اختفاء فودري
كان السير آرثر فودري يسير بحيوية على طول الطريق بمحاذاة النهر من منزله وحتى مجموعة المنازل الصغيرة بالقرب منه والتي بدت وكأنها ملحقة به، بينما يرتدي بدلة صيفية بلون رمادي فاتح، وعلى رأسه الأشيب يضع القبعة البيضاء التي يفتخر بها كثيرًا. ثُم دخل السير آرثر تلك الضَّيْعة الصغيرة، حيث اختفى تمامًا كما لو كانت الجِنيَّات قد حملْنَه بعيدًا.
كان اختفاؤه تامًّا ومفاجئًا بسبب اعتيادية المشهد والبساطة الشديدة التي تتسم بها ظروف المشكلة. ليس من الممكن أن نقول بأن تلك الضَّيْعة ترقى إلى حجم القرية؛ فهي في واقع الحال عبارة عن شارع صغير ومنعزل بصورة غريبة؛ حيث تبرز وسط الحقول والسهول المنفتحة الشاسعة، وكان بها مجموعةٌ صغيرةٌ من أربعة أو خمسة متاجر تلبِّي احتياجات السكان؛ وهم مجموعة صغيرة من الفلاحين والعائلة التي تقطن المنزل الكبير. عند الناصية، كان يوجد متجر الجزَّار، الذي بدا فيما بعدُ أن السير آرثر قد شُوهد عنده للمرة الأخيرة؛ حيث رآه اثنان من الشُّبان الذين يمكثون في منزله — إيفان سميث وهو سكرتيره، وجون دالمون الذي يُفتَرض أنه خطيب الفتاة التي تعيش في كنف السير آرثر. وبجوار متجر الجزَّار يوجد متجر آخر صغير يبيع الكثير من الأشياء، تمامًا كالذي يوجد في القرى، وبداخله امرأة عجوز ضئيلة الحجم تبيع الحلوى والعكاكيز، وكرات الجولف، والصمغ وكرات الخيوط ومجموعة بسيطة من الأدوات المكتبية. ثُم يليه متجر التبغ الذي كان الشابان يتوجهان إليه حين لمحا مضيِّفهما للمرة الأخيرة وهو يقف أمام متجر الجزَّار. وبعد متجر التبغ يقع متجر خياطة صغير وقذر تعمل به سيدتان. أما آخر متجر في المجموعة فهو متجر قديم ولامع يبيع للمارة كئوسًا كبيرة من مشروب الليمون الأخضر غير الطازج؛ ذلك أن الحانة الجيدة الوحيدة التي تقع في الجوار توجد بمعزل بعض الشيء على الطريق الرئيسي. وبين الحانة والضَّيْعة كان هناك مفترق طرق، يقف عنده رجل شرطة وموظف بنادي السيارات يرتدي ملابس رسمية؛ وقد أجمعا كلاهما على أن السير آرثر لم يمر قَط بهذه النقطة من الطريق.
لقد كانت الساعة مبكرة في صباح ذلك اليوم الصيفي الرائع؛ حين سار هذا الرجل النبيل العجوز مبتهجًا بخُطًى واسعة على الطريق وهو يلوِّح بعكازه ويحرك يديه مرتديًا قفازه ذا اللون الأصفر. كان رجلًا متأنقًا ويمتلئ بالفحولة والقوة خصوصًا بالمقارنة بمن هم في مثل سنه. وما تزال قوته الجسدية ونشاطه ملحوظَين للغاية، كما يبدو شعره المجعد أصفرَ شاحبًا يميل إلى اللون الأبيض أكثر مما يبدو أبيضَ يميل إلى الصُّفرة الشاحبة. وهو حليق الوجه وسيم الملامح، وقصبة أنفه مرتفعة تشبه أنف دوق ويلنجتون، لكن أبرز ملامح وجهه كانت تكمن في عينيه؛ حيث لم تكن عيناه بارزتَين بشكل مجازي فقط، بل كانتا جاحظتَين تميلان إلى أن تكونا منتفختَين، وربما هذا هو عدم التناغم الوحيد في ملامحه، لكن شفتيه كانتا رقيقتَين ومضمومتَين معًا قليلًا، كما لو كان ذلك يتم عن عمد منه. كان هذا هو السير آرثر؛ الإقطاعي صاحب كل هذه الأرض، ومالك تلك الضَّيْعة الصغيرة. وفي مثل هذا المكان، لا يعرف الجميع بعضهم بعضًا وحسب، ولكن وبصورة عامة يعلم الجميع أين يكون كل شخص آخر في أي وقت من اليوم. وعادةً ما يبدأ المسار الطبيعي للسير آرثر بالسَّيْر إلى الضَّيْعة، ليخبر الجزَّار أو أي شخص آخر بما يرغب في قوله، ثم يسير عائدًا إلى منزله مرة أخرى، وكل ذلك في غضون نصف ساعة، كما فعل الشابان حين ابتاعا لفافات التبغ، لكنهما لم يلحظا عودة أي شخص على الطريق، ولم يكن هناك أي شخص على مرمى بصرهما سوى الضيف الثالث الذي يحلُّ على المنزل، وهو الدكتور أبوت الذي كان جالسًا على ضفة النهر وموليًا ظهره العريض نحوهما، بينما يصطاد بصبر بالغ.
وحين عاد الضيوف الثلاثة لتناول الإفطار، لم يُبدوا اهتمامًا كبيرًا لغياب صاحب المنزل، ولكن وبينما مرت ساعات النهار وغاب الرجل عن الوجبة تلو الأخرى، بدءوا يشعرون بالحيرة، وبدأت سيبيل راي — وهي سيدة المنزل — تشعر بالقلق الشديد. وقد أرسلت بعثاتِ بحثٍ للضيعة مرةً تلو الأخرى من دون أن يجدوا للرجل أيَّ أثر، وفي النهاية، حين انسدل الظلام، كان المنزل يعجُّ بمشاعر الخوف المؤكَّد. وأرسلت سيبيل في طلب الأب براون، الذي كان صديقًا لها، كما ساعدها في أحد المواقف الصعبة فيما مضى؛ وقد وافق الأب براون تحت ضغط الخطر الواضح أن يمكث في المنزل لينظر في الأمر.
ومن ثَم بدأ الأب براون العمل على قدم وساق مع بزوغ فجر اليوم الجديد وانعدام الأخبار عن الرجل المفقود، وأخذ يبحث عن أي شيء يمكن أن يفيده في مهمته. وقد كانت قامته البدينة والقصيرة المتَّشحة بالسواد تخطو على ممر الحديقة، حيث تحدُّ إحدى ضفاف النهر جانب الحديقة، بينما يمسح المشهدَ بعينيه الضيقتَين ونظرته الغامضة.
أدرك الأب براون وجود شخص آخر يتحرَّك بلا كللٍ على طول الضفة، فحيَّاه باسمه، وكان هو السكرتير إيفان سميث.
كان إيفان سميث شابًّا طويل القامة أشقر الشعر، وكان يبدو منزعجًا للغاية، وربما كان ذلك طبيعيًّا في هذه الساعة من المحنة، لكنَّ بعضًا من انزعاجه كان يصاحبه على الدوام. وربما كان ملحوظًا أكثر لأنه يمتلك هيئة رياضية أنيقة، وشعرًا وشاربًا أصفرين يشبهان الأسد، واللذين يصاحبهما (دومًا في الأعمال الأدبية وأحيانًا في الواقع) السلوك الصريح والمبهج الذي يميز «الشاب الإنجليزي». أما في حالته هو فقد كانت تصاحبهما عينَان غائرتَان ومظهرٌ منهكٌ، ولربما كان نقيض البنية الجسدية الطويلة التقليدية والشعر الأشقر الرومانسي هذا ينطوي على لمحة من شيء شرير، لكن الأب براون ابتسم له ابتسامة ودودة، ثم قال بنبرة أكثر جدية:
«نحن نمرُّ بوقت عصيب.»
أجابه الشاب بنبرة كئيبة قائلًا: «إنه عصيب جدًّا على الآنسة راي، ولا يمكنني أن أرى سببًا يدفعني لأن أخفي ما يُعدُّ أسوأ جزء منه بالنسبة إليَّ، حتى ولو كانت مخطوبة لدالمون. أنت مصدوم، أليس كذلك؟»
لم يبدُ على الأب براون أنه مصدوم؛ إذ إن وجهه كان غالبًا بلا تعابير، لكنه قال فقط بنبرة معتدلة:
«هذا طبيعي، إننا نتعاطف جميعًا معها لشعورها بالقلق. أفترض أنه ليس لديك أخبار أو آراء حيال الأمر، أليس كذلك؟»
أجابه سميث: «ليس لديَّ أخبار محددة؛ ليس من الخارج على الأقل. أما عن آرائي …» ثم عاود صمته الكئيب.
قال القَسُّ بنبرة دمثة: «سأكون مسرورًا لو أخبرتني بآرائك. أتمنى ألَّا تمانع قولي بأنك تبدو وكأن هناك شيئًا يدور بخَلَدِك.»
صمت الشاب بدلًا من أن يستهلَّ حديثه ونظر للقس بنظرات ثابتة وجبين مقطب فغاصت عيناه الغائرتان في ظِل كثيف.
ثم قال أخيرًا: «في الواقع، أنت محق كثيرًا. أعتقد أنني لا بدَّ أن أخبر أحدًا، وأنت تبدو لي مأمون الجانب.»
سأله الأب براون بنبرة هادئة، كما لو كانا يتحدَّثان عن شيء عفوي للغاية: «هل تعرف ما أصاب السير آرثر؟»
أجاب السكرتير بنبرة جافة: «أجل، أعتقد أني أعرف ما أصابه.»
باغتَ أذنَه صوتٌ رتيبٌ يقول: «إنه لصباح جميل، صباح جميل لمثل هذا الاجتماع الحزين.»
قفز السكرتير من مكانه هذه المرة كما لو كان قد أُصيب برصاصة؛ حين سقط ظِل الدكتور أبوت الضخم في طريقه تحت ضوء الشمس الساطع. كان الدكتور أبوت لا يزال يرتدي ثياب النوم — وهي مَنامة شرقية فاخرة منقوش عليها أزهار وتنانين ملونة، فبدت وكأنها أحد أروع بُسُط الزهور التي تنمو تحت ضوء الشمس الساطع. كما يرتدي أيضًا نعلَين كبيرَين مسطحَين، وهذا هو السبب بلا شك في أنه قد اقترب كثيرًا منهما دون أن يسمعاه قادمًا. ربما كان يبدو عليه أنه آخر شخص يمكن له أن يتبع مثل هذا النهج المرِح والبهيج في التعامل مع الآخرين؛ فقد كان ضخم الجثة عريض البِنية ثقيل الوزن ذا وجه قوي طيب الملامح أكسبته لسعات الشمس حُمرة، وله سَالِفتان ولحية رمادية تقليدية منحتْه فخامةً مثلها مثل خصلات شعره الطويلة الرمادية في رأسه الوقور. كان النعاس يغلب على عينيه الواسعتَين، وكان بالفعل رجلًا متقدمًا في العمر بحيث يشق على من في عمره الاستيقاظ في مثل هذه الساعة المبكرة، لكن نظرته قوية وفاحصة، وكأنه مزارع عجوز أو قبطان سفينة جاب البحار في شتى أنواع الطقس. وكان الدكتور أبوت هو الرفيق الوحيد، القديم والمعاصر، لمالك هذه المنطقة، وذلك من بين كلِّ من اجتمعوا في المنزل.
قال الدكتور أبوت وهو يهز رأسه: «يبدو الأمر غريبًا حقًّا. كل هذه المنازل الصغيرة تبدو وكأنها بيوت للدُّمى؛ فهي مفتوحة دائمًا من الخلف والأمام، وليس هناك مكان يمكنك أن تُخفي فيه أي شخص، حتى ولو أرادوا إخفاءه. وأنا على ثقة أن أحدًا من هؤلاء لم يُرد ذلك؛ فقد استجوبتهم أنا ودالمون جميعًا بالأمس؛ إن معظمهم من النساء العجائز اللاتي لا يستطعن أن يؤذين ذبابة، أما الرجال منهم فقد كانوا جميعهم تقريبًا بعيدين عن المكان ومشغولين بالحصاد، عدا الجزار، وقد شوهد آرثر وهو يخرج من متجر الجزار. وما كان ليحدث له شيء على الطريق الممتد بجوار النهر؛ لأنني كنت أصطاد هناك طوال الوقت.»
ثم نظر إلى سميث، ولم تبدُ عيناه ناعستَين فقط وإنما بدت نظرته إليه ماكرة بعض الشيء.
ثم قال: «أعتقد أن بإمكانك أنت ودالمون أن تشهدا بأنكما رأيتماني جالسًا هناك عند النهر أثناء رحلة ذهابكما وعودتكما من الضَّيْعة وإليها.»
قال إيفان سميث في اقتضاب: «أجل.» وبدا وكأنه ضاق ذرعًا بتلك المقاطعة المطوَّلة.
استطرد الدكتور أبوت في نبرة بطيئة قائلًا: «الشيء الوحيد الذي يمكنني التفكير فيه …» ثم حدث أن قاطع حديثه المقاطِع بحد ذاته شيء آخر؛ حيث اقترب شخص خفيف الحركة وقوي يسير بخُطًى واسعة وحثيثة عبر الحديقة الخضراء بين أحواض الزهور المبهجة، والذي كان جون دالمون وهو يمسك بورقة في يده. كان يرتدي ثيابًا أنيقة داكنة، وله وجه نابليوني مربع الشكل حسن الطلة وعينان حزينتان للغاية — حتى إنهما تبدوان كعينَي رجل ميت. وقد بدا عليه أنه لا يزال في ريعان شبابه، لكن شعره الأسود عند صدغَيه قد تحوَّل إلى الأبيض قبل الأوان.
قال دالمون: «لقد وصلتني هذه البرقية من الشرطة لتوِّها، لقد راسلتهم ليلة أمس وقالوا بأنهم سيرسلون أحدهم في الحال. دكتور أبوت، هل تعرف أي شخص آخر ينبغي علينا أن نرسل في طلبه؟ أقصد أقرباء أو أيًّا من هذا القبيل.»
قال الرجل العجوز: «بالطبع هناك ابن أخيه فيرنون فودري. إذا رافقتني فيمكنني أن أعطيك عنوانه و… وسأخبرك بشيء مميز بشأنه.»
تحرك الدكتور أبوت ودالمون مبتعدَين في اتجاه المنزل، وبعد أن ابتعدا مسافة كافية، قال الأب براون في بساطة وكأن أي انقطاع لحديثهما لم يحدث:
«ماذا كنت تقول؟»
قال السكرتير: «أنت رجل شديد الثقة بنفسك. أعتقد أن هذا يتأتَّى من سماع الكثير من الاعترافات. أشعر وكأنني على وشك أن أعترف بشيء. كان البعض سيشعرون بأنهم قد خرجوا من الحالة المزاجية الخاصة بالاعتراف بشيء ما إذا ما أتى نحوهم ذلك الفيل العجوز متسللًا وكأنه ثعبان. لكنني أعتقد أن من الأفضل أن أكمل ما كنت سأقوله، رغم أنه ليس اعترافًا شخصيًّا حقًّا، بل هو اعتراف شخص آخر.» ثم توقَّف للحظة وقطب جبينه وعبث بشاربه، ثم قال فجأة:
«أعتقد أن السير آرثر قد فرَّ، وأنا أعرف السبب.»
ساد الصمت لحظة ثم انفجر في الحديث مرة أخرى.
«إنني في موقف صعب، والكثير من الناس سيقولون إنني أقوم بعمل شائن. سأبدو الآن بمظهر الواشي والبغيض، وأعتقد أنني لا أفعل شيئًا سوى أنني أؤدِّي واجبي.»
قال الأب براون بنبرة رزينة: «يجب أن تكون أنت الحَكم على نفسك. ما خطب واجبك؟»
قال الشاب في مرارة: «أنا في موقف كريه تمامًا حيث سأفشي أسرارًا عن أحد المنافسين، وهو منافس في غاية النجاح أيضًا، ولا أعلم أي شيء آخر يمكنني أن أقوم به. لقد كنتَ تسأل عن السبب وراء اختفاء فودري، وأنا على يقين تام بأن دالمون هو السبب.»
قال القس في رباطة جأش: «أتقصد أن دالمون قد قتل السير آرثر؟»
انفجر سميث في عنف قائلًا: «لا! لا وألف لا! هو لم يفعل ذلك، أيًّا كان ما فعله. إنه ليس بقاتل، أيًّا كان ما هو. إنه يمتلك أفضل حجج الغياب؛ دليل من رجل يكرهه. ليس من المرجَّح أن أشهد زورًا من أجل دالمون، ويمكنني أن أقسم أمام أي محكمة أنه لم يفعل شيئًا للرجل بالأمس. لقد كنت أنا ودالمون معًا طوال اليوم، أو طوال ذلك الوقت من اليوم الذي اختفى فيه السير آرثر، وهو لم يفعل شيئًا حين كنا في الضَّيْعة سوى أنه ابتاع لفافات التبغ، ولم يفعل شيئًا هنا سوى تدخين تلك اللفافات والقراءة في المكتبة. لا، صحيح أني أعتقد بأنه مجرم، لكنه لم يقتل فودري. ربما حتى يمكنني قول ما هو أكثر من ذلك؛ لأن السبب في عدم قتله فودري هو أنه مجرم.»
قال الآخر في صبر: «أجل. وما معنى ذلك؟»
أجابه السكرتير: «يعني أنه مجرم ارتكب جريمة أخرى، وتعتمد جريمته على الإبقاء على حياة فودري.»
قال الأب براون: «نعم، فهمت.»
«أنا أعرف سيبيل راي معرفة وثيقة، وشخصيتها تمثِّل جزءًا كبيرًا من هذه القصة. إنها رقيقة بكلا المعنيين؛ أي إنها ذات شخصية نبيلة، وهي أيضًا رفيعةٌ وناعمة الملمس. إنها إحدى أولئك الأشخاص الذين يتمتعون بصورة كبيرة بضمير واعٍ، من دون أن تتذرع بحكم العادة أو الفطرة السليمة الصارمة التي تلازم الكثير ممن يتصفون بنفس هذه الصفة. إنها حسَّاسة بصورة جنونية وغير أنانية إلى حدٍّ كبير، وتاريخها يدعو للفضول؛ لقد كانت لا تمتلك حرفيًّا أي أموال وكأنها لقيطة، فأخذها السير آرثر إلى منزله وعاملها بلطف وإحسان كبيرين، الأمر الذي حيَّر الكثيرين، ذلك أنها، من دون أن أقسو عليه في الحديث؛ ليست من نسله، لكنها حين بلغت السابعة عشرة من عمرها، عرفت تفسير ذلك فكان بمثابة صدمة لها؛ ذلك أن القائم على رعايتها قد طلب منها الزواج به. والآن نأتي إلى الجزء المثير في القصة. كانت سيبيل قد سمعت بطريقة أو بأخرى من شخصٍ ما (وأنا أشك كثيرًا في أنه كان أبوت العجوز) أن السير آرثر فودري — حين كان في عنفوان شبابه — ارتكب جريمة ما، أو على الأقل أساء إلى أحد بصورة كبيرة، الأمر الذي أدخله في مشكلات جمَّة. لا أعرف ما فعله، لكنه كان يمثل كابوسًا للفتاة في تلك المرحلة البريئة والحسَّاسة من عمرها، وقد جعله ذلك يبدو في نظرها وكأنه وحش، على الأقل في حالة الزواج منها. وما فعلته الفتاة بعد ذلك كان من شيمها حقًّا. لقد أخبرته الحقيقة بشفتين مرتعشتين وخوف معجِز، ومع ذلك، بشجاعة بطولية. لقد اعترفت أن نفورها منه قد يكون مَرضيًّا؛ لقد اعترفت بذلك كما لو كان جنونًا سريًّا. وما أثار ارتياحها وكذلك دهشتها أنه تقبَّل الأمر بطريقة لطيفة وهادئة، ومن الواضح أنه لم يحدثها في هذا الشأن بعدها، ثم تزايد شعورها بكرمه في المرحلة التالية من القصة؛ حيث طرأ على حياتها التي تشعر فيها بالوحدة ظهور رجل كان يعاني من الوحدة أيضًا، كان يُخيِّم في الخارج في إحدى الجزر في النهر وكأنه ناسك، وأعتقد أن الغموض الذي يلفه هو ما جعله جذابًا، رغم أنني أعترف بأنه يتمتع بجاذبية كبيرة؛ كان شابًّا نبيلًا وخفيف الظل للغاية على الرغم من حزنه الشديد — وهذا ما زاد من الرومانسية، حسبما أفترض. كان ذلك الرجل هو دالمون بالطبع، ولست متيقنًا بعدُ حتى يومنا هذا إلى أي مدًى وصل تقبُّل سيبيل راي له، لكنها كانت تتقبَّله بصورة كبيرة حتى لقد سُمح له أن يُقابل ولي أمرها. يمكنني أن أتخيلها وهي تنتظر تلك المقابلة في قلق ورعب شديدَين؛ متسائلة عن كيفية تقبُّل العاشق العجوز لظهور منافس له، لكنها وجدت مرة أخرى أنها قد أساءت في حكمها عليه؛ فقد استقبل الشاب بودٍّ وكرم وبدا وكأنه سعيد بمستقبل الثنائي معًا؛ حيث أخذ السير آرثر في اصطحاب دالمون معه إلى رحلات الصيد والرماية وأصبحا أفضل صديقَين، إلى أن تلقَّت الفتاة صدمة أخرى في أحد الأيام؛ حيث زلَّ لسان دالمون بجملة عابرة بينما كانا يتحدَّثان عن أن الرجل العجوز «لم يتغير كثيرًا عبر ثلاثين عامًا». وهنا ظهرت أمامها حقيقة التقارب الغريب بين دالمون والسير آرثر؛ حيث كان هذا المدخل وكل هذا الكرم مجرد تنكر، ومن الواضح أن كلا الرجلَين كان يعرف الآخر من قبل. وكان هذا هو السبب في أن الشاب قد أتى متخفيًا إلى هذه المنطقة. كما كان هو السبب في أن العجوز يبذل جهدًا في تعزيز الألفة بينهما. والآن، تُرى فيمَ تفكر؟»
قال الأب براون مبتسمًا: «أنا أعرف فيمَ تفكر، وهو يبدو منطقيًّا تمامًا. لدينا هنا فودري وقصته الشنيعة من ماضيه — ثم جاء رجل غريب ليطارده، ويأخذ منه كل ما يريد. بكلمات صريحة، أنت تعتقد أن دالمون مبتز.»
قال الآخر: «أجل، ومن السيئ أن أفكر في هذا الأمر أيضًا.»
فكر الأب براون للحظة ثم قال: «أظن أنني لا بدَّ أن أذهب إلى المنزل الآن وأتحدث مع الدكتور أبوت.»
ربما كان الأب براون قد تحدث مع الدكتور أبوت في المنزل، لكنه حين خرج بعد ساعة أو اثنتَين، كان برفقة سيبيل راي، وهي فتاة شاحبة البشرة لها شعر أحمر ومظهر رقيق بحيث كانت تبدو وكأنها ترتعش، وحين يراها المرء سيفهم على الفور حكاية السكرتير عمَّا تتمتع به من صدق وصراحة وما يسببانه لها من قلق وخوف. وهي تُذكِّر المرء بالليدي جوديفا وحكايات شهيدات العفاف؛ حيث يمكن للخجول أن يتَّسم بالجرأة الشديدة من أجل إرضاء الضمير. أتى نحوهما سميث ليقابلهما، ووقفوا يتحدَّثون قليلًا على العُشب. كان ضوء الشمس الذي بدأ برَّاقًا عند بزوغ الفجر قد أصبح الآن ساطعًا، بل وحتى متوهجًا، لكن الأب براون كان يحمل مظلته السوداء ويرتدي قبعته السوداء التي تشبه المظلة، وقد بدا، بصورة عامة، وكأنه على استعداد لمواجهة عاصفة، لكن ربما كان مظهره الاستعدادي ذلك يتأتَّى من مجرد سلوكه اللاواعي، وربما كانت العاصفة المقصودة غير مادية.
كانت سيبيل تقول بنبرة خفيضة: «ما أكرهه حيال هذا الأمر برُمته هو الحديث الذي بدأ بالفعل، والشكوك التي تحوم حول الجميع. يمكن لجون وإيفان أن يُبرئ بعضهما بعضًا، أعتقد ذلك، لكن الدكتور أبوت كان قد تحدث حديثًا سيئًا مع الجزار، الذي يعتقد بأنه متهم؛ ونتيجةً لذلك فإنه يرمي بالاتهامات على الجميع.»
بدا إيفان سميث غير مرتاح كثيرًا، ثم بادر قائلًا: «اسمعي يا سيبيل، لا يمكنني قول الكثير بهذا الشأن، لكننا لا نعتقد أن هناك أي داعٍ لكل هذا. الأمر كله في غاية البُغض، ولكننا لا نعتقد أنه قد وقع … أي شكل من أشكال العنف.»
قالت الفتاة وهي تنظر في الحال إلى القَسِّ: «إذن هل خرجتما بنظرية لما حدث؟»
أجابها: «لقد سمعت نظرية تبدو لي في غاية الإقناع.»
وقف ينظر بشكل حالم نحو النهر، وبدأ كلٌّ من سميث وسيبيل يتحدَّثان معًا بصورة سريعة وبنبرة خفيضة. سار القس على طول ضفة النهر، وهو يفكر ثم غاص بين مجموعة من الأشجار الرفيعة على الضفة الممتدة. كانت أشعة الشمس القوية تسقط على الحجاب الرقيق لأوراق الشجر المتراقصة فجعلتها تبدو كلَهبٍ أخضر متوهِّج، بينما كل الطيور تغنِّي وكأن الشجر له مائة لسان. وبعد دقيقة أو اثنتَين، سمع إيفان سميث أحدًا يناديه باسمه بحذر ولكن بنبرة واضحة من أعماق الأيكة الخضراء، فهُرعَ نحو الاتجاه وقابل الأب براون وهو عائد. قال له القس بصوت منخفض للغاية:
«لا تدع الفتاة تأتي إلى هنا. أيمكنك أن تتخلص منها؟ اطلب منها إجراء مكالمة هاتفية أو شيئًا من هذا القبيل، ثم عد مرة أخرى.»
استدار إيفان سميث وبدت اللامبالاة على مظهره اليائس وتحدَّث مع الفتاة، لكنها لم تكن من النوع الذي تجد صعوبةً في شغله بأداء مهام صغيرة للآخرين، فاختفت الفتاة في غضون لحظة إلى داخل المنزل، وعاد سميث ليجد أن الأب براون قد اختفى مرة أخرى في الأيكة. وخلف كتلة الأشجار تمامًا كانت هناك فجوة صغيرة حيث انحسر العشب عنها إلى مستوى الرمال بجوار النهر. وكان الأب براون يقف على حافة هذا الشقِّ، وينظر للأسفل، وهو يمسك بقبعته في يده — سواءٌ مصادفة أو عمدًا — على الرغم من حرارة الشمس الحارقة.
قال بنبرة ثقيلة: «من الأفضل أن ترى ذلك بنفسك كدليل، لكنني أنبِّهك إلى أن تكون مستعدًّا.»
سأله الآخر: «مستعدًّا لأجل ماذا؟»
قال الأب براون: «لأكثر شيء مروِّع رأيته في حياتي.»
تقدَّم إيفان سميث نحو حافة الضفة التي يكسوها العشب، وحاول بصعوبة كبيرة أن يكتم صيحة تكاد ترقى لأن تكون صرخة.
لقد وجد السير آرثر فودري أمامه وعيناه تُحدِّقان فيه بينما يبتسم له، ووجهه مقلوب نحو الأعلى بحيث كان إيفان سميث سيخطو عليه دون أن ينتبه لذلك، وكان الرأسُ مُلقًى إلى الخلف، وشعره المستعار الأصفر المائل إلى البياض يظهر أمامه؛ بحيث رأى إيفان الوجه مقلوبًا رأسًا على عَقِب. تسبَّب هذا المنظر في أن يجعل الأمر برُمته يبدو وكأنه جزء من كابوس؛ كما لو أن رجلًا يمشي ورأسه عالق بالجهة الخاطئة. تُرى ماذا كان يفعل؟ هل من الممكن أن فودري كان يزحف في الأرجاء ويختبئ بين الصدوع في الأرض وضفة النهر، ويحدِّق فيهم بهذه الوضعية غير الطبيعية؟ كانت بقية جسده تبدو منحنيةً وشبه ملتويةٍ، كما لو أنه قد أُصيب بالشلل أو العجز، لكن وبإمعان النظر، بدا أن مظهره ذلك لم يكن سوى نتيجة لتداعي أعضائه وسقوطها في كومة. أكان مجنونًا؟ هل كان بالفعل؟ وكلما أمعن إيفان النظر فيه كان الجسد يبدو متيبِّسًا أكثر.
قال الأب براون: «لا يمكنك أن تراه من هنا بصورة واضحة، لكن عنقه مذبوح.»
ارتجف سميث فجأة ثم قال: «يمكنني بالفعل تصديق أن هذا هو أكثر شيء مروِّع رأيته في حياتك. أعتقد أن أفظع شيء هو رؤية الوجه مقلوبًا رأسًا على عَقب. لقد رأيت ذلك الوجه على الإفطار أو العشاء كل يوم لمدة عشر سنوات، وقد بدا دومًا لطيفًا ومهذبًا. والآن اقلبْه رأسًا على عقب وستجد أنه قد تحوَّل ليشبه وجه شيطان.»
قال الأب براون بنبرة جادة: «الوجه مبتسم بالفعل، وهذا ليس بشيء سهل في هذا اللغز؛ فليس هناك الكثير من الأشخاص الذين يبتسمون بينما تُذبح أعناقهم، حتى ولو كانوا هم من فعلوا ذلك بأنفسهم. تلك الابتسامة، مع هاتين العينين اللتين تشبهان ثمار عنب الثعلب والجاحظتين من مقلتيهما على الدوام، هي أشياء كافية بكل تأكيد لتُفسِّر ذلك التعبير على وجهه، لكن ما قُلتَه أنت صحيح؛ فالأشياء تبدو مختلفة حين تكون مقلوبةً رأسًا على عقب. إن الرسامين غالبًا ما يقلبون لوحاتهم رأسًا على عقب ليختبروا مدى صحَّتها. وأحيانًا حين يكون من الصعب أن تقلب الشيء (كقمة جبل ماترهورن على سبيل المثال)، فإن المرء يقف على رأسه، أو ينظر إليه على الأقل من بين قدميه.»
واختتم القَسُّ — الذي كان يتحدَّث بهذه الطريقة الساخرة بهدف تهدئة أعصاب الرجل الآخر — حديثه بأن قال بنبرة جدية أكثر: «أفهم تمامًا كم أصابك ذلك بالإحباط. ولسوء الحظ، فقد أحبط شيئًا آخر.»
«ماذا تقصد؟»
أجابه الآخر قائلًا: «لقد أحبط نظريتنا تمامًا.» ثم بدأ ينزل عن الضفة سائرًا على الشريط الرملي الصغير بجانب النهر.
قال سميث فجأة: «ربما فعل ذلك بنفسه؛ ففي النهاية، هذا هو أبرز أنواع الهروب، وهو يتناسب كثيرًا مع نظريتنا. لقد أراد مكانًا هادئًا، فأتى إلى هنا ونحر عنقه.»
قال الأب براون: «هو لم يأتِ هنا على الإطلاق، ليس وهو على قيد الحياة على الأقل وليس بالانتقال على البَر؛ فهو لم يُقتل هنا، لا توجد كمية كبيرة من الدماء. وقد جففت هذه الشمس شعره وملابسه تمامًا، لكنَّ هناك مجريَيْن من الماء في الرمال. هنا تمامًا يأتي المدُّ من البحر فيتسبَّب في تيارٍ يحمل الجثة حتى الجدول، ثم تظل الجثة مكانها بينما ينسحب الجَزر، لكن ينبغي أن تكون الجثة قد انجرفت مع النهر أولًا، ومن المحتمل أنها أتَتْ من الضَّيْعة، ذلك أن النهر يجري تمامًا خلف صفِّ المنازل والمتاجر الصغيرة. لقد مات فودري المسكين في الضَّيْعة بطريقة أو بأخرى، وفي النهاية، لا أظن أنه انتحر، لكن المشكلة تكمن في معرفة من قتله في ذلك المكان الغريب.»
بدأ الأب براون يرسم على الرمال بالرأس المدبب لمظلته.
«لننظر في ذلك، كيف تصطفُّ المتاجر؟ أولًا، متجر الجزار، حسنًا، إن جزارًا سيكون بالطبع فاعلًا مثاليًّا لجريمة كهذه باستخدام سكين تقطيع كبير، لكنك رأيت فودري وهو يخرج من عنده، وليس من المرجَّح أنه وقف أمام المتجر بينما يقول له الجزار «صباح الخير. اسمح لي أن أنحر عنقك! شكرًا لك. والقطعة التالية، من فضلك؟» كما لا يبدو لي أن السير آرثر من النوع الذي يقف هكذا وهو يبتسم بينما كان ذلك يحدث. لقد كان رجلًا قويًّا للغاية، وطِباعه عنيفة. إذن مَن أيضًا — غير الجزار — بإمكانه أن يقف في مواجهته؟ المتجر التالي تشغله امرأة عجوز، ثم يليها تاجر التبغ، وهو رجل، لكنني عرفت أنه ضئيل الحجم ويتَّسم بالجبن، ثم بعد ذلك متجر الخِياطة، الذي تُديره سيدتان عانستان، ثم متجر المشروبات ويُديره رجل تصادف أنه ذهب إلى المستشفى وترك زوجته لتديره. وهناك صبيَّان أو ثلاثة من القرويين، وهم يعملون كمساعدين أو يقومون بمهام توصيل صغيرة، لكنهم كانوا بعيدين حيث يقومون بمهمة خاصة. وينتهي الشارع عند متجر المشروبات، فبعده لا يوجد شيء سوى الحانة، وهناك رجل الشرطة الذي يقف بينهما.»
ثم صنع ثقبًا في الأرض بواسطة الرأس المدبب لمظلته ليُمثِّل رجل الشرطة، وظلَّ يُحدِّق في النهر بنظرة كئيبة، ثم أتى بحركة صغيرة بيده، وخَطَا بسرعة نحو الجثة، وانحنى فوقها.
وبعد ذلك اعتدل واقفًا، وأطلق زفيرًا كبيرًا وقال: «أوه، تاجر التبغ! لماذا لم أتذكَّر ذلك بشأن تاجر التبغ؟»
قال سميث في سخط: «ما خطبك؟» ذلك أن الأب براون كان يدور بعينيه ويغمغم بكلام غير مفهوم، وكان قد نطق بكلمة «تاجر التبغ» بطريقة بدت وكأنها كلمة هلاك مريعة.
قال القس بعد أن صمت للحظة: «هل لاحظت وجود شيء غريب في وجهه؟»
قال إيفان مرتجفًا وهو يستعيد ما حدث: «غريب، يا إلهي! على أي حال، إن عنقه منحور …»
قال القس في هدوء: «لقد قلتُ في وجهه. بالإضافة إلى ذلك، ألَا تلاحظ أنه جرحَ يده وأن هناك ضِمادةً صغيرةً حولها؟»
قال إيفان في عجالة: «أوه، ليس لهذا علاقة بما حدث. لقد كان الجرح في يده من وقت سابق، وكانت حادثة. حيث جرحَ يده بزجاجة حبرٍ مكسورة، بينما كنا نعمل معًا.»
قال الأب براون: «هذا هو السبب في أن لهذا الجرح علاقةً بما حدث.»
ساد صمت طويل، وسار القس على الرمال في كآبة، وهو يجر مظلته وينطق أحيانًا بكلمة «تاجر التبغ» حتى إن الكلمة نفسها تسبَّبت في أن دَبَّ الرعب في نفس صديقه. ثم رفع مظلته فجأةً وأشار إلى مرفأ صغير بين شجيرات البوص.
وسأله قائلًا: «أهذا هو القارب الخاص بالعائلة؟ أتمنى لو تجدِّف بي نحو أعلى النهر؛ أريد أن أنظر إلى تلك المنازل من الخلف. ليس هناك وقتٌ لنضيعه. قد يعثرون على الجثة، لكن لا بد أن نغامر.»
كان سميث يجدِّف بالقارب الصغير بالفعل نحو أعلى النهر باتجاه الضَّيْعة قبل أن يتحدَّث الأبُ براون مرة أخرى. حيث قال:
«بالمناسبة، لقد عرفتُ من أبوت العجوز القصة الحقيقية عن الجُنحة التي ارتكبها المسكين فودري. كانت قصة غريبة عن مسئول مصري كان قد أهان فودري بقوله إن المسلم الصالح ينبغي أن يتجنَّب التعامل مع الخنازير والإنجليز، لكنه يفضِّل التعامل مع الخنازير على الإنجليز؛ أو شيء من هذا القبيل. ولكن أيًّا كان ما حدث في ذلك الوقت، من الواضح أن الشِّجار تجدَّد مرة أخرى بعد مرور سنوات، حين كان ذلك المسئول المصري في زيارة لإنجلترا، حينها جرجره فودري في فورة غضبٍ عنيفةٍ إلى حظيرةٍ للخنازير في المزرعة الملحقة بالمنزل الريفي وألقاه بها، وكسر ذراعه وساقه وتركه هناك حتى الصباح التالي. بالطبع أحدث ذلك الأمر ضجة، لكن الكثيرين يعذرون فودري على سلوكه ذلك قائلين إنه فعله بدافع الوطنية. على أي حال، لا تبدو لي هذه القصة سببًا كافيًا يُجبر الرجل على الصمت لعقود تحت وطأة تعرُّضه للابتزاز.»
سأله السكرتير باهتمام: «إذن أنت لا تعتقد أن لهذه القصة علاقةً بما نبحث عنه؟»
قال الأب براون: «أعتقد أن لها صلةً وثيقةً بما نبحث عنه الآن.»
كانا الآن ينسابان بالقارب أمام الجدار المنخفض والحدائق الخلفية المتراصة التي تمتد من الأبواب الخلفية للمنازل وحتى ضفة النهر. أحصاها الأب براون بعناية، وكان يشير بمظلته، وحين مروا بالمنزل الثالث قال مرة أخرى:
«تاجر التبغ! هل قام تاجر التبغ بأي طريقة …؟ لكنني أرى أن أتبع تخميني حتى أعرف تمامًا. سأقول لك ما أعتقد أنه غريب بشأن وجه السير آرثر.»
سأله رفيقه: «وما هو ذلك؟» ثم توقَّف واستند إلى مجدافَيه ليستريح قليلًا.
قال الأب براون: «كان الرجل شديد التأنُّق، لكن وجهه نصف حليق … أيمكنك أن تتوقَّف هنا لحظة؟ يمكننا أن نوثق رباط القارب إلى هذا العمود.»
بعد دقيقةٍ أو اثنتين كانا قد تسلَّقا الجدار الصغير وسارا على المسارات المرصوفة بالحصى في تلك الحديقة الصغيرة، بأحواضها المستطيلة الشكل من الأزهار والخضراوات.
قال الأب براون: «أترى؟ يزرع تاجر التبغ البطاطس. لا شك أنهم شركاء السير والتر رالي. هناك الكثير من البطاطس والكثير من جِوالاتها. إن أولئك الريفيين لم يتركوا كل عادات المزارعين بعد؛ فهم ما زالوا يقومون بوظيفتين أو ثلاث في وقت واحد، لكن الكثير من تجار التبغ الريفيين غالبًا ما يقومون بوظيفة واحدة إضافية غريبة، وهذا شيء لم يخطر ببالي حتى رأيت ذقن فودري. في تسع مرات من أصل عشر، يكون اسم المتجر هو متجر بائع التبغ، ولكن يُطلق عليه أيضًا محل الحلَّاق. لقد جرحَ السيد فودري يده ولم يكن بمقدوره أن يحلق لنفسه؛ لذا فقد جاء إلى هنا. ألَا يوحي هذا لك بشيءٍ آخر؟»
أجابه سميث: «إنه يوحي بالكثير، لكن أظن أنه سيوحي بما هو أكثر لك.»
أبدى الأب براون ملاحظته قائلًا: «هل يوحي، مثلًا، بالظرف الوحيد الذي يمكن خلاله لرجلٍ قويٍّ وعنيفٍ مثله أن يبتسم بينما يُحزُّ عنقه؟»
في اللحظة التالية كانا قد مرَّا عبر ممرٍّ مظلمٍ أو اثنين في مؤخرة المنزل، حتى وصلا إلى الغرفة الخلفية من المتجر، والتي كانت مضاءةً بخفوتٍ بفعل الضوء الذي يتسرَّب من الخارج من خلف نافذةٍ داكنةٍ مكسورة. وقد بدا الضوء في الغرفة إلى حدٍّ ما وكأنه الشفق الأخضر لأحد الخزانات؛ لكنها إضاءة كافية لتسمح لهما برؤية أدوات الحلاقة الحادة، ووجه الحلَّاق الشاحب المذعور.
جالت عينا الأب براون في الغرفة التي بدت وكأنها قد نُظِّفت ورُتِّبت حديثًا، حتى وقعت عينه على شيء في زاوية مغبرة خلف الباب تمامًا. كان الشيء هو قبعة معلَّقة على حامل للقبعات، وكانت القبعة بيضاء ومعروفة لكلِّ مَن هم في الضَّيْعة، لكن وعلى الرغم من أنها بدت واضحة وبارزة في الغرفة تمامًا كما كانت أثناء اعتمار صاحبها لها في الشارع، فإنها كانت تضرب مثالًا على الأشياء الصغيرة التي عادة ما ينساها نوعية معينة من الرجال، حين يكونون قد نظَّفوا الأرضيات أو تخلَّصوا من الملابس الملطَّخة بحذر شديد وعناية فائقة.
قال الأب براون بنبرة معتدلة: «أعتقد أن السير آرثر فودري قد حلق ذقنه هنا صباح أمس.»
بالنسبة إلى الحلَّاق — وهو رجل ضئيل الحجم أصلع الرأس، يرتدي نظارة واسمه ويكس — كان ظهور الرجلَين من الغرفة الخلفية للمنزل أشبه بظهور شبحَين قاما من قبر تحت الأرض، لكن بدا لهما في الحال أنه كان هناك شيء يُخيفه أكثر من مجرد هذه الخرافات الخيالية. انكمش الرجل خوفًا، ويمكننا القول إنه انزوى على نفسه في زاوية من زوايا الحجرة المظلمة؛ وبدا جسده وكأنه يتقلَّص ويتضاءل في مكانه، عدا نظارته الضخمة.
أكمل الأب براون كلامه في هدوء قائلًا: «أخبرْني بشيءٍ واحد، أكان لديك سببٌ يدفعك لكره المالك؟»
تمتم الرجل الذي كان في الزاوية بشيءٍ لم يسمعْه سميث؛ لكن القس أومأ برأسه.
قال القس: «أعلم أن لديك سببًا. لقد كنتَ تكرهه، وهكذا أعلم أنك لم تقتله. هلَّا تخبرنا بما حدث، أم أُخبرك أنا؟»
ساد صمت مطبق يتخلَّلُه صوت الساعة الخافت في المطبخ الخلفي، ثم أكمل الأبُ براون حديثه.
«ما حدث كان كالآتي. حين سار السيد دالمون إلى داخل متجرك الخارجي طلب منك شراء لفافات تبغ كانت في النافذة؛ فخرجت أنت للحظة، كما يفعل البائع في المحل غالبًا؛ من أجل أن تتأكَّد مما أراد، وفي تلك اللحظة، لاحظ هو في الغرفة الداخلية وجود مُوسَى الحلاقة الذي كنت قد وضعته من يدك للتوِّ، وكذلك رأس السير آرثر باللون الأبيض المصفرِّ، وهو يجلس على كرسي الحلاقة، بينما يلمعان تحت الضوء المتسلل من النافذة الصغيرة خلفهما. ولم يستغرق الأمر سوى لحظة؛ ذلك أنه أمسك بمُوسَى الحلاقة ونحر العنق ثم عاد إلى طاولة الحساب. لم يكن الضحية مذعورًا من الموسى أو من اليد التي تمسكه، لقد مات وهو يبتسم لأفكاره. ويا لها من أفكار! وأعتقد أن دالمون كذلك لم يكن مذعورًا أيضًا. لقد نحر دالمون عنقَ الرجل بسرعةٍ وهدوءٍ كبيرَين؛ حتى إن السيد سميث هنا كان سيُقسم أمام المحكمة أن الرجلَين كانا معًا طوال الوقت، لكن كان هناك شخصٌ مذعور، وهذا شيء مشروع تمامًا، وهذا الرجل هو أنت. كنتَ قد تشاجرت مع مالك الأرض بشأن التأخُّر في دفع الإيجار وما إلى ذلك، وبعد أن عدتَ إلى محلك لتجد عدوَّك مقتولًا على كرسيِّك، باستخدام موسى الحلاقة الخاص بك. كان من الطبيعي أن تيأس من تبرئة نفسك، وتُفضِّل أن تنظِّف الفوضى التي خلَّفها ما حدث؛ أن تنظِّف الأرضية وتتخلَّص من الجثة بإلقائها في النهر مساءً، في جِوال بطاطس غير موثق بإحكام. ومن حُسن حظك أن هناك ساعاتٍ محددةً يكون فيها محلُّك مغلقًا؛ لذا كان أمامك الكثير من الوقت. ويبدو لي أنك تذكَّرتَ تنظيف كل شيءٍ والتخلُّص من كافة الآثار، عدا القبعة … أوه، لا تخف؛ سأنسى كل شيء، بما في ذلك القبعة.»
ثم عبر الأب براون بخُطًى هادئة نحو المحل الخارجي وخرج إلى الشارع، يتبعه سميث مذهولًا، وتركا خلفهما الحلَّاق يُحدِّق مشدوهًا.
قال الأب براون لرفيقه: «أترى؟ إن هذه القضية هي إحدى القضايا التي يكون الدافع فيها أوهنَ من أن يُدين الرجل، لكنه قويٌّ بما يكفي لتبرئته. إن رجلًا متوترًا وضئيل الحجم كهذا الرجل سيكون هو آخر من يقتل رجلًا آخر في حجم وقوة السير فودري من أجل شجار بينهما على الأموال، لكنه سيكون هو أول من يخاف من أن تُوجَّه إليه الاتهامات بأنه هو من قتله … آه، أما بالنسبة إلى الرجل الذي فعلها حقًّا، فقد كان هناك اختلافٌ كبيرٌ في دافعه لذلك.» ثم ارتدَّ القس إلى حالةٍ من التفكير وراح يحدِّق في الفراغ.
همهم إيفان سميث قائلًا: «الأمر سيئ للغاية. كنت أتَّهم دالمون بأنه مبتزٌّ ووغدٌ قبل ساعة أو اثنتَين، لكن في النهاية أنا حزين لمعرفة أنه هو القاتل الحقيقي.»
بدا أن القَسَّ كان لا يزال في حالةٍ من الغفوة، وكأنه رجلٌ واقفٌ يُحدِّق في الهاوية. ثم في النهاية تحرَّكت شفتاه وتمتم قائلًا: «رُحْماك يا إلهي، يا له من انتقام فظيع!» وكأنه كان يتلو ابتهالًا أكثر منه تصريحًا.
وجَّه إليه صديقه سؤالًا، لكن الرجل أكمل حديثَه وكأنه يتحدَّث إلى نفسه.
«يا لها من قصة فظيعة عن الكراهية! يا له من انتقامٍ ذلك الذي يدفع حقيرًا فانيًا لأن يثأر من فانٍ آخر! ألن نَصِل أبدًا إلى حدود أغوار تلك النفس البشرية التي تحتوي على هذه الخيالات المقيتة؟ ليُبعدنا الله جميعًا عن الكِبْر، لكنني لا أستطيع تصوُّر كراهيةٍ ودافعٍ للانتقام بهذا الشكل.»
قال سميث: «أجل، ولا يمكنني حتى أن أتخيَّل لماذا يُقتل فودري من الأساس. إذا كان دالمون مبتزًّا، فسيكون من الطبيعي أكثر أن يقتله فودري. وكما تقول، كان نحر العنق عملًا مروِّعًا، لكن …»
استفاق الأب براون من غفوته وبدأ يرمش بعينَيه وكأنه قد استيقظ للتوِّ من نومه.
صحَّح الأب براون كلام الأخير بسرعة قائلًا: «أوه، ذلك! لم أكن أفكر في ذلك. لم أقصد جريمة القتل التي وقعت في محل الحلاقة، حين … حين قلت إنها قصةٌ فظيعةٌ عن الانتقام. لقد كنت أفكِّر في قصةٍ أفظعَ بكثيرٍ من تلك، على الرغم أن هذه القصة فظيعة بما يكفي بكل تأكيد، لكن هذه القصة مفهومة بصورة أكبر؛ حيث يمكن لأي شخص أن يفعلها. في الواقع، إنها أقرب ما تكون لأفعال الدفاع عن النفس.»
صاح السكرتير بارتياب: «ماذا؟ لقد تسلَّل رجل خلف آخر ونحر عنقه بينما كان الأخير يبتسم بسعادة باتجاه السقف وهو جالس على كرسي الحلَّاق، وتقول إن ذلك كان دفاعًا عن النفس!»
أجابه الآخر: «لا أقول إن ما فعله كان دفاعًا مبررًا عن نفسه، إنما عنيت فقط أن الرجل قد يجد نفسه مدفوعًا لذلك؛ كي يدافع عن نفسه ضد كارثة مروعة — وتلك الكارثة المروعة كانت جريمة مروعة أيضًا. ولكني كنت أفكر في تلك الجريمة الأخرى. لنبدأ في المقام الأول بالسؤال الذي طرحتَه أنت للتو؛ لماذا يجب أن يكون المبتزُّ هو القاتل؟ في الواقع، هناك الكثير من الأخطاء ونقاط الالتباس التقليدية بهذا الصدد.» ثم توقَّف القس عن حديثه وكأنه يستجمع أفكاره بعد استفاقته من حالة الرعب التي انتابته، ثم استطرد بنبرةٍ طبيعية:
«أنت تقول بأن رجلَين — أحدهما عجوز والآخر شاب — يتوافقان معًا ويتفقان على مشروع زواج؛ لكن أصل الصداقة بينهما قديمٌ وخفيٌّ. أحدهما ثريٌّ والآخر فقير، كما أنك تخمن أن هناك علاقة ابتزاز، وأنت محقٌّ تمامًا، حتى هذا الحد على الأقل. لكنك مخطئ تمامًا في تخمين مَن يبتزُّ من. أنت تفترض أن الفقير هو من يبتزُّ الثري. ولكن في الواقع، إن الثري هو من يبتزُّ الفقير.»
قال السكرتير معترضًا: «لكن هذا يبدو هراءً.»
رد عليه الآخر: «إنه أسوأ من كونه هراءً، لكنه ليس بغير مألوف. إن نصف السياسة الحديثة تتألَّف من ابتزاز الأثرياء للشعب. وفكرتك أن هذا الحديث مجرد هراء تستند إلى خدعتَين وكلتاهما هراء؛ أولاهما أن الأثرياء لا يريدون أن يُصبحوا أكثر ثراءً؛ والأخرى أن الابتزاز يحدث طلبًا للمال فقط. والخدعة الثانية هي التي نحن معنِيُّون بها هنا. كان السير آرثر فودري يتصرَّف ليس بدافع الجشع، وإنما بدافع الانتقام، وقد خطَّط للانتقام بأكثر الطرق التي سمعت عنها بشاعة.»
سأله الآخر: «ولكن لماذا يخطِّط للانتقام من جون دالمون؟»
أجابه القس بجدية: «لم يكن يخطِّط للانتقام من جون دالمون.»
ساد الصمت لحظة، ثم أكمل القَسُّ حديثه وكأنه يرمي إلى تغيير موضوع الحديث: «حين وجدنا الجثة، تذكر أننا رأينا الوجه مقلوبًا رأسًا على عقب؛ وقلتَ إن وجهه يبدو كوجه شيطان. فهل خطر لك أن القاتل أيضًا رأى الوجه مقلوبًا رأسًا على عقب، حين كان يتسلَّل من خلف كرسي الحلاق؟»
احتجَّ رفيقه بشدة قائلًا: «لكن في هذا مغالاة مرضيَّة. لقد كنت معتادًا على رؤية الوجه بصورته الطبيعية.»
قال الأب براون: «ربما لم ترَهُ قَط بالشكل الصحيح. لقد قلتُ لك إن الفنانين يقلبون اللوحة رأسًا على عقب حين يريدون رؤيتها بالطريقة الصحيحة. ربما كنت قد اعتدت على رؤية وجه شيطان أثناء تناول وجبات الإفطار وجلسات تناول الشاي.»
احتجَّ سميث وقد نفد صبره: «إلامَ ترمي؟»
أجابه الآخر بنبرةٍ نكِدة قائلًا: «إنني أتحدَّث رمزيًّا. لم يكن السير آرثر شيطانًا بالطبع؛ بل رجلًا يتميَّز بشخصيةٍ اكتسبها من طبع كان من الممكن أن يتحوَّل إلى شيء طيِّب، لكنْ تلكما العينان الجاحظتان المريبتان، وذلك الفم القوي، ورغم ذلك، المرتعش، ربما قد أخبروك بشيء إن لم تكن معتادًا عليهم. أنت تعرف أن هناك أجسادًا لا تُشفَى من الجروح التي تلحق بها. كان السير آرثر يمتلك عقلًا من تلك النوعية. كان عقله يبدو وكأنه لا يلتئم؛ كان يمتلك يقظة كِبْرٍ محمومة؛ تلكما العينان كانتا جاحظتين بفعل الأرق الناتج عن الكِبْر، ولكن الحساسية لا ينبغي أن تصبح أنانية، فسيبيل راي على سبيل المثال تمتلك نفس القدر من الحساسية لكنها تمكنت من السيطرة عليها لتصبح أقرب ما تكون إلى القديسة. أما فودري فقد حوَّل الأمر برمته لكِبْرٍ سامٍّ؛ كِبْرٍ لم يكن حتى مأمونًا أو مسببًا للرضا عن النفس. لقد تقيَّح كل خدش تعرَّضَت له روحه، وهذا هو معنى القصة القديمة التي تتحدَّث عن إلقاء الرجل في حظيرة الخنازير. لو أنه كان قد ألقاه في الحظيرة حينها في نفس الزمان والمكان، بعد أن وصفه بالخنزير، لكان ما فعله يمكن تبريره بأنه ثورة غضب، لكن لم تكن هناك حظيرةٌ للخنازير في تلك اللحظة؛ وهذا هو لبُّ الأمر كله. لقد ظل فودري يتذكر تلك الإهانة السخيفة لسنوات طوال، حتى تمكن من جرجرة الرجل الشرقي إلى مكان يمكن أن توجد به حظيرة للخنازير؛ حينها انتقم منه بالطريقة التي يرى أنها مناسبة وإبداعية … أوه، يا إلهي! كان يحب أن يكون انتقامه مناسبًا وإبداعيًّا.»
نظر إليه سميث وقد استحوذ عليه الفضول ثم قال: «أنت لا تقصد أن قصة حظيرة الخنازير …»
قال الأب براون: «لا، أقصد القصة الأخرى.» وحاول الأب براون أن يكبح الرجفة في نبرة صوته، ثم استطرد:
«بعد تذكُّر تلك القصة عن التخطيط الرائع والصبور؛ لجعْل الانتقام مناسبًا للجريمة، لننظر الآن في القصة الأخرى أمامنا. على حد علمك، هل قام أي شخص آخر بإهانة فودري، أو تسبَّب له فيما قد يعتبره إهانة قاتلة؟ أجل؛ هناك امرأة أهانته.»
بدأت عينا إيفان تُظهران شيئًا من رعب مبهم؛ فكان مُنصتًا باهتمام شديد.
«لقد رفضت فتاة أن تتزوَّجه — وهي أكبر بقليل من كونها طفلة — لأنه كان ذات مرة مجرمًا من نوعٍ ما؛ فقد كان مسجونًا بالفعل لفترة قصيرة بسبب أنه صبَّ جام غضبه على الرجل المصري. وقد قال ذلك الرجل المجنون في أعماق جحيم نفسه: «لا بد أن تتزوَّج تلك الفتاة من قاتل».»
سار الرجلان في الطريق المؤدي إلى المنزل الكبير، وذهبا بمحاذاة النهر لبعض الوقت في صمت، ذلك قبل أن يُكمل القس كلامه: «كان فودري في موضع يمكِّنه من ابتزاز دالمون، الذي ارتكب جريمة قتل قبل فترة طويلة؛ إذ يُحتمل أن فودري على علم بوقوع عدة جرائم على يد رفاق شبابه الجامحين. ربما كانت الجريمة عنيفة وتتَّسم بإمكانية التعويض عن ارتكابها؛ ذلك أن أعنف جرائم القتل ليست هي الأسوأ، ويبدو لي أن دالمون من الرجال الذين يشعرون بالندم، حتى ولو كان على قتل فودري، لكنه كان واقعًا تحت وطأة فودري، وقد تمكنا فيما بينهما من الإيقاع بالفتاة بذكاء شديد في فخ خطبتها؛ معنى ذلك، السماح للمحب أولًا بتجربة حظه، مثلًا، بينما يشجِّع الآخر الأمر بصورة رائعة، لكن دالمون لم يكن يعلم، لم يكن هناك أحدٌ — سوى الشيطان نفسه — يعلم ما كان يدور حقًّا في رأس ذلك العجوز.
بعد ذلك بأيام قليلة، اكتشف دالمون شيئًا مروِّعًا. اكتشف أنه كان ممتثلًا، ليس عن غير قصد تام منه، وأنه مجرد أداة، وقد اكتشف فجأة كيف أن تلك الأداة سيتم تحطيمها والتخلص منها. لقد وقعت يده على ملاحظات لفودري في مكتبته، ورغم أنها كانت مخفية، فإنها كشفت له أن فودري كان يستعد لتقديم معلومات للشرطة؛ ففهم الخطة كلها ووقف مذهولًا كما حدث معي حين عرفتُها أيضًا. ففي اللحظة التي كان سيتزوَّج فيها العريس بعروسه، كان سيُلقى القبض على العريس وسيعاقَب بالإعدام. أما تلك الفتاة الشديدة الحساسية، والتي رفضت أن تُزوج نفسها لرجلٍ كان في السجن، فستجد أن زوجها قد أصبح معلقًا على المشنقة. هذا هو ما اعتبره السير آرثر فودري أنه اختتام فني وإبداعي للقصة.»
كان إيفان سميث صامتًا وقد أصبح لونه شديد الشحوب؛ وعلى امتداد الطريق، رأيا الدكتور أبوت بجسده الضخم وقبعته العريضة وهو يتقدَّم نحوهما؛ ومجمل شكله يوحي بالقلق، لكن الرجلين كانا يرتجفان بفعل إدراكهما للرؤية الخاصة بهما.
قال إيفان سميث في النهاية: «كما تقول، الكراهية أمر بغيض، ولكن هناك شيئًا واحدًا يشعرني بالارتياح نوعًا ما. إن كراهيتي لدالمون المسكين قد تلاشَتْ؛ الآن أصبحت أعرف كيف ارتكب جريمتَيْ قتل.»
قطع الرجلان ما تبقَّى من المسافة في صمت وقابلا الطبيب الضخم وهو آتٍ نحوهما، حيث يرتدي قفَّازًا في يدَيه الكبيرتَين، وهو يحركهما في إشارة تنمُّ عن يأس، بينما لحيته البيضاء تهتز مع الرياح.
قال الدكتور أبوت: «هناك أخبار مفزعة. لقد وُجدت جثة آرثر. يبدو وكأنه مات في حديقته.»
قال الأب بروان في استجابة شبه آلية: «يا إلهي! يا لها من أخبار مفزعة!»
صاح الطبيب وسط أنفاسه المتلاحقة: «هناك المزيد، لقد ذهب جون دالمون ليحضر فيرنون فودري، ابن أخيه، لكن فيرنون لم يلتقِ به قط، ويبدو أن دالمون قد اختفى تمامًا.»
قال الأب براون: «يا إلهي! كم هذا غريب!»