علم جابر
تمهيد
الأمة الحية التي تحس بكيانها وتشعر بوجودها هي التي تعنى بعلمائها، وتقدِّر أعاظم رجالها حق قدرهم. فإن الأمة لا تستحكم في ربوعها الحضارة والعمران، ولا تكمل لها الدولة والسلطان، إلا بعناية أولئك الرجال الذين حبسوا أنفسهم على خدمة العلم، وتفانوا في كشف الحقيقة، وتجشَّموا في البحث عنها المتاعب والأخطار، وقطعوا في تحرِّيها الأمصار والبحار، وبذلوا دونها النفس والنفيس، وأذهبوا أعمارهم في التدبير والتفكير والتجارب والتحرير، كل ذلك للوقوف على غوامض أسرارها واجتناء يانع ثمارها.
إذا صح ما قيل إن العلم له غايتان: إحداهما عقلية، وهي التحري عن الحقيقة لذاتها، ومحاولة الوصول إلى كُنْهِ هذا العالم، ومعرفة سر هذا الوجود، ونظام هذا الكون، والأخرى إنسانية، وهي خير البشر، واستحكام الحضارة — فما أجدرنا أن نحاول في هذا البحث معرفة ما وصل إليه العرب في إدراك هاتين الغايتين، وما كان لهم من أثر حقيقي في خدمة العلم، وكشف الحقائق، للوصول بالبشر إلى درجة الكمال، والسير بهم في معارج السعادة.
قال ويلز الكاتب الإنجليزي المشهور في كتابه «تجربة في التاريخ العام»: «إنه في القرون التي سبقت ظهور محمد، كان الفكر العربي أشبه بالنار تحت الرماد، فلما انكشف عنه الرماد بالفتح الإسلامي، لمع لمعانًا لم يعهد أن فاقه فيه إلا الفكر اليوناني. وهذا في أسنى أدواره. فجاء الفكر العربي بشكل جديد، وبقوة جديدة، وعالج علاجًا شريفًا. تنمية العلوم الصحيحة نظير ما عالج اليونانيون. ولقد كان اليوناني أبًا للعلم، فجاء العربي وحل محله في هذه الأبوة. وكانت طريقة العربي هي أن ينشد الحقيقة بكل استقامة وبكل بساطة، وأن يجليها بكل وضوح وبكل تدقيق، غير تارك منها شيئًا في ظل الإبهام. فهذه الخاصة التي جاءتنا — نحن الأوروبيين — من اليونانيين، وهي نشدان النور، إنما جاءتنا عن طريق العرب، ولم تسقط إلى أهل العصر الحاضر من طريق اللاتين.»
وقال درابر: «ومن عادة العرب أن يراقبوا، ويمتحنوا، وقد حسبوا الهندسة والعلوم الرياضية وسائط للقياس. ومما تجدر ملاحظته أنهم لم يستندوا — فيما كتبوه في الميكانيكيات والسائلات والبصريات — على مجرد النظر، بل اعتمدوا على المراقبة والامتحان، بما كان لديهم من الآلات، وذلك ما هيأ لهم سبيل ابتداع الكيمياء وقادهم لاختراع أدوات التصفية والتبخير ورفع الأثقال، ودعاهم إلى استعمال الريع والإصطرلاب في علم الهيئة، واستخدام الموازنة في الكيمياء، مما خصوا به دون سواهم … وهم الذين أنشئوا في العلوم العملية علم الكيمياء، وكشفوا بعض أجزائها المهمة، كحامض الكبريتيك وحامض الفضة (النتريك) والكئول، وهم الذين استخدموا ذلك العلم في المعالجات الطبية، فكانوا أول من نشر تركيب الأدوية والمستحضرات المعدنية.» ولما كان البحث في أثر العرب في نواحي العلم المختلفة، يستوعب مجلدات ضخمة، ويحتاج إلى زمن طويل للتدقيق والتمحيص، رأينا أن نقصر بحثنا هذا، على ما قاموا به من التجارب في علم الكيمياء، التي لولاها لما وصل إلى ما هو عليه في هذا العصر من الرقي.
وجاء في التاريخ العام: «وكان الرازي وجابر أول من وضعا أساس الكيمياء الحديثة، وحاولا كشف الإكسير الذي يهب الحياة، ويعيد الشباب. وكانا يذهبان إلى معرفة حجر الفلاسفة الذي يحوِّل المعادن إلى الذهب. ولم تذهب هذه الأبحاث الوهمية سدى؛ لأنهم عرفوا بها التقطير والتصعيد والتجميد والحل، وكشفوا الكئول من المواد السكرية والنشوية الخاثرة.»
وضع جابر والرازي وابن سينا ومسلمة والكندي وعشرات غيرهم من العلماء أصول الكيمياء الحديثة، وساعدهم على ذلك روجر باكون، والبابا سلفستر الثاني، وألبير الكبير، وجمهرة كبيرة من علماء أوروبا في القرون الوسطى. وظل الأمر كذلك حتى جاء لافوازيه، فصحح مذهب المتقدمين من الكيميائيين، المؤسَّس على وجود العناصر الأربعة، ووضع في هذا العلم القواعد الصحيحة، والنظريات المبرهنة، فأوجد بذلك علم الكيمياء الحديث. قال هذا العالم الفرنسي الشهير: «موضوع علم الكيمياء هو تحليل الجسم بالعمليات الكيميائية إلى العناصر التي يتألف منها، ثم فحص كل عنصر من تلك العناصر على حدته. فغاية علم الكيمياء، هي تجزئة الأجسام. ولا يزال هذا العلم يسير إلى هذه الغاية حتى يبلغ درجة الكمال بتجزئة الأجسام المختلفة، التي في الطبيعة، ثم بتجزئة تلك الأجزاء ثانيًا وثالثًا وهلم جرًّا … فالكيمياء هي علم التحليل.»
وقال برتلو: «الكيمياء تكون موضوعها، وهذه الخاصة المكونة تميز هذا العلم تمييزًا ذاتيًّا عن العلوم الطبيعية والتاريخية؛ لأن موضوع كل من العلمين الأخيرين سابق عليهما، وخارج عن إرادة العالم بهما وعن عمله. فالكيمياء تخلق موضوعها، ولها قدرة على إعادة ما هدمته وإحياء ما أماتته. فالكيمياء هي علم التحليل والتركيب، وهذا التركيب يعم العناصر والمركبات، وليس له حد محدود.»
وقال جيرار: «إن الكيميائي يعمل بعكس ما تعمل الطبيعة الحية؛ لأن الكيميائي يحرق الأجسام، ويهدم تركيبها، ويجري جميع أعماله فيها بالتحليل. بيد أن الطبيعة الحية، أو القوة الحيوية، تجرى أعمالها بالتركيب، فهي تعيد بناء الهياكل التي هدمتها القوى الكيميائية.»
وقد خالف رجال الكيمياء الحديثة هذا القول، وكوَّنوا من الأجسام ما في وسع الطبيعة الحية والقوة الحيوية وحدهما تكوينه، وأعادوا بناء الهياكل التي هدمتها القوى الكيميائية. حكموا على المادة، وزادوا في الموجود، وجرت من أعماق أخيلتهم عوالم جديدة، وبرهنوا على أن المادة المعدنية والمادة العضوية تابعتان لقاعدة واحدة، ووضعوا النظريات التي يقوم عليها ذلك البحر الزاخر من الاختراعات والاكتشافات التي أوجدها لنا علم الكيمياء الحديث.
فالعلم الذي كان أساسًا لما نراه في هذا العصر، من الأدوية والمركبات والمواد الكيميائية الحديثة — عضوية كانت أم غير عضوية — لم يكن علمًا مبنيًّا على الأوهام والأباطيل. وبالرغم من وجود بعض الدجالين والمشعوذين، الذين لا يخلو منهم مكان أو زمان، فقد كانت للكيمياء الإسلامية نظريات صحيحة وقواعد ثابتة. وقد نعجب في بعض الأحيان لما نجده في كتبهم من التصورات والآراء، التي كنا نظنها عصرية، فإذا بهم قد سبقوا إليها، وذلك كمذهب النشوء والارتقاء في الكائنات العضوية. فقد كان هذا المذهب يعلَّم في مدارسهم، وكانوا يذهبون فيه إلى أبعد مما نذهب اليوم، بإطلاقه على الجواهر غير العضوية. وكان مبدأ الكيمياء الأساسي عندهم هو التركيب التدريجي في الأجسام المعدنية. قال الخازن: «إن الجهلة حينما يسمعون بتحول بعض الأجسام بطريق التكامل إلى ذهب، يفهمون أنه مر بصور الأجسام المعدنية الأخرى؛ أي إنه كان رصاصًا، ثم صار قصديرًا، ثم صار من نوع سكب الرمل ثم فضة إلى أن انتهى ذهبًا. ولا يدركون أن الفلاسفة يريدون بما يقولونه الإنسان أيضًا.»
فإذا كان الأمر كذلك فإلى أي مدى وصل العرب في وضع قواعد هذا العلم؟ ذلك ما نحاول الإجابة عنه في هذا البحث.
علم جابر
كان الجمهور من علماء الإفرنج، يذهب قبل اليوم إلى أن علم جابر — أي الكيمياء القديمة — من الأباطيل التي دانت لها علماء الإسلام والنصارى في القرون الوسطى، حتى خيلت للمسلمين منهم استحضار «الإكسير» الذي يسمونه أيضًا «الحجر الكريم»، أو «الحجر المكرم»، «الحجر الأصفر»، ويزعمون بأنه تراب أو ماء، إذا رش أو صب منه على المادة القابلة للاستحالة، صيَّرها ذهبًا أو فضة. ووسوست للمسيحيين الذين أخذوا الكيمياء عن المسلمين بأن في «الإكسير» الذي سموه أيضًا «حجر الفلاسفة» منافع أخرى، كخاصة الدواء الشافي لكل داء، والماء الذي فيه الحياة وطول العمر، وغير ذلك من الخواص الكاذبة، التي أوهمت علماء الإفرنج بأن الكيمياء القديمة حديث خرافة من خرافات القرون الوسطى. غير أن كثيرًا من علماء هذا العصر، دحضوا آراء القائلين ببطلان الكيمياء القديمة، ومهدوا السبل للسالكين طريقة جابر، باكتشافهم التركيب الكيميائي، واصطناعهم المركبات العضوية، مما كانت الطبيعة متفردة بتكوينه قبل اليوم. وأثبتوا بأن علم الكيمياء الحديث والاكتشافات التي اكتشفت فيه لغاية هذا العصر لم يهدما أساس الكيمياء القديمة، المبنية على حقائق فلسفية، يقبلها العقل، ويؤيدها البرهان، وأفسدوا الاعتقاد ببطلان علم جابر.
فموضوع الكيمياء القديمة هو تحول المعادن، بل انقلاب جميع المواد المستعدة لقبول التحول من نوعها إلى نوع آخر. وهذا هو الغرض الذي يجري وراءه اليوم علم التركيب الكيميائي، الذي هو باب عظيم من أبواب الكيمياء الحديثة. وغاية الكيمياء القديمة تحويل المعادن الخسيسة المبتذلة — كالرصاص والقصدير والنحاس والحديد والخارصين — إلى المعدنين الشريفين النادرين، وهما الذهب والفضة، فهذه الغاية هي التي أطمعت الناس في هذا العلم من قديم الزمان، واستهوت الكثيرين حتى استهلكوا في طلبها.
اختلفوا فيمن وضع علم جابر، وفي الزمان الذي وضع فيه. فزعم القدماء بأنه صنعة إلهية وفرع من فروع العلوم الروحانية، وقالوا بأن هذا العلم هو باصطلاحهم أحد العلوم الملهمة السرية — كالسيمياء والسحر والتنجيم والطلسمات — وجد في النوع الإنساني منذ كان عمران الخليقة، وإن سندهم فيه يتصل إلى هرمس الأعظم الذي يحسبونه كبير فراعنة مصر، أو أعلم علمائها، وينسبون إليه جميع العلوم والحكمة، ويعتبرونه في مصاف الآلهة. غير أن علماء الآثار لم يقفوا في أبحاثهم وتحرياتهم على أثر لهرمس هذا. وقيل: كان هرمس الأعظم في بابل، ولعل مرادهم به حينئذ إدريس عليه السلام، حيث ورد بأنه من السريانيين أخوات الكلدانيين، وبأنه أول من أعطي النبوة وخط بالقلم، وأول من نظر في علم النجوم والحساب وغيرهما من العلوم، وأول من فصل الثياب وخاطها. وقال علماء العصر بأن هذا العلم لم يوضع إلا بعد القرن الثاني، بل الثالث للميلاد، وأن واضعيه علماء الروم في بيزانس أي القسطنطينية، وإنما عزوها إلى علماء مصر لأنها كانت بالنسبة إليهم ينبوع العلم ومهد الحضارة. واستدلوا على قولهم هذا بتدقيق الرسائل القديمة المدونة في الكيمياء، وهي لم تزل محفوظة بالخط اليوناني القديم في مكتبات أوروبا. ويظهر من ورقها وخطها اليوناني القديم وأسلوب إنشائها بأنها من مؤلفات القرن السابع للميلاد، ومؤلفها وإن كان من علماء القسطنطينية، إلا أنه عزاها إلى علماء مصر، وادعى باتصال سندها إلى هرمس الأعظم.
والذي يطمئن له القلب في تحقيق هذا البحث، أن الكيمياء على الإطلاق من قديمة وحديثة، تشتمل على أمرين؛ أحدهما القواعد النظرية، والآخر الصناعات العملية، فصناعة الكيمياء العملية وجدت في الأمم الخالية من قديم الزمان، ووجودها ملازم لوجود العمران. وقد تولدت من صناعات مصر وبابل ومن اشتغال الأمم السالفة في إذابة المعادن، وتخليطها واصطناع البلور وأحجار الفسيفساء وغيرهما، وصبغ الأقمشة وتلوينها؛ وقد ثبت في يومنا أن الصينيين صنعوا البارود والحبر والزجاج، وطلوا الفخار، وأذابوا المعادن قبل الميلاد بقرون كثيرة، وأن المصريين تقدموا في الصناعات العملية، فاستخرجوا شذور الذهب وأحجار الفضة، وغيرهما من المعادن، وأذابوها، وصفَّوْهَا، وخلطوها بعضها ببعض، وكان فيهم الفرَّان والزجاج والمصوِّر والنقَّاش والصبَّاغ. وجميع هذه الصناعات من تطبيقات علم الكيمياء، ولا بد فيها من معرفة هذا العلم معرفة عملية لا نظرية، وقد اشتهروا أيضًا بصناعة تحنيط الموتى، التي هي من أدق الصناعات وأعجبها، وبها حفظت الأجساد لهذا العهد، ولهذه الصناعة علاقة كبيرة بعلم الكيمياء.
وأما الأشوريون والفرس وأهل بابل من الكلدانيين، فإنهم خطوا خطوة كبرى في العمران والحضارة، ولم يزل العلماء يبحثون في آثارهم، وينقبون في خرائب مدنهم، ليعرفوا مبلغ ما وصلوا إليه من الرقي والتمدن. وكانت الصناعات متوفرة لديهم، كما تقدمت كذلك لدى الفنيين الذين اشتهروا بعمل الزجاج وإذابة المعادن وصبغ الأقمشة، حتى كان الداخل مدينة صور يشمئزُّ من روائح مصابغها الكثيرة، كما شاهد ذلك المؤرخ اليوناني إسترابو، وحكاه في تاريخه في القرن الأول للميلاد. وكان لهذه الأمم أيضًا عناية تامة بالسحر والتنجيم وما يتبعها من العلوم السرية، كما أيدت ذلك الاكتشافات، ونطق به القرآن المبين، في قصة هاروت وماروت ببابل، وشأن السحرة في مصر، وقصة نمرود وفرعون مع إبراهيم وموسى عليهما السلام.
وتقدمت صناعة الكيمياء أيضًا عند اليونان والرومان، فاستخرجوا معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس وغيرها، وضربوا المسكوكات، ووقفوا على خواص كثير من الأملاح المعدنية، فاستفادوا منها في صناعاتهم، وطبخوا الصابون، وشووا الزجاج والفخار وطلوه. وما يشاهد في آثار بنيانهم من كلس الرخام وأنواع الطين دليل على وقوفهم على كثير من أسرار هذه الصناعة.
والظاهر أن الاعتقاد بإمكان وجود الذهب الصناعي تولَّد من رؤية الحوادث الأولية، التي حدثت في علم الكيمياء في أثناء اشتغال الأمم السالفة بالمعادن؛ وذلك أنهم لما رأوا بالتجارب أن الأجسام تتكيف، وتستحيل بالتدبير والمعالجة — أي بالعمليات الكيميائية — استولى على عقولهم الأمل باصطناع الذهب والفضة، وطمعوا في السعادة، فظنوا أنهم يتمكنون من تقليد الطبيعة في تكوينها هذين المعدنين الشريفين، وأنهم يتوصلون للحصول عليهما بالطريقة الصناعية، فقالوا بوجود الكيمياء، وسموها بالصنعة الهرمسية، وألحقوها بعلوم السحر والتنجيم وما شابههما.
وأما القواعد النظرية التي يشتمل عليها علم الكيمياء فأساسها قديم أيضًا؛ لأن القاعدة الأولى في هذا العلم هي العناصر التي يتألف منها الجسم كما يتألف الكون من مجموع الأجسام. وقد تبين لعلماء العصر من تدقيقهم الكتب القديمة، بأن أول من قال بتركيب الجسم من العناصر هم أهل الهند، فإنهم اعتبروا العالم السفلي — أي دنيانا هذه — مركبًا من أربعة عناصر، وهي الهواء والنار والماء والأرض، وأن العالم العلوي — أو السماء — عنصر خامس «الأثير». فالكون عند علماء الهند مؤلف من خمسة عناصر. وأقدم القائلين بمثل هذا القول من فلاسفة اليونان هو الحكيم أمبيدوجل؛ فإنه قال بوجود العناصر الأربعة فقط، ولم يذكر العنصر الخامس، وذلك قبل الميلاد بأربعة قرون ونصف قرن. وذهب فيثاغورس وغيره من حكماء اليونان إلى أن عنصري الماء والنار أصل كل شيء في الوجود، وقال بعضهم بأن عنصر النار وحده أصل الكون، غير أن أفلاطون وأرسطوطاليس أيَّدا رأي القائلين بأن المكونات تتألف من العناصر الأربعة وأوضحا هذا الرأي وبيَّنَاه، واتصل سند علماء الإسلام إلى أرسطوطاليس في جميع العلوم الفلسفية وفي الحكمة، فقالوا بأن الأجسام تتركب من العناصر الأربعة، وهي الأرض والماء والهواء والنار، ويقصدون بالأرض الجسم الصلب، وبالماء الجسم السائل، وبالهواء الجسم الغازي، وبالنار الحرارة والضوء. وبقي هذا الرأي هو المعمول به والمعول عليه بين العلماء إلى أن جاء لافوازيه في القرن الثامن عشر، وأبطل هذا الرأي، وقال بأن العناصر الأربعة ليست بأجسام بسيطة؛ لأن الماء يتألف من عنصرين بسيطين، وهما الهيدروجين (مولد الماء) والأكسجين (مولد الحموضة)، وبأن العناصر البسيطة تزيد عن أربعة بكثير. ومن قواعد الكيمياء النظرية القول بالجوهر الفرد، وأن الأجسام مؤلفة من ذرات متحركة، بينها خلايا، وأول من قال بذلك الحكيم اليوناني لوكيب، وتابعه عليه تلميذه ديموقراط، فأوضح هذا القول وبيَّنه.
فهذه القواعد النظرية، وتلك الصناعات العملية، هيأت علم الكيمياء للظهور والبروز. وفي القرن الثالث للميلاد وما بعده، أخذ اليونان يدونون هذا العلم، كما دون بقراط علم الطب بعد أن كان صنعة عملية، يتناقلها الابن مشافهة عن أبيه.
ولم يذهب أحد من علماء هذا العصر إلى أن الكيمياء من أوضاع الصابئين مع أن جابرًا إمام المدونين في هذا العلم من نسلهم، ورسائل الكيمياء القديمة مملوءة باعتقاداتهم ومذاهبهم. والصابئون طائفتان: إحداهما الحرانيون سكان حران، وهي مدينة في جنوب الرها وعلى مسافة بضع ساعات منها، وهؤلاء من نسل العرب، كما ذكر ذلك السيد جمال الدين الأفغاني في الرد على رينان، ويؤخذ ذلك أيضًا، ما نقله ابن الأثير في تاريخ الكامل، من أن بختنصر أخذ من في بلاده من تجار العرب، وبنى لهم حران بالنجف، وأسكنهم فيها، وجاء بطوائف من العرب وأنزلهم السواد، فابتنوا الأنبار، واتخذوا الحيرة منزلًا. وأساس مذهب الحرانيين التوحيد، والاعتراف بصانع العالم، وأنه حكيم قادر مقدس، إلا أنهم يتقربون إليه بالكواكب السبعة السيارة، ويعتقدون أنها مدبرة لهذا العالم السفلي، ولها أرواح مؤثرة فيه، ولكل كوكب منها تأثير خاص به؛ ولذا كانت عبادتها مبنية على التوسل إليها، بتلاوة العزائم والأقسام، وجعلوا لكل شيء وردًا قسمًا مخصوصًا. وللحرانيين آراء كثيرة على مذهب أرسطو في المادة، والعناصر، كما ذكر ذلك ابن النديم في الفهرست، فلعلهم اقتبسوا شيئًا من فلسفة اليونان، غير أن أساس دينهم وعلومهم مأخوذ — ولا شك — من دين أهل بابل الأقدمين.
والطائفة الثانية من الصابئين هم جنس من أهل الكتاب، يقال لهم الكسائيون؛ نسبة لشيخهم الكسائي. وكان ظهورهم في القرن الثاني للميلاد، فيما بين واسط والبصرة. وأصل الكسائي — مؤسس هذا المذهب — مجوسي، هاجر من شمال بلاد العجم إلى جنوب الجزيرة، ونشر فيها مذهبه، وشرط في العبادة الطهر والاغتسال بالماء، ولذا قال المستشرقون بأن اسم الصابئة مشتق من صبا في اللغة الآرامية، ومعناها اغتسل، وقيل بأن الكسائيين هم المانيون؛ أي الذين هم على دين ماني النقاش. وكان ماني مطلعًا على كثير من العلوم، وله براعة في النقش والتصوير؛ فوضع كتاب «أرتنك» أو «أرجنك»، وادعى بأنه أنزل عليه من السماء. وأساس مذهب الكسائيين — ومذهب المانيين المسمى مذهب الثنوية — القول بوجود عالمين؛ عالم النور، وعالم الظلام، والأخذ بالنور والبراءة من الظلمة. وفي زعمهم أن النور يتألف من الهياكل الروحانية، وهي أشكال نورانية لطبقة عالية تصعد لأعلى طبقة من النور والبهاء. وعالم الظلام يتألف من الهياكل الجسمانية، وهي أشكال مظلمة كثيفة، تهوي للدرك الأسفل من الكثافة والظلام. فهذان العالمان على طرفي نقيض. والكمال والحسن في جانب النور لا في جانب الظلام.
وللصابئيين في العناصر الأربعة مذهب يحكى مذهب قدماء الهنود، فإنهم يقولون بأن الأجسام السفلية — أي التي تحت فلك القمر — مركبة من العناصر الأربعة. وأما جسم السماء — أي ما فوق القمر من الأفلاك — فهو عنصر خامس. وكان الصابئون يكتبون بلسان الآراميين أو الأرمانيين كما سماهم ابن الأثير، وهم نبط سواد العراق، ومن الأمم السامية الذين ملكوا أرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل. وكانت لغتهم السريانية منتشرة في سوريا والجزيرة والعراق، وهي لغة الدين والعلم والسياسة، قبل ظهور الإسلام، وانتشار العربية في هذه الأقاليم، حتى إن عرب الحيرة والأنبار وحران كانوا لا يقرءون ولا يكتبون إلا بالسريانية. وكان لدى الآراميين بقية من علوم الفلك والتنجيم، والسحر، والطلاسم، والنباتات، وغيرها من الطبيعيات، ورثوها عن آبائهم الأقدمين، من الكلدانيين والسريانيين أو الأشوريين، فأضافوا إلى هذه العلوم في منتصف القرن الثاني للميلاد فلسفة اليونان وعلومهم، بترجمتها من اليونانية إلى السريانية، واشتهر من هؤلاء المترجمين ابن ديصان — منجم الرها، وليس بأسقفها كما توهم كثير من المؤرخين — فأحيا اللغة السريانية، ووسع دائرة العلم وفن الأدب فيها. وفي ابتداء القرن الثالث أنشئت مدرسة الرها، وكانت على حدود مملكة الأكاسرة فسميت مدرسة الفرس، وهرع إليها الطلاب من العراق والعجم والشام، ودُرِّست فيها اللغة اليونانية، وترجمت كتبها إلى السريانية. واشتهر من حكمائها «أفريم» وغيره. ودخل النساطرة مدرسة الرها في أوائل القرن الخامس للميلاد، واشتهروا فيها بالطب، وبمعرفة كثير من الأدوية، والعقاقير المستفادة من المعادن والنباتات، ولما نفاهم القيصر زينون، وأقفل مدرسة الرها، تجمع النسطوريون في نزيب — وكانت في ملك الأكاسرة — ثم تفرقوا في بلاد فارس، ورحلوا إلى الهند والصين، ثم انضم إليهم أصحاب الرواق — من المشائين — لاضطهاد القياصرة لهم؛ ففتح لهم كسرى أنوشروان مدرسة للطب والفلسفة في جنديسابور، من إقليم خوزستان، واستمرت هذه المدرسة إلى زمن العباسيين. وكان في قنسرين — وهي على الضفة اليسرى لنهر الفرات — مدرسة أخرى لدرس العلوم اليونانية والفلسفة.
فيتضح من ذلك أن للآراميين والصابئين مشاركة في العلوم والفلسفة، حتى لقبهم المسعودي بعوام اليونانيين، وحشوية الفلاسفة المتقدمين، ولهم كتب كثيرة في الفلسفة والنجوم وغيرهما، ولم يصل إلينا منها إلا القليل، مثل كتاب المصاحف السبعة، والفلاحة النبطية التي هي من أوضاع أهل بابل، ولا يقتصر فيها على مجرد علم الفلاحة كما يستشعر من اسمها، وإنما النظر فيها للنبات عامة، من جهة غرسه وتنميته، ومن جهة خواصه وروحانيته، ومشاكلتها لروحانيات الكواكب والهياكل، والمستعمل ذلك كله في باب السحر، وفيها شيء من أخبار النبط وعبادتهم وعوائدهم. وترجمت الفلاحة النبطية للعربية، واختصر ابن العوام ترجمتها، واقتصر فيها على فن الفلاحة، من جهة غرس النبات وتربيته.
فمن أغلب الاحتمالات أن للحرانيين معرفة بالكيمياء، ولا يبعد أن تكون مؤلفاتهم السريانية دثرت، كمؤلفات اليونان الأولية، التي وضعت بهذا العلم في القرن الثالث للميلاد وما بعده. فإنه لما تنصرت قياصرة الروم، وحرمت أساقفتهم النظر في العلوم العقلية، قتلوا العلماء، ونفوهم في الأرض، وأبطل القيصر ثيودوس (٣٧٩م) التعليم في رومية، وشتت القيصر زينون (٤٨٩م) شمل علماء الرها، وخرب مدرسة النسطوريين فيها، وأقفل القيصر يوستنيان رواق المشائين من أثينا (٥٢٧م) دار الحكمة، ومهد الفلسفة، فكان القرن الرابع وما بعده إلى القرن السابع شؤمًا على العلم وأهله، وربما كانت رسائل كيمياء البيزانتيين — المحفوظة اليوم في مكتبات أوروبا — هي هذا العلم من المؤلفات الثانوية، التي سمح الدهر ببقائها لهذا العصر.
ولم تزل رسائل الكيمياء مهجورة، ككتب سائر العلوم في جميع العالم المسيحي، المستولي إذ ذاك على القسطنطينية، وبلاد اليونان والأناضول والشام والجزيرة والعراق ومصر وإيطاليا، وذلك لما اقتضاه الأخذ بدين النصرانية، وتعصب القياصرة. ودام كوكب العلم آفلًا إلى أن بزغت شمس الإسلام، وكان لأهله الظهور الذي لا كفاء له، وابتزوا الرومَ والفرسَ ملكهم، واستولوا على الشام ومصر والعراق وفارس، وابتدأ أمرهم بالسذاجة والغفلة عن العلوم والصناعات، حتى قويت شوكة الدولة، وأخذوا من الحضارة نصيبًا، وأقبلوا على العلوم العقلية، وترجموا كتبها للعربية عن خمس لغات، وهي الفارسية، والهندية، والسريانية، واليونانية، والعبرانية. واستخدموا لذلك بادئ الأمر علماء الأقوام الذين خضعوا لهم على اختلاف مللهم ونحلهم، وقربوهم، وأغدقوا عليهم. وكان الخلفاء والأمراء يتحرون أربعة أصناف من أصحاب العلوم والمعارف، وهم الحكماء، والأطباء، والعقلاء ذوو الرأي والتدبير، وذوو المهارة التامة في الصناعات. فأبو لؤلؤة الذي غدر بعمر (رضي الله عنه) كان من القسم الرابع وكانت بيده عدة صناعات، وسرجيوس بن منصور — المعروف بسرجون الرومي — خدم ثلاثة خلفاء، وهم معاوية، ويزيد، وعبد الملك بن مروان، وكان سرجون من العقلاء، وابنه يوحنا الدمشقي من المقربين إلى الخلفاء، وكان لمروان ابن الحكم طبيب يهودي، يتكلم السريانية، ترجم كتاب هارون الطبيب، الذي كان من أطباء الإسكندرية على عهد هرقل، واشتهر كتابه في بلاد الشام. وكان عند الحجاج عامل عبد الملك بن مروان طبيبان، يفهم من اسميهما بأنهما روميان، وهما «تيادك» و«تيودن».
وابتدأت ترجمة العلوم في خلافة أبي جعفر المنصور — ثاني خلفاء بني العباس ومؤسس مدينة بغداد — وكان في أول المترجمين ابن المقفع، وكان مجوسيًّا فأسلم ودخل في خدمة عيسى بن علي عم السفاح أول خلفاء العباسيين، فكان يستخدمه في الكتابة والإنشاء، فترجم كتاب كليلة ودمنة من البهلوية إلى العربية، وكان هذا الكتاب قد ترجم على عهد أنوشروان من الهندية إلى البهلوية. وكانت أنظار المسلمين اتجهت نحو علوم الفرس والسريانيين، فترجموا كتب ماني الحكيم، وكتب ابن ديصان، ثم بعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم أن يرسل إليه كتب التعاليم، فبعث إليه بكتاب إقليدس، وبعض كتب الطبيعيات، والمجسطي لبطليموس، والمنطق لأرسطو، وغيرها من كتب اليونان. وفي سنة ١٥٦ للهجرة جاء إلى دار الخلافة هندي بكتاب «سندهند»، فأنعم عليه المنصور، وأمر بترجمته إلى العربية، فترجمه المنجم الفزاري، وابتدأ المسلمون يتعلمون منه الحساب الهندي، وعلم النجوم. وليس هنا محل ذكر الترجمة والمترجمين في الإسلام.
ولعل السابق إلى تحصيل الكيمياء والطب من قريش خالد بن يزيد بن معاوية — حكيم آل مروان، وعالم قريش وربيب مروان بن الحكم — فإنه رغمًا عن بعده عن العلوم والصناعات لأنه من الجيل العربي العريق في البداوة، أقبل على تحصيل الطب والكيمياء، وأخذ عن طبيب من أطباء الدولة الأموية يسمى مريانس، وعن غيره من علماء الروم والسريانيين، وألف في الكيمياء الرسائل المنقولة عنه، كالرسالة المترجمة إلى اللاتينية وعنوانها «رسالة في الكلمات الثلاث»، ونقل عنه المشتغلون بالكيمياء كثيرًا من مسائلها، كما كان من أعظم المشجعين على ترجمة كتب الفلاسفة، والنجوم والكيمياء والطب، من اللغات اليونانية والقبطية والسريانية. وهو أول من جمعت له الكتب وجعلها في خزانة في الإسلام.
وكان خالد إلى جانب علمه متكلمًا، متصرفًا بفنون الأدب، وفصيحًا لسنًا، بل وشاعرًا يقرض الشعر الجيد، ونوادره وحكاياته التي تروى عن فصاحته كثيرة ومتفرقة في بطون كتب الأدب، وقد روي له شعر جيد، قاله حين تزوج من رملة بنت الزبير، أخت مصعب وعبد الله:
وتلا خالد بن يزيد في العلوم العقلية والكيمياء الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين، بن الحسين بن علي بن أبي طالب — رضي الله عنهم أجمعين. وهذا محتمل لأن الإمام جعفرًا كان آية باهرة في العلم، وفريد عصره في المنقول والمعقول، وقد نبغ من تلامذته الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان ابن ثابت، بعد أن انتظم في حلقة تدريسه، ونهل من بحر معارفه، حتى قيل بأنه لو لم يكن إمام المذهب، وصاحب الاجتهاد في المنقول، لكان من أعظم الحكماء والفلاسفة في المعقول. وينسب للإمام جعفر الجفر، الذي كان مكتوبًا عنده في جلد ثور، ورواه عنه هارون بن سعيد العجلي، رأس الزيدية. فلا يستبعد أن تكون للإمام جعفر معرفة بالكيمياء أيضًا، وبغيرها من العلوم، لا سيما وكان جليس أبي جعفر المنصور، وهو أول من أوفد الرسل إلى قيصر الروم لاستخراج علوم اليونانيين، وانتساخها بالخط العربي. ولم يأخذ الإمام جعفر هذا العلم عن خالد بن يزيد مشافهة لسبق وفاته في سنة ٨٥، ولكنه قرأ كتبه وربما أخذ عن خالد آخر من أهل المدارك.
جابر بن حيان
هو أبو موسى جابر بن حيان الصوفي، إمام المدونين في الكيمياء التي نسبت إليه، فقيل لها علم جابر، وكان كأبي حنيفة من تلامذة الإمام جعفر الصادق. اختلف النسابون في نسبه، فذهب بعضهم إلى أنه حراني من بيت سنان بن ثابت بن قرة، الذي قال فيه الشاعر:
وإليهم انتسب البتاني أيضًا، وكلهم أفاضل، اشتهروا بالعلم والفلسفة. وذهب ابن النديم صاحب الفهرست إلى أن جابر بن حيان من طوس، إحدى مدن خراسان، وأنه من نسل البرامكة، الذين هم من مجوس الفرس، وقال آخرون بأن جابرًا عربي الأصل، من قبيلة الأزد من اليمن، عاش أبوه في الكوفة في أواخر عصر بني أمية، وكان صيدليًّا، وبقي يمارس مهنته حتى أوائل القرن الثامن للميلاد، حينما بدأ العباسيون يطالبون بني أمية بالخلافة، فشايعهم حيان، وأرسلوه إلى طوس لينشر مبادئهم، وهناك ولد جابر. وكيفما كان فجابر ولد مسلمًا، واستوطن الكوفة، وكانت حاضرة العلم والعرفان في صدر الإسلام. واشتغل جابر بالعلم في أواسط القرن الثاني للهجرة، وأخذ عن أكابر العلماء، وتصفح كتب القوم، سيما ما يختص منها بالكيمياء والسيمياء والطلسمات والسحر مثل الفلاحة النبطية ومصاحف الكواكب السبعة، وغيرهما، من كتب اليونان والسريان والهنود والفرس واليهود، وتبحر في جميع أنواع العلوم والمعارف التي كانت موجودة على عهده في الأمم المختلفة، وجمعها بقوة عقله وشدة ذكائه، وغاص على الصناعة، واستخرج زبدتها، وألف في الكيمياء والسيمياء والسحر التآليف التي لم يسبق إليها، وبحث في النجوم والنباتات وسائر العلوم الطبيعية، حتى بلغ عدد مؤلفاته على ما روي خمسمائة رسالة. وقال ابن خلدون: له في الكيمياء سبعون رسالة، وضعها أثناء البحث فيها، وسماها بالرسائل السبعينية. وأثنى ابن سينا والرازي وغيرهما من أهل العلم على جابر، وعدوه إمامًا في الطبيعيات، مع مخالفة ابن سينا له في الرأي بانقلاب المعادن. وجميعهم مدح تآليف جابر، وعدَّد الكثير منها صاحب الفهرست، ولم يذكر منها الكاتب جلبي صاحب كشف الظنون إلا «الخالص» و«كتاب الخواص». وروى الهلال الأغر بأن في المكتبة الخديوية في القاهرة كتابًا اسمه «كشف الأسرار وهتك الأستار»، وآخر اسمه «إخراج ما في القوة إلى الفعل» و«كتاب الصنعة الإلهية والحكمة الفلسفية»، وكلها خطية. ويوجد شيء من كتب جابر في مكتبات الأستانة. وفي مكتبات أوروبا كثير من الكتب العربية المنسوبة لجابر.
وكتب جابر شبيهة بالألغاز كسائر الكتب في هذا العلم، وزعموا أنه لا يفتح مغلقها إلا من أحاط علمًا بجميع ما فيها، لتوقف فهم الرسائل بعضها على بعض، كمسائل الهندسة التي لا يفهم أعلاها إلا بعد معرفة المقدمات والمسائل الابتدائية. غير أن هذه الألغاز مقصودة في كتب جابر لحجب فهمها عن العموم، وقد اهتم الكيميائي برتلو بما في باريس من كتب جابر، وأشار بترجمتها فترجمت، ووجد أنها تشتمل على مباحث العناصر الأربعة، وهي النار والهواء والماء والأرض، وعلى الكيفيات الأربع، وهي الرطوبة واليبوسة والبرودة والحرارة، كما تشتمل على قاعدتهم في أن بقاء الأجسام على حالتها الطبيعية يتوقف على موازنة هذه الطبائع. ووجد لجابر رأي، زعم برتلو أنه أخذه عن حكماء اليونان، وهذا الرأي هو أن للمعادن نفسًا وجسدًا وصفات ظاهرية وصفات باطنية. فإذا عولج الرصاص ودبر، وزيد في بعض هذه الخواص، ونقص من البعض الآخر، انقلب الرصاص ذهبًا. فهو يشرح كيفية هذه المعالجة وهذا التدبير، ويبين تركيب الحجر المكرم الحيواني، والحجر المكرم المعدني. وتشتمل هذه الترجمة أيضًا على خلاصة منطق أرسطو، وعلى شيء من علم ما وراء الطبيعة، وفيها كلام على الجسم والنفس، والعرض والقوى التي أبلغ عددها إلى سبعة عشر قوة، وقال بأن كل شيء في الوجود يتركب منها. وتشمل أيضًا على خلاصة في علم الطب والتشريح، وعلى كلام في المخ والرأس والأعصاب والقوة المخيلة والحافظة والمفكرة، وأكثر جابر في هذه الرسائل المترجمة من التوصية بتعلم علم النجوم، وزعم أن هذا العلم لا بد منه في هذه الصناعة، وبحث أيضًا في علم أسرار الحروف، ورتب جداول في قيم أعدادها وبيان خواصها. قال برتلو: وهذا مذهب قديم، كان عند الحكماء والمنجمين في مصر.
وطار لجابر ذكر في العالم، واشتهر في أوروبا أكثر من اشتهاره في العالم الإسلامي، وأقبل على كتبه في القرون الوسطى جميع علماء الإفرنج، وترجموا كثيرًا منها إلى اللاتينية، وتغالوا في مدحه والثناء عليه، وعدوه من العقول النادرة التي سمح الدهر بها مرة. وقال عنه غاردان، أحد علماء الإفرنج في القرن السادس عشر للميلاد: إنه واحد من العقول الاثني عشر التي ظهرت في الدنيا، وقال غيره من علمائهم في كلامه عن حجر الفلاسفة: ما هذا الحجر إلا مرآة ترى فيها أقسام العقل الثلاثة، فمن ملكها أصبح عاقلًا مثل أرسطو، وابن سينا، وجابر. ومن كتبه المترجمة إلى اللاتينية: «مبادئ علم الكيمياء» طبع في بال سنة ١٥٧٢م. و«وصية جابر» و«كيمياء جابر» و«مختصر الإكسير الكامل» و«نهاية الإتقان» و«رسالة الأفدان» وغيرها.
أبو بكر الرازي
ثم اقتفى العلماء أثر جابر في هذا العلم، ونحوا منحاه، وألفوا فيه رسائل عديدة، وكتبًا كثيرة متنوعة، واشتهر من هؤلاء المؤلفين في المشرق أبو بكر محمد بن زكريا الرازي (٢٤٠–٣٢٠ﻫ) ولد في الري، وكانت في جوار طهران، وارتحل في طلب العلم إلى العراق، والشام، ومصر، والأندلس، فارتوى من بحوره، واشتهر بالطب، حتى سُمِّيَ جالينوس عصره، وحتى قيل: إن الطب كان معدومًا فأحياه جالينوس، وكان متفرقًا فجمعه الرازي، وكانت ناقصًا فكمله ابن سينا. وعُيِّن الرازي مديرًا للبيمارستان في بغداد، فكان من أشهر أساتذة مدرستها، وتقلد غيرها من الوظائف، وصار طبيبًا للمنصور بن نوح الساماني، صاحب ما وراء النهر وخراسان.
وكان الرازي يجلس في مجلسه ودونه التلاميذ، ودونهم تلاميذ آخرون، فكان يجيء الرجل فيصف ما يجد لأول من يلقاه، فإن كان عندهم علم وإلا تعداهم إلى غيرهم، فإن أصابوا وإلا تكلم الرازي. وكان كبير الرأس جليل الطلعة، يتهيب الناس مجلسه. ويروون عن ذكائه وإصابته نوادر كثيرة لا محل لها هنا.
وألف الرازي كتبًا كثيرة، كبيرة الحجم كثيرة الفوائد، منها ما هو في ثلاثين مجلدًا، ومنها ما هو في عشرة أو خمسة عشر مجلدًا، وخلَّف أكثر من مائتي مؤلَّف، لا يزال باقيًا منها إلى الآن بضعة وعشرون مؤلفًا، يطول بنا وصفها، وإنما نذكر أشهرها، وهو كتاب الحاوي في علم التداوي، وهو مترجم إلى اللاتينية، ومطبوع في البندقية، ومنها كتاب المنصوري، وكان يدرس في باريس. وله في الكيمياء خاصة اثنا عشر كتابًا، منها كتاب الرد على الكندي في إدخال صناعة الكيمياء في الممتنع، كتاب الإثبات، كتاب الحجر الأصفر، كتاب في محنة الذهب والفضة والميزان الطبيعي، وغيرها. وتُرجم الكثير من تآليفه إلى اللاتينية. وبعد أن ذكر في كتابه الحاوي الفوائد التي استفادها علم الطب من صناعة الكيمياء قال: وأما سر هذه الصناعة في تحول المعادن، فهو من الممكن لا من المستحيل، ولا يكشف الغطاء عن هذا السر إلا بكثرة التجارب والامتحان، وما أسعد الإنسان إذا تمكن من رفع طرف هذا الحجاب الذي احتجبت به الطبيعة عنا.
ولم يزل اسم الرازي يذكر في كتب الكيمياء الحديثة، وطريقته مستعملة في استحضار زيت الزاج، ويسميه الإفرنج حامض الكبريتيك. وقد قدر علماء أوروبا الرازي حق قدره؛ فقد اتفق أن جامعة باريس الطبية، أرادت في القرن الرابع عشر للميلاد أن تقوم ببعض ترميمات، وأعوزها المال، فلم تجد من يسلفها المال، إلا بعد أن استودعته حاوي الرازي مرتين، ولم يقبل المسترهن بشيء ثمين سوى هذا المؤلف.
على أن مؤلفات الرازي ألحقت بصاحبها الأذى، فقد ذكروا في سبب وفاته أنه ألف كتابًا في الكيمياء، وحمله إلى المنصور الساماني، فلما وصل إلى خراسان قدم الكتاب إلى المنصور، فأعجبه وشكره، ودفع إليه ألف دينار. ولكنه قال له: أريد أن تخرج هذا الذي ذكرت في الكتاب إلى حيز الفعل. والظاهر أن الرازي لم يكن يعتقد صحة الكيمياء، وإمكان تحويل المعادن الخسيسة إلى الذهب والفضة، وإنما كان يؤلف بها الكتب على ما يصفها أصحابها التماسًا للمال، فلما طلب المنصور منه هذا الطلب، قال له: إن ذلك يحتاج إلى المؤن والعدد والعقاقير والدقة في العمل، مما يستغرق نفقات طائلة. فقال المنصور: كل ما احتجت إليه من الآلات أو العقاقير أو غيرها فإني أحضره لك، حتى تخرج ما ذكرته في كتابك هذا إلى العمل. فلما رأى إصرار المنصور أذعن، ولكنه عجز عن العمل، فقال له المنصور: ما اعتقدت أن حكيمًا يرضى بتخليد الكذب في كتب ينسبها إلى الحكمة، يشغل بها قلوب الناس، ويتعبهم فيما لا يعود عليهم بمنفعة. ثم قال له: لقد كافأتك على قصدك وتعبك بما صار إليك من الألف دينار، ولا بد من معاقبتك على تخليد الكذب. ثم أمر أن يضرب بالكتاب على رأسه حتى يتقطع، ثم جهزه وسيره إلى بغداد. فكان ذلك الضرب سببًا في نزول الماء في عينيه، وجاءه رجل يداويهما، فقال له الرازي: كم طبقة للعين؟ قال لا أعلم. فقال لا يقدح عيني من لا يعلم ذلك، ثم قال: قد نظرت الدنيا حتى مللت فلا حاجة بي إلى عينين.
الفارابي
ممن عاصر الرازي وكتب في الكيمياء واشتغل بها الفارابي، المتوفى سنة ٣٣٩ﻫ. وهو أبو النصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان. ولد في فاراب، وهي في ما وراء النهر، ولا يعرف تاريخ ولادته، وتروى حكايات كثيرة عن نشأته، ولكن أكثرها مشكوك فيه. روى ابن أبي أصيبعة — في عيون الأنباء — أن الفارابي كان ناطورًا في بستان في دمشق، وكان دائم الاشتغال بالفلسفة، وكان فقيرًا، ويستضيء في الليل بالقنديل الذي للحارس، ثم إنه عظم شأنه.
وأقبل الفارابي على العلم، فتعلم كثيرًا من اللغات المتداولة في عصره، كالعربية والفارسية والتركية واليونانية والسريانية، وطاف بلاد العجم والعراق والشام ومصر، فأخذ العلم في بغداد عن أبي بشر متى بن يونس، وفي حران عن يوحنا بن حيلان، حتى صار أعلم أهل زمانه، ووفد على سيف الدولة بن حمدان أمير حلب، فأغدق عليه وبالغ في إكرامه، وأراد أن يغمره بعطاياه، فامتنع، واكتفى بقبول أربعة دراهم تخصص له في كل يوم، ولم يقبل سواها. وأقام عنده إلى أن وافته المنية في سياحة من حلب إلى دمشق، سنة ٣٣٩ هجرية، عن سن يتجاوز الثمانين، ودفن خارج الباب الصغير. ولما توفي تزيا سيف الدولة بزي صوفي، ورثاه على قبره، ويؤيد هذه الرواية ما نقله ابن أبي أصيبعة، من أن سيف الدولة صلى عليه صلاة الجنازة في خمسة عشر رجلًا من خاصته.
وكان الفارابي محبًّا للعزلة يصرف أوقاته منفردًا تحت ظلال الأشجار، وعلى مجاري المياه، ويشتغل بالمطالعة والتحرير والتأليف، وكان من عاداته أن يحرر مؤلفاته على أوراق متفرقة، ولذا وجد نقصان وتشويش في كتبه، وأكثر استفادة ابن سينا كانت من كتب الفارابي. ونقلت عنه في الكيمياء أقوال كثيرة، ومن مؤلفاته مقالة في صناعة الكيمياء والرد على مبطليها. قال ابن خلدون في مقدمته: وأكثر من يعنى بالكيمياء ويقول بصحتها الفقراء من الحكماء، فإن ابن سينا — القائل باستحالتها — كان من علية الوزراء، ومن أهل الغنى والثروة، والفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر، الذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش، وهذه تهمة ظاهرة في أنظار النفوس المولعة بطرقها، وانتحالها؛ لأن بعض الوزراء الأغنياء — أمثال الطغرائي — قالوا بصحة الكيمياء، وإمكان وجودها.
وكان الفارابي ذكي النفس، متجنبًا عن الدنيا، كما رأينا من اكتفائه بأربعة دراهم في كل يوم، يسير سيرة الحكماء، واشتهر بعلو كعبه في الفلسفة والمنطق. واشتغل بكتب أرسطو. قال: قرأت السماع لأرسطو أربعين مرة وأرى أني محتاج إلى معاودته. وأما في المنطق فقد جاء في طبقات الأمم أن الفارابي بلغ جميع الفلاسفة في صنعة المنطق، وأربى عليهم في التحقيق بها، فشرح غامضها، وكشف سرها، وقرب تناولها، وجمع ما يحتاج إليه منها في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة، منبهة على ما أغفله الكندي وغيره، من صناعة التحليل، وإنحاء التعاليم وأوضح القول فيها عن مواد المنطق الخمس، وأفاد وجوه الانتفاع بها، وعرف طرق استعمالها، وكيف تعرف صورة القياس في كل مادة، فجاءت كتبه في ذلك الغاية الكافة والنهاية الفاضلة.
وللفارابي كتب كثيرة، أشهرها مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة، وقد طبعت في ليدن سنة ١٨٩٥، وكتاب إحصاء العلوم، وقد ترجم إلى اللاتينية، وله رسالة في المنطق والتوفيق بين رأيي الحكيمين أرسطو وأفلاطون، وكتب أخرى في الرياضيات والكيمياء والموسيقى، متفرقة في مكتبات أوروبا والأستانة.
مسلمة
افتتح المسلمون إسبانيا منذ أواخر القرن الأول للهجرة، وأسسوا فيها دولتهم، واتخذوا قرطبة دارًا لخلافتهم، وزينوها بالجوامع والمدارس والقصور، حتى قيل في وصفها:
فكانت بضاعة العلم فيها رائجة، ومدارسها عالية جامعة، وفيها ندوة علمية، يتقاطر إليها العلماء من جميع الأمصار، ومكتبة عظيمة استوعبت ستمائة ألف مجلد. ثم انتشر العلم في قرطبة إلى بقية مدن الأندلس، مثل إشبيلية، وطليطلة، ومرسية، وكان في كل مدينة من هذه المدن مدرسة للطب، وكثير من أفاضل العلماء ومشاهير الحكماء، وامتاز علماؤها بالتدقيق في المباحث الفلسفية، واستنباط كثير من المسائل العلمية، فرقصت الأندلس على عهدهم بأكمام الحضارة، وازدهرت فيها العلوم والمعارف، وراجت سوق الصناعات، وكان للكيمياء حظ وافر من عناية علماء الأندلس، ونبغ في هذه الصناعة مسلمة بن أحمد المجريطي، ويكنى بأبي القاسم، وينسب لمجريط، التي يقال لها اليوم مدريد، عاصمة إسبانيا. وقيل: بل ولد في قرطبة في أوائل القرن الرابع للهجرة، وتوفي سنة ٣٩٨ﻫ. واشتهر في كافة العلوم الطبيعية والرياضية، حتى صار إمام أهل الأندلس في التعاليم، وهي العلوم الناظرة في المقادير، وهي أربعة: الحساب والهندسة والهيئة والموسيقى. وأصبح «إمام الرياضيين في الأندلس في وقته، وأعلم من كان قبله بعلم الأفلاك، وكانت له عناية بأرصاد الكواكب، وشغف بفهم كتاب بطليموس المعروف بالمجسطي».
ولخص مسلمة كتب من تقدمه، وجمع طرفيها، وكتب في الكيمياء كتابًا سماه «رتبة الحكيم»، وجعله قرينًا لكتابه الآخر في السحر، الذي سماه «غاية الحكيم»، وزعم أن هاتين الصناعتين هما نتيجتان للحكمة، وثمرتان للعلوم، ومن لم يقف عليهما فهو فاقد ثمرة العلم والحكمة أجمع. ولا أدري إن كان لهذين الكتابين اليوم وجود في إحدى مكتبات الشرق أو الغرب، وهل أحد من علماء الإفرنج عني بترجمتهما ودرسهما أم لا؟ ولمسلمة كتاب في الحساب سماه كتاب المعاملات، وآخر في الهيئة سماه اختصار تعديل الكواكب من زيج البتاني. واشتغل كثيرًا برصد الكواكب، وبيَّن مواقع الكواكب الثابتة، وأصلح شيئًا من زيج من تقدمه، فقد عنى بزيج الخوارزمي، وقال صاعد الأندلسي في طبقات الأمم: «وزاد فيه جداول حسنة، على أنه اتبعه إلى خطته فيه، ولم ينبه على مواضع الغلط منه، وقد نبهت على ذلك في كتابي المؤلف في إصلاح حركات الكواكب، والتعريف بخطأ الراصدين.
ولمسلمة تلاميذ كثيرون، اشتهروا بالعلم والفضل، وأنشأ بعضهم مدارس في قرطبة وفي غيرها من مدن الأندلس، منهم الكرماني، وابن الصفار، وابن خلدون. ومن تلامذته الذين اشتهروا بعلوم الطبيعة على العموم وبعلم الكيمياء على الخصوص أبو بكر بن بشرون، وأبو السمح الغرناطي، وكلاهما من علماء الأندلس في القرن الرابع والخامس للهجرة. وللأول رسالة في صناعة الكيمياء، حررها لرفيقه الثاني، وافتتحها بمقدمة في معرفة تكوين المعادن، وتخليق الأحجار والجواهر، وطباع البقاع والأماكن. وملخص الرسالة مدرج في مقدمة ابن خلدون. قال ابن بشرون في الكلام على ما يسميه الكيميائيون بالبيضة: ولقد سألت مسلمة عن ذلك يومًا وليس عنده غيري فقلت له: أيها الحكيم الفاضل، أخبرني لأي شيء سمت الحكماء مركب الحيوان بيضة، اختيارًا منهم لذلك أم لمعنى دعاهم إليه؟ فقال: بل لمعنى غامض. فقلت: أيها الحكيم، وما ظهر لهم من ذلك من المنفعة والاستدلال على الصناعة، حتى شبهوها وسموها بيضة؟ فقال: لشبهها وقرابتها من المركب، ففكر فيه، فإنه سيظهر لك معناه. فبقيت بين يديه مفكرًا لا أقدر على الوصول إلى معناه، فلما رأى ما بي من الفكر، وأن نفسي قد مضت فيه، أخذ بعضدي وهزني هزة خفيفة، وقال لي: يا أبا بكر، ذلك للنسبة التي بينهما في كمية الألوان عند امتزاج الطبائع وتأليفها، فلما قال ذلك، انجلت عني الظلمة، وأضاء لي نور قلبي. وقوي عقلي على فهمه، فنهضت شاكرًا الله عليه إلى منزلي، وأقمت على ذلك شكلًا هندسيًّا يبرهن به على صحة ما قاله مسلمة.» فيظهر لنا من ذلك شدة تحرزهم من إفشاء هذا العلم وعدولهم عن البيان إلى طريق الإلغاز والإيماء، ولمسلمة رسالة في الأصطرلاب ترجمت إلى اللاتينية، كما ترجمت أيضًا شروحه على كتاب بطليموس.
وما زال المسلمون في المشرق والمغرب يؤلفون في الكيمياء حتى طما بحرها، وتكلم فيها من ليس من أهلها، وادعاها كثير من أصحاب الغش، وهم ليسوا على شيء من العلم ولا من الفلسفة، وإنما هم من المتشبهين بالعلماء. وأشهر حكماء المشرق المتأخرين الذين ألفوا في الكيمياء الطغرائي، وهو أبو إسماعيل مؤيد الدين ابن علي الأصبهاني، أكبر فلاسفة القرن السادس وشعرائه، وقصيدته المشهورة بلامية العجم هي من محاسن الشعر العربي، وشرحها كثير من العلماء، وطبعتها الجوائب، هي وديوانه. وكان الطغرائي وزيرًا للسلطان مسعود بن محمد السلجوقي في الموصل، واشتهر لقبه بالأستاذ. ولما انتصر السلطان محمود على أخيه مسعود السلجوقي سعى وزيره بالطغرائي، واتهمه بالكفر والإلحاد، فقتل سنة ٥١٣ هجرية. وله في الكيمياء دواوين ومناظرات مع أهلها، وغيرهم من الحكماء. وبعض آرائه وأقواله مذكور في مقدمة ابن خلدون.
وممن ألف في الكيمياء أيضًا الإمام فخر الدين الرازي، (٥٤٤–٦٠٦ﻫ) صاحب التفسير الكبير المسمى مفاتيح الغيب. وهو أبو عبد الله محمد بن عمر التيمي البكري، قرشي النسب، وكان أبوه عالمًا خطيبًا، فاشتهر هو بابن الخطيب، وتلقى العلم عن كثير من المشايخ، وارتحل كثيرًا في طلب العلم، وتزوج من بنت طبيب من أشهر أطباء زمانه. وكتبه في العلوم النقلية شهيرة، وله في الكيمياء الكتاب الموسوم بالسر المكتوم، وكتاب في الرمل، ورسالة الجوهر الفرد، وكتاب الأشربة، ومسائل في الطب، وغيرها في الهندسة وبقية العلوم العقلية. وقد ينسبون بعض التآليف في الكيمياء للغزالي صاحب إحياء علوم الدين، ولغيره من أكابر العلماء ومشاهير الحكماء، مثل البوني وابن العربي، وجميع المشتغلين بأسرار الحروف وغيرها من العلوم السرية والأسرار الخفية، ولكن ذلك مشكوك فيه.
الكندي
علماء الكيمياء في الإسلام على مذهبين: أحدهما يقول بإمكان كون الذهب والفضة بالصناعة، ويعتقد بوجود الإكسير الذي يقلب عين المعادن والأحجار إلى المعدنين الشريفين. والثاني يقول ببطلان ذلك. وكلاهما يشتغل بتركيب الأجسام وتحليلها وتحضير الأدوية من الجواهر والعقاقير الطبية، وتركيب الأشربة والمعجون وغير ذلك مما هو مستعمل في الطب. إذ أول ما يلزم لصنعة الطب الاشتغال بالكيمياء. وكذا يشتغلون بتهيئة أنواع العطر والصبغ، وتعيين خواص المعادن والأحجار، وغير ذلك من تطبيق علم الكيمياء القديم والحديث.
وأشهر الكيميائيين القائلين بعدم استحالة المعادن الكندي، وهو أبو يوسف يعقوب بن إسحق بن الصباح بن أشعث الصحابي رضي الله عنه، ابن قيس بن معدي كرب أمير قبيلة كندة من قبائل العرب. ولد في واسط، في أواخر القرن الثاني للهجرة، وقرأ في البصرة وبغداد، ومهر رغمًا عن بداوته في كافة العلوم، حتى لقب بالفيلسوف، وهو أول الفلاسفة. وأبو الحكماء في الإسلام، وكانت له معرفة باليونانية والسريانية، فقربه المأمون إليه، وأغدق عليه، وكان له نفوذ لدى المعتصم وابنه أحمد. وتآليفه أكثر من أن تذكر. ومنها يفهم أنه طرق جميع أبواب العلم والفلسفة، وكتب في الكيمياء خاصة رسالة في التنبيه على خدع الكيميائيين، ورسالة في كيمياء العطر، رسالة في العطر وأنواعه، رسالة إلى أحمد بن المعتصم بالله فيما يطرح على الحديد والسيوف حتى لا تنثلم ولا تكل، رسالة في نعت الحجارة والجواهر ومعادنها وجيدها ورديئها وأثمانها، رسالة في قلع الآثار من الثياب وغيرها.
فيرى من هذه التآليف أن الكندي اشتغل بأهم فروع الكيمياء، كالكيمياء المعدنية والكيمياء العضوية والكيمياء الصناعية وكيمياء البيت. ولعل رسالته في قلع الآثار عن الثياب تشتمل على قليل أو كثير من المواد المستعملة لهذه الغاية في يومنا هذا.
ابن سينا
ومن الكيميائيين القائلين بعدم استحالة المعادن، والذاهبين إلى بطلان علم جابر من المسلمين الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبد الله، المعروف بابن سينا، بقراط عالم الإسلام، وأرسطوطاليسه، وأشهر أطباء العرب، ومن أعظم فلاسفتهم.
كان أبوه من أهل بلخ، فأتى بخارى على عهد نوح بن منصور الساماني، ودخل في الخدمة، وذهب واليًا لقرية خرميتان إحدى عواصم بخارى، وتزوج بفتاة من تلك القرية فولدت له صاحب الترجمة. وبعد ميلاده ببضع سنين عاد به أبوه إلى بخارى، وعني بتربيته. ولم يبلغ ابن سينا العاشرة من عمره حتى كان قد استظهر القرآن، وألم بجزء صالح من العلوم العقلية والنقلية، ثم بعد ذلك انكب على كتب الحكمة والفلسفة، فبرع فيها، وطيب نوح ابن منصور الساماني، فشفاه الله على يده. فقربه إليه وأدخله مكتبته، وكان فيها من نفائس كتب العلم شيء كثير، فطالعها، وطاف البلاد مع والده، واجتمع بالعلماء الأفاضل، واتصل بالأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير، ثم رحل إلى داغستان، فأصابه فيها مرض شديد، فأتى جرجان، وحرر كتابه الأوسط المسمى بالأوسط الجرجاني، ثم ذهب إلى الري وقزوين وهمذان، وصار وزيرًا لشمس الدولة مرتين، وذهب بعد ذلك إلى أصفهان ومن ثم إلى همذان فاشتد عليه مرض القولنج، فمات فيها في رمضان سنة ٤٢٨ هجرية، وهو في الثامنة والخمسين من عمره. وقد دون تلميذه الجرجاني ترجمته، ونقلت هذه الترجمة إلى اللغة اللاتينية، وافتتحت بها عدة من مؤلفات الشيخ الرئيس التي نشرت في أوروبا.
وكتب ابن سينا في الطب والحكمة أشهر من أن تذكر، ومنها كتاب الشفاء والنجدة، والإشارات، والقانون، وقد شرحها وعلق عليها أكثر أطباء الإسلام، وحكمائهم، وترجمت إلى اللغات الأوروبية، وطبعت مرارًا. وظل كتابه القانون يشرح في بعض جامعات أوروبا إلى القرن الثامن عشر للميلاد. ولابن سينا في بطلان الكيمياء والرد على أصحابها رسالة حررها للشيخ أبي الحسن سهل، وقال فيها ببطلان صنعة الذهب والفضة، وبعدم إمكان استحالة المعادن بعضها لبعض. وهذه مسألة واحدة من مسائل الكيمياء، وفصل قصير من فصولها الطوال، وأبوابها الكثيرة، وله في بقية مسائل الكيمياء أقوال كثيرة مذكورة في الكتب المتقدم ذكرها، وفي غيرها من الكتب.
الجلدكي وأبو القاسم
إن المصادر التي بين أيدينا تهمل الترجمة لهذين العالمين إهمالًا تامًّا، مع أن لكل منهما أثره العظيم في علم الكيمياء، وذلك بما تركه لنا من مؤلفات كثيرة النفع، كبيرة الفائدة. وهما وإن سارا على منهاج من سبقهما من كبار الكيميائيين، وتأثرا في أبحاثهما وتجاربهما طرق المتقدمين، إلا أن لكل منهما مميزات خاصة، تجعلنا نُعنَى به وندرس مؤلفاته درسًا دقيقًا. فأبو القاسم العراقي الذي ربما عاش في القاهرة في القرن الثالث عشر للميلاد، ترك لنا عدة مؤلفات تمتاز بأنها تعرفنا اتجاه الفكر الإسلامي في علم الكيمياء، بعد انتقاله إلى أوروبا بمدة طويلة. وإذا عرفنا أن الفكر الأوروبي في ذلك العصر، لم يكن قد ابتدأ يؤثر في علماء المسلمين ومفكريهم، اتضحت لنا أهمية أبي القاسم بالمقارنة بينه وبين معاصره روجر باكون، وبذلك يتسنى لنا الاطلاع على ما أخذه الإفرنج عن المسلمين، ومعرفة ما أضافوه إلى هذا العلم في ذلك العصر.
ففي القرن الثالث عشر للميلاد، كانت قوة الإسلام العظيمة — تلك القوة التي اكتسح بها العالم، ودوخ الممالك، وثل العروش — قد ابتدأت تضعف وتكل، غير أن تلك الروح الجديدة — روح العلم والبحث والتحري والاستنباط — التي نشرها علماء الإسلام في أوروبا، أدت إلى نهضة علمية، وصلت إلى أوج عظمتها بعد مدة وجيزة. وبالرغم من تقدم علم الكيمياء العملي في ذلك العصر، بقيت آراء أبي القاسم ونظرياته على ما كان عليه سلفه من العلماء. الذين تقدموه بثلاثة قرون أو أربعة، ولم يكن أبو القاسم يدعم نظرياته بأقوال جابر فقط، بل كان يستشهد بآراء من تقدم جابرًا من علماء مدرسة الإسكندرية. وبالرغم من قيامه بكثير من التجارب في هذا العلم، وظهور آراء في مؤلفاته تدل على تفكير منطقي سليم، فإنه ظل يتأثر جابر بن حيان، ويتكئ على من شايعه من علماء المسلمين.
ويختلف المؤرخون في اسم الجلدكي، كما يجهلون تاريخ حياته، فمن قائل إن اسمه علي، ومن قائل إنه عز الدين أيدمر بن علي. وهو مؤلف كثير من الكتب التي تبحث في العلوم السرية، وخصوصًا علم الكيمياء. وله من الكتب المطبوعة كتاب المصباح في أسرار علم المفتاح، وكتاب آخر اسمه نتائج الفكر في أحوال الحجر. وكل ما يعرف عنه أنه ألف بعض كتبه في دمشق، والبعض الآخر في القاهرة.
ويظهر أثر الجلدكي جليًّا واضحًا — في تفكيره العميق، وعلمه الواسع — فيما نسميه بآداب الكيمياء الإسلامية. فإنه على ما يظهر لنا من مؤلفاته، قضى معظم حياته في جمع كتب الكيمياء، التي استطاع الحصول عليها وتفسيرها والتعليق عليها. وقد أجيرت جهوده العظيمة في عصرنا هذا، إذ أصبحت مؤلفاته معينًا لا ينضب، ومصدرًا مهمًّا لأبحاثنا في علم الكيمياء الإسلامية، ولدراساتنا عن الكيميائيين الإسلاميين. ونلاحظ أيضًا من خلال مؤلفاته، أن الجلدكي كان يجري بنفسه تجارب عديدة في هذا الموضوع، مع أن القسم الأكبر من مؤلفاته يحتوي على تعليقات وشروح لأعمال مَنْ تَقَدَّمَه من علماء الكيمياء. وعدَّد له صاحب كشف الظنون عشرات المؤلفات، التي شرح فيها آراء غيره من العلماء، أهمها شرح شذور الذهب في الإكسير، لأبي الحسن علي بن موسى الحكيم الأندلسي، وسماه غاية الشذور. قال: قد استوعب فيه جميع الحكمة المطلوبة والنعمة المرغوبة. وله كتاب البرهان في أسرار علم الميزان، وهو كتاب كبير في أربعة أجزاء كبار، ذكر فيه قواعد كثيرة من الطبيعي والإلهي، على مقدمات أصول القوم، وشرح فيه كتاب بليناس في الأجساد السبعة، وكتاب جابر في الأجساد، وحل فيه غالب كتب الموازين لجابر.
أما كتابه نهاية المطلب، فهو تعليقاته على كتاب لأبي القاسم العراقي. ومع أن شروحه لا تزيد عبارات الكتاب إيضاحًا، إلا أن عادته الحسنة في كثرة الاستشهاد بأقوال خالد، وجابر، والرازي، وغيرهم من رجال الكيمياء، ونقله عباراتهم الطويلة، مما يزيد في قيمة مؤلفاته، ويجعلها تزخر بالمعلومات القيمة عن الكيمياء الإسلامية. وهنا علينا أن نتساءل عما إذا كانت تلك العبارات القيمة، والحقائق التي يذكرها في مؤلفاته صادقة، وعما إذا كان الجلدكي من الذين يوثق بكلامهم، ويعتمد على رواياتهم، أو أننا يجب أن ننظر إليه بعين الشك، ونقرأ مؤلفاته بكل حذر. ومن دواعي سرورنا أن بعض الكتب التي ينقل عنها الجلدكي بين أيدينا، ولذلك فإنا نستطيع معرفة مقدار صحة ما نقله عنها بالرجوع إليها. وبإجراء أمثال هذه المقارنات، نجد أنه حريص على صحة النقل، وإننا نستطيع أن نأمن جانبه، ونركن إليه، ونعتمد عليه فيما يستشهد به من أقوال العلماء.
وللجلدكي رأي طريف في التأليف، لا بأس من إيراده. فقد جرت عادة العلماء والحكماء، أن لا يبسطوا جميع معلوماتهم في مؤلف واحد، بل يفرقوها في كتبهم المختلفة، قال: «إن من عادة كل حكيم. أن يفرق العلم كله في كتبه كلها ويجعل له من بعض كتبه خواص، يشير إليها بالتقدمة على بقية الكتب، لما اختصوا به زيادة العلم.» أما هو فإنه يعتقد أن العالم يجب أن لا يُخفِي من علمه شيئًا، إلا إذا كان يبحث في موضوع الكيمياء. قال: «ومن شروط العلم أن لا يكتم ما علمه الله تعالى، من مصالح يعود نفعها على الخاص والعام، إلا هذه الموهبة فإن الشرط فيها أن لا يظهر بصريح اللفظ أبدًا.»