في الأدب العربي
لا تزال أقوال العرب جاريةً على كل لسان، نقرؤها في أمهات الكتب وعيون الأدب، ونستشهد بما ذكَرَ شعراؤهم عن الحب والبُغض، وما يتبعهما من أحوال، ولهم في ذلك نظريةٌ مشهورة ترجع إلى ائتلاف أو اختلاف الأرواح قبل اتصالها بالجسد، وليس المسلمون هم الذين ابتكروا هذه النظرية، فأصولُها تمتدُّ كما ذكرنا إلى الحكماء الأقدمين.
ذكر الراغب الأصبهاني في محاضراته الأسبابَ المولدة للعشق، فقال: «زعم بعضٌ أن الله تعالى خلق الأرواحَ كلها كهيئةِ كُرة، ثم قطعها أنصافًا فجعل في كل جسد نصفًا، فكل جسد لقي الجسد الذي فيه نِصْفُه حصل بينهما عشق، وتتفاوت حالهما في القوة والضَّعف على حسب رِقة الطبائع.»
وزعم بعضهم أن الصداقة على ثلاثة أنواع: إما لاتِّفاق الأرواح فيكون لاتفاق الشمس والقمر في المولدين في برجٍ واحد، فلا يجد أحدهما بدًّا من حبِّ صاحبه، وإما لمتعةٍ تحصل فتولِّد ذلك؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «جُبِلت النفوس على حبِّ مَن أحسن إليها وبُغض مَن أساء إليها.» وإما لأُلفةٍ تجتمع موادُّ الحرص إليها؛ ولهذا قال الصمد المري:
قال شهاب الدين أحمد النويري صاحب نهاية الأرب: «وذكر بعض الحكماء أنه لا يقع العشق إلا لمُجانِس، وأنه يضعف ويقوى على قدر التشاكُل، واستدل بقول النبي ﷺ: «الأرواح جنودٌ مجنَّدة، ما تعارَفَ منها ائتلف، وما تناكَرَ منها اختلف.» وقد كانت الأرواح موجودة قبل الأجسام، فمال الجنس إلى الجنس، فلما افترقت الأجساد بقي في كل نفسٍ حبُّ ما كان مُقارِنًا لها، فإذا شاهَدتِ النفسُ من النفسِ نوعَ مُوافَقةٍ مالت إليها، ظانَّةً أنها هي التي كانت قرينتها، فإن كان التشاكُل في المعاني كانت صداقةً ومودة، وإن كان في معنًى يتعلق بالصورة كان عِشقًا، وإنما يوجد المَلَل والإعراض من بعض الناس؛ لأن التجربة أبانت ارتفاعَ المجانَسة والمناسَبة، وأنشدوا على ذلك:
نحن إذن أمام نظريتَين: تلك التي ذكرها الراغب الأصبهاني، وتلك التي ذكرها النويري؛ فالأولى تفترض أن كل شخص فيه نصفُ روح فقط، إلى أن يلتقي بشخصٍ آخَر يجد فيه نصفَه الآخَر، وهي نظريةٌ ظاهرةُ الخرافة يبدو فيها خيال البدائيين أكثر من عِلم المحقِّقين، وقد اعترض الإمام أبو محمد علي بن حزم في كتابه «طوق الحمامة في الألفة والأُلَّاف» على هذه النظرية في الحب، فقال: «وقد اختلف الناس في ماهيته، وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصالٌ بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع، لا على ما حكاه محمد بن داود — رحمه الله — عن بعض أهل الفلسفة: «الأرواح أكرٌ مقسومة».»
أمَّا محمد بن داود الذي يشير إليه، فهو: أبو بكر محمد بن أبي سليمان داود الأصبهاني الظاهري، ابنُ صاحبِ المذهب الظاهري، وُلد في بغداد وعاش فيها في القرن الثالث الهجري، وكان من المحبين، يُروى عنه أنه اعتاد دخولَ الجامع من باب الورَّاقين، فهجَرَه أيامًا، وسُئل في ذلك، فقال: «دخلت يومًا فرأيتُ مُتحابَّين يتحادثان فتفرَّقا مُذْ رأياني، فآليتُ ألَّا أدخل مكانًا فرَّقتُ فيه بين مُحِبَّين.»
وهو صاحب كتاب «الزهرة» في الحب؛ لأن الزهرة نَجْم يدلُّون به على الحب؛ ولأنها تهيئ العشق والوَلَه والهيمان والرِّقة، وتبعث في النفس التلذُّذَ بالنظر والمؤانَسة بالحديث.
والنظرية الثانية تفترض وجودَ الأرواح قبل الأجسام، فيقع الحبُّ لاتفاق الأرواح، والبُغض لتنافُرها.
ويمضي ابن حزم مع هذه النظرية إلى نهايتها، فيجعل الحبَّ ائتلافَ الأرواح الموجودة قبل الأجسام على سبيل التجانُس، وجعَلَ علةَ الائتلاف من الله سبحانه.
«فالحب اتصالٌ بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع، على سبيل مناسَبةِ قُواها في مقر عالمها العلوي، ومجاوَرتها في هيئة تركيبها. وقد علمنا أنَّ سرَّ التمازُج والتبايُن في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال، والشكل دائمًا يستدعي شكلَه، والمثل إلى مثله ساكن، وللمجانَسة عملٌ محسوس وتأثيرٌ مُشاهَد. والتنافُر في الأضداد، والموافَقة في الأنداد، والنزاعُ فيما تشابَهَ موجودٌ فيما بيننا، فكيف بالنفس وعالمها الصافي الخفيف، وجوهرها الجوهر الصعاد المعتدل، وسِنْخها المهيَّأ لقبول الاتفاق والميل والتوقِّي والانحراف والشهوة والنِّفَار، وكل ذلك معلومٌ بالحضرة في أحوال تعرف الإنسان فيسكن إليها، والله عز وجل يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا (الأعراف: ١٨٩)، فجعل عِلةَ السكون أنها منه، ولو كان عِلةَ الحب حُسْنُ الصورة الجسدية، لَوجَبَ ألَّا يستحسن الأنقص عن الصورة. ونحن نجد كثيرًا ممَّن يُؤثِر الأدنى، ويعلم فضْلَ غيره، ولا يجد مَحِيدًا لقلبه عنه، ولو كان للموافَقة في الأخلاق لما أحب المرء مَن لا يساعده ولا يوافقه؛ فعلمنا أنه شيءٌ في ذات النفس.»
هذه هي نظرية ابن حزم في الحب، لا يلتمس له سببًا من الظروف المحيطة بنا، بل يرجع به إلى طبيعة النفوس في أصل عنصرها. وهذا النوع من الحب — إذا وقع — «فهو العشق الصحيح الممكن من النفس، فهي التي لا فناءَ لها إلا الموت.»
أمَّا المحبَّة التي تقع لسببٍ من الأسباب، فإنها تَفنى بفناء سبيلها، ودليله على ذلك أن المحبة ضروب، فأفضلُها محبة المتحابِّين في الله عز وجل، إمَّا لاجتهاد في العمل، وإمَّا لاتفاق في أصل النِّحْلة والمذاهب، وإمَّا لفضلِ علمٍ يمنحه الإنسان. ومحبة القرابة، ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحُب والمعرفة، ومحبة البر يضعها المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسرٍّ يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة لبلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علةَ لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس؛ وكلُّ هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عِللها، وزائدة بزيادتها، وناقصة بنقصانها، متأكِّدة بدُنوِّها، فاترةٌ ببُعدها.
ويُؤثِر ابن حزم الاعتقادَ بأن الحب استحسانٌ روحاني، وامتزاجٌ نفساني، وأنه عِلةُ نفسه، وفي ذلك يقول:
أمَّا الأسباب التي ذكرها داعيةً إلى المحبة، فرجعها إلى أن النفس مكتنفة الجهات ببعض الأغراض السائرة، والحجب المحيطة بها من الطبائع الأرضية، فلا تُحس بالجزء الذي كان متصلًا بها قبل حلولها حيث هي، ولو تخلَّصت لاستويَا في الاتصال والمحبة. ونفس المحبِّ متخلِّصةٌ عالِمة بمكان ما كان يشركها في المجاورة طالبة له، قاصدة إليه، باحثة عنه، مشتهية لملاقاته، جاذبة له لو أمكنها كالمغناطيس أو الحديد.
فالأصل هو الامتزاج النفساني، ولكن المتحابَّين لا يتحابَّان إلَّا وبينهما مشاكَلة واتفاق في الصفات الطبيعية وإن قلَّ. وكلَّما كثرت الأشباه زادت المجانسة، وتأكَّدت المودَّة؛ ولهذا ما اغتمَّ بقراط حين وُصف له رجل من أهل النقصان يُحبه، فقيل له في ذلك فقال: ما أَحبَّني إلَّا وقد وافقتُه في بعض أخلاقه. وذكر أفلاطون أن بعض الملوك سجنه ظلمًا، فلم يزل يحتج عن نفسه حتى أظهر براءته، وعلم الملك أنه له ظالم، فقال له وزيره الذي كان يتولَّى إيصال كلامه إليه: أيها الملك، قد استبان لك أنه بريء، فما لك وله؟ فقال الملك: لعمري ما لي إليه سبيل غير أني أجد لنفسي استثقالًا لا أدري ما هو. فأدَّى ذلك إلى أفلاطون، فقال: فاحتجت أن أُفتِّش في نفسي وأخلاقي شيئًا أُقابل به نفسه وأخلاقه ممَّا يُشبهها. فنظرتُ في أخلاقه فإذا هو محبٌّ للعدل كاره للظلم، فميَّزت هذا الطابع فيَّ، فما هو إلَّا أن حرَّكتُ هذه الموافقة، وقابلتُ نفسه بهذا الطبع الذي بنفسه، فأمر بإطلاقي، وقال لوزيره: قد انحلَّ كل ما أجد في نفسي له.
فالاتفاق في الأخلاق والمشاكَلة في الطباع ممَّا يُساعد على الحب. أمَّا الحب فهو الامتزاج الروحاني، وهو علة نفسه، «وهذا بعينه موجود في البغضة؛ ترى الشخصَين يتباغضان لا لمعنًى ولا علة، ويستثقل بعضهما بعضًا بلا سبب».
أمَّا العلة التي توقع الحب أبدًا في أكثر الأمر على الصورة الحسنة الظاهرة، فهي أن النفس حسنة تولع بكل شيء حسن، وتميل إلى التصاوير المتقنة، فهي إذا رأت بعضها تثبَّتت فيه، فإن ميَّزت وراءها شيئًا من أشكالها؛ اتصلت، وصحَّت المحبة الحقيقية، وإن لم تُميِّز وراءها شيئًا من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة. وإن للصور لتوصيلًا عجيبًا بين أجزاء النفوس النائية.
ويُحلِّل الغزالي في إحياء علوم الدين الحبَّ تحليلًا دقيقًا، مع التقسيم والتبويب على عادته في الترتيب.
- الأول: أنه لا محبة ولا كراهية إلَّا بعد معرفةٍ وإدراك؛ إذ لا يُحب الإنسان إلَّا ما يعرفه؛ ولذلك لم يتصوَّر أن يتصف بالحب جماد.
- الثاني: أن ما يُوافق طبع المدرِك ويُلائمه يلذه، وما يُنافيه ويُنافره يُؤلمه؛ فكل ما في إدراكه لذة وراحة، فهو محبوب عند المدرِك، وما في إدراكه ألم فهو مبغض عند المدرِك. فالحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ، فإن تأكَّد ذلك الميل وقوي سُمِّي عشقًا. والبغض عبارة عن نُفرة الطبع عن المؤلِم المتعب، فإذا قوي سُمِّي مقتًا.
- والثالث: اختلاف المحبوبات باختلاف الحواس والإدراك؛ فلذة العين في الإبصار وإدراك المبصرات الجميلة والصور المليحة، ولذة الأذن في النغمات الطيبة الموزونة.
- والرابع: أن الأُلفة ثمرة حسن الخلق، والتفرُّق ثمرة سوء الخلق، فحسن الخلق يوجب التحاب والتآلف والتوافق، وسوء الخلق يُثمر التباغض والتحاسد والتدابر.
- (١)
حب الإنسان وجود نفسه وكماله وبقائه؛ إذ لا يخفى أن الإنسان يحب نفسه، ومعنى ذلك أن في طبعه ميلًا إلى دوام وجوده، وينفر من العدم والهلاك، ويكره الموت والقتل. فالمحبوب الأول للإنسان ذاته، ثم سلامة أعضائه، ثم ماله، ثم ولده، وعشيرته، وأصدقاؤه، فالأعضاء محبوبة، وسلامتها مطلوبة؛ لأن كمال الوجود ودوام الوجود موقوفٌ عليها. وكذلك الإنسان يُحب المال والولد والأهل، لا لأعيانها، بل لارتباط حظِّه في دوام الوجود وكماله بها، فهو يُحب الولد لأنه يخلفه في الوجود بعد عدمه، فيكون في بقاء نسله نوع بقاء له.
- (٢)
حب الإنسان من أحسنَ إليه فيما يرجع إليه في دوام وجوده، ويُعين على بقائه ودفع المُهلكات عنه؛ فالإنسان عبد الإحسان، وقد جُبلت القلوب على حُبِّ من أحسنَ إليها، وبُغض من أساء إليها؛ وبهذا السبب قد يُحب الإنسان الأجنبي الذي لا قرابة بينه ولا علاقة.
- (٣)
حب الإنسان من كان محسنًا في نفسه إلى الناس، ولو لم يكن محسنًا إليه، وهذا هو الحب الحقيقي؛ لأن كل من أحب المحسن لإحسانه، فما أحب ذاته بل أحب إحسانه، وهنا يُحب الإنسان الشيء لذاته، لا لحظٍّ يناله منه.
- (٤)
حب الإنسان كل ما هو جميل، سواء في الصور الظاهرة أو الباطنة. فإن كل جمال محبوب؛ إذ فيه عين اللذة، واللذة محبوبة لذاتها لا لغيرها. والحسن والجمال موجودان في غير المحسوسات؛ إذ يُقال هذا خلقٌ حسن، وهذا علمٌ حسن، وهذه سيرةٌ حسنة، وهذه أخلاقٌ جميلة، وكل هذه الخلال الجميلة محبوبة، والموصوف بها محبوب بالطبع عند من يعرف.
- (٥)
حب الإنسان لمن بينه وبينه مناسبة خفية في الباطن، إذ رُب شخصَين تتأكَّد المحبة بينهما لا بسبب جمال أو حظ، ولكن لمجرَّد تناسب الأرواح، كما قال ﷺ: «فما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف.»