التطويع الثقافي لبرتولت بريخت
تختلف ترجمة أعمال الكُتَّاب عندما تُعتبر «شوامخ»؛ أي عندما يُعترَف بأنها «رأسمال ثقافي»، عن ترجمتها في غير تلك الحالة، والكُتَّاب يصبحون شوامخ وتصبح أعمالهم رأسمال ثقافي لا استنادًا إلى مزايا تلك الأعمال في ذاتها وحسب، بل أيضًا بسبب إعادة كتابتها، والفصل الحالي يتناول ثلاثة أنماط مختلفة من إعادة كتابة مسرحية الأم شجاعة لبرتولت بريخت إلى الإنجليزية، وهي ترجماتها، والنقد المكتوب عنها، والإشارات الواردة إليها في المراجع، وأرجو أن أُبيِّن أن الأنماط الثلاثة لإعادة الكتابة يمكن النظر إليها في إطار عملها المشترَك، استكمالًا لبعضها البعض، وتناقضًا مع بعضها البعض، في جهودها إما للتطويع الثقافي لبريخت ومحاولة اعتباره كاتبًا معتمَدًا بالإنجليزية، إلى الحد الذي يمنحه مكانًا بين الكُتَّاب البريطانيين والأمريكيين، ومن بينهم «كيبلنج، وسويفت، وجاي، وأبتون سنكلير، وجاك لندن، وديكنز» (إسلين، ١٩٥٩م)، وإما للحيلولة دون التطويع الثقافي والقول بأنه لا حاجة لمَنْحِه رُكنًا في مبنى الأدب الإنجليزي المعتمَد على الإطلاق، وأرجو أن آتيَ بأمثلةٍ توضيحية لمسألتين عامَّتَين مهمتين، الأولى أن الأنماط الثلاثة لإعادة الكتابة المذكورة آنِفًا ترتبط بعلاقةٍ حيوية فيما بينها، والثانية، أن مَن يُعيدون الكتابة، وهم الذين كثيرًا ما يعمل كلٌّ منهم لِغايةٍ خاصة به، ينهضون بأهم دورٍ في التطويع الثقافي، وفي إضفاء «الاعتماد» على الكُتَّاب الذين يُثيرون اهتمامهم، أو يحاولون ذلك على الأقل.
تُرجِمَتْ مسرحية الأم شجاعة للكاتب الألماني بريخت إلى الإنجليزية ثلاث مرات، ترجمها أوَّلًا ﻫ. ر. هيز عام ١٩٤١م، ثم إريك بنتلي عام ١٩٦٧م، ثم رالف مانهايم في ١٩٧٢م. ولنا أن نفترض مطمئنِّين أن بريخت كان كاتبًا مجهولًا نسبيًّا في بريطانيا والولايات المتحدة عام ١٩٤١م، حتى بعد أن كان قد أصبح كاتبًا مشهورًا ومُثيرًا للخلاف في ألمانيا قبل عام ١٩٣٣م، ولكن بلده الأصلي غَدَا أبعدَ ما يكون عن «اعتماده» بعد ذلك العام. بل إنه كان يُحرِقُ كُتُبَه. وأما بريخت الذي تُرجِم عام ١٩٦٧م فهو بريخت الذي ظفر بذيوع صِيتٍ دولي يفوق صِيت شبابه في عام ١٩٤١م، ولم يكن بأقل أسباب ذلك قيام فِرقته «برلينر أنسامبل» [أي فرقة برلين الدائمة] بتقديم مسرحياته التي شاهدها كثيرٌ من أبناء المسرح في بريطانيا وأمريكا، إما في برلين أو في أثناء جولات الفِرقة في البلدان الأوروبية والجُزُر البريطانية حيث حقَّقَ بريخت انطلاقه للشهرة بعد وفاته عندما قدَّمَتْ فِرقتُه في لندن مسرحية صعود أرتورو وي، الذي تُمكِن مقاومته، وعندها «بدأ النُّقَّاد البريطانيون يكيلون المديح لدقَّة العرض، وعاطفته المشبوبة، وطاقاته البهلوانية الجبَّارة، وامتيازه العام» (إسلين، ١٩٦٩م، ص٨٣)، وأخيرًا نرى تقديم بريخت عام ١٩٧٢م باعتباره من الشوامخ؛ إذ نُشرتْ ترجمة مانهايم ﻟ الأم شجاعة في المجلد الخامس من مجموعة مسرحيات برتولت بريخت، وهو المجلد الذي يتضمَّن أيضًا كتابات بريخت النظرية عن المسرح بصفةٍ عامَّة، وعن الأم شجاعة بصفةٍ خاصَّة، إلى جانب ترجمة تشارلز لوتون الخاصة لمسرحية حياة جاليليو، الترجمة التي اشترك فيها مانهايم مع ويليت لمسرحية الأم شجاعة، وحياة جاليليو ومحاكمة لوكوللوس.
لم يكن هيز يُجيد الألمانية الإجادة اللازمة، وخصوصًا التمكُّن من الاستعمالات الدارجة والعناصر الخاصة باللهجات المحلية التي يستخدمها بريخت في الأم شجاعة. وكانت معرفة بنتلي بالألمانية أفضل قَطْعًا، وإن كان يُخطئ أحيانًا أخطاء عارضة. ولكن الإحاطة باللغة الألمانية في الحالين ليست بذات أهمية، فلم تُنشَر مسرحية الأم شجاعة عام ١٩٤١م على شكل كتاب، ولكنها نُشرتْ في المختارات من الأدب الطليعي التي كانت تحمل عنوان «اتجاهات جديدة»، وتصدر مرتين في العام. ولمَّا كانت المسرحية تجمع بين الطابع الطليعي ومعاداة النازيَّة، فلم يكن من المحتمَل أن تُواجِه عقباتٍ كثيرة في قَبولها. وأما ترجمة الأم شجاعة عام ١٩٦٧م فقد نُشرت في كتاب، باعتبارها من الجهود التي يبذلها بنتلي لإدراج مسرحيات بريخت في قائمة المسرحيات التي تُقدِّمها المسارح الأمريكية، وهي الجهود التي شكره الناس عليها آنذاك: «يرجع فضل اعتراف الجمهور العريض بالكاتب بريخت في الولايات المتحدة، وإلى حدٍّ كبير، للناقد المسرحي إريك بنتلي الذي ترجم العديد من مسرحياته وكتب الكثير من الدراسات النقدية الرصينة التي تقدر الكاتب حق قدره» (كونيتس، ص١١٦ أ). ولم يكن يُسمَح للتفاصيل بأن تقف عقبةً في طريق تحقيق الغاية الكبرى، في الحالتين، ولكن هذه التفاصيل، فيما يتعلَّق بالأعمال الكاملة لبريخت التي ترجمها مانهايم وويليت، كانت تتفق مع الغاية الكبرى وتدعمها، وهي التي اختلفت كثيرًا في تلك الآونة؛ إذ إن طَبْع الأعمال المذكورة كان يقصد إلى إتاحة نصوص بريخت بكل ما تتميز به في إطار الثقافة المستقبِلة لها، كان هيز يحاول التقريب إلى أقصى حدٍّ ممكن بين الثقافة المستقبِلة والنص الذي سوف تستقبله، حتى على المستوى اللغوي، وهو مستوًى أساسي، وينطبق ذلك بصفةٍ خاصَّة على بنتلي؛ فعلى سبيل المثال يترجم بنتلي العبارة الألمانية «جُبن فوق الخبز»، وهو المعنى الحرفي، إلى عبارة «جُبن فوق شريحة خبز أسمر»، (بريخت ٣/بنتلي ٢٣) وربما كان يفترض أن يتوقَّع الأمريكيون أن الألمان يأكلون الجبن مع ذلك الخبز الأسمر، ما دامت ألمانيا مصدر هذه العادة، وعلى غِرار ذلك تتحوَّل عبارة «في فلاندرز الجميلة» إلى التعبير الأكثر شيوعًا آنذاك وهو «في حقول فلاندرز» (بريخت ٢٢/بنتلي ٥٢) بحيث يربط المترجم بين حرب السنوات الثلاثين بالحرب العالمية الأولى، وكذلك يفعل مع الكلمة الألمانية «كايزر» [إمبراطور ألمانيا] إذ يستخدمها بصورتها الألمانية في الترجمة كلها.
ويبدو أن المعركة في سبيل بريخت قد اندلعت أساسًا في الخمسينيات والنصف الأول من عقد الستينيات. وكانت «المعارك النقدية» قد بدأت تتركَّز فعلًا حول ثلاثة جوانب مهمة، وهي كما يقول ج. بوكانان-براون «ولاؤه للمذهب الماركسي، وامتيازه الفني، وأهمية مبادئه الأساسية لرسم اتجاهٍ جديدٍ تمامًا في المسرح الحديث» (كاسيل، المجلد ٢، ص٢٠٨ ب)، وسوف أتناول الجانبين الأخيرين أوَّلًا، والجانب المذهبي بعد ذلك.
نستطيع إقامة حُجَّةٍ مُقنِعة على أن جانبًا على الأقل من جمهور المسرح في إنجلترا تقبَّلَ فنَّ بريخت، قبل أن يتقبَّلَه جانبٌ من ذلك الجمهور في أمريكا. وأما الاستقبال الحارُّ لفرقة «برلينر أنسامبل» من جانب قسمٍ كبير من الجمهور البريطاني في عام ١٩٥٦م فلنا أن ننظر إليه أيضًا في إطار المناظرة الدائرة آنذاك حول ضرورة إنشاء مسرحٍ قومي تدعمه الدولة في إنجلترا أو عدم ضرورة ذلك؛ إذ إن معارضة إنشاء مسرحٍ قومي «أصبح من الممكن أخيرًا إخراس ألسنتها فعليًّا بالإشارة إلى فرقة برلينر أنسامبل، التي يرأسها فنَّانٌ عظيم، وتتكوَّن من الممثِّلين والممثِّلات الشباب النُّشَطاء المعارضين للمؤسسة الاجتماعية، بمذهبهم التجريبي الكامل، وأفكارهم الجديدة الفيَّاضة، وهي الفرقة التي تُقدِّم لها الدولة دعمًا كاملًا» (إسلن، ١٩٦٩م، ص٧٥–٧٦).
ولمَّا كان جانبٌ من جوانب «هيئة العاملين» بالمسرح في إنجلترا قد وجد في بريخت وفي مسرحه ما يمكن أن يعود عليه بالنفع، فقد بسط رعايته على بريخت، وانطلق يُناصِرُ عمله ويدعو له، خصوصًا عندما «أصبح كينيث تاينان الناقد المسرحي لصحيفة الأوبزيرفر في عام ١٩٥٤م، وسرعان ما جعل اسم بريخت علامته التجارية ومحكَّ قِيَمِه» (إسلن ١٩٦٩م، ص٧٦)، ونهض إريك بنتلي بدورٍ مُماثِل في أمريكا، ولكنه كان مضطرًّا إلى أن يسير بحذرٍ فترةً ما، كانت المُختارات التي نشرها عام ١٩٥١م بعنوان المسرحية لا تتضمَّن أي عملٍ من أعمال بريخت، كما أنه يقول في مقدمتها: «إن النُّقَّاد الماركسيين يهتمُّون اهتمامًا أكبر مما ينبغي بالمضمون أو الموضوع» (بنتلي ١٩٥٦م، ص٦) ومن ناحيةٍ أخرى. كان الجزء الثالث من سلسلة مختارات بنتلي بعنوان من الربرتوار الحديث، يقول إنه «مُهْدًى إلى ذكرى برتولت بريخت».
ومن الطريف أن الجانب الذي يجتذب أنصار بريخت إلى قضيته هو نفسه الجانب الذي يُثير أشد العداء تجاهه بين الذين يريدون أن يعملوا ضد تطويعه ثقافيًّا، وذلك الجانب — بطبيعة الحال — هو نظريته الشخصية إلى حدٍّ بعيد عمَّا ينبغي أن يكون عليه المسرح؛ أي «مبادئه الأساسية» الكثيرة، التي لا تتوقف عن الدوران حول ثيماتٍ منوَّعة، تحاول أن تُعرِّف و/أو تشرحَ ما أصبح يُعْرَفُ بمصطلح «المسرح الملحمي».
- (١)
من الممكن إدراك جودة المسرحيات نفسها وتقدير قيمتها، ورفض أقواله عن المسرح دون مناقشة، مثل القول بأن «نظرية التغريب لا تزيد عن كونها هُرَاءً؛ إذ يدحضها الطابع المسرحي الصادق لجميع أعماله الفُضلَى» (جوتفريد، ١٩٦٩م، ص٢٣٩)، وعلى نفس المنوال يُقال إن بريخت «لا يأبه للحدث الدرامي أو الحبكة الدرامية» (كاسيل، ٢، ص٢٠٨) كما يُقال إن كل مشهدٍ في مسرحياته «يُذكِّرنا بحديثٍ أو محاضرة لا بمسرحية» (كاسيل، المكان نفسه).
- (٢)
من الممكن أن يعمَدَ المرء إلى رفض مقولات بريخت عن المسرح لأسبابٍ نفسية؛ أي باعتبارها نماذج لمحاولةٍ لم تُحقِّق نجاحًا كبيرًا في إضفاء العقلانية على عوامل غير عقلانية في جوهرها. وربما كانت قد دمَّرَتْه لولا محاولته إضفاء تلك العقلانية، كقول كلورمان: «لا آبه للنظرية، فأنا مقتنعٌ أن بريخت يكتب بهذا الأسلوب، لا انطلاقًا من حسابٍ محتوم قائم على ما يعتقد بأنه يُمثِّل الأهداف الصحيحة للعصر الثوري الحالي، بل انطلاقًا مما يُملِيه عليه طبعه» (١٩٧٤م، ص١٥٢). ومن الممكن التَّمادي في تطبيق هذه الاستراتيجية والقول بأنَّ طَبْع بريخت كان يتميز بالتناقض الشديد إلى الحد الذي جعله يأخذ بالنقيض التام لما يريد أن يقول حتى يستطيع أن يقوله؛ إذ يزعم إسلن أن بريخت «يستطيع أن يتخفَّى بقِناع السخرية فيُجارِي النوازع «المثالية» بل الدينية التي لم تكن نفسه العقلانية اللامبالية تسمح له بالإقرار بها» (١٩٥٩م، ص١٠٤ ب).
- (٣)
من الممكن أن يُحاوِل المرء أن يُثبِت (ومن المهم أن ينجح في محاولته أن يُثبِت) أن أقوال بريخت عن المسرح لا تتميَّز حقًّا بالجِدَّة والثورية المفترضة، وذلك بأن يُعيد المرء كتابتها في إطار المفاهيم القديمة والتقليدية للمسرح، مثلما يفعل سكيلتون الذي يقول: «إن هذه الأفكار تبدو أشد جِدَّةً على الورق مما تبدو عليه فوق خشبة المسرح، فهي بصفةٍ عامَّة مبادئ الكوميديا التي يُطبِّقها بريخت على مسرحيات ذات مضمونٍ جادٍّ» (١٩٥١م، ص٥ ب)، أو من الممكن أن تعترف بأن بريخت قد أنجز شيئًا ما، ولكن هذا الشيء لم يكن جديرًا بإنجازه، مثلما يفعل برايس-جونز قائلًا: «لم ينجح أحدٌ بالفعل في تدمير المسرحية المحبوكة نجاحَ بريخت في ذلك، في شتَّى أرجاء أوروبا، ولكن إنجازه المذكور يتَّسِم بجانبٍ سلبي كبير؛ إذ إن مسرحياته — إنْ شِئنا الإيجاز — غير مُمتِعة» (١٩٦٣م، ص١٠٧ ب).
- (٤)
وأخيرًا نرى استراتيجيةً قد تكتنفها أكبر الأخطار، وإن كان من الممكن أيضًا أن تأتي بأعظم الثمار، فمن الممكن إقناع أهل المسرح والجمهور العريض أن المفاهيم القديمة للمسرح تستطيع في الواقع استيعاب أقوال بريخت، وبأنه يوجد مكانٌ يتَّسِع لها في أحد منازل المسرح الكثيرة، وبأن السماح بدخولها أحد تلك المنازل لن يُؤدِّي إلى هدم المبني كله، كما يقول بروكيت: «يُفسِّر بعض النُّقَّاد مفهوم التغريب قائلين إن على الجمهور أن يحافظ على الابتعاد العاطفي طول الوقت، ولكن بريخت يتلاعب بالبعد أو الانفصال الجمالي حتى يُتيح للجمهور أن يُشارك شعوريًّا في المسرحية ثم إذا بالمؤلف قد هدم ذلك التجاوُب حتى يستطيعَ الجمهور أن يُصدِر حُكمًا نقديًّا على ما شعر به» (١٩٧١م، ص٢١٦)، وهذه مقولةٌ بارعة حقًّا؛ إذ تسمح لك أن تحتفظ بموقفك الأرسطي وبأن تُدمِّرَه في الوقت نفسه من وجهة نظرٍ بريختية. وربما كان أقصى نجاحٍ ممكن من خلال هذه الاتفاقية قد حقَّقَه إريك بنتلي؛ إذ يُطلِق على «المسرح الملحمي» اسمًا جديدًا أكثر منه إيحاء بالمصطلح التقني ألا وهو «مسرح الواقعية السردية»، ويُواصِل كلامه قائلًا: إن هذا المسرح «يشترك مع المسرح العظيم في الماضي السحيق في خصائص تزيد عما يشترك فيه مع مسرح اليوم والأمس» (١٩٤٦م، ص١٠٠ ب) وهو ما يعني أن مفهوم المسرح الذي يُناصِره مَن ينتقصون من قدر بريخت ليس في حقيقته إلا انحرافًا، في حين أن بريخت يعود إلى معايير المسرح التقليدي.
وتعود الاستراتيجيات الأربع إلى الظهور في نقد الأم شجاعة وتفسيراتها، بوصفها مسرحيةً تختلف عن بريخت كاتبها، والمثال على الاستراتيجية الأولى النقدُ الذي نشرَتْه مجلة «فارايتي» لعرض المسرحية عام ١٩٦٣م في بروداوي، بنيويورك؛ إذ يقول: «إنها مسرحيةٌ ساذجة الوضوح تقوم على البرود العاطفي، وتُدرك ما بها من الرتابة والملل» (مقتطف في شيبس ١٩٧٧م، ص٢٦٥). ومن الممكن أن نقول، على مستوًى أدق عمليًّا، إن المسرحية لم تنجح وحسب لأن صورة الحرب التي يرسمها بريخت فيها تختلف عن صورة الحرب في عينَي ذلك الناقد، مثلما يفعل كوريجان قائلًا: «الحرب تُكسِبُنا المال فعلًا، وهو ما نُحِبُّه، والحرب تخلق الشجاعة فعلًا، ونحن نعجب بها، والحرب تدعم فعلًا مؤسسات المجتمع الثابتة، ونحن نريد الحفاظ عليها، والحرب تُعزِّز إحساسنا بالحب والأخوَّة، وهو ما نُعلِي من قيمته» (١٩٧٣م، ١٢٠ أ).
وتظهر الاستراتيجية الثانية في موسوعة فونك وواجنول للأدب العالمي، ومن المهم أن نُشير إلى أن الكلام هنا لا يقوله كلورمان. بل إن ما يلي يُمثِّل قيام مارتن سيمور-سميث بإعادة صياغةٍ للاستراتيجية: «إن مُخيلته وحُبَّه الخاص للحياة قد خَلَقَا عملًا يتجاوز أية قضية؛ إذ لم يستطع أن يسلب الأم شجاعة إنسانيتها. بل إن النُّقَّاد الماركسيين ذوي المذاهب الجامدة أيضًا أقَرُّوا بطابعها الإنساني» (ص٦٤٢).
ويحاول جون ويليت تطبيق الاستراتيجية الثالثة في وقتٍ مبكِّر؛ أي في عام ١٩٤٩م، في نقده لعرض الأم شجاعة في برلين، وهو ما أُعِيدَ نشرُه عام ١٩٨٤م، قائلًا: «ربما كانت المسرحية تُثير الاكتئاب. وربما كانت مُرهِقة، ولكنها ليست رخيصةً على الإطلاق، وأسوأ ما يمكن أن تُوصَف به أنها تشبه كتابًا ضخمًا مُمِلًّا لا يريد أحدٌ أن يقرأه، لكن كل مَن يقرؤه يشعر بالرضى عنه. ومثل هذه المسرحية لا يصُبُّها المؤلف فيك دون جهدٍ منك، ولكن الجهد جديرٌ بأن تبذُلَه» (ويليت، ١٩٨٤م، ص٣ ب).
وأخيرًا يصوغ بروشتاين الاستراتيجية الرابعة على النحو التالي: «ومع ذلك، فلا بد أن ندرك أن بريخت يُدرِك — فعلًا — نواياه الواعية إزاء الشخصية، وأن المأساة التي خلقها عامِدًا تتعايش مع مسرحية الأخلاق التي وضع تصميمها» (بروشتاين، ١٩٦٤م، ص١٢ أ).
وفي إطار الترجمات الثلاث التي نُناقشها هنا، تقع ترجمة مانهايم بين الاستراتيجيتين الثالثة والرابعة. وأما هيز وبنتلي فيدخلان في الاستراتيجيتين الثانية والثالثة ويخرجان منهما عدَّة مرات، والمشكلة الرئيسية بطبيعة الحال تطويع ما يتَّسِم به بريخت من ألفاظٍ مباشرة وأساليب العرض المسرحي الجديدة كل الجِدَّة حتى تُلائِم مفهوم المسرح الذي ترمُز برودواي له، ويصوغ الفكرة ألان برايس-جونز صياغةَ النقش البديع قائلًا: «لمَّا كانت [مسرحيات بريخت] تُناهِض البورجوازية والاحترام فإنها ترمي إلى أن تُمثِّل تهديدًا لجمهور المسرح لا حافزًا له» (١٠٧ ب/١٠٨ أ). بل إن ويليت نفسه الذي يُناصِر بريخت كتب في عام ١٩٤٩م يقول: «لن يستطيع جمهورٌ مسرحيٌّ أن يتقبَّلها [أي مسرحيات بريخت] إذ أحاطها بأطراف نبات الصبَّار الشائك الصغير الحقير الغريب المتُمثِّل في بِدَعِه الخاصة» (ص٤ أ). والمقصود بالجمهور هنا الجمهور الأمريكي، وللمرء أن يعكس بسهولةٍ وضع هذه المقولة فيعتبر أن مفهوم مسرح برودواي نفسه نوعٌ آخر من «البِدَع»، ومما له دلالته أن ويليت كان في بداية عمله يقبل بأسلوبه الواقعي اعتبار مسرح برودواي معيارًا له، على الرغم من استعداده لقبول بريخت بالصورة التي وضعها بريخت نفسه.
ويصف «هيربرت بلاو» مقاومة برودواي لبريخت، أو بالأحرى مقاومة مفهوم برودواي المسرحي لبريخت، بأسلوبٍ يكشف عن الكثير في ما يرويه عن تعامُل فرقةٍ مسرحية أمريكية في الواقع مع إخراج الأم شجاعة، وهو يبدأ حديثه بوصف مقاومة الجمهور لبريخت على النحو التالي: «لم ندفع أحدًا من قبلُ إلى ترك المسرح مثلما فعلنا أحيانًا بهذه المسرحية» (بلاو ١٩٦٤م، ص٧ أ) وبعد ذلك يشرح كيف حاول الممثِّلون أن يتغلَّبوا على رد فعلٍ مُماثِل، قائلًا: إن الممثِّلين شعروا، بعد الانتهاء من قراءة المسرحية كاملةً أول مرة، «بالغربة؛ كما أحَسُّوا أيضًا بالملل، فلم يكن بالمسرحية نبضٌ حيٌّ، باستثناء مشهدٍ واحد يُثير التعاطف حقًّا، وهو الذي تقوم فيه كاثرين، الابنة الخرساء، بدَقِّ الطبل على سطح المنزل» (ص٧ أ)، واستخدام مصطلح «الغربة» في هذا السياق يُذكِّرنا تذكيرًا قويًّا بالاستراتيجية الثالثة التي حدَّدْناها آنِفًا. وقد يصف المصطلح بالدقَّة الكافية ما شعر به الممثِّلون، ولكنه لا علاقة له على الإطلاق باستخدام بريخت لمصطلح التغريب. ومع ذلك فالممثِّلون لا يعترضون، ولا يزالون ملتزمين بمستوى الاستراتيجية الثالثة إذ يقول بلاو «إن اكتشاف هذه المسرحية قد تسبَّبَ في الحرج لنا؛ إذ كان معيارًا لنقائصنا الخاصة وجوانب تعصُّبِنا الثقافي» (ص٧ ب)، خصوصًا عندما يكتشف الممثِّلون أن أسلوب إخراج بريخت للمسرحية، على الرغم من اختلافه الشديد عمَّا اعتادوه، ينجح فعلًا في الواقع، «ما أكبر الصدمة التي أصابتنا في أول بروفة لنا بالملابس، وإن كان يجب علينا أن نعرف أن ملابسنا المسرحية كانت تشبه الملابس المسرحية (ولم يكن بدٌّ من ذلك)» (٨ ب)، ونجد أخيرًا أن إخراج المسرحية يجعل كثيرًا من الممثِّلين ينتقلون من مستوى الاستراتيجية الثالثة إلى مستوى الرابعة، وبعضهم لا يزال «يُفضِّل الجزء الأخير من المسرحية؛ إذ لا يزال معظمنا يميل إلى قصر الطابع الدرامي على الإيقاع السريع وكل ما يتَّسِم بالعنف» (ص٩ أ). ولكن الذين انتقلوا من المستوى الثالث إلى المستوى الرابع يُدرِكون أن «الدراما توجد في الأطراف الهادئة للتاريخ بقدر وجودها في المنتصف المتَّسِم بالإثارة» (ص٩ أ)، حتى ولو كان من حقِّنا أن نتساءل إن كان بريخت يريد لمسرحيته أن تُؤدِّي إلى هذا الإدراك.
كان هيز وبنتلي يريدان جعل بريخت ملائمًا لبرودواي، فحاولا أن «يشرحا» لجمهورهما أو قُرَّائهما المعنى الذي كان بريخت يريد من جمهوره وقُرَّائه أن يصِلوا إليه بأنفسهم؛ إذ يكتب بريخت إرشادًا مسرحيًّا يقول: «تَثِبُ كاترين الخرساء من العربة وتُصدِرُ أصواتًا مُزَمجِرة» ولكن هيز يقول: «تُصدِر الخرساء كاترين صيحاتٍ متحشرجة لأنها تُلاحظ الاختطاف» (بريخت ٣٧/هيز ١٢ [والتأكيد من عندي]). وتقول الأم شجاعة لكاترين: «أنت نفسك صليب، وعندك قلب طيب» وهيز يترجم هذه الكلمات على النحو التالي: «أنت نفسك صليب، وما العون الذي تُقدِّمينه لي؟ وعلى أية حال فلديك قلبٌ طيِّب» (بريخت ٣٤/هيز ١١) ويترجمها مانهايم هكذا: «أنت تصلبين نفسك لأنك ذات قلبٍ طيِّب» (بريخت ٣٤/مانهايم ١٤٢)، والكلمات بالبُنط الأسود ليست في النص الألماني.
ويُحاول بنتلي أن يحلَّ مشكلة زيادة شفافية بريخت بالمبالغة في استخدام الكلمات المركَّبة والمطبوعة بالخط المائل؛ إذ تتحوَّل عبارةٌ مثل «من أنت؟» عنده إلى «مَن تظنين مَن تكونين؟» (بريخت ٢٤/بنتلي ٤)، وعبارة «ولكن ليس لدينا أي طعامٍ أيضًا» تُصبح عنده «والأمر لا يختلف كثيرًا، فليس عندنا أيضًا أيُّ طعام» (بريخت ٣٩/بنتلي ١٣)، وأخيرًا نجد أن عبارة «سوف يقصف القائد رقبتك إن لم يكن على المائدة شيء» يترجمها بنتلي بالكلمات التالية: «أعرف مشكلتك: إن لم تجدي طعامًا على وجه السرعة، فسوف يقصف الرئيس رأسك السمين» (بريخت ٤٠/بنتلي ١٤).
يتضمَّن النص الأصلي تسع أغنيات، وفي ظني أن الكثير منها قد حُذِف. وربما يكون السبب أنها لو بقيت جميعًا في النص لزاد الوقت المستغرَق في غنائها وأدائها على أربعٍ وعشرين دقيقة، ولأقدمَتْ نقابة الموسيقيين على اعتبار العرض مسرحيةً موسيقية، ويقتضي هذا التصنيف، طبقًا لِلَّوائح، استخدام أربعةٍ وعشرين موسيقيًّا، وتحمُّل تكاليف باهظة.
ويُضيف بنتلي «سطورًا انتقالية» بين النص المنطوق والأغنية، في حالة «أغنية المرأة والجندي» حتى يُضفِي على الأغنية مزيدًا من مذاق المسرحية الموسيقية، والإضافة هي: «تأتي بائعةُ الأسماك إلى هذا الجنديِّ الشاب/وتقول البائعةُ الهَرِمَة ما يأتي» (بريخت ٤٥/بنتلي ١٨).
لقد خَلَتْ هذي البلادُ كلُّها من اللحومْ/قد اشتَهَرْتُمو ولكن لا نرى الخُبزَ العَميمْ/وهكذا أجيءُ باللذيذِ من خير الطُّعومْ/وبالنبيذ حتى تشربوا وتَنزِعُوا الخوفَ المُقِيمْ.
كما يحرص بنتلي على زيادة اتِّفاق نصوص الأغاني مع أسلوب المسرحية الموسيقية ونطاقها الشعري. وهكذا فإن السطور الموجَزة التي تُمثِّل الختام في بريخت وهي:
يحشوها بنتلي بسلسلةٍ من التعبيرات ذات القوالب النَّمَطية فتصبح:
لم يُبْقِ بنتلي على شيءٍ يُذكَر من نص بريخت، والإشارة إلى فصول العام والذكرى الحزينة، وهي التي تقتضيها مسارح برودواي في حالاتٍ كثيرة، تشهد قَطْعًا على ما فعل، ويُسيطر النطاق اللغوي للمسرحية الموسيقية سيطرةً كاملة عندما يترجم بنتلي الكلمات التالية؛ إذ يقول النص الألماني «يا مَن تُدعَى شنابس، يا مُضيفي، أسرِع!/فالفارس على ظهر جواده لا وقتَ عنده/فعليه أن يُحارِب في سبيل إمبراطوره»، وبنتلي يترجمها على النحو التالي: «يا مَن تُدعَى شنابس، يا مُضيفي، أسرِع وتعجَّل!/فالجندي ليس لديه وقتٌ يُضيعه/ولا بد أن يُطلِق النار، النار، النار/مُجْتَثًّا أعداء قيصره» (بريخت ١٠١، بنتلي ٤٩). والسطور الأخرى التي تُمثِّل القرار في كل أغنيةٍ يترجمها بنتلي بانتظامٍ شديد، [وَفْقَ تقاليد المسرحية الموسيقية] إذ تتحوَّل الكلمات التالية في النص الألماني «لا بد من رحيله إلى مورافيا» إلى ما يلي عند بنتلي: «لا بد أن يُبدِي الكراهية، الكراهية، الكراهية/لا ينبغي أن يطول انتظار قيصره.» وأما العبارة الموجَزة: «لا بد أن يموت في سبيل إمبراطوره»، فتُصبح «لا بد أن يموت أن يموت أن يموت/من أجل تمجيد قيصره» (بريخت ١٠١/بنتلي ٥٠).
وأقلُّ ما يمكن قولُه من باب الرأفة ما يلي: لا بد أنَّ بنتلي كان يعتقد أن هذه الطريقة في الترجمة سوف تُيسِّر التطويع الثقافي لبريخت خيرًا من الترجمة الحرفية. ومع ذلك، فإن ترجمة بنتلي تُيسِّر أيضًا تصوُّر اعتراض الممثِّلين الأمريكيين، في المتوسط، وعدم لومهم على اعتراضهم.
ويتَّسِم بناء مسرحية بريخت بالوقائع المنفصلة الموجَزة، وبالإشارات المسرحية التي تقصد إلى الإلماح إلى حدٍّ ما بأسلوب تمثيل الممثِّلين، وهذان مَعْلَمَان من معالم المسرح التي لا تُحقِّق نجاحًا كبيرًا في المسارح التي تُهيمِن عليها المسرحية المحبوكة. وهكذا يُعيد هيز تقسيم نصِّ بريخت إلى فصولٍ ومشاهد، ويحتفظ بنتلي بالمشاهد عند بريخت، مانحًا كُلًّا منها عنوانًا، وهو السطر الأول من نص بريخت، وكلٌّ منهما يُحوِّل إرشادًا مسرحيًّا موجَزًا مثل «عندما يأتي الطبَّاخ، يُحَمْلِقُ في أشيائه، مُشوَّش الذهن» إلى كلامٍ أدق وأقرب إلى أفهام جيلٍ كامل من الممثِّلين دَرَجَ على أسلوب ستانسلافسكي في الإخراج، أو على الشكل الأمريكي لذلك الأسلوب على الأقل؛ فالإرشاد السابق يتحوَّل إلى ما يلي: «ثم يعود الطبَّاخ ولا يزال يأكل، ويُحَمْلِقُ في دهشةٍ في أشيائه» (بريخت ١٩٢/هيز ٧٢/بنتلي ٧٢). بل إن مانهايم نفسه لا يُبدِي الثقة في كل حالةٍ بأنَّ نَصَّ بريخت يكفي في ذاته. فعندما تموت كاترين تقول الأم شجاعة: «ربما كانت نائمة». ولكن الترجمة تقول: «ربما استطعتُ أن أجعلها تنام» ثم تُغنِّي الأم شجاعة أغنية النوم التي تُغَنِّيها أيضًا في بريخت، وتُضيف قائلةً: «لقد نامت الآن» (بريخت ١٥٣/مانهايم ٢٠٩). والإضافة غير موجودة في الأصل، وبالمثل. فعندما تُقرِّر الأم شجاعة ألَّا تشكو، رَغم كل شيء، إلى القائد، بل أن تنهض وتخرج وحسب، مُخْتَتِمةً المشهد، يُضيف بنتلي إرشادًا مسرحيًّا من عنده يقول «يتطلَّع الكاتب العمومي إليها وهي خارجة، ويهزُّ رأسه» (بريخت ٩٠/بنتلي ٤٤).
ويُمثِّل حوار بريخت مشكلةً أخرى؛ إذ لا بد أن يتدفَّق بسلاسةٍ حتى يتفق مع مفهوم المسرح السائد في بريطانيا وأمريكا. وأوضحُ استراتيجية لتحقيق ذلك إعادة توزيع السطور على الممثِّلين، فمِن الواضح أنه لا ينبغي السماح للممثِّلين بالوقوف صامتين فترةً أطول مما ينبغي، ومن ثَمَّ فعندما تقول إيفيت — المُومِس — في الأصل الألماني «إذن نستطيع أن نخرج وننظر. أحب أن أخرج وأبحث عن الأشياء، أحب أن أتمشَّى معك يا بولدي، أليس ذلك لطيفًا؟ حتى لو استغرقنا أسبوعين»، تتحوَّل الفترة نفسها عند بنتلي إلى «إيفيت: نعم! لنا بالتأكيد أن تبحث عن شيء. أُحِبُّ المشي والنظر، أحب أن أتمشَّى معك يا بولدي، الكولونيل: حقًّا؟ فعلًا؟ إيفيت: إنه أمرٌ لطيف، وأستطيع أن أقضي فيه أسبوعين! الكولونيل: حقًّا؟ تعنين ذلك؟» (بريخت ٧٦/بنتلي ٣٦).
وعلى غِرار ذلك تُضاف في الترجمة بعض المشاعر إن كان النص الأصلي يفتقر بوضوحٍ إليها، على الأقل في نظر بنتلي. فعندما تُدِين إيفيت الطبَّاخ قائلةً «إنه أسوأ رجلٍ يجري على الساحل الفلمنكي كله، كانت لديه امرأةٌ في كل أصبع، ودمَّرَهُنَّ جميعًا» تتحوَّل كلماتها عند بنتلي إلى «إنه فاسد، لن تجد أسوأ منه في الساحل الفلمنكي كله. لقد أوقع في المشاكل عددًا من الفتيات يزيد عن (مُركِّزًا على الطبَّاخ) الكلب الحقير! صائد العاهرات اللعين! المَغْوِيُّ قلبًا وقالبًا! (بريخت ١٢٥/بنتلي ٦٣)، وبنتلي يُضيف الإرشاد المسرحي وما بعده إلى النص الأصلي.
وتتعلَّق «المعركة الحساسة» الأخرى التي دارت حول بريخت ﺑ «ولائه للمذهب الماركسي» إذ يقول النُّقَّاد لقُرَّائهم إن بريخت يكتب بهذه الطريقة «لا من أجل التجديد وحسب» (كتابات القرن العشرين ١٩٧١م ص٨٨) ولكنه كان يحاول إخضاع جماهيره «مباشرةً لرسالةٍ ماركسية» (المرجع نفسه ص٨٩).
وكما هو متوقَّع، كانت إحدى الاستراتيجيات المفضَّلة في هذا الصدد تتمثَّل في النبذ على أساسٍ سيكلوجي، وهو الذي يسمح للناقد أساسًا بأن يقول: إن بريخت لم يكن يعرف حقًّا ما يفعله. وهكذا فإنَّ على جماهير المسرح وجماهير القرَّاء أن تُركِّز على مسرحياته، لا على أيديولوجيته، مثل جاسنر الذي يقول: «إن طابعه الفريد باعتباره فنَّانًا لا يكمُن في المضمون أو المذهب السياسي، بل في الأسلوب الذي ترجم به اتجاهًا معيَّنًا في الدراما، وأسلوب الإخراج، والنظرية الدرامية» (١٩٥٤م، ص١٠١ ب)، وأقصى ما يمكن أن يُقال عن ماركسية بريخت، في حدود هذه الاستراتيجية، نجده في عبارةٍ شاردة من لونٍ ما مثل «لقد جعلَتْه ماركسيته ينطلق انطلاقاتٍ بلهاء في دروبٍ اقتصادية ساذجة» (أودونيل، ١٩٦٩م).
ومن الممكن أيضًا أن نعترف بأن بريخت كاتبٌ عظيم وإن أبدَيْنا الأسف لكونه ماركسيًّا، ولم نتجاهل تلك الحقيقة، وفي سبيل هذه الغاية وُضعتْ ضروبٌ منوَّعة من استراتيجية النبذ المذكورة؛ إذ يتصوَّر المرء أن الماركسية لم تأتِ بالسعادة إلى بريخت، في نهاية المطاف: «فالأيديولوجية الشيوعية تُساعده على تجسيد أحاسيسه وإضفاء العقلانية على فنه، وهي تُشجِّعه على إيجاد سببٍ خارجي لنوازع القسوة والطمع والشهوة التي يجدها في الحياة، ولكنها جميعًا لا تُعادل في الحقيقة القلق الميتافيزيقي عند بريخت» (بروشتاين، ١٩٩٠م، ص١١١ ب)، ولا غَرْوَ إذن أن يُقال لنا في اللحظة نفسها إن «ما يريده بريخت حقًّا هو النيرفانا [التنوير] البوذي» (بروشتاين، ١٩٩٠م، ص١١٢ أ)، وعلى غِرار ذلك يُقدِّم إلينا ناقدٌ آخر لمحةً عن «بريخت الحقيقي خلف واجهة الدعم البهيج للنظام الحاكم في ألمانيا الشرقية؛ إذ إنه رجلٌ ذو أشجان، انقشعت أوهامه، فبات يحلم بأرض طفولته في أوجسبرج» (إسلن، ١٩٥٩م، ص١١٩ أ).
وتقول صورةٌ أخرى من صور هذه الاستراتيجية إن بريخت عُوقِب عقابًا شديدًا، حقًّا، على ما فعله؛ إذ تزعُم هَنَّا أَرِنْتْ أنه فقد «موهبة الإبداع الربانية» (ص١١٤ أ) «بعد أن استقرَّ به المُقام في برلين الشرقية، حيث كان يستطيع أن يرى، في كل يوم، معنى أن يعيش الناس في ظل نظام حكمٍ شيوعي» (ص١١٥ أ)، ولهذه الاستراتيجية مَزِيَّةٌ إضافية، ألا وهي افتراض التفوُّق المُضمَر للغرب، ما دام الغرب هو القادر، على أية حال، على الصفح عن بريخت؛ إذ يقول بوليتسر «كان الغرب الحرُّ المكانَ الذي يُرحِّب بهذا الكاتب، حتى هذه اللحظة، ويناقشه ويتعلَّم منه ويعرض مسرحياته. ومن المُفارَقات أن بقاء بريخت قد يعتمد على بقاء الغرب، وهو البقاء الذي كان بريخت قد حاول جاهدًا، بكل المعايير العادية أن يمنعه» (١٩٨٢م، ص٣٢ ب).
وأما المُفارَقة الدرامية الكبرى، بطبيعة الحال، فهي أن مُنشِئ المسرح الملحمي يمكن أن يتحوَّل هو نفسه إلى بطل تراجيدي، يُعمِيه خطؤه التراجيدي، ويمنعه من إدراك أنه «حقَّقَ أعظم نجاحٍ له مع الجماهير غير الشيوعية التي كانت (في رأي بريخت) قد أساءت فهم «الرسالة» الثورية الاجتماعية في مسرحياته أو لم تُدركها» وأيضًا من إدراك «أن الضرر الذي أحدثته [الماركسية] بعمله ضررٌ واضحٌ كل الوضوح» (كاسيل، ١٩٧٣م، ص٧٧ ب)، وفي أقصى تجسيدٍ لهذه الاستراتيجية نجدها تُحوِّل بريخت إلى بطلٍ مسرحي مثل فاوست، يبيع روحه للماركسية؛ لأنه حصل في جمهورية ألمانيا الديموقراطية «على ما كان من المُحال أن يحصل عليه في الغرب؛ ألا وهو مسرحه الذي تدعمه الدولة دعمًا سخِيًّا» (كاسيل، ١٩٧٣م، ص٧٨ أ).
وتتمثَّل استراتيجيةٌ أخرى في الإعجاب الحاسد؛ إذ يقول جرينبرج إن «بريخت يمكن اعتباره الكاتب الوحيد الذي انتزع من الستالينية أي شيءٍ يُعَدُّ أو يشبه الفن العظيم الأصيل» (١٩٦١م، ٩٨ أ)، وعلى غِرار ذلك يقول كوريجان إنه إذا كان بريخت ماركسيًّا، فإنه قد احتفظ بنزاهته باعتباره فنَّانًا على الأقل، «فلم يركع قطُّ تبجيلًا للشيوعية، ولم يسمح في حياته بأن يعتبر مسرحه مزارًا مقدَّسًا» (١٩٧٣م، ١٢٠ ب).
والاستراتيجية الأخيرة تتمثَّل في التظاهُر بأن بريخت ليس ماركسيًّا في الحقيقة، ولكن بصورةٍ سطحية فقط، والقول بأن التزامه الحقيقي يتجاوز أية قضيةٍ سياسية مباشرة؛ إذ يقول بنتلي: «يوجد بريخت الحق تحت المستوى السياسي؛ فهو شاعر الديموقراطية بمعناها الأعمق من المعنى الذي يُطبَّق على مُناصري قضايا محدَّدَة» (١٩٥٣م، ٩٨ أ)، ويُواصِل كوريجان هذه النغمة نفسها متسائلًا كيف يمكن لبريخت أن يكون ماركسيًّا حقًّا ما دامت «النظرة الحداثية ﻟ «اللاعقلانية» تتناقض تناقضًا كاملًا مع الفكر الماركسي؟» (١٩٧٣م، ١٢٠ ب).
وينبغي ألا نُدهَش إذن لخلوِّ ترجمتَيْ هيز وبنتلي من أي شيء تُشْتَمُّ فيه الماركسية أو أي شيء يُوحِي ولو من بُعد ﺑ «الصراع الطَّبَقي»؛ إذ إن هيز يُخفِّف بانتظام من قوة المذهب السِّلْمي الشديدة، فيحذف أحاديث كاملة، مثل الحديث التالي بسخريته المريرة: «ليست الحرب يسيرةً في البداية، مثل جميع الأشياء الطيبة، ولكنها ما إن تبدأ حتى يصعُب التخلُّص منها؛ فالناس تخشي السِّلْم، مثل لاعبي النَّرْد الذين لا يريدون التوقُّف؛ لأن عليهم أن يدفعوا المال إن توقَّفوا، ولكنهم يخافون الحرب في البداية، فهي جديدةٌ عليهم.»
كما يُضعِف هيز من الرابطة الواضحة بين الحرب والتجارة في شخص الأم شجاعة، بأن يحذف بعض الكلمات التي يضعها بريخت على لسانها، مثل قولها «علينا الآن أن نُواصِل المسير؛ فالحرب لا تندلع كل يوم، ويجب عليَّ أن أُسرِع»، ويُهوِّن بنتلي أيضًا من شأن المذهب السِّلْمي؛ فالحديث الذي يقول بالألمانية «تستطيع أن ترى أن الحرب لم تستمرَّ هنا فترةً طويلة، دعني أسألك إذن من أين أتيت بِشِرْعتك الأخلاقية؟ السِّلْم حالٌ مهترئة. ولا بد من الحرب لإقرار النظام؛ فالبشر يصبحون جامحين جانحين في ظل السِّلْم» يتحوَّل عنده إلى عبارةٍ واحدة وحسب، وهي «ما يحتاجون إليه هنا هو حربٌ ضَرُوس» (بريخت ٢٢/بنتلي ٣)، وأضِف إلى ذلك أن بعض الألفاظ والعبارات المرتبطة بالحرب تضعها الترجمة في نطاقٍ دلالي أنبل، فالجملة التي تقول: «سيخرج كِلانا إلى ذلك الميدان حتى نُسَوِّي هذه المسألة وسط الرجال» تصبح «سيخرج كِلانا الآن حتى نُسَوِّي هذه المسألة في ميدان الشرف» (بريخت ٣٠/بنتلي ٨)، وعبارة «بالحِراب والمدافع» تصبح «بالنار والسيف» (بريخت ١٤٥/بنتلي ٧٦). وأما مانهايم الذي ترجم بريخت بعد هذين، وفي مناخٍ أكثر تعاطفًا مع بريخت، فيتخذ المدخل المضادَّ ويزيد من إبراز المذهب السِّلْمي والتصريح به، فيترجم الجملة التي تقول «ما أكثر الذين كانوا يريدون الكثير الذي لم يكن متاحًا لعددٍ كبير» بما يلي: «يتصوَّر بعض الناس أنهم يريدون أن يحتملوا الحرب دون ضرر/تاركين الخطر للشجعان» (بريخت ١١٣/مانهايم ١٨٥).
أرجو أن أكون قد بيَّنتُ كيف أن الترجمة والنقد والمراجع تستطيع معًا أن تخلق صورةً لكاتبٍ من الكُتَّاب ولعملٍ من الأعمال الأدبية. ولقد حاولتُ تحديد الغاية من وراء بناء بعض هذه الصور. وسوف يكتسب ما فعلتُه مزيدًا من الأهمية إذا أدركنا أن الصور المذكورة لبريخت تُعتبر بريخت الحقيقيَّ في أعين الكثير من أفراد جمهور المسرح وجمهور القرَّاء الذين لا يستطيعون فَهْم الألمانية أو قراءتها؛ إذ ليست لديهم إلا هذه الصورة، ولا يقتصر ذلك على بريخت وحده، وهو ما يزيد من تبرير حفزنا على تحليل طرائق بناء هذه الصور وغيرها.