الاتحاد في الحب
غاية الغزل ونهايته إنشاء علاقة بين الحبيب والمحبوب تنتهي بتوازنٍ بينهما، وغاية كل حب هو تحقيق هذا التوازن السعيد. غير أن القسمة ليست متساويةً بين المحب والمحبوب؛ فأحدهما ينتهي بإخضاع الآخر، الأول يُريد التسلُّط، والثاني يستسلم في خضوع.
والأساس الحيوي لهذا التلاؤم المشترك هو تعارض الجنسَين واختلافهما إلى ذكرٍ وأنثى، كلٌّ منهما يُكمل الآخر.
وأول مظاهر الاتحاد رغبة المحب في دوام حضور محبوبه؛ ولذلك كان الفراق والبعد ممَّا يُؤدِّي إلى توتُّر مؤلم وقلق شديد، وهذا يُوضِّح المنزلة التي يشغلها المحبوب في نفس محبه، وآية ذلك دوام ذكره في غيابه، وفي ذلك يقول شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة:
قالت الخنساء في نفس المعنى:
وحدَّث أبو الفرج في أغانيه قال: «أراد الحُطيئة سفرًا فأتته امرأته وقد قدَّمت راحلةً ليركب، فقالت:
فقال: حطوا لا رحلت لسفرٍ أبدًا.»
ويصحب الوجود مع الحبيب سعادة قد تبلغ مرتبة التجلي، ولا نستطيع القول إن النفس تشعر بوجودها، كما يحدث في الحصول على الرغبة، وأنها تُمحى كما يحدث في ذروة المحبة، فهي حالة بين هذا وذاك.
أمَّا المحو فمن صفات المغرقين في الحب، والمتصوِّفة أشد الناس شعورًا بهذه الأحوال.
قال ابن الفارض في تائيته المشهورة:
وهذا غزل في الذات الإلهية.
وغاية المحب كما نرى أن ينتهي إلى الاتحاد بالحبيب، أو الفناء في الله، وهو غير الحلول؛ إذ إن الحلول يجعل الله يحل في الإنسان، كما قال الحلَّاج:
والحلول لا ينفي الاتحاد، بينما الاتحاد قد يتعارض مع الحلول، وفي ذلك يقول ابن الفارض:
فاتحاد المحب بالمحبوب حتى يُصبحا شيئًا واحدًا سواء على رأي القائلين بالحلول أو بالاتحاد من مميِّزات التصوُّف؛ لأن الاتحاد أو الحلول يمكن أن يتم في عالم الروح والمعاني، ولا يمكن هذا الامتزاج ماديًّا.
لهذا يُشبِّهون الحب بين شخصَين، إذا قوي واشتدَّ، بالحب في التصوُّف. ومع ذلك فلا ينبغي أن نُسرف في تشبيه الحب الإنساني بالحب الإلهي الذي يصدر عن الصوفية؛ لأن تجلي المتصوِّف يحمل فيما يبدو نوعًا من التعطيل للحياة النفسية، كما يشمل ضربًا من البلاهة.
ولعلَّنا إذا شبَّهنا الحب بنشوة السكران، كان ذلك أدنى إلى الصواب. والمتصوِّفة يستعملون اصطلاح السُّكْر أيضًا في تشبيهاتهم.
مهما يكن من شيء، فالحب الشديد يحوي لونًا من التعطيل في الحياة النفسية، على الأخص في الإرادة والرغبة؛ وذلك يرجع إلى أن الحب غاية في نفسه، وفيه إذا تمكَّن الكفايةُ عن كل شيءٍ آخر.
والمظهر المادي الخاص بالحب هو الصلة الجنسية أو الوصال في لغة الأدب والشعر. إنه اتحاد الجسمَين بعد اتحاد النفسَين، وهي تجرِبة أصيلة في حياة الإنسان. وينبغي علينا أن ننظر بعين الاعتبار إلى الغاية التي تُحرِّك الرغبة في التقارب الجنسي. العلة الغائية في هذه الصلة هي ظفر الرجل بالمرأة وسعادة الأنثى، كما أن الصلة الجنسية ضرورية لكمال الحب؛ والدليل على ذلك أن امتناعها يُحدث ألمًا قد ينتهي إلى قطيعةٍ أو مرض نفسي. وليس من الضروري أن تُؤدِّي الصلة الجنسية وحدها إذا تحقَّقت بين شخصَين إلى المحبة، كما يحدث بين زوجَين متنافرَين في الطباع، أو كما يحدث في الصلة بالعاهرات؛ إذ لا تكون المرأة في هذه الحالة إلَّا آلةً لإشباع الرغبة، أو المتعة فقط.
ومن مظاهر الحب التي أشار إليها ستاندال في كتابه ظاهرة الأُلفة القلبية التي يبلغ فيها الاتحاد بين الحبيبَين مبلغًا فيه من الثقة، وحفظ السر وكتمانه، والتفاهم التام، الشيء الكثير.
وفي الخلوة بين المحبين ترتسم أبلغ آيات المحبة، وقد تدوم الخلوة ساعات طويلةً لا يشعران معها بمرور الزمن، ويقطعان الوقت في أشهى الحديث وأعذبه. وهنا لا نستطيع القول مع أصحاب المذهب البيولوجي إن لذة الحب في الصلة الجنسية فقط، بل هي في الواقع أكثر من ذلك وأسمى؛ فالحب يدفع إلى اقتحام الأخطار، ويتخطَّى حدود المجتمع والمظاهر المادية المألوفة في انتصار، بل يذهب الحب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ يتخطَّى حدود الذات، متحديًا الغريزة الجنسية من جانب، ومتحديًا رسوم المجتمع التي تقف في سبيل الغريزة الجنسية من جانبٍ آخر. وبيان ذلك أن الحب يحتفظ بكِيان الشخصَين كما هما في ذاتهما، فلا يسمح لهما بأن يكره أحدهما نفسه، أو يكون مكروهًا، ما دامت دنيا المحبة تُظلِّلهما.