سقراط وامتحان النفس في الحياة
رُبَّ قائل يقول: «ولكن يا سقراط، ألَا تستطيع أن تُمسك لسانك بالارتحال إلى مدينة أخرى؟» وعسير جدًّا أن أُفهِم بعضَكم جوابي عن هذا السؤال. فلو أنبأتكم أني لو فعلت ذلك لكان عصيانًا مني للإله، ولذلك لا أملك حبسًا للساني، لَمَا صدَّقتم أن يكون جِدًّا ما أقول. ولو قلت بعد ذلك إن أعظم ما يأتيه الإنسان من خير هو أن يحاور كلَّ يوم في الفضيلة وما يتصل بما سمعتموني أُسائل فيه نفسي وأُسائل الناس، وإن الحياة التي تخلو من امتحان النفس ليست جديرةً بالبقاء؛ كنتم لهذا أشدَّ تكذيبًا. («الدفاع»، ٣٧ه-٣٨أ) [ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود بتصرف]
إن سقراط هو بطل معظم محاورات أفلاطون، وأحد أهداف أفلاطون، في العديد من أعماله، هو كسب أتباع لطريقة الحياة السقراطية. ولكن ماذا يمكننا أن نعرف حقًّا عن سقراط الذي حدثنا عنه التاريخ؛ الرجل الذي عاش ومات، وليس الشخصيةَ التي تظهر كلماتُها على صفحات كتابات أفلاطون؟
لا يوجد لدينا أيُّ عمل فلسفي لسقراط، ويرجع ذلك بالتأكيد إلى أنه لم يكتب شيئًا. فلا ينسُب أيُّ مصدر قديم إليه أيَّ عمل مكتوب أو يتحدث عنه بوصفه مؤلِّفًا. والمصدر الوحيد لما نعرفه عنه هو الكُتَّاب الذين يكتبون عنه أو يُجْرون على لسانه، كما يفعل أفلاطون، الكلماتِ في أعمالهم الفلسفية. ويمكننا أن نقول إن سقراط كان شخصيةً بارزة في أثينا خلال النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد، والسبب في ذلك ليس فقط ظهورَه في أعمال أفلاطون. فلم يكن سقراط يعيش حياة منعزلة تقتصر فقط على مجموعة صغيرة من الأصدقاء والمعارف. بل تؤكد العديد من المصادر كونَه شخصيةً عامة ورجلًا مثيرًا للجدل.
إن سقراط هو الشخصية الرئيسية في المسرحية الكوميدية التي كتبها أرسطوفانيس: «السُّحب» (عُرِضَت لأول مرة على خشبة المسرح في ٤٢٣ قبل الميلاد، أي قبل سنوات عديدة من محاكمة سقراط والحُكم عليه بالإعدام في ٣٩٩ قبل الميلاد). اعتمد أرسطوفانيس على أن جمهوره يمتلك بعض المعرفة المُسبَّقة عن سقراط؛ مما سيساعدهم على فهم شخصية سقراط كما تم تصويرها في المسرحية. فقد صوَّر سقراط في مسرحية «السُّحب» باعتباره شخصيةً غريبة وغير أخلاقية وجذابة للشباب الأثرياء الفاسدين. وصوَّره باعتباره شخصًا يتبنى أفكارًا علمية زائفة ومفاهيمَ خطيرةً لا تمُتُّ للأخلاق بصلة. وفي نهاية المسرحية، أُحرِق مكانُ عمله (الذي يشبه معملًا بحثيًّا)، إذ أراد الرجل الذي غَشَّه سقراط أن ينتقم. وبغضِّ النظر عن الظلم المُحتمل في تصوير أرسطوفانيس لشخصية سقراط (فهو متحمس للسخرية من نوع معين من الأفراد؛ كما هو متحمس لإدراج سقراط في تلك الفئة)، فإنها بالتأكيد صورة لشخصية عامة معروفة.
كتب أفلاطون وعديدٌ من الكُتَّاب الآخرين في النصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد ما أطلق عليه أرسطو «الحوارات السقراطية»؛ وهي محاورات تضم سقراط ومحاورين آخرين. لم تكن محاورات أفلاطون فريدة تمامًا؛ فعندما كتبها كان يساهم — وإن لم يكن بطريقة منسقة — في نوع أدبي مخصص لإبقاء ذكرى سقراط حيةً من خلال تصويره في محادثات مع الآخرين. والكاتب الآخر الذي بقيت أعماله، كاملةً، التي صوَّر فيها سقراط في المحاورات، هو الجنرال الأثيني والمؤرخ زينوفون. فكتابه «المُذكِّرات» (ميمورابيليا) هو كتاب أساسي لأي شخص لديه الفضول حول سقراط الذي ذُكر في التاريخ، فرغم أن تصويره لسقراط قد تشابه في العديد من الجوانب مع الصورة التي رسمها أفلاطون، فهناك أيضًا اختلافات جوهرية.
لا يتوافق تصوير أفلاطون أو زينوفون لسقراط مع ذاك الذي رسمه أرسطوفانيس. وبسبب هذه الاختلافات بين روايات شهود العيان، يكتنف الغموض مسألة تحديد كيف كان سقراط الحقيقي، وما الذي قاله. يخلُص بعض العلماء إلى أنه يمكن معرفة القليل عن سقراط الحقيقي. فربما كان أفلاطون وزينوفون يشوِّهان الحقيقة؛ ربما لم يلتزم أيٌّ منهما بمعاييرَ عالية من الدقة التاريخية.
ما يمكننا أن نكون متأكدين منه هو أن سقراط قضى رَدحًا من حياته في التحقيق في الأسئلة الأخلاقية المجردة؛ من خلال تحفيز مُحاوريه للدفاع عن معتقداتهم الأساسية فيما يتعلق بالطريقة التي ينبغي لهم أن يعيشوا بها حياتهم. وفي هذا الصدد، يتفق أفلاطون وزينوفون بشأن سقراط، ولا يوجد تفسير أفضل للسبب وراء سوء سمعة سقراط. كما أنه لا يوجد شك في أنه حوكِمَ بتهمة الفجور في عام ٣٩٩ قبل الميلاد، وأُدين، وحُكم عليه بالإعدام. والافتراض الشائع هو أن سقراط تجرَّع الشوكران، وهو السمُّ الذي غالبًا ما كان يُستخدم لتنفيذ عقوبة الإعدام. ويُزعَم أن محاورة «الدفاع» التي كتبها أفلاطون هي الخطاب الذي ألقاه سقراط في دفاعه عن نفسه أثناء محاكمته، وسواءٌ كان هذا الخطاب أقرب للحقيقة أم لا، فهو لا غِنى عنه لدراسة فلسفة أفلاطون، لأنه ينقُل، أفضل مِن أيٍّ من أعماله، السببَ في أن سقراط أثَّر فيه وفي الآخرين تأثيرًا عميقًا جدًّا. وسواءٌ قال سقراط فعلًا أمام القضاة، كما ذكر أفلاطون في المقتطف أعلاه، إن «الحياة التي تخلو من امتحان النفس ليست جديرةً بالبقاء» — سواء استخدم هذه الكلمات بالضبط أو كلماتٍ بنفس المعنى — فهو أمر أقلُّ أهمية لفهم أفلاطون مقارنةً بحقيقة أن هذه الكلمات تلخِّص ما اعتبره أفلاطون جوهر نهج سقراط في الحياة.
ووَفقًا لأفلاطون وزينوفون، فإن الاتهاماتِ المحددةَ التي وجهها القضاة لسقراط هي إفساد الشباب والكفر بالآلهة التي اعترفت بها أثينا، وتقديسُه، بدلًا منها، لآلهة غريبة وجديدة. ولا يمكننا التأكد مما إذا كانت هذه الاتهامات مجرد ذريعة لتشويه صورة سقراط. فقد كان سقراط مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بعدة شخصيات لعبت دورًا بارزًا في الحياة السياسية الأثينية. فقد خان أحدهم، وهو ألكيبيادس، أثينا في حربها مع إسبرطة، وهي الحرب التي بدأت عام ٤٣١ قبل الميلاد وانتهت بهزيمة أثينا عام ٤٠٤ قبل الميلاد، وهي موضوع العمل التاريخي العظيم لثوقيديدس، «الحرب البيلوبونيسية». وكان آخَرُ، وهو كريتياس، مؤلفًا مناهضًا للديمقراطية، وقد لعب دورًا بارزًا في الإطاحة، لفترة وجيزة عام ٤٠٤ قبل الميلاد، بالديمقراطية الأثينية وتنصيب حكومة عسكرية قوامُها ثلاثون رجلًا (أُطلق عليهم في العصور القديمة اسم «الطغاة الثلاثون»). وما يؤكد الروابط الوثيقة لسقراط مع هاتين الشخصيتين هو ظهورهما في بعض محاورات أفلاطون باعتبارهما متحاورَين في المحادثات مع سقراط. إذَن، من الممكن بالتأكيد أن يكون أنصار الديمقراطية الأثينية، بعد هزيمة الطغاة الثلاثين، وبسبب القلق حول إمكانية حدوث انقلابات مستقبلية، قد رأوا أنه من الأفضل تخليص أثينا من رجل كان حليفًا بارزًا لأعداء خطيرين للحكم الديمقراطي، وكان يمثِّل تهديدًا للنظام العائد مرة أخرى. كان قد مُنِح عفوٌ للقوى المعادية للديمقراطية؛ ومن ثَمَّ لم يكن من الممكن قانونيًّا توجيهُ اتهام لسقراط في هذا الصدد. إذَن، اعتُبر إحضاره للمحاكمة بتهمة الفجور وسيلةً للتحايل على قرار العفو.
إن الادعاءاتِ القائلةَ بأن سقراط كان يفسد الشباب، وأنه لم يكن يختلف عن السفسطائيين، وأن لديه، مثل بعضهم، أفكارًا دينية غير تقليدية، ربما كانت مخاوفَ أخذها المتَّهِمون والقضاة على محمل الجد. وسواءٌ كان هناك بُعد سياسي ضمني لمحاكمته أم لا، فإن الخوف من الانحراف الديني من المرجح أن يكون واحدًا من الظروف الاجتماعية التي أدت إلى إعدامه. كما يدَّعي سقراط في عدة أعمال لأفلاطون، ومنها محاورة «الدفاع»، أن صوتًا إلهيًّا يتحدث مباشرة إليه؛ وهو يُصرُّ في هذا العمل على أن واجباته الدينية، كما يفهمها، أكثر أهميةً من التزاماته تجاه بني جلدته. ولم يكن من الصعب على قاضٍ سمع خطابًا مشابهًا تقريبًا للخطاب الذي نجده في محاورة «الدفاع» لأفلاطون، أن يستنتج، ببساطة على أساس التوجه الديني الغريب لسقراط، أنه كان يُشكِّل خطرًا على المدينة. ففي النهاية، بما أن تَصوُّر سقراط لواجباته الدينية يجعل هذه الواجبات أكثر أهمية من التزاماته المدنية، فربما كان يُعلِّم الشباب الذين يجذبهم أنهم أيضًا يجب أن يتَّبِعوا فَهمهم الخاص لما ترغب فيه الآلهة، ويتجاهلوا القرارات الديمقراطية للمجلس الأثيني.
علاوةً على ذلك، يدرك سقراط أن العديد من بني جلدته لا يأخذونه على محمل الجد عندما يصور نفسه بأنه شخص سمحٌ «يحاور كل يوم في الفضيلة»، ويرفض أن يمسك لسانه، أو أن يرتحل إلى مدينة أخرى؛ لأن ذلك سيكون «عصيانًا للإله». فهم يظنون أنه ليس جادًّا في كلامه، أي إنه يقول شيئًا ولكنه يعني شيئًا آخر. وسيكون من الطبيعي أن يشتبه القضاة في أن ثَمة شيئًا أكثر خطورةً مما يعترف به سقراط في طيات هذه المحادثات. لذا، فإن محاورة «الدفاع» لأفلاطون لها على الأقل بعض المصداقية؛ باعتبارها نظرةً عامة لطبيعة الكلمات التي أدلى بها سقراط أمام القضاة؛ قد يكون هذا الخطاب قد أغضب ما يكفي من القضاة لإدانته.
بوسعنا القول بكل اطمئنان، إن أفلاطون كان على معرفة شخصية بسقراط الحقيقي، وإنه، وآخرين من أبناء جيله، أحسوا لذة في سماعه «يحاور كل يوم في الفضيلة»؛ لدرجة أنهم كرَّسوا حياتهم بعد موته في كتابة محاورات يشارك فيها سقراط في مثل هذه المحادثات. كان أفلاطون يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا عندما مات سقراط. وليس من المعروف إذا ما كان بدأ كتابة المحاورات التي يظهر سقراط فيها قبل ٣٩٩ قبل الميلاد، ولكن يُفترض أن ذلك مستبعَد؛ فلماذا سيكترث أي شخص بقراءة حوار يظهر فيه سقراط؛ في حين أن سقراط الحقيقي لا يزال على قيد الحياة ويتوق للحديث؟ في كل الأحوال، إذا كان أفلاطون قد كتب «الدفاع» عقب وفاة سقراط مباشرةً، عندما كان الحدث لا يزال حاضرًا في الذهن، وكتب بقية محاوراته بعد هذا العمل، فإن مسيرته في الكتابة تكون قد استمرت نحو نصف قرن. فقد توفي عام ٣٤٧ قبل الميلاد.
لا يمكننا معرفة ما إذا كان سقراط قد قال بالفعل: «إن الحياة التي تخلو من امتحان النفس ليست جديرة بالبقاء»، أو ما إذا كانت هذه الكلمات صاغها أفلاطون نفسه. فلا تظهر هذه الكلمات في أي موضع آخر في كتابات أفلاطون. ومع ذلك، فإن محاوراته تُظهر جليًّا تفسيره لكلمات سقراط. فعندما نقرأ محاوراته القصيرة عن الأخلاق مثل «يوثيفرو»، و«لاكيس»، و«خارميدس»، و«ليسيس»، و«بروتاجوراس»، و«هيبياس الأصغر»، و«مينو»، نجد سقراط منخرطًا في المحادثات المثيرة للجدل؛ إذ يطرح أسئلة أخلاقية صعبة، غالبًا ما تكون محيرة في تجريدها: ما التقوى («يوثيفرو»)؟ ما الشجاعة («لاكيس»)؟ هل يمكن تعليم الفضيلة («بروتاجوراس» و«مينو»)؟ هل من يتعمَّد الكذب أفضلُ ممن يفعله بغير قصد («هيبياس الأصغر»)؟ يقدم شريك سقراط في المحادثة أحيانًا إجابة فورية، أو يتم توجيهه عبر سلسلة من الأسئلة الأخرى لاقتراح إجابة. وبعد ذلك، تخضع هذه الإجابة للفحص الدقيق؛ لمعرفة ما إذا كانت تتناسب مع المعتقدات الأخرى للمحاور، وسرعان ما يتضح أنه لا يمكن التمسك بها؛ لأنها تؤدي إلى تناقض داخلي، وهو تناقض بين الافتراضات التي طرحها المحاور. وغالبًا ما يتم تقديم العديد من الإجابات الأخرى، ولكن في النهاية، لا يتم التوصل إلى إجابة مُرْضية. وينتهي الحوار باعتراف سقراط بأنه يفتقد المعرفة حول الموضوع قيدِ النقاش، على الرغم من أهميته الشديدة.
إن فكرة أن «الحياة التي تخلو من امتحان النفس ليست جديرة بالبقاء» تعني أن الحياة التي تُمتحَن فيها النفس هي حياة جديرة بالبقاء؛ لأنها ببساطة تتضمن نقدًا للذات. ويعني ذلك أن ثَمة شيئًا ذا قيمة كبيرة يحدث في المحادثات السقراطية، حتى عندما لم يُتوصَّل إلى حلٍّ مُرضٍ للمشكلة الأولية. فعملية طرح الأسئلة ذات الصلة بالأخلاق هي في حد ذاتها عملية نافعة حتى لو لم توصلنا إلى استنتاج نهائي. ويوضح سقراط في خطابه السببَ الذي جعله يعيش حياته بتلك الطريقة، وقد سلَّط الضوء في هذا الخطاب على قيمة التأمل العميق في الموضوعات ذات الصلة بالأخلاق. لقد نقل سقراط إلى أفلاطون، كما لم يفعل أي شخص آخر، أهميةَ الانخراط فلسفيًّا في معضلات الحياة الأخلاقية، وقدم نموذجًا لما يعنيه الانخراط فلسفيًّا في هذه المشكلات.
من الواضح أن أفلاطون كان ينظر لسقراط باعتباره شخصًا سما فوق المعايير الأخلاقية والدينية المتعارف عليها، وأنه دفع حياته مقابل ذلك السمو؛ لأن ذلك قوبِلَ بالاستياء من بني جلدته. فطَوال محاورة «الدفاع» ظل سقراط يوبِّخ القضاة الذين كانوا يحاكمونه بسبب معاييرهم الأخلاقية المتساهلة؛ فأكثر ما يَشغَلهم هو أن يَنعموا بحياة مديدة وهنيئة، ولا يمكنهم التفكير في شيء أكثر قيمةً من الثروة، أو السمعة، أو السلطة، وهم على استعداد لمخالفة القانون، إذا لزم الأمر، لتحقيق أهدافهم. ولم ينتابهم القلق قط بشأن ما إذا كانت الأهداف التي يسعون إليها هي أهداف ذات قيمة. قد يعتبِرون أنفسهم أناسًا صالحين، ولكنه يرى أن فضيلتهم هذه زائفة، إذا كانت مبنيةً على قَبول القيم التي يكافئها مجتمعهم، دون تفكير في أهمية هذه القيم. إذ يجب على كل واحد منا أن يجد طريقة للتأكد من أن ما نسعى إليه في حياتنا يستحق أن نبذل فيه جهدنا. ويتساءل سقراط كيف يمكننا فِعلُ ذلك إلا من خلال المحادثات التي يجريها دائمًا؟ إن أفلاطون مقتنع تمامَ الاقتناع بأن سقراط كان على حق في ذلك، وأنه كان محقًّا في توبيخ بني جلدته بسبب تمسكهم بالتقاليد، وتخاذلهم، وفسادهم.
يرتبط العديد من أعمال أفلاطون بمحاورة «الدفاع»؛ إذ تستعرض تفاصيلَ إضافية لمحاكمة سقراط ووفاته. ففي «يوثيفرو»، يستعد سقراط للرد على الاتهامات القانونية الموجَّهة ضده، ويلتقي رجلًا في السوق — يوثيفرو — كان قد رفع دعوى أمام القضاء، فقد اتهم للتو والده بقتل خادم. وعندما يعرف يوثيفرو من سقراط أنه متهم باصطناع آلهة لنفسه، يفترض على الفور أن الصوت الإلهي الذي يدَّعي سقراط أنه يسمعه هو سبب مشكلاته القانونية. ويُجري مع سقراط محادثة تتعلق بطبيعة الوَرَع. يتساءل فيها سقراط عما إذا كانت هناك بعض العلامات المميِّزة التي تجعل بعض أفعالنا صحيحة من الناحية الدينية، وبعضَها الآخر غير صحيح. ويتضح أن يوثيفرو غير قادر على الإجابة عن هذا السؤال، ولم يفكر فيه، ومع ذلك فهو مقتنع تمامًا بأن لديه التزامًا دينيًّا بتقديم والده إلى المحاكمة.
ولأن يوثيفرو ليس لديه معيار أو قاعدة عامة يمكنه من خلالها تحديدُ التزاماته الدينية، فإنه يُصوَّر باعتباره شخصًا سطحيًّا وتافهًا. ربما يرتكب ظلمًا فادحًا تجاه والده بتقديمه للمحاكمة، لكنه يستمر في ذلك بقناعة تامة بأنه على حق، رغم أنه لا يملك وسيلة لتحديدِ ما إذا كان يتصرف بشكل صحيح أم خاطئ. ويوجه سقراط، كما هو مصوَّر في «الدفاع»، الاتهامَ نفسه لجميع الأثينيين؛ فهم أناس غافلون لأنهم لم يمحِّصوا ذواتهم كما فعل سقراط. وليس من المستغرَب أنهم أحيانًا قد يحيدون بشدة عن الطريق الصحيح، بل يرتكبون جرائم خطيرة، كل ذلك بينما يعتبرون أنفسهم صالحين. فوجود النوايا الحسنة والتصرف بناءً عليها ليس كافيًا لتصنيف شخصٍ ما على أنه شخص صالح؛ فقد يمتلك الشخص نوايا حسنةً لكنه لا يدرك ما هو أكثر قيمة. وما يجب إضافته إلى النوايا الحسنة هو تمحيص الشخص لحياته كما يقترح سقراط. يمكن لهذا وحده أن يضمن أن الأهداف التي يسعى الشخص لتحقيقها هي أهداف ذات قيمة حقيقية.
يوشك أفلاطون أن يقول، في «الدفاع» وفي «يوثيفرو»، إن الفلاسفة — الأشخاص المتفانين في المحادثة الفلسفية مثل سقراط — هم فقط من يمكن أن يكونوا فُضلاء. (سيضع هذه الفكرة بالتحديد على لسان سقراط في «فايدو».) ينبغي أن ندرك مدى تطرف هذا الادعاء، ومدى براعة أفلاطون في محاولته أن يقودنا إلى تقبُّله. قد يبدو منطقيًّا أن المعايير التي نحتاج إلى الوفاء بها لكي نُعَد أشخاصًا صالحين ليست صعبة. فنحن غالبًا ما نفترض أن ما يجب علينا فعله لكي نكون صالحين هو أمر واضح ومفهوم غريزيًّا ومتاح لأي شخص لديه نوايا حسنة. لكن وصف أفلاطون لسقراط يقوِّض هذا الاعتقاد ويستبدل به فكرة مختلفة جدًّا؛ وهي أننا بحاجة إلى أن نطرح على أنفسنا أسئلة فلسفية صعبة إذا أردنا شيئًا أكثر قيمة من مجرد الظهور بمظهر الفُضلاء.
في «كريتو»، كان قد حُكِم على سقراط بالإعدام، وهو في انتظار يوم إعدامه. فعرض كريتو، أحد أصدقاء سقراط، رشوةَ حراس السجن للسماح لسقراط بالهروب والعيش في المنفى بعيدًا عن أثينا. إذ يقول كريتو إن سقراط في نهاية المطاف بريء من التهم الموجَّهة إليه ومحكوم عليه ظلمًا بالإعدام. ويقول إن من واجب سقراط تجاه أصدقائه أن يبقى على قيد الحياة. يبدو أن «كريتو»، على غرار «يوثيفرو»، هي سرد لمحادثة وقعت بالفعل، لكن ليس لدينا طريقة للتأكد من صحة وقوعها. فهدف أفلاطون هو التأكيد على السمو الأخلاقي لسقراط. وبلا شك، كان بإمكان سقراط الهروب من السجن، لو أراد ذلك؛ ومن المستبعَد أن يذكر أفلاطون ذلك باعتباره حدثًا محتملًا ما لم يكن كذلك. لكن أفلاطون يدعي أن سقراط لم يكن ليَقبَل عرض الهروب؛ لأنه ما كان ليخالف مطلقًا القوانين والإجراءات القانونية لمدينته، حتى عندما تنادي تلك القوانين والإجراءات بإعدامه.
يحثُّ أفلاطون قُرَّاءه على الاعتقاد، قبل كل شيء، بأن سقراط هو ذلك الشخص الذي يضحي بحياته، ويخيب آمال أصدقائه، ويترك أطفاله بلا أب؛ لإيمانه بأن العدل يحتِّم عليه فعل ذلك. لقد تحدى الاعتقاد السائد (سواء اليوم أو في العصور القديمة) بأن الشخص الذي أُدين خطأً ويواجه عقوبة الموت، له الحق في محاولة الإفلات من العقاب.
ينتهي سرد أفلاطون لمحاكمة سقراط وموته في «فايدو». ويُزعَم أنها المحادثة التي أجراها سقراط مع بعض من أقرب رفاقه قبل وقت قصير من تجرُّعه السم الذي أدى إلى وفاته، وموضوع المحاورة هو طبيعة الروح وإمكانية بقائها بعد الموت. وعلى غرار ما حدث في «كريتو»، وعلى عكس ما حدث في «يوثيفرو»، تصل المحاورة إلى استنتاج واضح: يقدِّم سقراط بثقة ليس فقط حجة واحدة بل أربع حجج لإثبات أن الروح لا تفنى أبدًا، ومن ثَمَّ فهي باقية حتى بعد فناء الجسد.
يرى كثير من الباحثين أن هذه الحجج المتعلقة بخلود الروح هي من بنات أفكار أفلاطون نفسه، وليست أفكار سقراط الحقيقي. فأفلاطون ليس ناقلًا سلبيًّا لكلام الآخرين، ولكنه فيلسوف مُبدع ومبتكر في ذاته، وهو يستخدم شخصية تُدعى سقراط لتحقيق أهدافه الفلسفية. فأفلاطون سليلُ عائلةٍ ثرية لديها نفوذ سياسي، وكان بإمكانه بسهولة أن يكون له دور مؤثر على الساحة السياسية الأثينية. وكان سقراط هو من جعله يغير مساره، ويرى أهمية الحياة التي يمحِّص فيها المرء نفسه. ولحسن حظنا أن أفلاطون، خلافًا لسقراط، وجد طريقة ليعيش هذه الحياة، ليس فقط من خلال المحادثات مع سقراط والآخرين، ولكن أيضًا من خلال توثيق أفكاره الفلسفية في الأعمال المكتوبة الأكثر ديمومة.