من أعماق النفس
تفتحتْ عينُ الوليد على الحياة، ولكنه لم يدرك منها شيئًا، ولم يَدرِ أحدٌ ما كان يجول في خاطره، إلا ما ارتسم على وجهه من ابتساماتٍ تُنبئ عن اللذة والسرور.
ولا تستطيع ذاكرتُه أن تذهب به في أغوار الماضي قبل السابعة من العمر، وهو لا يذكر منذ ذلك الوقت حتى العاشرة إلا وقفاتٍ وأحداثًا تهز المشاعر وتختلف عن المألوف.
إنه قطعةٌ من العالَم لا يميِّز بين نفسه، وبين ما فيه من أحياءٍ وأشياء.
فلما أخذ في التمييز، راعه هذا الخلافُ بين نفسه وبين الناس؛ إنه يريد لهم الخير، ويبذل لهم من ذات نفسه، ولا يضنُّ عليهم بما يُؤثِر، ومع ذلك فكَمْ لقِيَ من الناس وشرورهم.
تُرى ما السر الأعظم في تحريك البشر إلى ما يعملون؟
إنه الحب والكراهية.
قرأ ذلك الرأيَ مرارًا، ولكنه لم يعلق بذهنه، حتى كان يستمع إلى أستاذٍ كبير أجنبي في إحدى محاضراته يقول: «لو فتَّشتَ عن السر الذي يدفع المفكِّرين والفلاسفةَ إلى إعلان مذاهبهم الجديدة، ويحرِّك فيهم الهمةَ إلى تصويرها، لَوجدتَ في حياتهم شخصًا معينًا يكرهونه، فهذا أرسطو كان يبغض أفلاطون، وينتقص من مذهبه، ولا ينفكُّ ينتقد نظريتَه في المُثل في كل مناسبة، مع أنه كان أستاذَه، وأرسطو هو القائل: «أحبُّ أفلاطون وأحبُّ الحق، ولكنَّ حبي للحق أعظم.» واعتمد فلاسفة العصر الحديث في مذاهبهم على كره أرسطو والطعن على فلسفته.»
عندئذٍ تنبَّه عقلُ صاحبنا، والْتَفت إلى ذلك المعنى المحرِّك لأعمال الناس في حياتهم، وهو الحب والبُغض.
إنهما سرُّ الائتلاف، والباعث على الاختلاف.
بل هما القانون الذي تسير عليه الأمم والشعوب.
ألم ترَ إلى هتلر كيف جمع كلمةَ الشعب الألماني على كراهية اليهود، فشنَّ عليهم الحربَ الضَّرُوس!
وكلما تقدَّمتْ به السن، ازداد إيمانًا بقوة هذين الباعثَين، وأثرهما في سلوك الأفراد والجماعات.
وهل خلا بشر من الحب والكراهية؟
ما هو السر في ذلك؟ لقد فكَّر القدماء والمُحدَثون، فصاغ اليونان أساطيرَ تعلِّل نشأةَ الحب، وتأمَّل الفلاسفة فخرجوا بمذاهبَ تفسِّر هذه الظاهرة، وقال علماء النفس وعلماء الحياة كلمةَ العلم الحديث.
أساطيرُ القدماء لا تخلو من طرافة، وتعليلُ المُحدَثين عندنا أدنى إلى الصواب.