اكتشافات المسلمين في الكيمياء الحديثة
هذا الباب هو من أهم ما ورد في هذه الرسالة؛ إذ هو الغاية من الكيمياء والنتيجة الصحيحة التي أنتجها علم جابر. ولكن الإحاطة بجميع ما اكتشفه المسلمون في الكيمياء الحديثة متعسرة، بل وربما كانت متعذرة؛ لأن الكتب الإسلامية ضاع أكثرها ودثر. فمنها ما أغرق في دجلة حينما دخل هولاكو بغداد، ومنها ما أحرق في الأندلس حينما استردها الإسبان، ولم تزل النكبات تتوالى على ما بقي من تآليف المسلمين في مكتبات الخواص من ذوي البيوت القديمة، أو في مكتبات الجوامع والمدارس العمومية، حيث كانت عادة العلماء المتقدمين في الغالب أن يجعلوا مؤلفاتهم في أوراق متفرقة، وكراريس غير محبوكة، يضعونها في محفظة من الجلد. وعلى مر الأيام وكر الأعوام اختلط بعض الأوراق ببعض، وصارت (دشتًا) متفرقًا، لا يعرف لها أول ولا آخر. ثم إن كثيرًا من هذه الكتب لم يعن بها العناية التامة، فطمستها الرطوبة ورعت في جوانبها الأرضة، ولذلك تلف ولم يزل يتلف من تلك المؤلفات الثمينة أكثر مما أغرق في بغداد أو أحرق في الأندلس.
هذا ولا يزال هناك مؤلفات كثيرة مبعثرة في أنحاء العالم، وهي في طي النسيان لم تمتد إليها يد، لوجودها بين يدي أفراد لم يتيسر لهم نشرها على العالم، أو طبعها للاستفادة منها. وأمثال ذلك كثير؛ فالمستشرقون في هذا العصر ما يزالون يواصلون البحث، وينفقون الأموال الطائلة، ويقضون السنين الطويلة لاستخراج الكتب من المكتبات المندثرة، أو الحصول عليها بجميع الوسائل الممكنة، ونفض الغبار عنها، ومقابلتها، وتصحيحها، وطبعها، وترجمتها، والتعليق عليها، والاطلاع منها على مختلف العلوم والفنون، والوصول منها إلى النتائج الصحية لتلك العلوم. ولو أخذنا نعدد أسماء الكتب التي استخرجت وطبعت في مختلف الموضوعات لطال بنا البحث، وبحسبنا أن نذكر أن تمبكتو — وهي المدينة التي كانت تعد في أقصى المعمور من الأرض — بعد أن افتتحها الفرنسيون وجدوا بها مكتبة عظيمة وكتبًا قيمة، فجاءوا بها إلى باريس. وقد استخرج منها المستشرق الفرنسي المسيو هوداس كتابًا لطيفًا عنوانه «تاريخ السودان»، وطبعه سنة ١٨٩٨م. ومؤلف هذا التاريخ هو الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السعدي، وقد ذكر فيه ملوك السودان، ومدينة تمبكتو، ونشأتها، ومن ملكها من الملوك، وذكر العلماء والصالحين الذين توطنوا فيها، وغير ذلك من الأخبار والفوائد إلى سنة ١٠٦٥ﻫ.
فيفهم من ذلك أن السلف الصالح من المسلمين لم يهملوا شيئًا، ولم يغادروا صغيرة ولا كبيرة من مسائل العلم إلا قيدوا أوابدها، ووضعوا فيها الرسائل والمؤلفات العديدة. وكثرة كتبهم تفوق الحصر؛ فمنها ما انعدم اسمه ورسمه كالذي أغرق وأحرق، ومنها ما خفي علينا وجوده كالذي بقي في خزائن الكتب مهملًا، ومنها ما بقي اسمه مذكورًا وذهب مسماه، كالكتب التي وردت أسماؤها في كتاب الفهرست لابن النديم، وفي كتاب كشف الظنون للكاتب جلبي المشهور بالحاج خليفة، وفي غيرهما من الكتب، ولم يجد علماء زماننا لهذه الكتب أثرًا ولا في مكتبة من مكتبات الشرق والغرب، ومنها ما فقد أصله العربي، ولم تبق إلا ترجمته اللاتينية أو العبرانية، أو غيرهما من اللغات. مثال ذلك كتاب «نهاية الإتقان» و«رسالة الأفران» و«رسالة في الكلمات الثلاث» لخالد بن يزيد، وجميعها باللاتينية. وبعض كتب ابن رشد بالعبرية، وهي محفوظة في المكتبة الأهلية في باريس، ونحو ذلك. فإن السلف الصالح جدَّ واجتهد وخلَّف لنا كنوزًا، أضعناها ولم نحافظ عليها.
فيتضح من ذلك أن كتب الكيمياء كثيرة لإقبال الناس على هذه الصناعة وعنايتهم بها. ومنها ما هو مستقل بالتأليف، ومنها ما هو مندمج في غيره من المؤلفات، مثل كتاب الوشي المصون واللؤلؤ المكنون في علم الخط، الذي بين الكاف والنون، ذكره العالم المحقق أحمد زكي باشا في رسالته موسوعات العلوم العربية، قال: وهو عبارة عن مجلدات كثيرة في علم الجفر والحروف، أورد فيه مؤلفه ستمائة وثلاثة وعشرين علمًا. وصاحب هذا الكتاب رجل اسمه أحمد بن محمد، صنفه للملك المظفر: فليت شعري من هو أحمد بن محمد، ومن هو الملك المظفر؟ سوف يعرفنا المستقبل بهما. ونظير هذا كتاب العلم المخزون في علم الخواص، وهو مجلد على أجزاء مشتمل على ثلاثمائة كتاب كما قيل، ومثله عيون الحقائق وكشف الطرائق، ذكروه في الجفر، وهو على ثلاثين بابًا، كل باب في علوم غريبة. وكذا الغيث المنسجم في شرح لامية العجم للصفدي، فإنه أفاض في ذكر العلوم العربية والفلسفية، وأتى بلمع وافية من علم الكيمياء ومن علم الأفلاك؛ لأن الطغرائي صاحب اللامية من أئمة هذا الشأن، مع ما له من اليد الطولى في فنون الأدب وشجون العجم والعرب، وما هو عليه من جلالة القدر وأبهة الوزارة. وذكر الصفدي في شرحه هذا شيئًا كثيرًا، على طريق الاستطراد، فصار الكتاب مشحونًا بغرائب الجد والهزل. وعلى هذا الشرح حاشية. وفي رسائل إخوان الصفا أبحاث في المعادن وتكوينها، ومن ذلك أيضًا كتب المجربات، وهي كثيرة.
فجميع هذه الكتب تشتمل على مسائل كثيرة وفوائد مهمة في علم الكيمياء، والإحاطة بجميع هذه المؤلفات متعذرة كما رأينا، وقد علمنا أن فهم الرسالة الواحدة من رسائل جابر مثلًا يتوقف على الإحاطة بجميع ما في رسائله السبعين، فكيف يتيسر لنا جمعها، وهي إن لم يفقد أكثرها فما بقي منها مشتت في جميع جهات الكرة الأرضية. والمتحري عليها ينبغي أن يبتدئ من مكتبة إسكوريال في إسبانيا، ويتعقب المكتبات الإسلامية واحدة واحدة، حتى ينتهي منها جميعها، وهذا عمل فيه من المصاعب ما لا يخفى على أحد.
هذا ما كان من أمر كتب الكيمياء الإسلامية، وأما ما احتوت عليه هذه الكتب فالمظنون أيضًا بأنه شيء كثير؛ لأن قاعدتهم الأساسية تلجئهم إلى فحص جميع العناصر والمكونات، وتعيين أمزجتها وقواها. ولذا لم يتركوا شيئًا بدون أن يجروا فيه تجاربهم، واتصلوا بذلك لأغرب المجربات، منها ما نقل عن مسلمة المجريطي، وهو وإن كان غريبًا لا يقبله العقل فإنا نورده على سبيل التفكهة. ذكر مسلمة في كتابه غاية الحكيم: أن آدميًّا إذا جعل في دن مملوء بدهن السمسم ومكث فيه أربعين يومًا يغتذي بالتين والجوز، حتى يذهب لحمه ولا يبقى منه إلا العروق، وشئون رأسه، فيخرج من ذلك الدهن فحين يجف عليه الهواء يجيب عن كل شيء يسأل عنه من عواقب الأمور الخاصة والعامة. وقد أجروا كثيرًا من التجارب في أنفسهم بالرياضة، ليتعرفوا تأثير القوى الموجودة في العالم. فصاموا الأيام الكثيرة، ودخلوا الفرن الحار ليختبروا أثر الجوع وفعل الحرارة في الجسد. وحاولوا بالمجاهدة موتًا صناعيًّا بإماتة جميع القوى البدنية، ليثبتوا وجود النفس، ويتعرفوا أخبارها، وليبرهنوا بالبرهان التجريبي على قولهم بأن الموت إذا نزل بالبدن ذهب الحس وحجابه، واطلعت النفس على ذاتها وعالمها.
والخلاصة أن أهل الكيمياء في الإسلام أجروا تجارب عديدة، ودونوا مجرباتهم في كتب كثيرة، فلا بد أن يكونوا عثروا أثناء تجاربهم على اكتشافات مهمة في علم الكيمياء الحديثة، تلقى بعضها عنهم الإفرنج فنسبت لهم، ولم يزل البعض الآخر مدفونًا في كنوز الكتب التي تختزن في طياتها الرطوبة، وترتع في صفحاتها الأرضة. ومهما يكن فنحن لا نذكر في هذا الفصل إلا ما أقر الإفرنج أنفسهم بأنهم تلقوه عن المسلمين، من مسائل الكيمياء، وما نزال ندرسه في مدارسنا الابتدائية، فضلًا عن العالية في يومنا هذا. ونحن نعجز عن حصر جميع هذه الاكتشافات لما ذكرناه سابقًا من الأسباب. غير أن ما يدرك جله لا يترك كله. فإذا أجلنا النظر في كتب الكيمياء الحديثة — وخصوصًا في تلك الكتب التي عني بها مؤلفوها بتاريخ الكيمياء — نجد أنها تكرر اسم جابر والرازي وابن سينا وغيرهم من علماء الكيمياء في الإسلام. ونفهم منها أن أبا موسى جابر بن حيان الصوفي هو أول من وصف المعادن الشائع استعمالها وصفًا مدققًا، كالمعادن السبعة المتطرقة، والزئبق والكبريت والزرنيخ. فهو أول من تكلم على هذه المعادن وعرفها تعريفًا كيميائيًّا. ولم يزل علماء الإفرنج يقولون به ويرددونه في كتبهم. وفي كتاب جابر المترجم إلى اللاتينية باسم الشيميا كلام مفيد على استحضار ماء الفضة، والماء الملكي، وكيفية تأثير ماء الفضة على المعادن، وتأثير الماء الملكي على الذهب والفضة والكبريت. وفي كتاب جابر هذا أيضًا كلام جيد في وصف كثير من المركبات الكيميائية المستعملة في المعامل الصناعية، وفي الصيدليات الطبية مثل كلامه على حجر جهنم المستعمل في فن الجراحة لإحراق العضلات الفاسدة، وإماتتها، ولغير ذلك، ويسميه أهل الكيمياء الحديثة «نترات الفضة»، ومثل كلامه على الزئبق المصعد الذي يأكل الأجسام، ويدفع التعفن، ويسهل البطن وهو سام قتال.
وتكلم أيضًا على ما يسميه أهل الكيمياء اليوم «رايالغار»، وهو أكسيد الأرسنيك المكبرت الأحمر، وعلى زهرة الكبريت، وملح الطرطير، وملح البارود، والزاج، والقبرصي، وروح النشادر، وحجر الشب، والشب اليماني. وجاء في كتاب «واضعو علم الكيمياء» لمؤلفه أريك جون هولميرد: «لم يهمل جابر تطبيق الكيمياء عمليًّا وإجراء التجارب فيها، فهو يصف لنا طرقًا لصنع الفولاذ وصقل المعادن الأخرى، كما وصف طرقًا لصبغ الأقمشة والجلود، واستحدث مركبات لصبغ الشعر ونحو ذلك.»
وحيث كانت أفكار المتقدمين متجهة نحو قلب المعادن الخسيسة إلى المعدنين الشريفين، أطنبوا في ذكر أوصاف المعادن السبعة المتطرقة، ثم أردفوها بذكر الأرواح المعدنية وهي أربعة: الكبريت، والزئبق، والزرنيخ، وروح النشادر، ويسميه الإفرنج أمونياك. وزعموا أن هذه الأرواح هي التي تؤثر في بعض المعادن السبعة. وتقلبها بالصناعة إلى الذهب والفضة. فالمتقدمون وصفوا جميع هذه الأجسام أحسن وصف، وبينوا جميع خواصها، وهي كلها مما يسميه أهل الكيمياء الحديثة من العناصر البسيطة، ما عدا روح النشادر فإنه مركب من الأزوت والهيدروجين.
وجاء في كتب الكيمياء الحديثة: ومما اكتشفه العرب:
- الحامض الأزوتي: أول من ذكره جابر وسماه الماء المحلل، ثم جاء ألبير الكبير فوصف استحضاره وصفًا مدققًا، وتوجد اليوم معامل كثيرة لاصطناعه، ويستهلك منه كميات كبيرة في العالم للصناعات المختلفة التي لا بد فيها من استعماله، مثل صنع الحامض الكبريتي، والماء الملكي، والنيترو بنزين، والنيتروكليسرين، وقطن البارود، والمواد الملونة، ويستعمله الحكاكون لحك النحاس ويسمونه الماء الغالب، ويستعمله المصورون ويسمونه الماء المساعد، كما يستعمله الصياغ ويسمونه ماء الفضة.
- حامض كلوريدريك: أخذه علماء الكيمياء الحديثة عن كتاب بصيل فالانتين، وهو أخذ عن كتب العرب وسماه روح الملح، ويستعمل هذا الحامض لاستحضار الماء الملكي، والحامض الكربونيك وروح النشادر وغيرها.
- الماء الملكي: اكتشفه جابر، وهو مزيج من الحامضين المتقدمين؛ وهما الحامض الأزوتي وحامض كلوريدريك، ومن خواصه إذابة الذهب والبلاتين؛ لأنهما لا يذوبان في كل واحد من الحامضين المذكورين على حدته، بخلاف غيرهما من المعادن فإنها تذوب في حامض الأزوتيك. وسمي بالماء الملكي لأنه يذيب ملك المعادن وهو الذهب.
- روح النشادر: وسماه العرب أيضًا القلي الطيار، وكلهم وصفوه وعرفوه أحسن تعريف، ويسميه الإفرنج أمونياك، ويستعملونه في الصناعات وفي الطب، ويصنع به الجليد بآلات مخصوصة.
-
الحامض الكبريتي: أول من ذكره في مؤلفاته أبو بكر الرازي، وسماه زيت الزاج والزاج
الأخضر. فنقله من كتبه ألبير الكبير وسماه كبريت الفلاسفة وروح
الزاج الروماني. وذكره بصيل فالانتين في كتبه ووصفه وصفًا غير تام.
واعلم أنه لا صنعة إلا ويستعمل فيها الزاج، وهو أنفع ما جاءت به
الكيمياء.
قال الكيميائي دومًا: يمكننا الاستدلال على توسع صناعات الأمة من مقدار زيت الزاج الذي تستهلكه؛ لأنه يستعمل لاستحضار غيره من الحوامض الكثيرة الاستعمال في الصناعات وفي الأصبغة، ويستعمل في اصطناع المياه المعدنية والشمع والسكر وتصفية كثير من الزيوت.
- البارود: لعهد قريب كان الناس والعلماء يظنون أن مخترعه ألماني يدعى شوارتز، ولكنهم اليوم عدلوا عن هذا الرأي وقالوا: البارود مزيج من الكبريت والفحم ومن ملح البارود. والأولان من العناصر المحترقة والأخير من العناصر المشتعلة. ولصنعه أصول مخصوصة، وقد زالت أهميته في زماننا لاكتشاف غيره من المواد المتفجرة، وبقي استعماله مختصًّا بالصيد. استمر الناس زمنًا طويلًا وهم يعزون اختراعه للراهب الألماني شوارتز من أهل القرن الرابع عشر للميلاد، ولكن ظهر اليوم للمحققين بأن الصينيين يعلمون من قديم الزمان ممزوجات العناصر المحترقة. وأول ذكر في الكتب لبارود المدافع وجد في كتاب عربي يبحث فيه عن آلات الحرب، ويظهر منه أن مؤلفه كان في مصر في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد، وذلك في تاريخ الحرب الصليبية التي قام بها لويس القديس. ثم نقله ألبير الكبير وبيَّن تركيبه وخواصه.
وكان استعمال البارود في المدافع لأول مرة سنة ١٣٤٦م، في الحرب التي نشبت بين إنكلترا وفرنسا، وكانت جنود الإنكليز مسلحة بالقوس والنشاب ومعهم بعض المدافع. غير أن ابن خلدون ذكر في تاريخه أن أبا يوسف سلطان مراكش لما حاصر سجلماسة سنة ٦٧٢ﻫ الموافقة سنة ١٢٧٣م «نصب عليها آلات الحصار من المجانيق والعردات وهندام النفط القاذف بحصى الحديد، ينبعث من خزانة أمام النار الموقدة في البارود بطبيعة غريبة، ترد الأفعال إلى قدرة باريها.» وقيل بأن أهل مراكش استعملوا الأسلحة النارية قبل ذلك أيضًا في محاربتهم سرقوسة سنة ١١١٨م. وكانوا قبل هذا التاريخ يستعملون في حروبهم النار اليونانية. ذكر المؤرخ الإنكليزي جيبون أن مخترع هذه النار رجل من بعلبك اسمه كالينيكوس، كان يصنعها من النفط، أو الغاز السائل، ومن الكبريت وخشب الصنوبر بطريقة مخصوصة. ثم فر من الخلفاء إلى القسطنطينية وعلمها لقياصرة الروم فسلحوا بهذه النار عساكرهم وقابلوا بها جنود المسلمين الذين أتوا لحصار القسطنطينية في خلافة معاوية ثم في خلافة الوليد.
ونحن لا نقصد في هذا الفصل ذكر جميع المكتشفات الكيميائية التي أقر الإفرنج بأخذهم إياها وتلقيهم لها عن المسلمين؛ لأن ذلك من وظيفة أساتذة الكيمياء الذين يؤلفون الكتب في هذا العلم الجليل. وفيما ذكر في هذا الرسالة من الأمثال والقواعد كفاية لفهم حقيقة علم جابر وكيفية توليده للكيمياء الحديثة، وكيفية أخذ الإفرنج هذا العلم عن المسلمين. ولم تزل الكلمات العربية موجودة في اصطلاحات هذا العلم بأصلها العربي أو بترجمتها الحرفية عن العربية، كقولهم «سبيرتو» ومعناه الروح، و«أسبري دوفين» بالفرنسية ومعناه روح الخمر، وكذا قولهم «لودو في» ومعناه ماء الحياة، وأمثال ذلك. والذي أبقوه على لفظه العربي كثير أيضًا مثل الكحل المتقدم ذكره، والأمبيق الذي هو آلة التقطير، والقلي وهو نبات بحري يصنع من رماده الصابون، ويقال له بالاصطلاحات الجديدة الصودة. والقطران والصابون وعشرات من الكلمات.
على أن أعظم فائدة أفادها جابر ومن سلك طريقته هي وضعهم فن المجربات؛ أي إثباتهم القضايا العلمية بالتجربة والاختبار؛ لأن المتقدمين لذلك العهد كانوا يثبتون قضاياهم العلمية بالقياس المنطقي، فيقولون مثلًا: هذا معدن ذهب، فالمعدن جنس، والذهب فصل، فهو كقولنا للإنسان: هذا حيوان ناطق. والفصل لا سبيل بالصناعة إليه. وإنما يخلقه خالق الأشياء وهو الله عز وجل، والفصول مجهولة الحقائق رأسًا بالتصور، فكيف يحاول انقلابها بالصنعة. إذ من شرط الصناعة أبدًا تصور ما يقصد إليه بالصنعة، فمن الأمثال السائرة للحكماء: أول العمل آخر الفكرة، وأول الفكرة آخر العمل. فلا بد لنا من تصور الفصل ليتيسر لنا تخليقه وإبداعه. وتصور الفصل غير ممكن، فينتج من ذلك أن تخليقه أيضًا مستحيل. وبناءً عليه فصناعة الذهب؛ أي قلب المعادن مستحيل. فأثبتوا استحالة هذه الصناعة بالقياس المنطقي، شأنهم في سائر المسائل العلمية. وهذه كانت طريقتهم ومذهبهم الذي تلقوه بالسند المتصل إلى أرسطوطاليس. ولا يخفى ما في هذا المذهب من الخلل؛ لأننا كثيرًا ما نرى مباينة بين البرهان العقلي والبرهان التجريبي. وربما قام الدليل العقلي أو القياس على ثبوت شيء ثم ظهر بالتجربة ضد ذلك الشيء. وقولهم أول العمل آخر الفكرة باطل؛ لأن أكثر المكتشفات في الكيمياء — بل وفي غيرها — عثر عليها العلماء بالصدفة. وكثيرًا ما نرى الكيميائي يشتغل في معمله لاستحصال مادة ثم في نتيجة العمل تظهر له مادة أخرى. ولو بقي العلماء على غفلتهم منتظرين تصور الفصل لما تيسر لهم إيجاد شيء من اللوالب التي تدور عليها رحى هذه المدنية. فمن هذا يتضح لنا السبب الذي حمل علماء الإفرنج على الإقبال على علم الكيمياء وعلم الطبيعة، وتخصيص غرفة في كل معهد لتكون مختبرًا يجري فيه التلاميذ تجاربهم واختباراتهم، ويستعملون لذلك أدوات وآلات بلغت في زماننا من الإتقان والكثرة درجة عظيمة.
فجابر لم يلتفت لذاك القياس المنطقي، بل شرع يتصفح المكونات كلها، ويجري فيها أنواع التجارب والامتحانات، ويعين أمزجتها وقواها عله يعثر فيها على الإكسير، فعثور جابر على الإكسير — كما يزعم — لم يزل مشكوكًا فيه لهذا التاريخ، ولم تزل هذه القضية محتملة للصدق والكذب، وأغلب الظن أنها حديث خرافة ومجرد وهم، ولكن عثور جابر وأتباعه على كثير من الحقائق العلمية ثابت بالعيان. ومجموع هذه الحقائق هي التي أنتجت بالضرورة علم الكيمياء الحديث الذي بهر العالم، وغير وجه الأرض بنتائج اكتشافاته وتطبيقاته التي نشأت بأجمعها عن هذا الأصل الذي وضعه جابر، وتسلسلت عنه كحلقات السلسلة المرتبط بعضها ببعض.
أما قواعد التجربة والامتحان التي وضعها جابر في هذا الفن فهي مذكورة في كتبه المترجمة إلى اللاتينية، مثل كتاب «نهاية الإتقان» و«رسالة الأفران» فإنهما يشتملان على وصف التجارب والعمليات وصفًا يليق استعماله وتطبيقه في عصرنا لدرس المسائل الكيميائية في كافة المدارس، التي فيها غرفة لحفظ الإنبيق والقرعة والأنابيب والأباريق، والفرن، وبقية أدوات الكيمياء.
ثم سلك فريق من العلماء — وهم القائلون بصحة الكيمياء — مسلك جابر، واقتفوا أثره في فن التجارب وأصول الامتحان، وانتقلت الكيمياء بعد ذلك من العرب إلى الإفرنج بما فيها من قواعد التجارب وأصولها، فطبقها علماؤهم، واشتغلوا على موجبها في القرون الوسطى، وتوصل روجر باكون في القرن الثالث عشر للميلاد بهذه الأصول التجاربية إلى إظهار اكتشافات في علم الطبيعيات، حارت لها عقول أبناء زمانه. فالشرف في إيجاد الأصول التجاربية وعدم الالتفات لأصول المناطقة راجع لجابر وأهل طريقته. واستعمال هذه الأصول وتطبيقها في القرن السابع عشر للميلاد هو الذي أحدث الانقلاب العلمي الذي كان من أبطاله غاليليو، وفرانسس باكون، ونيوتن، وغيرهم من علماء الإفرنج. وإن النقطة التي ابتدأت منها الأصول التجاربية على التحقيق هي مؤلفات جابر وأتباعه، لا مؤلفات ألبير الكبير كما زعم بعضهم؛ لأن ذلك العدد القليل من الإفرنج الذين عكفوا في القرن الثالث عشر على درس العلوم الطبيعية كما سبقت الإشارة إليه ما هم إلا صادرون عن حياض المعارف الإسلامية. وناهلون من بحار علومهم، ومقتبسون لطرقهم وأصولهم، وإن كنا لا ننكر فضلهم في خدمة الإنسانية؛ إذ إنهم حملوا مشاعل العلم في عصر كانت فيه أوروبا تئن تحت نير الجهل، فأناروا بذلك الطريق، ومهدوا السبيل لمن جاء بعدهم.
فيتبين لنا مما تقدم أن أصحاب الكيمياء في الإسلام هم الذين وضعوا أصول التجارب الذي عليه مدار الكيمياء الحديثة وسائر العلوم الطبيعية. ولهم في الكائنات نظر فلسفي، لم يجرؤ علماء الإفرنج في هذا العصر على الادعاء بأنه حديث خرافة أو أباطيل. وهذا رغمًا عما كان يلحق علماء الكيمياء في الإسلام من أذى المتعصبين وظلم المستبدين، وهم يجاهدون بأنفسهم وأموالهم في سبيل كشف الحقائق وتحوير المسائل العلمية. ولو حصل لهم تنشيط من الأمة ومدت إليهم أيدي المساعدة لتأسيس المعامل الكيميائية، والمختبرات العلمية، وتنظيم المكتبات وجمع الكتب اللازمة لها، لتوصلوا — ولا شك — إلى وضع العلوم الحقيقية، وأصول الفلسفة الجديدة، ولتوسعوا في دوائر بحوثهم، وجاءوا بنتائج أعظم مما جاءوا به، وأحدثوا قسمًا كبيرًا من هذا الانقلاب العظيم الذي جاء به الإفرنج، وغيروا بسببه وجه الأرض، ولم يزالوا يظهرون لنا في كل يوم من معجزات العلم وخوارق الاكتشافات والاختراعات ما تحار في صنعها الألباب، وتقصر عن إدراكها العقول.