الفصل الرابع
المنظر الأول
(تُرفع الستارة عن هيئةٍ برية وبها خيمةٌ بسيطة صغيرة.)
جان
:
ألا ليتَ شعري هل لشمسكِ مطلعُ
وهل شملنا بعد التشتُّت يُجمعُ؟
وهل أنتِ في أرض الحياة أمينةٌ
وإلا بجوف التُّرب ضمَّكِ مضجعُ
وهل يا تُرى أقضي بقربكِ ساعةً
فيُوصل قلبي بالنوى متقطِّعُ
تُرى أي تُربٍ دُستِهِ فأحُجَّهُ
وأسجُد في بيتٍ نزلتِ وأخشعُ
أأسكُن في أرضٍ وأنت شريدةٌ
ويحلو لعيني بَعْد بُعدك موقعُ؟
(يظهر أنطونيو من الخيمة.)
أنطونيو
:
هل أنت لص وهل سرقتَ لي شيئًا؟
جان
:
لا يا وحيد الزمان، بل تكرَّم عليَّ بلقمة فأنا
جوعان.
أنطونيو
:
أنت جوعان؟
جان
:
نعم.
أنطونيو
:
جوعان على وزن شبعان، واستغنِ بالثانية عن الأولى،
واحسبْ أنكَ أكلتَ أكلةً هنيةً طيبة.
جان
:
وأين تلك الأكلة؟!
أنطونيو
:
هي في علم الغيب، ومتى قُدِّر لكَ أن تأكلها تجدها بين
يديك، والرزق لا ريب مقسوم فلا تحزن. (تدخل أوجين.)
أوجين
:
أنت هنا الآن؟
أنطونيو
:
أما فهَّمناك من أمس؟
أوجين
:
ارحمني يا شريف النفس؛ فإني ما عاودتُكَ إلا لفقري، ولا
سألتُكَ ثانيًا إلا لضري، فخلصْني من التسوُّل المبيد،
واستخدمني يا سيدي فيما تُريد؛ فقد مضت عليَّ أيام، وما
ذُقت درهمًا من الطعام، وكدتُ أموت، من عدم القوت، فارحمني
— يرحمك الله — وخلصني من الجوع وبَلاه.
أنطونيو
:
آمنتُ بك يا رب العالمين، أما تجمعني بغير الجوعانين؟
اجمعنا بواحد من الأغنياء، يخلِّصنا جميعًا من هذا
الشقاء.
(يدخل أدريان وروبرت، حاملَين حطبًا.)
أدريان
:
هل تشترون حطبًا؟
أنطونيو
:
وماذا نصنع بالحطب؟ فنحن لا نطبخ ولا نغسل ولا ننفخ، ولا
نحتاج لحطب ولا فحم، وما عندنا لا أرز ولا لحم، ولا خضار
ولا عيش، ولا فيش ولا عليش، فاذهبا عن قريب، إلى حيث يعوي
الديب.
أدريان
:
وهل أيها النبيل، كسر الخاطر بجميل؟ أما ترى وجوهنا
ناشفة من الجوع؟
أنطونيو
:
أَوَّاه! يا ويلاه! بطونٌ خاوية من الغِذاء، وبيتٌ
أَفرغُ من فؤاد أم موسى، فما هذا الحال يا ربي ونحن
غرباء؟
جان
:
وهل أنت غريب؟
أنطونيو
:
نعم وأصلي من مسينا.
جان
:
إذن أنت من بلدي.
أوجين
:
سبحانك يا جامع المتفرِّقين، وأنا أيضًا منها.
أدريان
:
وأنا وهذا الغلام أيضًا.
أنطونيو
:
ظهر السر المكنون، والحديث ذو شجون، هل يمكن أن نعلم
السرائر، ونُعرِب عما في الضمائر؛ ليُعلَم المستور، وتظهر
الأُمُور؟
جان
:
نعم يمكن، وأنا أبدأ بالبيان .. مَن حاكم مدينة
مسينا؟
الجميع
:
الكونت فردريك.
جان
:
وأنا ابن أخيه جان، وقرين ابنته أوجين.
الجميع
:
جان، جان.
أوجين
:
وأنا ابنته أوجين.
أدريان
:
وهذا ابنك روبرت وأنا أدريان.
الجميع
:
أدريان؟
أنطونيو
:
وأنا أنطونيو الهرَّاب.
الجميع
:
أنطونيو؟
أنطونيو
:
حيث كنا نعلم سبب التفريق، فيلزم أن نعلم أسباب الاجتماع
على التحقيق، فمن يبدأ بالبيان؟
جان
:
أنا أبدأ الآن، وهو أني بعدما غرقنا في البحر، قذفَتنا
موجةٌ على الصخر، ومضى عليَّ بعد ذلك سنون، وأنا أتوجَّع
من الشجون، حتى وصلتُ إلى هذه الديار، وعلمتُ من أمر أوجين
ما صار، فرجعتُ فورًا كي أفتِّش عليها، فتوقَّفتُ هنا
للوصول إليها، وهذه قصَّتي بالإجمال، وبعدُ أُفصِّل لكم
الحال.
أوجين
:
وأنا بعدما شربتُ ضد السم، قبضَني إميل وأذاقني بسلطته
كل هم، ثم أنجاني الله من الكرب، واتفقت مع أدريان على
الهرب، وبعدما ضل معي عن الطريق، كابدتُ بعد فراقه كل كرب
وضيق، وهكذا عشتُ بالتسوُّل والخدمات، إلى أن جمعنا الله
بعد الشتات.
أدريان
:
فراقي لك بين الهضاب والآكام، كان سببًا لاجتماعي بابنكِ
يا ابنة الكرام؛ حيث رأيته نائمًا على وجه الأديم، والعرقَ
مكلِّلًا وجهه الوسيم، فأخذته واعتنيتُ بتربيته، وما
تأخرتُ يومًا عن خدمته، وكنت أشتغل يومًا دلَّالًا، ويومًا
عجَّانًا وخبَّازًا وغسَّالًا، ويومًا أحتطب من البوادي،
وأشتري بثمنه زاده وزادي، وهكذا إلى أن وصلنا هذا المكان،
الذي جمعَنا فيه الواحدُ المنان.
أنطونيو
:
أنا الذي تركتُ أدريان وهربت؛ حيث لم يمكني السير في ذاك
الوقت، والحمد لله الذي جمعنا سالمين، ومن النوائب
آمنين.
جان
:
حيث اجتمعنا كلنا بعد الشتات في هذا المكان، فهيا بنا
إذن إلى الأوطان. (يخرجون.)
المنظر الثاني
(تُرفع الستارة عن سجنٍ مظلم.)
لوسيا
:
أوَّاه من بغيي وظلمي الوخيم
إميل
:
ويلاه من جرمي وفعلي الذميم
لوسيا
:
لقد براني السجن وا لَوعتي
إميل
:
وقد أراني كل ضرٍّ أليم
لوسيا
:
فيا تُرى نلقى لنا منقذًا؟
إميل
:
كلا؛ فإن الجُرْم منا عظيم
لوسيا
:
إميل لا تقنط … …
إميل
:
… … … فلا ترتجي
خلاصنا من ذا العذاب الأليم
لوسيا
:
وأنت كذا …
إميل
:
الأمر لله الكريم الحليم
لوسيا
:
إميل دبِّرني … … … …
إميل
:
… … … … فلا تيأسي
من العذاب الصارم المستديم
وبعده موتٌ ونقلٌ إلى
جهنَّم الحمرا ونار الجحيم
لوسيا
:
إميل ما هذا؟ … …
إميل
:
… … … وهل غيره؟
لوسيا
:
من لي مجير؟ إن جسمي سقيم
إميل
:
يُجيركِ الكونت الذي أثَّرَت
أفعالُكِ فيه فصارَ الغريم
لوسيا
:
وأنت؟ … … … … …
إميل
:
… لا أنسى أفعالي التي
لا تأتي إلا من ظلومٍ لئيم
لوسيا
:
أنا وأنت … … … … …
إميل
:
… … … دون كلِّ الورى
أشقى من الشيطان ذاك الرجيم
(يدخل الكونت وجان وأوجين وأدريان وروبرت والحرس.)
الكونت
:
وهكذا يا ابن أخي النبيل، إلى أن أقرَّت لوسيا واعترف
إميل، فوضعتُهما في هذا السجن، يقاسيان أنواع الحزن،
فأخرجوهما في الحال؛ لنذيقهما مُر الوبال، (الحرس يخرجونهما) هذه
أوجين يا لوسيا، قد رجعَت بعد الموت إلى الدنيا، وهذا جان
الذي غرق في البحر، نجا منه وخلص من القهر، وهذا روبرت
وهذا أدريان، قد ردهما الله فضلًا منه وإحسانًا، وهذا
أنطونيو الفقير المسكين، قد خلص من كربه المهين، وهذه أنت
وهذا إميل، وكلٌّ منكما عن ذنبه وكيل، وهذا أنا وهذا سيفي
الصقيل، الذي يذيقكما كل عذاب وبيل، فبماذا
تجاوبان؟
لوسيا
:
لا جواب لنا يا ذا الإحسان، سوى الاعتراف بالخيانة،
أذنبنا، نعم أذنبنا ولا نستحق الغفران؛ لأن جرمنا عظيم
وخطايانا ظاهرة وما لنا لسان نعتذر به لديك، ولا وجه
نتوجَّه به إليك، قلوبنا تُوبِّخنا على ما فعلناه، وعقولنا
تؤنِّبنا على ما فَرَط منا، ولكن إذا أراد الله إنفاذ أمر
أوجد أسبابه، والسعيد سعيدٌ من الأزل والشقي يا مولاي
كذلك، والإنسان مسيَّر لا مخيَّر، والمقدَّر كائنٌ والسيف
الذي ضربنا به هو مسلول بيد الضارب، لا ينجو منا إلا من
حفظه الله، ولو أراد الله أن يهب لنا قلوبًا طاهرة،
وألسنةً فصيحة شاكرة، وأخلاقًا سليمة، ونياتٍ مستقيمة،
وعافيةً حميدة، وخاتمةً سعيدة، لفعل؛ يقرِّب من يشاء
ويُبعِد، ويُشقي من يشاء ويُسعِد، وهو الفعَّال لما يريد
وله الحُجَّة البالغة، سبحانه من إلهٍ قهار، يفعل ما يشاء
ويختار. قد أوقفني لديك موقف مجرمة، وأوقفك أمامي موقف
منتقم، وليس لك من الأمر شيء ولا مفر لي مما كُتب عليَّ
قبل وجودي، وأنا لا أطلب كرمًا ولا إحسانًا، ولا رحمة ولا
غفرانًا، ولا شفقة ولا عطفًا، ولا حنانًا ولا لطفًا؛ لأني
لا أستحق شيئًا من ذلك، بل أطلب منك أن تنتقم مني وتجازيني
على ما فعلت؛ لأني خنتُ ودَّك، ونقضتُ عهدك، وضيعتُ
أمانتك، وتعمَّدتُ خيانتك، فاقتلني الآن، ومن خان لا كان،
فأودِّعك تائبةً معترفةً مستغفرةً ذليلةً مسكينةً باكيةَ
العين مجروحة الفؤاد، وأودِّع ابنتي أوجين.
أوجين
:
يا رب العالمين! اعفُ عنهما يا أبي فقد عفوتُ عنهما،
وسامحتُهما بكل ما تُوقِّع منهما. يكفينا أن عُدنا سالمين،
ورجائي أن تكون مثلنا من الآمنين. وكذلك أرجو من ابن عمي
جان، أن يعاملها بالصفح والغفران؛ لأنه شبلٌ من أسد،
ورجائي عنده لا يُرد، فقولا بالله قد عفونا.
الكونت
:
تجاوَزْ عن الذنب العظيم تكرمًا
فيكفي المسيءَ الذلُّ والعذرُ
والكربُ
إذا ما امرؤٌ من ذنبه جاء تائبًا
إليكَ ولم تغفر له فلكَ الذنبُ
الجميع
:
قد عفَونا.
لوسيا
:
هكذا يكون الكرم، وتكون محاسن الشيم، فأبقاكما يا رب
العالمين، وحفظ ابنتي أوجين.
الكونت
:
حيث قد زالت الأتراح، فهيا بنا نُقيم الأفراح، ونسأل
المولى المجيد أن ينصر سُلطاننا عبد الحميد.