الفصل الثامن

المدينة الفاضلة

سقراط: … نحن لا نهدف عند تأسيس الدولة إلى إسعاد قسم من أهلها، بل إلى إسعاد الجميع معًا على قدر الإمكان. لأننا نرى أنه في دولة كهذه يمكننا تحقيق العدل بأفضل ما يكون … («الجمهورية»، ٤٢٠ب)

سقراط: أليسوا أحرارًا [الذين يعيشون في ديمقراطية]، أوَليست حرية القول والفعل فاشية في الدولة، فيفعل المرء ما يشاء؟ … وقد يكون هذا النظام أجمل النُّظم … لأنه مزخرف بكل أنواع السجايا … إنك غير مضطر أن تتوَّج منصبًا في هذه الدولة، وإن تكن فيك المواهب التي يستلزمها الحكم، ولا تُضطر إلى الخضوع للحكومة إذا لم تكن مُريدًا … أوَليس بديعًا كيف أن الحكومة … لا تكلف نفسها أقل عناء في معرفة الممارسات السابقة لأي شخص قبل أن يدخل مضمار السياسة، بل تبلغه مراتب الشرف لمجرد أنه أبدى حُسن نية نحو العامة؟ … والأرجح أن تكون جمهورية مستحبة، فوضوية، ملونة، تعامل جميع الأفراد بالمساواة، سواءٌ كانوا متساوين أو لا. («الجمهورية»، ٥٥٧ب-٥٥٨ج) [ترجمة حنا خباز بتصرف]

الأثيني: من الضروري أن يسن البشر قوانين ويمارسوا حياتهم وفقًا لها، وإلا فسيعيشون عيشة ليست أفضل من عيشة أكثر الوحوش ضراوة. وذلك للسبب الآتي، فليس هناك رجل تؤكد مواهبه أنه سيستطيع أن يفطن إلى خير البشر في تنظيمهم السياسي، ويكون قادرًا ومريدًا بثبات أن يمارس الخير عندما يدركه. وأنه يصعب في المقام الأول أن نتصور أنه يجب أن يكون لخبير سياسي محنك اهتمام بشئون العامة وليس بشئونه الخاصة … ثم إنه إذا وصل شخص ما إلى هذا الإدراك، من خلال فهمه لفن السياسة، ثم حكم بعد ذلك الدولة حكمًا مستبدًّا، دون أن يخضع للمساءلة، فإنه لن يتمكن أبدًا من الالتزام بمعتقداته، ولن يقضي حياته في تنمية وتقدم الخير العام للدولة … فطبيعة الضعف الإنساني ستُغري دائمًا مثل ذلك الرجل بالتفخيم من نفسه والبحث عن مصالحها … وإذا وجد رجل أدركته رحمة الله فوُلد ومعه القدرة على الوصول إلى هذه البصيرة والقدرة على شغل مثل هذا المنصب، فلن يحتاج إلى قانون يحكمه. فلا قانون ولا شريعة، مهما كان من أمرهما، فيمكن أن يكون لهما الحق في أن يسودا على المعرفة الحقيقية، وإنه لمن الإجرام أن يكون العقل تابعًا أو خادمًا لأي شيء، إن مكانه هو حيث يكون حاكمًا على كل شيء … («القوانين»، ٨٧٤د-٨٧٥ج)

بعد كتابة «الجمهورية» قام أفلاطون بتأليف حوارين آخرين يتناولان قضايا سياسية، هما «رجل الدولة» (الذي يبلغ نحو عُشْر حجم «الجمهورية») و«القوانين» (وهو أطول أعماله؛ إذ إنه أطول بنسبة عشرين في المائة من «الجمهورية»). ولو لم يكتب أفلاطون سوى «الجمهورية» لكانت مكانته بوصفه فيلسوفًا سياسيًّا أمرًا لا يمكن التشكيك فيه؛ فهذه المحاورة هي بلا شك أهم أعماله السياسية. ولكن إغفال أفكاره اللاحقة، قد يدفع المرء إلى افتراض أنه لم يكن لديه أي ميل لتحسين العمليات اليومية للمجتمعات السياسية غير المثالية. ففي «الجمهورية» صوَّر أفلاطون مدينة مثالية كان يعلم أنه من غير المرجح أن تتأسس أبدًا. إنها تتعمق في عالم السياسة الطوباوية فقط لتسليط الضوء على أهمية كون الفرد صالحًا بغضِّ النظر عن نوع المدينة التي يعيش فيها. ولكن في «القوانين» يُظهر أفلاطون افتتانه الشديد بما يمكن للبشر العاديين إنجازه عندما يُكلَّفون بالحكم الذاتي. فهو يخصص جزءًا كبيرًا من هذه المحاورة لصياغة قوانين مفصلة وتحديد عقوبات دقيقة في حالة مخالفة هذه القوانين، بالإضافة إلى صياغة أساس منطقي فلسفي شامل لتلك التفاصيل التشريعية. وكان من الممكن دمج العديد من عناصر هذا المحتوى تدريجيًّا لإصلاح المجتمعات السياسية القائمة بالفعل. يؤكد أفلاطون عدة مرات في «الجمهورية» أن المدينة المثالية قابلة للتحقيق، ولا تتعارض بطبيعتها مع الطبيعة البشرية أو العلاقات الاجتماعية. ولكنه يحدد في «القوانين» تفاصيل ثاني أفضل مدينة يكون إنشاؤها أسهل بكثير.

من بين العديد من الخصائص البارزة للمدينة المثالية الموضحة في «الجمهورية» (التي تسمى أحيانًا ﺑ «كاليبوليس» أو «المدينة الجميلة») التغييرات الراديكالية التي يقترحها سقراط عن المؤسسات السياسية والاجتماعية التقليدية. كانت أثينا ديمقراطية مباشرة: كان لجميع المواطنين (الذكور البالغين الأحرار الذين ولدوا لأبوين من أبناء المدينة) الحقُّ في الحضور والتصويت في الجمعية المسئولة عن اتخاذ القرارات الرئيسية في الحياة المدنية. وقد شُغلت العديد من المناصب بالقرعة لضمان التقاسم العادل للسلطة. وبالمقابل، حكم كاليبوليس أولئك الذين نجحوا في اجتياز جميع الاختبارات الفكرية التي وضعها مؤسسو المدينة، على أن يُظهِر سلوكهم المراقب من كَثَبٍ تفانيَهم الصادق والمحايد في تحقيق رفاهية وسعادة جميع المواطنين. وبمجرد اجتيازهم لهذه الاختبارات الصارمة، يتم منحهم سلطة غير محدودة وغير مراقبة؛ بعد أن تبين أنهم أشخاص حكماء وجديرون بالثقة، ولا تحدُّ أي مؤسسة من سلطتهم. ومع ذلك، فهناك ضمانات مؤسسية كبيرة ضد الأشكال الأكثر شيوعًا لإساءة الحكم؛ إذ يتم حرمان هؤلاء الملوك الفلاسفة من جميع أشكال الثروة والممتلكات المهمة. وهذا لا يُعفيهم من أعباء الملكية فحسب، بل يضمن أيضًا للمواطنين الآخرين أن سلطة الحكام لا يمكن استغلالها لتحقيق الثراء.

وعلى نفس القَدْر من الراديكالية، قام سقراط بإدراج النساء في الطبقات الحاكمة والمحارِبة وألغى البنية الأسرية التقليدية. فبدلًا من الإقامة في منازل منفصلة، فإنهم يعيشون في أحياء مشتركة لتعزيز الشعور بالانتماء للمجتمع. ويتم ترتيب الزيجات بين الرجال والنساء بهدف تحسين نوعية النسل، ويقوم متخصصون برعاية الأطفال، وليس الآباء البيولوجيين. وهذا يُعفي المرأة في هذه الطبقات من أعباء تربية الأطفال. فدورها لم يعُد يقتصر على المهام المنزلية، بل يمكنها استغلال مواهبها لخدمة المجتمع بأكمله.

إن المبدأ الرئيسي لهذه المدينة المثالية هو أن أي شخص مؤهل لشغل منصب يعود بالفائدة على المدينة؛ يجب أن يتم قَبوله فيه. ويرى سقراط أنه، حتى لو كانت النساء، بوصفهن مجموعة، أقلَّ موهبة من الرجال، فيجب أن يتم الترحيب بالنساء الاستثنائيات في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، مثل حكم المدينة. ومن ثَم، سيكون لبعض النساء سلطة مطلقة على معظم الرجال تقريبًا.

يعارض سقراط أي مؤسسة اجتماعية تشجع المواطنين على التحيز في ولائهم، ويفترض أن المجموعات القائمة على القرابة تعزِّز هذا التحيز عن طريق خلق انقسامات بين أعضاء المجموعة والآخرين. يتطلب العدل في المدينة المعاملةَ المتساوية لجميع الأفراد: مع اعتبار رفاهية كل فرد على نفس القدر من الأهمية. ويجب أن يحكم الفلاسفة، ويحمي المحاربون الشجعان المدينة، ويضمن الحرفيون الماهرون والمزارعون رفاهيتها المادية؛ لأنه يجب شغل الوظائف بناءً على الصالح العام، وليس فقط لتحقيق مصالح من يقوم بها. ونظرًا لضرورة الحياد الذي يقتضيه العدل، وإدراكًا لحقيقة أن البنية الأسرية التقليدية قد تؤدي إلى اعتبارات غير متكافئة، فمن الأفضل وضع نظام بديل لإنتاج الجيل التالي.

يريد أفلاطون أن تكون فكرة مدينة كاليبوليس المثالية هي فكرة قابلة للتنفيذ؛ ولذا فهو لا يدعو إلى إلغاء الأسرة في جميع الطبقات. فيجب أن تكسب جميع المؤسسات الاجتماعية الناجحة في النهاية موافقة أولئك الذين يشاركون فيها (مهما كانوا مترددين في البداية للدخول إليها). ويرغب معظم الناس في العيش في الأسر وحيازة ممتلكات مادية، مثل الأراضي والمنازل والأموال وما إلى ذلك. فالغالبية ينجذبون بطبيعة الحال نحو الملذات مثل الطعام والجنس والملكية المادية، تمامًا كما يعتز الجنود بالشرف والنصر، والفلاسفة بالتعلم والخطاب المنطقي. وفي كاليبوليس، ستزدهر هذه المجموعات الثلاثة التي يتميز كلٌّ منها بميول مختلفة، ولكن استيعاب الميول المتأصلة لدى الأشخاص العاديين تجاه الحياة له ثمن؛ فأفراد الطبقة الاقتصادية، بسبب ارتباطهم بالأسرة وتعلقهم بممتلكاتهم، يفتقرون إلى الاعتبار الموضوعي للصالح العام المتوقع من الحكام المثاليين؛ ومن ثَم لا يمكنهم المشاركة في عمليات صنع القرار في المدينة. ويفترض سقراط أنهم لن يكونوا مستائين أو غير راضين عن استبعادهم من المناصب التشاورية للمدينة. فقد تبين على مر التاريخ أن معظم الناس الذين لا يمتلكون سلطة سياسية ليسوا غير راضين عن موقعهم، ما داموا واثقين أنهم خاضعون لحكم رشيد، وسيظلون كذلك.

هناك جانبان آخران لكاليبوليس غير مقبولَين من المنظور الديمقراطي الليبرالي الحديث: اللجوء إلى الأكاذيب الرسمية، وممارسة الرقابة على الشعر. في كاليبوليس، يُخبر المواطنون أنهم جميعًا وُلدوا من نفس الوالد — الأرض الحاضنة التي هي وطنهم — وأن المعادن التي تشكل أجسادهم (في بعض الحالات الذهب، وفي أخرى الفضة، وفي أخرى البرونز) هي التي تحدد أين تكمن مواهبهم والأدوار الاجتماعية التي يجب أن يلعبوها. كان أفلاطون مقتنعًا بأن القَبول الواسع النطاق لبعض الأساطير يعزز التماسك الاجتماعي أقوى مما يمكن للعقل وحده أن ينشئه. يرشد العقل المتعلم بشكل صحيح كلَّ مُواطن أن تحقيق العدل يصبُّ في مصلحته الشخصية، وهذا سيجعله يؤدي واجبه ويلعب دوره المدني المحدد؛ ولكن بما أننا لا نتكون من العقل فقط، فإننا نحتاج إلى تعزيز الفكرة من خلال الأساطير، حتى نكرس حياتنا بكل إخلاص لمدينتنا، ومواطنينا، وأدوارنا الاجتماعية. وتدخل الأكاذيب الحياة المدنية من خلال طريق آخر: يجعل برنامج تحسين النسل، الذي من خلاله تتم الزيجات بين الرجال والنساء الأكثر موهبة، الأزواجَ يعتقدون أن الصدفة لعبت دورًا في هذه الزيجة.

لا يؤيد سوى القليل من الفلاسفة — أوغسطين وكانط هما الاستثناءان الأكثر شهرة — الفكرة القائلة بأنه لا ينبغي أبدًا قول الأكاذيب تحت أي ظرف من الظروف. وتشير الفكرة الأكثر اعتدالًا والمقبولة على نطاق واسع إلى أنه يجب على مسئولي الدولة عدم اللجوء إلى الكذب إلا في حالات استثنائية، وأنه حتى في هذه الحالات يجب أن يكون خداع الآخرين هو أمرًا مخالفًا لطبيعتهم. ويُعَدُّ أفلاطون من أنصار هذه الفكرة المعتدلة. فهو يرى أن الحكم الرشيد يتطلب أحيانًا من الحاكم القيام بما كان يفضل عدم القيام به. ويؤيد أفلاطون أيضًا فكرة أشمل: الأشخاص الذين لديهم طبيعة فلسفية لا يسعون إلى السلطة ولا يستسيغون عملية إصدار الأوامر. فهم يفضلون الانخراط في خطابات منطقية حول المبادئ الأساسية. فالذين اكتشفوا العالم خارج الكهف ورأوا الشمس، يترددون في العودة إلى الكهف وتحرير الآخرين من عبوديتهم، على الرغم من أن هذا هو ما يتطلبه العدل. ويرى سقراط أن عدم اكتراث الفلاسفة بممارسة السلطة على الآخرين هو أحد العوامل التي تجعلهم مناسبين لهذه المهمة. فنحن نقاوم بحقٍّ أن يحكمنا أفراد يستمتعون بالسلطة في حد ذاتها.

في محاورة «القوانين»، يصر المحاور الرئيسي، وهو زائر أثيني لم يُذكر اسمه إلى كريت، على أنه يجب، بقدر الإمكان، إضافةُ ديباجات للقوانين توضح للقارئ المنطقَ من ورائها. فلا ينبغي معاملة المواطنين بوصفهم كائناتٍ غيرَ مفكرة ينبغي لها تَلقِّي الأوامر مثل الحيوانات أو العبيد. توضع القوانين من أجل تحقيق أهداف ذات قيمة؛ ويجب تحديد تلك الأهداف بوضوح، وكذلك الطريقة التي تخدم بها التشريعات هذه الأهداف. لا يزعم الأثيني أن القوانين لا تكون شرعية إلا إذا وافق عليها بالإجماع الذين يُحكَمون بها؛ ولكن ينبغي أن توضع بحيث يتمكن الذين يُحكَمون بها من فَهم لماذا هي ضرورية. يجب أن يكون المجتمع السياسي الذي يتمتع بالحكم الرشيد «مجتمعًا مفتوحًا» (على حد تعبير فيلسوف القرن العشرين كارل بوبر). فينبغي أن تكون الأكاذيب التي يضطر المسئولون إلى قولها هي الاستثناء وليس القاعدة. في الواقع، لا يرى المتحاورون في «القوانين» أيَّ ضرورة للجوء إلى الأكاذيب. فالمجتمع الجيد، وإن كان غير مثالي، الذي تُصوِّره المحاورة، لا يحتاج إلى أساطير كأسطورة المعادن أو أكاذيب تحسين النسل.

ولكن أفلاطون لا يُظهر أي تعاطف مع فكرة كانت تشكل جزءًا مهمًّا من الفكر الليبرالي، وهي أن القيود المفروضة على حرية التعبير يجب أن تكون قليلة قدر الإمكان، وأن التعبير الفني، على وجه الخصوص، يجب ألا يخضع للرقابة السياسية. يكمن أحد أكثر الجوانب المثيرة للدهشة في «الجمهورية» في القيود الصارمة المفروضة على شعراء كاليبوليس، وتنقيح العديد من الأسطر من أعمال هوميروس وأعمال كُتَّاب آخرين شكَّلت أشعارهم جوهر التعليم لجميع اليونانيين، الذين يعرفون القراءة والكتابة في عصر أفلاطون. يصور هوميروس الآلهة على أنهم كاذبون ولصوص وقتَلة. وبسببه، هو وشعراء آخرين، كان هناك اعتقاد شائع أنه يكفي فقط أن تقدم التضحيات المناسبة للآلهة من أجل الإفلات من العقاب الإلهي الذي تستحقه بسبب أفعالك السيئة. ويرى أفلاطون أن الدين اليوناني التقليدي هو قوة فاسدة في الحياة المدنية؛ لأنه يعزز الاعتقاد السائد بأن الظلم يمكن أن يصبَّ في كثير من الأحيان في مصلحة الفرد. وعلى غرار الطريقة التي نعتمد بها الآن على الدولة الحديثة لحظر الإعلانات الكاذبة في بيع المواد الغذائية والأدوية، فإن كاليبوليس لا تسمح بوجود «سوق مفتوحة للأفكار» فيما يتعلق بما هو جيد وما هو سيئ، وما هو صواب وما هو خطأ.

تفرض «القوانين»، على غرار «الجمهورية»، قيودًا صارمة على الشعر وغيره من أشكال الكلام. ويفترض أفلاطون أن الادعاءاتِ المضللةَ حول الكيفية التي ينبغي لنا أن نتصرف بها وما ينبغي أن نقدره، يمكن أن يتردد صداها مع الجوانب الشهوانية والروحية في نفسيَّتنا، ولن تفقد هذه الادعاءات تأثيرها بسهولة فقط من خلال التعرض للحجج العقلية. يجب أن تسترشد إدارة المجتمع السياسي بالخطاب المنطقي (هذا هو الهدف من إدراج ديباجات في التشريعات)، ولكن الخطاب العقلاني قد لا يسود بالضرورة عندما يواجه تأثيراتِ القوى غير العقلانية. وفي حين أن النقاش الصريح والمفتوح له دور مهمٌّ في السياسة والفلسفة — كما أكد سقراط في محاورته «جورجياس» — فإن فعاليتها تعتمد على استعداد المشاركين لاستخلاص الفوائد منها.

تستغني المدينة الجيدة، ولكن غير المثالية، المصورة في «القوانين» (يشار إليها أحيانًا باسم «ماجنيسيا») عن العديد من المؤسسات التي تجعل كاليبوليس مختلفة اختلافًا جذريًّا عن المجتمعات السياسية التقليدية. فجميع المواطنين في ماجنيسيا هم جزء من أسر: كلٌّ منهم يمتلك نفس المساحة من الأرض، ويتزوج، وينجب الأطفال، ويخضع للتدريب العسكري. وتستمر النساء في المشاركة في الدفاع عن المدينة، وبهذه الطريقة تؤكد ماجنيسيا أطروحة «الجمهورية» التي تقول إنه على المرأة أن تتولي دورًا أكبر بكثير في الحياة المدنية مما كان عليه الحال عادةً في المدن اليونانية. لا يوجد تقسيم للمواطنين إلى ثلاث فئات، كما هو الحال في «الجمهورية»، ولا توجد نخبة تتألف من الفلاسفة المدربين خصوصًا لممارسة السلطة المطلقة. بدلًا من ذلك، يتم اختيار الذين يخدمون في المجالس الأكثر أهمية ويشغلون المناصب المؤثرة من خلال إجراء تصويت يشارك فيه جميع المواطنين. تعمل الحياة المدنية ضمن إطار قانوني شامل، ويجعل الدستور من الصعب أو المستحيل تغييرُ هذه القوانين. إن سلطة جميع المواطنين، حتى الذين يشغلون مناصب رفيعة، مقيدة بشدة بواسطة القيود القانونية. فلا أحد فوق القانون؛ ويخضع كل مسئول للمساءلة، إذا ما أساء استخدام منصبه.

لم يتم تصوير ماجنيسيا على أنها أفضل مدينة ممكنة، ولكن على أنها أقرب ما يكون للأفضل. يقترح الأثيني أن السيناريو المثالي سيتضمن وجود مواطنين يمتلكون كل شيء مشترك، كما يفعل الأصدقاء؛ وهذا سيعني استبعادًا كاملًا لما هو خاص — الممتلكات والأسرة — في جميع أنحاء المدينة. وهذا يعكس فكرة سقراط المثالية لكاليبوليس؛ ومن ثَم فإن مفهوم أفلاطون للمدينة الفاضلة — التي تتميز بأقصى قدر من الوحدة — لم يتغير. وفي حين يُسمح لجميع الماجنيسيين بامتلاك ممتلكات خاصة، فإن هناك قيودًا على الثروة التي تتجاوز حدًّا معينًا، ونظرًا لأن الموارد المادية للمواطنين الأغنياء والفقراء ليست مختلفة بشكل كبير، فلا يوجد عَداء بين الفئتين. ويتحقق بين المواطنين شعور قوي بالوحدة لأن جميعهم يتلقَّون نفس التعليم العام، وجميعهم يخدمون معًا في الجيش، وجميعهم مرحَّب بهم (التي يُطلب من البعض الانضمام إليها) للمشاركة في الانتخابات، وجميعهم يشاركون في نفس الأعياد الدينية والدرامية والرياضية.

ماذا حدث للفكرة التي تقول إن الفلاسفة يجب أن يتولوا الحكم؟ من الممكن أن يكون أفلاطون قد أعاد النظر في هذه الأطروحة الراديكالية؛ لأنه أدرك أن منح السلطة المطلقة لأي شخص، بغضِّ النظر عن مدى التدقيق في الاختيار والتدريب، هو أمر خطير للغاية. وذلك بسبب القابلية للفساد الناتج عن تولي السلطة، وهي خصلة متأصلة في الطبيعة البشرية. وثَمة تفسير آخر محتمل. فمثلما يستخدم أفلاطون ماجنيسيا لتوضيح كيف يمكن تحقيق درجة أقل من المثالية من الوحدة الاجتماعية مع الحفاظ على الأسرة التقليدية، فإنه ربما يوضح أيضًا من خلال تقديم ثاني أفضل مدينة أن العقل الفلسفي يمكن أن يحكم مدينةً حتى عندما ينتخب المواطنون الحكام في انتخابات ديمقراطية، أو يقع الاختيار بالقرعة. تحكم ماجنيسيا مجموعة مفصلة من القوانين التي يصعب على المواطنين تغييرها. فأفعالهم مقيدة بدستور المدينة. وهو دستور صاغته فلسفة أفلاطون. فمفهوم الخير عنده باعتباره تناغمًا يدعم هدف الوحدة الاجتماعية الذي يحرك نظام المدينة القانوني لثاني أفضل مدينة. لم يتلقَّ الضباط القياديون في المدينة تدريبًا محددًا بوصفهم جدليين يدرسون شكل الخير، ولكن أفلاطون يجب أن يعتبر ذلك واحدًا من ميزات ماجنيسيا التي تجعلها أقل من المثالية. وقد عولج هذا النقص جزئيًّا في الكتاب الأخير من «القوانين» عندما اقترح الأثيني تشكيل مجلس خاص يضم شخصيات مؤثرة تلقَّت تعليمًا فلسفيًّا. يُطلق على هذا المجلس «مجلس الليل» لأن المشاركين يجتمعون قبل وقت قصير من شروق الشمس، وهو يعزز نمو الفكر الفلسفي وتطبيق هذا الفكر على شئون الحكم، على الرغم من أن صلاحياته غير محددة. في ماجنيسيا، تلعب الفلسفة دورًا مهمًّا في الحياة المدنية، على الرغم من غياب الملوك الفلاسفة.

تؤكد أطروحة أفلاطون الأساسية ضرورة استيعاب الأفراد الذين يتمتعون بفهم أعمق من العادي وتقدير لِمَا هو خير وعادل داخل أي مدينة تتمتع بالحكم الرشيد. في كاليبوليس، يُمنح الفلاسفة المدربون تدريبًا عاليًا السلطة المطلقة على جميع شئون المدنية. في ماجنيسيا تتضح هذه الأفكار في عدة مواضع مختلفة: في الإطار الدستوري الذي شكله التفكير الفلسفي؛ وفي التحقيقات التي يجريها مجلس الليل؛ وفي قدرة المواطنين العاديين — الذين لا يختلفون بسبب الاحتياج المادي أو التفاوت الاجتماعي السافر، وإنما يتفقون بسبب التعليم والممارسات الاجتماعية المشتركة — على اختيار عدد قليل من الأشخاص ذوي الشخصية النموذجية لشغل المناصب العليا.

إن ما يجده أفلاطون غير مقبول بشأن الديمقراطية هو تجاهلها لضرورة أن تسترشد المدن بالمعرفة. في الواقع، إن السمات الرئيسية للديمقراطية — المساواة وحرية العيش كما يختاره المرء — تتعارض مع ضرورة بناء الحياة المدنية على فهم ما هو خير وعادل. تعارض الديمقراطية التسلسل الهرمي، وتُصر على أن جميع المواطنين الأحرار يتقاسمون السلطة على قَدم المساواة، بغضِّ النظر عن شخصيتهم ودرجة فَهمهم. فهي تعارض القيود المفروضة على الاختيار، مما يحد من قدرة النظام القانوني على تحقيق العدل من خلال القوانين الجيدة. هناك طرق مختلفة يمكن لدُعاة الديمقراطية أن يتصدوا بها لانتقادات أفلاطون، ومن الواضح أنه لم يكن لديه القول الفصل في هذا الموضوع. ولكن سيكون من الخطأ عدم الاهتمام بنقده للديمقراطية. يجب أن تعمل المجتمعات السياسية الناجحة على تخصيص مساحة للمعرفة، بحيث لا تشمل الخبرة التقنية فحسب، بل أيضًا ذلك النوع من المعرفة القادرة على تحديد الأهداف الأكثر قيمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤