معركة فوق الجبل
غادر الشياطين طائرتهم الخاصة، وفي دقائق كانوا يغادرون المطار في سيارة تاكسي، وسألهم السائق بلغة إنجليزية سليمة: إلى أين أيها السادة؟
أجابه «أحمد» في اقتضاب: فندق «السماء الزرقاء».
لم يكن هناك مجال لمزيد من الأسئلة، وجلس الشياطين في أماكنهم وهم يُقَلِّبون شتى الأفكار في رءوسهم، تُرى هل سيخدمهم الحظ فيجدون في الفندق أيَّ خيط يُرشدُهم إلى مكان الفتيات؟! وهل لا تزال العصابة تراقب المكان على أمل وصول بقية الشياطين؟!
كان الشياطين السِّتَّة يأملون في ذلك، ومن أجل هذا كان اختيارهم لفندق «السماء الزرقاء» للإقامة فيه … كانوا لأول مرةٍ يتمنون أنْ يكون هناك من يطاردهم ويراقبهم، ويتحمسون للدخول في معركة بأي ثمنٍ.
وظهرت أمام أعينهم خارج التاكسي معالم «نيروبي» … وكانت المدينة من الطراز الأوروبي والحداثة، بشوارعها العريضة، وعماراتها الضخمة المبنية على أحدث طراز، وواجهات المحلات التي تحمل أسماء إنجليزية صحيحة … وفي المقابل كان هناك الطابع المميِّز للمدن الأفريقية في الشوارع الجانبية والخلفية بالمنازل الصغيرة المتلاصقة، وبعضها مبني من الخشب أو الطوب النيء، والسكان الذين ارتدوا ملابسهم الوطنية، وبعض القردة التي راحت تقفز هنا وهناك من فوق رءوس الأشجار القريبة فلا تثير الانتباه.
أخيرًا توقف التاكسي أمام الفندق، وغادره الشياطين فوجدوا سيارتهم الجيب المصفحة قد سبقتهم إلى هناك، ولم يكن هناك كثير من النزلاء في بهو الفندق، وفي دقائق كانوا يحتلون الحجرتين اللتين كانت تشغلهما الفتيات الأربع، ولكنْ … لم يكن هناك أيُّ دليلٍ أو رسالةٍ ترشدهم في مهمتهم الصعبة.
أطلَّ «أحمد» برأسه من إحدى النوافذ المطلة على الطريق، كان الفجر يوشك على البزوغ، وقد ساد السكون الشوارع المحيطة بالفندق الصغير، ومن الخلف بَدَت غابة صغيرة مظلمة.
وقال «أحمد» لرفاقه: هناك من يحوم حول المكان.
وبسرعة أطلَّ بقية الشياطين من فتحات النوافذ … كان هناك بالفعل شاب طويل أسمر اللون يتلصص بالقرب من مدخل الفندق، وهو يلقي خلسةً نظرات مريبة نحو حجرتي الشياطين.
هتف «عثمان» في حماس: ها قد بَدَأ الحظ يخدمنا … سوف أُسرع بالقبض عليه.
أحمد: سآتي معك.
ونظر إلى بقية الشياطين قائلًا: وأنتم عليكم بحماية ظهرنا، فقد يكون هناك بعض أفراد العصابة مختبئين في مكان ما.
وبِخِفَّة غادر «أحمد» و«عثمان» حجرتهما، وصعدا إلى أعلى الفندق، ثم نزلا على مواسير الغاز الخلفية هابطين إلى الحديقة الخلفية للفندق، وقفزا منها إلى الطريق كأنهما قردان ماهران، وما كاد الشباب الأسمر يلمحهما على ضوء الفجر حتى اتسعت عيناه ذهولًا وهو يظن أنهما هبطا من السماء، فاندفع جاريًا بأقصى سرعته، ولكن «بطة» «عثمان» حسمت المسألة وكانت أسرع من قدميه … فسقط الشاب الأسمر على الأرض، بينما اندفع الشيطانان نحوه، والتقط «عثمان» كرته المطاطية، على حين رفع «أحمد» الشاب من مكانه، وكانت معالم الألم مرتسمة على وجهه من إصابة «بطة» «عثمان» له، وصاح به «أحمد» بصوت غاضب: لقد كنت تراقبنا … أليس كذلك؟
أجاب الشاب وهو يرتعد: أنا … أنا لا أعرف عنكم شيئًا.
وفي لحظةٍ خاطفة أخرج سكينًا طويلًا من حزام في ساقه وصوَّبها نحو قلب «أحمد» … ولكنَّ حركة «أحمد» كانت أسرع، فأطاح بالسكين قبل أن تمسه، وصوب ضربة قاسية إلى الشاب، فترنح إلى الخلف متألمًا بشدة، وبضربة أخرى أطارت الشاب ليصطدم بالحائط خلفه وتهاوى فوق الأرض.
وأمسكه «عثمان» وصاح فيه: أين أخفيتم الفتيات؟ انطق أيها الغبي! وتحشرج صوت الشاب من قبضة «عثمان» القوية ونطق أخيرًا بصوت ضعيف قائلًا: «جبل كينيا».
وما كاد الشاب ينطق بعبارته هذه حتى دَوَّى صوت رصاصة مجهولة، وسقط على إثرها قتيلًا في الحال.
تطلع «أحمد» و«عثمان» حولهما في ذهول، لم يكن هناك أحد حولهما … فمن الذي أطلق الرصاصة القاتلة؟! واندفع بقية الشياطين نحوهما، وسألهم «عثمان»: هل أطلق أحدكم رصاصة على الشاب؟
ولكنَّهم نفوا ذلك، وقال «قيس»: لا بد أنْ أحد أفراد العصابة أطلقها على زميله حتى لا يشي بالمكان الذي أخفوا فيه الفتيات … هيا بنا فلا وقت لإضاعته.
وعندما أضاءت السماء بنور الفجر، كان الشياطين الأربعة يستقلون سيارتهم الجيب منطلقين بها بسرعة بالغة باتجاه «جبل كينيا» خارج العاصمة.
كانت سيارة الشياطين أشبه بترسانة أسلحة، وقد حملوا بداخلها عددًا كبيرًا من المدافع الرشاشة والرصاص والقنابل اليدوية، بل وعددًا من الصواريخ الخفيفة المحمولة فوق الأكتاف.
كانوا يعرفون تمامًا أنهم ذاهبون إلى معركة … قد تحدد مصيرهم إلى النهاية.
استغرق وصول الشياطين إلى مشارف الجبل وقتًا … وظهرت الغابات خلفهم ممتدة إلى ما لا نهاية، والجبل أمامهم متسع عريض يرتفع إلى ما يزيد على ثلاثة آلاف متر.
قال «فهد» بقلق: سوف يستغرق صعودنا الجبل وقتًا.
أكمل «مصباح»: بالإضافة إلى أننا نجهل في أي موضع اتخذت العصابة وكرها.
عثمان: كل هذا لا يهم … إنَّ الجبل أمامنا، والعصابة تختفي في جزء منه … وعلينا العثور على مكانها مهما كانت المصاعب.
واندفع إلى الأمام شاهرًا مدفعه الرشاش، وتبعه بقية الشياطين … وفي النهاية سَارَ «أحمد» خلف زملائه، وكان واضحًا أنَّه يفكر في شيء ما.
بدأ الشياطين الستة تسلق الجبل، وكانت المهمة سهلة في البداية، ولكنَّها مع الوقت أخذت تزداد صعوبة؛ لانحدار صخوره ووعورتها … وقرابة الظهر كانوا قد تمكنوا من الصعود إلى منتصفه تقريبًا، وأخذت الشمس ترسل عليهم نارًا ملتهبة، ولكنَّهم مع ذلك واصلوا صعودهم بلا هوادة.
وفجأةً صاح «أحمد»: حاذروا.
ومن أعلى بدا وكأنَّ هناك انفجارًا في قمة الجبل، واندفعت آلاف الصخور نحو الشياطين من أعلى الجبل لتحصد كل شيء في طريقها.
ألقى الشياطين بأنفسهم محتمين خلف صخرة كبيرة بدأت تهتز أمام سيل الأحجار المتساقطة … وفي اللحظة المناسبة ألقى الشياطين الستة بأنفسهم داخل فُوَّهة كهفٍ صغيرٍ نحتته الطبيعة في الجبل، قبل أن تتزحزح الصخرة التي كانوا يحتمون خلفها … ولو بَقَوا ثوانيَ قليلة في مكانهم الأول لسحقتهم تحتها.
وبعد وقت خفت الانهيارات وعاد السكون يشمل المكان … وتلاقت أنظار الشياطين. كان من الواضح لهم تمامًا أن ذلك الانهيار كان بفعل العصابة.
وخرج الشياطين من مخبئهم … وجز «مصباح» على أسنانه، وهو يقول: سوف نكمل صعود الجبل، ولو انهار كله علينا … من الواضح أن مركز العصابة في قمة الجبل وهم يحاولون منعنا من الوصول إليه بأية طريقة.
أسرع الشياطين الستة يواصلون تسلق الجبل.
فجأةً انطلق نحوهم سيل من الرصاص يأتي من أعلى الجبل، وألقى الشياطين بأنفسهم خلف بعض الصخور، كانوا في مكان شبه مكشوف في العراء، وعدوهم يصوب رصاصاته إليهم في وضع أفضل، وهم لا يقدرون على الظهور لمواجهته.
وصاح «فهد» في غضب: هؤلاء الملاعين لماذا لا يواجهوننا وجهًا لوجه؟
أحمد: إن القنافذ من عادتها الاختفاء وترك أشواكها تتكفل بأعدائها.
عثمان: حسنًا … سوف نقتلع هذه الأشواك.
وألقى بقنبلةٍ يدويةٍ، أتبعها بأخرى لأعلى، وانفجرت القنبلتان، ولكن سيل الرصاص المنهمر نحوهم لم يتوقف.
وقال «أحمد»: أعتقد أن المسألة بحاجة إلى أكثر من القنابل اليدوية.
وجهَّز صواريخه المحمولة على الكتف، وثبتها فوق ظهره جيدًا، وأخذ يزحف مبتعدًا عن مكان الشياطين ومحاذرًا ألا يكون في مدى رؤية مهاجميه … وأخيرًا نجح في الالتفاف حول المكان، وبخفة نَمِرٍ بدأ يتسلق بعض الصخور الخلفية، وأخيرًا انكشف له مهاجموه …
كانوا ستة قد احتموا خلف صخرة كبيرة عالية راحوا يصوبون من خلفها رصاصهم نحو الشياطين … وصوَّب «أحمد» مدفعه الصاروخي، وصاح: أنتم أيها الأغبياء!
والتفت الأعداء مذهولين ليواجهوا الصاروخ الموجه نحوهم … وقبل أن يفكر أحدهم حتى في أن يتلو صلاته الأخيرة ضغط «أحمد» على زناد مدفعه، فانطلقت القذيفة نحو الصخرة، وانفجرت فيها بصوت مدَوِّي، وتناثرت إلى آلاف الشظايا.
وعندما انقشع الدخان واللهب لم يكن هناك أي أثر لأفراد العصابة الستة.
ومرةً أخرى واصل الشياطين صعودهم لأعلى الجبل.
وأخيرًا خطوا بأقدامهم فوقه … وانكشفت لهم القمة … متعرجة، ضيقة، شديدة الانحدار والخطورة، وقد نبتت بعض الأشجار الصغيرة هنا وهناك … والسماء الصافية عالية لا تزال بعيدة … والسهول بأسفل تبدو كقطعة نسيج خضراء تشتبك فيها أشجار الغابات البعيدة ولكن … لم يكن هناك أي أثر لعصابة «سادة العالم»!
تأمل «عثمان» المكان حوله وقال بدهشة عظيمة: ولكن أين هي العصابة؟ وأين يوجد مقرها؟
فهد: لعلهم يختبئون في مكان ما حولنا.
خالد: لا أظنُّ ذلك … إنَّ «سادة العالم» ليس من طبيعتهم الاختفاء عندما يصل عدو إلى وكرهم.
تكلم «أحمد» ببطء أخيرًا، وقال: لقد حدث ما كنت أخشاه … كانت المسألة تبدو لي كما لو كانت مرتبة بحيث يتم جرنا إلى هنا.
مصباح: ماذا تقصد يا «أحمد»؟
أحمد: ذلك الشاب الذي أخبرنا بوجود العصابة في هذا المكان ثم قتل برصاصة مجهولة … والانهيار الجبلي الذي أقنعنا بمواصلة الصعود لأعلى … وأفراد العصابة الذين حاولوا قتلنا بالرصاص … كلُّ هذه الأشياء كانت تبدو مرتبة بحيثُ تزيد من إغرائنا لصعود قمة الجبل، ونحن نظنُّ أنَّ العصابة تختفي فيها.
عثمان: ولكنْ لماذا؟! وما الذي جعل العصابة تستدرجنا إلى هذا المكان؟!
أحمد: ليست هناك سوى إجابة واحدة … وهي أنَّ زعيم «سادة العالم» قد وضع خطته الأخيرة للتخلص منَّا في هذا المكان!
ولم يكد «أحمد» ينتهي من عبارته … حتى بدأ هجوم العصابة بالفعل!