عالم الأشكال
الغريب: … وكأن شخصًا ما أراد أن يُقسِّم الجنس البشري إلى قسمين اثنين، فأتى وقسَّمه حسب الأسلوب الذي يَسود في هذا القسم من العالم؛ فيفصل اليونانيين جانبًا كجنس واحد؛ ويُضمِّن كل الأجناس الأخرى للجنس البشري … يضمِّنها تحت اسم واحد «الهمج»؛ وبما أنهم يمتلكون اسمًا واحدًا يُفترض أنهم جنس واحد أيضًا. أو افترض أن شخصًا ما أراد أن يقسم عددًا إلى جزأين اثنين، اقتطع عشرة آلاف من كل الأعداد الباقية، وخلق منها جنسًا واحدًا، شاملًا باقي الأعداد تحت اسم منفصل آخر … (رجل الدولة، ٢٦٢ج-د) [ترجمة شوقي داود تمراز]
سقراط: لن تكون مهمة بلا فائدة … إنه على العكس من ذلك يمكننا من تقسيم الموضوع إلى أنواع؛ وذلك مع مراعاة تفاصيلها الطبيعية والحذر من كسر أي جزء منها؛ حتى نتجنب طرق النحَّات الرديء … ولهذا يا فيدروس فإني شخصيًّا أميل كلَّ الميل لهذه التقسيمات وهذه التأليفات … وإذا بدا لي شخصٌ ما له قدرة إبصار الوحدة الطبيعية من خلال الكثرة، فإني أتبع مثل ذلك الرجل كما لو كنت أتبع إلهًا … لقد كنت دائمًا أسمِّي القادرين على ذلك بالجدليين. (فيدروس، ٢٦٥د-٢٦٦ج) [ترجمة دكتورة أميرة حلمي مطر بتصرف]
أفلاطون هو أول فيلسوف غربي يقترح فكرة أن هناك عالمًا من الأشياء المجردة، ويتأمل في طبيعتها وأهميتها للحياة البشرية. وعبارة «الأشياء المجردة» لا تتوافق مع أي شيء في مفرداته الخاصة، ولكنها الآن جزء من المفردات الفنية للعديد من الفلاسفة، الذين يستخدمونها لتعيين مجموعة من الكيانات التي تفتقر إلى الموقع المكاني، وليست مصنوعة من المواد المادية التي تدرُسها العلوم الفيزيائية، ولا يمكن إدراكها بواسطة الحواس. فالأرقام، على سبيل المثال، تُعَد الآن أشياء مجردة. فالرقم أربعة بالتأكيد ليس شيئًا ملموسًا مثل الألماس، وهو ليس مجموعة من أربع ألماسات. تلك الألماسات الأربعة التي نراها في نافذة المتجر ستندثر يومًا ما، ولكن الرقم أربعة لن يتأثر بالأحداث الفيزيائية.
إن اكتشاف أفلاطون أن هناك ما يُسمى بالأشياء المجردة قد قبِلَ به أرسطو، الذي يعتقد أنه بالإضافة إلى الأشياء المألوفة، مثل هذا الشيء الأبيض بالتحديد، وذلك الشيء الأبيض بالتحديد، هناك نوع مختلف من الكيانات، التي يطلق عليها اسم «المُسلَّمات». وهي درجة اللون — البياض — الذي يشترك فيه الشيئان الأبيضان. فالطاولة الفردية البيضاء مصنوعة أيضًا من إحدى المواد؛ الخشب، أو البرونز، أو الحجر. لكن اللون الأبيض ليس مصنوعًا من أي شيء؛ لأنه ليس من الكيانات المادية. وبالمثل، فالأشياء التي يطلق عليها أفلاطون اسم «الأشكال» أو «المُثُل» هي نوع من الكيانات يختلف تمامًا عن الأشياء العادية، المادية، المرئية، التي نعرفها.
ما يشترك فيه أفلاطون وأرسطو هو فكرة أن هناك فرقًا بين الشيء الذي لديه خاصية (الطاولة البيضاء، العصي المتساوية) والخاصية التي لدى الشيء (بياض الطاولة، وتساوي العصي). فمن المنطقي أن الأشياء لها صفات. لذا، في قائمتنا لما هو موجود، يجب أن ندرج ليس فقط الأشياء التي لها صفات، ولكن الصفات ذاتها. فهذان نوعان مختلفان من الكيانات. فالصفات بطبيعتها يمكن أن تكون مشتركة في العديد من الأشياء. وعلى النقيض، الأشياء المحددة التي لديها صفات — الطاولات البيضاء والعصي المتساوية — ليست بطبيعتها مشتركة في أشياء أخرى.
يصبح التباين أكثر وضوحًا إذا لاحظنا أنه عندما نتحدث عن الشمس، فنحن نشير إلى كائن بعينه، يبعد نحو ٩٣ مليون ميل عن كائن فردي آخر، نطلق عليه اسم «الأرض». لكن يمكننا أيضًا أن نستخدم «الشمس» ليس لتسمية ذلك الكيان الواحد، ولكن للإشارة إلى مجموعة كبيرة من الأجرام السماوية التي تشكِّل مجموعة مع شمسنا التي نعرفها؛ بسبب الخصائص التي تشترك معها فيها. فشمسنا (كيان فردي موجود في الفضاء ومكوَّن من الهيدروجين ومواد أخرى من هذا القبيل) لديها خاصية أن تكون شمسًا، و«الشمس» تشير إلى ذلك الكيان الناري، بينما خاصية أن تكون شمسًا هي خاصية مجردة وليست كيانًا ناريًّا ملموسًا. وعلى الرغم من أن الشمس حارَّة للغاية، فالأشياء المجردة ليست حارَّة ولا باردة؛ لأنها لا تنتمي إلى العالم المادي. إن الأشياء التي لها درجة حرارة معينة ليست الأشياء الوحيدة الموجودة. فليس كل شيء في الوجود يتكون من الجُزيئات التي تحدد حركتها وطاقتها مستوى الحرارة التي تمتلكها.
أحيانًا ما يُطلق على تناول أفلاطون للأشكال اسم «نظرية الأشكال»، ولكن من الضروري هنا توخي الحذر في تفسير مصطلح «نظرية». فإذا كانت النظرية تنطوي على مجموعة شاملة ومنهجية ومفصلة من المقترحات — وهو ما نهدف إليه في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء (وأحيانًا في نظريات الفلسفة والأدب، وغيرها من مجالات العلوم المعروفة ﺑ «العلوم الإنسانية») — فإنه سيكون من التضليل الادعاء بأن أفلاطون لديه أي شيء يمثل نظرية عن الأشكال. فما نجده في كتاباته هو سلسلة من المقترحات والتكهنات المتصلة اتصالًا غير محكَم حول هذه الكيانات، بالإضافة إلى عدد من المشكلات التي تحتاج إلى حل لتعزيز فَهمنا لها. فأفلاطون مقتنعٌ تمام الاقتناع بوجود ما يسميه الأشكال أو المُثُل، ولكن محاوراته تُظهر أن العديد من الأسئلة المتعلقة بطبيعة هذه الأشكال لا تزال قيد مزيد من البحث. وما يبدو أن أفلاطون أكثر تأكُّدًا منه هو الصورة التي لا تكون عليها الأشكال: فلا يمكن إدراكها بواسطة الحواس، وهي لا تفنى ولا يطرأ عليها أي تغيير، ولم تأتِ إلى الوجود في نقطة زمنية بعينها، وليس لها موقع مكاني، وليست مصنوعة من أي مادة. علاوة على ذلك، فهي ليست مجرد أفكار في عقولنا؛ لأنها توجد بشكل مستقل عن أي اعتراف بشري بها. ولهذا يجب توخي الحذر لكيلا يضلِّلَنا استخدام أفلاطون العرَضي لكلمة «فكرة» عند الإشارة إليها. فنحن نستوعب الأشكال من خلال المنطق؛ أي إننا يمكن أن نفهمها بعضَ الشيء ليس من خلال فحص الأشياء التي يمكن ملاحظتها من كثب، ولكن من خلال نوع من التأمل يشبه الطريقة التي يقدم بها علماء الرياضيات البراهين حول المثلثات، أو نوع من التأمل يشبه الطريقة التي يستخدمها سقراط عندما يحاول الطعن في معتقدات محاوريه.
لم توضح محاورات أفلاطون بشكل حاسم مطلقًا ماهية الأشكال الموجودة. من الواضح أن أفلاطون يظن أن هناك شكلًا للورع (نحتاج فقط لقراءة «يوثيفرو» لنرى ذلك). ومن الواضح أيضًا أنه يظن أن هناك أشكالًا للمساواة (اقرأ «فايدو»)، والخير («الجمهورية»)، والجمال («سمبوزيوم»). ويمكننا إضافة العديد من الأشكال الأخرى إلى قائمتنا بينما نتعمق في قراءة المحاورات. لكننا نود أن يَصوغ أفلاطون المبدأ الذي تقوم عليه هذه القائمة. نحتاج إلى طريقة لتحديد عدد الأشكال الموجودة.
في محاورة «فايدو»، يشير أفلاطون إلى إجابة. فبعد أن جادل سقراط بأنه يجب أن نكون قد عرَفنا شكل المساواة قبل أن تدخل أرواحنا الأجساد التي تسكنها حاليًّا، يقول: «… كُنَّا نعرف قبل مولدنا … ليس فقط المتساوي ولكن أيضًا الأكبر والأصغر، وما إلى ذلك، فنحن لا نَقصُر الحديث على المتساوي المطلق، ولكنه يتناول الجمال في جوهره، والخير في جوهره، والعدل، والتقوى، وكلَّ ما نطبعه بطابَع الجوهر في مجرى الحوار، حينما نُلقي أسئلة ونُجيب عن أسئلة.»
هذا يخبرنا بأن هناك مجموعة من المُثُل أو الأشكال التي تتعلق بالمقدار، وعلى الأرجح سيضيف أفلاطون أن هناك كثيرًا مما يتعلق بالشكل (الخط المستقيم، والمثلث، والمربع، وما إلى ذلك). ثم هناك ما يمكن أن يُسمى ﺑ «المُثُل التي تتعلق بالقيمة»، وهي الجمال والخير والعدل والتقوى، وما إلى ذلك. وعند النظر في المحاورات، يمكننا إضافة عائلات أخرى من المُثُل: عائلة كيانات العالم الطبيعي (النار والخيول)، وعائلة الأدوات (الأسرَّة والطاولات)، وعائلة الأدوار الاجتماعية (الفلاسفة ورجال الدولة)، والمفاهيم العامة جدًّا (الوجود والتماثل والتغيير). ولكن ما العامل المشترك الذي يربط جميع العناصر الموجودة في هذه القوائم؟ عندما يوجد شيءٌ ما في عالم الأشكال أو المُثُل، ما الذي يفسر وجوده هناك؟
يشير أفلاطون فحسب إلى إجابة عن هذا السؤال عندما يقول إن فكرته عن المساواة تنطبق على «كل ما نطبعه بطابع الجوهر في مجرى الحوار، حينما نُلقي أسئلة ونُجيب عن أسئلة.» يجب أن يؤخذ ذلك كإشارة إلى نوع الاستفسار الذي يطرحه سقراط في محاوراته الأولى مثل «يوثيفرو» (ما الورع؟) و«لاخيس» (ما الشجاعة؟) و«خارميدس» (ما الاعتدال؟). يقول أفلاطون إنه كلما طُرح سؤال سقراطي عن بعض الأشياء التي ندرُسها، يجب أن يتم التفريق بين الشيء نفسه — الشكل — والعديد من الأشياء التي تتشارك فيه، ولكنها تختلف تمامًا عنه في النوع. ومن ثَم، فالخير في ذاته هو شيء مختلف عن الأشياء الخيِّرة الكثيرة التي تتشارك فيه.
وهذا التعميم يثير سؤالًا آخر: تحت أي ظروف يكون من المبرَّر الانخراط في تحقيق سقراطي؟ تُسلِّم المحاورات السقراطية جدلًا بوجود صلة خفية بشكل عميق وراء استخدامنا للمصطلحات الأخلاقية، صلةٍ موجودة بشكل مستقل في انتظار اكتشافها. يُفترض، على سبيل المثال، أنه عندما نطلق على فعل معين تم تنفيذه في ساحة المعركة شجاعة، ثم نستخدم الكلمة نفسها، «الشجاعة»، في وصف فعل قام به زعيم سياسي، فهناك معيار واحد يفي به هذان الفعلان المختلفان، وتوصف الإنجازات العسكرية والسياسية بشكل صحيح بأنها شجاعة لأنها تفي بذلك المعيار الواحد. لكننا لسنا في موقف يمكِّننا من معرفة أن الشجاعة هي شيء واحد حتى نكتشف الوحدة الكامنة وراء جميع أفعال الشجاعة، مهما كانت مختلفة. هل يُظهِر ذلك أن هناك شيئًا خاطئًا في إجراء تحقيق سقراطي حول ماهية الشجاعة، أو ماهية أي شيء آخر؟ هل يجب أن نفترض مسبقًا أننا نحقق في موضوع موحد، على الرغم من أنه ليس لدينا أساس لهذا الافتراض؟ إذا كان التحقيق السقراطي غير سليم، فإن النهج الفلسفي الأفلاطوني كله غير سليم. لكن التوصل إلى هذا الاستنتاج أمر سابق لأوانه.
يجب أن نأخذ في الاعتبار أن الشجاعة العسكرية والسياسية ليس بينهما قواسم مشتركة مهمة، وقد نحتاج إلى معيارين مختلفين تمامًا عند استخدام مصطلح «شجاع» في المجال العسكري وفي المجال السياسي. فمجرد وجود مصطلح واحد يُستخدم لوصف الأشخاص الذين يواجهون المخاطر الجسدية بشجاعة، وأولئك الذين يخاطرون بمستقبلهم السياسي بشجاعة؛ لا يضمن تلقائيًّا أن تكون الشجاعة مفهومًا موحدًا في جميع السياقات. فمن الممكن أن نكون قد اعتدنا استخدام مصطلح واحد لوصف نوعين مختلفين من الظواهر، وقد يكون من الأفضل وصف هاتين الظاهرتين باسمين مختلفين بدلًا من دمجهما بشكل غير مناسب ضمن فئة واحدة. ربما لم يكن اختيار الأشخاص، الذين وضعوا قواعد استخدام كلمة «شجاع» وقرروا استخدامها للإشارة إلى الأعمال العسكرية والأعمال السياسية، حكيمًا باستخدام مصطلح واحد لوصف سلوكَين متباينَين. فإذا كان من المستحيل إيجاد تفسير واحد يوضح لماذا تُعَدُّ جميع الأعمال الشجاعة كذلك، فلا يمكن أن تكون هناك صفة واحدة أو شكل واحد يحدد الشجاعة. فالطريقة الوحيدة للتأكد من أن هناك عنصرًا مشتركًا بين جميع أعمال الشجاعة، وهو يفسر سبب تسميتها بالشجاعة، هي اقتراح نظرية حول ماهية الشجاعة والدفاع عنها. ويمكننا إثبات وجود خاصية (أو «شكل»، أو «مسلَّمة») للشجاعة من خلال نظرية للشجاعة توضح الوحدة الأساسية التي تتقاسمها التجسيدات المتنوعة للشجاعة.
يبدو أفلاطون واثقًا من أن هناك كثيرًا من الأشكال أو المُثُل، وأن منها ما يطابق المصطلحات الأخلاقية والرياضية التي نستخدمها، وغيرها من المصطلحات. ولكن إذا كانت ثقته مبرَّرة، فإن سبب هذه الثقة هو تقدم المسعى الفلسفي المستمر الذي نقوم به نيابة عنه: يجب أن ننجح في إيجاد نظريات تبرِّر حدسنا بأنَّ خلْفَ استخدامنا للمصطلحات الأخلاقية، والمصطلحات الرياضية، وما إلى ذلك، توجد بالفعل وحدة خفية تنتظر الكشف عنها. وفي ضوء ذلك، ينبغي اعتبار أفلاطون مُنشئًا خطةً منهجية تهدف إلى إجراء بحث فلسفي، وليس واضعًا لنظامٍ فكري مكتمل بالفعل.
في بعض الفقرات، يبدو لنا أن هناك شكلًا يطابق كل الأسماء التي نستخدمها في حياتنا اليومية، وأن وجود هذا الشكل هو تفسير لإمكانية استخدام ذلك الاسم للإشارة إلى مجموعة من الأشياء. على سبيل المثال، يقول سقراط في «الجمهورية»: «نحن عادةً ما نفترض شكلًا واحدًا لكلٍّ من الأشياء العديدة التي نطلق عليها المصطلح نفسه.» هنا هو يفترض أنه يمكننا الاعتماد على اللغة التي نتحدث بها، التي تعكس الاختلافات والقواسم المشتركة التي شكَّلت فكر أجيال عديدة، بوصفها مرجعًا لتحديد الخصائص المعنية.
لكن أفلاطون يدرك أيضًا أن لغتنا اليومية لا تعكس دائمًا الواقع بدقة. فهي أدوات ابتكرها البشر، وقد لا تكون مناسبة تمامًا، كأي أداة بشرية، لأداء وظيفتها. في محاورة «رجل الدولة»، وهي محاورة يُظَن عادةً أنها كُتبت بعد «الجمهورية»، يعبر المحاور الرئيسي، وهو زائر، لم يُذكَر اسمه، قادم من إليا إلى أثينا، عن عدم رضاه عن المصطلح اليوناني المبتدَع «بارباروس»، الذي يُترجَم إلى «همجي» أو «أجنبي». فمصطلح «بارباروس» يطلق على كل إنسان ليس من أصل يوناني، وهو ما يعُدُّه أفلاطون طريقة حمقاء لتصنيف البشر على أرض الواقع؛ لأنها تتعامل مع الهوية غير اليونانية كما لو كانت سمة واحدة موحدة، في حين أن هناك في الواقع اختلافاتٍ كبيرة بين أولئك الذين ليسوا من أصل يوناني. لا يمانع الزائر من إليا فكرةَ تصنيف البشر بطريقة أو بأخرى؛ فهو يعترف بوجود سمات تُميِّز اليونانيين، كما توجد سمات تُميِّز الفئاتِ الفرعيةَ البشرية الأخرى. ووَفقًا لوجهة نظره، فإن الكلمة اليونانية «إثنوس» (أي العِرق أو الأمَّة أو القبيلة) تشير إلى اختلافات حقيقية، ولكن لا يوجد مفهوم مماثل مثل «بارباروس» للإشارة إلى غير اليونانيين، على الرغم من أن كلمة «بارباروي» تضمهم جميعًا.
قد يؤدي توجهنا العالمي إلى الشكوى من أنه كان ينبغي لأفلاطون أن يجعل الزائر في محاورة «رجل الدولة» يشك في حقيقة جميع الفروق العرقية أو الوطنية، وليس فقط تقسيم سكان العالم إلى يونانيين و«بارباروي». ولكننا يجب أن نعترف أيضًا أن أفلاطون يفهم أخطار الاعتماد فقط على التقسيمات التي تخلقها كلماتنا لتشكيل تفكيرنا. فكما يلاحظ الغريب، إذا كانت لدينا كلمة تشير إلى جميع الأعداد باستثناء ١٠٠٠٠، فلن تكون هذه طريقة فعالة لتصنيف الأعداد. ففي هذه الحالة، لن تشترك الأعداد باستثناء ١٠٠٠٠ إلا في الاسم، أو بعبارة أخرى، لن يكون هناك سمة أو شكل مشترك بينها.
لم يُشِر أفلاطون قط إلى أن إعداد قائمة شاملة تضم جميع الأشكال هو مسعًى جدير بالاهتمام. فمجرد إدراج كل السمات في قائمة لن يكون إنجازًا ذا بال في حد ذاته. بل يقترح أن يولي الفلاسفة الاهتمام الأكبر للبحث في الأشكال أو المُثُل التي تحمل الأهمية الكبرى للوجود الإنساني، مثل العدل والجمال والخير والحب والوحدة والوجود.
ويقترح أفلاطون أيضًا استخدام أنظمة التصنيف الشاملة. فهو يرى أنه من أجل فهم جوهر أي ظاهرة مهمة، يجب أن نضعها ضمن مخطط هرمي يكشف عن القواسم المشتركة والفروق بينها وبين الظواهر الأخرى المرتبطة بها. يصر سقراط في «فيدروس» أنه لفهم طبيعة الحب، يجب تصنيفه بوصفه شكلًا من أشكال الجنون، ويجب علينا أن نفحص كيف يختلف عن أشكال الجنون الأخرى. بمعنًى آخر، هناك فئة أوسع من الجنون، ولكنها تحتوي على عدة فئات فرعية. هنا وفي العديد من المحاورات الأخرى («السفسطائي» و«رجل الدولة»)، كثيرًا ما يستخدم أفلاطون كلمة «الأنواع» للحديث عن الحقائق التي يجب أن تسعى الفلسفة لفهمها، ويتحدث عن المهارات الخاصة التي يجب أن يتحلى بها الفلاسفة في هذا المسعى، مثل مهارات «الجدل». (هذا المصطلح يعني الانخراط في محاورات شفهية مع شخص آخر، ويعد التحقيق السقراطي مثالًا رئيسيًّا على ذلك. ولا يزال مفهوم عدم الاتفاق في وجهات النظر المتعارضة مهمًّا حتى في استخدام كانط وهيجل لهذا المصطلح.) إن هدف المحاور، كما يقول في الفقرة من «فيدروس» المذكورة في بداية هذا الفصل، هو «تقسيم الموضوع إلى أنواع؛ وذلك مع مراعاة تفاصيلها الطبيعية والحذر من كسر أي جزء منها؛ حتى نتجنب طرق النحات الرديء.» والقيام بذلك يعني إبصار «الوحدة الطبيعية من خلال الكثرة».
في جوهر الأمر، تنخرط الأشكال أو المثل بطبيعتها في علاقات معقدة فيما بينها، ولا يمكن فَهمها منفردةً بمعزل عن غيرها. يبدو أن أفلاطون يشير إلى أنه لا ينبغي لنا أن نندهش من أن أعماله القصيرة التي تتناول الأخلاق وتتناول الخصائص الفردية منفردةً بمعزل عن غيرها؛ غالبًا ما تفشل في الوصول إلى استنتاج مُرضٍ. ربما كانت تلك الحوارات التي أعدها أفلاطون هي أدوات تعليمية تمكِّننا من التعرف على قيود الاستفسار عن «ما الشجاعة؟» دون أن نسأل في الوقت نفسه «ما العدل؟» أو طرْح نفس السؤال حول الفضائل الأخرى. بدلًا من ذلك، قد نقرأ تلك المحاورات — المحاورات السقراطية أو المحاورات الأولى — بوصفها المسارات التي أدرك أفلاطون من خلالها في البداية القيود المفروضة على التحقيق في الظواهر الأخلاقية واحدةً تلو الأخرى. في كلتا الحالتين، هناك افتراض موحِّد أساسي تسترشد به كتابات أفلاطون في كل هذه الأعمال؛ أن العالم منقسم بشكل طبيعي إلى حقائق موجودة بشكل مستقل عن العقل البشري، ويمكن للغة، في أحسن الأحوال، أن تقدم دليلًا غير كامل على ماهية هذه الحقائق. وتشير الحوارات المبكرة إلى الصعوبة غير العادية في الكشف عن طبيعة أهم هذه الحقائق، مثل العدل والحب والجمال.
إن طرح أفلاطون القائل بأن هناك حقائق غير مادية مستقلة عن العقل تُعد أساسًا لكل الأشياء ذات القيمة؛ هو من أكثر الأفكار تأثيرًا وإثارة للجدل في تاريخ الفلسفة الغربية. وفي حين أن أرسطو يوافقه الرأي جزئيًّا بشأن وجود مسلَّمات، فهو يرى أن الفلسفة الأخلاقية لا تعتمد على وجود الأشياء المجردة. وبعد وفاة سقراط، ظهرت مدارس فلسفية اعتنق بعضها فكرة وجود ميتافيزيقا لا تعترف سوى بوجود الأشياء المادية فقط. فالأبيقوريون، على سبيل المثال، يرون أن كل الموجودات — حتى الروح — تتكون من ذرات غير مرئية. وكان للرواقيين وجهات نظر مادية مماثلة. وقد أيَّد الفلاسفة المسيحيون بالطبع رفْض أفلاطون وأرسطو للمادية، لكن بعضهم اعتبر أن المسلَّمات تعتمد على العقل. وفي العصر الحديث، جادل العديد من الفلاسفة، متأثرين بأفكار كانط، بأن الأشياء التي تنشأ في العقل فقط هي التي يمكن معرفتها حقًّا. ومؤخرًا اتخذ بعض الفلاسفة موقفًا مفادُه أن جميع الفروق المتضمنة في لغتنا اعتباطية وتعكس الواقع السياسي والاقتصادي. فهم يقولون إن المفاهيم مثل العدل والخير والجمال هي مجرد نتاج للأعراف المجتمعية، ولا يمكن أن ترتكز على أي شيء سوى الآراء السائدة. وهذا المنظور هو شكل معاصر من البروتاجورية. إن أحد أسباب بقاء أفلاطون شخصية أساسية في الفلسفة هو أن القضايا التي تناولها بشغف لا تزال مهمة وذات صلة بالمناقشات الفلسفية المعاصرة.