اختيار المحبوب
احتار العلماء في تفسير أسباب اختيار المحبوب، فلو أنعمت النظر لوجدت أسبابًا تُخالف المعقول؛ لهذا أضفَوا على المسألة نوعًا من السحر والخرافة والحظ. وفي هذا يقول جورج دوماس — صاحب موسوعة علم النفس: «إن اختيار المحبوب يبدو غامضًا كجميع المسائل الفردية؛ لأنه مستمدٌّ من الشخصية بأجمعها، وليس من اليسير تمييز الأسباب العميقة لذلك.»
وزعم القدماء أن الله تعالى خلق الأرواح كلها كهيئة كُرَيَّة، ثم قطعها أنصافًا، فجعل في كل جسد نصفًا، فكل جسد لقي الجسد الذي فيه نصفه حصل بينهما عشق، وتتفاوت حالهما في القوة والضعف على حسب رقة الطبائع. وزعم بعضهم أن اتفاق الأرواح يرجع إلى اتفاقٍ في البروج الفلكية، على مذهب الذين يعتقدون في التنجيم.
ومن الغرائب التي تلفت النظر، أولئك الذين يعشقون نساءً قبيحات أو العكس. قيل لرجل: اخترت فلانةً مع قبحها! فقال: لو صحَّ لذي الهوى اختيار لاختار ألَّا يعشق. وقيل: العين إذا أبصرت الهوى عميت عن الاختيار.
وليس اختيار المحبوب عملًا من أعمال العقل والتفكير؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن حبًّا. إنه غير معقول، ولكنه مفهوم، ويمكن تفسيره لمن يستطيع ارتياد شخصية العاشق بشيءٍ من الصناعة والفن. ولا يخرج السر في اختيار المحبوب عن طبيعة الأحداث الماضية التي تُشكِّل الحاضر، أو عن انتقال في العاطفة، أو عن شيءٍ جديد مبتكرٍ زائدٍ على الماضي وما انتقل إليه الماضي.
ويقولون: إن هناك شيئًا جديدًا في الاختيار. وقد ألجأهم إلى هذا القول الحب من أول نظرة كأنه ومضة البرق.
على أن مثل هذا الحب نادر الوقوع، والغالب في الناس حدوثه بعد إلفٍ وصداقة. ومهما يكن من شيء، فإنك لن تستطيع أن تخلق الحب؛ لأنه ليس شيئًا مرتقبًا أو إرادةً أو رغبةً سابقة. واعلم أن الرغبة الجنسية ليست العامل الوحيد في تحقيق الاختيار، ولو كانت هي العامل الوحيد لاكتفى المرء في اختياره باعتبار جسم المرأة فقط دون روحها.
ويقول العلَّامة «بيرل»: «إن الإلهام العاطفي في الحب يحدث في لحظات «اللاشعور» وعدم الاهتمام والشرود.» وهذا شبيه بما يقوله المتصوِّفة في الحب الإلهي: «إذا وجدت قلبي فقدت ربي، وإذا فقدت قلبي وجدت ربي.» ويقول شاعرهم:
وإذا ما تمَّ اختيار المحبوب؛ ترتَّبت على ذلك نتائج من شأنها أن تُغيِّر المحبوب في نظر الحبيب، وأن تُغيِّر نظرة الحبيب إلى نفسه، وأن تُغيِّر نظرة الحبيب إلى العالم.
ذلك أننا لا نعرف الأشياء المحيطة بنا، والناس الذين نتصل بهم على حقيقتهم، بل خلال المزاج، والنظر الشخصي. وصفات الناس الخلقية والجمالية من الأمور التقديرية التي لا تخضع للموازين الموضوعية الثابتة فقط، بل يدخل فيها المعيار الشخصي. والمحبوب أو المكروه يُصبح جزءًا من حياة الشخص يملأ حياته، ويشغل تفكيره وخياله. وهنا فرق بين شخصية تُصبح «حيةً» في أنفسنا، وأخرى لا تعيش معنا. فالمحبوب يعيش مع الحبيب في خياله، فيُصبح شخصيةً «حية»، وتُصبح صفات المحبوب حقيقةً من الحقائق التي يعتقد فيها الحبيب ويُؤمن بها.
يقال إن نسوةً جلسن إلى مجنون ليلى فقلن له: ما الذي دعاك إلى أن أحللت بنفسك ما نرى من هوى ليلى، وإنما هي امرأة من النساء؟ هل لك في أن تصرف هواك عنها إلى إحدانا فنُساعفك ونجزيك بهواك، ويرجع إليك ما عَزُب من عقلك وجسمك؟ فقال لهن: لو قدرت على صرف الهوى عنها إليكن لصرفته عنها وعن كل أحدٍ بعدها، وعِشت في الناس معًا مستريحًا. فقلن له: ما أعجبك فيها؟ فقال: كل شيء رأيته وشاهدته وسمعته منها أعجبني. والله ما رأيت منها شيئًا قطُّ إلَّا كان في عيني حسنًا وبقلبي علقًا. ولقد جهدت أن يقبح منها عندي شيء أو يسمج أو يعاب لأسلو عنها فلم أجده. فقلن له: فصفها لنا. فأنشأ يقول:
وكما أن الحب بصير، فهو أعمى؛ لأنه يجعل الإنسان يُغضي عن مساوئ المحبوب.
وفي الحديث: «حبك الشيءَ يُعمي ويصم.» وقال معاوية: «لولا يزيد لأبصرت رشدي.»
وقال الشاعر:
والنتيجة الثانية لاختيار المحبوب هي تغيُّر الحبيب؛ لأن هذه التجرِبة الجديدة الحية تأخذ بيده إلى حياةٍ عاطفية باعثة على الإلهام والثروة الفكرية، وهذه العاطفة الجديدة تُفضي إلى التسامي، والميل إلى إبراز مكنون النفس. كما أن الحب يُضفي على الظروف المحيطة معاني شخصيةً جديدة. وللحب في عالم الأخلاق صَولة كبيرة؛ فهو يُثبِّت المرء على النظر في القيم الخلقية والإيمان بها، وعلى الأخص خلة الوفاء، والثقة بالنفس.
كان ذو الرياستَين يبعث أحداث أهله إلى شيخ يُعلِّمهم الحكمة، فقال لهم يومًا: هل فيكم عاشق؟ قالوا: لا. قال: اعشقوا وإياكم والحرام؛ فالعشق يُفصح الفتى ويُذكيه، ويُسخي البخيل، ويبعث على التنظيف، وتحسين الملبس. فلمَّا انصرفوا قال لهم ذو الرياستَين: ما استفدتم اليوم؟ قالوا: كذا وكذا. قال: نعم. وإنما أخذه ممَّا رُوي أن بهرام جور كان له ابن أهَّلَه للملك بعده، وكان ساقط الهمة، رديء النفس، سيئ الخلق، فغمَّه ذلك، ووكل به من يُعلِّمه، فلم يكن يتعلَّم، فقال معلِّمه: كُنَّا نرجوه على حال فحدث منه ما أيأسنا؛ وهو أنه عشق بنت المرزبان. فقال: الآن رجوت فلاحه. ثم دعا أبا الجارية فقال: إني مستسر إليك سرًّا فلا يعدونَّك. اعلم أن ابني عشق ابنتك، وأُريد أن أُزوِّجها منه، فمُرها بأن تُطمعه من غير أن يراها، فإذا استحكم طمعه فيها أعلمته أنها راغبة عنه لقلة أدبه. ثم قال للمعلم: خَوِّفه بي، وشجِّعه على مراسلة المرأة. ففعلت المرأة ما أُمرت به. فقال الغلام في نفسه: أنا أجتهد في تحصيل ما أصل إليها به. فأخذ في التأدُّب وتعلُّم الشجاعة. ثم قال أبوه للمؤدِّب: شجِّعه على أن يرفع أمرها، ويسألني أن أُزوِّجها منه. ففعل، فزوَّجه من ابنته.
وهكذا نرى أن الحب يبعث على الفخر والثقة والبطولة والشجاعة.
قيل: لو لم يكن في العشق إلَّا أنه يُشجِّع الجبان، ويُصفِّي الأذهان، ويبعث حزم العاجز؛ لكفاه شرفًا.
قال تولستوي في قصة أنا كارينينا: «لم يكن فروتسكي ليُبصر أو ليسمع شيئًا. لقد خُيِّل إليه أنه أصبح بطلًا، لا لأنه اعتقد الوصول إلى قلب «أنا»؛ بل لأن قوة العاطفة التي يُحسها جعلته فخورًا.»
والأثر الثالث للاختيار الحبي، هو تغيُّر شعور الحبيب بالعالم.
أحبت أعرابية شخصًا اسمه خالد، فقالت:
ذلك أن المحب قبل اختيار محبوبه يعيش في العالم العملي. إنه يعيش ولا يحيا؛ فكل الأشياء المحيطة به، والناس الذين يتصل بهم أجزاء من هذا العالم، وهو يزن الأشياء بمقدار ما تُحدِث فيه من ألمٍ أو لذة، ومنفعة أو مضرة. فإذا أحبَّ أصبح العالم أكثر جمالًا وحركةً وحياة.