الروح والرياضيات والنماذج المثالية
سقراط: نحن نقول بوجود شيء هو «المتساوي»، ولست أقصد عصًا متساوية مع عصًا أخرى، أو حجرًا متساويًا مع حجر آخر، ولا أي شيء من هذا القبيل، ولكن شيئًا غيرها ويتعداها جميعًا؛ ذلك هو «المساواة في ذاتها» … هل يحدث لنا شيءٌ كهذا أمام العِصيِّ المتساوية … هل تبدو لنا متساوية كما هو الحال مع وجود جوهر المساواة ذاته، وهل ينقُصها شيء أم لا بالقياس إلى هذا الجوهر؛ من أجل أن تكون مماثلة للمساواة؟
سيمياس: بل ينقصها الكثير. (فايدو، ٧٤أ-د) [ترجمة دكتور عزت قرني بتصرف]
المحاورة التي أُخِذ منها هذا المقتطف واحدة من أجرأ أعمال الميتافيزيقا في الفلسفة الغربية. والميتافيزيقا هي دراسة الفئات الأكثر أساسيةً التي ننظم بها العالم: العقول والأجساد، والكيانات وخصائصها، والأسباب والنتائج، وما إلى ذلك. لا يقول أفلاطون هذه الكلمة بلسانه، ولكنه يجعل سقراط يجادل في «فايدو» أن أكثر أنواع الواقع أساسيةً ليست مادية؛ إنها الروح والشكل، وكلٌّ منهما أبدي ولا يتغير. وللمحاورة أيضًا بُعدٌ أخلاقي عميق؛ أن أفضل حياة هي تلك التي تُكرَّس لفن الاحتضار؛ لأن الموت هو انفصال الروح عن الجسد. ولأن الجسد ليس مَثوًى مريحًا لذواتنا الحقيقية — كلٌّ منا روح — فيجب ألا نخشى الموت، بل أن نرحب به. والانتحار ليس حقًّا مشروعًا (لم يُقدِم سقراط على الانتحار، بعد أن حُكم عليه قانونيًّا بالإعدام)؛ فبدلًا من الانتحار، يجب أن ندرك أن مُتَع الجسد أدنى من متع النفس، ونتطلع إلى الموت من أجل التحرر. فالشخص الذي يستطيع فعل ذلك على أكمل وجه؛ هو شخص يُكرِّس حياته تمامًا للفلسفة ولا يلقي بالًا — مثل سقراط — لحُطام الدنيا كالمال والبُحبوحة والسلطة.
تُعدُّ تأملات أفلاطون في الأشياء العادية مثل العِصي والأحجار جزءًا من حُجة لوجود الأشكال غير المادية. فبمجرد أن ندرك أن المساواة هي شكل مثالي، شيء يتجاوز مساواة عصًا واحدة لأخرى، سنكون مستعدين لتقبُّل الفكرة الأخرى؛ وهي أن الروح ليست مادية، بل كيان من نوع مختلف تمامًا.
في «فايدو»، يتجرع سقراط السمَّ الذي وُصِف كعقوبة قانونية له، ويموت. وتحتوي الصفحة الأخيرة من «فايدو» على وصف لوفاة سقراط، والجزء الأكبر من هذه المحاورة هو تقرير عن المحادثة التي أجراها خلال ساعاته الأخيرة مع مجموعة من المعجبين. وتشير الشخصية التي تُقدم هذه المحادثة (فايدو) إلى أن أفلاطون لم يكن حاضرًا؛ مما يشير إلى أن هذا العمل ليس تسجيلًا لمحادثة حقيقية، وأن وفاة سقراط هي وسيلة لتجسيد أفكار أفلاطون حول الروح. والسؤال الذي يناقشه سقراط هو ما إذا كانت الروح تظل موجودةً بعد فناء الجسد. فهو واثقٌ تمام الثقة من أنه سينتقل قريبًا إلى حياة أفضل، ويحاول إقناع شركائه في المحاورة، الأكثر تشككًا، بأن الروح بطبيعتها لا تخضع للفناء.
إن محاورة «فايدو» تختلف تمامًا في الطابع الفلسفي عن الأعمال الأخرى التي تشكل وحدة روائية معها. فتلك الكتابات — «يوثيفرو» و«الدفاع» و«كريتو» — لا تتناول صراحةً المسائل الميتافيزيقية، ولكن تركز حصريًّا على القضايا الأخلاقية والسياسية؛ ماهية الورع، والورع في أسلوب حياة سقراط، وعدالة قراره بعدم الهروب من السجن. ففي جميع هذه الكتابات، يؤكد سقراط نقص خبرته، حتى فيما يتعلق بالمسائل ذات الأهمية الأخلاقية الكبيرة. وتماشيًا مع تواضعه، علَّق سقراط، بعد تلقيه خبرَ الحكم عليه بالإعدام، أن الموت إما حالة أبدية من العدم (ومن ثَم ليس مصيرًا سيئًا)، وإما انتقال إلى مكان آخر (هاديس)، حيث نلتقي مع جميع من ماتوا ونتحدث إليهم. لا يعرف أفلاطون أي الرأيين هو الصحيح، ولكن في كلتا الحالتين، فليس هناك ما يدعو للخوف من الموت.
على النقيض، يُظهِر سقراط اهتمامًا كبيرًا في «فايدو» بطبيعة الروح، ويقول بأنها تشبه الأشياء الأبدية التي لا تتغير، مثل المساواة ذاتها أو الخير ذاته. يؤكد أن هذه «الأشكال» مختلفة تمامًا عن الأشياء العادية القابلة للفناء التي نراها حولنا، وأننا كنا نعرفها قبل أن نولد. وعلى الرغم من أن محاورة «فايدو» تثير تساؤلًا ذا أهمية عملية وفورية — هل سيستمر سقراط في الوجود بعد موته؟ — فإنَّ ردها على هذا السؤال يقدم رؤية كونية للعالم. يُقسِّم سقراط العالم في محاورة «فايدو» إلى أشياء مادية، يمكن معرفة القليل عنها؛ لأن حواسنا متخَمة بالأخطاء؛ وأشكال، سنتمكن من استعادة معرفتنا بها، بمجرد أن نتخلص من عدسة الجسد المشوهة؛ والأرواح، التي لا تفنى ولا تُدرك بطبيعتها؛ ومن ثَم فهي أكثر قربًا إلى الأشكال من الأشياء المادية. ليس سقراط هو الشخص المتشكك والمتسائل في هذه المحاورة، بل محاوروه. فهم يقولون إنه حتى لو بقيت الروح بعد فناء الجسد لفترة، فإنها سوف تتبدد مع مرور الوقت. ولكن سقراط لا يساوره أي شك بشأن ذلك. فهو يقدم الحجة تلو الأخرى لإثبات أن الروح لا يمكن أن تفنى.
في مرحلةٍ ما في الحوار، يقول سقراط إنه في أيام شبابه كان لديه شغف باستكشاف العالم الطبيعي. كان متحمسًا لاكتشاف أسباب كل الأشياء التي تحدث «في السماء وتحت الأرض» — الأسئلة نفسها التي يدَّعي في «الدفاع» أنه لم يناقشها قط — لكنه أصبح غير راضٍ عن دراساته، وتحول بدلًا من ذلك إلى نوع الفهم الذي يمكن التوصل إليه من خلال الأشكال. يعبر أفلاطون هنا، على لسان سقراط، عن اهتمامه الخاص، في مرحلة سابقة من حياته، بالأسئلة الخاصة بالعلوم الطبيعية، واقتناعه الخاص بأن الاستناد إلى الأشكال يمنحنا فَهمًا أفضل للكون مقارنةً بأي تفسيرات أخرى. يرى أفلاطون أن التفسيرات الأفضل للظواهر الطبيعية سوف توضح السبب وراء إظهار الظواهر الطبيعية لمستوًى معين من النظام، وهو النظام الذي، رغم أنه غير مثالي، يقترب من النسب المثالية التي نراها في الهندسة، ولكنه لا يرقى إلى مطابقتها. ويشير إلى أن العقل يجب أن يلعب دورًا سببيًّا مهمًّا في الحفاظ على ترتيب الكون، لكنه لم يشرح هذه الفكرة بشكل أعمق. وفي محاورة لاحقة، وهي «طيماوس»، يتحدث المحاور الرئيسي (الذي سُمي الحوار باسمه) بمزيد من الإسهاب عن كيفية اشتقاق العالم المادي هيكلَه من الأشكال، من خلال وساطة خالق إلهي. هنا يُقدِّم أفلاطون تكهناته الخاصة — واصفًا إياها بأنها لا تعدو كونها «قصة محتملة» — حول الهيكل الأساسي للكون المادي. فلا يمكن للأسباب المادية وحدها أن تفسر عالمنا؛ فهو يُفهَم بشكل أفضل باعتباره محاكاةً لنظام إلهي سامٍ للأشكال. هذه الفرضية التي تقول إن العالم هو انبثاق من عقل إلهي أو نتاج له؛ قد لعبت دورًا مركزيًّا في اللاهوت المسيحي، وكانت «طيماوس» هي المحاورة الأفلاطونية التي كان لها أكبر تأثير على الفكر الأوروبي في القرون الوسطى.
إذَن، فمخاوف أفلاطون الفلسفية تتعدى مخاوف سقراط الحقيقي الذي ذُكر في التاريخ. فأفلاطون مهتم بطبيعة الواقع ويسعى لفهم الأسباب الأساسية لكل ما هو موجود. وفي المقابل، ركَّز سقراط الحقيقي على السؤال الأخلاقي العملي حول كيف ينبغي أن يعيش الإنسان حياته. يمكن العثور على تأكيد إضافي لهذا في «الميتافيزيقيا» لأرسطو؛ إذ يقول إن سقراط لم يكن مهتمًّا بالعالم الطبيعي ولكنه ركَّز بدلًا من ذلك على المسائل الأخلاقية. وُلِد أرسطو في عام ٣٨٤ قبل الميلاد، بعد خمسة عشر عامًا من وفاة سقراط، لكنه قضى سنواتٍ عديدةً في أثينا وسط دائرة أفلاطون الفكرية، وقد سمح له هذا القرب بالتعرف من الآخرين على سقراط الحقيقي وكيف أثَّرت أفكاره على تطور فكر أفلاطون الفلسفي.
إن المحاورات التي يتناول فيها سقراط الأسئلة الأخلاقية فقط، ويُصِرُّ على أنه يفتقر إلى المعرفة، ويُفسد الادعاءات والحجج للمتحاورين الآخرين؛ يُشار إليها أحيانًا ﺑ «المحاورات السقراطية»، وتشمل «خارميدس» و«كريتو» و«يوثيديموس» و«يوثيفرو» و«جورجياس» و«هيبياس الأكبر» و«هيبياس الأصغر» و«أيون» و«لاكيس» و«ليسيس» و«بروتاجوراس». وغالبًا ما تُدرَس هذه المحاورات معًا نظرًا لأوجه التشابه بينها. ويفترض العديد من الباحثين أن عددًا كبيرًا من هذه المحاورات قد كُتِب قبل أيٍّ من المحاورات الأخرى، وأحيانًا يُشار إليها بأنها محاورات أفلاطون المبكرة. في هذه الحوارات السقراطية، يبدأ أفلاطون في استكشاف الآثار الأخلاقية لِما تَعلَّمه من سقراط.
ولكن أفلاطون سعى، في مرحلة معينة من تطوره، إلى دمج اهتماماته الفكرية الأخرى، وهي العلوم، والرياضيات، والميتافيزيقيا، وعلم المَعرفيَّات (الإبستيمولوجيا)، مع تكهناته الأخلاقية. فواصل استخدام سقراط متحاورًا رئيسيًّا في محاوراته (على الرغم من أنه مع مرور الوقت كتب العديد من الأعمال التي عرضت أفكاره الخاصة) لأن كل أفكاره تقريبًا وُلِدت من رحم الأفكار التي تعلمها من سقراط. لكن التركيز تحول لصالح وضع نظريات كبرى؛ ومن ثَم أصبح تقويض الأفكار المقترحة من قِبَل متحاوري سقراط في الغالب هدفًا ثانويًّا.
إن محاورة «فايدو» هي أول مغامرة كاملة لأفلاطون في التنظير الميتافيزيقي الذي سيشغله في محاوراته اللاحقة. ولفهم هذه المحاورة، يجب أن نكون على دراية على الأقل بأحد أعماله السابقة، وهو «مينو». تصبح العلاقة بين المحاورتين واضحة عندما يدَّعي أحد متحاوري «فايدو»، وهو سيبس (أحد أعضاء الدائرة المقرَّبة لسقراط)، أن عملية التعلُّم ليست سوى عملية تذكُّر، فكل ما نتعلمه في هذه الحياة كنا قد تعلمناه بالفعل في حياة سابقة، ثم نسيناه. بعبارة أخرى، التعلم هو دائمًا استرجاع للمعرفة المنسية وليس البدءَ من الصفر. وعندما يُطلَب من سيبس إعادة صياغة الحجة لهذه الأطروحة الإبستيمولوجية المدهشة، يجيب: «عندما تُطرَح الأسئلة على الأشخاص بطريقة واضحة، فإنهم يعطون كل الإجابات الصحيحة، وإذا لم تكن لديهم المعرفة والتفسير الصحيح بداخلهم، لما كان بإمكانهم أن يفعلوا هذا. بالإضافة إلى ذلك، إذا عرض عليهم شخصٌ ما رسمًا هندسيًّا أو شيئًا من هذا القبيل، فإن ذلك يكشف بوضوح عن هذه الحقيقة»، يوجد الاستجواب والرسم الهندسي اللذان يشير إليهما سيبس في «مينو».
في السطر الاستهلالي من هذه المحاورة السابقة، يسأل مينو، الشاب الثري الذي تأثَّر بأفكار جورجياس، سقراط عما إذا كان من الممكن تعلُّم الفضيلة. فيرد سقراط بأنه قبل الإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نحدد ماهية الفضيلة. فليس كافيًا تحديد الأدوار الاجتماعية التقليدية للشخص، بأن نقول، على سبيل المثال، إن فضيلة الرجل تتمثل في إدارة الشئون العامة، وفضيلة المرأة تتمثل في إدارة شئون المنزل، وهكذا. فحتى لو كان هذا هو النهج السليم الذي يجعل من الرجل والمرأة أناسًا صالحين، فإنه من الواجب أن يكون هناك تفسير للسبب وراء ذلك. يصر سقراط على أن نسأل عن العامل المشترك الذي تشترك فيه إدارة الشئون المدنية وإدارة الشئون المنزلية، والذي يفسر لماذا تُعَدُّ هذه الأنشطة صالحة. فليس كافيًا أن نقول إننا إذا أردنا أن نكون صالحين يجب أن ندير هذه الشئون إدارةً عادلة وحكيمة تتميز بالورع. وعلينا أن ننمِّي تلك الصفات لأن كل واحدة منها هي من مكونات الفضيلة، وهي الشيء الذي نحتاج إلى تعريفه. فمن الواجب أن نفهم ما هو ذلك الكل، الفضيلة، الذي تُعد هذه الصفات أجزاءً منه. فمجرد إدراج الصفات في قائمة لا يوضح ما الذي يجعل من إحدى هذه الصفات فضيلة.
عندما يدرك مينو أخيرًا، بعد عدة محاولات فاشلة، مدى صعوبة السؤال الذي يطرحه سقراط، فإنه يردُّ بأسئلة بنفس القدر من الصعوبة: كيف يمكن إجراء هذا النوع من التحقيق الذي يقترحه سقراط، وحتى لو كان من الممكن الشروع فيه، فكيف يمكن أن ينجح؟ إذا كان سقراط لا يعرف ماهية الفضيلة (ويصر سقراط، كالعادة، أنه لا يملك مثل هذه المعرفة)، فكيف يمكنه أن يبدأ في البحث عنها، وإذا حدث ووجدها، فكيف يمكنه أن يدرك أنه وجدها؟ يتعامل سقراط مع هذه المفارقة (التي تُسمى أحيانًا «مفارقة المتعلم») من خلال إجراء تجربة ذُكرت في محاورة «فايدو» عند طرح إحدى الحجج المتعلقة بخلود الروح.
تتضمن التجربة ملاحظة كيف يمكن لشخص غير متعلم — أحد عبيد مينو — أن يتعلم بعض قواعد الرياضيات الأساسية. فالعبد الذي لم يتعلم الهندسة من قبل سيدرك، إذا تم طرح الأسئلة الصحيحة عليه، أن الإجابات التي تتبادر على الفور إلى ذهنه هي إجابات خاطئة؛ لأنها تؤدي إلى نتائج خاطئة بشكل واضح. فالعبد يمتلك بالفعل، بطريقة أو بأخرى، بعضَ المعرفة الفطرية الكافية التي تساعده على إدراك أن إجاباته غير منطقية. علاوة على ذلك، فإنه إذا استمر فسيدرك في النهاية، دون أن يُخبره أحد، كيفية حل المسألة الهندسية التي أمامه. يفترض سقراط أن العبد لا يمكن أن يحرز تقدمًا نحو اكتشافه الرياضي دون الاعتماد على شيءٍ ما داخله. وبما أنه متأكد من أن العبد لم يتلقَّ أي دروس في الرياضيات في منزل مينو، فهو يستنتج أن روح العبد قد اكتسبت المعرفة الرياضية في حياة سابقة، ثم نسيت تلك المعرفة عندما دخلت جسده الحالي، وهي الآن تستعيدها، بعد تحفيزها عن طريق طرح الأسئلة الصحيحة.
يقترح أفلاطون في محاورة «مينو» أنه من الوجيه أن يمتد سعي سقراط لإيجاد تعريف للفضيلة، وهو موضوع متكرر في كثير من المحاورات الأولى، ليشمل موضوعات تتجاوز المسائل العملية والأخلاقية. بعبارة أخرى، من المفيد أيضًا أن نسأل: ما المثلث؟ المربع؟ الخط؟ الوحدة؟ الرقم ثلاثة؟ المعرفة؟ السفسطائي؟ رجل الدولة؟
سيلاحظ القارئ المتأني للمحاورة أن تحقيق سقراط بطبيعته لا ينطبق فقط على المسائل المتعلقة بكيفية التصرف بطريقة أخلاقية. ولكنه ينطبق أيضًا على الرياضيات. ويبدو أن أفلاطون يقترح أن البحث عن تعريفات سقراطية، والأسلوب المستخدم في المحاورات السقراطية لاختبارها، هو عملية يمكن أن تمتد بشكل فعَّال لتشمل أي شيء في الكون. فيمكننا أن نسأل: «ما هو؟» عن كل شيء، ولكن ليس كل شيء يستحق الجهد المبذول في البحث.
من الأمور الرئيسية في التحقيق السقراطي افتراضُ وجود عواملَ مشتركة خفية تكمُن وراء الصفات المتنوعة التي ندركها من خلال حواسنا. يفترض سقراط، وليس دون سبب، أن هناك عنصرًا مشتركًا هو ما يجعل العدل فضيلة، ويجعل الشجاعة فضيلة، وما إلى ذلك. ويبدو أن استخدامنا للغة يعتمد على وجود مثل هذه الوحدة وسط التنوع؛ فعندما نقول على شخصين، على سبيل المثال، إن كلًّا منهما عادل، فنحن نعُدُّ أننا ننعتهما بالصفة نفسها. يبدو من الطبيعي أن نقول إنه بالإضافة إلى وجود هذا الشخص وذاك، وكلاهما عادل، هناك شيء ثالث أيضًا؛ العدل الذي يشتركان فيه. يفترض أفلاطون أنه عندما يبحث سقراط في فضيلةٍ ما، فإنه يستكشف خاصية أو سمة محددة، وهي العامل الذي يشترك فيه جميع الأشخاص الفضلاء، وبسببه يتم تصنيفهم بشكل صحيح على أنهم عادلون.
ما العدل؟ عند طرح هذا السؤال، فإننا لا نسأل عن تفاصيلِ تعريفٍ مقترح للعدل، أو أي صفة مادية أخرى للعدل. بل نسأل عن نوع الكيان الذي نسميه العدل. وكما يحثُّ أفلاطون قرَّاء «مينو» على التساؤل عما يجعل الاستفسار السقراطي ممكنًا — سواء كان يتعلق بالأخلاق أو بالهندسة — فهو يريد منا أيضًا أن نتأمل في أنواع الأشياء التي يجب أن تكون موجودة، حتى تصبح الصفات المتنوعة التي نلاحظها بواسطة الحواس، بطريقة أو بأخرى، موحدةً أيضًا. لا تقدم محاورة «مينو» إجابة عن هذا السؤال الميتافيزيقي، ولكن محاورة «فايدو» تقدم إجابة. في الفقرة المذكورة في بداية هذا الفصل، يُطلب منا التمييز بين المساواة ذاتها وبين العِصي والأحجار المتساوية التي نراها. في محاورة «فايدو»، يصر سقراط على أن المساواة ليست شيئًا يمكن ملاحظته بواسطة الحواس. يمكن للحواس أن تدرك أن العصا هذه متساوية مع تلك، ولكن كيانًا آخر غير الجسد — لا بد أنه الروح — هو الذي يدرك الفرق بين المساواة في ذاتها وبين العِصي والأحجار المتساوية.
يفترض أفلاطون أنه إذا درسْنا موضوعًا مثل الهندسة بالطريقة الصحيحة — إذا فهمنا أنه يتعلق بالأفكار المثالية وليس بالحقائق الفيزيائية — فلن نتفحص بعنايةٍ الخطوط والمثلثات التي نرسمها في رسوماتنا، لنرى أي الأشكال متساوية. قد يفترض البعض أنه لا يوجد مقداران فيزيائيان متساويان تمامًا؛ لأننا إذا فحصناهما بشكل أكثر دقة، فسنكتشف دائمًا بعض الفرق في حجمهما، مهما كان بسيطًا. قد يظن بعض قرَّاء أفلاطون أن هذا هو المعنى الذي يقصده عندما كتب (في المقطع المذكور في بداية هذا الفصل) أن العِصي المتساوية «ينقصها شيء» لتكون متساوية. ولكن يصبح مفهوم أفلاطون مبرَّرًا وأكثر إثارة للاهتمام عندما نفسره باعتباره يشير إلى أنه، حتى لو كانت بعض العصي متساوية تمامًا، يظل هناك فرق كبير بين العصي المتساوية تلك التي يمكن ملاحظتها، وبين الخاصية الرياضية للتساوي التي تُظهرها العصي مؤقتًا. فعندما تَيبَس العصي المتساوية تمامًا وتتآكل، يظل هناك معيار يجب من خلاله قياسُ الأشياء حتى تُعَدَّ متساوية في المقدار. فتلك العصي المتساوية، بغضِّ النظر عن المادة المصنوعة منها، لا تشكِّل أبدًا المعيار الذي يجب أن تفيَ به جميع الأشياء المتساوية؛ لكي تصنَّف بشكل صحيح على أنها متساوية؛ قد تستوفي هذا المعيار (سواءٌ قاسها أحد أم لا)، ولكن المعيار ذاته غير قابل للزوال ولا يمكن ملاحظته بواسطة الحواس. إذن، فالعصي المتساوية ينقصها شيء لتكون متساوية؛ لأنها ببساطة ليست المساواة في ذاتها، وليست جديرة بنفس الفحص الدقيق الذي تستحقه المساواة ذاتها. إن دراسة الهندسة، عندما تتم بشكل صحيح، لا تركز على أخذ قياسات الأشياء مثل العصي والأحجار. فهذه ليست الطريقة التي نتعلم بها ماهية التساوي.
ليس من الصعب الانتقال من البحث الهندسي إلى التأمل في القضايا الأخلاقية. هل يمكن أن يكون هناك إنسان مثالي، بمعنًى آخر، إنسان يمتلك كل مميزات الإنسانية، بأكبر قدر ممكن؟ أم إن كل إنسان يجب أن يُظهر بعض النقص بحيث ينزلق أحيانًا إلى الظلم، أو الحماقة، وما شابه؟ يبدو أن أفلاطون يقترح أنه مهما بلغ صلاحُ شخصٍ ما، فلا يمكننا فَهم الصلاح الإنساني عن طريق النظر إلى هذه النماذج الإنسانية، مهما كانت خالية من العيوب. بدلًا من ذلك، يجب أن نتأمل في طبيعة الصلاح نفسه، ونستخدم هذا النموذج المجرد كمعيار لتطلعاتنا ومساعينا. ربما هناك بشر يجسِّدون كل الفضائل (كما قد يكون هناك عصي متساوية تمامًا). لا شك في قيمتهم العظيمة، ولكننا يجب أن ندرك أنهم، بطريقةٍ ما، ينقصهم شيءٌ ما، تمامًا كما ينقص العِصيَّ المتساوية تمامًا شيءٌ ما. للحكم على الإنسان بأنه كامل (أو، في هذه المسألة، وبشكل أكثر شيوعًا، غير كامل)، يجب أن نستند إلى نموذج الكمال. فهذا النموذج — وليس الإنسان المثالي — هو ما يجب أن يكون التأمل الأخلاقي حوله. وأشكال أفلاطون هي بالضبط هذه النماذج.