الفصل التاسع

الإلحاد والأخطار الأخرى

الأثيني (متحدثًا إلى شاب خيالي يعاتب الآلهة لإهمالها شئون البشرية): لقد أعدَّ من يدير أمور الدنيا كل شيء، واضعًا نصب عينيه بقاء الكل وكماله؛ ومن ثَم فهو قد فعل ويفعل من أجل الأفراد أيضًا ما يناسبها. وهناك من أجل كل فرد، ومن أجل الجميع، وفي كل الأحوال، حكام معيَّنون من أجل فعل كل شيء ونزولًا حتى أصغر التفصيلات. ووجودك الخاص … بالرغم من كل ما فيه من ضآلة، فإن كل كدِّه وجهاده موجَّهان نحو الكل، ولكنك نسيت … أن الهدف لكل ما يحدث هو ما قلناه، وهو الفوز بمنتهى السعادة من أجل حياة الكل. إنها لم تُصنَع من أجلك، ولكنك أنت صنعت لها … ولكنك مع ذلك تشكو لأنك لا ترى كيف أنه في حالتك الخاصة يثبت ما هو الأفضل بالنسبة للكل؛ إنه الأفضل أيضًا بالنسبة لنفسك بفضل أصلنا المشترك. («القوانين»، ٩٠٣ ب-د) [ترجمة محمد حسن ظاظا بتصرف]

واجه سقراط عقوبة الإعدام بسبب اتهامه بالإلحاد، وهو ما يُعَد انتهاكًا للقانون الأثيني، وعلى الرغم من أن كتابات أفلاطون تكشف اقتناعه بأن ما حدث هو قَتْل لأكثر الرجال فضيلة في عصره على يد مجتمع يعاني من مشاكل وخيمة، فإنه لم يُظهر قط أي شك في حق المجتمع السياسي أن ينظم السلوكيات والمعتقدات الدينية. فاعتراف أفلاطون بسلطة المدينة على الممارسات الدينية يعكس المعتقدات والأعراف التي كانت سائدة في هذا العصر وهذه البقعة، وكان هذا المنظور شائعًا في العديد من العصور والبقاع الأخرى أيضًا. ففكرة الفصل التام بين الكنيسة والدولة هي تجربة لم يقم بها سوى عدد قليل من المجتمعات السياسية، والفكرة الفلسفية القائلة بضرورة فصلهما، وهو مبدأ أساسي للنظرية السياسية الليبرالية الحديثة، لم تكن لتواجه معارضةً من أفلاطون فحسب، بل من قِبَل جميع المفكرين البارزين تقريبًا قبل القرن العشرين.

في الواقع، قد يكون من الخطأ الحديث عن الدولة والكنيسة بوصفهما كيانَين منفصلَين تمامًا؛ نظرًا لأن الدولة تحتاج حتمًا إلى أن يكون لها موقف بشأن المسائل الدينية. وهذا صحيح حتى عندما تختار الدولة أن تقف على نفس المسافة من جميع الممارسات الدينية. لنأخذ على سبيل المثال التعديل الأول لدستور الولايات المتحدة الذي يمنع الكونجرس من تقييد «حرية ممارسة الدين». وهذا يمنح الدين مكانة مميزة في المجتمع الأمريكي: على الرغم من أن المواطنين الأمريكيين لديهم قيود قانونية مختلفة، فلا يمكن تقييد حريتهم في التعبير والعمل عندما يشاركون في أنشطة دينية، حتى لو كانت الأغلبية تعتقد أن هذه الممارسات الدينية قد تُسبب ضررًا للآخرين. وبتعبير أفلاطون، يمكننا القول إن الولايات المتحدة، مثل العديد من الدول الأخرى المتأثرة بالتقاليد السياسية الليبرالية، تحمي فضيلة التقوى من خلال ضمان قدرة المواطنين على تطوير هذا الإطار العقلي وممارسته دون عوائق. إذا أردنا أن نتساءل لماذا تستحق التقوى هذه الحماية، فقد يكون من المغري أن نجيب بأنها صفة ذات قيمة عظيمة.

وبالمثل، كانت ماجنيسيا التي يعيش فيها أفلاطون تحمي فضيلة التقوى، ولكنها تفعل ذلك من خلال التأثير على المعتقدات والممارسات الدينية لمواطنيها. وإلى حد كبير، فإن المبادئ التوجيهية المتعلقة بالطقوس الدينية في ماجنيسيا، كما وصفها الأثيني، مستمَدة من التقاليد الثقافية التي كانت سائدة في أثينا والعديد من المدن اليونانية القديمة الأخرى. لم يخترع أفلاطون في «القوانين» مؤسسات دينية من العدم. فقد كان اليونانيون يُشيدون علنًا بآلهتهم من خلال مهرجانات موسمية منتظمة، غالبًا ما يُقدَّم في العديد منها عروضٌ درامية وموسيقية ورياضية ومسابقات. كما قاموا بالحفاظ على المعابد والأضرحة باستخدام الأموال العامة، لتلاوة الصلوات وتقديم التضحيات. وبالإضافة إلى ذلك، كان لدى العديد من الناس أضرحة صغيرة في منازلهم. وبالمثل، كان مواطنو ماجنيسيا يقضون كثيرًا من وقتهم في الهواء الطلق حيث ينخرطون في الغناء والرقص معًا احتفالًا بالمواسم المتغيرة، وحصاد المحاصيل، وغيرها من الأحداث التي يعتقدون أنها تكشف عن الحكم الإلهي للعالم الطبيعي.

لا ينبغي أن يُنظر إلى تأييد الأثيني لهذه الممارسات التقليدية على أنه تعبير عن رغبة أفلاطون في الحفاظ على الممارسات التقليدية فقط لأنها تقليدية. فكما هو واضح في «الجمهورية»، فإن أفلاطون منفتح على إلغاء التقاليد أو إصلاحها، إذا كان يرى إمكانية تحسينها. ويقترح الأثيني في «القوانين» أن يتم حظر الأضرحة الخاصة في ماجنيسيا؛ لأنه يريد أن تتم جميع الممارسات الدينية تحت الرقابة العامة. فما الذي يخشاه؟ بالضبط ما يخشاه سقراط في «الجمهورية»: في العالم اليوناني هناك اعتقاد سائد بأن المرء يمكن أن يرتكب جريمة ويُفلت من العقاب الإلهي، إذا قام بتقديم تعويضات للآلهة من خلال الصلوات والتضحيات. إن ما يوحد كاليبوليس وماجنيسيا هو فكرة أن الدين يجب أن يُسخَّر لخدمة الصالح العام كما يراها المجتمع السياسي الذي يتمتع بالحكم الرشيد. وعلى الرغم من أن ماجنيسيا أقل راديكاليةً من كاليبوليس؛ لأنها تحافظ على مؤسسة الأسرة وتُشرك المواطنين العاديين في الحكم السياسي، فإنها تفرض على جميع المواطنين الالتزام بدين عقلاني، أو، بعبارة أخرى، دين يمكن تأكيده من خلال التفكير الفلسفي. ويعتقد الأثيني أن الآلهة لا تحمي المخطئين، ويعتقد اعتقادًا راسخًا أن الذين يعتقدون خلاف ذلك يقوِّضون الصالح العام.

إن الفكرة التي تقول بأن الآلهة يمكن استمالتها للعمل لصالح الأهواء الشخصية للمرء، حتى على حساب مصلحة الآخرين، هي المعتقَد الثالث من بين المعتقدات الثلاثة الضارَّة التي يقترح الأثيني محْوَها في ماجنيسيا. ينكر المعتقَد الأول وجود الآلهة. ويُقِر المعتقَد الثاني بوجودهم، لكنه يؤكد أنها لا تتدخل في شئون الإنسان. وقد لاقى هذا المعتقد الثاني دعمًا من العديد من الفلاسفة اليونانيين. وقد طُرِح هذا المعتقد الثاني من قِبَل أرسطو والمدرسة الأبيقورية التي نشأت بعد وقت قصير من وفاته. ولكن أفلاطون لا يؤمن فقط بوجود إله «يدير أمور الدنيا» ويعتني ﺑ «أدق تفاصيل» العالم بمساعدة مجموعة من المساعدين، ولكن بأن هذا الإله يهتم برفاهية الإنسان ويجزي ويعاقب في الحياة الآخرة. لا يتدخل المشرفون الإلهيون عند أفلاطون في شئون البشر من خلال القيام بمعجزات. فهم لم يخلقوا المادة التي يتكون منها الكون، ولكنهم فقط هيئوها لتوفر بيئة جميلة وملهِمة للبشر. وعبادتهم هي اعتراف مناسب بالعمل الذي قاموا به من أجلنا. يمكننا أن نرصد أصداء فلسفة أفلاطون الدينية في مذهب الربوبية الذي ازدهر بين المفكرين، أمثال توماس جيفرسون وبنجامين فرانكلين خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. فقد أكَّد الربوبيون، على عكس المسيحيين، أن الحقائق الدينية تعتمد بالكامل على العقل، ورفضوا إمكانية التدخل الإلهي في شكل معجزة.

خلال عصر أفلاطون، لاقت مذاهب الإلحاد والحياد الإلهي (اللامبالاة الإلهية) استحسانًا لدى مجموعة صغيرة من المفكرين التأمليين، ولكنها لم تحْظَ بقَبول واسع النطاق بين العامة. ومع ذلك، فإن الأثيني ليس على استعداد للاعتماد على الصدفة لمنع انتشار الإلحاد ومذهب الحياد الإلهي؛ الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى الإضرار بالصالح العام. فالأثيني يؤمن بوجود آلهة، وأن هذه الآلهة تهتم بالبشر، ويخشى أنه إذا لم يتم الاعتراف بهذه الحقائق فقد يؤدي ذلك إلى الإضرار بالمدينة، ويؤكد أن المدينة يجب أن تتمسك بهذه الحقائق وتقنع المعارضين بأنهم قد جانَبَهم الصواب. ويفترض الأثيني أن بعض المواطنين في ماجنيسيا على الأقل قادرون على الاعتراف بقوة الحجج التي تؤكد وجود كائنات إلهية تهتم بسعادة الإنسان وتَتوق لمساعدتنا؛ بشرط أن نقوم بدورنا بإدارة سلوكياتنا ومجتمعنا بشكل فعال. يمكن العثور على هذه الحجج في الكتاب العاشر من «القوانين». علاوة على ذلك، يقترح الأثيني في مرحلة معينة الحفاظ على كتاب «القوانين» بوصفه وثيقة تأسيسية لهذه المدينة الجديدة، حتى يتمكن جميع مواطنيها من قراءتها والاستناد إليها بوصفها الإطارَ الأساسي لتفكيرهم. ومن ثَم، فإن إيمانهم بالآلهة الخيرة لن يرتكز على مجرد التقاليد الموجودة منذ فترة طويلة، بل على لاهوت العناية الإلهية الذي يدعمه العقل.

تعتمد الحجة المؤيدة لوجود الكائنات الإلهية على استحالة وجود حركة في العالم ما لم يوجد كيان قادر على تحريك نفسه والأشياء الأخرى. وهذا الدور لا يمكن أن تقوم به إلا الأرواح، وليس المادة التي لا روح فيها. لا تمتلك الأرواح القدرة على تحريك الأشياء فحسب، بل تمتلك أيضًا القدرة على التخطيط والتصميم والإشراف على جوانب الوجود المختلفة. فبنية الكون المادي المنظمة تنظيمًا بديعًا ليست نتاج عمل عشوائي ولا قوة مطلقة، بل هي نتيجة لوجود أرواح حاكمة قوية، على الرغم من أنها ليست كلية القدرة. وهذه الأرواح السماوية ليست مجرد مادة بلا وعي، ولكنها كيانات ذكية. فهؤلاء هم الآلهة، ومن اللائق أن نعبدهم كما يفعل الأتقياء. ويتجلى اهتمام الآلهة برفاهية الإنسان في تصميمهم للكون المنظم، فسيكون من المخالف لطبيعتهم أن يكونوا غير مبالين بالنظام في الحياة البشرية. إن جميع الموارد المادية المتوفرة من خلال حركة الشمس والأجرام السماوية الأخرى هي من مظاهر العناية الإلهية بالحياة البشرية. لذلك، فمن الصواب تكريم القوى المسيطرة على الطبيعة وعبادتها؛ لأنها تعكس نظامًا أساسيًّا أنشأته كائنات تمتلك أعلى قدر من الذكاء والفضيلة. وبما أننا أيضًا نمتلك أرواحًا، فإننا مخلوقون من نفس مادة هؤلاء الحكام الإلهيين. نحن نتشارك في «الأصل المشترك» مع الآلهة، كما يقول الأثيني للشاب في المقطع المذكور أعلاه. ويعتقد الأثيني أيضًا أنه من الضروري التعبيرُ عن تقديرنا للآلهة من خلال محاكاة أسلوب حياتهم، وأفضل طريقة للقيام بذلك هي أن نشارك في حكم المدينة. وكما تهتم الآلهة دومًا بالصالح العام للكون، يجب علينا نحن أيضًا أن نتحلى بروح الخدمة العامة ونحرص على مصلحة مجتمعنا المحلي.

يمكن وصف ماجنيسيا بأنها ثيوقراطية — مدينة يحكمها الله — لأن مؤسِّسيها (الأثيني ومحاوريه) يعتقدون بأن الكائنات الإلهية تحكم الحياة البشرية، وأن الطقوس الدينية العامة يجب أن تعترف بسيادتهم علينا. يبدأ كتاب «القوانين» بالكلمة اليونانية «ثيوس» (theos) التي تعني «الإله» باليونانية، وإحدى القضايا الرئيسية في العمل هو الاعتراف باعتمادنا على التوجيه الإلهي. ومع ذلك، فإن ماجنيسيا هي مدينة يحكمها العقل البشري. فحكَّامها ليسوا من الكهنة، ولا يرتبط حكم المدينة بنصوص دينية لا تقبل الشك.

يُعَد كتاب «القوانين» كتابًا إلزاميًّا لجميع سكان ماجنيسيا؛ فهو بمنزلة النص التأسيسي لتشكيل الحياة المدنية. ولكن يستمد الكتاب سلطته من كونه عقلانيًّا ومدعومًا منطقيًّا: فكل مؤسسة يوصي بها يجب القَبول بها ليس لأن الإرادة الإلهية ترغب في ذلك، ولكن لأن الحجج الفلسفية تدعم تلك الترتيبات الاجتماعية. ومن الضروري أن ندرك أن المقصود من «القوانين» أن تكون جزءًا من إطار فلسفي أكثرَ شمولية، وهو مبنيٌّ على الفكرة الأساسية لكتاب «الجمهورية» التي تقول إن التماسك الاجتماعي هو أعلى قيمة في الوجود الإنساني؛ وتستند هذه الفكرة بدورها إلى نظرية أفلاطون القائلة بأن الخير مرادف للمقاييس والنسب المناسبة. عندما يقول الأثيني للشاب «يثبت ما هو الأفضل بالنسبة للكل؛ إنه الأفضل أيضًا بالنسبة لنفسك»، فهو يشير إلى الفكرة التي طرحها سقراط في «الجمهورية»، التي مفادها أنه من خلال أداء الفرد لدوره المناسب داخل مجتمع عادل، فهو يعزِّز ليس فقط رفاهية الآخرين، بل رفاهيته هو أيضًا.

وعليه، فلا ينبغي لنا أن نفترض أن أفلاطون في «القوانين» قد فقدَ ثقته في قدرة العقل البشري على توجيه أفعالنا وتحوَّل إلى مصادر بديلة، مثل الإيمان أو السلطة أو التقاليد. على العكس من ذلك، فإن الأفكار الأساسية المقدمة في «يوثيفرو» ما زالت موجودة في «القوانين». ويؤكد سقراط في ذلك العمل المبكر أن التقوى لا يتم تعريفها بما يتوافق مع تفضيلات الآلهة. بل إن الآلهة أنفسهم مقيدون في مواقفهم بإدراكهم لماهية التقوى. وعندما تُظهِر الآلهة استحسانها لشخصٍ ما أو عملٍ ما، فذلك لأنها تدرك صفاتٍ أو خصائصَ محددة تجعلهم يستحقون هذا الاستحسان. وبالمثل، ينظر كتاب «القوانين» إلى الكائنات الإلهية على أنها كيانات عقلانية صممت الكون عمدًا؛ بناءً على فكرة أنه من المفيد أن يتم تنظيمه بهذه الطريقة. إنها تبني أفعالها بناءً على ما يُعَد صالحًا؛ وهذا يؤكد أهمية أن نسير على دربها. فينبغي أن يكون هدفنا الأساسي هو العمل لصالح المجتمع بأكمله، وليس القيام بما يرضي الآلهة.

ومع ذلك، هناك جانب واحد يلعب فيه الدين دورًا أكثر بروزًا في كتاب «القوانين» مقارنةً بكتاب «الجمهورية». ففي «الجمهورية»، يؤكد سقراط أنه يجب علينا أن نُنحِّي جانبًا اعتباراتِ المكافآت والعقوبات الإلهية، عندما نستكشف الأسباب التي لأجلها يتحتم علينا أن نكون أشخاصًا عادلين. إن الحجة القائلة بأن العدل هو فضيلة ذات قيمة استثنائية للشخص العادل تظل مستقلة تمامًا عن فكرة وجود آلهة تهتم بالحياة البشرية؛ ومن ثَم يجب أن تكون هذه الحجة مقنعة بنفس القدر بالنسبة للملحد كما هو الحال بالنسبة للمؤمن. فإذا اعتنق شخصٌ ما الفكرةَ الرئيسية لكتاب «الجمهورية»، وهي أن العدل هو خيرٌ عظيم، فسيكون مواطنًا مثاليًّا في أي مدينة، ولن تكون هناك حاجة في هذه الحالة للمدينة التي يعيش فيها لاتخاذ تدابير خاصة، كما هو الحال في ماجنيسيا، للتأكد من أنه يعترف بوجود العناية الإلهية. فلماذا كتب أفلاطون حوارًا يصر فيه المتحاور الرئيسي على أنه إذا كان المواطنون يشككون علنيًّا في وجود الآلهة أو في اهتمام هذه الآلهة برفاهية الإنسان، فيجب على السلطات المدنية محاولةُ إقناعهم أنهم على خطأ، وإذا لم يتمكنوا من إقناعهم، فيجب أن يعاقبوا بالموت؟ يخشى الأثيني من عواقب انتشار الإلحاد، لكنه لا يجب أن يخشى من أن يصبح المواطنون أشخاصًا غير عادلين لمجرد أنهم يعتقدون أنه لا توجد آلهة أو أن الآلهة لا تبالي بنا. فيكفي أن يتم إعطاؤهم نسخةً من «الجمهورية»، وبعد أن يصبحوا مقتنعين بقيمة العدل، فإنهم سيتجنبون القيام بما هو غير عادل بإرادتهم الحرة. فلماذا يجب أن يُهمَّ إذا كانوا ملحدين أم لا؟

يعترف أفلاطون على الأرجح أنه من غير الواقعي أن نتوقع من المجتمع السياسي بأكمله فَهْم الحجج المعقدة لكتاب «الجمهورية»، والاقتناع بالقيمة المتأصلة للعدل. حقق سقراط، كما تم تصويره في محاوراته الأولى، نجاحًا محدودًا في إقناع محاوريه. ولهذا السبب، ربما يقتنع أفلاطون أن أغلب المواطنين العاديين سيقاومون في الغالب تأكيدَ «الجمهورية» أن العدل والفضائل الأخرى جيدة في جوهرها؛ ومن ثَم لا تتطلب أساسًا في الدين. يُظهر بعض الأفراد بطبيعة الحال ميلًا قويًّا نحو التعاون وحبًّا حقيقيًّا للعدل وكرهًا للظلم. وسواءٌ كانوا ملحدين أم لا، فإن إلحادهم لن يقلل من التزامهم بكونهم مواطنين صالحين. ولكن هذا الحب الفطري للعدل أمر غير شائع، فلدى غالبية الناس ميول يمكن أن تُبعدهم عما يتطلبه العدل الاجتماعي، ما لم يتم التصدي لهذه الميول بمؤثرات معارضة. يهتم معظم الناس كثيرًا — أكثر مما ينبغي — برفاهيتهم ورفاهية عائلاتهم وأصدقائهم. وبما أن ماجنيسيا تحافظ على البنية العائلية التقليدية، فإنها تحافظ أيضًا على بعض الميول النفسية التي من شأنها تقويض تفاني المواطنين في تحقيق الصالح العام للمجتمع بأكمله.

ومن أجل إقناع المواطنين بتكريس أنفسهم للمصلحة العامة، يعتمد الأثيني على حقائق اجتماعية مقبولة على نطاق واسع حول نظام الكون، وهذه الحقائق تتماشى إلى حد كبير مع المعتقدات التي لطالما آمن بها الناس العاديون؛ لذا سيكون من السهل عليهم الاعتراف بها. إن فكرة أن زيوس والآلهة الأخرى التي تحكم العالم الطبيعي تهتم بالعدل بين البشر؛ كانت فكرة شائعة في عصر أفلاطون، ووجدت الدعم من العديد من الشعراء. ويرى الأثيني أن هذه المفاهيم التقليدية يمكن إثباتها لأي شخص منفتح على الفكرة. ويمكن إثبات أن الكيانات الإلهية الحقيقية تمتلك ذكاءً وفضيلة استثنائيَّين، وأنها تحكم حياتنا بأفضل ما يمكن. وستضمن معاقبة الظلم ومكافأة العدل. إن الحجج الداعمة لهذه الحقائق حول الآلهة تكون في متناول الأفراد العاديين أكثر بكثير من الحجج الموجودة في محاورات أفلاطون، فيما يتعلق بوجود الأشكال المجردة وطبيعة العدل.

يقدم كتاب «القوانين» حجة متجذِّرة في علم الكونيات الخاص بأفلاطون، التي تخلُص إلى أننا نستفيد من العناية الإلهية، ولكنه يعتقد أن هذا الجانب من فلسفته يمكن أن يكون بمنزلة الأساس لدين عام يدعم مجتمعًا سياسيًّا يتمتع بالحكم الرشيد. ويخشى أفلاطون أن يؤدي انتشار الإلحاد إلى الإضرار بالعدالة الاجتماعية، لكنه يعتقد أنه لا داعي للُّجوء إلى الأكاذيب لمعالجة هذه القضية. يرغب العديد من الأفراد في عدِّ أنفسهم جزءًا من نظام أوسع يمتد عبر مساحات شاسعة من الزمان والمكان، ويربطون حياتهم القصيرة بكلٍّ أبدي وذكاءٍ شامل. ولا يعارض أفلاطون هذا الميل البشري. ويعتقد أنه يستطيع تلبيته دون الاعتماد على الأكاذيب المريحة. ويتضمن مفهومه لثاني أفضل مجتمع سياسي في ماجنيسيا الممارساتِ الدينية العامة. وما يثير الإعجاب في الدين العام لماجنيسيا هو أنه لا يرتكز على التقاليد، أو العُرف، أو السلطة، بل على المنطق الفلسفي الذي يمكن أن يفهمه أي شخص يتمتع بعقل متفتح وقدر كافٍ من الذكاء. إن المصدر النهائي للسلطة السياسية في كلٍّ من ماجنيسيا وكاليبوليس هو قدرة العقل البشري على فَهمِ ما هو جيد.

تُعَد أفكار أفلاطون حول الدين والأخلاق والسياسة ثريةً ومفيدة لدرجة أن العديد من التقاليد الفلسفية اللاحقة تبنَّتْها. بالنسبة للمفكرين المسيحيين، يقدم أفلاطون حججًا تدعم فكرة خلود الروح، ووجود خالق إلهي يهتم بنا، والأهمية القصوى لعيش حياة مستقيمة أخلاقيًّا. ولكن نظرًا لأن أعمال المؤلفين اليونانيين والرومانيين أصبحت في متناول الفلاسفة الأوروبيين في العصر الحديث، فقد أصبحت محاورات أفلاطون أيضًا بمنزلة مادة للتشكيك في العقيدة المسيحية الراسخة. إن المفهوم الأسمى في فلسفة أفلاطون هو شكل الخير، وليس الكيان الإلهي. يعترف أفلاطون بأن الملحد يمكن أن يكون ملتزمًا بمبادئ العدل والقيم الأخلاقية الأخرى تمامًا مثل المؤمن. وتفتقر فلسفته إلى ما يعادل مفهوم الإيمان المسيحي. ووَفقًا لأفلاطون، يجب أن تستند كل مؤسسة إنسانية إلى العقل. ويجب أن نلتزم بمبادئ العدل وخدمة مجتمعنا، ليس لأن كائنًا إلهيًّا يأمرنا بذلك أو يعِدُنا بمكافآت مقابل الامتثال لأوامره، ولكن لأن التفكير الفلسفي يكشف القيمة الهائلة للعدل. إن العقل يمكن أن يعيد تشكيل عالَمنا، ويجب أن توجه الأشكال هذا المسعى، علينا أن ندرك التأثير الجوهري للقوى غير العقلانية. فهي قوًى كامنة داخلنا جميعًا، ومن الممكن أن تؤدي إلى مجتمعات فاسدة تتميز بالرغبة المفرِطة في الثروة والسلطة والرفاهية. ومن النادر أن يمتلك الأفراد الموهبة والحظ للتغلب على هذه التحديات الداخلية التي تشوِّه الشخصية الإنسانية وتؤدي إلى التعاسة. وكان سقراط واحدًا من هؤلاء. وقد كُتبت محاورات أفلاطون بهدف إلهام وتثقيف المزيد من الناس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤