السفسطائيون والخطباء وتأسيس القواعد الاجتماعية
بروتاجوراس: … يتحمس الجميع لأن يقولوا ويُعلِّم بعضُهم بعضًا ما هو عادل وما هو متفِق مع القواعد المتبعة المتوارثة … الجميع يُعلِّمون الفضيلة، كلٌّ بحسَب ما يستطيع، بحيث لا يبدو لك [يا سقراط] أن هناك من يُعلِّمها. والحال كحال أن تبحث عن شخص يُعلِّم التكلم باليونانية، فإنك لن تجد أحدًا. «بروتاجوراس»، (٣٢٧ب-٣٢٨أ) [ترجمة دكتور عزت قرني بتصرف]
كاليكليس: أرى أن الضعفاء والسواد الأعظم هم الذين سنُّوا قوانيننا! وهم لذلك قد سنُّوها لأنفسهم ولمصالحهم الشخصية؛ ولهذا تراهم لا يوزعون ثناءهم ومديحهم، أو لومهم وعتابهم، إلا من أجل تلك المصالح. إنهم يخافون الأقوياء — وهم أولئك الذين يستطيعون أن يحصلوا على نصيب أكبر — ولكيما يحولوا بينهم وبين حصولهم على نصيب أكبر، تراهم يقولون إن الظلم والعار في الطمع فيما هو أكثر من نصيبك … ولكني أرى أن الطبيعة نفسها تعلن أن العدل إنما يقوم في أن ينال الأحسن والأقوى أكثر من الأدنى والأضعف. («جورجياس»، ٤٨٣ب-د)
هاتان المحاورتان هما دراستان لفلسفات متناقضة، وهما من أكثر أعمال أفلاطون جاذبية. كان بروتاجوراس، وهو سفسطائي مشهور، معاصرًا لسقراط، أما كاليكليس، وهو واحد من القلائل الذين تحدثوا في أعمال أفلاطون وقد يكونون شخصيات خيالية، فقد كان معجبًا بجورجياس، وهو معلم خَطابة مشهور وأحد معاصري سقراط. وفي كلتا المحاورتين، يستخدم أفلاطون التباين بين رأي سقراط ورأي هذين الخصمين لطرح واحد من أكثر الأسئلة الأساسية للفلسفة الأخلاقية: بأي معيار يمكننا اختبار صلاحية قواعد وقيم مجتمعٍ ما؟ سيُطرَح هذا السؤال مرة أخرى في «الجمهورية» لأفلاطون ويستخدم أفلاطون في ذلك الكتاب أيضًا نقاشًا بين سقراط ومثقف آخر (ثراسيماخوس، معلم الخطابة) لإضفاء التأثير الدرامي على المسألة.
كان السفسطائيون عادةً لا اختصاصيين؛ فقد تنقَّلوا من مدينة إلى أخرى، يعطون الناس دروسًا — في العلوم والرياضيات والتاريخ والنقد الأدبي وعلم دلالات الألفاظ وفن الإقناع — وكان مستوى هذه الدروس أعلى بكثير من دروس المبتدئين التي يتلقاها أبناء اليونانيين الأثرياء من معلميهم الخصوصيين. أما معلمو الخطابة فقد تخصصوا في هذا العلم فحسب؛ إذ كان التفوق في الخطابة هو المهارة الوحيدة التي يمتلكونها ويعلمونها. ففي المدن الديمقراطية، مثل أثينا، كانت القدرة على التحدث بلباقة أمام جمهور غفير — في قاعة محكمة أو اجتماع — هي السبيل لاكتساب سلطة عظيمة، ومثل السفسطائيين، كان معلمو فن الكلام يطلبون أجورًا كبيرة من الشباب الأثرياء الذين كانوا يطمحون للوصول للسلطة.
لماذا يختلف أفلاطون مع هؤلاء الناس؟ ولماذا يحرص على تعظيم الفروق بينهم وبين سقراط؟ وجَّه أفلاطون انتقادات مختلفة لكلٍّ من بروتاجوراس وجورجياس وكاليكليس وغيرهم من المثقفين. ومع ذلك، فثَمة عامل مشترك يمكن ملاحظته في جميع محاوراته حول السفسطائيين والخطباء. وهو أنهم جميعًا يعلِّمون مهارات يمكن استخدامها في الخير أو الشر، ومن ثَم فإن المعرفة التي يتقاضون أجرًا نظير تعليمها يمكن أن تتسبب في أضرارٍ بالغةٍ ما لم تكن مصحوبة بفهم واضح للغرض منها. ما يقصده أفلاطون هو أنه لا توجد معرفة تستحق تعلُّمها ما لم تؤدِّ إلى فَهم أفضل لما هو جيد للبشر. وهذا لا يعني أننا يجب ألا نَدرُس الرياضيات والعلوم، أو نكتسب المهارة لنكون محاورين وموسيقيين وشعراء. يرى أفلاطون أن هذه المهارات مهمة؛ بشرط ألا تكون منفصلة عن فَهم القيمة. فسبب ضلال السفسطائيين ومعلِّمي الخطابة هو أنهم متخصصون لا يُلقون بالًا للبعد الأخلاقي. فهم يعلمون هذا الموضوع أو ذاك، ولا يرون أيَّ ارتباط بين المهارات التي ينقُلونها وأهم مهارة على الإطلاق؛ البصيرة الأخلاقية.
دعونا نرى بمزيد من التفصيل كيف انتقد أفلاطون السفسطائيين والخطباء. ففي محاورةٍ تحمل اسم بروتاجوراس، السفسطائي الأشهر في القرن الخامس قبل الميلاد، يسأل سقراط أبقراط، وهو شابٌّ لديه رغبة عارمة في أن يصبح تلميذًا لبروتاجوراس، كيف يتوقع أن يستفيد مِن أخْذ دروس مع هذا المعلم العظيم. وكما يحدث غالبًا في أعمال أفلاطون، يعجز الشاب عن تقديم إجابة مُرضية. فهو يعرف أن بروتاجوراس يوصف بأنه سفسطائي، ولكنه لا يستطيع أن يحدد معنى هذه الكلمة، أو مدى عِلم هذا الشخص، أو ما النفع الذي سيعود عليه إن تتلمذ على يديه، إذا كان هناك أي نفع. (في كتاب «مينو» لأفلاطون، الذي يُعتقد أنه كُتِب تقريبًا في نفس الوقت الذي كتب فيه «بروتاجوراس»، نجد موقفًا معاكسًا، لكنه ليس أقل حُمقًا: ففي الكتاب، نجد شخصية تُدعى أنيتوس، وهو واحد ممن اتهموا سقراط في «الدفاع»، وهو على يقين بأن للسفسطائيين تأثيرًا سيئًا، ولكنه يعترف أنه لم يلتقِ بأيٍّ منهم.) وعندما يوجه سقراط سؤاله حول فوائد التتلمذ على يد أحد السفسطائيين ولكن هذه المرة لبروتاجوراس، يجيب الأخير قائلًا إن أبقراط سيصبح رجلًا أفضل على الفور، وسيستمر في التحسن، يومًا بعد يوم. فيسأل سقراط: «كيف سيكون أفضل؟» فيجيب بروتاجوراس قائلًا إن جميع تلاميذه يكتسبون المهارات اللفظية والإدارية اللازمة ليكونوا مواطنين صالحين وأقوياء.
ومع استمرار الحوار، يتضح أن بروتاجوراس يرى أن المواطن الصالح والقوي يجب أن يتمتع بمجموعة من الصفات المتعارَف على كونها صفات حسنة، مثل الورع والشجاعة والعدل. وهو يرى أنه لا يوجد عامل مشترك يجمع بين هذه الفضائل، ومن ثَم لا يوجد ما يثبت كونها فضائل حقيقية. بل هي مجرد مجموعة من العادات والأفكار المتنوعة التي يكتسبها كل عضو مؤهل عقليًّا في المجتمع من خلال استيعاب أعرافه ومعاييره. يفترض بروتاجوراس أنه لا يوجد سبب وراء وجود المعايير الأخلاقية للمجتمع، فلا شيء يمكن أن يفسر السبب في أن هذه المعايير (وليس أي معايير أخرى كان من الممكن أن توجد في المجتمع) هي الأنسب أو الأكثر ملاءمة. ويُشبِّه بروتاجوراس تعلُّم مثل هذه الفضائل كالعدل والورع بتعلُّم اللغات. فمن خلال الممارسة المتكررة، نصبح نوعًا ما حاذقين في تفسير القواعد الاجتماعية المعمول بها في هذا الزمان والمكان بالذات. لذلك يقول إن «الجميع يُعلِّمون الفضيلة، كلٌّ بحسَب ما يستطيع»، ولهذا السبب لا ينتبه أحد لهذه المهارة العامة. ففي كل مرة ينتقد بعضنا بعضًا أخلاقيًّا، أو نطلب مطالب أخلاقية، أو نعطي نصائح أخلاقية، نحن نستدعي، أو نفسر، القواعد الاجتماعية التي تعلمناها تدريجيًّا. نحن نفعل ذلك كثيرًا ودون تفكير، لدرجة أننا لا ندرك أننا نُعلِّم الفضيلة، تمامًا كما نغرس قواعد لغتنا المشتركة في كل مرة نستخدمها.
يعرض بروتاجوراس وجهة نظر ثاقبة: على الرغم من أن بعض الناس يكسبون رزقهم عن طريق تعليم لغة ثانية، والآباء يلعبون دورًا خاصًّا في إكساب طفلهم اللغةَ الأولى، فإن كل متحدث يلعب، ولو دورًا صغيرًا، في تعليم الآخرين قواعد استخدام اللغة؛ لأن هذه القواعد توجد فقط من خلال استخدامها المستمر. إن تشبيه بروتاجوراس قواعدَ اللغة بالقواعد الأخلاقية هو تشبيه ذكي. فهو يريدنا أن نستخلص أنه على الرغم من أن بعض الناس أكثر تفانيًا في تعليم الفضيلة من غيرهم (وهو يعتبر نفسه من هؤلاء الأشخاص)، فإنه يجب أن يُعَدَّ كلُّ من يشارك في المجتمع ويتبع قواعده أيضًا معلمًا للفضيلة.
يتجاهل أفلاطون أحيانًا ذِكر أحد الافتراضات الأساسية التي اعتمد عليها أحد محاوريه أثناء المحادثة، مشجعًا بذلك قرَّاءَه على ملاحظة هذه الإغفالات ومعالجتها. وتشبيه بروتاجوراس عملية تعليم اللغة بعملية تعليم الفضيلة هو مثال على ذلك، فلم يذكر، هو ولا سقراط، صراحةً ما قد يبدو بديهيًّا عندما نعرضه على العقل: فعلى غرار كيفية اختلاف القواعد الأخلاقية المختلفة بين المجتمعات المختلفة، فإن ما يُعَدُّ خطابًا مناسبًا يمكن أن يتغير بتغيُّر توقعات الجمهور. ولكن بمجرد أن نلاحظ تلك النقطة، نجد أنها تشير إلى فرق ظاهر بين القواعد الأخلاقية واللغوية؛ فلا أحد يظن أن هناك قاعدةً صحيحة واحدة حول ما إذا كانت نهايات الأسماء، على سبيل المثال، يجب أن تختلف وَفقًا لاستخدامها فاعلًا أو مفعولًا به للأفعال. وعلى النقيض، ننظر إلى المجتمعات الأخرى، ونسأل ما إذا كانت طرق تنظيم السلوك لديهم أفضل أو أسوأ من طرقنا. بعبارة أخرى، تخضع الممارسات اللغوية لأعراف اعتباطية، ولكن من الصعب أن نتصور أن مسألةَ ما إذا كان ينبغي السماح اجتماعيًّا بقتل الرُّضَّع أو حظره يمكن أن تخضع، هي الأخرى، لأعراف اعتباطية.
لدى بروتاجوراس ردٌّ على هذا الاعتراض، لكنه لم يذكره في المحاورة التي سُميت باسمه. فقد عُرف عنه ادعاؤه أن «الإنسان هو مقياس كل الأشياء.» وهذا أيضًا افتراض غير معلَن يعتمد عليه عندما يشبِّه تعليم الفضيلة باكتساب المهارة اللغوية. يفترض بروتاجوراس أن ما يحدد صحة إحدى العبارات (ما «يقيسها») ليس سوى الرأي العام الذي تتبناه الجماعة التي ينتمي إليها المتحدث (هذه الجماعة من البشر هم المقياس). فليس هناك شيء صحيح بطبيعته أو خطأٌ بطبيعته، جيد أو سيئ؛ بل إن «الصحيح» و«الجيد» هما اختصار ﻟ «الصحيح أو الجيد وَفقًا لهذه الجماعة بعينها». وكثيرًا ما يُطلق على هذه الأطروحة الآن تسمية «النسبية الأخلاقية». وهي لا تقتصر فقط على فكرة اختلاف القواعد الأخلاقية للجماعات البشرية المختلفة، ولكن أيضًا على استحالة النظر إلى مجموعة من القواعد باعتبارها القواعد الصحيحة أو الأفضل. وعليه، فإن ما يُعلِّمه بروتاجوراس هو فن التحدث والتصرف بطرق تتماشى تمامًا مع الآراء والمشاعر السائدة في جماعة المرء. فتلاميذه يأتون إليه وهم على درايةٍ بعض الشيء بقواعد وقيم مدينتهم؛ وما يفعله بروتاجوراس هو مساعدتهم على تعزيز هذا الفهم، مثلما يدرب معلم اللغة طالبًا يتمتع بمهارة متوسطة ليصبح أكثر براعة.
لا يهاجم سقراط مباشرةً رأي بروتاجوراس فيما يتعلق بالفكرة الأساسية للنسبية. ولكن يُشكِّك سقراط في افتراض بروتاجوراس أن الفضيلة قابلة للتعلم، ويسأل ما إذا كانت الفضائل مجرد خليط عشوائي أو أنها تشكل كلًّا موحَّدًا. يبدأ سقراط استجوابه لبروتاجوراس بالتعبير عن شكوكه حول ما إذا كانت الفضيلة قابلة للتعلم، لكن الحُجج التي يستخدمها لدعم تلك الشكوك تبدو ضعيفة للغاية، وربما يتوقع أفلاطون أن يدرك قرَّاؤه على الفور أنها غير مقنعة. فإحدى حججه هي أن الأثينيين، الشعب الحكيم، يسمحون لجميع المواطنين بالتحدث عندما يتم اتخاذ القرارات السياسية في المجالس؛ ولا يُلزِم القانون أي مواطن بأن يكون قد اكتسب أولًا خبرةً خاصة حول ما هو صواب أو خطأ، جيد أو سيئ. ويقول سقراط إن هذا النهج المتساهل يعكس افتراضهم أنه لا يمكن أن يوجد ما يُسمى دراسة متخصصة للصواب والخطأ، والجيد والسيئ؛ يقول الأثينيون بحكمة دع الجميع يتحدثون عن المسائل الأخلاقية؛ لأنه لا أحد يمتلك المعرفة المطلقة بهذه المسائل.
من الصعب مقاومة فكرة أن سقراط يتحدث بسخرية عندما يقول إن الأثينيين شعب حكيم، وإنهم على حق في اعتبار الفضيلة غير قابلة للتعلم. وكما رأينا بالفعل في قراءتنا لمحاورة «الدفاع»، فإن سقراط يدرك أن الآخرين غالبًا ما يتجاهلون ما يقوله؛ لأنهم يعتبرون أن معناه الخفي يختلف عما يتفوه به صراحةً. فعندما نقرأ لأفلاطون، يجب أن نكون دائمًا منتبهين لإشارات السخرية السقراطية. فإذا قال في إحدى الفقرات إن الأثينيين شعب حكيم، وانتقد حُمْقهم في فقرة أخرى، فسيكون من المبرر ألا نفهم الفقرة الأولى بالمعنى الحرفي للكلام.
وبشكل أكثر مباشرة تطرح محاورة أخرى، ربما كُتبت في نفس الوقت تقريبًا، السؤالَ حول كيفية تقييم معايير جماعةٍ ما، وكيف يتم تحديد الأخطاء الأخلاقية وتصحيحها. وكما كانت تسمية المحاورة «بروتاجوراس» نسبةً إلى أشهر السفسطائيين في القرن الخامس قبل الميلاد، فقد كانت تسمية محاورة «جورجياس» نسبةً إلى أحد أكثر معلمي الخطابة نجاحًا. كتب معلمو الخطابة أحيانًا كتيباتٍ عن كيفية التحدث بفعالية، ولكن كان التدريس بضرب الأمثلة أهم ما يتميزون به. فقد كانوا يقدمون خطبًا نموذجية حول مواضيع مختارة، وكان الطلاب يدرُسون بعناية نُسخًا من هذه الخطب ويقلدونها. وتوجد حتى الآن ملخصات وأجزاء من ستة من الخطب النموذجية لجورجياس. كانت القدرة على التحدث بلباقة في قاعة المحكمة أو في المجلس الأثيني مهارة لا غنَى عنها لأي شخص يطمح إلى تحقيق مكانة بارزة في الحياة السياسية؛ ومن ثَم فقد حمل معلمو الخطابة مفاتيح السلطة السياسية.
يسأل سقراط جورجياس عن أهداف معلم الخطابة. فيجيب جورجياس بصراحة: إن الخطابة هي أم العلوم؛ لأن الشخص الذي يعرف كيف يقنع الجمهور سيظهر أن لديه خبرةً حتى عندما يفتقر إليها. لذا فإن نصيحته، وليست النصيحة التي يقدمها خبير حقيقي، هي التي ستؤثر في الحاضرين داخل المجلس أو قاعة المحكمة. يعرف الخطيب المفوَّه كيف يقود الجماهير إلى حيث يريد. يرى جورجياس أن إتقان فن الخطابة هو أعلى إنجاز للعقل البشري.
وفي حين يعترف جورجياس بصراحة أن مهارات الخطابة يمكن استخدامها لاكتساب النفوذ السياسي، فإنه لا يتناول بشكل مباشرٍ الأسئلة الأخلاقية المحيطة باستخدام هذه المهارة. ويتساءل سقراط عما إذا كان جورجياس سيصبح شريكًا في المسئولية إذا استخدم أحد طلبة الخطابة المهارات التي اكتسبها من جورجياس لاكتساب سلطة استبدادية، وقتل مواطنين أبرياء، ونهب موارد المدينة. فيعطي جورجياس جوابًا غير مقنع قائلًا إنه سيعلِّم طلابه أن يكونوا عادلين، وهذا الرد يتناقض مع ادعائه السابق بأنه لا ينبغي أن يتحمل جزءًا من المسئولية إذا أساء طلابه استخدام فن الخطابة. تشير محاورة أفلاطون إلى أنه إذا أردنا دراسة القضايا الأخلاقية والسياسية التي تسبب خلافاتٍ كبيرةً بين الناس، فلا يمكننا أن نأخذ ما يحتمل أن يقولوه بعضهم لبعضٍ دون تمحيص. فكثير منا، مثل جورجياس، يخفون معتقداتهم الحقيقية حول ما هو جيد وصحيح عن الآخرين وحتى عن أنفسهم.
عندما اتضح عجز جورجياس عن الدفاع عن مهنة الخطابة، تَقدَّم أحد طلابه، بولوس، الذي سبق له أن قدَّم أطروحة عن فن الخطابة، للدفاع بشكل أفضل عن تلك المهنة. إن بولوس هو مُحاورٌ أكثر صراحةً من جورجياس. وهو يدَّعي أن تعمُّد استخدام السلطة هو خير كبير، مهما كان غير عادل؛ ولكنه لا يستطيع أن ينكر أن معاملة الآخرين بطريقة غير عادلة هو أمر مخزٍ، أيًّا كانت الفائدة من ورائها. وعندما أدى اعترافه إلى جعْله يناقض نفسه، حلَّ محله كاليكليس، وهو مضيف جورجياس، خلال زيارته إلى أثينا. وهو واحد من أكثر شخصيات أفلاطون البارزة؛ بسبب استعداده للدفاع عن الأفكار الصادمة بصدق تام. فهو يُمجد أعمال القتل والنهب التي يرتكبها الطاغية: فهذا الطاغية، بحسب كاليكليس، يتصرف وَفقًا لقوانين الطبيعة. فالقواعد والأعراف التي تحكم جميع المجتمعات قد وضعها، كما يدعي، أشخاص يفتقرون إلى الجرأة والذكاء لتطويع العالم بحسب إرادتهم، ويدعمون الأخلاق المتعارف عليها فقط لحماية أنفسهم من الأفراد القلائل الأكثر تفوقًا الذين ستكون لهم الغلبة في عدم وجود هذه الأخلاق. إذا نظرنا إلى الحيوانات في البرية، نجد أن القتل والافتراس هما جزء من النظام الطبيعي. وهذا في ذاته شكل من أشكال العدل؛ فالمجموعة القوية قليلة العدد التي تفترس الضعاف هي التي تكسب الغنائم، وهي لا تستسلم لأعراف لا أساس لها تمنعها ظلمًا من الحصول على قدر أكبر من السلطة والمتعة.
عند تقديم أفلاطون لآراء بروتاجوراس وجورجياس وبولوس وكاليكليس، فهو يطلب من القارئ التفكير بعمق فيها. فهو لا يصور هذه الشخصيات الدرامية على أنها شخصيات سطحية. فهو يصوِّر بروتاجوراس على أنه خصم قوي لسقراط، والتغلب على كاليكليس في المناظرات أكثر صعوبة مقارنةً بجورجياس وبولوس. إن الأفكار التي يقدمها بروتاجوراس وكاليكليس لها جاذبية خاصة؛ إذ إنها مرتبطة بجوانبَ عميقة من طبيعتنا البشرية، مثل رغبتنا في الانغماس في الملذات، والسعي وراء السلطة الاجتماعية، والتطلع إلى النجاح الدنيوي. ولكن أفكارهما الرئيسية مختلفةٌ بعض الشيء: يعتقد بروتاجوراس أنه من المستحيل الخروج على أعراف جماعةٍ ما لتقييم مدى صحة تلك الأعراف، ومن ناحية أخرى، يرى كاليكليس أنه يمكننا إيجاد معيار لهذا التقييم في السلوك الطبيعي للحيوانات. ويجب على القرَّاء أن يسألوا بماذا يجب أن نُقيِّم الأعراف التي تتبناها جماعةٌ ما. وإذا لم يتمكنوا من الإجابة على هذا السؤال، فقد يصبحون نِسبيِّين بروتاجوريين أو لا أخلاقيين كاليكليين.
في محاورة «جورجياس»، يقترح سقراط بإيجاز أن ننظر إلى الكون بأكمله كنموذج لما يسميه «عدالة الطبيعة»، وليس إلى جشع الحيوانات البرية في صراعها من أجل البقاء. فاللوحة الهائلة للكون المنظَّم تحتوي على نموذج للتناسبية والحدود: عناصر الكون تلتزم بالقوانين ولا تسعى للهيمنة على جميع العناصر الأخرى دون حدود. فالعدل الذي هو في صُلب طبيعة الأشياء يشبه نوع التناسبية — عدل يعتمد على الجدارة، والمساواة، والمعاملة بالمثل — التي تمثِّلها أفضل الجماعات السياسية البشرية.
إن الفكرة التي تقول إن النظام الأخلاقي متأصل في العالم الطبيعي، وإن الدور المناسب للبشر هو أن يلعبوا دورهم في ذلك النظام العالمي، من خلال معاملة بعضهم بعضًا بعدل، وتكريسِ حياتهم لنفع الآخرين؛ قد أثبتت أنها جذابة بشكل غير عادي. وتم تطويرها أكثر على يد المدرسة الرواقية، وهي واحدة من الفلسفات السائدة في العالم اليوناني والروماني القديم. ولكن سنرى أن كتابات أفلاطون تحتوي أيضًا على فكرة مختلفة، تم تطويرها على يد الفلاسفة المسيحيين في العصور الوسطى: للعثور على معيار القيمة، يجب ألا ننظر كثيرًا إلى الكون الطبيعي، ولكن إلى نظام متسامٍ وأبدي، وغير مادي وليس موجودًا في حيز مادي. يجب ألا نعُدَّ الطبيعة نموذجًا لنا — لا النظام الحيواني الذي يفضله كاليكليس ولا حتى التناسبية الهندسية التي يعجَب بها سقراط — ولا أعراف عالمنا الاجتماعي، كما يرى بروتاجوراس، ولكنْ شيئًا أكثر كمالًا. عند أفلاطون، هذه هي الأشكال، وكلها مبنية على شكل الخير.