الزواج
من الحقائق العامة السائدة في جميع الكائنات التي تتناسل عن طريق الزواج، أنها تتميَّز بأعضاء تختص بالتناسل والصلة الجنسية. وخلايا هذه الأعضاء الموجودة في الغدد التناسلية، تمتاز بخاصة التناسل بحيث تُنشئ الكائن من جديد على صورة النوع الذي تندرج تحته، وذلك عن طريق الزواج الذي تخرج فيه هذه الخلايا التناسلية في ظروفٍ خاصة. ولهذا صحَّ أن نقول مع «فايسمان» في مقالته الفلسفية: «إن الخلايا الجنسية تسوق آباءها على الحياة، فلا يُفسد الموتُ في الحقيقة إلَّا جزءًا من الفرد، وهو ذلك الجزء الذي اختُص وحده بالأهداف الفردية، فكل فرد يعيش إذن في أعقابه.»
ويبدأ التناسل بأن ينفذ الحيوان المنوي الذكر، في داخل البويضة التي تُفرزها الأنثى، فيتحدان في خليةٍ تناسلية واحدة، تنمو حتى تُصبح جنينًا.
فالطفل الذي يُولد يخرج دائمًا من أبوَين، مختلفَين دون شك، لا في الجنس فقط؛ أي أن أحدهما ذكر والآخر أنثى، بل في صفات أخرى كثيرة منها تتكوَّن «شخصية» كل منهما. وقد أثبتت المشاهدات والتجارِب العملية أن دور الأبوَين في تكوين البويضة الجديدة متساوٍ. غير أن المولود الجديد هو جديد حقًّا؛ لأنه شخصية جديدة مختلفة عن أبوَيه، ولكنه من جهةٍ أخرى يكتسب صفات أبوَيه التي تنحدر إليه بطريق الوراثة.
وعندما يتكوَّن الجنين في بطن أمه تختص بعض الخلايا بتكوين الأعضاء التناسلية، ولكنها في صورتها المبكِّرة لا تتميَّز؛ فلا تكون ذكرًا ولا أنثى، ثم تتشكَّل بعد ذلك فتُميِّز الجنس، بحيث يُصبح للذكر أعضاء تناسلية مختلفة عن أعضاء الأنثى، ويتبع ذلك فيما بعد المميِّزات الخاصة بالرجل كظهور اللحية، والمميِّزات الخاصة بالمرأة كبروز النهدَين.
نقول إن الأعضاء التناسلية هي التي تُميِّز الجنس، وتفصل بين الذكورة والأنوثة؛ إذ يتبع عملية الخصي تغيير كامل في مظهر الرجولة، كما هو معروف عن «الخصيان» من نعومة الصوت، وزوال اللحية والشارب.
وتُعَد الأعضاء التناسلية وسيلةً فقط لتحقيق الغاية من الزواج بين الذكر والأنثى، وهذه الغاية هي نفاذ الحيوان المنوي الذكر في بويضة الأنثى. ويمتاز الحيوان المنوي بالحركة، على حين أن بويضة الأنثى تكون ساكنةً وأكبر حجمًا من خلية الذكر. ويتم اللِّقاح بأن يتحرَّك الحيوان المنوي — والحركة جزء من طبيعته كما ذكرنا — متجهًا نحو بويضة الأنثى، فينفذ إلى داخل البروتوبلازما، وحيث كانت كل خلية منهما مكوَّنةً من نواة، فإن جدار الخلية يحتويهما معًا، ثم يقتسمان الحياة داخل الخلية ويتحدان، ثم يفترقان إلى نواتَين جديدتَين يتكوَّن منهما عناصر الذكر وعناصر الأنثى بالتساوي.
وهكذا نرى أن الزواج يقتضي اقتراب الخليتَين الذكر والأنثى. والواقع هو أن خلية الذكر هي التي تنتقل إلى بويضة الأنثى، وهذه الحركة التي يمتاز بها الذكر تجعله يقوم بالدور الإيجابي، على حين تختص خلية الأنثى بالدور السلبي. ويُشاهَد هذا بوضوحٍ عند الحيوانات الدنيئة البسيطة التركيب. فإذا نظرنا إلى الحيوانات الراقية نجد الأمر معقَّدًا بعض الشيء؛ لأنها تتركَّب من أعضاءٍ مختلفة كثيرة معقَّدة. وتحتاج الصلة الجنسية إلى انتقال الذكر إلى الأنثى، وهما الجنسان المختلفان بالطبيعة، غير أن هذا الانتقال يحتاج في الحيوان الراقي — وفي الإنسان بطبيعة الحال — إلى جهازٍ عصبي مركزي يتحكَّم في حركة الحيوان ويُوجِّهه؛ وهذا هو السر في أن الصلة الجنسية تقتضي تعاون كثير من أعضاء الجسم وأجهزته، كالجهاز العصبي، وما يتصل به من أفعالٍ منعكسة، وتعاون ملكات عقلية راقية، كالخيال والتفكير عند الإنسان.
وهذا هو السر كذلك في تعقيد مسألة الحب عند الإنسان. والحب هو الشعور النفساني الراقي الذي يصحب إقبال الرجل على المرأة في سبيل تحقيق الصلة الجنسية؛ فالرجل يسعى أولًا، وقبل كل شيء، إلى تهيئة الأسباب التي تُؤدِّي إلى صلة الحيوان المنوي ببويضة الأنثى، حتى إذا تمَّت تلك الصلة انتهى عمل الرجل الجنسي. أمَّا الأنثى التي كان موقفها سلبيًّا، فليست هذه الصلة الجنسية بالنسبة إليها إلَّا بداية شيء آخر أعظم خطرًا وهو النسل، وذلك عن طريق الحمل. قد لا تحمل بعض أنواع الحيوان كالأسماك، بل تضع الأنثى البيض ثم يأتي الذكر فيضع فوقه لقاحه، فهو لا يتصل بإناث السمك، ولكنه يُلقِّح البيض الذي وضعته الأنثى، ولكن هذا النظام لا يسود سائر المملكة الحيوانية. ولا حاجة في هذا النظام إلى الحب الجنسي، ولا حاجة كذلك إلى الأمومة، وهي حب الأم لصغارها، ما دامت صغار السمك تستطيع بعد فقسها مباشرةً أن تعيش بمفردها في الماء.
وتعيش أصداف البحر الذكور في الصخور إلى جانب الأصداف الإناث، وعندما تنضج الإفرازات الجنسية، تخرج إلى البحر وتُفرزها في الماء، وتتجه الحيوانات المنوية نحو بويضات الأنثى لتخصيبها بدافع الجاذبية الجنسية. ومن الواضح في هذه الحالة أن ملايين عديدةً من الإفرازات الجنسية تتبدَّد وتضيع هباءً. ومن الواضح كذلك أن هذا النوع من الحيوان، وما يُماثله من الأنواع، لا يعرف الذكر الأنثى؛ فلا تتولَّد بينهما أي عاطفة.
أمَّا في الحيوان الراقي، فإن الأعضاء التناسلية الثانوية تتخذ شكلًا خاصًّا يُميِّز الذكر عن الأنثى، ولا تُترك عملية اللقاح أو التناسل للصدفة؛ إذ تُلقى الحيوانات المنوية في موضعٍ خاص من الأنثى مثل رحم المرأة في الإنسان، حيث يتسنَّى لهذه الحيوانات المنوية أن تنفذ في البويضة. ولسنا ندري الأصل الذي انحدرت منه هذه الخاصية، فهي سر من الأسرار.
ويُفسِّر «لودانتك» هذه الظاهرة؛ نعني اتصال الذكر بالأنثى لإيداع الإفرازات المنوية، بأن بعض أنواع الحيوان لا تخرج إفرازاته المنوية بطبعها كما يحدث لأصداف البحر، فتُساعد الصلة بالجنس الآخر على تخليص الجسم من هذه الإفرازات. ولمَّا كان تجمُّع الإفرازات الجنسية في الجسم مؤلمًا وضارًّا؛ فإن الذكر يسعى نحو الأنثى لينشد لديها الخلاص من هذه الإفرازات، ولا يكون ذلك إلَّا إذا اتصل بها اتصالًا مباشرًا بطريق الأعضاء التناسلية. مهما يكن من شيء، فإن عادة الجِماع عند الحيوانات الثديية متناهية في القِدم، وإنها كجميع العادات القديمة انتهت بالتأصُّل في جهاز الكائن الحي. وقد بقي في وعي الحيوان من هذه العادة الموروثة الميل إلى الجِماع، وما يصحب ذلك من حركات تُحقِّق الصلة الجنسية.
(١) الحمل والرضاعة
تنتهي مهمَّة الرجل عند اللِّقاح، وتبدأ مهمَّة المرأة من ذلك الوقت. ويكفي أن نُلقي نظرةً على المرأة التي ستصبح أُمًّا، ونشهد التغييرات العميقة التي تُؤثِّر في جميع كِيانها المتصل بحياة الجنين، لنرى أن دور المرأة في الحياة التناسلية أهم من دور الرجل، وأكثر حيوية، وأعظم قيمة.
وينمو الجنين في بطن أمه تسعة أشهر، يتغذَّى في أثنائها من دم أمه؛ فهو بَضْعة منها، بل هو استمرار لحياة البويضة التي لُقحت بالحيوان المنوي. وولادة الجنين هي أشق اللحظات بالنسبة للحامل، وفيها كثيرٌ من الخطورة على حياتها، ولكن يُعوِّض هذه الآلام فرح الأم العظيم وسعادتها عند سماع الصيحة الأولى للمولود. إنها تزهو وتفخر لأنها ستهب الحياة الإنسانية فردًا جديدًا، تضمُّه إلى صدرها، وتحمله بين ذراعَيها، وتُرضعه بثديَيها. مولودٌ جديد، يُنسيها الألم الشديد.
من هو هذا المولود؟ إنه هي؛ لأنه بَضْعة منها، وفِلذة كبدها. وليس هذا المولود من صنعها وحدها، بل هو شركة بينها وبين زوجها؛ فالطفل استمرار لحياة الرجل والمرأة معًا؛ ولهذا كانت الصلة بين الذكر والأنثى محتومةً في سبيل هذه الحياة الجديدة.
رجلٌ وامرأة وأطفال، هم خلاصة الحياة في بضع كلمات.
وهبت المرأة الرجل نفسها وحُبَّها من أجل هذا الطفل، ومن الطبيعي بعد ذلك أن تهب الطفل حُبَّها وحنانها، وهنا تبدأ لحظة صراع بين حب المرأة لزوجها وحبها لطفلها.
والأم مسوقة بالغريزة إلى إرضاع طفلها، كما أن المولود يميل بالفطرة إلى امتصاص ثدي أمه؛ أي الرضاعة، وتستمر فترة الرضاعة عند الشعوب المتوحِّشة سنتَين أو أكثر.
وإلى جانب حب الأم الغريزي لوليدها، المُستمد من دافع الفطرة المستقرة في الوعي الإنساني نحو بقاء النوع، نجد أن حبها ينمو ويزيد مع القيام برضاعة الطفل؛ فالعاطفة تتكوَّن مع ازدياد الصلة وتوثُّقها واختلاف مظاهر الأحداث المحيطة بموضوعها. ولا حاجة بنا إلى بيان ما فعلته المدنية الحديثة في الدول المتحضِّرة من تغيير هذه الظاهرة الفطرية عند المرأة، وهي الرضاعة؛ فقد ثبت أن مقدرة الأم على الرضاعة قد نقصت بمقدارٍ عظيم، وتبيَّن من دراسة العلماء القائمة على الإحصاءات الدقيقة الطويلة، أن السبب في ذلك يرجع إلى انتشار عادة تناول المسكرات في الشعوب المتحضِّرة؛ ممَّا أدَّى مع الزمن والوراثة إلى ضعف الجسم. ولا ندري أتُفيد الرضاعة الصناعية الأطفال أم تضرهم في مستقبل الأجيال؟ ومن مساوئ الحضارة الحديثة أيضًا أن كثيرًا من الأمهات يخجلن من الظهور في المجتمعات أثناء الحمل، ويلبسن «المشدات» التي تجعل حجم البطن صغيرًا، مع ما في ذلك من أضرارٍ بليغة بحياة الجنين وصحته. هؤلاء الأمهات يُحببن أنفسهن أكثر من حُبِّهن لأطفالهن. ولا نُنكر أن الأثرة من طبيعة الكائن الحي ليعيش، ولكن حب النفس إذا تعارض مع مصلحة المجتمع وفائدة النوع، فينبغي التضحية بالنفس في سبيل المجموع، إذا لم يكن في الإمكان التوفيق بين الأثرة والإيثار.
(٢) الرغبة الجنسية
رأينا حتى الآن أن النسل هو قانون الطبيعة للإبقاء على الحياة؛ فالفرد يموت ولكنه يُنجب خلَفًا يعيش على صورته. وقانون الحياة شديد الوضوح بالنسبة للكائنات التي تعيش عن طريق الانقسام. ولا ندري السر في أن الإنسان لا ينسل إلَّا عن طريق الزواج بين الرجل والمرأة، وهو ما نُعبِّر عنه بالصلة الجنسية. غير أننا نستطيع التأكيد والجزم بأن انقطاع حبل الزواج بين الناس عامةً يُؤدِّي قطعًا إلى فناء النوع الإنساني واختفائه من على ظهر الأرض.
لهذا اقتضت حكمة الطبيعة إيداع جاذبية بين الجنسَين ترمي في النهاية إلى إنجاب الأولاد. هذه الجاذبية حقيقة لا شك فيها؛ لأن أصل الطفل متركِّب من الحيوان المنوي الذكر ومن بويضة الأنثى، وقد رأينا كيف يتحرَّك الحيوان المنوي فينفذ إلى البويضة ويتحد معها. ورأينا كذلك أن الأمر عند الإنسان معقَّد؛ إذ تشترك عدة أجهزة أعلاها الجهاز العصبي الذي يُحرِّك المرء بالإرادة في توجيه الذكر نحو الأنثى للتقرُّب بين الجنسَين، حتى أصبح الإنسان وحدةً نفسيةً تشتمل أجزاؤها على الفِكر والشعور والإرادة والوجدان، فهو يسعى إلى التناسل، لا بقوةٍ آلية بسيطة كما هو الحال في الكائنات الدنيئة، بل يعمل بالفكر، ويستنير بالشعور، ويندفع بالإرادة، ويمتلئ بالإحساس المرهف، والعاطفة العميقة. وهكذا نجد أن الرغبة في التناسل، التي كانت من خصائص خلية الذكر أو الأنثى فقط، تشيع في الجهاز العصبي بأكمله، أي في كِيان الفرد من جميع نواحيه. فالرغبة الجنسية تصدر عن المرء عند البلوغ من الجهاز العصبي، وتدفعه نحو الجنس الآخر أو تجذبه إليه؛ وهنا يبدأ طَورٌ جديد في حياة الفرد؛ فقد كان إلى وقت البلوغ لا يهتم إلَّا بشخصه، ولا يُحب إلَّا نفسه، ولا يجد لذةً إلَّا فيما يحفظ ذاته، فإذا به ينعطف نحو الجنس الآخر، ويُؤثره على نفسه، ويطلبه ويسعى إليه، ويلتمس عنده لذة الحياة. إنها الرغبة الخفية أو الظاهرة للنسل التي تدفعه إلى ذلك، رغبة قوية، وعاطفة شديدة، وميل غريب يستولي على الفرد ويدفعه إلى الجنس الآخر ليلتصق به، وينفذ إليه، بل يتحد به. كأننا بالجهاز العصبي، أو الفرد بأكمله قد وقف لحظةً وعاد إلى مظهر الخلية الجنسية البسيطة التي لا همَّ لها إلَّا الاتحاد بخلية الجنس الآخر لتحيا من جديد.
ومشاهدات المملكة الحيوانية تُؤيِّد ما نذهب إليه من وجود هذه الرغبة القوية في التناسل، أو هذه الجاذبية بين الجنسَين؛ فالطير على الشجرة، وذوات الأربع في الغابة، والحشرات على ظهر الأرض، يسعى ذكورها نحو الإناث سِعايةً دائبةً لا تعرف الكلال، مستهينةً بأنفسها، وهي في ذلك السعي تلجأ إلى الحيلة تارة، وإلى الكياسة تارةً أخرى، وإلى العنف تارةً ثالثة، لا يلويها عن بلوغ قصدها شيء. ولا يقل شوق الأنثى حدةً عن شوق الذكر، ولكنها تلتمس عادةً أساليب أخرى هي الدلال والتمنُّع، والتظاهر بالهرب. فأنثى الحيوان كالنساء اللائي قيل فيهم «يتمنعن وهنَّ الراغبات». وكلما كان الذكر كثير الحركة والنشاط؛ جنحت الأنثى إلى هذا التمنُّع والدلال. وهذا هو الشأن في العصافير التي يتكلَّف ذكورها مجهودًا عظيمًا في سبيل تحقيق أغراضها والوصول إلى الإناث. وعلى العكس من ذلك إذا كان الذكر ثقيل الحركة فإن الأنثى هي التي تُقبل عليه لتستثيره، أو على الأقل فإنها لا تُبدي مقاومةً أو تصنُّعًا؛ والنتيجة في حالتَي التمنُّع والرضا واحدة؛ نعني تحقيق الصلة الجنسية المصحوبة بلذة، والغرض منها النسل.
ولْننظر إلى طوائف أخرى من الحيوان، لعل هذه المشاهدات تُفيدنا في معرفة أسرار الحب عند الإنسان؛ ففي خلية النحل نجد إلى جانب الملكة والنحل العامل مئات من الذكور (الدبابير)، وعندما تطير الملكة وهي الأنثى الوحيد طير الزواج، يتبعها جميع الذكور في الفضاء، ولا يصل إليها إلَّا واحد من بينهم فقط، هو أشدهم قوةً وأسرعهم طيرًا، وأكثرهم حركةً. والغريب أنه في نشوة الصلة الجنسية يترك أعضاءه التناسلية داخل جسم الملكة ثم يموت. وتُصبح جميع الذكور عديمة الفائدة بعد ذلك، فيشرع النحل العامل في فصل الخريف في مهاجمة الذكور وقتلها، وهذا أيضًا هو الشأن في الفراشة من نوع البومبيكس، فحينما تظهر تكون مزوَّدةً بجناحَين قويَّين وألوان زاهية بديعة، ولا يتركَّب جسمها إلَّا من قناةٍ هضمية بسيطة؛ لأن مدة حياتها قصيرة لا تحتاج فيها إلَّا إلى الغذاء اليسير، فكل همِّها هو الحب، وتظل الأنثى ساكنةً هادئةً في الانتظار. ويُميِّز الذكر الأنثى بطريق حاسة الشم ولو كانت على بُعد عدة كيلومترات، فيسعى إليها طائرًا خلال الأشجار والحقول. وليس للذكر إلَّا غرض واحد هو الوصول إلى الأنثى، وأول من يصل إليها من الذكور يُلقي بنفسه عليها، ويظل بضع ساعات يُعانقها بجناحَيه ويسعد معها بلحظاتٍ من اللذة العميقة، ثم يموت بعد ذلك مباشرةً من الضعف المستمر والمجهود الشديد، ويموت كذلك أترابه الذين كانوا يُنافسونه بعد الطير الطويل، والامتناع عن الطعام، والإخفاق في تحقيق غرضهم. أمَّا الأنثى فإنها تسعى بعد اللقاح إلى النبات الأخضر الذي يُوفِّر الحياة الطويلة للشرانق الجديدة التي تُخلِّفها ثمرةً لذلك الحب الجنسي، إن صح القول بأن الحركات التي وصفناها تنطوي عند الحيوان على محبة. وتضع الأنثى عددًا هائلًا من البيض الملقَّح على أوراق النبات، ثم تموت بدَورها، مخلِّفةً الحياة لأعقابها بعد أن حقَّقت غرضها في هذا الوجود.
وقد وصف عالِم الحشرات «فاير» هذه المظاهر الجنسية بعد مشاهداتٍ طويلة بما لا يخرج عمَّا ذكرنا، وقد أثبت بالملاحظة أن الحب عند الحشرات الدنيئة يقتصر على تحقيق الرغبة الجنسية، ثم يختفي بعد تحقيقها.
أمَّا الحيوانات الراقية فإننا نشهد عاطفةً — تطول أو تقصر — بين الجنسَين، ومع ذلك فمن الثابت أن اللحظة التي تتم فيها الصلة الجنسية هي لحظة تبلغ فيها العاطفة حد النشوة فتستولي على نفس الكائن بأسره. وفي غمار هذه النشوة ينسى الإنسان كل شيء، ويرى الدنيا بعين الغريزة الجنسية؛ إذ تبدو له المرأة في أثوابٍ عُلوية تحجب عن بصره جميع شرور الحقيقة ونقائصها. إنه يعتقد في تلك اللحظات من اللذة أنها تدوم إلى الأبد، ويعتقد في السعادة الخالدة، كأنه قد انتقل إلى فردوس النعيم، ولكنه بعد أن يقضي وطره، ويُشبع الرغبة الجنسية، يسدل الستار على ذلك المشهد، وتهدأ النفس، ويعود الإنسان إلى الحقيقة المجرَّدة. تلك هي أوصاف الرغبة الجنسية في جميع الكائنات المنقسمة إلى جنسَين.
والأصل في هذه الرغبة الجنسية الطبيعية يمتد إلى أزمنةٍ بعيدة جدًّا لا يستطيع التاريخ أن يتبيَّنها، ولكنها استقرَّت بالوراثة في باطن النفس. وإذا كانت شهوة الطعام أساس حفظ الحياة الفردية، فإن الرغبة الجنسية هي أساس حفظ النوع، ما دام النسل لا يتم إلَّا بالصلة بين الجنسَين. وتتحرَّك هذه الرغبة من جانب المراكز العصبية، ومع ذلك فإن كثيرًا من الإحساسات تشترك في تحقيق الصلة الجنسية. مثال ذلك أن بعض أنواع الذباب لا تضع بيضها إلَّا بعد أن تشم رائحة الجثة، فإذا انتُزع عنها عضو الشم توقفت عن أن تبيض.
أمَّا عند الإنسان فمرجع الرغبة الجنسية إلى الجهاز العصبي، ومنه ينعكس إلى الشعور بما يحويه من فكرٍ وعاطفة وإرادة. وعلماء الحياة لا يفهمون ظاهرة الحب، والرغبة الجنسية، إلَّا بربطها بالجهاز العصبي، فالحب وما يتصل به يرجع إلى المراكز العصبية في المخ والمخيخ والنخاع الشوكي، فإذا تنبَّهت الرغبة الجنسية، وتنبَّهت المراكز العصبية؛ تنعكس الرغبة في الشعور عن طريق الانتباه، ثم تتداعى المعاني في الذهن وترتبط بعضها ببعض، وترتد بعد ذلك إمَّا لتحقيق الصلة الجنسية، وإمَّا لوقفها والامتناع عنها.
الرغبة الجنسية عند الرجل
يُمثِّل الرجل العنصر الإيجابي في الصلة الجنسية؛ ولهذا كانت الرغبة الجنسية عند الرجل أقوى منها عند المرأة. وهذه الرغبة تنشأ في نفسه من تلقاء ذاتها؛ أي بالطبيعة، وهي ترجع إلى الدور الذي يلعبه الرجل في النسل. وتظهر الرغبة الجنسية عند الرجل عند البلوغ، حيث يلحظ تغييرًا في أعضائه التناسلية، وعندئذٍ يطلب الجنس الآخر. والذي يحدث عند الحيوان أن الذكر يتأثَّر برؤية الأنثى، أمَّا الإنسان فإن الذي يُثير فيه الرغبة الجنسية أمور كثيرة، تعدَّلت بسبب الحضارة الحديثة.
منها رؤية الأجزاء المحجوبة من الجسم؛ ذلك أن الإنسان يكسو نفسه بالملابس وبخاصة الأعضاء التناسلية. ولا ندري كيف انحدرت إلينا هذه العادة، ولكن ممَّا لا شك فيه أن العُري هو الأصل في المعيشة، وأن الكساء من ابتكار الإنسان. ورؤية الأعضاء التناسلية عند المرأة، التي تكون عادةً محجوبة؛ تُثير الرغبة الجنسية. على حين أن رجال القبائل المتوحِّشة الذين يعيشون في حالة عُري لا يستثيرهم رؤية الجسم العاري للمرأة. وإذا تحجَّبت المرأة حجابًا كاملًا فإن رؤية أي جزءٍ من أجزاء جسمها يكون باعثًا للرغبة الجنسية؛ مثل وجهها أو يدها. أمَّا الشعوب التي تعيش في سفورٍ فلا يُؤثِّر النظر إلى وجه المرأة المكشوف. غير أن الرغبة إذا كانت شديدةً عند الرجل، فإنه يطلب أي امرأة، جميلةً كانت أو قبيحة، شابةً أم عجوزًا.
ومنها صحة الجسم؛ لأن ممَّا يُثير الرغبة الجنسية مظاهر الصحة البادية على المرأة. فالأعضاء المكتملة النمو، والرائحة الطبيعية، والصوت الجميل، والجلد الرقيق ذو البشرة الموردة المريحة للنظر واللمس؛ كل ذلك ممَّا يُثير الرجل. وعلى العكس من ذلك، إذا كانت المرأة مريضة، صفراء، مترهِّلة، ذات رائحة كريهة، فإنها تبعث على النفور؛ ممَّا يُؤدِّي إلى منع الصلة الجنسية أو التخفيف من حدة الرغبة فيها.
ومنها أخيرًا الأعضاء التناسلية، من النظر إليها، وشم رائحتها.
وعندما يصل الحيوان إلى سن البلوغ، وكذلك الإنسان البدائي بطبيعة الحال، والإنسان المتحضِّر، يُحاول الفتى الاتصال بالفتاة اتصالًا جنسيًّا، وكثيرًا ما يتحقَّق ذلك؛ لأن الإنسان في حالة المعيشة الطبيعية لا يوجد ما يحول دون تحقيق فطرته. ولكن الحضارة الحديثة، بما فيها من تقاليد وعادات ناشئة عن الدين والمجتمع، حرَّمت الصلة الجنيسة إلَّا عن طريق الزواج، وأخَّرت الزواج بعد البلوغ لأسبابٍ اجتماعية وصحية واقتصادية. هذا التأخير في الزواج يُؤدِّي إلى أحد أمورٍ ثلاثة؛ إمَّا امتناع الفتى عن العلاقات الجنسية، وإمَّا مباشرتها مع البغايا أو بأي شكلٍ آخر، وإمَّا استعمال العادة السرية؛ وهذا كله يُؤثِّر في نفسيته تأثيرًا كبيرًا، ويُحوِّل حبه وبُغضه من الاتجاه السليم الطبيعي، إلى اتجاهاتٍ منحرفة مريضة.
وتدفع الرغبة الجنسية عند الرجل إلى أمورٍ ثلاثة؛ الجرأة، والغيرة، والرغبة في الأبناء.
وينشأ الإقدام عن الشعور بالقدرة الجنسية، الذي يُفيض على النفس نشوة السمو، على حين أن الشعور بالضعف الجنسي يُحطِّم الحياة النفسية.
وترجع الرغبة الجنسية إلى غريزة التناسل. ولولا خوف العواقب لاتصل الرجل بأكبر عدد من النساء، وأنجب ما يشاء من الأبناء. وهذا مشاهد في الشعوب المتأخِّرة التي تتعدَّد فيها الزوجات أو تأخذ بنظام التسَرِّي. وكلما أنجب الرجل أولادًا؛ سمت نفسه لشعوره بالكثرة ولذة السلطان بامتلاك عدد كبير من النساء والأبناء.
لهذا كانت الصلة الجنسية المحرَّمة لا تُشبع إلَّا الرغبة الجنسية فقط، ولكنها تُثبِّت هذا الإحساس الذي يُضيء جوانب النفس ويغمرها بالحياة والقوة والسعادة.
أمَّا الغيرة فإنها ميراث عن الأجداد وعن الحيوان منذ عصور مغرِقة في القِدم، كما يرى الأستاذ «فوريل». والأصل في الغيرة ناشئ عن القتال الوحشي للحصول على المرأة بالقوة، حتى إذا ما أصبحت في حوزته؛ وجب عليه الدفاع عنها من عيون المنافسين. وكثيرًا ما استمرَّت المعارك في سبيل المرأة بعد حصول الرجل عليها؛ ومن هنا تعلَّم الحيوان الذكر — أو الرجل البدائي — أن يأخذ حذره من نظرات الذكور وحركاتهم، وما يعقب ذلك من هجمات المنافسين عليه للاستيلاء على الأنثى.
والمشهور أن المرأة تمتاز بالغيرة، وسوف نتحدَّث عن ذلك فيما بعد.
ويرى العالم النفساني «أدلر» أن الغيرة تنشأ منذ الصغر بسبب إهمال الطفل، ومراعاة الآباء لأحد الأطفال أكثر من الآخرين. ويصحب هذا الشعور بالإهمال والغيرة الطفل حتى بعد أن يكبر، ويتخذ أشكالًا كثيرة.
وعنده أن إهمال الطفل وهو صغير وعدم عناية آبائه به، هو الدافع إلى ظهور البغض؛ فيشب الطفل على كراهية الناس والعالم.
الرغبة الجنسية عند المرأة
أهم ما يتصل بالرغبة الجنسية عند المرأة الحب، والموقف السلبي، والغيرة، والدلال، وحب الأبناء. وأبرز هذه الخلال جميعًا الحب؛ فهو يلعب دورًا عظيمًا في عقلها أكثر من الرجل؛ فالحب عندها هو غاية الحياة، من دونه تنحل طبيعتها، ولا تكون امراةً سوية.
وإذا حدث ما يمنع تحقيق رغبات المرأة الجنسية، خصوصًا إذا تأخَّر زواجها واختفى الحب القائم على الأساس الجنسي، وهو حب المرأة للرجل، انصرف الحب إلى إحدى جهتَين؛ الجهة الأولى لا تشعر بها، ولا تعرف عِلَّتها، وهي إبدال حبها الرجلَ بحب الأشياء المحيطة بها؛ كالقطة في المنزل، والدجاج أو الكلب، أو الأشياء المختلفة التي تشغل بها نفسها داخل الدار، وكل ذلك انحراف عن الحب الجنسي إلى موضوعٍ آخر يحل محلَّه. والجهة الأخرى تصرف إليها حبَّها عن شعورٍ وتفكير؛ كالفن والأدب، والاشتراك في الجمعيات الخيرية، والعطف على البؤساء والمحتاجين، وحب الخير والفضيلة. وحب الفن والجمال لا يقوم إلَّا على ثقافةٍ واسعة وبصر بشئون الحياة والمجتمع؛ فالمرأة تجد في محبة هذه الأشياء كلها، سواء أكانت صادرةً عن شعورٍ أم لا شعور، ما يملأ نفسها ويُعوِّضها ما فقدته من حب الرجل. والشائع عن العوانس هو انصراف المحبة عندهن إلى الصداقة من الأهل أو الأغراب، رجالًا أم نساءً، وهو هوًى عذري يملأ النفس ويُعوِّض شيئًا ممَّا فقدته، ويُؤدِّي إلى تحسين حالتها النفسية نوعًا ما. ومع ذلك فهذا اللون من الحب أو الصداقة بما فيه من إخلاصٍ عميق، لا يحل تمامًا محل الحب الجنسي، وكثيرًا ما تنتهي إلى حالةٍ من التشاؤم والحزن الدائم، خصوصًا إذا فقدتْ أحد هؤلاء الذين تُحبُّهم، وكانت تجد في صحبتهم السلوى والارتياح.
وحزن الزوجة على فقد زوجها أو ابنها أعنف من فقد العانس صديقها أو صديقتها؛ وهذا راجعٌ إلى أن الحب عند المرأة هو الأصل، وأن الرغبة الجنسية فرعٌ منها. والحب عند الفتاة بعد البلوغ مزيجٌ من الإعجاب بالرجل وإقدامه ومنزلته، والحاجة إلى المودة والملاطفة والأمومة. إنها تُريد الخضوع للرجل، وخضوعها مستمدٌّ من الدور السلبي الذي تلعبه الأنثى في الحياة. وإذا استطاع الرجل أن يغزو قلب المرأة وأن يُخضعها كما يحدث في التنويم المغناطيسي؛ فإنها تمتلئ بنشوةٍ عجيبة، تنخلع لها نفسها فتتحطَّم إرادتها وفكرها، ويسلس قيادها، وتفقد مقاومتها، وتتبع الرجل.
وجهل الرجال عادةً بطبائع المرأة ونفسيتها، خصوصًا هذا القانون العلمي الذي ذكرناه من أن المرأة في حاجةٍ إلى الحب أولًا، في حين أن الرغبة الجنسية تأتي في المحل الثاني، هذا الجهل يُؤدِّي إلى عدم إشباع رغبة المرأة؛ فإمَّا أن تسكت على مضضٍ وتعيش في انكسار، وإمَّا أن تحملها الثورة على إعلان سخطها وبغضها، فينتهي الأمر بالبيوت إلى الانهيار وإلى انقطاع حبل الزواج.
أمَّا الرجل فتحمله الشهوة البهيمية على إشباع رغبته الجنسية معتقدًا أن أداءه هذه المهمَّة المادية يُحقِّق للمرأة اللذة التي يُحسها هو، وينسى في غمار ذلك أن يُفيض على المرأة بالعطف والمودة، والحديث الممتع، والمداعبة اللطيفة. وقد ترضخ المرأة حتى لا تُؤذي شعور الرجل.
(٣) الأمومة
روى أحد الأطباء المشتغلين بالتحليل النفساني قصةً تُؤيِّد ما نذهب إليه، وهو أن حب الأبناء يزيد في حب الزوجة لزوجها، وخلاصة القصة أن الزوجة أُرغمت على الزواج من شخصٍ لا تُحس نحوه ميلًا أو حبًّا، ولمَّا تمَّ الزواج رغبت في التخلُّص من زوجها، فكانت تتمنَّى موته، بل تُعلن له هذه الأمنية، ثم دار الزمان وأصبح للمرأة بضعة أطفال من زوجها، وفي أحد الأيام قال الزوج لزوجته: «ألا تتمنَّين موتي كما كنتِ تتمنَّين في أول الأمر؟» فأجابت المرأة: كلا. إن الأطفال في حاجةٍ إليك. فهي تُريد زوجها، لا لنفسها، بل من أجل أطفالها.
والأُمومة تُلازم الحب الجنسي ملازمةً وثيقة؛ فالأم التي لا تُحب أبناءها هي أم ثائرة على الطبيعة، خارجة عليها. والرجل الذي لا يُدرك رغبة المرأة في الأُمومة ويحترم هذه الرغبة؛ ليس جديرًا بحب زوجته. والغريب أن بعض الرجال تحملهم الأنانية على الغيرة من الزوجة التي تصرف بعض حُبِّها إلى الأطفال. وفي بعض الأحيان نرى بعض الآباء يُحبُّون أبناءهم حُبًّا أعنف وأقوى من محبَّة الأم لهم. ولكن هذه الأحوال تُعَد قليلةً بالنسبة إلى القانون الطبيعي العام، وهو أن الأم تُحب أبناءها أكثر من حب الأب لهم.
ومن أجمل الظلال المستمدَّة من الحب وأكثرها اتصالًا بالطبيعة، الفرح الذي يُحس به الأبوان عند ميلاد الطفل، وهو فرحٌ يُؤدِّي إلى ربط العلاقة الزوجية برابطةٍ وثيقة من المودة، ويُعين الزوجَين على مغالبة الصراع القائم بين شخصيتهما، ويعمل على السمو بالعاطفة المتبادلة بينهما، ومرجع ذلك كله إلى أن مولد الأبناء استجابةٌ لازمة للغرض الطبيعي من الزواج.
مهما يكن من شيء، فإن نصيب الأم من محبة ابنها هو نصيب الأسد؛ فالمرأة الصادقة الأُنوثة تنتشي في حالة الحمل، وتزيد نشوتها كلما تقدَّم، حتى إذا زالت آلام الوضع امتلأت سعادةً وحنانًا وفخرًا، حين تسمع الصيحات الأولى للمولود. وليس هذا الحب الأُمِّي في الحقيقة إلَّا نزعةُ غريزيةُ تتجه نحو الرضيع الحديث الولادة الذي يطلب حقًّا طبيعيًّا لا يستطيع أن يُعبِّر عنه، هو حق الرعاية الدائمة، والعناية الدقيقة من أمه. فما أعظم الفرح الذي يُظلِّل الأم حين تُعنى بنفسها بمولودها! وما أقبح وأشقى الأمهات اللائي يُهملن أطفالهن دون حاجة ماسة في أيدي الخدم والمرضعات، باسم الحضارة والمدنية والتقدُّم! وما ذلك إلَّا التدهور والتأخُّر.
الأُمومة هي — دون شك — أهم مشتقات الغريزة الجنسية عند المرأة، وكثيرًا ما ينقلب حب الأم إلى ضعف بإزاء أبنائها، فتحملها هذه العاطفة على المغالاة في تقدير صفات الابن، والتماس المسوِّغات لعيوبه وأخطائه. وضعف الأُمومة كثيرًا ما يُؤذي الأطفال، ويضرهم في مستقبل حياتهم أعظم الضرر. وأكبر الظن أن لين الأم وضعفها وتهاونها من الصفات الموروثة، فإذا أُضيف إلى عامل الضعف الوراثي انغماس الأم في الترف، وانعدام الثقافة، والكسل، وكثرة الأطفال … وما إلى ذلك؛ زاد ضعفها ضعفًا. والسبيل إلى علاج هذه الظاهرة المتصلة بالأمومة، هو تثقيف الأم ثقافةً نفسيةً وخلقية، من شأنها أن تبني الشخصية القوية والخلق السليم، كما ينبغي أن تشغل الأم نفسها بالعمل المثمر.
(٤) الغيرة والدلال
غيرة المرأة أشد عنفًا من غيرة الرجل، وهي غيرة فطرية تُثابر عليها المرأة وتظهر في ثوب الفضائح العامة والمعاكسات والمضايقات الخفية. وإذا كانت الغيرة تحمل الرجل على امتشاق الحسام، أو حمل السلاح والضرب بالنار ليقتل منافسه، فإن المرأة تصخب وتثور وتُحدث فضيحةً مسموعة، أو تلجأ إلى حِيَل النساء والقتل بالسم. المرأة المتوحِّشة التي تملؤها الغيرة تعض أنف حُسَّادها بأسنانها، على حين أن المرأة المتحضِّرة تُلقي حامض الكبريتيك على وجه من تغير منها. ولا يخفى أن غرَض المرأة البدائية والمتحضِّرة واحد؛ فهو التقبيح، وإن اختلفت الوسائل.
والدلال من خصائص المرأة ومن أكثرها اتصالًا بالحب، فموقفها السلبي في الحياة الجنسية، وحاجتها إلى الأمومة، يدفعانها إلى الرغبة في اجتذاب الرجل والحصول على إعجابه. وإنك لتجد المرأة تستغل وقتها وجمالها الطبيعي، وهما صفتان متلازمتان للنساء، في اجتذاب الرجل، كما تستغلهما في الزهو على غيرها من النساء. إن المرأة تُعنى العناية كلها بتجميل نفسها لتزيد في حسن مظهرها، حتى لَينصرف جميع تفكيرها إلى الزينة والعطر، وتصفيف الشعر، والأناقة في الملبس، وما إلى ذلك.
ويُرجع بعض العلماء هذه الألوان من الزينة المصنوعة التي يلجأ إليها النساء المتحضِّرات إلى ما ورثته المرأة من عقائد البدائيين عن الطواطم التي ترجع بدورها إلى عقائد دينية خرافية؛ كالأساور والحلقان والخواتم والعقود. هذه العادات كلها مشتقة من الرغبات الجنسية؛ أي الرغبة في أن تحوز المرأة إعجاب الرجل.