تعريف العدل
سقراط: خيرٌ للمرء الذي أعدَّته الطبيعة للسِّكافة أن يلزمها، والرجل الذي أعدَّته للتجارة أن يلوذ بها، وهلُمَّ جرًّا … ولكن في الحقيقة … فالعدل هو ألصق بحياة الإنسان الداخلية ومصالحه الجوهرية منه بمظاهر حياته الخارجية وصورة عمله السطحية … فلا يدَعُ العادل قواه الروحية تتجاوز حدود اختصاصها وتتدخل في اختصاص غيرها، فتعمل عمل ذلك الغير … بل يُحسن ترتيب بيته، وإذ هو سيد نفسه يعقل خلقه ليكون على أتمِّ وئامٍ مع نفسه، ويجعل القوى الثلاثة تُعطي نغمة واحدة … («الجمهورية»، ٤٤٣ج-د)
سقراط: … إن ثمرة العدل تنظيم قوى النفس فتسود أو تُساد حسب حكم الطبيعة، وثمرة التعدي جعْل قوى النفس تسود أو تُساد خلاف حكم الطبيعة … («الجمهورية»، ٤٤٤د) [ترجمة حنا خباز بتصرف]
تحتل قصة الكهف الرمزية مكانة مركزية في «الجمهورية»؛ إذ إنها تُلخِّص، في صورة واحدة مدهشة وسرد واحد، جوانبَ مهمة من أفكار أفلاطون المتعلقة بالميتافيزيقا ونظرية المعرفة والأخلاق والفلسفة السياسية. ومن أجل فهم معناها بشكل كامل، يجب أن نفهم دورها ضمن السياق الأوسع للحوار بأكمله. فهي تشكل جزءًا من بنية معقدة من الحجج؛ لأنه على الرغم من تناول كتاب «الجمهورية» لمواضيع مختلفة، فهو عمل متماسك ومتكامل فنيًّا له غرض واحد: تطوير نظرية العدل، وإثبات أن العدل هو الخير الأسمى الذي يمكن أن يمتلكه المرء. وكما ناقشنا في الفصل السابق، يعتقد أفلاطون أن الشيء يكون جيدًا عندما تتوحد أجزاؤه المتنوعة. ويمثل كتاب «الجمهورية» في حد ذاته هذا التناغم بين العناصر المختلفة، وقد يرى أفلاطون أن هذا يدعم نظريته عن الخير؛ لأنه يتماشى مع المعيار الذي نستخدمه لتقييم تصميم جميع الإبداعات البشرية؛ ومنها القصائد، والتماثيل، والحوارات الفلسفية، والطاولات، والمنازل.
في حين أن العديد من الأقسام في «الجمهورية» مترابطة إلى حد كبير، فإن القسم الأول يختلف عن الأقسام الأخرى، وقد صرَّح المشاركون في المحاورة أنفسهم بذلك: فقد ذكروا في بداية القسم الثاني أن مناقشتهم حول العدل يجب أن تبدأ من جديد؛ وذلك لأنهم حاولوا في مناقشتهم السابقة إثبات صلاح العدل دون الوقوف على ماهيته. لذا، يصبح هذا المسعى — تعريف العدل — هو الموضوع الأهم للعمل برمته. يزعم سقراط في نهاية الكتاب الرابع أنهم وجدوا التعريف الصحيح، على الرغم من أنه أصبح من الواضح أنه يحتاج إلى مزيد من التفصيل. إن الفكرة المركزية في الكتاب هي أن الروح البشرية مكوَّنة من ثلاثة أجزاء — العقل، والعاطفة، والشهوة — وأن العدل ينطوي على قيام كل جزء بدوره الطبيعي والسليم. يجب أن يتولى العقل دور السيد على الجزأين الآخرين. يدرك أفلاطون أن نظريته لن تكون مقنعة إلا إذا قدَّم صورة أكثر تفصيلًا لما يعنيه أن يحكم العقل، أو العاطفة، أو الشهوة الروح. وقد حقق ذلك من خلال وصف لأفراد يجسِّدون هذه السمات النفسية. ويُعَد تصوير أفلاطون للشخص الذي يدعي أن حياته يحكمها العقل بشكل كامل — وهو الفيلسوف الذي وصل إلى فهم شكل الخير — هو الفكرة الأساسية لكتاب «الجمهورية». وفي الأقسام اللاحقة من الكتاب، طوَّر أفلاطون نظريته من خلال وصف شخص تحكمه العاطفة، وكذلك العديد من الأشخاص الذين تحكمهم الشهوة.
لم يشكِّك سقراط ومحاوروه قط في أن معاملة الآخرين بعدل لها فوائد لا حصر لها للأشخاص الذين يتلقَّون هذه المعاملة. ولكن السؤال الذي يدور في أذهانهم هو ما إذا كان كون الشخص عادلًا يعود عليه بأي فائدة. في بداية الكتاب الثاني، يلعب جلوكون وأديمانتوس دور المدافعين عن الشيطان: فهم يجادلون بأنْ لا أحد يريد أن يكون عادلًا من أجل العدل في ذاته، وأن منطقهم سليم؛ لأن الالتزام بالقوانين والأعراف المجتمعية التي تمنع أفعالًا مثل القتل والسرقة وأشكال الظلم الأخرى يضع قيودًا علينا، في الوقت الذي نفضِّل فيه، على الأقل في بعض الحالات، أن نضرب بهذه القيود عُرض الحائط. وإذا تمكَّنا من القيام بذلك الظلم سرًّا والإفلات من العواقب المعتادة — العقوبة القانونية والنبذ الاجتماعي، وما إلى ذلك — فإننا سنعير لهذه القيود قليلًا من الاهتمام؛ وذلك فقط بوصفها الثمنَ الذي يتعين علينا دفعُه لنتوقع معاملة عادلة من الآخرين. ولإثبات أن هذا التصور للعدل غير صحيح، يرى سقراط أن العدل، في ذاته، هو خير عظيم، لدرجة أنه من الأفضل أن يكون الشخص عادلًا بدلًا من أن يكون ظالمًا، بغضِّ النظر عن العواقب الاجتماعية.
هناك خلل في الحجة التي يقدمها جلوكون وأديمانتوس دفاعًا عن التصرف بشكل غير عادل عندما يمكن للمرء أن يُفلت من العقاب. وتستند حجتهما إلى ملاحظةٍ مفادها أن هذا ما سيفعله غالبية الناس تقريبًا. لكن سقراط يتساءل عما إذا كان هذا ما يجب أن نفعله. يمكن للشخص الظالم بالتأكيد أن يُشبع العديد من رغباته غير المشروعة وينغمس في الملذات بشتى أنواعها، التي يجهلها الأشخاص العادلون. ولكن لن تدعم هذه الحجة فكرة كونك ظالمًا إلا إذا افترضنا أنه من المفيد دائمًا لشخصٍ ما أن يُشبع رغباته وينغمس في الملذات، دون النظر إلى طبيعة رغباته والشيءِ الذي يجلب له المتعة. في الكتاب التاسع من «الجمهورية» هناك مفهوم للمتعة يوضح أن قيمة المتعة تعتمد على قيمة الشيء الذي يجلب تلك المتعة. فإذا أمكن إثبات أن كون الشخص عادلًا يضر بنفسه، فإن أي متعة تأتي من الظلم هي متعة سيئة ولا ينبغي السعي إليها.
يرى بعض الفلاسفة، وخاصةً فلاسفة العصر الحديث، بأن نهج أفلاطون في «الجمهورية» مَعيب؛ لأنه يفترض أن العدل هي صفة تستحق الاكتساب فقط إذا كانت تخدم المصلحة الذاتية للفرد. ألَا يكفي تبرير الفعل بمواءمته مع العدل؟ وألَا يكفي أن العمل يفيد أولئك الذين يتم معاملتهم بعدل؟ ويتساءل فلاسفة العصر الحديث عن سبب أهمية إثبات أن الفعل العادل مفيد أيضًا للشخص الذي يقوم به. غالبًا ما يثير أتباع كانط هذه الشكوك حول أفكار أفلاطون، الذين يزعمون أن الشخص المستقيم أخلاقيًّا يجب أن يقوم بأفعال صحيحة أخلاقيًّا فقط لأن هذا هو واجبه. فإذا كان العدل يتطلب منا الوفاء بوعد قد قطعناه، فيجب أن يكون هذا الواجب هو السبب الوحيد للوفاء بالوعد. ربما سيكون في مصلحتنا الوفاء بالوعد، أو ربما لا. هذا لا ينبغي أن يُهم. يتعين علينا أن نفي بوعدنا لأنه سيكون من غير الأخلاقي ألَّا نفعل ذلك.
ولكننا لا ينبغي أن نتعجل في استنتاج أن محاولة أفلاطون العثورَ على أسباب تتعلق بالمصلحة الذاتية للعدل؛ تعني أن المصلحة الذاتية هي الدافع الوحيد الذي سيؤيده. يوضح كتاب «الجمهورية» أن المصلحة الذاتية هي دافع قوي، وأنه إذا لم يتم توجيهها من خلال الفهم الصحيح لما هو في مصلحتنا، فقد يؤدي ذلك إلى عواقبَ وخيمةٍ على الذات وعلى الآخرين. فسؤال «ما المفيد بالنسبة لي؟» هو سؤال مشروع. ولكن هذا السؤال لا يمكن الإجابة عنه إلا عندما نطرح أسئلة أشمل: ما الجيد أو الخير لأي شخص؟ وما طبيعة الخير؟ فلا ينبغي للفلسفة أن تُغفِل هذه الأسئلة.
لا يتعين علينا انتقاد الافتراض الكانطي بأن الأشخاص الصالحين يلتزمون بالمبادئ العامة للأخلاق بشكل واعٍ؛ لأن ذلك لا يشكل أي تحدٍّ لطرح أفلاطون. في الواقع، يتطلب الالتزام بالمبادئ الأخلاقية فهمًا صحيحًا للخير. وتتطلب هذه المبادئ منا القيام بما هو خير للآخرين (وتترك مجالًا للقيام بما هو خير لنا). ولكن إذا كان لدينا فكرة خاطئة عن ماهية الخير، فسنكون غير قادرين على الوفاء بواجبنا الأخلاقي لمساعدة الآخرين على تحقيق ما هو خير لهم. ففي النهاية، إن مسئوليتنا ليست السعي إلى ما يبدو خيرًا لهم فحسب، بل إلى ما هو خير حقًّا.
إن الهدف الرئيسي لكتاب «الجمهورية» هو تبيين أنه حتى لو لم يكن هناك حياة بعد الموت، فلا يزال لدينا سبب وجيه لأن نكون عادلين ونظل كذلك ببساطة؛ بسبب الخير العظيم الذي يمثله العدل في هذه الحياة. يرى أفلاطون أن الربط بين حبنا للعدالة وتوقعنا أو أملنا في النجاة في الحياة الآخرة هو أمر خاطئ. وتجعله هذه الأطروحة في صراع مع الاقتناع الذي كان لدى العديد من الناس طوال العصر المسيحي. فأفلاطون هو مفكر ديني كبير، لكنه يشارك الفلاسفة العلمانيين الفرضية التي تقول إن الفضائل الأخلاقية مرتكزة على تقدير عقلاني لقيمتها العظيمة، وإنها لا تحتاج إلى أي مكافآت أخرى في الحياة الآخرة. إن افتراض أفلاطون أن الكون يعكس النظام الإلهي، وأننا يمكن أن نكون في وضع أفضل عندما تنفصل الروح عن الجسد عند الموت؛ يجعل أفكاره تتفق مع الفكر المسيحي. لكن اقتناعه بأن هذه الحياة تستحق العيش إذا كنا عادلين ولدينا الفضائل الأخلاقية الأخرى، سواءٌ كانت هناك حياة أخرى أو لا، يجعل فكر أفلاطون أقرب للعلمانية مقارنةً بالعديد من الفلسفات الدينية.
وفقًا لسقراط، يمكن فَهم العدل فهمًا أعمق من خلال التفكير في طبيعة المدينة العادلة، ومن تطبيق ما توصلنا إليه على الفرد. وعلى غرار التعرف على الحروف بسهولة أكبر عندما تكون كبيرة، يمكننا توضيح مفاهيمنا عن العدل بشكل أفضل؛ من خلال فحص ما يعنيه أن تكون مدينةٌ بأكملها عادلة، ثم توسيع هذا الفهم ليشمل الفرد. (غالبًا ما يُترجم مصطلح «بوليس» (polis) باللغة اليونانية إلى «مدينة» أو «الدولة المدينة»؛ مما يؤكد الطبيعة الأصغر حجمًا والأكثر تماسكًا لهذه الكيانات السياسية مقارنةً بالدول القومية الحديثة.) يؤثر هذا النهج المنهجي بشكل كبير على المسار اللاحق للحوار؛ مما يحول «الجمهورية» إلى استكشاف للأفكار الطوباوية. يسعى أفلاطون إلى تصور أفضل مجتمع سياسي ممكن؛ لأنه حتى لو لم نخلق هذا المجتمع المثالي أو نقرِّب مدننا الحالية من تحقيق العدل، فهو بمنزلة مفهوم توجيهي للتفكير العملي على أرض الواقع، بغضِّ النظر عن ظروفنا السياسية.
ووَفقًا لتصور أفلاطون للمدينة المثالية، ينبغي إسناد الوظائف إلى الأفراد الذين يصلحون للقيام بتلك الأدوار والتفوق فيها. وكما هو موضَّح في النص الافتتاحي للفصل، يجب أن يركز صانعو الأحذية على صناعة الأحذية، بينما يركز النجارون على النجارة. وهذه الفكرة البسيطة تضع الأساس لمفهوم العدل، خاصةً عندما يتم تطبيقها على الروح الفردية. والسبب هو أن سقراط سرعان ما يقترح أن المدينة المثالية يجب أن تضم قوة عسكرية متخصصة وفئة سياسية متخصصة، وستكون هاتان المجموعتان من المواطنين مؤهلتين بشكل فريد، سواء من خلال طبيعتهم أو تلقِّيهم للتدريب المناسب، لحماية المدينة من التهديدات الخارجية والداخلية واتخاذ القرارات التي تؤثر على رفاهية الجميع. ستحتوي المدينة المثالية على ثلاث مجموعات متعاونة رئيسية: طبقة اقتصادية، وطبقة عسكرية، وطبقة حاكمة. وتكمن عدالة المدينة في المبدأ الذي ينص على أن كل مواطن يجب أن يقوم بالدور المنوط به وألا يتولى المهام المخصصة للآخرين، ومن خلال الالتزام بهذا المبدأ، يُسهم كل مواطن في المدينة بطريقة تتوافق مع قدراته ومؤهلاته الطبيعية.
تلقي هذه الفكرة الضوء على ما يعنيه أن يكون الفرد عادلًا فقط إذا كان هناك هيكل ثلاثي داخلَ كل واحد منا يتوافق بطريقةٍ ما مع الطبقات الثلاثة للمدينة المثالية، وهم العمال والجنود والحكام. ويؤكد سقراط أنه يمكننا تحديد مثل هذا الهيكل بدقة داخل الروح البشرية. فلدى كل واحد منا احتياجات وغرائز جسدية للطعام، والشراب، والإشباع الجنسي، وما إلى ذلك. وهذا يشكل الجزء الشهواني من الروح، على غرار الطبقة الاقتصادية في المدينة. وعلاوة على ذلك، يهتم كلٌّ منا بمكانته الاجتماعية؛ فنحن نسعى للتفوق في المنافسات، ونتوق إلى السمعة الطيبة التي تجلبها المكانة الرفيعة، ونغضب من التعرض للإهانات. وهذا الضعف يشكل الجزء الحماسي من الروح. وأخيرًا، فنحن جميعًا نتمتع بالقدرة على التفكير فيما يجب أن يؤخذ في الاعتبار عند اتخاذ القرار، والتوصل إلى استنتاجات حول ما يجب القيام به تعكس الوزن الذي قمنا بتعيينه لكلٍّ من العوامل ذات الصلة. وهذا هو الجزء المنطقي من الروح. إذا أردنا أن نتبع التشابه بين المدينة والروح، فإن عدالة الفرد تكمن في أن يحافظ كل جزء من الروح على حدوده الصحيحة؛ ومن ثَم يُسهم على النحو الأمثل في بقية الروح. يتم تعريف العدل على أنه قيام كل جزء من الروح بدوره المحدد له. وبما أن العقل مُكلَّف بحكم الروح، فيمكن وصف العدل أيضًا بأنها حكم العقل.
في محاورة «فيدروس» يستخدم سقراط صورة مذهلة تعبر عن هذا الفهم للروح البشرية ككيان منقسم إلى ثلاثة مكونات: يتم تشبيه كل شخص بفريق يتكون من سائق عربة وحصانين مجنحين، أحدهما جامح والآخر أكثر امتثالًا. يسلط هذا التشبيه الضوء على التحدي الكامن في إدارة الروح بحيث تعمل بوصفها فريقًا موحدًا وفعالًا يعمل في تناغم. إن الخيول مخلوقات قوية ذات عقول مستقلة، ويتطلب الأمر قدرًا كبيرًا من الانضباط والمهارة لتدريبها على إطاعة أوامر سائقها. ويحتاج السائق الماهر إلى معرفة أين هو ذاهب، ولا يجب أن يترك خيوله تتخذ هذا القرار بدلًا منه. ولتحقيق ذلك، يجب أن يعرف كيف يتخذ قرارات مستقلة عن حركة الخيول، ويجب أن يكون على علاقة جيدة مع تلك الخيول؛ بحيث يحملونه عن طيب خاطر إلى حيث يريد. بعبارة أخرى، لن يستطيع العقل وحده أن يقودنا إلى النجاح، بل يجب أن يبقى مدعومًا بالمكونات الأخرى للنفس، وإلا فستذهب جهودنا أدراج الرياح. ولكن من خلال التفكير، يمكننا أن نأخذ في الاعتبار عوامل تتجاوز دوافعنا وميولنا الشخصية، عندما نقرر ماذا نفعل. يمكننا أن ننظر إلى العلاقات العادلة بين المواطنين، إلى الجمال، إلى الخير، ونقرر تشكيل بقية أرواحنا بحيث نكون فعالين في سعينا نحو هذه الأهداف. يمكن للمرء أن يرى بسهولة لماذا يعتقد أفلاطون أن كون الشخص عادلًا هو خير عظيم.
إن التحليل الثلاثي للنفس البشرية هو موضوع مألوف بالنسبة لقراء أعمال فرويد، وهناك أوجه تشابه واختلاف بين أفكار فرويد حول العقل وأفكار أفلاطون. فالهوية، مثل الشهوة الأفلاطونية، هي المستودع الذي يأوي غرائزنا الجنسية، وبالنسبة لكلٍّ من فرويد وأفلاطون، هناك بُعدٌ جنسيٌّ لكل جانب من جوانب حياتنا. لكن الشهوة تشمل أيضًا غريزة الأكل والشرب لسد الحاجة عند الجوع والعطش ورغبتِنا في اقتناء الممتلكات المادية. والأنا الفرويدية هي الجزء بداخلنا الذي يواجه الواقع؛ ويدير، غالبًا بشكل سيئ، الصراعاتِ التي تحدث داخل الروح؛ ويقرر كيفية تحقيق أهدافه. وبالمثل، فإن العقل، كما يفهمه أفلاطون، هو صانع القرار في الروح، وعلى غرار فرويد، فهو يرى أن العقل يواجه صعوبة كبيرة في التعامل مع القوى غير العقلانية القوية داخلنا. لكن هناك أيضًا اختلافًا ملحوظًا بين أفلاطون وفرويد؛ لأن أفلاطون يعتقد أن الواقع يوفر الدليل الأعلى لصنع القرار — الأشكال أو المثل الخالدة — بينما يفتقر علم النفس الفرويدي إلى الرابط مع النظريات الميتافيزيقية أو الأخلاقية. وفحص الجزء الثالث من الروح يكشف عن أوجه التشابه والاختلاف بين أفلاطون وفرويد. فالأنا العليا لدى فرويد تمثل الأوامر الصارمة والمؤلمة للوالدين والقواعد الأخلاقية المجتمعية، والتي غالبًا ما تتطلب التخلي بشكل كبير عن المتعة. والروح عند أفلاطون أيضًا يتم توجيهها بواسطة الآخرين، وهي مقرٌّ للانفعالات الاجتماعية مثل الغضب ورغبتِنا في أن نكون محل إعجاب الآخرين. لكنه يعُدُّها حليفة طبيعية للعقل وليست معذبةً له. ويشترك كلٌّ من أفلاطون وفرويد في وجهة نظر متشائمة حول إمكانية وجود عالم اجتماعي يعيش فيه جميع الناس في سلام مع أنفسهم ومع الآخرين، لكن أفلاطون يخفف من هذه النظرة التشاؤمية بالاعتقاد بأن العقل البشري، في أفضل حالاته، قادرٌ على فهم العالم وإيجاد مكانه بين الأشكال أو المثل الإلهية، في الكون المرئي المنظم بطريقة إلهية والنظام الاجتماعي الأكثر عدلًا.
ويؤكد أفلاطون أن كل إنسان لديه القدرة على التفكير واتخاذ القرار. لكن لم يخضع الجميع للتدريب اللازم بحيث يكون لديهم أساس لاتخاذ القرارات المستقلة، بعيدًا عن تأثير الانفعالات والشهوات. وَفقًا لأفلاطون، فإن كونك محكومًا بالعقل ينطوي على التفكير في ميولنا النفسية والأعراف الاجتماعية السائدة، ثم اتخاذ قرار بشأن ما يجب قَبوله ودعمه. ولتحقيق ذلك، ينبغي طرح الأسئلة التي طرحها سقراط وإيجاد إجابات عن تلك الأسئلة. وهذا هو السبب في أن حجة أفلاطون، القائلة بأن العدل هو خير كبير، ظلت غير مكتملة حتى استخدم استعارة الكهف، مؤكدًا ضرورةَ أن نسترشد في حياتنا بفهمِ ما هو خير. في حين أن العدل ينطوي على حكم العقل، فإن تقديره الكامل لا يحدث إلا عندما ندرك المعايير التي يجب أن يحكم العقل بموجبها. لذلك، من وجهة نظر أفلاطون، فإن البحث عن فهم العدل يؤدي في النهاية إلى معرفة الشكل الأعلى؛ خاصية الخير.