ما زلنا أسرى في التِّيه: مزيدٌ من التأمُّلات في الترجمة والمسرح
نشرتُ في عام ١٩٨٥م مقالةً عنوانها «دروبٌ في التِّيه»، وعنوانها الفرعي «استراتيجيات ومناهج لترجمة النصوص المسرحية». وكانت تلك المقالة تُمثِّل محطَّةً من محطَّات الطريق، أثناء رحلةٍ طويلة متعرِّجة المسار، بدأتْ في منتصف السبعينيات ولا تزال مستمرَّةً وقد وصلنا إلى آخر القرن العشرين، وعلى مَرِّ السنين نَقَّحْتُ نظراتي عدَّة مرات، على الرغم من أنني لا أزال أرى أن صورة التِّيه صورةٌ مناسبة لهذا المجال من مجالات البحث في دراسات الترجمة، الذي يُمثِّل إشكاليةً كبرى ويتعرَّض للتجاهل الشديد، وما كُتِبَ عن مشاكل ترجمة النصوص المسرحية يقلُّ عما كُتِبَ عن ترجمة أي نمطٍ نصيٍّ آخر.
ومن المقبول بصفةٍ عامَّة أن عدم وجود نظريات في هذا المجال مرتبطٌ بطبيعة «نص التمثيل» نفسه، الذي يتَّسِم بعلاقةٍ جدَليَّة مع أداء هذا النص نفسه على المسرح، وتوجد بحوثٌ كثيرة تسعى إلى فحص العلاقة بين النص المسرحي المكتوب وبين أدائه، وإن كان جانبٌ كبيرٌ منها وصفيًّا أو حَدْسيًّا، وصعوبات «التِّيه» الخاصة بوصف ما يحدث عند نقل النص التمثيلي من لغةٍ إلى أخرى وأدائه بهذه اللغة الأخرى، وتحليل ذلك، تُوسِّع من نطاق إشكاليات العلاقة بين المسرحية وبين أدائها وتَزيد مشكلاتها تعقيدًا. وسوف تستكشف هذه المقالة بعض تلك التعقيدات.
النص الباطن/النص الحركي/النص الداخلي
ما أكثرَ ما يمتنع مؤلِّفٌ مسرحيٌّ مسكينٌ عن الصُّراخ «لا، ليس هكذا!» أثناء حضوره التجارِب المسرحية، ويتلوَّى في ألمٍ واحتقارٍ وغضبٍ وعذابٍ لأن ترجمة كلماته إلى أداءٍ مادِّيٍّ على خشبة المسرح (على أيدي غيره بالضرورة) لا تتَّفِق مع المَثَل الأعلى لتصوُّرِه وتنفيذ هذا التصوُّر، وهو الذي بدأ عنده وينتمي إليه وحده.
كان بيرانديللو يرى أن النص التمثيلي ينتمي أساسًا إلى المؤلف، وهكذا كان الأداء يُعتبَر هجومًا على مقاصد المؤلف، ما دام لا يزيد عن كونه نسخةً وحسب. والواضح أن هذا موقفٌ متطرِّف، ولكنه يُثير القضية الرئيسية الخاصة بالعلاقة بين النص التمثيلي المكتوب وبين أية ترجمةٍ لاحقة له، سواء كانت ترجمةً لغوية أو سيميوطيقية أي ترجمة إلى أداء على خشبة المسرح، وتُلاحِقُ هذه القضيةُ مُحلِّلي المسرح والباحثين في سيميوطيقيَّته مِثلَما تُلاحق باحثي الترجمة والمترجمين. وربما لم نشارك بيرانديللو نظرته القديمة التي تقول إن المؤلف صاحب النص وحده. ولكننا نفتقر إلى نظريةٍ صلبة عن النص التمثيلي من شأنها تمكيننا من النظر إلى العلاقة بين المسرحية والأداء من زوايا جديدة، وتقديم موقفٍ مُعارِض لفكرته عن الخيانة.
إن قدرًا كبيرًا مما يُكتَب عن الترجمة يُشير إلى الخسارة؛ إذ يُقال لنا إن بعض الأشياء تضيع في الترجمة، وإن الترجمة تشغل المرتبة الثانية في الأفضلية، وإنها نسخةٌ شاحبة للأصل. ويشغل الحديث عن الخسارة جانبًا كبيرًا من المناقشات حول ترجمة الشعر والنثر. ولكن العجيب أن فكرة الخسارة تنقلب إلى نقيضها — عادةً — في المسرح؛ إذ حلَّتْ محلَّها الفكرة التي تقول إن النص التمثيلي يظلُّ ناقصًا في ذاته حتى يتجسَّد في الأداء على خشبة المسرح؛ أي إن المسرحية شيءٌ يعجز عن تحقيق الاكتمال حتى يكتسب صورةً مادِّية.
وتَسُوق آن أوبرسفلد الحُجَّة على أن النص التمثيلي نصٌّ مُثَقَّبٌ؛ أي إنه مليءٌ بالفجوات التي لا يمكن سدُّها إلا مادِّيًّا (أوبرسفلد، ١٩٧٨م)، ويرى آخرون النص التمثيلي في صورة شبكة من العلامات الكامنة، والتي تنتظر إخراجها في الأداء، أو حتى في صورة مشروعٍ للأداء المسرحي يومًا ما، والفكرة التي تشترك فيها جميع هذه النظريات تقول إن المسرحية ليست نصًّا كاملًا في ذاته، ويتطلَّب بُعْدًا مادِّيًّا لتحقيق إمكانياته الكاملة. وقد شُغِلَ أحد مناهج البحث في سيميوطيقا المسرح بالعلاقة بين النص المكتوب وتجسيده المنتظَر على خشبة المسرح، كما وَضَعَتْ نظرياتُ التمثيل — من ستانسلافسكي إلى بريخت — فكرةَ وجود نصٍّ حركي مشفَّر في النص المكتوب، ويمكن للممثِّل أن يفك شفرته على خشبة المسرح.
وإذا كان بالمسرحية نصٌّ حركي يقرؤه الممثِّلون والمُخرِجون حَدْسًا أثناء إعدادهم لتقديم المسرحية في المسرح، فعلينا أن نسأل إن كان هذا النص ثابتًا أم متغيِّرًا؟ الترجمة تقول إنه لا بد أن يكون متغيِّرًا إلى أقصى حد. وإذا كانت لدينا خمس نُسَخٍ مختلفة من النص التمثيلي نفسه؛ فالمفترض أن يكون لدينا خمسة نصوصٍ حركية مختلفة، فكيف يتسنَّى لنا التيقُّن من أن النص الداخلي الذي يفك شفرته الممثِّلون في الثقافة المصدر سوف يتَّفِق مع النص الذي سوف تُفَكُّ شفرتُه في الثقافة المستهدفة؟ الواقع أن المذاهب المسرحية متفاوتة، والأعراف المسرحية تتفاوت تفاوُتًا شديدًا بين الثقافات المختلفة، وقراءة ستانسلافسكي لمسرحية «عطيل» — على سبيل المثال — التي تقول إن دزدمونة كانت تستحق صفعةً من زوجها بسبب تدخُّلِها فيما لا يعنيها، تُعتبر اليوم انحيازًا غير مقبول ضد المرأة.
وخلال رحلتي في التِّيه المذكور، قلت إننا إذا قبِلنا فكرة وجود نصٍّ حركى داخل نص مكتوب، ويتطلَّب أن يكتشفه الممثِّلون، فسوف نُواجَه بمشكلة عبثية للمترجمين (باسنيت، ١٩٩١م)؛ ذلك أن المترجم يُطلَب منه فعليًّا أن يفعل المستحيل. وإذا كان النص المكتوب لا يزيد عن كونه مشروع مسرحية؛ أي وحدة في مجمع من نُظُم العلامات التي تضمُّ علامات غير لغوية وعلامات حركية، وإذا كان يشتمل على شفرةٍ حركية سرية من نوعٍ ما تتطلَّب تحقيقها في الأداء المسرحي، فكيف نتوقَّع من المترجم ألا يقتصر على فك شفرة هذه العلامات السرية في اللغة المصدر بل أن يُعيد تشفيرها في اللغة المستهدَفة أيضًا؟ إن مثل هذا التوقُّع غير معقول؛ إذ إن إنجاز ذلك يقتضي أن يُحيط المترجم بمعرفة اللغتين ونُظُمِهما المسرحية إحاطةً وثيقة، وأن يتمتَّع أيضًا بالخبرة في قراءة الحركة المسرحية وفي التمثيل أو الإخراج وَفْقَ هذين النظامين.
التطويع الثقافي للنص التمثيلي
يقول مارفن كارلسون إن لهذه المشكلة تاريخًا طويلًا، ويُرجِع جذورها إلى أواخر القرن الثامن عشر، عندما كان الأداء يُعتبَر فعليًّا مجرَّد إيضاح، وهو يستشهد بالملاحظة الشهيرة التي أدلى بها تشارلز لام الذي يقول: «ما أشد ما تحوَّلَتْ هاملت إلى شيءٍ آخر عند تمثيلها على المسرح» (كارلسون، ١٩٨٥م). وهذا التحوُّل إلى شيءٍ آخر هو على وجه الدقة ما يعترض عليه فيرانديللو، حتى مع إدراكه استحالة تقييد أي نصٍّ بقراءة مفردة. وكم أصبحت النسخة الفرنسية التي أعدَّها دوسيز لمسرحية هاملت شيئًا آخر عند تقديمها على المسرح عام ١٧٧٠م! وقد أرسل دوسيز إلى جاريك خطابًا في العام نفسه يقول فيه إنه لم يستطع الإبقاء على شخصية الشبح؛ إذ يعافُها الذوق السليم، (كما حذف مشاهد الممثِّلين، والمبارزة بين هاملت ولايرتيز، ونحو خمس عشرة شخصية أخرى) قائلًا:
وهكذا اضطُرِرتُ على نحوٍ ما إلى خَلْقِ مسرحيةٍ جديدة، حاولتُ وحسب إضفاءَ الإثارة على الملكة القاتلة، وقبل كل شيءٍ تصوير هاملت الطاهر المكتئب باعتباره نموذجًا لحنان البُنُوَّة.
وخطاب دوسيز يُثير قضيةً أساسية أخرى تُؤثِّر في ترجمة النصوص المسرحية؛ ألا وهي توقُّعات الجمهور المستهدَف والقيود التي يفرضها النظام المسرحي المستهدَف. ويقول رومي هايلين بوجود سُلَّمٍ متدرِّجٍ للمُثاقَفة في الترجمة، لا نجد في طرفه الأقصى أية محاولة للتطويع الثقافي للنص المصدر. وقد يُؤدِّي ذلك إلى أن يبدو النص [المترجَم] «غريبًا» أو «عجيبًا»، ونجد في وسطه مرحلة تفاوُضٍ وحل وسط، وأخيرًا نصل إلى القطب المضاد تمامًا وهو قطب المُثاقَفة الكاملة، ولكن سيركو ألتونين يقول: إن التطويع الثقافي محتومٌ في ترجمة النص التمثيلي، خصوصًا إذا كان ذلك النص المكتوب يُعتبَر عنصرًا واحدًا من «العملية» الكلية التي تُشكِّل المسرح. ففي هذه الحالة يصبح من المُحال تجنُّب درجةٍ ما من درجات التطويع الثقافي، وربما تكون هذه أكثر بروزًا هنا من بروزها في ترجمات أنماط النصوص الأخرى (ألتونين، ١٩٩٦م)، وقيام دوسيز بإعادة كتابة هاملت وَفْقًا للذائقة الفرنسية نموذجٌ كلاسيكي للمُثاقَفة، ما دامت معايير الذائقة قد حالت دون الترجمة الكاملة لمسرحية شيكسبير، وعلى أية حالٍ فإن معايير الذائقة الإنجليزية في القرن الثامن عشر لم تكن تحكم بأن شيكسبير مقبولٌ هي الأخرى. وهكذا فإننا نجد في العروض المسرحية المحلية لبعض مسرحياته وفي ترجماتها نماذج صارخةً للحذف والإضافة والتنقيح من أجل تلبية طلبات الجمهور المستهدَف.
لا تجري الترجمة قطُّ في فراغ، بل تجري دائمًا في سياقٍ متصل، والسياق الذي تجري فيه الترجمة يُؤثِّر بالضرورة في أسلوب الترجمة، ومثلما تنهض معايير الثقافة المصدر وقيودها بدورها في خلق النص المصدر، تنهض معايير الثقافة المستهدَفة وأعرافها بدورها المحتوم في وضع الترجمة، و«نجلزة» تشيخوف، المُشار إليها آنِفًا، مثالٌ يُثبِت ما أقول، وإن كانت بعض الترجمات تُبالغ إلى الحد الذي تُنكِر فيه الأصول الثقافية لتشيخوف وتمنحه الجنسية الإنجليزية الفخرية.
الجميل في تشيخوف أنك لا تحتاج إلى معرفة اللغة الروسية حتى تترجم مسرحياته؛ لأن الجميع يعرفون ماهِيَّة تشيخوف، وكل فردٍ يعرف بضربٍ من الثقة الباطنة ما كان تشيخوف يقصده وما كان يقوله، وفكرة إحالة ذلك إلى نصٍّ أصليٍّ ما فكرةٌ بغيضة بغضًا مطلقًا.
أي إن فرين يفترض — بعَجْرفةٍ تُثير الدهشة — أن العالم الناطق بالإنجليزية يستطيع فهم الرجل الروسي بغضِّ النظر عن الاختلاف اللغوي أو الثقافي، زاعمًا أن «كل فرد» يفهم تشيخوف، ويفهم لا المسرحيات المكتوبة فقط بل ومقاصد المؤلف أيضًا.
لقد تحوَّلَتْ مادة تشيخوف الصلبة ذات العينين البرَّاقتين والمركَّبة من عناصر كثيرة، إلى قِطَعٍ حلوة المذاق ويسهل بَلْعُها من الأخلاق المُفرِطة في العاطفية … وتَلَتِ الترجمات بعضها بعضًا حتى أصبح ذلك المصطلح «مصطلحنا»، وأصبحت تلك الطبقة طبقتنا «نحن»، حتى فقدت المسرحية موقعها الخاص في التاريخ وضاعت من الخيال الاجتماعي الخاص جميعُ المعاني باستثناء المعنى «الطبيعي» اللازم، بحيث تُقَوِّضُ الغِلظةُ الرَّهافةَ، في كل الأحوال، ويصبح «حال الإنسان» مُعادِلًا، من شتَّى الزوايا الأساسية، لمحنة الطبقات الوسطى.
أي إن جريفيث يقول: إن الترجمات الإنجليزية قد أنشأت أسلوبًا تقليديًّا لقراءة أعمال تشيخوف، وأدَّتْ إلى تحوُّلٍ كبير في معناها، وتغييرٍ في الأساس الأيديولوجي لتفكيره. وهكذا أدَّتْ عملية المُثاقَفة إلى «تدجين» الكاتب الروسي والابتعاد بالتركيز على الجوانب الخاصة بروسيا في عمله؛ أي إن ما بين أيدينا تشيخوف إنجليزي لا تشيخوف روسي، أو بالأحرى لدينا تشيخوف ينتمي إلى الطبقة الوسطى الإنجليزية. وهذا هو الكاتب المسرحي — الذي اختُرِعَ بفضل عملية الترجمة — والذي دخل النظام الأدبي الإنجليزي. ومن العسير أن تتصوَّر كيف يمكن لأي نصٍّ حركي باطني مشفَّر في نصٍّ روسي لتشيخوف أن يتَّفِق مع نظيره في الترجمة الإنجليزي، نظرًا للاختلاف الثقافي الشاسع بين النصين.
قابلية الأداء
عادةً ما يُشار إلى عملية تحويل النص المكتوب إلى نصٍّ أدائي بمصطلح «الترجمة» باللغة الإنجليزية. واستعمال هذا المصطلح يمكن أن يُؤدِّي إلى «خَلْطٍ» معيَّن؛ إذ سوف يعني هذا أن أداء نصٍّ مترجم على خشبة المسرح في إطار الثقافة المستهدَفة يُعتبَر ترجمةً للترجمة. وربما استطعنا أن نشرح هذا الاستعمال على ضوء افتقار اللغة الإنجليزية إلى المصطلحات الشائعة في اللغات الأخرى، مثل «ميزانسين» الفرنسية التي تُشير إلى إخراج المسرحية، وكلمة «سبكتاكل» التي يمكن أن تُشير أيضًا إلى الأداء، وكلمة «سيناريو» التي تُشير إلى النص المسرحي الذي كان مُمَثِّلُو «الكوميديا ديللارتي» (وغيرهم) يستخدمونه، باعتباره الأساس الذي يبنون عليه كل ما يرْتَجِلُونه على خشبة المسرح. وهذه المصطلحات تُترك دون ترجمةٍ إلى اللغة الإنجليزية، وهو ما يشهد بالاختلافات في التقاليد والممارسات المسرحية بين المسرح الإنجليزي والمسرح الفرنسي أو الإيطالي. ولمَّا كانت اللغة الإنجليزية تفتقر إلى المصطلحات المستقلَّة الخاصة بها في هذا الصدد، فقد جعلتْ تخلط بين ترجمة النص التمثيلي من لغةٍ إلى أخرى وبين نقل النص المكتوب إلى خشبة المسرح، كما أن مناقشة مشكلات ترجمة النصوص المسرحية تتَّسِم بالخلط بين هاتين العمليتين المنفصلتين.
ويتمثَّل أحد جوانب الخلط المذكور في استمرار تأكيد فكرة ما يُسمَّى ﺑ «قابلية الأداء» أو إمكان النطق بالألفاظ، وهو الذي كثيرًا ما يُعتبَر شرطًا أساسيًّا للترجمة المسرحية. ولكنني أواجه صعوباتٍ جمَّة في تقبُّل مفهوم «قابلية الأداء»؛ إذ يبدو لي مصطلحًا يفتقر إلى المصداقية؛ لأنه يستعصي على أي شكلٍ من أشكال التعريف. وكثيرًا ما يستخدمه النُّقَّاد في تقييم الترجمات؛ إذ يزعم أحدهم أن ترجمة «س» أيسر في الأداء من ترجمة «ص» على نحوٍ ما، وقد يكون صحيحًا أن إحدى الترجمات أقرب إلى النجاح من غيرها، ولكن من وراء ذلك دائمًا كثيرًا من العوامل التي قد تتراوح ما بين ضعف المترجِم وبين تغييراتٍ في التوقُّعات الخاصة بجمهور القُرَّاء والاختلاف بين النُّظُم المسرحية أو الاجتماعية. وقد وجد مصطلح «قابلية الأداء» مكانًا له في الكثير من مقدمات المترجمين، حيث كثيرًا ما يُزعَم أن النص المترجم أيسر في الأداء على المسرح بسبب خصائص مُبهَمةٍ فيه، ويُنتظَر منا دائمًا أن نقبل مثل هذه الأقوال دون تمحيص؛ إذ لم يُشِرْ أحدٌ قطُّ إلى معنى «قابلية الأداء» أو سبب زيادة تمتُّع نصٍّ بها عن سواه.
وفي مرحلةٍ أخرى من مراحل رحلتي داخل التِّيه، فحصتُ فكرة «قابلية الأداء» بصفتها معيارًا من معايير تقييم الترجمة. وكان التفسير الذي اقترحتُه لنشأتها واستمرار استعمالها يُعزَى، في جانبٍ منه، إلى قلَّة الدراسات النظرية الخاصة بالعلاقة بين النص المكتوب وبين الأداء، وهو ما يعني أننا نفتقر إلى تعريفٍ واضح للنص القابل للأداء (باسنيت، ١٩٩١م)، ويأتي بعد ذلك الافتقار النسبي للكتابة النظرية حول الترجمة والمسرح، ومما له دلالته أيضًا أن مصطلح «قابلية الأداء» قد ظهر — فيما يبدو — وقت ظهور الدراما الطبيعية، وهو مرتبط، من ثَمَّ، بالأفكار الخاصة بالاتِّساق في رسم الشخصيات ووجود نصٍّ باطن للحركة المسرحية، ولا يبدو أن الباحثين قد أخذوا في اعتبارهم أن الاتِّساق في رسم الشخصيات من الأعراف المسرحية الحديثة العهد. وسوف نرجع فيما بعد إلى هذه المسألة عندما ننظر في مسرحية ريتشارد الثاني لشيكسبير.
على الرغم من وجود دراسات فردية كثيرة عن «س» باعتباره مترجِم «ص» في مجال ترجمة الدراما، فإن أحدًا من الدارسين — في حدود علمي — لم يتجاوز معالجة الدراما إلا باعتبارها النص المطبوع على الصفحة، وإذن فلا تكاد توجد دراساتٌ نظرية عن الدراما المترجمة من حيث التمثيل والإخراج.
وفي هذا الخواء بدأ استعمال مصطلح «قابلية الأداء» باعتباره معيارًا للمترجمين الذين تشغلهم مشكلة الالتزام بالنص الأصلي. فالمتوقَّع من مترجم النصوص الدرامية ألا يقتصر على التصدِّي للمشكلة الخالدة؛ أي مشكلة «الأمانة» في نقل النص، مهما يكن تفسيرنا لها، بل أن يُعالِجَ أيضًا مشكلة العلاقة بين النص المكتوب وأدائه على المسرح. ويُقدِّم مفهوم «قابلية الأداء» مَخْرَجًا له من هذه المُعضِلة؛ إذ إنه يُتيح للمترجم حريةً أكبر في معالجة النص، متجاوزًا ما يراه الكثيرون مقبولًا، في سبيل تحقيق المنتَج النهائي «القابل للأداء»؛ ومن ثَمَّ فإن المصطلح يُبرِّر بعض استراتيجيات الترجمة، مثل استخدام مصطلح «الإعداد» أو «الاقتباس»، الذي لم يُقَدَّمْ له أيُّ تعريفٍ واضح إلى الآن، في تبرير أو إيضاح استراتيجياتٍ معيَّنة قد تتضمَّن قدرًا من الابتعاد عن النص المصدر.
كانت المشكلة الرئيسية للمترجمين مشكلة النِّطاق اللغوي: فجميع الشخصيات تنتمي إلى طبقة النبلاء الدنيا، وأحداث المسرحية تدور في العشرينيات. كان من الصعب تجنُّب محاكاة اللغة المُمثِّلة لتلك الفترة، من نمط لغة ب. ج. وودهاوس (أي الإنجليزية غير الصادقة في العشرينيات، مع ضمان الإيحاء بتلك الفترة على نحوٍ ما). وأمثال تلك الصعوبات جزءٌ لا ينفصل من أي عملية ترجمة، وحاولَ كلانا حلَّها بأقصى ما نستطيع من جهد. ولكن المشاكل لم تكن مقصورةً على قضايا الأسلوب والنطاق اللغوي، بل كان علينا أن نتغلَّبَ على قيود الإذاعة، كان بىرانديللو قد كتب مسرحيته للتقديم على المسرح، ولكن تقديمها للمرة الأولى بالإنجليزية كان في الإذاعة. وحلَلْنا ذلك بطرائق عديدة، فأضفنا الأسماء إلى الحوار حتى يعرف المستمع مَن الذي يتكلم ومَن الذي يسمع، وأضفنا هنا وهناك سطورًا لإيضاح الإشارات البصرية. فعندما تُقابِل دوناتا، مثلًا، «إيلي» للمرة الأولى مرتديةً ملابس خضراء رمزية، أضفنا سطرًا يمتدحها «إيلي» فيه على اختيارها لهذا اللون. ولكن المشهد الأخير ظلَّ يُمثِّل العقبة الكَئُود؛ إذ تتحوَّل غرفة الفندق إلى قاعة مسرح، ويزداد تأثير المشهد في النظَّارة بسبب هذا التغيير البصري.
وأما النسخة الإنجليزية فنقلت هذا الجزء إلى أوائل المشهد، ومزجت بين كلماته وبين كلمات الحوار على ألسِنة الشخصيات الأخرى، فأصبح المشهد كما يلي:
وهكذا استطعنا من خلال القص واللصق لسطورٍ من أجزاء مختلفة من المشهد الختامي تقديم لحظة التنوير إلى جمهور الإذاعة؛ أي لحظة التكشُّف التي تكتشف الممثِّلة فيها حريتها (وفي الوقت نفسه سجنها إلى ما لا نهاية) من طريق إدراكها أنها قد كُتِبَ عليها أن تعيش إلى الأبد مُمَثِّلةً لا امرأةً حقيقية. وكانت إليزا بمثابة المِرآة لدوناتا؛ إذ انعكس فيها لجمهور السامعين ما كان يدور في ذهن دوناتا، وما كان جمهور المسرح يراه مُمَثَّلًا في الحركة الجسدية. ولكن غايتي من الاستشهاد بهذه الاستراتيجية هنا هي أنني أُعارِض بشدة إطلاق وصف «الإعداد» أو «الاقتباس» على ترجمتنا، وما يترتَّب على هذين الوصفين من الابتعاد عن النص المصدر ابتعادًا يزيد عن ابتعاد الترجمة؛ فالذي فعلناه لا يقتصر على أن أَخَذْنا في اعتبارنا قيود اللغتين، المصدر والمستهدَفة، وسياقَيهما، بل قيود الوسيط أيضًا؛ إذ يختلف الأداء الإذاعي عن الأداء المسرحي؛ لأن نَسَق نظامَي العلامات يختلف اختلافًا جوهريًّا؛ ومن ثَمَّ فقد كانت ترجمتنا ترجمةً أخذت في اعتبارها عددًا من العوامل النصية وغير النصية وسَعَتْ إلى حلولٍ من خلال اللغة.
الدراما باعتبارها أدبًا
أحيانًا ما نجد أن بعض أنماط الأدب الغنائية والقصصية تقوم بهذه الوظيفة وإن يكن ذلك على نطاقٍ أضيق؛ ومن ثَمَّ فإن الذين يُعلنون أن الخصيصة النوعية للدراما تكمُن في علاقتها بالتمثيل مخطئون. فمثل هذا المعيار لا صلة له بالأمر على الإطلاق، بل إنه مفيدٌ حتى باعتباره أداةً عملية مناسبة لتطبيق مدخلٍ أوَّلي؛ فليس المسرح نوعًا أدبيًّا آخر بل فنٌّ آخر. وهو يستخدم اللغة باعتبارها إحدى موادِّه، في حين أن جميع الأنواع الأدبية الأخرى، بما فيها الدراما، لا مادة لها سوى اللغة، وإن كان كلٌّ منها يتبع في تنظيمها طريقةً مختلفة.
يُقبِل الجمهور على قراءة جميع المسرحيات، لا المسرحيات الفكرية فقط، مثلما يُقبِل على قراءة الشعر والروايات، فليس أمام القارئ ممثِّلون أو خشبة المسرح، بل اللغة وحدها. وهو لا يتخيَّل في أحيانٍ كثيرة أن الشخوص شخصياتٌ مسرحية أو أن مكان الحدث ديكورٌ مسرحي. وحتى لو تخيَّل ذلك فسوف يظلُّ التمييز بين الدراما والمسرح صحيحًا؛ لأن الشخصيات المسرحية وديكورات المسرح تصبح بلا دلالة مادية، وأما في المسرح فإنها كياناتٌ مادية زاخرة بالدلالات.
نُظُم العلامات والأداء
اشتهر عن تاديوز كوزان تعريفه لخمس فئات تعبيرية تشترك في تكوين الأداء، وهي تتفق مع خمسة نُظُمٍ سيميوطيقية (كوزان، ١٩٧٥م)، وأول هذه هو النص المنطوق. وقد يكون من ورائه نصٌّ مكتوب أو لا يكون. والثاني هو التعبير الجسدي، والثالث المظاهر الخارجية للمُمَثِّل وحركاته وما إلى هذا بسبيل، والرابع هو مكان التمثيل، إلى جانب المعدات المسرحية والإضاءة وما إلى ذلك، والخامس هو الصوت غير المنطوق، ويُحدِّد استنادًا إلى هذه الفئات الخمس ١٣ قسمًا فرعيًّا مُتميِّزًا، ولا تزال خريطة الأداء التي وضعها، وهي بنيويةٌ أساسًا، على الرغم من تعديل الآخرين لها من وقتٍ لآخر، أداةً مفيدة لفهم العلاقات المتداخلة والمركبة فيما بين نُظُم العلامات في المسرح؛ فالنص المنطوق عنصرٌ واحد وحسب، والنص المكتوب — إذا وُجِدَ نصٌّ مكتوب — يقتصر وجوده على المستوى اللفظي فقط.
فإذا قبِلنا أن النص المكتوب لا يُمثِّل أهمية جوهرية للأداء بل يُعتبَر عنصرًا واحدًا وحسب في عرضٍ مسرحيٍّ يُقدَّم في المستقبل، فسوف يعني هذا أن المترجم لا يحتاج إلى أن يشغل باله، شأنه في ذلك شأن الكاتب، بكيفية تكامُل النص المكتوب مع النُّظُم الأخرى للعلامات؛ فهذه مهمةٌ من مهام مُخرِج المسرحية ومُمثِّليها، وتُؤكِّد من جديدٍ أن المسرح عمليةٌ تعاونية لا تقتصر على مشاركة نُظُمٍ مختلفة للعلامات، بل يُشارك فيها حشدٌ من الأشخاص ذوي المهارات المختلفة.
وتقول حُجَّة فيلتروسكي إنَّ علينا أن ننظر إلى النص الدرامي باعتباره أدبًا. وهذه تبدو نقطة انطلاقٍ مفيدة للمترجم. ففي حالة مسرحية بيرانديللو المُشار إليها آنِفًا، كان المترجمان يواجهان مهمةً محدَّدة وهي جعل المسرحية مناسبةً للإذاعة. وكان ذلك يقتضي أيضًا حساب الوقت المخصص لإذاعتها وتعديل النص وَفْقًا لذلك. ولكن عمل المترجم يتطلَّب نقل نصٍّ مكتوب من لغة إلى أخرى، وكذلك النظر في إمكان وجود نصوص حركية مشفَّرة، وإلا فإن الجانب الذي يُسمَّى «قابلية الأداء» أو «قابلية نطق الألفاظ» لن يُساعدَنا على إحراز تقدُّمٍ كبير.
قراءة نص مسرحي
نقول — بدايةً — إن مصطلح «المسرحية» يُشير إلى نصٍّ قد يكون قد وُضع بطرائقَ بالغة الاختلاف. ولنا أن نقول إن المسرحية تتكوَّن أساسًا من حوار وإرشادات مسرحية، وفيما عدا ذلك يتعذَّر اتفاق الآراء. وفي بعض الحالات يكون النص الذي انتهى إلينا قد وُضع أثناء التجارِب المسرحية، وتغيَّر كثيرًا أثناء الأداء. ونمط النص الدرامي الذي يُنشَر بعد العرض المسرحي نصٌّ تعرَّض بصفةٍ عامة للتعديل. وقد تكون الإرشادات المسرحية قد أُضِيفَت إليه، وبعد اتخاذ القرارات التي تُحدِّد الأجزاء التي ستبقى في النسخة المطبوعة. وهذا شأن عددٍ كبير من الصور المنشورة للعروض المسرحية البديلة الناجحة، وهو أيضًا ما حدث بالنسبة لنصوص شيكسبير، وهي التي وُضعت أصلًا للأداء وأثناء الأداء ثم كُتِبَتْ وعُدِّلَتْ فيما بعد.
دخلت المركيزة بوفينو وحفيدتها نينا. والمركيزة امرأةٌ هائلة الجسم ولكنها سيدة مجتمع. وأما حفيدتها فتشبه الغلام في ملامحها الحادَّة وحيويتها، ولها عينان تَستطلِعان ما حولها وأنفٌ مستقيم يشمُّ ويبحث في كل شيء. وتشعر نينا بالحزن والضيق بسبب قِصَرِها، الذي يجعلها أقرب إلى الدُّمْية، والذي يبدو من الأرجح أن يتحوَّل إلى استدارة عود المرأة لا إلى أطراف الفتاة القوية. وهي تُعامَل معاملة الأطفال، أو باعتبارها بلهاء إلى حدٍّ ما، وهو ما يُضايقها دائمًا. وتتمنَّى نينا أن تصبح شابَّةً تسير على «الموضة». وأما جدتها فإنها مضحكةٌ أيضًا بسبب «الحِكَم» البالية التي تنطق بها، ولكنها ذات عقلٍ متفتِّحٍ ولا تُرخِي الزِّمام لحفيدتها قط. وكلٌّ من السيدتين تضع وِشاحًا على كتفيها. والمركيزة تلبس قُبَّعة، ونينا عارية الرأس، والعجوز متقطِّعة الأنفاس.
ويقول فيلتروسكي إن مثل هذه الإرشادات المسرحية — التي تُمثِّل في الواقع هوامش المؤلف وتعليقاته — موجَّهةٌ إلى القرَّاء في المقام الأول، ولكنها تختفي في العرض المسرحي وتُستبدَل بها علاماتٌ أخرى. ومثل هذا النص نصٌّ أدبي أساسًا، ويُشير إلى وجود المؤلف داخل المسرحية ويجعله ظاهرًا لعيون القرَّاء.
وإلى جانب هذا توجد طرائق كثيرةٌ بالغة الاختلاف لقراءة النص المسرحي. ولنا أن ننظر في الفئات العريضة التالية:
-
(١)
قراءة المسرحية باعتبارها أدبًا وحسب، دون علاقة بأي عرْضٍ مسرحي لها يتذكَّره القارئ، وكثيرًا ما تكون هذه الطريقة المُتَّبَعة في تدريس المسرحيات في المدارس والجامعات.
-
(٢)
قراءة ما بعد العرض المسرحي؛ إذ تكون ذكرى العرض المسرحي مشفَّرةً في القراءة الفردية.
-
(٣)
قراءة المُخرِج، التي قد تتضمَّن اتخاذ قرارٍ عما إذا كانت المسرحية سوف تُعرَض أو لا تُعرَض. وفي هذه القراءة تحتلُّ القيود والإمكانيات التي يُقدِّمها النص موقع الصَّدَارة في تفسير المُخرِج له.
-
(٤)
قراءة المُمَثِّل، وهي التي تُركِّز على دورٍ معيَّن، وربما إلى حد مَحْوِ أدوارٍ أخرى. فإذا نظرنا إلى نُسَخ التمثيل التي يضع الممثِّلون خطوطًا فيها فسوف نجد إبرازًا للدور المفرد واعتبار الأدوار الأخرى ثانويةً أو مساعدةً وحسب.
-
(٥)
قراءة مهندس الديكور، وهي التي تتضمَّن تصوُّر الأبعاد المكانية والمادية التي قد يُتيحها النص.
-
(٦)
ولنا أن نُضيف إلى هذه قراءة الدراماتورج أو أي فردٍ أو مجموعةٍ مشترِكة في عملية إخراج النص.
-
(٧)
قراءة التجارِب المسرحية، وهي التي تتلو القراءات المبدئية وتتضمَّن عنصرًا أدائيًّا مسموعًا من خلال العلامات غير اللغوية مثل النغمة والتركيز وحدة الصوت ونطاق الدلالة وما إلى ذلك بسبيل.
وهكذا نواجه «التعدُّدية» في قراءة نصٍّ تمثيلي بهدف تقديمه على المسرح، وهي تَعدُّدية تتفق مع فكرة التعدُّدية في أداء ذلك النص، كما يجب التمييز أيضًا بين هذه القراءات وبين قراءات الأفراد الخاصة غير الموجَّهة لتقديم النص على المسرح.
وقد ترتبط قراءة المترجم بأية قراءة من القراءات المبيَّنة أعلاه، ولكنها سوف تختلف حتمًا؛ لأن مهمة المترجم الأولى تحويل النص إلى نظامٍ لغوي آخر، ولكن على المترجم أن يأخذ في اعتباره الظروف التي صاحبَتْ وَضْع النص أصلًا. ففي حالة بيرانديللو على سبيل المثال نجد كاتبًا يبني مسرحياته عمدًا من أجل القراءة الخاصة والأداء المسرحي أيضًا، ويطلب اتِّباع تعليماته بدقَّةٍ متناهية، وأما في حالة شيكسبير فلدينا ظاهرة وجود مجموعةٍ من النصوص التي لم تصبح «معتمَدة» إلا بفضل عمل المحرِّرين والنُّقَّاد، ما دام ابتكارها أصلًا كان مشروعًا تعاونيًّا يقوم على الارتجال، والأسلوب الذي يجري به توزيع الأدوار على العُمَّال في مسرحية حلم ليلة صيف، أو على الممثِّلين في هاملت، يُقدِّم لنا بيانًا عمليًّا عن أسلوب تعامُل ممثِّلي عصر النهضة الإنجليزية مع الكلمة المطبوعة. وسوف يتضح لنا فورًا وجوه الشبه بين المنهج المذكور وبين السيناريو الخاص بالكوميديا ديللارتي، فلم يكن من المفترض في أيٍّ من هاتين الحالتين قراءة النص المكتوب.
ويمكننا أن نرى الطابع التعاوني للدراما الأولى في افتقارها إلى الاتِّساق؛ فالدراما الطبيعية ترى أن الاتساق في الحبكة ورسم الشخصيات أمرٌ مهم، وفكرة المسرحية السائدة اليوم تميل إلى قَبول هذا الافتراض. ومع ذلك فإذا نظرنا إلى شيكسبير باعتباره مثالًا، وهو الذي يرى الكثيرُ أنه مُصَوِّرٌ فائق للشخصية، فسوف نجد أن الاتساق غير مهم، والقراءة بغرض الترجمة هي التي تُبيِّن ذلك خير بيان، فلنأخذ مسرحية ريتشارد الثاني مثالًا، فهي من مسرحيات شيكسبير التاريخية، التي تُصوِّر سقوط ريتشارد وصعود بولينبروك، في إطار استكشاف قضايا الحكم الصالح والطالح، والتساؤل عن العلاقة بين الأخلاق الفردية ومصلحة الدولة، من منظوراتٍ مختلفة، والصور الشعرية في المسرحية رمزيةٌ إلى حدٍّ بعيد، فهي صورٌ للصعود والهبوط، ودوران عجلة الحظ، كما تشتبك هذه الصور مع الصور التي تُبيِّن التضادَّ بين الحديقة المُنَسَّقة والحديقة المُهْمَلة، أي بين الطبيعة الوحشية والطبيعة التي يرُوضها الإنسان، وبناء المسرحية يدور حول سلسلةٍ من المشاهد التي تشبه الاحتفالات، وتتضمَّن قدرًا كبيرًا من الأحاديث غير المباشرة، ما دام ريتشارد يُقَدَّمُ إلى الجمهور دائمًا من خلال آراء شخوصٍ مختلفة، بعضهم يُناصِرُه وبعضهم يُعاديه بشدة.
وقد تعرَّضَتْ شخصية ريتشارد لمناظراتٍ كثيرة من جانب النُّقَّاد والممثِّلين. ففي الجزء الأول من المسرحية نراه يتأرجح عاجزًا عن اتخاذ قراراتٍ عاقلة وإثبات جدارته بعرش المُلْك، ولكن عندما يتقدَّم الحدث وتبدأ قُوَى التغيير في زحزحتِه عن كرسي السلطة إذا بقدرته على التعبير عن محنته تزداد باطِّراد، حتى لقد رأى فيه البعض شخصًا يُشبِه المسيح في ما يُصيبه من آلامٍ آخر الأمر، ومهما يكن الأسلوب الذي يختاره الممثِّلون لتجسيد شخصية ريتشارد، فإن رسم الشخصية هنا، مثل رسم شخصيات معظم مسرحيات شيكسبير، يجري على مستوى اللغة لا على مستوى الحدث. وهكذا فإننا إذا طبَّقْنا المعايير الطبيعية وجدنا أن شخصية ريتشارد غير مُتَّسِقة في هذه المسرحية، ما دام يبدأ ضعيفًا ثم يتحوَّل إلى بطلٍ مأساوي. وأما إذا طبَّقْنا معايير عصر النهضة، ورأينا أن الشخصية تتطوَّر من خلال اللغة، فسوف نجد أن وجود حالات عدم الاتِّساق لها ما يُبرِّرُها كل التبرير، وها هو ذا ريتشارد، في الفصل الأول، المشهد الثالث، يُقرِّر بناءً على نزوةٍ طارئة أن ينفيَ بولينبروك، وهو القرار الذي يُنذِر بسقوط ريتشارد:
Draw near,
- King Richard: Northumberland, thou ladder
wherewithalThe mounting Bolingbroke ascends my throne.The time shall not be many hours of ageMore than it is, ere foul sin gathering headShall break into corruption, Thou shalt think.Though he divide the realm and give thee half.It is too little, helping him to all;And he shall think that thou, which know”st the wayTo plant unrightful kings, wilt know again,Being ne”er so little urg”d, another wayTo pluck him headlong from the usurped throne.The love of wicked friends converts to tear;That fear to hate, and hate turns one or bothTo worthy danger and deserved death.
- Northumberland: My guilt be on my head, and there
an end.Take leave and part; for you must part forthwith
- King Richard: Doubly divorc”d! Bad men, ye
violateA twofold marriage; twixt my crown and me,And then, betwixt me and my married wife.Let me unkiss the oath “twixt thee and me;And yet, not so, for with a kiss “twas made.Part us, Northumberland: I towards the north,Where shivering cold and sickness pines the clime;My wife to France; from whence, set forth in pomp,She came adorned hither like sweet May.Sent back like Hallowmass or short”st of day.
- Queen: And must we be divided? Must we part?
- King Richard: Ay, hand from hand, my love, and heart from heart.
- Queen: Banish us both, and send the king with me.
- Northumberland: That were some love but little policy.
- Queen: Then whither he goes, thither let me go.
- King Richard: So two, together weeping, make one
woe.Weep thou for me in France, I for thee there,Better far off than near, be ne”er the near.Go, count thy way with sighs, I mine with groans.
- Queen: So longest way shall have the longest moans.
- King Richard: Twice for one step I”ll groan, the
way being short,And piece the way out with a heavy heart.Come, come, in wooing sorrow let”s be brief.Since, wedding it, there is such length in grief.One kiss shall stop our mouths, and dumbly part:Thus give I mine, and thus take I thy heart.
- Queen: Give me mine own again, “twere no
good partTo take on me to keep and kill thy heart.So, now I have mine own again، be gone.That I may strive to kill it with a groan.
- King Richard: We make woe wanton with this fond
delay:Once more, adieu; the rest let sorrow say.
هذا المشهد «القوي» البالغ الإثارة يرسم صورةً لريتشارد تختلف اختلافًا كاملًا عن صورة الأبله المتردِّد في الفصل الأول، فهو يستطيع التحكم في اللغة، حتى أثناء كفاحه للتحكم في مشاعره الشخصية، وهو يُعبِّر تعبيرًا مضغوطًا عن نبوءته بسقوط نورثمبرلاند آخر الأمر، كما أن الحوار بين الزوج وزوجته في سطورٍ مستقِلَّة يُؤدِّي من خلال سلسلةٍ من التلاعب اللفظي إلى النبرة الغنائية التي تُميِّز فراقهما النهائي.
والشاعر يبني كلًّا من هذين المشهدين من خلال اللغة، وهي المادة الأولية للمترجم، فعلى المترجم عندما يحاول أن يترجم مسرحيةً كهذه ألا يقلق بشأن «البعد الأدائي» أو يحاول أن يكتب كلمات يسهُل «نطقها» أو «أداؤها»، بل أن ينظر إلى كل مشهدٍ من أمثال هذه المشاهد على حِدَة؛ أي باعتبارها وحدات منفصلة، بكل ما فيها من تناقضات في رسم الشخصيات ومن «عسر» الإيقاعات. وأما ما يحدث بعد ذلك لهذه المشاهد؛ أي لهذا النص المترجم عند تقديمه للعرض المسرحي، فيتضمَّن «ديناميَّة» مختلفة ومجموعة مختلفة من الأولويات؛ أي إن مهمة المترجم تنحصر في تقديم تناقضات النص وترك حلِّها لشخصٍ آخر، وليس من مسئولية المترجم أن يبحث عن المباني العميقة ويحاول أن يجعل النص «قابلًا للأداء».
عدم عالمية النص الباطن
تُشير فيكي أُووِي في حديثها عن المسرح الصيني إلى أن الكثير من المسارح غير الغربية لا تتَّسِم بأعراف البحث عن أنساق نصوصٍ باطنة داخل النص التمثيلي (أُووِي ١٩٨٠م)، قائلةً إن المسرح الصيني قد وَرِثَ لغةً درامية مفيدة في التواصل المباشر الوصفي؛ لأن أعراف النص الباطن لا وجود لها على الإطلاق، وتستند هذه الباحثة إلى ترجمة المسرحية التي كتبها يوجين أونيل بعنوان رحلة نهار طويل حتى الليل إلى اللغة الكانتونية في إقامة الحُجَّة على أن الاستراتيجية الوحيدة المتاحة للمترجم — بسبب الاختلاف الكامل بين أعراف الأداء في الثقافة المصدر والثقافة المستهدفة — هي الحفاظ على «غرابة» عمل أونيل أو «طابعه الأجنبي»، «بحيث تُمثِّل الترجمة اكتشافًا للمترجم وقُرَّائه على حدٍّ سواء». وتُؤكِّد أُووِي البُعد التفسيري لعملية الترجمة هنا، وهو أمرٌ يكتسب أهميةً خاصة عندما نبحث في نقل النصوص التمثيلية عبر الثقافات، في الحالات التي تختلف فيها التقاليد المسرحية اختلافًا كاملًا عن بعضها البعض، وأصحاب النظريات الذين يناقشون قضايا «القابلية للأداء» أو «قابلية النطق»، أو النص الباطن للحركة يناقشون في كل الأحوال تقاليد المسرح الأوروبي وأعرافه، وما إن نبتعد عن أوروبا حتى تختلف الصورة تمامًا.
فالواقع، أوَّلًا، أن الحركة مرتبطة بالثقافة وغير عالمية، وقد بيَّن يوجينيو باربا، من خلال المدرسة الدولية لأنثروبولوجيا المسرح، وجودَ أنساقٍ متكرِّرة للحركة الجسدية في المسارح في شتَّى أرجاء العالم، وبعض الظواهر مثل مسألة الوزن والتوازن في ما يُمثِّل الكوميديا والتراجيديا. ولكن المسارح قد تطوَّرَتْ وَفْقًا لأعراف بالغة الاختلاف، وأُفُق توقُّع الجماهير يختلف اختلافًا جذريًّا أيضًا؛ فالجماهير تتوقَّع، في التيار الرئيسي للمسرح البريطاني اليوم، أن يستغرق عرض المسرحية نحو ساعتين ونصف ساعة، إلى جانب استراحةٍ من نصف ساعة أخرى، بحيث يكون الوقت الكلي للعرض ثلاث ساعات؛ ومن ثَمَّ فالمُخرِجون يحذفون من النصوص المسرحية ما يجعلها تتَّفِق وهذه المدة الزمنية، أو يُطوِّعُون هذه النصوص تحقيقًا لذلك. ولكننا لا نجد مثل هذه التوقُّعات لدى الجماهير الألمانية، وكذلك وإلى حدٍّ أبعد، لدى الجماهير الصينية، ومن المحتوم أن يكون لهذا الاختلاف الزمني تأثيرٌ في استراتيجيات الترجمة.
وقد أدَّى الاعتراف بالأعراف المسرحية من خارج أوروبا إلى التأثير في تطوُّر المسرح المتعدِّد الثقافات، وهو المسرح الذي يتعمَّد رفض التطويع الثقافي للنصوص حتى تتَّفِق مع النظام المستهدَف، ويشرح جان-كلود كاريير في تصديره لترجمته للمسرحية الهندية مهابهاراتا، كيف رفض ما يُسمِّيه عملية «تطبيع» اللغة، أي إضفاء الطابع الأوروبي عَمْدًا على اللغة، فاختار عدم ترجمة كلمات معيَّنة مثل ذارما ومثل كشيرترافا؛ لأنه كان يدرك عَجْزَ اللغة المستهدَفة عن نقل أفكار معيَّنة (كاريير، ١٩٨٥م). ولنا أن نُضيف أيضًا أن قراره بالامتناع عن التطويع الثقافي له بُعْدٌ أيديولوجي، ما دام يفترض أن المعايير الأوروبية ليست عالمية، ولكنه يحذر أيضًا من خطر صوغ لغةٍ خاصة لجمهور أقليَّة من المتخصصين في المسرح الذين يريدون الحفاظ على «ابتعاد» المسرح «الغريب». ففي المسرح المتعدد الثقافات تشتبك الاختلافات في اللغة وفي التوقُّعات وفي أساليب الأداء وأعرافه لتُنشِئَ عملًا كُلِّيًّا جديدًا، حيث يشترك الجمهور عمليًّا في حل الشفرات، ودائمًا ما يُحْرَمُ من بلوغ الفهم الكامل، ودور المترجم هنا أن يشغل المساحة الفاصلة بين الثقافات وأن يعمل على تيسير صورةٍ ما من صور الاتصال بين الأعراف المسرحية.
وقد تحدث باتريس بافيس عن «مفترق طرق» الثقافات، حيث تلتقي التقاليد المسرحية وتمتزج. وهذه صورةٌ شعرية مفيدة، ما دامت تُوحِي بعملية تبادُلٍ في التلاقي ما بين النُّظُم الثقافية (بافيس، ١٩٩٢م)، ومما له دلالته أن صورة «مفترق الطرق»، مثل صورة التِّيه، تُوحِي بتعدُّدِ الإمكانيات وترفض أي فكرةٍ عن الانغلاق.
النتائج
سواءٌ كنا داخل التِّيه أو وقفنا عند مفترق الطرق، فلنا أن نُقدِّم تقييمًا للحالة الراهنة ونتأمَّل سُبُل التقدم، أعتقد أوَّلًا وأساسًا أن علينا أن نتخلَّى عن الخَلْط القديم الذي يقول بتعدُّد أدوار المترجم، فمن المُحال أن يطمح المترجم إلى أداء كل شيءٍ وحده. ومن الناحية المثالية يمكن أن يتعاون المترجم مع أعضاء الفريق الذين سيتولَّون تقديم النص التمثيلي على خشبة المسرح. فإذا استحال تحقيق هذا المثل الأعلى، لم يكن من المتوقَّع أن يضع المترجم نصًّا يفترض ملاءمته للإخراج، أو أن يحْدُسَ ما يمكن للممثِّلين أن يريدوا فعله بالترجمة عندما يبدءون العمل بها.
حان وقت كفِّ المترجمين عن تَصَيُّدِ المباني العميقة والنصوص الباطنة المشفَّرة. ولقد كان النص الباطن الحركي من المداخل المنهجية المهمة للكثير من الممثِّلين في الغرب، ولكنه من المهم لنا أن نُدرك الرابطة الضِّمْنية بينه وبين مسرح الواقعية النفسية. ولا نَفْعَ لهذا المفهوم في مسرح ما بعد الحداثية أو المسرح غير الأوروبي أو أي شكل من أشكال المسرح الذي لا يقوم على الواقعية النفسية؛ إذ ينتمي إلى لحظةٍ زمنية محدَّدة ومفهومٍ خاص للأداء، ولا يمكن تطبيقه من جانبٍ واحد باعتباره استراتيجيةً لمترجمي المسرح.
أضِف إلى ذلك ضرورة الاعتراف بحقيقةٍ مَفادُها أن طريقة التعبير الجسدي ليست عالميةً وتتفاوت من ثقافةٍ إلى ثقافة؛ فالحركة ولغة الجسد يختلف تمثيلهما وفهمهما وإعادة تقديمهما في السياقات المختلفة والأوقات المختلفة، وَفْقًا لتفاوُت الأعراف، وتفاوُت الأُطُر التاريخية وتوقُّعات الجماهير المختلفة.
وأما ما يبقى من عمل المترجم فهو الاشتباك بصفةٍ خاصة مع علامات النص؛ أي أن يشتبك مع الوحدات الدالَّة، مع إيقاعات الكلام، ولحظات التوقُّف ولحظات الصمت، والتحوُّلات في النغمة أو في الإطار الدلالي، ومشكلات أنساق النَّبْر؛ أي باختصارٍ مع الجوانب اللغوية وغير اللغوية للنص المكتوب والتي يمكن فكُّ شفرتِها وإعادة تشفيرها. وقد يجد بعض المترجمين فائدةً في قراءة ترجماتهم بصوتٍ مرتفع، ولكن ذلك ليس أداءً مسرحيًّا، وكثيرًا ما يعْمَد مترجمو النثر والشعر إلى قراءة عملهم لأنفسهم بصوتٍ عالٍ، باعتبار ذلك محاولةً من محاولات الاستماع إلى تَدَفُّق لغتهم، لكننا نحتاج أن نعود لتطوير المذهب الذي اقترحه فيلتروسكي الخاص باعتبار النص الدرامي أدبًا، وعلينا أن نفحص بالمزيد من الدقَّة ضُروب التنوُّع في الأنساق الدَّالَّة ما بين النصوص المصدرية والنصوص المستهدَفة، مثل الدور الذي تلعبه أنساق النَّبْر في الإلقاء أو يلعبه الصمت، وعلينا أن ننظر نظرةً أكثر شمولًا إلى طبيعة النص الحواري، وهو الذي قد يُقال، كما بيَّنَتْ رينا بن-شهار، إنه يُشكِّل لغةً فرعية مُتميِّزة في ذاتها (بن-شهار، ١٩٩٤م).
ومن حيث دراسات الترجمة نرى أن الترجمة المسرحية كانت دائمًا من الأقارب الفقراء. ولقد حاولتُ أن أُبيِّن أن ذلك يرجع — في جانبٍ منه — إلى المهمة المستحيلة التي يُكَلَّفُ مترجم المسرح بالقيام بها، ولكنه من الصحيح أيضًا أننا لا نكاد نُحيط بمعرفةٍ تُذكَر (وهو أمرٌ مُحزِن) عن «النَّسَبِ» الذي تنحدر منه الترجمة المسرحية، بالمقارنة بتاريخ الأنماط الأخرى للترجمة. وهذه حالٌ لا بد من تصحيحها. وهكذا فإنَّ على المتخصصين في الترجمة أن يزيدوا من تعاوُنِهم الوثيق مع مؤرِّخي المسرح، وأمامنا إمكاناتٌ هائلة لإجراء المزيد من البحوث في هذا المجال الذي يُعاني من التجاهل.