الحب الأفلاطوني
إنه الحب الذي يسمو على مَطالِب الحس، ولا تُدنِّسه شهوات الأبدان.
ونحن لا نزال نُسمي هذا الضربَ من الحب الشريف أفلاطونيًّا، إجلالًا لذكرى ذلك الفيلسوفِ العظيم صاحبِ الأكاديمية، ومعلِّم المعلِّم الأول.
أين تكلَّم عن حقيقة الحب وكشف الستار عن عجائبه؟
نجد ذلك في المحاوَرة المشهورة المعروفة باسم «المَأْدُبة»، حيث اجتمع القوم ومعهم سقراط في بيت أجاثون يتناولون طعام العشاء، ثم دار الحديث عن الحب، وتناول كلٌّ منهم الموضوعَ من جانب، حتى جاء دور أرستوفان فقال ما فحواه:
سوف أطرق باب الكلام في هذا الموضوع على غير ما تكلَّم فيه بوزانياس أو أركسيماخوس، وإني لَأعتقد أن البشر لم يقدِّروا بعدُ ما للحب من منزلة، ولو فهموا قدْرَه لَأقاموا في تمجيده المعابدَ والهياكل.
سأبيِّن لكم قوةَ الحب، وعليكم أن تعلِّموا ذلك للناس.
لم تكن الطبيعة البشرية في أصل فطرتها كما هي عليه اليوم، ولم يكن هناك جنسان كما نرى الآن، بل ثلاثة أجناس: الرجل، والمرأة، والخنثى المركَّب منهما، كان هذا المركَّبُ من الرجل والمرأة موجودًا حقيقيًّا، ولكنه اختفى اليوم.
وكان الرجُلُ الأول كرويَّ الشكل، ذا أربعِ أيدٍ وأربعِ أقدام، ورأسٍ واحد ذي وجهَين ينظر بهما في اتجاهَين، وله كذلك أربعُ آذان، وكان في استطاعته أن يمشي منتصبًا كما يمشي الآن، وإلى الأمام وإلى الخلف كما يريد.
كانت الأجناس ثلاثة لأن الشمس والقمر والأرض ثلاثة في العدد، فالرجل ابن الشمس، والمرأة ابنة الأرض، والرجل المرأة ابن القمر، وكانوا ذوي بأسٍ شديد، وقوةٍ عظيمة، حتى لقد اعتدوا على الآلهة، فاجتمع الآلهة في السماء، وتشاوَروا في أمرهم، واستقر الرأي على إبادة البشر بأن يسلِّطوا عليهم الرعد. ولكن مَن يعبد الآلهة ويسبِّح بحمدها؟
واهتدى زيوس كبيرُ الآلهة آخِرَ الأمر إلى طريقةٍ تحدُّ من بأسهم وتهذِّب أخلاقَهم؛ يقطع البشرَ أنصافًا، فتقل قُوَّتهم ويزيد عددُهم.
وحقَّتْ كلمته عليهم، فقطع كلَّ واحد نصفَيْن كما تُقطَع التفاحة، وأمر أبولون أن يواسي جِراحَهم، ويصوغ هيئتهم على ما هو مُشاهَد الآن من هيئة البشر، فلما تم الانقسام، أضحى كلُّ نصف يَشتاق إلى نصفه، فالرجل يشتاق إلى رجلٍ آخَر يكمِّله، وإذا مات نصف، بحث النصفُ الآخَر عن شريكٍ له، رجلًا كان أم امرأة، ليتعلَّق به.
ولما رأى زيوس أن سبيلهم إلى الفناء، أنزل رحمته عليهم، وجعل الذكور تتَّحِد بالإناث حتى يتولَّد منهم نسلٌ يحفظ الجنس البشري.
وهكذا انحدرت الطبائع الإنسانية، أمَّا الرجالُ من أنصاف الرجال فإنهم يشتاقون إلى الرجل، وكذلك النساءُ من أنصاف النساء فإنهن لا يطلبن الرجال، أمَّا الرجال من أنصاف المخنَّثين، ذلك الصنف المركَّب من الرجل والمرأة، فإنهم يشتاقون إلى المرأة.
هذه هي أسطورة الخلق التي تفسِّر الحب والكراهية، وقد تسرَّبت هذه الأسطورة في الأدب العربي، وقال بها بعض أئمتهم مما نحدِّثك عنه بعد قليل.
ولم يكن أفلاطون يؤمن بهذه الأسطورة، وإنما حكاها كما حُكِي الكثير من أساطير اليونان.
وحقيقةُ مذهبه في الحب، الترفُّع عن شوائب المادة، والسمو إلى نورانية الروح، فالحب شوق يدفع إلى الحصول على المعرفة والخير والجمال. ويبدأ الإنسان بحب الأشكال الجميلة، ثم يرتقي إلى حب النفوس، ثم إلى حبِّ ثمرةِ النفس، وبخاصة القوانينُ الإنسانية، وينتهي في آخِر الأمر إلى حب المعرفة لذاتها.
وهكذا نتدرَّج في الرُّقِي حتى نبلغ مثال الجمال، ومثال الحق، ومثال الخير.
فالحب يصعد من الأجسام المحسوسة الفانية إلى الجمال المطلَق الباقي، وهو مَطلَب النفس الخالدة، التي كانت تعيش في عالَم المُثل قبل اتصالها بالجسد، والمُحِب الحقيقي الكامل وهو صاحب الحب الأفلاطوني، يَزدري الجمالَ الزائل ويتعلَّق بالجمال الدائم؛ جمالِ الروح.
وقد صوَّر أفلاطون في الجمهورية حوارًا بين سقراط وغلوكون، يوضِّح مذهبه، جاء فيه: