الفصل السادس

الارتقاء نحو الخير

سقراط: تصوَّر طائفة من الناس تعيش في كهف سفلي، يدخله النور من باب في طوله. وقد سُجن فيه أولئك الأقوام منذ نعومة أظافرهم، والسلاسل في أعناقهم وأرجُلهم، فاضطرتهم إلى الجمود. ولم يستطِع أولئك الأقوام سوى النظر إلى الأمام لحيلولة الأغلال دون الْتِفاتهم. وكانت وراءهم نار ملتهبة في مواضع أعلى من موقفهم، وبينهم وبينها دكة عليها جدار منخفض. كان كسياج المشعوِذين الذين ينصبونه تجاه مشاهديهم … وتصوَّر أناسًا يمشون وراء ذلك الجدار، حاملين تماثيل بشرية وحيوانية، مصنوعة من حجارة وأخشاب ضخمة من كل أنواع الأواني مرفوعة فوق الجدار …

جلوكون: إنك تصور مشهدًا غريبًا ونوعًا غريبًا من السجناء.

سقراط: إنهم يشبهوننا. («الجمهورية» ٥١٤أ-٥١٥أ) [ترجمة حنا خباز بتصرف]

مثلما تركِّز محاورة «سمبوزيوم» على فكرة شكل الجمال لأنه أكثر ما يحبه الناس، فإن شكل الخير هو الفكرة الرئيسية في «الجمهورية» لأنه أكثر ما يفهمه الناس. فهناك تشابهات ملحوظة بين فقرتين رئيسيتين في كل محاورة: ففي «سمبوزيوم»، تتحدث ديوتيما عن عملية «التعرف على الأمور المتعلقة بالحب» بحيث يدرك العاشق تدريجيًّا العديدَ من الأشياء الجميلة التي تستحق أن يهتم بها، ويزداد جمال ما يحب، حتى يتمتع برؤية الجمال نفسه. وبالمثل، في الكتاب السابع من «الجمهورية»، يوصي سقراط ببرنامج محدد لدراسة الرياضيات والعلوم لأولئك الذين يطمحون إلى أن يصبحوا فلاسفة. تمكِّن هذه الدراسات الطالب من التعامل مع الأشياء التي تصبح أكثر وضوحًا وواقعية مع الوقت؛ مما يؤدي في النهاية إلى فَهم الخاصية الأكثر أهميةً على الإطلاق، وهي شكل الخير.

المقطع المذكور أعلاه هو من بداية الكتاب السابع في «الجمهورية» (ينقسم كتاب «الجمهورية» إلى عشرة «كتب» — من الأفضل أن نطلق عليها «فصولًا» أو مجرد «أجزاء»). وهو يشرح المرحلة الأولية من التقدم الذي يجب أن يحققه ليس فقط من يطمح إلى أن يصبح فيلسوفًا، بل أيضًا أيُّ شخص يسعى لحياة أفضل. فالمقارنة هنا بيننا وبين السجناء في كهف هي واحدة من أكثر الصور المزعجة التي لا تُنسى في أعمال أفلاطون. فعندما يقول سقراط عن السجناء «إنهم يشبهوننا»، فهو لا يعني هنا محاوريه فحسب، بل يعني جميع البشر. فنحن جميعًا نولد في نوع من العبودية أو السجن، ويجب أن نسعى جاهدين لإيجاد طريق إلى عالم أكثر إشراقًا وسعادة؛ من خلال التغلب على فَهمنا المحدود للعالم الذي نعيش فيه. فإذا تمكَّنا بطريقةٍ ما أن نُشيح ببصرنا بعيدًا عن جدار الكهف — أو ساعدنا شخصٌ ما على فعل ذلك — فسنظل في محيط مظلم، ولكن على الأقل ستصبح رؤيتنا للعالم أقل تشويهًا وأقل تعرضًا للتلاعب. وإذا لم ندرك أن الأشياء التي نوليها اهتمامًا هي مجرد صور، فسنكون عرضة للاستغلال من قبل الأشخاص الذين يلقون الظلال على جدار الكهف.

إن كتاب «الجمهورية» هو في الأساس عمل سياسي من البداية إلى النهاية. فعنوان الكتاب نفسه (باليونانية: politeia؛ تعني الكلمة اللاتينية res publica الشئون العامة) يؤكد طابعه المدني، وتشبيه الكهف الذي تحدث عنه سقراط له بالتأكيد معنًى سياسي. فهو يقول إنه إذا ما حالف الحظ الكافي السجناء وتحرروا من أغلالهم، فسيجدون صعوبةً في التأقلم مع حياتهم الجديدة، وسيظنون، بحكم العادة، أنهم كانوا في وضع أفضلَ عندما كانوا ينظرون إلى الأمام ويواجهون جدار الكهف، الذي يمكِّنهم بسهولة من التعرف على الأشياء المألوفة. سيؤذي الضوء الساطع للنار داخل الكهف أعينهم، وسيكون من الضروري إجبارهم على عدم الفرار إلى أغلالهم السابقة. وإذا أُجبِر السجناء السابقون على الخروج من الكهف، فسيستغرق الأمر أيضًا بعض الوقت قبل أن يتمكنوا من التكيف مع كمية الضوء الأكبر؛ ومن ثَم يجب أن يبدءوا استكشافاتهم للعالم الطبيعي بدراسة النجوم والقمر خلال الليل، والظلال التي تلقيها الشمس خلال النهار. ولكنهم في النهاية سيتمكنون من النظر إلى السماء في وضح النهار، والتعرف على الأهمية الكبيرة التي تمثِّلها الشمس لجميع الكائنات الحية. حينها سيفهمون تمامًا أن حياتهم الآن أفضل بكثير. وإذا ما عادوا في أي وقت إلى الكهف، لإنقاذ الذين لا يزالون يعيشون هناك، فسيتعين عليهم المرور بفترة أخرى من التكيف. في البداية سيتمكن السجناء الذين لم يغادروا الكهف أبدًا من التعرف على الظلال على الجدار أفضل من السجناء العائدين لإنقاذهم، ولن يشعروا إلا بالازدراء تجاه أي شخص يدَّعي أنه رأى عالمًا أفضل.

وعلى الرغم من أن العَداء الذي سيُظهره سكان الكهف في البداية تجاه الذين سيحررونهم؛ هو إشارة رمزية إلى رد فعل الأثينيين الشائع تجاه سقراط، يجب ألا نظن أن أفلاطون يعني بذلك أنه سيكون هناك بالضرورة علاقات عدائية بين الناس العاديين وأولئك الذين اكتسبوا فَهمًا لأهم خصائص العالم. فأفلاطون يصور في كتاب «الجمهورية» مجتمعًا سياسيًّا افتراضيًّا يتألف من الفلاسفة وغير الفلاسفة؛ إذ يوجد تناغم كبير واحترام متبادل. المتحاورون الرئيسيون في «الجمهورية» هم أديمانتوس وجلوكون (هذان هما اسما أخوَي أفلاطون) وسقراط. لم يكن هذان الأخَوان من الفلاسفة، ولكن على الرغم من اختلاف وجهة نظرهما عن وجهة نظر سقراط في البداية، فإنهم جميعًا يتفقون على أن هناك دورًا مهمًّا يلعبه أولئك الذين درسوا الأشكال — وخاصةً شكل الخير — في الحياة المدنية، وأن جميع المواطنين سيعترفون بهذا الدور، عندما تعزِّز الظروف الاجتماعية العلاقات الودية.

يقول سقراط إن شكل الخير مشابه للشمس. فوجود كل شيء في العالم المرئي وإمكانية إدراكه بالحواس؛ يعتمد على حرارة الشمس وضوئها. وبالمثل، يعتمد وجود الأشكال وإدراكها على الخير. إن هذه أفكار محيرة، ولكن من الواضح أن أفلاطون يقترح أنه يمكننا أن نفهم بشكل أفضلٍ بنية الكون عن طريق رؤيته بوصفه ترتيبًا جيدًا ومتوازنًا ومنظمًا ومتناغمًا. وعلى أي حال، يقترح المتحدث طيماوس الذي يحمل أحد الكتب اسمه (كُتِب بعد «الجمهورية») أنه يمكن رؤية العالم على أنه بناء حوَّله صانع نصفُ إلهي إلى حالة منظمة ومرتبة؛ من خلال النظر إلى الأشكال الأبدية وخلق تقريبات لها. فالعالم المرئي، وفقًا لطيماوس، بعيد كلَّ البعد عن الكمال، ولكن النظام الكبير الذي يمتلكه يكشف حقيقةَ أنه صنيعة عقل صمَّمه ليكون جيدًا قدر الإمكان بالنظر إلى الطبيعة القاصرة للمواد التي تم تشييده منها. وهذا قد يكون أحد الأسباب في أن أفلاطون يظن أن فهم شكل الخير هو أمر غاية في الأهمية: ففعل ذلك سيزيد من تقديرنا للطبيعة غير الكاملة لنظام الكون المرئي الذي نعيش فيه؛ لأننا سنفهم النموذج المُحكم الذي تم تشكيله بواسطة قوة إلهية.

ربما تأثر أفلاطون أيضًا بالاعتقاد بأن شكل الخير له الأهمية القصوى بسبب الدور الذي يلعبه الخير في تفكيرنا العملي العادي ومساعينا. وعلى الرغم من أننا نادرًا ما نتوقف للتفكير في الأهداف النهائية لأفعالنا، فإن أفلاطون يفترض أننا نسترشد دون وعي بالافتراضات التي نفترضها حول الخير الذي نفعله لأنفسنا، أو أصدقائنا، أو عائلاتنا، أو أبناء جلدتنا. وفي هذا الصدد، يلعب الخير دورًا أكثر أهميةً في حياتنا مقارنةً بالدور الذي يلعبه الجمال. فقد يوصف بعض أفعالنا بأنه رائع أو نبيل أو جميل. ولكن ليس كل شيء نفعله يمكن وصفُه بهذه الطريقة. فعندما نحافظ على لياقتنا وصحتنا، على سبيل المثال، فإننا نفعل ذلك لأننا نفترض أنه خير لنا أن نفعل ذلك، ولكن لا يتعين أن نفترض أن الصحة نبيلة أو جميلة. وبالمثل، عندما نسعى وراء المتَع البريئة والملذات، فإننا نعتبر ذلك خيرًا، حتى لو لم يكن ما نتمتع به نبيلًا أو جميلًا. وهذه الحقائق حول المكانة المهمة التي يحتلها الخير في تبرير أفعالنا من المفترض أنها تشجع أفلاطون على تَبنِّي فكرة أن أعظم موضوع للبحث الفلسفي — وذروة الصعود من الكهف إلى الهواء الطلق — هو شكل الخير.

وقد كُتب كتاب «الجمهورية» بناءً على تلك الفرضية. فالحوار في الكتاب هو استكشاف لطبيعة العدل، والمشكلة التي يسعى إلى حلها هو ما إذا كان العدل خيرًا. يبدو أن أفلاطون يفترض أنه لا يكفي أن يكون الموقف عادلًا. فيجب أن يكون الشخص العادل خيِّرًا، وإلا فسيتم التشكيك في تأثير هذا العدل وأهميته. هذه الأطروحة، التي يسعى سقراط إلى إثباتها في «الجمهورية»، هي بالتأكيد فكرة قابلة للنقاش، ومن المرجَّح أن أفلاطون يدرك ذلك؛ وإلا لَمَا بذل مجهودًا في كتابة عمل طويل ومعقد لإثباتها. في الكتاب الأول من المحاورة، يقدم أحد المتحاورين البارزين، وهو مُعلِّم خَطابة يُدعى ثراسيماخوس، حججًا تعارض هذه الأطروحة؛ ويضيف جلوكون وأديمانتوس، في الكتاب الثاني، تفاصيل أخرى لدعمه. ويشير أفلاطون ضمنيًّا إلى أننا لن نكون قادرين على تسوية هذا الخلاف حتى نصل إلى فهم أعمق لطبيعة الخير. ويبدو هذا منطقيًّا تمامًا؛ فكيف يمكننا أن نقرر ما إذا كان العدل جيدًا لشخصٍ ما، ما لم نوضح ما يعنيه أن يكون الشيء جيدًا؟

ومع ذلك، لا يُقال سوى القليل جدًّا في «الجمهورية» — على الأقل صراحةً — حول ماهية الخير. ويُطرَح السؤال في عدة صفحات قبل أن يَعرِض سقراط تشبيه الكهف. فهو يشير إلى أن كثيرًا من الناس يربطون بين كون الشيء جيدًا وكونه ممتعًا، ولكنهم لا يمكن أن يكونوا مصيبين لأن هناك ملذات سيئة (ملذات ضارة للمرء)، وسيكون من غير المنطقي أن نفترض أن شيئًا يمكن أن يكون ضارًّا للمرء وفي نفس الوقت جيدًا له.

ينظر سقراط أيضًا في الاقتراح القائل بأننا يجب أن نُعرِّف الخير على أنه المعرفة. لكنه يرفض هذه الفكرة من خلال الإشارة إلى أن المعرفة تتعلق دائمًا بمعرفة شيء محدد. لذا، إذا أردنا تعريف الخير على أنه معرفة شيءٍ ما، فسنحتاج أيضًا إلى تحديد ماهية هذه المعرفة. فالإجابة لا يمكن أن تكون: الخير. لأن الخير هو بالضبط ما نحاول فهمه.

بعد رفض سقراط سريعًا هذين التعريفين للخير — الخير بوصفه متعة وبوصفه معرفة — يقترح أن نصل إلى فهم أفضل له من خلال التشبيه، فالخير يحتل نفس الموقع في عالم الأشكال الذي تحتله الشمس في العالم المرئي. وهذا يخبرنا شيئًا عن أهمية الخير، ولكنها ليست نظرية حول ماهيته. لذا، تفتقر محاورة «الجمهورية» إلى الشيء نفسه الذي يقول عنه سقراط إنه الأهم لدينا: تفسير واضح للخير. وربما يجب ألا نتفاجأ تمامًا بهذا، فقد فعل أفلاطون الشيء نفسه في «سمبوزيوم»؛ إذ أخبرنا، على لسان ديوتيما، أن الجمال هو الهدف النهائي في رحلة صعود العاشق، ولكنه لا يقدم نظرية حول ماهية الجمال.

لا يقترح أيُّ عمل آخر لأفلاطون تعريفًا للجمال أو الخير. ففي «الجمهورية» يقدم سقراط تعريفات للعدل والعديد من الفضائل الأخرى، ولكن ليس للخير. ومع ذلك، فإننا نجد تلميحًا موجزًا لما يمكن أن يكون عليه الخير في محاورة لاحقة، وهي «فيليبوس». تبدأ هذه المحاورة بسؤال يعيد النظر في البديلين الاثنين المطروحين في «الجمهورية» فيما يتعلق بماهية الخير: هل ينبغي مساواة الخير بالمتعة أم بالمعرفة؟ ويستنتج سقراط وبروتارخوس، أثناء انخراطهما في الحوار، أن الخير لا ينبغي أن يقتصر على أيٍّ من هاتين الحالتين النفسيتين؛ لأنه لا يمكن لأيٍّ منهما بمفرده أن يجعل حياة الإنسان مُرضية حقًّا. فبغضِّ النظر عن مقدار المتعة التي يعيشها المرء، فإن الحياة ستظل تفتقر إلى شيء مهم دون المعرفة؛ وبالمثل، مهما بلغ الإنسان من علم، فإن الحياة ستكون أسوأ دون متعة. فما يجعل الحياة جيدة ليس مجرد أحد هذين الشرطين، بل مزيج من الاثنين، بالتناسب الصحيح. وبشكل عام، يتفق سقراط وبروتارخوس على أن أي شيء معقَّد سيصبح جيدًا عندما تُجمَع مكوناته المتنوعة معًا بطريقة متناسقة ومتوازنة، وهكذا، فإن جوهر الخير يكمن في النظام الصحيح. وهو يتكون من التوحيد المتوازن للأجزاء المتنوعة للشيء.

يلعب الخير، بوصفه مفهومًا للتناغم أو القياس أو الوحدة، دورًا مركزيًّا في تصوير سقراط، في «الجمهورية» لمجتمع سياسي مثالي يسود فيه التناغم والشعور بالوحدة الوطنية بين جميع المواطنين. ويؤكد سقراط أن الخير الأعظم لأي مدينة هو ما يوحِّد أفرادها ويمنع ظهور الفصائل المتناحرة. وبالمثل، فإن أعظم خير للفرد الواحد هو تحقيق الوحدة النفسية. فكون المرء كُلًّا موحَّدًا ليس فقط جيدًا للشيء الموحَّد، بل هذا بالضبط هو ما يعنيه الخير.

يرتبط الخير، إذَن، ارتباطًا وثيقًا بالجمال؛ إذ يفترض أفلاطون بلا شك أن توازن الشيء وتناغمه وتناسبه ووحدته هي الأمور التي تجعله جميلًا. ويجب أن تُدرَس الجماليات والأخلاقيات — دراسة الجمال والأخلاق — معًا لأن الأشياء التي تسعى إلى فَهمها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا لدرجة أنه من الصعب التفريق بينهما. حتى إن أفلاطون يقترح أننا قد نجد في النهاية أنهما نفس الشيء.

إن فرضية أفلاطون القائلة بأن الخير خاصية فريدة مشابِهةٌ للجمال إلى حد كبير، وهي خاصية ضرورية لفهم الكون، ودليلنا الرئيسي للتفكير الأخلاقي والسياسي هي فرضية تبناها أفلوطين (القرن الثالث ميلادي) ومدرسته، التي كان لها تأثير كبير على واحد من أعظم الفلاسفة المسيحيين، وهو أوغسطين، في القرنين الرابع والخامس. وفي المسيحية، يؤدي الإله، كما هو متصوَّر، دور شكل أفلاطون للخير، ولكنه عقل أعلى وليس خاصيةً مجردة. وفي بعض النواحي، تبدو المسيحية أكثر قابلية للفهم من الأفلاطونية؛ لأنه من الأسهل علينا أن نفهم كيف يمكن للعقل أن يكون مسئولًا عن خلق عالم منظم، مقارنةً بفهم كيف يمكن لخاصية الخير أن يكون لها أي تأثير سببي في ذاتها. ولكن من منظور أفلاطون، فإن المسيحية أو أي دين آخر لا يعترف بالأشكال بوصفها حقيقة مطلقة يفتقر إلى المعنى. فوَفقًا لأفلاطون، يجب أن يسترشد العقل الإلهي بنموذج للكمال خارج ذاته. وشكل الخير هو ما ينظر إليه الخالق الإلهي، باعتباره معيارًا لحكمه للكون. ومن ثَم، فإن هذا الشكل، وليس الإله، هو التفسير النهائي لنظام الكون.

واجهت نظرية أفلاطون للخير العديد من الانتقادات من المدارس الفلسفية الأخرى. فقد عارض أفلاطون في العديد من محاوراته تعريف الخير بوصفه هو المتعة، ولكن بعد عقود من وفاته، ظهرت المدرسة الأبيقورية في أثينا واكتسبت أتباعًا يعتقدون أن الرفاهية مرادفة للمتعة. لم تستمر الأبيقورية لأكثر من بضعة قرون، وخلال فترة العصور الوسطى، أصبح الفكر المسيحي، الذي ربط الخير بالله بشكل وثيق وتأثَّر بالأفلاطونية، هو المنظور الفلسفي واللاهوتي السائد. ولكن العديد من الفلاسفة في العصر الحديث أحيوا الأطروحة الأبيقورية التي تعُدُّ الخير هو المتعة، وبلغت هذه الطريقة في التفكير ذروتها مع مذهب المنفعية لجيريمي بنثام وجون ستيوارت ميل في القرن التاسع عشر. فمبدؤهما المعروف القائل بأن «أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس» هو، بطريقةٍ ما، تجسيد حديث للأفلاطونية؛ لأنه يتفق مع فكرة أفلاطون بأن الخير هو خاصية واحدة، وأننا يجب أن ننظر في النهاية إلى الخير باعتباره مرشدًا في اتخاذ القرارات. ولكن يختلف النفعيون عن أفلاطون في عدة جوانب: فهم يعتبرون الخير هو السعادة أو المتعة وليس النظام المتناغم، ولا يؤيدون فكرة أفلاطون بأن الخير مسئول عن البنية المنظمة للكون المرئي. إن النفعية هي فلسفة عملية بحتة، في حين أن أفلاطون لا يسعى إلى التوجيه العملي فحسب، بل يسعى أيضًا إلى وضع إطار لفهم كل شيء داخل وخارج الكون المرئي.

يقدم أرسطو وجهة نظر بديلة لنظرية أفلاطون عن الخير من خلال رفض فكرة أن الخير هو خاصية واحدة موحدة. يؤكد أرسطو أن هناك العديد من الأنواع المختلفة من الأشياء الجيدة، ولكن ليس هناك خاصية واحدة تجعلها جميعًا جيدة. ولم يتم تسوية الخلاف بين أفلاطون وأرسطو بعدُ. وفي أوائل القرن العشرين، قال الفيلسوف الإنجليزي جي إي مور إنه على الرغم من عدم إمكانية تعريف الخير، فإنه، كما ادعى أفلاطون، الخاصية التي يجب أن نأخذها في الاعتبار في جميع أفعالنا. لقد اقترح أن الخير موجود بشكل مستقل عن رغباتنا، ولكن، من خلال التفكير الواضح، يمكننا أن ندرك بشكل حدسي الأشياء التي تمتلك هذه الخاصية وتلك التي لا تمتلكها. لعبت آراء مور حول الخير دورًا مركزيًّا في الفلسفة الأخلاقية في القرن العشرين، واتخذ بعض خصومه موقفًا يتوافق مع وجهة نظر أرسطو. لقد قالوا إن مناقشة ما هو جيد بالمعنى العام هو أمر لا معنَى له. وبدلًا من ذلك، اقترحوا أنه من الأفضل مناقشة ما هو جيد بالنسبة لشخصٍ ما، أو تقييم أشياء محددة مثل القصائد الجيدة أو الطعام الجيد أو ألعاب الورق الجيدة. فما يجعل هذه الأشياء جيدة ليس خاصية واحدة، ولكن شيءٌ مختلف في كل حالة.

سيجيب أفلاطون عن ذلك بأننا نجد في كلٍّ من الأشياء المتنوعة التي نسميها جيدةً التناغمَ أو التناسب أو التوازن. فالطعام الجيد، على سبيل المثال، هو جزء من نظام غذائي متوازن، والأعمال الفنية الجميلة تُشبع لدينا إحساسنا بالتناسب، وتحقق ألعاب الورق الجيدة توازنًا بين كونها ليست سهلة للغاية ولا صعبة للغاية. إن مفهوم أفلاطون للخير، رغم صعوبة تقييمه، ليس محض هراء. ومثل العديد من الجوانب الأخرى في فلسفته، فإنها ليست خاطئة بشكل واضح أو صحيحة بشكل واضح. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل أعمال أفلاطون تستحق القراءة حتى يومنا هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤