نهاية الحب
الأصل في الحب الشعور بالحرية، فإذا أحسَّ أحد الحبيبَين بالإرغام والخضوع لسلطانٍ آخر غير سلطان النفس؛ فقد آذن الحب بالزوال.
وليس من الضروري أن تتحوَّل الصلة بين الحبيبَين إلى هذه النهاية؛ فقد تتطوَّر النشوة الأولى إلى سعادةٍ دائمة، وهذا أثر من آثار العادة، وذلك ما يحدث للزوجَين اللذين يعيشان معًا، إلى أن تهدأ ثورة العاطفة الجامحة، وتُصبح الصلة الجنسية بينهما رتيبةً مستمرَّة، فإذا بهما يشعران بامتزاجٍ كأنهما من دمٍ واحد، وتسود بينهما عواطف الإيثار، وإخلاص الشريك لشريكه، هذا الإخلاص الذي يجري مجرى الطبع مع طول العشرة.
هذا التحوُّل الذي وصفناه خليق بأن يحل رابطة الحب. وإذا صحَّ أن التفاهم بين الشريكَين في الحياة يكون تامًّا، إلَّا أن هذا التفاهم يختلف باختلاف المحبة. ونستطيع أن نلمح آثار هذه النهاية التي تسير إلى غايتها سيرًا بطيئًا في سلوك الحبيبَين. وينبغي أن نلفت النظر إلى أن الحب لا ينقسم بالتساوي بين الطرفَين المتحابَّين؛ فقد يزيد عند أحدهما عنه عند الآخر، كما ينقلب في أحوالٍ كثيرة ولا يبقى ثابتًا.
وقد يتعطَّل الحب عند أحدهما؛ وعندئذٍ لا يكون المحبوب موضوعًا يشغل الذهن، بل يُصبح فردًا كغيره من الأفراد. أمَّا معايبه التي كان يضرب عنها صفحًا من قبل، فإنها تُصبح أمرًا لا يُطاق.
يقطع المحب صلته بالمحبوب، ويصرف الحب إلى نفسه وذاته، ثم يترك عالم الغرام ليدخل إلى الحياة العملية، حيث يجد لذته في الحياة الاجتماعية والأصدقاء والأشغال. إنه ينشد في كل ذلك حرية نفسه من رِبقة الحب الذي كان يُخيِّم عليه.
وفي بعض الأحوال ينقلب الحب إلى درجة الاشمئزاز من المحبوبة، ثم يحل الصد محل عدم الاهتمام بها. ومن مظاهر النفور الألم الذي يحدث من الاتصال الجسدي والروحي، بل مجرَّد المصافحة أو ملامسة يدها؛ ممَّا يُؤدِّي إلى النفور، كما يُؤدِّي إلى سماع الحديث.
وهذه درجة أقل في شدتها من الكراهية التي تُؤدِّي إلى مظاهر السلوك الخارجي البارز في الإشارة والنظرة، بل السُّباب والعدوان، وكثيرًا ما تنتهي حياة الحب بين الزوجَين ويحل بينهما الشقاق؛ وعندئذٍ لا يرتاح أحدهما إلى وجود الآخر، ويقل التبادل النفسي بينهما إلى درجة الانقطاع، كما لو انقطع التيَّار الكهربائي الذي يصل بينهما. وتُصبح الحياة المشتركة صمتًا عميقًا رهيبًا، لا تقطعه إلَّا بعض الكلمات التي يقتضيها الأدب، وهي بعض ألفاظ تنطوي على البرود والتهكُّم. على أن هذا الغطاء الرقيق من الأدب أو «الإتيكيت» الاجتماعي لا يلبث أن يتمزَّق فينفجر الزوجان في غضبٍ شديد، وتكثر الفضائح العامة والتأنيب والتحقير.
وهناك صلةٌ بين الاحتقار والكراهية؛ لأن الذي تُبغضه تحتقر من شأنه، وترميه بنظراتٍ غريبة مملوءة بالوعيد والتهديد. وظهور هذه النوايا دليل على الميل إلى الانتقام. وكثيرًا ما يرغب الذي يشعر بالاحتقار في الفراق، وتجنح المرأة إلى الانتحار والهرب أكثر ممَّا تلجأ إلى القتل، فإذا جنحت إلى التخلُّص ممن تُبغضه، لجأت إلى وسائل الإناث كالسم. أمَّا الرجل فإنه يهجر منزله ويرتمي في أحضان الخمر، ويلجأ إلى الشراب، ويسلك المكروه إحدى سبيلَين؛ إمَّا أن ينطوي على نفسه في حزنٍ وصمت، وإمَّا أن يجنح إلى الثأر والانتقام.