الحب والجمال
… ومَن تعلَّم وتهذَّب في الحب إلى هذه الدرجة بتأمُّله في الأشياء الجميلة بالتدريج، وحسب ترتيبها الوجودي، فقد حصل الآن على غاية الحب. ويرى فورًا وفجأة نوعًا من الجمال عجيبًا في طبيعته؛ وهذا، يا سقراط، هو الجمال الذي لأجله تكبَّدت كل هذه المشاق. إنها طبيعة أبدية في المقام الأول، لا تعرف الولادة أو الموت، النمو أو الفساد. ثانيًا، إنها لا تكون جميلةً في وجهة نظر وبشعةً في أخرى، أو أنها تكون جميلةً في وقت أو في علاقة أو في مكان، وقبيحةً في وقت آخر أو في علاقة أخرى أو في مكان ثانٍ، كما لو أنها كانت جميلة للبعض وذميمة إلى الآخرين. ولا يمكن تصوُّر هذا الجمال للذهن كتصوُّر جمال الأيدي والوجه، أو أي عضو من البدن … بل إنه جمال محض، منفصل، بسيط، أزلي، جمال يُضفي على الجمالات الناشئة والفانية كل الأشياء الجميلة أبدًا، دون أن يقاسيَ هو ذاته نقصانًا، أو زيادة، أو تغييرًا … لكن ماذا إذا كان لدى الإنسان عيون لترى الجمال الحقيقي النقي الصافي غير المزيف، الجمال غير المدنَّس بالتلوث الجسدي وبكل ألوان وتفاهات الحياة الفانية، ناظرًا إلى هناك، ومُجريًا محادثة مع الجمال الحقيقي البسيط الإلهي؟ … وإذا تمكَّن الإنسان الفاني من فعل ذلك … فهل ستكون هذه الحياة حياة حقيرة؟ (ديوتيما، في «سمبوزيوم»، ٢١٠هـ–٢١٢أ) [ترجمة محمد لطفي جمعة بتصرف]
لا تؤكد وجهة نظر أفلاطون الميتافيزيقية وجودَ الكيانات المجردة فحسب، بل أيضًا تعُدُّ أن لبعضها درجاتٍ أكبرَ من بقية الكيانات في الأهمية. فالجمال والخير والعدل هي مفاهيمُ تَشغَل جزءًا كبيرًا من تفكيرنا ورغباتنا. فنحن لا يسَعُنا سوى أن ننجذب نحو الجمال في العالم المرئي، وننفر من القبح. ونتخذ قراراتنا باستمرار بناءً على ما هو جيد أو سيئ لنا. ويمكن أن يجعلنا الظلم في مؤسساتنا نبتعد عن السياسة، ولكن في بعض الأحيان يؤجج طموحات ثورية لعالم أكثر عدلًا. يمكننا أن نرتكب الأخطاء بسهولة، بل نتسبب في أذًى، إذا افترضنا دون أدنى شك أن أفكارنا غير المنقحة حول الجمال والخير والعدل هي أفكار صحيحة. فقد يكون لدينا تصور محدود جدًّا للأشياء الجميلة أو الجيدة أو العادلة؛ أو قد تكون بعض الأشياء التي نصفها بهذه المصطلحات في الواقع قبيحة أو سيئة أو خاطئة. فميتافيزيقية أفلاطون ليست بمعزل مطلقًا عن القرارات العملية التي نتخذها كل يوم. ويجب أن نفحص هذه الأشكال أو المثل — الجمال والخير والعدل — لأن سوء فهمها يؤدي إلى أخطاء خطيرة في الطريقة التي نعيش بها حياتنا.
يفترض أفلاطون أن البشر قد جُبلوا على حب الجمال والخير، ولكن ليس العدل. فيجب تعليم الناس أن يكونوا عادلين مع الآخرين، وسوف يزداد تقديرهم لهذه الفضيلة فقط إذا اعترفوا بجمالها وخيريَّتها. لذا فإن الخير والجمال لهما الأولوية على العدل؛ ويجب أن يُدرَس في ضوئهما. علاوة على ذلك، يرى أفلاطون أن الفرق بين الخير والجمال ليس كبيرًا. فيجب أن يُفهم كلاهما من خلال المصطلحات الرياضية؛ النسبة والتناغم والتوازن. لدى أفلاطون رؤية جمالية للخير. فهو يرى أن ما هو جيد من منظورنا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بما هو جذاب أو جميل أو رائع. وعلى النقيض، يرى العديد من فلاسفة العصر الحديث أن القيم الأخلاقية والقيم الجمالية مجالان منفصلان. فهم يفترضون أن كون الشخص طيبًا من الناحية الأخلاقية لا يتطلب أن يكون مُقدِّرًا للجمال، وتقدير الجمال ليس بالضرورة إنجازًا أخلاقيًّا. ما يجعل ميتافيزيقا أفلاطون وأخلاقياته مثيرة للاهتمام هو أنها تطمس هذه الفروق الحادة. فمحاورة «سمبوزيوم» التي يسعى فيها أفلاطون لاستكشاف حبنا للجمال هي محاورة غنية بالمعاني الأخلاقية وحتى السياسية.
إن تنوع الأشياء التي نجدها جميلة هو أمر لافت للنظر؛ فهي تشمل الأغاني، والشعر، وعناصر الطبيعة، مثل النجوم في ليلة صافية، والأجسام البشرية الجذابة، وأفعال اللطف أو النبل. وإحدى أعمق الأفكار المطروحة في محاورات أفلاطون هي مفهوم وجود كيان يختلف جماله تمامًا عن تلك الأشياء التي اعتدنا عليها؛ جمال شكل الجمال.
إن شكل الجمال هو في الواقع خاصية، بينما الأشياء التي نعُدُّها عادةً جميلة تمتلك فقط تلك الخاصية. ولكن الفقرة التي يبدأ بها هذا الفصل يبدو أنها توحي بأكثر من ذلك، فهي توضح أن شكل الجمال جميل في حد ذاته، وجماله يفوق جمال أي شيء آخر. وتفوُّق الجمال هذا يجعله الهدف الأسمى لجميع تطلعاتنا ورغباتنا؛ فإن تأمُّلَ الجمال بحد ذاته يجب أن يكون المحور الأكثر أهميةً في حياتنا. هذا ما تؤكده ديوتيما، وحسب أي تفسير معقول لمحاورة «سمبوزيوم»، فإن هذا هو الموقف الذي يؤيده أفلاطون ويوصي به قرَّاءه.
يرى أفلاطون أننا محقون في أن ننجذب إلى الأشياء الجميلة حقًّا في العالم المرئي — سواءٌ كانت الجاذبية الجنسية للأجساد الشابة أو الأنماط الجميلة للنجوم ومساراتها الدقيقة رياضيًّا — ولكن الجمال الأعظم موجود خارج حدود المكان والزمان والوجود المادي. فتقدير أفلاطون للجمال يشمل العالم المادي والعالم الروحاني، وهو يربط بين هذين العالمين. ولهذا نالت محاورة «سمبوزيوم» إعجاب طيف واسع من القرَّاء.
يوضح أفلاطون بجلاء أنه في حين أن بعض أجزاء الخطب الست التي تمجِّد إيروس إله الحب، والخطبة الواحدة التي تمجد سقراط، يكمل بعضها بعضًا من حيث محتواها، فإن هناك أيضًا بعض الجوانب المتعارضة. فلا يمكن القَبول بكل ما قيل عن إيروس في تلك الليلة، ولكن أفلاطون يترك لقُرائه مهمة إصدار أحكامهم الخاصة بشأن أي الأجزاء يحتوي على رؤًى حقيقية ذات قيمة، وأيُّها غير حقيقي. وينبغي على القراء أيضًا السؤال عن الدروس الفلسفية — إن وُجدت — التي يمكن استخلاصها من رواية ألكيبيادس لعلاقته الفاشلة مع سقراط.
يقدم حديث أرسطوفانيس في «سمبوزيوم» أفضل صورة حية للقوة النفسية للعلاقات الجنسية. فوَفقًا لقصته، كان البشر ذات يوم كائنات مستديرة الشكل لها ضعف عدد أعضاء الجسم التي لديها الآن: وجهان (على جانبين متعاكسين من الرأس) وأربع أذرع وأربع أرجل ومجموعتان من الأعضاء التناسلية، وهكذا. ونتيجة لذلك، امتلكوا قوة هائلة لدرجة أنهم شكَّلوا تهديدًا للآلهة. لذلك، قرر زيوس أن يقسمهم نصفين، بحيث امتلك كل إنسان وجهًا واحدًا وساقين وأصبح غير مستدير الشكل. ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان؛ فقد أصبح كل إنسان، بعد أن تم فصله عن نصفه الطبيعي الآخر، يتوق إلى لمِّ شمله مرة أخرى مع نصفه الآخر. ونظرًا لوجود ثلاثة أنواع من الأجسام في الأصل — جسد به عضوان تناسليان ذكريان، وجسد به عضوان تناسليان أنثويان، وجسد به عضو تناسلي ذكري وآخر أنثوي — فقد أدى ذلك إلى وجود ثلاثة أنواع من الرغبات الجنسية بعد تقسيم الجسد البشري الأصلي نصفين: حب ذكَر لنصفه الذكَري الآخر، وحب أنثى لنصفها الأنثوي الآخر، وحب ذكَر وأنثى لنصفهما من الجنس الآخر.
وَفقًا لهذه الأسطورة عن الرغبة البشرية، فإن العلاقات المثلية هي علاقات طبيعية وجديرة بالإعجاب؛ شأنها شأن العلاقات بين جنسين مختلفين. لا شك في أن أفلاطون نفسه، مثل جميع المتحدثين في هذه المحاورة، يرى قيمة كبيرة محتملة للانجذاب الجنسي المثلي. وقد تم تصوير سقراط في الحوارات المبكرة على أنه شخص ينجذب للشباب الوسيمين، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى جاذبية أجسادهم الفتية. ومع ذلك، فقد كان أفلاطون يعارض الجماع الجنسي بين الذكور أو بين الإناث. ويصر محاوروه الرئيسيون في «فيدروس» و«القوانين» على أنه من الأفضل للعشاق المثليين الامتناع عن الجماع.
ويضيف أرسطوفانيس جانبًا آخر إلى قصته الخيالية عن التحول البشري: فبعد أن فصل زيوس الأجسام البشرية نصفين، وسعى كلٌّ منهما للاتحاد مرة أخرى مع نصفه الآخر، فإنهما، عند العثور على هذا النصف الآخر، كانا يتعانقان، رافضَين أن يترك أحدهما الآخر. وكانت أعظم رغبة لهما هي النمو معًا لاستعادة شكلهما الكامل المستدير. ونتيجة لذلك، بمجرد أن يعثُر أحدهم على الآخر، كانا يصبحان خاملَين تمامًا، لدرجة أن بعضهم كان يموت جوعًا؛ لأنهم لم يتحملوا التوقف عن احتضان الحبيب. فأشفق زيوس عليهم، وقام بعملية تحوُّل ثانية؛ إذ نقل أعضاءهم التناسلية من الخلف إلى الأمام، بحيث يحقق كلٌّ منهما الإشباع الجنسي ثم يكون على استعداد للانخراط في المهام الحياتية اليومية. ووَفقًا لهذا التفسير، فإن الحب الجنسي هو اشتياق إلى الوحدة الجسدية التي تتحقق جزئيًّا من خلال العناق، والإشباع الجنسي ليس هدفًا بل وسيلةٌ للتخفيف مؤقتًا من الشوق لاحتضان ذلك الشريك بعينه الذي يجلب لحياته الرضا والسعادة.
تصوِّر أسطورة أرسطوفانيس ببلاغة جانبًا أساسيًّا من سيكولوجية النفس البشرية، وهو تَوْقُنا للتقارب الجسدي، الذي يتجلى في رغبتنا في لمس شخص نحبه، وتقبيله، وعناقه، وإقامة علاقة جنسية معه. وبالطبع، تعبر أيضًا عن فكرة وجود شخص واحد فقط لكلٍّ منا، هو الشخص المثالي له، وهو ليس الشخص الذي يمتلك صفات عامة جذابة (لأن العديد من الأشخاص الآخرين قد يمتلكون تلك الصفات نفسها)، بل هو فرد فريد؛ وهو الشخص الذي كان مرتبطًا جسديًّا به في السابق.
ولكن، دعونا نفكر في كيفية تحويل القصة الرائعة لأرسطوفانيس من مظهرها الأسطوري إلى مناقشة نظرية حول أهمية الحب الجنسي وطبيعته. يزعم أرسطوفانيس أننا نتوق للعثور على شخص واحد فقط والبقاء معه، لكنه يحتاج إلى تحديد من هو هذا الشخص الفريد، دون الاعتماد على أسطورة تقسيم الأجسام البشرية الكروية. وينبغي أيضًا أن يوضح ما القيمة في شوقنا لتحقيق القرب الجسدي أحيانًا. يبدو أن أرسطوفانيس يقول إن هذه الرغبة في البقاء مع شخص واحد هي ميل نفسي فطري يجب الاعتراف به بوصفه ضرورةً لا يمكن تغييرها. إنه لا يستكشف قيمتها المتأصلة، وربما تفتقر قصته ببساطة إلى الأدوات اللازمة للإجابة عن هذا السؤال. ومن وجهة نظر أرسطوفانيس، فإن حقيقةَ أن الجماع عادةً ما يؤدي إلى الذرية، وهو الطريقة التي ينتج بها جيل الجيل الذي يليه، هي نتيجة غير مقصودة للترتيب الحالي لأعضائنا التناسلية. وهو يعتقد أن الراحة الجنسية هي التي تخدم غرضًا جديرًا بالاهتمام — فهي تسمح لنا مؤقتًا بالقيام بأعمالنا اليومية — وليس الجماع. ويريد أفلاطون أن يجد قرَّاؤه أخطاءً في هذه الجوانب من خطاب أرسطوفانيس، وأن يلجئوا إلى سقراط للحصول على أفضل نظرية فيما يتعلق بالحميمية والجنس. قد يرغب أفلاطون أيضًا في جعلنا نفكر أي العناصر من خطاب أرسطوفانيس يمكن تعديلها وتبنِّيها.
وبعد انتهاء أرسطوفانيس من حديثه، جاء دور أجاثون (الذي أقيمت الوليمة على شرفه)، ثم جاء دور سقراط ليمتدح إيروس. يبدأ سقراط بمشاركة ما تعلَّمه من ديوتيما، ولكن قبل أن يفعل ذلك، حدد بعض النقاط الأولية من خلال استجواب أجاثون. وقد اتفق كلاهما على أن الحب هو رغبة شديدة في شخصٍ ما أو شيءٍ يفتقده المرء. وكأي رغبة، فهي موجَّهة نحو المستقبل، فنحن لا نريد ما لدينا بالفعل. فعلى سبيل المثال، إذا قال أحدهم إنه يريد أن يصبح ثريًّا، فهذا يعني إما أنه ليس ثريًّا في الوقت الحاضر ولكنه يريد الثراء في المستقبل، وإما أنه يريد أن يستمر ثراؤه الحالي في المستقبل. لذا ينشأ الحب عندما يشعر المحب بالنقص أو الفقدان: فهناك شيء مفقود، والحب هو القوة الدافعة التي تجعل المحب يبحث عن ذلك الشيء المفقود.
يصبح هذا المنظور أكثر تفصيلًا عندما يعلن سقراط أن بقية حديثه حول الحب سيعكس محادثاته التي أجراها مع ديوتيما. فقد علَّمته ديوتيما أن الحب لا يقتصر على الأشخاص الآخرين. فيمكن القول إننا نحب أي شيء نعُدُّه جيدًا ونتمنى بشدةٍ امتلاكه في المستقبل. «يريد الحب أن يحتفظ بما يراه صالحًا إلى الأبد.» بعبارة أخرى، لا توجد مرحلة في المستقبل لن نود فيها أن نمتلك الأشياء التي نتوق إليها؛ فإذا كان ممكنًا، فإننا نرغب في امتلاك هذه الأشياء الجيدة إلى الأبد. فالشخص الذي يحب الحياة، على سبيل المثال، سيرغب في العيش إلى الأبد. ثم تقترح ديوتيما أن الإنجاب هو الطريقة التي يعبر بها كل إنسان — وكل حيوان — عن توقه لامتلاك الخير الأبدي الذي يسعى إليه. فالرغبة في إنجاب الأطفال هي في الأساس رغبة في خلق شيء مشابه للنفس، وسيساعد ذلك الطفل بدوره على إنتاج جيل جديد يومًا ما، وهكذا. هناك قوة نفسية موجودة داخلنا، وداخل الحيوانات الأخرى أيضًا، تؤدي إلى إعادة إنتاج ما نُقدِّره؛ فهذه طريقتنا لأن نكون جزءًا من سلسلة أبدية من الكائنات التي تشترك في الصفات والقيم. وهذا هو السبب وراء أهمية الجمال في حياتنا: فنحن نحتاج إلى شريك نشترك معه في عملية الإنجاب، والحقيقة القاسية هي أننا نفضِّل الشركاء الذين نجدهم جذابين وجميلين. وعلى حد تعبير ديوتيما، فإن الشخص الواقع في الحب يسعى إلى «التناسل والإنتاج في الجمال».
في حديث أرسطوفانيس عن إيروس، لعب الإنجاب دورًا ثانويًّا؛ فهو نتيجة ثانوية غير مقصودة لتغيير موضع أعضائنا التناسلية، والغرض من هذا التغيير في الموضع هو تلبية الرغبات الجنسية، وليس إنجاب الأجيال المستقبلية. وفي المقابل، تقدم ديوتيما تفسيرًا أكثر عمقًا للجماع الجنسي وبشكل عام للرغبة الجنسية، فهي ترى أنه الوسيلة التي من خلالها تحصل الكائنات الحية على الحيازة الأبدية لما تُقدِّره. وتفرِّق ديوتيما بين نوعين من الحمل. الأول هو الحمل الجسدي المعتاد الناتج عن الانجذاب الجسدي لشخص آخر، وهو ما ينتج عنه الذرية. ويعكس هذا النوع من الحمل حب الإنسان للحياة. ولكن هناك شكل ثانٍ وأسمى من الحمل: وهو الذي يحدث داخل الروح وليس الجسد، وهو الحالة التي يكون عليها الشخص عندما يبحث عن شريك يتمتع بصفات نفسية جميلة بهدف إنتاج الأفكار والكلمات الجميلة، وليس الذرية. ويتضمن هذا الحمل الداخلي إنتاج الأفكار حول الأشياء الجيدة التي يسعى هو وشريكُه لامتلاكها لأنفسهم وللآخرين، ويسعيان لتوريثها للأجيال المستقبلية. تتصور ديوتيما إذَن وجود علاقة بين الأشخاص الذين يجد بعضهم بعضًا جذابين بسبب شخصيتهم المميزة، وبين أولئك الذين لا يهتمون ببعضهم فحسب، بل أيضًا بتوريث التميز للآخرين في المستقبل البعيد. وهذا يختلف كثيرًا عن وجهة نظر أرسطوفانيس في الرغبة الجنسية: فهو يرى أن العشاق يركزون حصريًّا على فرد واحد فقط — نصفهم الآخر — ولا يخدم حبهم لبعضهم أيَّ غرض اجتماعي أكبر.
تصف ديوتيما سلسلة من الخطوات التي يجب أن يمر بها العشاق الاستثنائيون مع تكشُّف رحلتهم الفكرية، وتوجيههم للتعمق أكثر في الأفكار الموجودة داخلهم. يجب عليهم تجنب المبالغة في تقدير جمال أي جسد أو شخص معين. (لاحظ مرةً أخرى كيف تختلف هذه النظرية عن نظرية أرسطوفانيس.) يجب أن يدركوا أشكال الجمال المختلفة، وليس جمال الأجساد المادية فحسب. يزداد نضج أفكارهم حول ماهية الجمال؛ إذ يدركون جمال الأشياء الذي لا يمكن إدراكه بالحواس كما هو الحال مع الألوان والأصوات؛ مثل المؤسسات الاجتماعية، والقوانين، والفروع المختلفة للمعرفة. وفي مرحلةٍ ما، سيمنحهم ما تعلَّموه عن الأنواع المختلفة من الجمال فهمًا لماهية الجمال نفسه: ستكون هذه رؤية الجمال التي وصفتها ديوتيما في الفقرة في بداية هذا الفصل. إن أعظم فائدة تقدمها لنا الرغبة الجنسية، إذا كنا نعرف كيفية استخدام هذه القوة النفسية لصالحنا، هي رؤية كائنٍ جمالُه يتجاوز جمال الكائنات الجميلة الأخرى. بالنسبة لأرسطوفانيس، فإن الرغبة الجنسية هي قوةٌ تجمَع الأجساد معًا وتحجُب كل شيء آخر. أما وجهة نظر ديوتيما المختلفة فهي أننا من خلال الرغبة الجنسية نكون مستعدين للانفتاح على عالم كامل من الأشياء الجذابة، متوجًا بالشيء الأجمل على الإطلاق.
ولكن، ألَا يمكن أيضًا أن يكون الحب قوة مدمرة في حياة الإنسان؟ لا يطرح أرسطوفانيس ولا ديوتيما هذا السؤال. فتصوراتهما للرغبة الجنسية، على الرغم من اختلافاتهما، تتجاهل الجانب المريض أو المضطرب أو المجنون من الرغبة الجنسية. يتناول أفلاطون القدرة الهدَّامة للحب في محاورات أخرى، خاصة في «فيدروس» و«الجمهورية». فمن الممكن أن يطلب العشاق من بعضهم، بدافع الغيرة والغضب وحب التملك، مطالبَ غير معقولة. ويسعَون إلى تحقيق الإشباع الجنسي والحميمية حتى وإن أضرَّ ذلك بالشخص الذي يجدونه جذابًا. ويكرهون أولئك الذين يتصورونهم أو يعُدُّونهم منافسين، ويمكن أن تقودهم الظروف إلى تدمير الأشخاص الذين يحبونهم. ولكن في «سمبوزيوم»، فإن الحديث الذي يذكِّرنا بالجانب المظلم للحب هو الذي ألقاه ألكيبيادس المخمور والصاخب، الذي وصل متأخرًا جدًّا إلى الحفلة لدرجة أنه لم يسمع أي شيء قاله الآخرون.
كان القراء المعاصرون لأفلاطون يعُدُّون ألكيبيادس رجلًا خطيرًا غير أمين، يتمتع بطموح هائل وموهبة سياسية وعسكرية كبيرة. وكانت العلاقة الوثيقة بينه وبين سقراط أحد الأسباب التي جعلت سقراط شخصية مشكوكًا فيها في الحياة العامة الأثينية. وحديثه، الذي احتل مكان الصدارة في نهاية المحاورة، هو واحد من أبرز العناصر في «سمبوزيوم»، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبير إلى إظهاره لقوة شخصية سقراط. ولكنه يُظهر أيضًا الطريقة التي يمكن أن تتأثر بها العلاقات الإنسانية الجنسية سلبًا بسبب سوء الفهم. يظن ألكيبيادس أن بإمكانه استخدام جاذبيته الجسدية لإغواء سقراط، ويريد إغواءه لأنه يعتقد أن سقراط سيعلِّمه، في المقابل، كيف يكون حكيمًا، كما لو كان سقراط سفسطائيًّا مثل بروتاجوراس أو خطيبًا مثل جورجياس، ولديه المعرفة اللازمة لتحقيق تأثير سياسي كبير. فبمجرد أن عَلِم ألكيبيادس أن سقراط موجود في الحفلة التي تطفَّل عليها للتو، اقترب منه، وسلط أفلاطون الضوء على الطبيعة القوية للرغبة الجنسية. فجعل أفلاطون سقراط يتوسل إلى أجاثون: «هيِّئ دفاعًا عني … لا أستطيع أن أحادث سواه، بل لا يتم لي أن أنظر إلى غيره، فإذا فعلت فإنه [ألكيبيادس] يَغار غيرةً شديدة، ويستسلم للإغراق في إظهار استيائه … ويندُر أن يصون يده عن ضربي. لذا، إذا حاول استخدام العنف … دافِعْ عني.» ربما يكون هناك بعض المبالغة الكوميدية في هذه السطور (هل يعتقد سقراط حقًّا أن أحدًا على وَشْك أن يعتدي عليه؟) ولكن الهدف من هذه المبالغة هو اطلاعنا على العنف المتأصل في الرغبة الجنسية.
إن أحد الدروس التي يمكن تعلُّمها من خطاب ألكيبيادس هي أنه حتى الأشخاص المتلاعبون والمتعطشون للسلطة مثله لديهم جانب جذاب؛ لأنهم قادرون على الاعتراف بالتفوق الأخلاقي للأفراد غير العاديين مثل سقراط والتطلع، ولو لفترة وجيزة وبطريقة غير مسئولة، لأن يكونوا مثلهم. فالاعتراف ببعض القدرة المحتملة على الخير حتى في الأشخاص المدمرين، هو جزء من الأطروحة الكبرى في «سمبوزيوم»، وهي أن جميع الكائنات، حتى الحيوانات، لديها قدرة طبيعية على استقبال ما هو ذو قيمة في العالم. فنحن جميعًا مغرمون بالجمال ونبحث عن طريقة لجعله خاصًّا بنا. وإذا لم نهذب استجابتنا الفطرية، فإنها لن تؤدي إلى شيء أكثر سموًّا من التكاثر الجسدي، ويمكن أن تتحول بسهولة إلى عنف وتلاعب. نحن بحاجة إلى رؤية مدى الترابط بين الجمال والخير، وبحاجة إلى فَهمٍ أفضل لما هو خَيِّر، إذا أردنا الاستفادة من الرغبة الجنسية. ولفعل ذلك، يجب، كما تقول ديوتيما، أن «نتعلم ونتهذب في الحب» ونتأمل «الأشياء الجميلة حسب ترتيبها الوجودي»؛ حتى نقترب من «غاية الحب»، الذي هو إدراك أجمل شيء موجود، وهو الشكل المجرد للجمال. يوجد في هذا الحوار وفي جميع أعمال أفلاطون قدرٌ كبير من التفاؤل وقدرٌ كبيرٌ من التشاؤم. فالقوى النفسية التي تحكم البشر تجعلنا على اتصال بما هو ذو قيمة، وتجعل من الممكن لنا أن نتعلم المزيد عما هو جميل وخَيِّر. ولكن الحب وأهدافه الصحيحة أمر عسير الفهم علينا، ومن النادر أن يرى أيُّ شخص كلَّ ما هو جميل في العالم وخارجه.
تصوِّر محاورة «سمبوزيوم» الرغبة الجنسية باعتبارها قوة هي مزيج معقد من العناصر الأنانية والإيثارية. يوضح حديث أرسطوفانيس، بجميع عيوبه، هذه النقطة جيدًا؛ لأنه يتصور الرغبة الجنسية بوصفها دافعًا يشبع أعمق حاجة للإنسان ويجمعه بشخص آخر. فالشخص الذي يبحث عن نصفه الآخر يحاول تضميد جرح. ومن مصلحته أن يتوحد مع الشخص الذي سيكمله. وهذا لا يعني أنه يريد استخدام الشخص الآخر لأغراضه الأنانية. إنه يريد فقط أن يقضي حياته معه، وأن يكون واحدًا معه أو معها. ويبادله حبيبُه الشعورَ بطريقة مماثلة. فكلٌّ منهما يفكر دومًا في نفسه وفي نصفه الآخر.
تم الاحتفاظ بهذه الفكرة في خطاب ديوتيما، على الرغم من التخلي عن الجزء الأسطوري من القصة ودمج علم النفس مع نظرية أفلاطون للأشكال. إن إحدى الأفكار الرئيسية لأفلاطون هي أن الدافع الجنسي الذي يكمن وراء الكثير مما نفعله؛ هو تعبير عن حب الذات وشوقنا لأن نصبح جزءًا من مجتمع أكبر، وأن نكون في وئام مع كل ما هو جميلٌ في العالم. ولا ينبغي القضاء على الطبيعة الأنانية التي تكمن وراء الحب الجنسي، بل ينبغي تهذيبها.
ينبغي أن نعقد مقارنة بين هذا التصور للحب والنظريات التي تدعونا إلى تجاهل التفكير في احتياجاتنا الخاصة، أو جعْلها ثانوية مقارنةً باحتياجات الآخرين. فالفلاسفة الذين تأثروا بكتابات كانط، على سبيل المثال، يعتقدون أن لدينا واجبًا أخلاقيًّا لتعزيز سعادة الآخرين، ولكن ليس لدينا واجب أخلاقي للسعي وراء سعادتنا الخاصة، وأن الواجبات الأخلاقية يجب أن تُعطى الأفضلية دائمًا على الخيارات الأخرى. فالأفعال التي يقوم بها الفرد جزئيًّا من أجل سعادته الخاصة لا تُعَد ذات قيمة من الناحية الأخلاقية؛ ولذا فإنها تحمل قيمةً أقلَّ من الأفعال التي يقوم بها الفرد بدافع الواجب. ويرى الفلاسفة الذين تأثروا بكتابات ميل وغيره من النفعيين أنه ينبغي للفرد التضحية برفاهيته كلما كان ذلك في صالح الآخرين. كما يقدم المفكرون المسيحيون أيضًا أعلى درجات الثناء على التفاني في خدمة الآخرين. أما أفلاطون، فهو أكثر تقبُّلًا بكثير لفكرة الأنانية الشائعة بين البشر. وهو لا يرى أن يحب الفرد نفسه فقط أو أن يحب نفسه أكثر من أي شخص آخر. فالعاشق الذي صوَّره أرسطوفانيس يحب نصفه الآخر بقدر ما يستجيب لاحتياجاته الخاصة، ولا يُفرِّق بين نفسه وبين معشوقه. وبالمثل، يقترح أفلاطون، على لسان ديوتيما، أن أولئك الذين تعلموا أمور الحب سيحبون عالم الجمال بأسره لأنهم يرون أن هذا هو أفضل ما يخدم مصلحتهم. تعتبر محاورة «سمبوزيوم» نصًّا أساسيًّا لكل من يرى أن حب الآخرين لا يتعارض مع حب الذات، بل يكمله.