن ملحمة كاليفالا يمكن استخدامها بمجرَّد نشرها للاستهلاك المحلي. وهذا ما حدث فعلًا؛ إذ كان «يستشهد بها دعمًا لقضية السِّلْم، والضريبة الواحدة، والاشتراكية، ونشر مذهب الحكمة الإلهية، وغيره من المذاهب» (وورينين ص٧٠٤ ب).
وفي عام ١٨٣٥م كتب إلياس لونروت تصديرًا لأول طبعة من عمله، وهي التي أصبحت تُعرَف منذ ذلك الحين باسم كاليفالا القديمة، بعد أن بنى هذه الملحمة استنادًا إلى الشعر الشفاهي الذي جمعه من شتَّى أرجاء فنلندا، ولكن بصفة رئيسية من كاريليا. ويقول لونروت في هذا التصدير إنه تولَّى مهمة بناء ملحمة كاليفالا لأنه كان يتساءل «إن كان من الممكن العثور على أناشيد تتغنَّى بأسلافنا فينامونين، وإلمارينين، وليمنكانين، وغيرهم من أجدادنا المرموقين، حتى يتسنَّى لنا الحصول على قصصٍ أوفى عن هؤلاء — أيضًا — مثلما حصل اليونانيون والأيسلنديون وغيرهم على أناشيد عن أسلافهم» (مترجِمةٌ في ماجون، ١٩٦٣م، ص٣٦٦)، النموذج واضح. ولم يكن قَطعًا من وَضْع لونروت وحده. والواقع أن كارل أكسلي جوتلوند كان قد كتب في عام ١٨١٧م يقول: «إذا رغب المرء في جمع الأناشيد التقليدية القديمة وأن يصنع من هذه وحدةً منتظمة متكاملة، فربما خرجت منها ملحمة، أو مسرحية، أو سوى ذلك، وبحيث ينشأ من هذا هوميروس أو أوسيان جديد، أو ربما وُجِدَتْ لدينا ملحمة نيبلونجنليد»، (مترجمة في ماجون، ١٩٦٣م، ص٣٥٠). وقد قرَّر لونروت أن يفعل ذلك على وجه الدقة. فعندما جمع «الأناشيد التقليدية القديمة» وصاغها في عملٍ واحد متكامل، كان يفعل ذلك ومثال الملحمة لا يبرح ذهنه. ويقول برانش «إنه كان يلقى التشجيع على عمله هذا من النظريات المعاصرة حول جمع مادة الملاحم في الأدب اليوناني الكلاسيكي؛ إذ تقول هذه النظريات إن «هوميروس» لم يكن مبدعًا بقدر ما كان جامعًا ومُنظِّمًا للأساطير والحكايات الشعبية» (ص٣٠).
وعلى الرغم من وضوح النموذج، فقد كانت مسألة صَوْغ المادة حتى تُلائِمه أقلَّ وضوحًا. وقد بذل لونروت قُصارى جهده، وليس بأهون ذلك شأنًا تجريد الشِّعر الشعبي الذي جمعه من جميع العناصر التي قد تُناقِض — فيما يبدو — زَعْمَه بأن الملحمة التي يبنيها ذات جذورٍ في ضباب الأزمان السحيقة: «فالإشارات الكثيرة في المادة الأصلية إلى معالم مسيحية محذوفة بوضوح من ملحمة لونروت. وإذا وُجِدَتْ، كان ذلك يرجع إلى أن لونروت لم يدرك أنها مسيحية الطابع» (برانش، ١٩٨٥م، ص٣٢). وكانت هذه الإشارات قد أدخلها في المادة الأصلية التي جمعها لونروت بعض المُبشِّرين والكُهَّان المسيحيين، الذين لم يتردَّدُوا «اعتبارًا من القرن الثاني عشر في استعارة شكل شعر كاليفالا ومضمونه لتوصيل مذهبهم الجديد» (برانش، ١٩٨٥م، ص٢٥)؛ إذ كانوا يستخدمون في الواقع ذلك الشعر باعتباره نموذجًا لهم، ويستخدمون الشبكة اللغوية/الأدبية لتسلل عناصر فكرية جديدة.
ونشهد أشد محاولات لونروت تركيزًا ووعيًا بتقديم مثالٍ للملاحم الكلاسيكية/الجرمانية الشمالية في ما يُسمَّى «دورة كوليرفو»، الواردة في الأناشيد ٣١–٣٦ من الطبعة الثانية لملحمة كاليفالا عام ١٨٩٤م، ويُوجِّه كيربي أنظار قُرَّائه إليها بصفة خاصة، في تصديره لترجمته، واصفًا إيَّاها بأنها «مأساة رهيبة، قُورِنَتْ بمأساة أوديب» (ص١٣)، وتأكيدًا لمقولته ودعمها دعمًا أكبر، يُشير إلى المثيل الوحيد باللغة الإنجليزية لملحمة كاليفالا، قائلًا: إن كوليرفو «تُعتبر في أحد جوانبها النموذج الأوَّلي لقصيدة «كواسيند» التي كتبها لونجفيلو» (ص١٣)، وفي عام ١٩٨٥م، لا قَبْل ذلك، تخلَّى برانش أخيرًا عن التشبيه المذكور في مقدمته لأحدث طبعة جديدة لترجمة كيربي التي نجحت نجاحًا ساحقًا؛ إذ يُشير إلى أن «دورة كوليرفو (الأناشيد ٣١–٣٦) التي كان لها تأثيرٌ كبير في فنون وموسيقى آخر القرن التاسع عشر في فنلندا، ليس لها نظير في التراث الأصيل» (ص٣١)، ويُضيف قائلًا: إن لونروت نفسه هو الذي قام في عام ١٨٤٩م «بتحويل كوليرفو إلى بطل شبيه بأوديب وهاملت» (ص٣١) والأرجح أن يكون ذلك لأنه كان يرى أن أمثال هؤلاء الأبطال يمكن أن يشغلوا مواقع مناسبة في ملحمةٍ جديرةٍ بهذا العنوان. وهكذا نرى أن قوة القياس تتَّضِح في كون تأثير ثيمة كوليرفو تأثيرًا أصليًّا، ويمكن رَصْدُه في «فنون آخر القرن التاسع عشر وموسيقاه في فنلندا»، بل أصبح يُشكِّل فعلًا جانبًا منها، بغضِّ النظر عن وجود تلك الثيمة في المادة الأصلية أو عدم وجودها.
وقد وصلنا الآن إلى بيت القصيد في هذه الحُجَّة، فعلى الرغم من أن لونروت بذل قُصارى جهده، فإن ملحمة كاليفالا، كما يقول ماجون «لا تشبه على الإطلاق» (ص١٣) السِّمات المرتبطة بالملاحم الكلاسيكية، أو حتى القصص البطولية للشعوب الجرمانية الشمالية، إذا كان للمرء أن يتوقَّع أن تظهر في تلك الأعمال ما يشبه «الحُبْكة الموحَّدة إلى حدٍّ ما، أو الحبكة التي تتَّصِل حلقاتها، وأن يكون أبطالها مقاتلين أغنياء أرستوقراطيين، يُنجِزون فِعالًا تنمُّ على شجاعتهم، ويُظهِرون مستوًى رفيعًا من سَعَة الحِيلة والقدرة على المبادرة، وذلك في أحيانٍ كثيرةٍ أيضًا على نطاقٍ واسع» (ص١٣)، وإذن فإن لونروت لم ينجح في وضع ملحمة قياسًا على الملاحم الكلاسيكية/الجرمانية الشمالية، وإن لم يكن لذلك، في نهاية المطاف، أهميةٌ للعالم الخارجي؛ إذ إنه لمَّا كان لونروت قد أراد لعمله أن يُسمَّى «ملحمة»، كان للعالم الخارجي، الذي خضع لونروت لشبكتَيه التوأم، أن يشكره، على الأقل لنحو خمسين سنة، وهي المدة الباقية من عمر الشبكتَين التوأم اللتَين كانتا سائِدتَين عندما بدأ العمل في ملحمة كاليفالا، وأن يتجاهل أنَّ وَصْف كاليفالا بالملحمية «قد أضرَّ إلى حدٍّ ما بالعمل؛ إذ أثار عند القُرَّاء توقُّعاتٍ من المستبعَد تحقيقها» (ماجون، ١٩٦٣م، ص١٣)، وباستثناء أصوات قلَّةٍ من المنشقِّين، يصف ما يلي المراحل التي تحوَّلَتْ بها كاليفالا، في أول ترجمتين إنجليزيتين لها، وخصوصًا الأولى منهما، إلى مثيلٍ واضح للملاحم الكلاسيكية/الجرمانية الشمالية، بل أشد وضوحًا ممَّا حقَّقَه نصُّ لونروت الأصلي يومًا ما، وأنا أزعم أن تحقيق هذا التماثُل يُثبِت الأهمية الغلَّابة لا للنظام النَّوعي السائد في الأدب العالمي، منذ زمن لونروت وحتى بدايات الحداثية فحسب، بل يُثبِت أيضًا الأهمية الغلَّابة للتشكيلات التحليلية، والنُّظُم النصية، والشبكات، وما إلى ذلك، في ذواتها، فليست الكلمات المستخدمة في الإشارة إلى الواقع مهمة. بل إن الواقع نفسه هو الذي يكتسي أقصى أهمية، ما دام يُظهِر، بأوضح صورةٍ ممكنة قوة القياس، في الاتجاهين جميعًا. ولمَّا كان المفهوم السائد ﻟ «الأدب العالمي» في زمنه يقضي بأن تبدأ جميع الآداب القومية بالملاحم، فقد فعل لونروت ما في وُسْعِه لتحقيق ذلك داخل سياق اللغة الفنلندية والثقافة الفنلندية، بخَلْقِ مثيلٍ مقبول، وعلى العكس من ذلك. فإذا ظُنَّ أن ذلك المثيل ناقص، فإن المفهوم السائد ﻟ «الأدب العالمي» يمكن أن يزيد أوجه شَبَهِه بما ينقصه، وغنيٌّ عن البيان أن قوة النظام النصي قد استفادت واستعانت في ذلك بالواقع الذي يقول: إن معرفة اللغة الفنلندية كانت — ولا تزال — غير منتشرة خارج فنلندا. وهكذا فإن الترجمة الإنجليزية لملحمة كاليفالا كانت تقوم بوظيفة الأصل قطعًا عند قُرَّائها من الناطقين بالإنجليزية، ومن المُحال في أية لحظة، ومهما اشتطَّ بنا الخيال أن نقول إن اللغة الفنلندية كانت «حاضرةً في الخلفية» بالنسبة لقُرَّاء النص الإنجليزي لملحمة كاليفالا، مثل حال اللغتين اللاتينية واليونانية، على الأقل حتى عام ١٩٢٠م، بالنسبة لقُرَّاء الإنيادة الإنجليزية، أو الإلياذة الإنجليزية، أو الأوديسية الإنجليزية.
إن طبعة ١٩١٠م من دائرة المعارف البريطانية ترصُدُ الفرق بين ملحمة كاليفالا والملاحم الكلاسيكية/الجرمانية الشمالية، قائلةً: «بينما تشغل إراقة الدماء موقعًا بارزًا في ملاحم العالم القديمة الأخرى، نجد أن ملحمة كاليفالا تتَّسِم برقَّةٍ حقيقية، وبالطابع الغنائي بل والمنزلي، وتُصوِّر تصويرًا مُطوَّلًا مواقف ذات جمالٍ أخَّاذ وعواطف رومانسية» (المجلد ١٥، ص٦٤٠ ب)، وعلى غِرار ذلك امتدح ماكس مولر ملحمة كاليفالا «لِتَساويها مع الإلياذة في الطول والاكتمال»، ثم استدرك قائلًا — إذ كان صوت انشقاقٍ وحيد: «لا بل إنها لا تقِلُّ جمالًا عنها، إذا نسينا مؤقَّتًا كل ما تعلَّمْنا في صِبانا أن نصِفَه بالجمال، فليس الفنلندي يونانيًّا» (مقتطف في كروفورد، ١٨٨٨م، ص٣٩).
وأما الشخص الذي كان له أكبر تأثيرٍ في «استقبال» ملحمة كاليفالا في إطار القياس فكان أول مترجِمٍ لها إلى اللغة الإنجليزية، جون مارتن كروفورد. ولم يكن يعرف اللغة الفنلندية، بل بنى ترجمته على الترجمة الألمانية التي نشرها أنطون شيفنر عام ١٨٥٢م، ولا تزال حتى اليوم إحدى الترجمتين الألمانيتين اللتَين تستندان فعلًا إلى النص الفنلندي، وقد تعرَّضَتْ هذه الترجمة لإعادة الكتابة والتعديل عدَّة مرات، على أيدي أشخاص ممن زعموا ترجمة ملحمة كاليفالا إلى اللغة الألمانية. وكان من أبرزهم مارتن بوبر، ومِن بالِغ الأهمية أن نذكر هنا، دون لبسٍ أو غموض، أن كروفورد لم يسْعَ عامِدًا إلى إحداث ما أحدثه من تأثيرٍ في إطار القياس، وعلى الأقل ليس إلى نفس الحد الذي يُميِّز بناء لونروت الواعي لملحمة كاليفالا، ولكن استيعاب كروفورد للشبكتين التوأم السائدتين في عصره كان على وجه الدقة السببَ فيما فعله. وكان يرى أن ما فعله أمرٌ بديهي، ويعتقد أن ما فعله يعود بأكبر فائدةٍ على الأصل الذي يترجمه.
ويقوم كروفورد في مقدمته الطويلة بتهيئة القارئ [لِتَقَبُّل نظرته] إذ يُقرِّر بألفاظٍ لا تحتمل التأويل أن كاليفالا ملحمة، وأنها بذلك «تُمثِّل طابع الملحمة القومية تمثيلًا صادقًا» فهي «لا تقتصر على تمثيل شِعر الأمَّة، بل تُمثِّل الحكمة والخبرات المتراكمة لهذه الأمَّة» (ص٤٣)، وهو ما يتطلَّب إذن تعريف القارئ بالمزيد عن تلك الأمَّة، وليس من قَبيل المصادفة أن يرمي وصف كروفورد للفنلنديين في عصره، فيما يبدو، إلى رسم صورة الحياة في العصور الساذجة «البطولية» لأسلافهم، فيقول للقارئ «إن الوداعة تكسو الجميع» (ص٦) وإنهم ذوو «قلوبٍ هانئة» (ص٦) إلى جانب كونهم «شعبًا يتميز بالنظافة، مُغرَمًا باستعمال حمَّامات البخار» (ص٦)، وأخيرًا يقول: إن الفنلندي (الأصيل) «ليس بخيلًا، ولكن إقامة الصلة معه ليست بالغةَ اليُسر، كما أنه لا يحب الأساليب الجديدة» (ص٦)، وليس من المدهش بالنسبة للباحث كيربي، الذي يشارك كروفورد إيمانه باستراتيجية القياس، أن يشعر أنه مدعُوٌّ أيضًا إلى وصف الفنلنديين بأنهم شعبٌ يتَّسِم بالتقوى، والجد والاجتهاد، والالتزام بالقانون، كما أن الطبقات الراقية تَنعَم بالتعليم العالي» (ص٧).
وجوهر استراتيجية القياس عند كروفورد أن يُقِيم معادلات منتظمة بين ما وجده في كاليفالا وبين نظائره في الأساطير اليونانية والأدب اليوناني الكلاسيكي، وأشملُ مقولةٍ له في هذا الصَّدَد إن «الأرباب الفنلندية، مثل الأرباب القديمة في إيطاليا واليونان، تُقدَّم عمومًا في ثُنائيات، وجميع الأرباب متزوجون على الأرجح» (ص١١). ويقول — بمزيدٍ من التخصيص — إن الرب أوكو الفنلندي «يشبه الرب أطلس في أساطير اليونان» وكذلك «نجد الاسمين «ماإماي (الأرض الأم) و«مان إيمو» (أم الأرض) يُطلَقان على الصورة الفنلندية للربة ديميتر [اليونانية]» (كروفورد، ١٨٨٨م، ص٢٠)، وليس من المدهش إذن أن أرواح الموتى الفنلنديين عليها أن تعبُر «نهر ستيكس الفنلندي» (كروفورد، ١٨٨٨م، ص٢٦) حيث تتولَّى «كبرى بنات توني» (غير المُسمَّاة) الإبحار بالأرواح عبر النهر «مثل خارون، ابن إيروبوس ونوكس، في الأساطير اليونانية» (كروفورد، ١٨٨٨م، ص٢٧). وأما أَخَصُّ إشارة عند كروفورد، وأشد إشاراته إثارةً للخلاف حول المعادلة المفترضة، فتتعلَّق بشيءٍ غامض يُدعَى سامبو، وهو الذي لا يُوصَف بالتفصيل قط، ولا يرِدُ له تعريفٌ في أي مكانٍ في كاليفالا، وإن كان المعتقَد أنه شيءٌ يشبه العمود الذي يحمل قُبَّة السماء نفسها «مع الفِراء الذهبي لحملة الأرجونوتيكا» (كروفورد، ١٨٨٨م، ص٤١)، ومما له دلالته في هذا الصَّدَد أن طبعة ١٩٧٢م من دائرة المعارف البريطانية لم تَعُدْ تُبالِغ مبالغة كروفورد، وإن كانت لا تزال تسير في الاتجاه نفسه فتخبر القُرَّاء أن «سامبو يمكن اعتباره رمزًا للتقدم المادِّي والرُّوحي للإنسان» (المجلد ١٣، ص١٩١، ب)، ولا يقتصر كروفورد على إقامة التعادُل فيما بين الشخصيات وفيما بين الأشياء. بل إنه يتناول أيضًا نقاطًا خاصَّة بالبناء، فيقول: «وكثيرًا أيضًا ما يُقدَّم إلينا ما لا نتوقَّعه بأسلوب الدراما اليونانية، وذلك من خلال طفلٍ صغير أو رجُلٍ هَرِم» (ص٤٢). وقد استمرَّ الباحثون يشهدون بنجاح استراتيجية كروفورد حتى عام ١٩٥٣م، وهو العام الذي ظهرت فيه موسوعة كاسيل للأدب، وهي التي تقول إن كاليفالا «تتكوَّن من السعي في طلب سامبو على غِرار ملحمة الأوديسية؛ أي الطاحونة السحرية، والحرب التي تشبه الحرب التي تُصوِّرُها الإلياذة، بين كاليفالا (فنلندا) وبوهيولا (لابلاند، وتعني حرفيًّا أرض الشمال)» (ص٣١٧ أ).
وما دامت كاليفالا ملحمة، فلا بد أن يكون لها مُعادِلٌ هوميروسي، ويسعد كيربي أن يُؤدِّيَ المطلوب بالعبارة التالية: «سوى يتَّضِح أن لونروت قد ألَّف كاليفالا من المواويل الغربية (البالادات) القديمة، وهو ما يشبه إلى حدٍّ كبير ما يُقال من أن أشعار هوميروس، أو على الأقل الإلياذة والأوديسية قد أُلِّفَتَا في نسيجٍ واحد بناءً على أمر بيزايستراتوس» (ص٨)، ويصف كروفورد «الباحث» لونروت بالمزيد من التفاصيل، ولا عجب في أن هذه التفاصيل تلائم الدور المَنُوط به، فيقول إنه كان «يجلس بجوار المدفأة مع كبار السن، ويضرب المجداف في الماء في القوارب التي يركبها مع صيَّادي الأسماك في البُحَيرات، ويسير مع الرعاة خلف قُطعانهم» (ص٣٦) فكاد يكون والدًا لأبناء شعبه، وإن كان قَطعًا باحثًا «أَشربَ حُبَّه قلوبَ البسطاء حتى أعانوه طائعين في جمع هذه الأناشيد» (كروفورد، ١٨٨٨م، ص٣٦–٣٧)، ولو كنا نعرف من مصادر أخرى أن لونروت كان يحرص على تقديم ما يكفي من الخمور ﻟ «البسطاء» لحثِّ ذاكرتهم، ولا عجب أيضًا أن الملحمة القومية قد أحالت مَن وضَعَها إلى شخصيةٍ قومية، وقَطعًا داخل فنلندا، والموسوعة الأدبية الفنلندية إيسو تيتو ساناكيريا تصف لونروت في طبعتها عام ١٩٣٥م على النحو التالي: «من الناحية الإنسانية يُعتبَر لونروت رمزًا للفنلندي الحق، وحتى لو حاولنا فلن نجد فيه أية خصالٍ بغيضة؛ إذ كان يتميز بالخصائص التالية: الجهد الذي لا يكِلُّ ولا يمَلُّ، والقدرة على التركيز، والحَزْم الهادئ، وروح الفُكاهة الحنون في جميع الظروف، والتعقُّل والتسامُح، وانعدام الادِّعاء تمامًا، والتواضع المسيحي الحق» (مترجِمةٌ في ماجون، ١٩٦٣م، ص٣٤٨).
وأمَّا على مستوى الترجمة الفعلية، فكون كاليفالا ملحمةً قَطعًا، ولها بحرها الشعري الخاص، له عواقبه، فإن كروفورد (١٨٨٨م) يرسم مرةً أخرى صورة الفنلنديين في عصره (وإن لم يعرفهم خير المعرفة) بحيث يظهرون في الملحمة وقد اكتنفهم ضباب الزمان، وهي صورةٌ مثالية؛ إذ يقول: «إن الكلام الطبيعي لهذا الشعب هو الشِّعر؛ فالشُّبَّان والعَذارى، وكبار السن والسيدات، يستخدمون النظم دون وعيٍ في تبادُل أفكارهم، وطبيعة لغتهم تساعدهم على هذا، خصوصًا لأن ألفاظهم تُوحي بشدَّة ببحر التروكي [المتقارب العربي]» (ص٤٥)، وغنيٌّ عن البيان أنه لا بد من محاكاة هذا البحر في الترجمة؛ لأنه عنصرٌ من عناصر التراث الملحمي المقدس، حتى ولو أدَّت هذه المحاكاة إلى بروز بعض المشكلات العملية، ولْننظر إلى تقدير كيربي للموقف الذي يتَّسِم بواقعيةٍ أكبر؛ إذ يقول: «إن المقطع الأول من كل كلمة مَنبُور، وهو ما يجعل من العسير إخضاع كلمات مثل كاليفالا للبحر الشِّعري، لكنني حاولتُ أن أبذل قُصارى جهدي» (ص٨)، حتى وإن لم تكن المشكلة مقصورةً على كاليفالا وحدها. والواقع أن كيربي (١٩٠٧م) واجهَ «صعوبةً رئيسية وهي إدراج الأسماء الفنلندية في بحرٍ شعريٍّ إنجليزي بسيط من أجل الإبقاء على صحة نُطقِها» (ص٩). ومع ذلك فهو يُصِرُّ على أن نجاحه فاقَ نجاح «لونجفلو» الذي تُعتبر قصيدته «أنشودة هياواثا» مجرَّد محاكاة ضعيفة لكاليفالا (كيربي، ١٩٠٧م، ص٨).
ولم يختلف الحال إلا بعد تعديل النظام النصي، بعد الحرب العالمية الأولى، عندما دعا ماجون (١٩٦٣م) إلى عدم محاكاة البحر الشعري للأصل، قائلًا: إن هذه «الرتابة الإيقاعية يُؤسَف لها، وطابع هذا البحر يُمثِّل قيودًا نأسف لها أسفًا أكبر؛ إذ لا تكاد تسمح للمترجم بأي قدرٍ من الحرية في الترجمة اللازمة أو الكاملة للكثير من الأشعار في النص الأصلي» (ص١٦)، وبوزلي (١٩٨٩م) أيضًا لا يلتزم بالبحر الشعري الأصلي، مستندًا إلى التاريخ (وهو ما يُعتبَر إعلاءً لسلطة نظام نصيٍّ على سلطة نظام آخر) في عمله، قائلًا: «إن الترجمة الحالية تختلف عن منهج كثيرٍ من مترجمي الملحمة إلى لغاتٍ كثيرة في استخدام بحرٍ شعريٍّ آخر بدلًا من البحر الأصلي؛ فلقد كان هذا — على أية حال — المنهجَ المُعتاد في الإنجليزية منذ ترجمة جافن دجلاس للإنيادة» (بوزلي، ١٩٨٩م، ص٤٦)، ووَفْقًا لذلك يتَّبِع بوزلي البحر الشعري الخاص به، «مثل أي بحر ينشأ وَفقًا لمقتضيات الترجمة، ولا يختلف ذلك عن النَّظْم المرسَل نفسه الذي اخترعه سَرِي لترجمة شعر فيرجيل» (بوزلي، ١٩٨٩م، ص١)، وفرايبرج (١٩٨٨م) يقلُّ تجديده عن بوزلي، «وإن لم يتردد … في اللجوء إلى التغييرات العارضة في النَّسَق النَّظْمي، حتى يتجنَّبَ أحيانًا الرتابة القاتلة في ترجمة كروفورد أو كيربي» (سكولفيلد، ١٩٨٨م، ص٣٣).
ويتبقَّى في النهاية أن ننظر في بعض الأمثلة المأخوذة من الترجمات نفسها. وقد اقتصرتُ في هذه على مختاراتٍ من النشيد ١٣، الذي وضعَتْ له الترجمات المختلفة عناوين بالغةَ التفاوت. ففي ترجمة كروفورد يُسمَّى هذا النشيد «خطبُ وُدِّ ليمنكاينين للمرة الثانية»، وذلك تمشِّيًا مع المفردات الراقية التي يستخدمها في العمل كله، لزيادة دعم التماثُل مع الملحمة، فإن لم يتحقَّق التماثُل مع هوميروس، تحقَّقَ مع الترجمات الفكتورية له، ويسميه كيربي «أُيَّل هيسى»، مُراهنًا على أن اسم الشخص الغريب سوف يُحدِث تأثيرًا مشابهًا لتأثير الملحمة، وماجون يسميه «القصيدة ١٣» بأسلوبٍ مبتذَلٍ إلى حدٍّ ما، وبوزلي يسميه «أُيَّل الشيطان»، وفرايبرج يسميه «طِراد الأُيَّل»، تمشِّيًا مع استراتيجيته الخاصة، وهي التي يُميِّزها بالتضادِّ مع أسلافه الأقدمين قائلًا: «إن الترجمات الإنجليزية السابقة قد أخفَتْ كثيرًا من مواطن سحر القصيدة، بما في ذلك مفاتنها البسيطة والفكرية؛ إذ لم يكن المترجمون يشعرون دائمًا بالأُلفة والارتياح إلى النص. وربما كانوا يتعاملون معه بجِدٍّ يكاد يزيد عما فيه من جِد» (سكولفيلد، ١٩٨٨م، ص٣٨)، وأرجو أن أكون قد أوضحتُ أن الأقرب إلى الحق أن نقول إن بعض المترجمين مثل كروفورد، ومثل كيربي — بدرجةٍ أقل — لم يكن أمامهم سوى أن يأخذوا القصيدة مأخذ الجِدِّ التام بمجرَّد مرورهم خلال الشبكة النصية الخاصة بعصرهم، فليس من المفترَض أن تكون الملحمة فَكِهة، ولا أن تكون بسيطةً قَطعًا. وإذا كان من شأن هاتين الخصيصتين أن تَبرُزا لسوء الحظ في أصلٍ تُطلَق عليه صفة الملحمة، مهما يكن الأمر، فلن تستطيعا قَطعًا النفاذ إلى الترجمات، لكنه ما إن يتغير النظام النصي حتى يُصبِحَ في إمكان بوزلي أن يكتب في تصديره: «إنَّ في كاليفالا عناصر من الموضوع وجَوًّا عامًّا لا وجود له في الملحمة والرومانسات التي عَهِدتُها في التراث الأوروبي منذ هوميروس وحتى القرن الثامن عشر» (ص٧).
وسوف يزداد وضوح الاستراتيجيات المختلفة المُتَّبَعة في هذه الترجمات عند مقارنة أحد هذه العناصر — ولتكن بعض سطورٍ «بسيطة» في الترجمات المختلفة — كما سيزداد وضوح مدى إملاء النُّظُم النصية لهذه الاستراتيجيات. ففي النشيد ١٣ كله نرى البطل، واسمه ليمنكاينين، والذي يقول كروفورد إنه «هَرِمٌ» (١٨٨٨م، ص١٧٥) وهو يُطارِد أُيَّلًا حتى يُقدِّمَه مَهْرًا إلى امرأةٍ يصفها كروفورد بأنها «مضيفة بوهيولا» (ص١٧٥) في مقابل الحصول على إحدى «عذاراها الفاتنات» (ص١٧٥) في ترجمة كروفورد، وأمَّا في ترجمة كيربي فهنَّ يُصبِحنَ «بناتها البديعة» (ص١٣٠)، و«العذارى» (ص٧٦) في ترجمة ماجون، و«الفتيات» (ص١٤٧) في ترجمة بوزلي، و«البنات» (ص١١٦) في ترجمة فرايبرج، وعلى غِرار ذلك نجد أن ليمنكاينين يُوصَف بأنه «نشيط» عند كيربي، و«مُتهوِّر» عند ماجون، و«فاسق» عند بوزلي، و«متمرِّد» عند فرايبرج، وذلك، لا شك؛ لأن معنى الكلمة في الأصل الفنلندي ليس واضحًا كل الوضوح، وكلمة «المضيفة» في ترجمة كروفورد تُصبِح عند كيربي «عجوز بوهيولا»، وعند ماجون «سيدة المزرعة الشمالية»، وعند بوزلي «حَيْزَبُون الأرض الشمالية»، وعند فرايبرج «سيدة بوهيولا».
وما دام ليمنكانيين سوف يُطارِد أُيَّلًا فمِن المنطقي أن يحتاج إلى ارتداء أحذية تصلُح للسير فوق الثلج، وليست هذه من المُعدَّات البطولية إذا شاء المرء أن يقارنها مثلًا بدرع أخيليس في الإلياذة. ومع ذلك فإن كروفورد يبذل قُصارى جهده في وصف إعداد هذا الحذاء قائلًا: «ثم قام بإحكام ربط أربطة الحذاء/والخشب فيه أملس مثل جلد الأفعى/وحلقاته في طراوة فِراء الثعلب» (ص١٧٩)، ويُغيِّر كيربي «الأفعى» إلى «قضاعة» قائلًا: «وهو يُبطِّن الهيكلين بجلد القُضاعة/والحلقات بفِراء الثعلب الأحمر» (ص١٣١)، وكِلا الوصفين يُؤكِّد فن الصنعة الذي يُبديه «ليليكي»، صانع أحذية السير على الثلج، الذي يُصبِح بهذا مُعادِلًا في القطب الشمالي لشخصية هيفيستوس [رب النار والحِدادة في الأساطير اليونانية]. إن أخذنا ورقةً من كتاب كروفورد. ولكن الأصل لا يأبه لفنِّ الصنعة نفسه، ولكن للأجر الذي سوف يتقاضاه الصانع، في مقابل جهده، وتلك حقيقةٌ أخرى من حقائق الواقع الدُّنْيَوي التي يصعُب إدماجها في الملحمة، وينتفع ماجون بالترخيص الذي يُتيحه نظامٌ نصيٌّ مختلف فيقول في ترجمته: «تكلَّفَتْ قناة العمود جِلد قُضاعة/وتكلَّف القرص فِراء ثعلبٍ أحمر» (ص٧٧). ويقول بوزلي: «تكلَّف العمود قُضاعة/وقرص الثلج ثعلبًا بُنِّيَّ اللون» (ص١٤٩). ويقول فرايبرج: «قَدَّمَ جِلد قُضاعة ثمنًا للعمود/وثعلبًا أحمر ثمنًا للقرص» (ص١١٦).
وتُؤكِّد ألفاظ كروفورد الرفيعة وجودها حتى في الأوصاف البسيطة، فهو يقول مثلًا إنه لا يرى «قطيعًا من غزلان الغابة» (ص١٧٨). ويقول كيربي وفرايبرج إنه لا يرى «حيوانًا واحدًا يجري على أربع» (ص١٣٢ / ١١٧)، ولا يرى، عند ماجون، «أيَّ كائنٍ يجري على أربعة قوائم» (ص٧٧)، وبوزلي لا يرى «[شيئًا] يجري على أربعة حوافر» (ص١٤٧).
وعلى غِرار ذلك. فعندما يُحذِّر ليليكي البطلَ ليمنكاينين أنَّ فُرَصَ نجاحه ضئيلة، يكتب كروفورد نصًّا زاخرًا بالمصير الملحمي، مع إلماحٍ إلى الغريب والعجيب قائلًا: «لن تجنيَ إلا الألم والعذاب/في مستنقعات وغابات هيسي» (ص١٧٧). ويقول كيربي: «لن يُكافَأَ جهدك إلا/ بقطعةٍ من الخشب العفِن» (ص١٣١)؛ وهو تعبيرٌ أبسط إلى حدٍّ كبير ولكنه لا يُوحي قَطعًا بالمصير المُدْلَهِمِّ مثل ترجمة كروفورد، ونصُّ ماجون يواصل اقترابه من نص كيربي؛ إذ يقول: «سوف تحصل على قطعةٍ من الخشب العفِن/مع قدرٍ كبير من التعاسة» (ص٧٦)، ويستمرُّ اقتراب بوزلي من كليهما إذ يقول: «ستحصل على نفايةٍ من الخشب العفِن/مع قدرٍ هائل من الأحزان» (ص١٤٨). وأما فرايبرج فيأتي بصياغته الخاصة قائلًا: «لن تجنيَ شيئًا في مقابل جهدك إلا قطعة خشبٍ فاسدة مُجوَّفة» (ص١١٦). ثم يُضيف هامشًا يقول فيه: «إنَّ صانِع الزَّحَّافات يُقدِّم تحذيرًا مُنصِفًا، فهو يعرف الحِيَل التي تستطيعها الشياطين؛ إذ تستطيع أن تخلُقَ الوهم في ذهن الصيَّاد بأنه يشاهد أُيَّلًا؛ ومن ثَمَّ يطارده ويقتله، ولكنه يكتشف وجود جذع شجرةٍ متعفِّن في مكان جسد الأُيَّل» (ص١١٦). وهذا الهامش يزيد من إيضاح حبكة القصة للقارئ الذي لا يعرف شيئًا عن الشياطين الفنلندية في العصر البطولي والحِيَل التي تستطيع اللجوء إليها.
وفي أواخر النشيد ١٣ ينجح ليمنكاينين في اقتناص حيوانٍ يسمِّيه كروفورد «أُيَّلًا أمريكيًّا بَرِّيًّا ضخمًا» (ص١٨٢). ويقول كيربي وماجون إنه «أُيَّلُ الرَّنَّة» (ص١٣٥ / ٧٩). ويقول بوزلي وفرايبرج إنه «أُيَّلٌ» وحسب (ص١٥٣ / ١١٩)، وترجمة كروفورد تنفرد بقولها إنه «تكلَّمَ مرة أخرى بنبراتٍ شعرية [مع الأُيَّل الأمريكي]» (ص١٨٢). وأما الترجمات الأخرى فتقول إنه تكلَّمَ وحسب مع الحيوان، دون تدخُّلٍ من جانب الكاتب، وبعد فوز ليمنكاينين بقَنْص الحيوان؛ ومن ثَمَّ بالمهر المطلوب، يبدأ التفكير فيما عساه أن يحدُث حين يُقدِّم المهر إلى العجوز، فيجعله كروفورد يقول: «أوَدُّ أن ألبَثَ قليلًا/أودُّ أن أستريح لحظةً/في كوخ فتاتي/مع عذرائي الشابة الجميلة» (ص١٨٢)، وأما كيربي فيرفع من مستوى المفردات الملحمية، أو بالأحرى يجعلها ذات جرسٍ يُذكِّرنا بترجمات الإلياذة والأوديسية والإنيادة في العصر الفكتوري؛ فالسطران الأوَّلان عنده يقولان: «ألا ليتني أستطيع التمهُّل قليلًا/والنوم بُرْهةً كي أستريح» (ص١٣٥)، وفي السطر الأخير عنده يُقدِّم عنصرًا لا يوجد في ترجمة كروفورد قائلًا: «وهنا بجانب عذراء شابة/مع حمامةٍ تفتَّحَتْ أزهار جمالها» (ص١٣٥). والحمامة تُمثِّل بوضوحٍ كيف حوَّلَ كيربي صورة طائرٍ متواضع إلى طائرٍ يليق بالملحمة، وهي تصبح في ترجمة ماجون «فرخًا ينمو» (ص٧٩) وَفْقًا لاستراتيجيته التي يُعلِنُها والتي تقول: «إن استخدام لغةٍ بسيطة مباشرة رصينة أمرٌ لا بأس به فيما يبدو، بحيث تقتصر على الحد الأدنى من الكلمات المُتَقَعِّرة أو اللغة الرفيعة، من دون استخدام اللغة الدارجة، وإن كان المصطلح اللغوي العاميُّ يبدو مناسبًا في الكثير من الحوارات» (ص١٦). وإذا كان يقصد ﺑ «الكلمات المُتَقَعِّرة» و«اللغة الرفيعة» الهجوم على سَلَفَيْ ماجون المذكورَين، فإن الإشارة إلى اللغة «الدارجة» قد تكون موجَّهةً ضد المترجمَيْن اللذَين جاءا بعده، وإن كان من الأرجح أن يقبل السطرين الأوَّلين عند بوزلي، وهما: «هذا هو المكان الذي يناسبني/إنه المكان الذي يليق بي أن أرقد فيه» (ص١٥٣)، ويحاول فرايبرج أن يلتزم باستعمال اللغة المباشرة، ولكن مع إضفاء رنَّةٍ صوتية أو جرسٍ يرمي إلى الإيحاء بجرس ألفاظ الأصل، أو على الأقل بتأثير هذا الجرس: «هذا فراشُ ليِّنٌ هنا يناسبني/وما أشد نعومة هذه الحَشِيَّة الصالحة للرُّقاد» (ص١١٩). وأما «الفرخ» الذي ذكره فرايبرج فهو هنا «بُرْعُمٌ بدأ يتفتَّح» (ص١١٩)، في حين يأتي بوزلي بتعبيرٍ ربما كان ركيكًا إلى حدٍّ ما، وهو «إلى جوار عذراء شابة/مع دجاجةٍ في طَور النمُوِّ» (ص١٥٣).
والواضح إلى حدٍّ ما أن كروفورد يسير بانتظامٍ في «درب الشُّموخ»، في مقدمته وفي ترجمته، ويتبعه كيربي إلى حدٍّ بعيدٍ نسبيًّا في ذلك، وإن كان يقول أيضًا إن كاليفالا تتضمَّن فقرات وحكايات جميلة كثيرة، وليست أقل مستوًى من مثيلاتها في أدب المواويل الغربية في البلدان التي تحظى بشهرةٍ أكبر من فنلندا»، (ص١٤)، وهو ما يُوحي بأن كاليفالا، التي تُعتبر بوضوحٍ ملحمة، تُعتبر أيضًا — وعلى الأقل إلى حدٍّ ما — ملحمةً تختلف بعض الاختلاف عن نموذج الملاحم الكلاسيكية/الجرمانية الشمالية؛ ومن ثَمَّ فإنه لن يستخدم دائمًا «اللغة الرفيعة» التي تُعتبر الطابع المميَّز لكروفورد، ولكنه سوف يستخدمها كلما حانت له الفرصة. والواضح أننا سنجد صعوبةً في العثور على «اللغة الرفيعة» والكلمات التي يسهُل اعتبارها «مُتَقَعِّرة» في ترجمات ماجون وبوزلي وفرايبرج.
وقد سبق لي أن أوضحتُ أن المترجمين لم يكن لديهم خيارٌ يُذكَرُ في هذا الأمر، وأنهم كان عليهم أن يلتزموا بالنظام النصي السائد في زمنهم إن كانوا يرغبون في أن يقرأهم الناس ويسمعوهم (وقد التزموا فعلًا بذلك النظام)، وليس من العسير مثلًا أن نتصوَّر إحجام الناشرين عن نشر ترجمة بوزلي أو حتى ترجمة ماجون في عام ١٨٨٨م؛ فالذي كتباه وكتبه فرايبرج لم يكن — في إطار الناشرين الذين نتخيَّلهم — يُعتبَر مؤهَّلًا وحسب للوصف بأنه «ملحمة» إذن، فإن العبرة في هذه الترجمات وكثيرٍ من غيرها ليست بالمعرفة في المقام الأول، ولا حتى بإجادة معرفة اللغات، بل بالخضوع للشبكات النصية والفكرية.