مذهب المتقدمين في الكيمياء
لا نطمع في تلخيص مذهب المتقدمين في الكيمياء، ولا في تحقيق آرائهم وبيان الجرح والتعديل فيها؛ لأن ذلك عائد لأربابه المتخصصين لدرس هذا العلم والمتبحرين فيه. وإنما نذكر منهم من مذهبهم الشيء اليسير، لنبين أن حكماء الإسلام كانوا على جانب من العلم والتحقيق، لا كما يخالج أفئدة الكثيرين من أنهم مجردون عن كل رأي سديد، وإن كلامهم في الكيمياء خرافات وأباطيل، وقواعدهم فيها وهمية فاسدة، أظهر بطلانها العلم الحديث. فمن أمعن النظر في كتبهم، وجدهم قد تبحروا في درس عوالم الطبيعة وحقائق المكونات، وأظهروا من الآراء الفلسفية ما لم يجسر علماء العصر من الإفرنج على أن يهزءوا بها، بل لم يزل كثير منهم يدرسها درسًا دقيقًا، ليستكشف خفاياها، ويظهر غوامضها؛ لأن النظر في هذه الكتب يحتاج إلى دقة عظيمة، وتيقظ شديد، لجنوح أصحابها إلى الإلغاز والإبهام فيها على القارئين.
ولم يصل علماء الإفرنج بعد إلى حل رموزها، ولا إلى استخراج جميع كنوزها، لعدم رسوخهم في اللغة العربية، وعدم وقوفهم على اصطلاحات القوم فيها. ولم يزل المستشرقون يوسعون دائرة معارفهم في كل سنة عما قبلها. على أن التفريق في هذه الكتب بين الغث والسمين ليس بالأمر الهين؛ لأن الفريق الأعظم من المدعين معرفة هذا العلم، والمؤلفين فيه، ليسوا على شيء من الحكمة، وكلامهم في الكيمياء سفسطة لا يعبأ به، ولا يعول عليه. وأما المتكلمون فيها من الحكماء الذين شهدت لهم مؤلفاتهم بالفضل وكثرة التحقيق، فلهم نظر فلسفي، هو الذي أدى إلى ما نشاهده من الترقي العصري في هذا العلم. ولولا قواعد المتقدمين الأساسية لتأخر ظهور الكيمياء الحديثة أحقابًا طويلة.
عالم العناصر وعالم الأفلاك
وينقسم الحسي عندهم إلى عالم العناصر المشاهدة، وإلى عالم الأفلاك. فالعناصر أربعة: الأرض، والماء، والهواء، والنار. والأفلاك تسعة: الفلك الأول وهو أصغرها وأقربها إلى الأرض للقمر، وهو فوق كرة الهواء. والفلك الثاني فوق الأول لعطارد. والثالث للزهرة. والرابع للشمس. والخامس للمريخ. والسادس للمشترى. والسابع لزحل. وحيث لم يروا بآلات رصدهم الضعيفة إلا مجرد الكواكب المذكورة، قالوا بأن في كل فلك — أي في كل مدار من هذه المدارات أو الأفلاك السبعة — كوكبًا واحدًا فقط. ثم فوق الفلك السابع — وهو فلك زحل — الفلك الثامن، وهو للكواكب الثابتة. ثم فوقه الفلك التاسع للبروج الاثني عشر. ونصوا على أن هيئة هذه الأفلاك هيئة الأكر بعضها في جوف بعض، وأشكالها الهندسية مستديرة، وهي أكبر الأشكال وأوسعها. وعرَّفوا الفلك بأنه نهاية لما تصير إليه الطبائع — أي العناصر — فهو بهذا التعريف ما يعبر عنه علماء الإفرنج بالأثير المنتشر في الفضاء الذي فيه مدارات الكواكب.
ثم إنهم يقولون إن عالم العناصر يتدرج صاعدًا من الأرض إلى الماء، ثم إلى الهواء، ثم إلى النار متصلًا بعضها ببعض. وكل واحد منها مستعد بالقوة إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعدًا وهابطًا، وقد يستحيل بعض الأوقات بالفعل والصاعد منها ألطف مما قبله إلى أن ينتهي إلى عالم الأفلاك، وهو ألطف من الكل على طبقات اتصل بعضها ببعض، على هيئة، لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط، وبها يهتدي بعضهم إلى معرفة مقاديرها وأوضاعها. والحامل لهم على هذا القول، هو من جهة مشاهدتهم الوجود الحسي على هذا الترتيب. فالكرة الأرضية يغمر الماء ثلاثة أرباعها تقريبًا، ويعلوها الهواء وفوقه النار أو النور المنبعث من الشمس. ومن جهة أخرى، مشاهدتهم بعض الأجسام تنقلب من حالة الجسم الجامد، إلى الجسم السائل، إلى الجسم الغازي، إلى الجسم المحترق. وهذه الاستحالة موجودة في جميع الأجسام بالقوة، ولكنها لم تتحقق بالفعل إلا في بعضها، بسبب تزايد الحرارة أو تناقصها. فالماء الذي هو جسم سائل في حاله المعروفة، إذا نزلت درجة حرارته بميزان سنتغراد إلى الصفر، استحال إلى جسم جامد؛ أي صار جليدًا. وإذا ارتفعت درجة حرارته وتجاوزت المائة درجة، غلى الماء وتبخر وصار جسمًا غازيًّا. فإذا تحلل هذا الغاز كما في بعض المستنقعات، ظهر فيه جزء محترق يشتعل، كما يشتعل زيت الزيتون وزيت البترول في المصباح. وكلما عثروا على واسطة لتزييد الحرارة أو تنقيصها، كثر عدد الأجسام التي تجرى فيها هذه الاستحالة بالفعل. وقد توصلوا إلى إذابة أشد المعادن قساوة، كالحديد، والبلاتين، برفع درجة الحرارة إلى درجة عظيمة، كما توصلوا إلى إذابة الأجسام الغازية، مثل الأكسجين، والأزوت بخفض درجة الحرارة تحت الصفر إلى ما دون ١١٨ درجة للأكسجين، وإلى ما دون ١٤٦ درجة للأزوت. مع استعمالهم الضغط والتضييق علاوة على التبريد.
ومن لطائف الفكاهات التي حدثت أول ما توصل العلماء إلى تحويل الهواء إلى جسم سائل، وحفظه في إناء بارد خوفًا من تبخره إذا عرض لحرارة الجو، أن أحد الظرفاء ذهب يتغدى مع رفيق له في أحد مطاعم باريس المشهورة، فجلس على مائدة الطعام، وطلب من الخادم أن يأتيه بصحن (بفتيك) وأوصاه بالاعتناء بها، فأحضر له الخادم أحسن قطعة مشوية، وكان ذاك الظريف مستحضرًا معه على قليل من الهواء السائل، فنقط منه نقطة على قطعة اللحم، فيبست من البرودة، فنادى الخادم ووبخه، ثم رفع قطعة اللحم بالشوكة والسكين، وتركها تسقط في الصحن، فنزلت فيه كأنها قطعة من حجر وكسرته. فعجب الحاضرون لذلك أشد العجب، ولم يعرفوا السبب. ثم إن ذاك الظريف وضع من ذلك السائل في شراب رفيقه فبرد، وشرب منه فاستطابه، ولم يمض عليه بضع دقائق إلا واحمر وجهه، وتفجرت عيناه، وانتفخ بطنه، وسقط من كرسيه مغشيًّا عليه؛ لأن ذلك السائل تبخر في جوفه، وصار جسمًا غازيًّا — أي هواءً — واتسع حجمه، فضغط على جدران معدة الرجل وسبب له تلك الانفعالات.
ثم إن المتقدمين من أهل الكيمياء، لم يقصدوا بالعناصر الأربعة عين الأرض، أو الماء، أو الهواء أو النار، كما قد يتبادر للذهن. كلا، بل هم يقولون إن كل جسم متكون لا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسب متفاوتة؛ أي لا بد أن يكون أحد العناصر غالبًا على الكل؛ إذ لو كانت غير متفاوتة بل كانت متكافئة، لما تم امتزاجها على زعمهم. ومن هذا يظهر معنى قولهم: «خذ الحجر الكريم وأودعه القرعة والإنبيق، وفصل طبائعه الأربع التي هي النار والهواء والماء والأرض.» فكل جسم عندهم مركب من هذه العناصر الأربعة. فإن كان عنصر الأرض غالبًا في هذا الجسم، كان على هيئة الأرض، أي جامدًا صلبًا. وإن كان عنصر الماء غالبًا كان الجسم على هيئة الماء؛ أي مائعًا سائلًا. وإن كان عنصر الهواء غالبًا كان الجسم على هيئة الهواء، أي غازًا. وإن كان عنصر النار غالبًا كان الجسم على هيئة النار أي محترقًا، إما بالاحتراق الشديد كاشتعال الفحم وضوء السراج، أو بالاحتراق البطيء كصدإ الحديد، وذلك أن الاحتراق في عرف الناس هو أن يتلاشى الجسم المحترق في الهواء شيئًا فشيئًا، وهو ينشر نورًا وحرارة، كاشتعال الفحم، والحطب، وزيت الزيتون، وزيت البترول. وأما في اصطلاح أهل الكيمياء الحديثة، فاحتراق الجسم هو اتحاده بمولد الحموضة المسمى أكسجين. فإن نشر نورًا وحرارة سموه احتراقًا شديدًا، وإن لم ينشر نورًا ولا حرارة سموه احتراقًا بطيئًا، كاتحاد الرصاص، والقصدير والزئبق بمولد الحموضة. هذا قول لافوازيه وأتباعه؛ وأما جابر وأتباعه فإنهم يحذرون في صناعتهم من النيران المحرقة، فليت شعري هل مرادهم من ذلك الاحتراق الشديد؟
فعالم العناصر الأربعة وعالم الأفلاك وهو العنصر الخامس عند المتقدمين، هما بمثابة قول أهل الكيمياء الحديثة بالأجسام البسيطة. فإن علماء الكيمياء الحديثة من الإفرنج يقسمون الأجسام إلى قسمين: أحدهما بسيط وهو الذي لا يمكن أن يستخرج بالتحليل الكيميائي، إلا نوعًا واحدًا من المادة مهما يكن المحلل، سواء أكان من الأرواح الكيميائية، أم الحرارة الشديدة، أم الكهربائية، فيبقى الجسم بعد معالجته بجميع ما ذكر بسيطًا، وذلك كالذهب، والفضة، والبلاتين، والقصدير، والحديد، والنحاس، والأكسجين، والهيدروجين، وغير ذلك. ويبلغ عدد الأجسام البسيطة في يومنا اثنين وتسعين، وكلها عناصر بسيطة لا سبيل بالصناعة من تحليلها إلى عناصر أخرى، وقلب عنصر منها لآخر.
فإذا اتحد نوعان فأكثر من هذه العناصر البسيطة اتحادًا كيميائيًّا سمى الجسم حينئذ مركبًا، لتركبه من عنصرين فأكثر. وهذه الأجسام المركبة هي جميع ما في الكون من الأجسام التي ليست ببسيطة. ويقسمون الأجسام البسيطة إلى قسمين: معدن وشبه معدن. ويقسمون الأجسام المركبة إلى ثلاثة أقسام: حامض، وأساس، وملح. ثم لهم في تقسيم كل منها وتصنيفها طرق مخصوصة لا حاجة بنا للتعرض إليها.
فقول المتقدمين بتألف الأجسام من العناصر الأربعة — التي هي الأرض والماء والهواء والنار — له نظير عند علماء الكيمياء الحديثة؛ وذلك أن علماء العصر من الإفرنج يذهبون إلى أن الأجسام التي فيها الحياة، ويسمونها ذوات الأعضاء، وهي عالم النبات، وعالم الحيوان، وكذا الأجسام المستخرجة منها، كالنشاء المستخرج من الحبوب، والسكر المستخرج من نبات قصب السكر، والألبومين المستخرج من بيض الدجاج، وكثير غيرها، ويسمونها الأجسام العضوية — جميع هذه الأجسام مؤلفة تقريبًا من أربعة عناصر بسيطة: (١) عنصر الفحم. (٢) عنصر الهيدروجين وهو مولد الماء. (٣) عنصر الأكسجين وهو مولد الحموضة والباعث على الاحتراق. (٤) عنصر الأزوت وهي العنصر الأساسي في الهواء. ويسمون هذه العناصر الأربعة العناصر العضوية لتكوينها الأجسام العضوية. نعم يوجد في بعض هذه الأجسام غير العناصر الأربعة المذكورة شيء قليل من عنصر الكبريت، أو الفسفور، أو من عنصر الكلور، أو البرومين، أو اليود، ومن عناصر المعادن، كالحديد، وغيره، ولكن بدرجة طفيفة لا أهمية لها. والعناصر الأربعة المتقدم ذكرها المسماة بالعناصر العضوية، هي الأساسية، والمكونة لجميع الأجسام العضوية، وكل جسم منها يتركب من الفحم، ومن عنصر أو عنصرين آخرين، وهي الأكسجين والهيدروجين والأزوت. ويعتبر أيضًا علماء العصر من الإفرنج أن الأجسام المعدنية — أي عالم المعادن وهو ما اشتملت عليه الكتلة اليابسة من كرة الأرض — مؤلفة من العناصر البسيطة، التي اكتشفت الآن، وعددها اثنان وتسعون عنصرًا منها الذهب، والفضة، والبلاتين، والنحاس … إلخ. فبناءً على قولهم هذا تكون العناصر العضوية الأربعة المتقدم ذكرها، هي المكونة للهواء المحيط بكرة الأرض، وللماء الغامر ثلاثة أرباع وجه الأرض، ولجميع الأجسام الحية التي على الأرض من حيوان ونبات، ولما استخرج من هذه الأجسام الحية من فحم وسكر ونشاء وأمثالها. فالعناصر الأربعة التي يقول بها جابر، أشبه بالعناصر الأربعة التي يقول بها لافوازيه. فالأرض نظير الفحم، والماء نظير الهيدروجين، وهو مولد الماء، والهواء نظير الأزوت، وهو العنصر الأساسي فيه، والنار نظير الأكسجين وهو مولد الحموضة والباعث على الاحتراق.
ولما كان المتقدمون من حكماء الإسلام، يذهبون إلى أن الجسم المتكون لا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة، فهذا الجسم المتكون يبتدئ عندهم من المعادن، ثم النبات، ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج. فآخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات، وآخر أفق النبات متصل بأول أفق الحيوان. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد لأن يصير أول أفق الذي بعده. وبالاختصار فعالم التكوين عند المتقدمين من حكماء الإسلام، هو بمثابة الأجسام المركبة عند المتأخرين من علماء الكيمياء الحديثة.
مذهبا ابن سينا والفارابي في الكيمياء
فالذي ذهب إليه أبو علي ابن سينا، وتابعه عليه حكماء المشرق — وهو في الأصل مذهب الكندي كما علمت، وإنما اشتهر بين حكماء الإسلام بمذهب ابن سينا لوقوف الشهرة عنده — أن المعادن السبعة المذكورة أنواع متباينة، كل نوع منها قائم بنفسه، متحقق بحقيقته، ولا سبيل بالصناعة إلى قلب نوع منها إلى نوع آخر. وبنوا على هذا الرأي إنكار هذه الصناعة واستحالة وجودها. فهذا المذهب شبيه بقول علماء هذا العصر من الإفرنج، الذين يقسمون الأجسام إلى قسمين: بسيط، ومركب، ويقولون إن المعادن المذكورة هي من الأجسام البسيطة، كل واحد منها نوع قائم بذاته، متحقق بحقيقته، ولم يتوصلوا بالصناعة إلى قلب واحد منها للآخر.
والذي ذهب إليه أبو النصر الفارابي، وتابعه عليه حكماء الأندلس — وهو في الأصل مذهب جابر وخالد بن يزيد، وإنما اشتهر بين حكماء الإسلام بمذهب الفارابي، لوقوف الشهرة عنده — أن المعادن السبعة المذكورة كلها نوع واحد، وأن اختلافها إنما هو بالكيفيات، من الرطوبة، واليبوسة، واللين، والصلابة، وبالألوان من الصفرة، والبياض، والسواد، وبالجلاء المعدني والرونق، وهي كلها أصناف لذلك النوع الواحد. وبنوا على اتفاقها بالنوع إمكان انقلاب بعضها إلى بعض، لإمكان تبدل الأعراض حينئذ وعلاجها بالصنعة. فمن هذا الوجه كانت صناعة الكيمياء عندهم ممكنة سهلة المأخذ. ومن القائلين بهذا المذهب أبو الحسن الأنصاري الأندلسي المتوفى سنة ٥٩٣ﻫ في فاس، ونظم رسالة في الكيمياء، سماها شذور الذهب، وكان حكيمًا شاعرًا، وله قصيدة طائية مطلعها:
وكلهم في هذا المذهب عالة على أبي موسى جابر بن حيان الصوفي، وهو الإمام فيه على التحقيق، ولكنه لم يشتهر في قومه وبين أبناء لغته كما اشتهر بين الإفرنج الذين ترجموا شيئًا من كتبه إلى اللاتينية، وقدروه حق قدره.
فهذا المذهب يشبه رأي بعض فلاسفة الكيمياء في عصرنا، وصاحب هذا الرأي يذهب إلى أن مواد الكون كله إنما تتألف في الأصل من عنصر واحد. ثم باختلاف حركة أجزائه الفردة، واختلاف ترتيب أوضاعها، تكونت العناصر البسيطة المتقدم ذكرها، وبتركيب هذه العناصر بعضها مع بعض تكونت الأجسام، التي تتألف منها الأرض وسائر الأجرام.
قول الجابريين بوجود الزئبقية والكبريتية في المعادن
الشمس (يعني الذهب) تتألف من الزئبق اللطيف، ومن قليل من الكبريت الصافي الواضح، الذي له احمرار فاتح. وحيث لم يكن لهذا الكبريت لون واحد، بل كان بعضه أغمق من بعض، نشأ عن ذلك أن بعض الذهب أشد اصفرارًا من بعضه الآخر … فإذا كان الكبريت غير صافٍ، غليظًا، أحمر، أغبر، وكان أكثره ثابتًا وأقله غير ثابت، وكان ممزوجًا بزئبق غليظ غير صافٍ، بكيفية يكون معها الواحد لا أقل ولا أكثر من الآخر، تشكل من هذا المزيج الزهرة (يعني النحاس) … وإذا كان للكبريت ثبات قليل وبياض غير ناصع، وكان الزئبق غير صافٍ، وبعضه ثابت وبعضه طيار، ولم يكن له إلا بياض غير كامل، تشكل من هذا المزيج المشترى (يعني القصدير) …
فهذه الجملة منقولة بالحرف عن أصل كتاب جابر المترجم إلى اللاتينية باسم مختصر الإكسير الكامل. ولا يخفى أنهم يكثرون من استعمال الألغاز والرموز، ولذا كنى جابر في هذه العبارة عن الذهب بالشمس، وعن النحاس بكوكب الزهرة، وعن القصدير بالمشترى، وهلم جرًّا. وكثيرًا ما يلقبون الذهب ألقاب الملوك لاعتبارهم إياه ملك المعادن. فأول من وضع هذه القاعدة النظرية في تركيب المعادن هو جابر بن حيان الصوفي.
قول الجابريين بتخليق المعادن في أحشاءالأرض وانقلابها من طور لآخر
ثم إن لهم قاعدة أخرى أساسية في هذا العلم، وهي قولهم بأن المعادن تتخلق في أحشاء الأرض، كما يتخلق الجنين في أرحام الحيوانات؛ وذلك أنهم يعتبرون أن كل متكون من المولدات العنصرية، لا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة؛ أي لا بد أن يكون أحد العناصر، التي هي الأرض، والماء، والهواء، والنار غالبًا على الكل كما مر ذكره. ولا بد في كل ممتزج من المولدات العنصرية من حرارة غريزية، هي الفاعلة لكونه الحافظة لصورته. والحرارة تكون فوق الصفر وتحته. فحرارة الثلج تحت الصفر، والجسم الإنساني حرارته الطبيعية سبعة وثلاثون درجة ونصف درجة بميزان سنتغراد. فإن زادت الحرارة عن ذلك كان الجسم الإنساني محمومًا، وإن تجاوزت الحرارة ٤٣ درجة أسرع إليه الهلاك. ثم إن كل متكون من المولدات العنصرية لا بد من اختلاف أطواره وانتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور، حتى ينتهي إلى غايته. مثال ذلك الإنسان في طور النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم التصوير، ثم الجنين، ثم الرضيع … إلى نهايته، ونسب العناصر الأربعة في كل طور تختلف في مقاديرها وكيفياتها، وإلا لكان الطور الأول هو بعينه الطور الآخر. وكذا الحرارة الغريزية في كل طور مخالفة للحرارة الغريزية في الطور الآخر. فجميع حكماء الإسلام من الموافقين لجابر والمخالفين له، يقولون بهذه المقدمات التي ذكرناها، غير أن الجابريين منهم يزعمون أن المعادن تتشكل في بطن الأرض، كما يتخلق الجنين في أحشاء الحيوانات، ولا يرون فرقًا بين تولد المعادن وتولد الحيوان والنبات. فالذهب على زعمهم ينتقل في أحشاء الأرض من طور إلى طور، وينقلب من حال إلى حال، ولا يتم تكوينه في معدنه إلا بعد ألف وثمانين من السنين من دورة الشمس الكبرى.
قال العلامة بويراف (١٦٦٨–١٧٣٨م): «إن الكيميائيين — يعني جابرًا وشيعته — يذهبون إلى أن جميع المخلوقات تتولد من مخلوقات من نوعها سابقة عليها في الوجود. فالحيوان يتولد من حيوان آخر سابق عليه في الوجود. والنبات كذلك يتولد من نبات آخر والمعدن من معدن آخر. ويدعون أن القوة المولدة مختفية في البزرة المكونة للجسم، وهي التي تفعل في الأجسام الأفاعيل المطلوبة، وتصيرها بالتدريج مشابهة للأصل الذي نشأت منه. وهذه البزور لا تتغير بمفاعيل الطبيعة، ولا تأكلها النيران المحرقة، بل النار تقوي خاصتها المولدة. فبناءً على ذلك يمكنها أن تتصرف في الجسم المعالج بأسرع ما يكون، وأن تغير مادة زئبقية إلى معدن من جنسها.»
وقال الحراني: «إن الصبغ كله أحد صبغين. إما صبغ جسد كالزعفران في الثوب الأبيض حتى يحول فيه، وهو مضمحل منتقض التركيب. والصبغ الثاني تقليب الجوهر من جوهر نفسه إلى جوهر غيره. ولونه، كتقليب الشجر التراب إلى نفسه، وقلب الحيوان النبات إلى نفسه، حتى يصير التراب نباتًا والنبات حيوانًا. ولا يكون إلا بالروح الحي والكيان الفاعل، الذي له توليد الأجرام وقلب الأعيان.» وهم يكنون بالروح عن الإكسير، وكان الحراني هذا من مشاهير أطباء الإسلام، ارتحل إلى الأندلس، واستوطن قرطبة، واشتغل بالطب والكيمياء، ورتب دواءً سماه (المغيث الكبير)، وكتم كيفية عمله وما يشتمل عليه من العقاقير الطبية، فاتفق عليه خمسة من أطباء قرطبة، واشتغلوا مدة من الزمن بتحليل الدواء، فتوصلوا إلى معرفة ما فيه من الأجزاء، ولكنهم لم يعرفوا مقدار كل جزء منها، فلما رأى منهم ذلك باح لهم بسر دوائه، وعلمهم تركيب أجزائه، فشاع استعماله بين جميع أطباء الأندلس، وكان ذلك في أواسط القرن الثالث للهجرة، على زمن محمد بن عبد الرحمن الخليفة الأموي.
وإذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مثل العقرب من التراب، والنتن، ومثل الحيات المتكونة من الشعر، ومثل ما ذكره أصحاب الفلاحة من تكوين النحل إذا فقدت من عجاجيل البقر، وتكوين القصب من قرون ذوات الظلف وتصييره سكرًا بحشو القرون بالعسل، فما المانع إذًا من العثور على مثل ذلك في الذهب أو الفضة.
فصاحب الكيمياء يحتاج إلى أن يساوق فعل الطبيعة في تخليقها المعادن. ولذا فهو يتصفح المكونات كلها؛ أي يمتحن جميع الأجسام البسيطة والأجسام المركبة، ويجري فيها الأعمال الكيميائية، مثل حل الأجسام إلى أجزائها الطبيعية، بالتصعيد، والتقطير، وجمد الذائب منها بالتكليس، وإمهاء الصلب بالفهر والصلاية وأمثال ذلك. ويعين مزاج كل جسم وقواه وخواصه وأشكاله. وبعد وقوفه على المادة المستعدة لقبول صورة الذهب يجعلها موضوعًا لعمله، ويحاذي في تدبيرها وعلاجها تدبير الطبيعة في الجسم المعدني، وقلبها له من طور إلى طور، حتى تصيره ذهبًا أو فضة. فهو يضاعف القوة الفاعلة — أي الحرارة الغريزية — ليتم عمله في زمن أقصر من زمن الطبيعة، وهو ألف وثمانون من السنين على زعمهم؛ لأن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله، فإذا تضاعفت القوى والكيفيات في العلاج كان زمن كون الذهب أقصر من ألف وثمانين سنة بكثير. ولا بد له أيضًا من تصور حالات الذهب، ونسب عناصره الأربعة في كل طور من أطواره، واختلاف الحرارة الغريزية عند انتقاله من حالة لأخرى، ومقدار الزمان في كل طور، وما ينوب عنه من مقدار القوى المضاعفة، ويقوم مقامه، حتى يحاذي بذلك كله فعل الطبيعة في المعدن. أو أن يعد لبعض المواد صورة في مزاجها، تكون كصورة الخميرة للخبز، وتفعل في هذه المادة بالنسبة لقواها ومقاديرها.
ينبغي لنا ضرورة أن نقر بأن قصد الطبيعة في توليدها المعادن لم يكن عمل الرصاص، أو الحديد، أو النحاس، أو القصدير، بل ولا الفضة رغمًا عن كونها قريبة من الكمال، وإنما قصدها عمل الذهب. فهو ابن أمانيها، لأن الصانعة الحكيمة تبغي دائمًا أن يكون صنعها في أعلى درجة من الإتقان فإذا قصرت فيه عن رتبة الكمال، وظهر العيب في صنعها، فإنما يحصل ذلك بالرغم عنها. فلا ينبغي لنا أن نوجه اللوم عليها في ذلك، بل اللوم على حدوث الأسباب الخارجية … فلذلك يلزمنا أن نعتبر تولد المعادن الناقصة كتولد المسخ والناقص الأعضاء في الحيوان، فإن ذلك لا يحدث إلا لكون الطبيعة حادت في عملها عن الصراط المستقيم، فوجدت في طريقها عثرة زلت بها قدمها، وغلَّت يدها عن العمل، فلم تنصرف في أعمالها على مألوف عادتها. فالعثرة التي زلت بها قدم الطبيعة في تكوينها الذهب، هي ما تجده من الدرن — أي الوسخ — الملتصق في الزئبق، بسبب عدم نظافة المكان الذي يستقر فيه الزئبق، ليتحد بالكبريت، ويشكل الذهب، وبسبب رداءة الكبريت المتحد أيضًا وشدة قابليته للاحتراق.
فالمعادن عندهم تستحيل من حالة لأخرى، والطبيعة على زعمهم تسعى دائمًا في إخراج المعادن من حالة النقص والخسة إلى حالة الشرف والكمال. فحالة النقص هي اتصاف المعادن بالتغير، وحالة الكمال هي اتصافها بعدم التغير؛ أي بالثبات على مقاومة العوامل الطبيعية. فالحديد، والرصاص، والقصدير، والنحاس، والخارصين، وكذا الزئبق، كلها سريعة التغير، ولا ثبات لها على مقاومة العوامل الطبيعية، إذا عرِّضت للهواء الرطب والماء، وتتأثر بالحوامض الكيميائية. ولذا يسرع العطب لسطل الحديد الذي يستخرج به الماء من الآبار، ولذا نحتاج إلى إرسال الأواني النحاسية للبياض بين آونة وأخرى، كما نحتاج إلى صبغ حديد الأبواب وقضبان النوافذ؛ لأن جميع ذلك متخذ من المعادن الخسيسة، كالحديد، والنحاس، والخارصين، الذي يصنع منه مزاريب المياه، ويوضع على سطوح بعض البيوت عوضًا عن القرميد، منعًا للدلف وتسرب المياه. فجميع هذه المعادن تتغير وتصدأ. فصدأ الحديد في اللغة وسخه كما ورد في مختار الصحاح. وفي اصطلاح الكيميائيين في عصرنا هو اتحاد المعادن بالأكسجين، وهو مولد الحموضة. فإذا صدئ المعدن قالوا باصطلاحهم: تأكسد المعدن. ويسمون الصدأ أكسيد الحديد، أو الرصاص، أو النحاس. ولذا سميت المعادن المتقدم ذكرها بالمعادن الخسيسة، أو الدنيئة، أو الناقصة، أو غير الثمينة. بخلاف الذهب والفضة فإنهما لا يتغيران بالعوامل الجوية؛ أي لا يصدآن، ولا تذيبهما النار إلا إذا كانت الحرارة في درجة عظيمة كألف درجة سنتغراد أو نيف. ولا تؤثر فيهما الحوامض الكيميائية إلا ما ندر منها. فالذهب مثلًا لا يذاب إلا بالماء الملكي، الذي هو عبارة عن «حامض كلوريدريك وحامض أزوتيك» وأما في الزئبق فيمتزج به امتزاجًا، ويسمى حينئذ ملغمًا فمن أجل ذلك أطلق على الذهب والفضة اسم المعدنين الشريفين، أو الحجرين الثمينين، أو الكاملين، وعززتهما الاكتشافات الأخيرة بثالث هو البلاتين، أو الفضة الأميركية، وهو يفوق الذهب في هذا الشرف والكمال، ولذا كان أغلى منه ثمنًا.
أما الذي جرَّهم إلى القول بأن الطبيعة تدبر الجسم المعدني، وتعالجه قرونًا كثيرة، حتى يصير ذهبًا، فهو ما شاهدوه من الحالات الكثيرة والصور المختلفة، التي توجد عليها شذور الذهب؛ أي حجارتها قبل الغسل والتصفية. فتارة تكون الشذور على هيئة عروق في أحشاء الأرض وبين طبقاتها الصخرية والرملية، وتارة تكون على وجه الأرض وفي مجاري الأنهار. فظنوا هذه الحالات الكثيرة والصور المختلفة، هي الأطوار التي يتقلب فيها المعدن من طور لآخر. ولذا قالوا بأن المعادن يستحيل الأخس منها إلى الخسيس، وهذا يستحيل إلى الشريف، وتنتهي الاستحالات إلى أشرف المعادن وأكملها وهو الذهب الإبريز؛ أي الخالص. ثم اختلفوا إذا انتهى المعدن إلى هذه الدرجة القصوى من الكمال، هل يبقى مستمرًّا على هذه الحالة الشريفة أو ينعكس راجعًا إلى التراب؟ فالمسألة عندهم فيها قولان.
قولهم بأن المعادن روح
لا يخفى أن حكماء الإسلام يقولون: إن المعدن يستحيل نباتًا، والنبات يستحيل حيوانًا، والحيوان لا يستحيل إلى شيء هو ألطف منه إلا أن ينعكس راجعًا إلى الغلط. ويقولون أيضًا إنه لا يوجد في العالم شيء تتعلق به الروح غير الحيوان. والروح ألطف ما في العالم. ولم تتعلق الروح بالحيوان على زعمهم، إلا بمشاكلته إياها. فأما الروح التي في النبات فإنها يسيرة، فيها غلظ وكثافة، وهي مع ذلك مستغرقة كامنة فيه، لغلظها وغلظ جسد النبات، ولذلك لم يقدر النبات على الحركة لغلظه وغلظ روحه. والروح المتحركة ألطف من الروح الكامنة كثيرًا؛ وذلك لأن المتحركة لها قبول الغذاء والتنقل والتنفس، وليس للكامنة غير قبول الغذاء وحده. ولا تجري إذا قيست بالروح الحية إلا كالأرض عند الماء. كذلك النبات عند الحيوان. ولا يخفى أن مقصودهم بمقايسة الأرض عند الماء هو مقايسة الجسم الصلب السائل، فهم يعتبرون أن للمعادن روحًا، ولكن هذه الروح أغلظ وأكثف من الروح الكامنة في النبات، كما أن روح النبات غليظة وكثيفة بالنسبة لروح الحيوان المتحركة. فليت شعري ما قصدهم بروح المعدن؟
قولهم بتأثير الكواكب في تكوين المعادن
ثم إنهم يزعمون أن للنجوم تأثيرًا على فعل الطبيعة في الجسم المعدني حتى يصير ذهبًا. ولكن هذا التأثير بطيء جدًّا، ولا يتم إلا في مئات من السنين. فالاعتقاد بتأثير الأجرام العلوية في عالم العناصر قديم جدًّا، وعليه كان دين أهل بابل الأقدمين.
أما أثر الشمس في عالم العناصر؛ أي في كرتنا الأرضية وفي هوائها، فظاهر، لا يسع أحد جحده، مثل أثر الشمس في جميع أفعال الحياة وفيما على وجه الأرض من التغيرات، وكذا أثر القمر في المد والجزر. وأما تأثير غير الشمس والقمر من الكواكب فمشكوك فيه. ولا برهان على صحته، وقد جرت مناقشات عديدة في هذا التأثير بين علماء الفلك وعلماء التنجيم، ألطفها المناقشة التي جرت على أثر مقالة نشرها العلامة فلاماريون، الفلكي الشهير في باريس بكثرة مؤلفاته، ومن علماء هذا العصر. وقد جاء في هذه الرسالة أنه إن كان لغير النيرين من الكواكب السيارة والثابتة تأثير على الأرض من جهة الجاذبية والشعاع، فهذا التأثير بمثابة العدم، ولا حكم له في عالم العناصر. فكلام فلاماريون ينصت له العلماء، ويثق به الناس أجمعون، إذ هو صاحب الاكتشافات العظيمة في كوكب المريخ، ولذا دعاه أحد علماء أميركا كريستوفر كولمبس المريخ. ولما نشر العلامة فلاماريون هذا الرأي قام عليه المنجمون وسلقوه بألسنة حداد، وشددوا عليه النكير لإنكاره تأثير الكواكب، وأوردوا من حججهم وبراهينهم ما لا يسعنا التعرض لها هنا لضيق المقام، ولأن الخوض في مثل هذا البحث خارج عن حدود ما رسمناه لبحثنا هذا. ففي أوروبا كثير من المنجمين والمعتقدين بأحكام النجوم، وتأثيرها في عالم العناصر، وبمعرفتهم بهذا التأثير قبل حدوثه وإنبائهم عن الغيب على زعمهم ودعواهم. ويقولون بأن للقمر تأثيرًا في غير المد والجزر أيضًا. من ذلك أن قص الشعر في أول الشهر القمري موجب لتوقيف تساقط الشعر، وأن الجهة المقابلة لمطالع القمر من الأبنية القديمة أسرع انهدامًا وأقرب ميلًا لتلك الجهة مما عداها، وغير ذلك مما يسخر منه العلم الحديث. وكاميل فلاماريون المشار إليه من علماء الفلك، الذين يقولون بوجود النفس الإنسانية، وبأنها جسم لطيف قائم بذاته ومنفصل عن المادة. والذي أداه إلى هذا القول هو التحقيق والتدقيق الذي أجراه في ٤٣٨ مسألة من مسائل الروح والنفس، وعالم ما وراء الطبيعة، واستنتج من ذلك هذه النتائج الأربع:
-
(١)
النفس موجودة وجودًا حقيقيًّا ومنفصلة عن الجسد.
-
(٢)
للنفس خصائص لم تزل مجهولة في نظر العلم.
-
(٣)
للنفس تأثير وإدراك عن بعد بغير واسطة الحواس البدنية.
-
(٤)
المستقبل مهيأ من قبل الوقوع، ومعين بالأسباب الداعية لحدوثه. فالنفس يمكنها إدراك المستقبل في بعض الأحيان.
فهذا العلامة يعتقد بأن النفس مدركة للغيب في بعض حالاتها؛ أي إنها تحس ببعض الحوادث قبل وقوعها، وهو يقول عندما سأله أحد الصحفيين، إن كان رأى بنفسه شيئًا من الروحانيات: «كلا مع الأسف. لم تظهر لي ولا روح من أرواح الأحياء ولا الأموات، وليس لي إحساس قلبي بذلك، ولا أصدق بهذه الأمور إلا بناءً على مشاهدة الآخرين الذين امتحنتهم واختبرتهم بنفسي.» أي اختبر ما حدث لهم في إدراك النفس للغيب وفي تأثيرها. وهي منفصلة عن الجسد بدون اعتماد في إدراكها على الحواس الخمس وآلاتها. ولا نطيل الكلام في هذا الموضوع، بل نكتفي بذكر ما قاله أبو القاسم الرحوي، وكان من شعراء تونس في القرن الثامن للهجرة، من قصيدة نظمها عندما غلب العرب عساكر السلطان أبي الحسن، وحاصروه بالقيروان، وكثر إرجاف المرجفين، وتنبؤ المنجمين:
وهي قصيدة جيدة، وأحسن منها قول أبي العلاء المعري، وله فضل المتقدم لوقوع وفاته في سنة ٤٤٩ﻫ:
النثرة اسم لنجمين صغيرين يقال لهما أنف الأسد. والقصيدة بديعة، وهي في اللزوميات.
ماهية الإكسير
تبين مما ذكرناه من المذاهب والآراء، أن السالكين طريقة جابر من أهل الكيمياء، يزعمون أن هناك بزورًا تفعل في الجسم فعل الخميرة في العجين، وتقلبه ذهبًا. وهذا ما يعبرون عنه بالإكسير، ويسمونه أيضًا الصبغ والحجر المكرم أو الكريم والإفرنج منهم يقولون له الحجر الفلسفي، أو حجر الفلاسفة، أو الإكسير الكامل، والعلم الأكبر، والعنصر الخامس. وإذا لم يقلب الجسم المعدني إلا للفضة فقط سموه حجر الفلاسفة الصغير، والإكسير الناقص، والعلم الأصفر.
واختلفوا في ماهية هذا الإكسير، إلا أن فحول المشتغلين بعلم جابر من مسلمين وإفرنج يشهدون على وجوده بالفعل لا بالقوة فقط، وعلى مشاهدتهم له واستعمالهم إياه. قال ابن بشرون في هذا المعنى: «ينبغي لطلاب هذا العلم أن يعلموا أولًا ثلاث خصال؛ أولها: هل تكون؟ والثانية: من أي شيء تكون؟ والثالثة: كيف تكون؟ فإذا عرف هذه الثلاث وأحكمها فقد ظفر بمطلوبه، وبلغ نهايته من هذا العلم. فأما البحث عن وجودها والاستدلال على تكونها، فقد كفيناكه بما بعثنا به إليك من الإكسير.» وهو الذي بعثه إلى صاحبه أبي السمح تلميذ مسلمة كبير علماء الأندلس. لكن ابن بشرون لم يعرفنا حقيقة الإكسير وخواصه بصريح العبارة، بل يقول إنه يخرج من الحيوان وينفصل طبائع أربعًا؛ أي يمر من حالة الجسم الصلب إلى السائل إلى الغازي إلى النار، وهي الحرارة والنور. فهو بهذه الأوصاف لم يزل في حيز الخفاء عندنا. وقال ألبير الكبير في كتابه الكيمياء والفلسفة: «عرفت كثيرًا من الأغنياء والرهبان وكبار الموظفين والجهلاء المقلدين، كلهم أضاعوا وقتهم ونقدهم في البحث عن هذه الصناعة، ولم يظفروا منها بشيء. ولكن ذلك لم يستوجب فتور همتي، ولا صدني عن مباشرتي، فاشتغلت بكل اجتهاد وسافرت من بلد لآخر وأنا أقول في نفسي: إن كانت تكون فكيف تكون؟ وإن كانت لا تكون فكيف لا تكون؟ وبقيت على ذلك إلى أن وصلت إلى معرفة كون استحالة المعادن إلى الفضة والذهب ممكنة.» فإن دققنا في هذه العبارة المنقولة عن كتاب فيكيه في الكيمياء والكيميائيين، نجدها عين عبارة ابن بشرون المدروجة في مقدمة ابن خلدون.
وأول من قال بهذه الخصال الثلاث المتقدم ذكرها هو خالد بن يزيد بن معاوية. وشهد فان هيلمون على أنه رأى الحجر الفلسفي بعيني رأسه، ولمسه بيده، قال: «فكان بكفي ثقيلًا، ولونه كلون مسحوق الزعفران، وله لمعان كثير.» وشهد غيره عليه أنه جسم صلب، لونه كلون الياقوت الغامق، شفاف قابل للانحناء، ولكنه ينكسر كالزجاج. وقال غيره: لونه كلون الخشخاش البري، ورائحته كرائحة الملح البحري. ويقول بعضهم: إنه كقطع الفحم، والبعض الآخر يقول: لونه كلون الكبريت. فتضاربت أقوالهم وتناقض كلامهم، ولكنهم في الغالب يصفونه بالتراب الأحمر، ومن هنا شاع على الألسن قولهم: أندر من الكبريت الأحمر. ويصفون به العلماء فيقولون: فلان هو الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر. ويقال: ذهب كبريت؛ أي خالص. وورد في كتاب خالد بن يزيد الأموي المترجم إلى اللاتينية باسم «رسالة في الكلمات الثلاث» — ولعلها الخصال الثلاث المتقدم ذكرها — عبارة تصحح هذه الأقوال، وتزيل التناقض والإشكال. وهذه العبارة هي قوله: «إن هذا الحجر يجتمع فيه جميع الألوان، فهو أبيض، وأحمر، وأصفر، وأزرق سماوي، وأخضر …» أما الإكسير الناقص الذي يقلب إلى الفضة فقط، فيصفونه غالبًا بالبياض الناصع، ويسمونه الصبغ الأبيض، ولكنهم قلما يبحثون فيه لاتجاه أفكارهم نحو الإكسير الكامل؛ إذ هو مطمح أنظارهم، ومبتغى آمالهم، وغاية أعمالهم.
وقد ينسبون إلى هذا الإكسير أفعالًا عجيبة، كخاصة الدواء الشافي لكل داء. روى لنا جابر عن نفسه هذه القصة، وهي تؤيد ما ذهب إليه الكيميائيون من وجود هذه الخاصة في الإكسير، قال: «كان ليحيى بن خالد البرمكي جارية، يضرب بها المثل في الجمال والذكاء، وكان يحبها كثيرًا، فمرضت ذات يوم، واشتد بها المرض حتى كان يودي بحياتها. فأرسل يحيى إلي رسولًا يستشيرني في الأمر، ويطلب لها علاجًا، ولم أكن رأيت الجارية من قبل، ولا عرفت سبب مرضها لأصف لها العلاج. فظننت أن بها تسممًا، فأشرت عليه باستعمال الماء البارد فلم يجد ذلك نفعًا. ثم أشرت بعدها بالدلك فلم ينفع ذلك أيضًا. وأخيرًا دعاني يحيى إلى بيته لأرى الجارية، وأصف لها الدواء. فذهبت إلى بيته ومعي الإكسير، وأعطيتها منه جرعة صغيرة فشفيت بإذن الله، وفرح يحيى فرحًا عظيمًا، وأجازني على ذلك.»
هذه هي زبدة آراء الكيميائيين في القرون الوسطى، وخلاصة الأقوال التي تبنى عليها صناعتهم، وتدور عليها مباحثتهم، ذكرناها دون مناقشة فيها، ليعلم أن السالكين طريقة جابر ليسوا مجردين عن العلم والتحقيق، وليست صناعتهم صرف وهم وخيال. نعم إن الإكسير لم يوجد للآن، ولا علمت حقيقته، ولا توصل أحد من أهل الكيمياء الحديثة إلى إثبات كون الذهب مركبًا من عنصر آخر غير عنصره البسيط، ولكن الجميع يعلمون أن للسالكين طريقة جابر قواعد علمية، ونظرًا فلسفيًّا في المكونات، هو الذي أدى إلى اكتشاف الكيمياء الحديثة، وإلى وضع قواعدها؛ لأن الفكر البشري لا بد له من أن يتسلسل في المسائل، ويرتقي في الإدراك درجة فدرجة، حتى يصل إلى نقطة الأوج والكمال. سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا. فوجود علم جابر كان ضروريًّا لوجود علم لافوازيه، لتوقف وجود الثاني على وجود الأول.