انتقال الكيمياء من العرب إلى الإفرنج
أقدم عمران حققه التاريخ على وجه المعروف من اليابسة، هو العمران الذي كان على ضفاف الدجلة والفرات والنيل، وعلى سواحل سوريا من الأمم السامية، من الأشوريين، والكلدانيين، والفنيقيين، والمصريين، وكذا في الأمم الآرية الذين كانوا في بلاد فارس، وعلى ضفاف السند وضفاف سيحون. ثم اتصل العمران باليونان، ورسخت لهم قدم في العلم والحكمة، وطار لفلاسفتهم صيت في العالم، وأخذ عنهم الرومان الذين كانوا في روما، والروم الذين كانوا من القسطنطينية. وكانت الإسكندرية حاضرة علومهم، وكانت لهم مراكز أخرى للتعليم في بلاد الروم؛ أي في بر الأناضول، وفي الشام، والجزيرة، والعراق، مثل برغمة ومكتبتها، والرها ومدرستها، ونصيبين، وقنسرين، والحيرة، وجنديسابور من بلاد فارس.
ثم استنار العرب بنور الإسلام، واستولوا على مشارق الأرض ومغاربها، وأحاط المسلمون بعلوم الأمم السامية، والأمم الآرية، وهذبوا ما أخذوه منها، وزادوا فيه، وصححوه، وانتشر العلم في جميع البلاد الإسلامية، من سمرقند، فبغداد، فدمشق، فالقاهرة، فتونس، فمراكش، حتى قرطبة. ولما استقر العلم في الأندلس، وألقى فيها عصاه، وجد سماء صافية وأرضًا طيبة، فنبت فيها وأزهر، ونما عوده وأثمر.
وبينما كانت ديار الإسلام في المشرق والمغرب، رافلة في حلل الرفاه والسعادة، راتعة في بحبوحة الأمن والحضارة، كان الجهل لم يزل ضاربًا أطنابه في ديار الإفرنج، وأهلها محرومون من النعم، التي يقتضيها استبحار العمران، وتوسع نطاق العلوم. وكان التعصب الديني فيهم شديدًا، كما كانت كلمتهم متفرقة، بسبب نظام الحكم الذي كان متبعًا في القرون الوسطى. وفي الجملة فقد كان الإفرنج لا يدركون شيئًا من الوسط الذي كانوا فيه، ولا يفقهون الحق ولا الشرع. وأول شعاع من نور العلم أضاء أفق بلادهم، وإنما انعكس عليهم من شمس علوم الإسلام، التي كانت تتوهج في إسبانيا، وبيان ذلك أن المسلمين لما استحكمت حضارتهم في الأندلس، وزخر فيها بحر معارفهم، واستوطنوا جنوب فرنسا ومعظم سواحل إيطاليا، وجميع جزر البحر الرومي، كثرت المواصلات بينهم وبين مجاوريهم من الإفرنج، بسبب الحروب والغارات، وعظم الاختلاط بين الأمتين بسبب أخذ الأسرى، وإرسال السفراء، وكذلك بسبب التجارة ونقل السلع، فكان الإفرنج يشاهدون بأعينهم ما عليه المسلمون من الرقي والحضارة، فتشوقوا لاستطلاع أخبار المسلمين ورؤية ديارهم، ليعرفوا سر تقدمهم وسبب حضارتهم، ولكن كان دون ذلك خوض البحر الرومي، أو قطع عقاب البيرنيه، وهي أطول من عقاب لبنان التي قال فيها المتنبي:
ومع ذلك فالحاجز الطبيعي كان بسيطًا بالنسبة للحاجز المعنوي، وهو الدين. فقد بلغ التعصب الديني بهم مبلغًا عظيمًا، حتى كان يحظر رجال الدين على أبناء أمتهم الاختلاط بالمسلمين، أو معاملتهم، فضلًا عن دراسة كتبهم والإقبال على علومهم، والارتحال إلى بلادهم، للأخذ من مشايخهم وفلاسفتهم. وداموا على تلك الحال إلى أواخر القرن الرابع للهجرة. ثم شرع أصحاب العقول النيرة، وذوو الأقدام من أبناء أوروبا، يتغلبون على أمثال تلك الموانع الطبيعية والمعنوية، التي حالت زمنًا طويلًا بينهم وبين اقتباس العلوم، وأخذوا يتكبدون نفقات السفر ومشاق الغربة، وفراق الأهل والوطن، ويتحملون عبث العابثين ولوم المتعصبين، ويهرعون إلى مدارس الإسلام في قرطبة، ومرسية، وغرناطة، وطليطلة، كما نهرع نحن اليوم إلى جامعات لندن، وباريس، ونيويورك، وبرلين. وتلقَّى الإفرنج بهذه الكيفية على مشايخ المسلمين وعلمائهم، أنواع العلوم العقلية والنقلية، وجميع المعارف الإنسانية. وكان في مقدمة هذا الجيش من العقلاء البابا سلفستر الثاني.
(١) البابا سلفستر الثاني
ولد جيرر سنة ٩٣٠ للميلاد في أورياق الواقعة في جنوب فرنسا، وهي مدينة صغيرة، على مسافة متوسطة بين بوردو ومرسيليا. وكثيرًا ما مرت بها جيوش المسلمين في أوائل القرن الثاني للهجرة، وتجاوزت ما وراء أورياق من البلاد التي تشمل على بواتيه من الغرب، وعلى ليون من الشرق، فكانت مدن كركسون وطولوز وبوردو في قبضة المسلمين، واستولوا أيضًا على ما في شمال ليون من المدن، مثل شالون التي على نهر السون، وأوتون وديجون، وهي على طريق سكة الحديد من باريس إلى مرسيليا. ولكن المسلمين لم يمكثوا طويلًا في شمال فرنسا، وإنما استوطنوا جنوبها نحو نصف قرن، وكانت مدينة نربون من أعظم المدن العامرة بالمسلمين، لقربها من ساحل البحر الرومي والحدود الإسبانية، وكذلك كانت مدينة كركسون، التي تبعد عنها ٥٣ كيلومترًا في الداخل من جهة الغرب. وكانت المواصلات جارية بين مسلمي هاتين المدينتين، وبين ما في جوارهما من المدن المتروكة للإفرنج، مثل أورياق التي نشأ بها صاحب الترجمة. وتعلم جيرر القراءة والكتابة في أحد الأديرة باللغة اللاتينية، إذ لم يكن في أوروبا مدارس غير الأديرة، كما كانت اللاتينية في ذلك العصر لغة العلم والدين، والسياسة لجميع الأقوام الأوروبية من فرنسيين وإنكليز وألمانيين.
وبعد أن أكمل جيرر تحصيل فنون الأدب باللاتينية، ومبادئ العلوم اللاهوتية، ارتحل في طلب العلم إلى الأندلس، وقطع عقاب البيرنيه، وجاور في إشبيلية ثلاث سنين، وأخذ عن علماء الإسلام علوم الرياضيات والبلاغة والتنجيم، وكذا علم السحر، على ما رواه مؤرخو ذلك العصر من الإفرنج. قال مالمسبوري المؤرخ الإنكليزي في القرن الثاني عشر للميلاد: «لما كان جيرر في إسبانيا يقرأ التنجيم والسحر وما شاكلهما من العلوم، التي كان يدرسها علماء العرب، تعلم منهم أيضًا منطق الطير — يعني المؤرخ تفسير ما تخرجه الطيور من أصوات التغريد والصفير وأمثالهما — وتعلم كذلك استخدام الشياطين، ولا أتكلم عن مهارته في علوم الحساب والموسيقى والهندسة، التي أدخلها لفرنسا …» فبعد تعلم هذه العلوم، لم يترك علم الكيمياء بدون الوقوف على موضوعه، حيث كان لهذا العلم رواج عظيم في ذلك العصر. ولما عاد جيرر إلى بلاد الإفرنج، دخل سلك الرهبنة، وأقبل على الدرس والتعليم، ونشر العلوم التي أخذها عن المسلمين، فاشتهر أمره وشاع ذكره.
وفي سنة ٩٩٧م أمر الإمبراطور بتعيين جيرر رئيسًا للأساقفة في مدينة رافن، وبعد سنتين انتخب للبابوية، فجلس على كرسي بطرس الرسول، وتلقب بالبابا سلفستر الثاني، وبقي صاحب الأمر والنهي والتحليل والتحريم في العالم المسيحي، إلى أن مات سنة ١٠٠٤م.
(٢) ترجمة الكتب من العربية إلى اللاتينية
بعد أن قطع البابا سلفستر عقاب البيرنيه، وفتح لقومه باب العلوم الإسلامية، دخلوه طائعين أو مكرهين، وارتحل لممالك الإسلام كثير من الأقسة والرهابين، اقتداءً بهذا البابا الحكيم، وأخذوا عن علماء المسلمين، كما أخذ عنهم، واستفاضوا من بحار معارفهم، وترجموا كتبهم إلى اللاتينية، وانفتح باب الترجمة في العالم المسيحي، كما كان على عهد المنصور والمأمون في الخلافة العباسية، وصار العقلاء يسعون في طلب العلم من جميع الجهات. فالعالم إديلار الإنكليزي ارتحل من بريطانيا العظمى إلى الأندلس ومصر، وأقام في ديار الإسلام من سنة ١١٠٠ إلى سنة ١١٢٠م. وأتقن علوم اللغة العربية، وترجم مبادئ إقليدس من العربية إلى اللاتينية، قبل أن يعرف اللاتينيون الأصل اليوناني. وزادت رغبتهم في ترجمة الكتب شيئًا فشيئًا، حتى اجتمع في طليطلة من المترجمين عدد ليس بقليل. وكانوا سنة ١١٣٠م يرجعون في أمرهم إلى كبيرهم الراهب ريمون. واستمروا يترجمون من اللغة العربية إلى اللاتينية مدة القرن الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر. ثم صارت تنقل علوم العرب من اللاتينية إلى بقية اللغات الأوروبية، وقد ذكر الدكتور ليكلرك في كتابه تاريخ طب العرب، أن الكتب العربية التي ترجمت إلى اللاتينية فقط، تزيد على ثلاثمائة كتاب. فترجموا مؤلفات جابر، والرازي، وابن سينا، وابن رشد، وأبي القاسم، وغيرهم من أكابر علماء الإسلام، وتعلموا منها فلسفة اليونان وعلوم الأقدمين.
قال جوستاف لوبون فيما ألفه عن المدنية العربية: «إن معرفتنا بعلوم السلف وحقائق القرون الأولى، كان في الأساس بهمة علماء الإسلام لا بهمة رهبان القرون الوسطى؛ لأن هؤلاء الرهبان لم يكن لهم في الأصل علم ببلاد اليونان، ولا باللغة اليونانية، وإنما ترجموا كتبهم عن العربية. فالواجب على عالم العلم والمدنية أن يشكر العرب على استخراجهم هذا الكنز المخفي وحفظه، لا أولئك الرهابين الذين لم يفعلوا إلا ترجمة الكتب من العربية إلى اللاتينية.» ويجب أن لا ننسى أن هذا عمل ليس بقليل، ويكفي أولئك الرهبان فخرًا وشرفًا أنهم أدركوا فوائد العلم، وجاهدوا في سبيل تحصيله ونشره في بلادهم، وبذلك أنقذوا أوطانهم من غياهب الجهل، ونشروا أنوار العلوم فيها. وبعد أن اطلع الإفرنج على فلسفة اليونان من كتب العرب، تحولت أنظارهم إلى كتب اليونان ولغتهم فدرسوها، وافتتنوا بفنون أدبها، وهاموا بأشعارها وخطبها، واستمروا في درسها إلى يومنا هذا، ولم يرجعوا لدرس الكتب العربية إلا في أواخر القرن الثامن عشر، حيث ظهر المستشرقون فطبعوا الكتب العربية القديمة، وشرحوها، وعلقوا عليها، وترجموا كثيرًا منها إلى جميع اللغات الأوروبية الحية، مثل الإنكليزية، والفرنسية، والألمانية، والروسية وغيرها. ومن علماء الإفرنج الذين أخذوا الكيمياء عن العرب في القرون الوسطى …
ألبير الكبير
ولد سنة ١١٩٣م، وكان أبوه من الأشراف، فأرسله إلى مدينة بادوفة — بجانب البندقية — لتحصيل العلم فيها. وشهرة بادوفة بالمعارف قديمة، ولم يزل فيها مكتبات جامعة لكثير من كتب الإسلام. وكان بنو الأغلب في إفريقية قد هاجموا جزر بحر الروم وسواحل إيطاليا، واستولوا على جزر مالطة وصقلية، وسردينية، واستولوا في إيطاليا على بلاد باري، ونابولي، وأوستيا، وبيزا، وجنوه. وأقاموا في جزيرة صقلية من سنة ٨٢٧م إلى سنة ١٠٧١م، حينما استردها منهم الملك روجر الأول، وهو والد روجر الثاني، صاحب الإدريسي. واستبحر عمرانهم في تلك الجزيرة، وزهت بهم مدنها، ثم أغاروا على ساحل دالماشية، وغزوا فيه ممتلكات البنادقة، وكان فتحهم لبرنديزي سنة ٨٣٦م ولباري سنة ٨٣٩م، وأقاموا في أرض نابولي من سنة ٨٨١ إلى سنة ٩١٦م. واقتربوا من أسوار روما، فصالحهم البابا على جزية قدرها ٢٥ ألف رطل فضة، كل رطل ثماني أواق، ولم يخرجوا من سردينية إلا سنة ١٠١٧م. هذا ما افتتحته دولة الإسلام المستقرة في إفريقية. وأما ما افتتحته دولة الإسلام المستقرة في جزيرة الأندلس غير بلاد إسبانيا، فهو جزائر مايورقة، ومينورقة، وكورسيكا، كما استولت على القسم الأعظم من فرنسا، واستقرت في القسم الجنوبي منها زمانًا طويلًا. ومن مدنها المشهورة أربونة، وطولوز، وكانوا يطلقون عليها اسم طلوشة، وبوردو وكانوا يسمونها برغشت.
ولم نطل البحث في تعداد هذه الفتوحات وبيان مواقع المدن، إلا لنبين كيفية انتقال العلم من المسلمين إلى من في جوارهم من المسيحيين. فكانت البلاد والمدن التي تقدم لنا ذكرها زاهرة بحضارة الإسلام، وكان علماء المسلمين يتجولون فيها، ويذهبون لما جاورها من الممالك المسيحية لأجل التعليم والتدريس، فذهب الشريف الإدريسي إلى روجر الثاني صاحب صقلية، وألف له كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، ونقش له رسم الأرض على لوح مستدير من الفضة. وفي القرن السابع للهجرة كان أولاد ابن رشد يعلمون الحيوان والنبات والطب عند خلف روجر المسمى فردريك داراجون، وكان قصر ملكه ملجأ الحكماء والفلاسفة.
فيفهم مما تقدم ما كانت عليه حالة العلم في تلك العصور، التي ذهب فيها ألبير الكبير إلى بادوفة، كما يعرف سبب اختياره تحصيل العلم في إيطاليا على ما سواها من الممالك الأوروبية، التي كانت غارقة في بحار الجهالة. فدرس ألبير الكبير في مدينة بادوفة كتب الإسلام المترجمة إلى اللاتينية، وتعلم اللغة العربية لتصحيح الترجمة ومقابلتها بالأصل. وانكب على مؤلفات ابن رشد وابن سينا، وقلد علماء الكلام، ونحا منحاهم، وطبق علم اللاهوت على فلسفة أرسطو. ومما تعلمه أيضًا علم الكيمياء والتنجيم والسحر، فإن درس هذه العلوم في ذلك العصر كان من متممات العلم، وموجبات الكمال. وبعد أن أكمل ألبير تحصيله جاء باريس سنة ١٢٤٥م. ودرَّس فيها ثلاث سنوات، وكان الطلبة والناس يتسابقون إلى استماع درسه، حتى ضاقت بجمهورهم المدرسة، فصار يجلس للمواعيد في ساحة البلد، ويلقي دروسه تحت السماء، واشتهر في جميع أوروبا، وصار أوحد علماء عصره في اللاهوت وفي بقية العلوم، ولما طبعت مؤلفاته سنة ١٦٥١م في مدينة ليون، بلغت واحدًا وعشرين مجلدًا. قال رينان: «علم ألبير كله مأخوذ من كتب ابن رشد وابن سينا، فهو لم يخرج عن ترجمته كتب العرب واستنساخها.» وعلى كل فألبير الكبير أول من رفع منار العلم في أوروبا، وفتح لعلماء القرون الوسطى أبواب البحث والجدل على الأسلوب الذي وضعه علماء الإسلام. وكان له اشتغال بعلوم ما وراء الطبيعة، وله باع طويل في الطبيعيات والكيمياء. ومن مؤلفاته في ذلك كتاب الأسرار العجيبة وكتاب الأسرار الصغير وكتاب الكيمياء.
روجر باكون
ومن الكيميائيين الأوروبيين في القرون الوسطى روجر باكون الإنكليزي. ولد سنة ١٢١٤م في إيلشستر وتوفي سنة ١٢٩٤م. قرأ العلم في أكسفورد، ثم أكمل تحصيله في باريس، وعاد منها إلى وطنه سنة ١٢٤٠م. ولبس صوف الرهبانية، ودخل في طريقة القديس فرانسوا، واستوطن أكسفورد وتعلم عدا اللغة اللاتينية اللغة العربية ليبحر في العلم، ويرجع فيه إلى الأصل. وقرأ شيئًا من العبرانية واليونانية. وبعد درس اللغات درس الرياضيات اقتداءً بالعرب الذين اعتبروها آلة لفهم العلوم. ثم أقبل بعد ذلك على الاشتغال بالكيمياء والطبيعيات، وإجراء التجارب العديدة فيهما، ونسبت إليه عدة اكتشافات وآراء، غير أن كثيرًا من المحققين مثل العالم سيديو صاحب تاريخ العرب المطبوع بالعربية، وجوستاف لوبون صاحب كتاب حضارة العرب، وغيرهما، يقولون: إن كثيرًا من الاكتشافات والآراء المنسوبة لعلماء الإفرنج، تبين وجودها بعد ذلك في كتب العرب، وأن الإفرنج أخذوها عنهم، ونسبوها لأنفسهم أو نسبت إليهم.
وقيل: إن روجر باكون أول من أدرك الخطأ في حسابات بطليموس، فأشار بإصلاح التقويم المعروف بتقويم يوليوس. وعلى كل فهو الذي مهد طريق العلوم الطبيعية أمام العلامتين الشهيرين، غاليليو، ونيوتن، وأوضح كثيرًا من المسائل المتعلقة بقوس قزح، وبانتشار النور والأشعة، وبما يراه الناظر من جسامة قرص الشمس والقمر، عند الطلوع والغروب في الأفق. ووصف تركيب العين وطبقاتها وأغشيتها وصفًا مدققًا، ونسب إليه عن طريق الخطأ اختراع النظارات المكبرة والمصغرة المسماة تلسكوب وميكرسكوب.
وأما في الكيمياء فنسب إليه عن طريق الخطأ أيضًا اختراع بارود المدافع، والسبب في ذلك ما قرءوه في كتبه من الكلام على البارود، وإيضاح تركيبه الكيميائي. ولكن تبين لهم بعد ذلك أن هذا الكلام مأخوذ من كتب العرب. قال المستشرق الفرنسي رينو، ووافقه على ذلك أكثر المؤرخين والكتاب: إن الصينيين لم يستعملوا في الصنائع النارية إلا ملح البارود، وهو الذي يرسب على جدران البيوت والمغارات، التي تكثر فيها الرطوبة. فالصينيون موجدون للبارود من هذه الجهة، وأما الذي أوجد دقيق البارود المستعمل في يومنا للقذف بالأجسام الثقيلة، فهم لا الصينيون ولا الإفرنج بل هم العرب. وقد وجد في كثير من كتبهم كلام على كيمياء البارود، وكيفية اصطناعه، وصورة استعماله في الحرب. وينقل عن ابن خلدون أن أمير مراكش أبا يوسف، استعمل في حصار صقلية آلة غير المنجنيق، مشابهة للمدافع وذلك سنة ٦٧٢ﻫ. مع أن المؤرخين متفقون على أن استعمال المدافع في أوروبا لأول مرة، كان سنة ١٣٤٦م في الحرب التي وقعت بين إنكلترا وفرنسا.
ولما كان روجر باكون قريب عهد بعلماء الإسلام، أدرك اصطلاحاتهم وفهم ألغازهم في علم الكيمياء، ولذا كان أقل وسوسة وأكثر تعقلًا ممن جاء بعده من الكيميائيين الأوروبيين، وكان قصده من التحري على الحجر الفلسفي التوصل لإصلاح بعض المعادن، بواسطة الحرارة والتدابير الكيميائية، وتقليد الطبيعة في تخليقها المعادن، وهذا مقصد علماء الإسلام من اشتغالهم بهذا العلم. واشتغل باكون بالفلسفة واللاهوت، واجتهد في حل المسائل التي كانت موضوع بحث القوم في ذلك العصر، مثل مبحث الشكل والمادة، وحاول حلها بصورة مخالفة لعلم ما وراء الطبيعة، وخارجة عن أصول أرسطو. ومع ذلك فهو راهب متصلب في دينه، ملازم لتلاوة الكتاب المقدس، وطريقته الفلسفية هي قراءة التوراة والإنجيل في النسخ الأصلية، وفهمها فهمًا حقيقيًّا، بقطع النظر عن التراجم والتفاسير. ومن قواعده أن: «العلم التجاربي لا يتناول الحقيقة مما فوقه من العلوم العالية، بل هو الحاكم المطلق وغيره من العلوم خدام له.»
ولما شرع باكون في إجراء التجارب الكيميائية، اتهمه الناس بالسحر والشعوذة وباستخدامه الجن، فأعانه البابا كليمان الرابع، ومكنه من مداومة أعماله وتجاربه، فازداد حسد أبناء طريقته له، ونقموا عليه، ولما مات كليمان الرابع سنة ١٢٦٨م سعوا به ورموه بكيدهم، فحكم عليه بالسجن المؤبد، ولم يخل سبيله إلا بعد موت البابا نيقولا الرابع سنة ١٢٩٢م. ولكنه لم يعش طويلًا بعد ذلك، ومات في أكسفورد عن عمر يتجاوز الثمانين.
ومؤلفات باكون كثيرة، وجميعها باللاتينية، فمنها مرآة الكيمياء، أعمال الطبيعة والفن وبطلان السحر، التدبير في تأجيل هرم الشيخوخة وفي المحافظة على حواسنا، وقد ألف هذا الكتاب وهو في السجن، وبعث به إلى البابا نيقولا الرابع ليريه فوائد مؤلفاته، وعدم وجود الكفر فيها. ثم هناك مرآة الحساب، رسالة في النظارات، مؤلف جليل باسم البابا كليمان، وهو أعظم مؤلفاته، وقد قلد في تسميته صاحب كتاب الطب المنصوري.
بصيل فالانتين
وهو راهب أيضًا، قيل إنه بروسياني، وقيل ألزاسي، وقيل لا بل اسم مفروض لا حقيقة لمسماه، وإنما جعل رمزًا عن قوة الماء الملكي؛ لأن معنى بصيل باليونانية الملك، ومعنى فالانتين باللاتينية القادر، فمعنى الاسم الملك القادر، وهو إشارة إلى الماء الملكي الذي يذيب الذهب، وهو ملك المعادن عند المتقدمين. فكيفما كانت الحال، قيل بأن صاحب هذا الاسم أول من استعمل معدن الأنتيموني في معالجة الإسهال، وألف في ذلك رسالة ذكر فيها خواص هذا المعدن في الإسهال، وتصفية الدم، كما ذكر في هذه الرسالة استحضارات كيميائية كثيرة، مثل روح الملح، ويسمى اليوم حامض كلوريدريك، استخلصه من ملح البحر، ومن زيت الزاج المعروف بحامض الكبريتيك. وذكر فيها أيضًا استحضار روح الخمر باستقطار الخمر، أو البيرة، وتصفية الحاصل من الاستقطار على ملح الطرطير المكلس، أي (كربونات البوتاس). كما ذكر أيضًا كيفية استخراج النحاس من أحجار الكبريت، بتحويله أولًا إلى زاج النحاس (كبريتات النحاس)، بتأثير الهواء الرطب عليه، ثم بتغطيس قطعة من الحديد في هذا المذاب. وذكر فيها أيضًا معلومات تامة عن تنفس الحيوانات. وله رسالة في الأملاح، تشتمل على كثير من العمليات الكيميائية، وله كتاب سماه «أسرار العالم وطب الإنسان»، كله ألغاز لا يفهم، وله كتاب آخر سماه «مفاتيح الفلسفة الاثني عشر».
فهؤلاء المتقدم ذكرهم هم مشاهير الكيميائيين الأوروبيين، الذين أخذوا الكيمياء عن المسلمين في القرون الوسطى، وترجموا كتب العرب إلى اللاتينية. ويوجد كثير غيرهم على شاكلتهم، وكلامهم فيها أجمع على نسق كلام علماء المسلمين، ولهم فيها أشعار ودواوين باللاتينية، والفرنسية، وغيرهما من اللغات الأوروبية، وأسماء كتبهم تدل على أنها مأخوذة ومترجمة عن العربية.
ليونار تورنايسر
وما برح المنتحلون للكيمياء من الإفرنج يرتحلون في طلبها إلى بلاد الشرق الإسلامية، ويجوبون أقطارها الشاسعة، حتى القرن السادس عشر للميلاد، وأشهر هؤلاء المرتحلين في طلبها ليونار تورنايسر، وترجمته من عجائب القصص وفاكهة الروايات. ولد في بال سنة ١٥٣٠م. واشتغل بالكيمياء، وتوصل إلى تمويه المعادن وتذهيبها، حتى كادت تخفى على بعض النقاد، فانخدع به كثير من الناس واشتروا منه الذهب المموه بسعر الذهب الخالص، فانتبهت له الحكومة، وأرادت إلقاء القبض عليه، ففر إلى فرنسا، وجال في مدنها ومدن إنكلترا، واشتهر أمره بالاحتيال، ومهر في تقليد الذهب. ثم عاد إلى ألمانيا سنة ١٥٥٥م، واتصل بدسائسه بالأرشيدوق فرديناد، فحظي عنده بالقبول والإكرام، وأمده بالمال وسيره على نفقته في البلاد، يتحرى فيها على كتب الكيمياء، ويتعلم صناعة الإكسير الذي فيه السعادة وطول الحياة، فطاف البلاد التي كانت محط رحال المسلمين، ومظنة وجود كتبهم، مثل إسبانيا، والبرتغال، وإيطاليا، واليونان، والمجر، وكذا أكسفورد وباريس، ثم ذهب لمصر، والشام، والعراق، وبلاد العرب، واصطحب المسلمين وعاشرهم، وتحرى فيهم أصحاب المظنة، فلم يقف على حقيقة الإكسير ولا ظفر بصناعته.
غير أنه استفاد فائدة عظمى، من أطباء مصر والشام المسلمين، وتعلم منهم كثيرًا من المسائل الطبية وتراكيب الأدوية، واطلع على ما كان لديهم من العقاقير والبلاكم والكحل، والمعجون والشراب، وغير ذلك. وبعد سياحة طويلة عاد لألمانيا، ونزل مدينة فرانكفورت، فوجد فيها أمير براندبورغ، وكانت امرأته مصابة بداء عضال حار فيه نطس الأطباء، فطببها ونجح في معالجتها، فعينه الأمير طبيبًا خاصًّا له، وأنشأت له الأميرة زوجته معملًا للكيمياء، فاشتغل فيه واصطنع أنواع البلاسم والمعجونات، وصار يبيعها بأغلى الأثمان للأمراء والمترفين من الرجال والنساء، ويسمي مصطنعاته بأسماء موهمة، مثل سراب الذهب، وصبغ الذهب، وإكسير الشمس، وغير ذلك، واستخدم في معمله هذا عددًا كبيرًا من العمال، وأسس فيه مطبعة ومسبكًا للحروف، فطبع مؤلفاته التي استخرجها من كتب الإسلام، ونشر بعضها في أكثر لغات أوروبا، فاشتهر شهرة عظيمة، حتى صار أحدوثة الملوك والأمراء والأعيان، في جميع العالم الأوروبي. ومما تعلمه في سياحاته التنجيم والسحر والشعوذة، وكان يوهم الناس بأنه استخدم الشياطين، فكان يريهم شيطانه في زجاجة، فحصل بذلك على ثروة عظيمة واعتبار زائد. ثم إن أحد علماء فرانكفورت أظهر حيله وشعوذته، ونشر فيه كتابًا، فغضب عليه الأمير الذي كان يحميه، فأدرك حينئذ الخطر المحدق به، وفر ليلًا من برلين سنة ١٥٨٥م. فدخلوا معمله واكتشفوا أسراره، ووجدوا أن الشيطان الذي كان يريه للناس في زجاجة، عبارة عن عقرب مغموس بالزيوت.
فيتضح مما تقدم أن نخبة العلماء من الإفرنج حتى المشعوذين منهم، اغترفوا الكيمياء من بحر علوم الإسلام، ثم تفرغوا لدرسها وإجراء التجارب فيها، وكانوا يسرُّونها لتلامذتهم، ويحرصون على كتمانها وإخفاء كتبها، والإلغاز فيها، على نسق ما تقدم من خبر مسلمة مع تلميذه ابن بشرون. ولم يزل الإفرنج يشتغلون في الكيمياء جيلًا بعد جيل، حتى عم انتحالها في القرن الخامس عشر للميلاد، وتداولها الكثير منهم. غير أنه لعدم رسوخ العلم وانتشار الحضارة فيهم إذ ذاك، أنزلوها من أوج الحقائق الفلسفية، الذي وضعها فيه علماء الإسلام إلى مستوى الأوهام السخيفة، وأدخلوها في جملة الأسرار الخفية. وقد علل السبب في ذلك أحد علمائهم في هذا العصر، وهو موسيو فيكيه الفرنسي، في كتابه المسمى الكيمياء والكيميائيون بقوله: إن أساس التوحيد وبساطة الاعتقاد في الإسلام، أبعدا عن عقول المنتحلين للكيمياء من المسلمين التورط في مهاوي الخزعبلات والأباطيل. فلما وصلت الكيمياء إلى أوروبا في القرون الوسطى، اتخذت شكلًا جديدًا، ودخلت فيها أفكار جديدة، فأوصلت بعض المشتغلين بها إلى الاعتقاد بالخرافات والترهات؛ وذلك لأنهم لم يفقهوا حقيقة المعاني التي ألغز بها جابر ومن تبعه من علماء المسلمين، فحملوها على ظاهرها، وغاصوا بها في بحار الأوهام، وطاروا في جو الخيالات، حتى اعتقدوا في الإكسير والحجر الفلسفي خواصَّ لم يقبلها العقل، مثل شفاء جميع الأمراض وإطالة العمر عن أجله الطبيعي، ودخول صاحب الحجر الفلسفي في عالم الملكوت، ورفع الحجاب له عما وراء الطبيعة، كما جعلوا في الحجر الفلسفي سعادة الإنسان في دنياه وآخرته.
قال نيقولا فلامل، وهو من أكابر الكيميائيين في القرون الوسطى، بأن الحجر الفلسفي طاهر مطهر لحامله من جميع الخطايا، وباعث على الصلاح والطاعة ومخافة الله. فالذي جرهم إلى هذا هو إلغاز جابر في مؤلفاته، كقوله في بعضها: «آتوني بالأبارص الستة أشفهم مما بهم.» فحملوا ذلك على ظاهره، وظنوا الإكسير يشفي الأبرص، وما دروا أن قصده آتوني المعادن الستة أحولها للمعدن السابع وهو الذهب. فهذه الخرافات لم تظهر إلا في القرن الثالث عشر وما بعده، حينما أوشكت رياح الجهل أن تتلاعب بنور العلم الإسلامي. وعلماء الكيمياء المعتد بهم في الإسلام، لم يقولوا إلا بخاصة واحدة للحجر المكرم أو الإكسير، وهي تحويله المعادن كتحويل الرصاص للفضة، والزئبق للذهب، ويشبهون فعل الإكسير في المعدن بفعل الخميرة في العجين، فهم يساوقون الطبيعة في عملها، كما يفعل اليوم المشتغلون بعلم التركيب الكيميائي الحديث، وهم بذلك أصحاب رأي علمي، واكتشاف فني، وما على القائل منهم بصحة الكيمياء والمدعي وجود الإكسير أو الحجر المكرم، إلا إثبات مدعاه، والإتيان بالحجج والبراهين، لتثبت دعواه ثبوتًا علميًّا. غير أن هذا المدعي ليس من غرضه إثبات ذلك، بل هو يتخذ هذا الاكتشاف سرًّا له، ويخفيه، كما يخفي في زماننا أصحاب المصانع والمعامل الأسرار الصناعية، فلا نرى صاحب معمل في أوروبا إلا ويكتم سر صناعته، فلا يفشي منها إلا ما لا أهمية له، خوفًا من تقليد الغير له، وكثيرًا ما يطلبون من الحكومة امتيازًا في انحصار العمل بمكتشف السر الصناعي.
ثم إن العلم لم يبرهن لهذا التاريخ على أن انقلاب المعادن بعضها لبعض أمر يستحيل، غير أن أصحاب الكيمياء لم يعثروا إلى الآن في معاملهم وتجاربهم على ما يؤيد هذا الانقلاب، كما أنه لم يثبت لديهم علميًّا استحالة هذا الانقلاب، فهم لا يقولون بصحته، كما يقول جابر وأشياعه، ولا ببطلانه كما يقول الكندي وابن سينا ومن تبعهما. وقد زعم برتلو الكيميائي الفرنسي، أن الاكتشافات التي اكتشفت في الكيمياء الحديثة، لم تهدم أساس الكيمياء القديمة التي هي علم جابر. ومن القائلين بصحتها أيضًا من كبار العلماء، الفيلسوف الهولندي سبينوزا (١٦٣٢–١٦٦٧م)، المنتمي لمذهب وحدة الوجود، وكذا الفيلسوف ليبنج (١٦٤٦–١٧١٦م)، فإن كليهما من المعتقدين بإمكان استحالة المعادن، وبوجود الحجر الكريم.