في ضوء التحليل النفساني
تدعو نظرية التحليل النفساني إلى الذهن اسم ذلك الطبيب الذي أعلنها وصوَّرها ودافع عنها دفاعًا مجيدًا، على الرغم من الانتقادات العنيفة الموجَّهة إليها، نعني سيجموند فرويد. وهي نظرية جد حديثة؛ إذ أعلنها صاحبها لأول مرة عام ١٩٠٠؛ أي في فجر القرن العشرين. وظلَّ منذ ذلك التاريخ يكتب، ويُؤلِّف، ويُعدِّل من آرائه السابقة التي يتضح له فسادها، أو كما قال في محاضرته عام ١٩٣٠م: «كلما تقدَّمنا في دراسة المظاهر النفسية؛ اتضح لنا ما في النفس من كنوز، وما فيها من تعقيد، ويُخيَّل إلينا في أول الأمر أن بعض القوانين البسيطة مطابقة للحقيقة، ولكن يتضح فيما بعدُ نقصها؛ لهذا يحسن تعديلها، والوصول بها على الدوام إلى الكمال.»
وهكذا أنفق طبيب فيينا حياته يُنقِّب ويبحث ويُؤلِّف، ومات ولكن نظريته لم تمت، فلها طرافتها على الرغم من المآخذ الكثيرة التي تُوجَّه إليها، سواء من تلامذته الذين خرجوا عليه وأسَّسوا مدارس جديدةً مثل أدلر ويونج، أم من غير المشتغلين بالتحليل النفساني.
مهما يكن من شيء فمدرسته التحليل النفساني لها مكانها في علم النفس، إلى جانب غيرها من المدارس، وأهم ما تمتاز به القول بوجود أحداثٍ ماضية مركوزة في «اللاشعور». والتحليل هو الطريقة التي توصلنا إلى أغوار «اللاشعور» ومعرفة ماضيه. فإذا سلَّمنا بانقسام الحياة النفسية إلى الشعور و«اللاشعور»، كما يذهب إليه فرويد ومدرسته، فعلينا أن نتخذ الوسائل الكفيلة بكشف ما يوجد في «اللاشعور».
وعلى هذا الأساس؛ أي افتراض «اللاشعور»، تُفسِّر مدرسة التحليل النفساني جميع أعمال المرء الظاهرة في حياته اليومية، وفي المخترعات والعلوم والفنون والآداب، بل كل شيء في الحياة.
والأمر كذلك بطبيعة الحال في الحب والكراهية؛ فالأشياء التي نُحبُّها وتلك التي نُبغضها، ينبغي أن نلتمس أسبابها في أغوار «اللاشعور» الذي يُعرِّفه فرويد بما يأتي: «إننا نعني ﺑ «اللاشعور» كل عملية نفسية آثارها الظاهرة تدل على وجودها الباطن، في الوقت الذي نجهل كل شيء عن هذا الشيء الكامن، بالرغم من وجوده في داخل أنفسنا.»
والعجيب في رأي فرويد القول بوجود أشياءٍ باطنة تعمل في داخل النفس وتُحرِّك صاحبها، وفي الوقت نفسه يجهلها ولا يشعر بها. وقد اضطُر فرويد إلى افتراض القول ﺑ «اللاشعور» لحاجته إلى تعليل الأحداث الإنسانية، وهو في ذلك يُنادي بنظرية تُعَد أساسًا من أُسس مذهبه؛ وهي أن كل ظاهرة نفسية لا بد لها من سبب، فهناك حتمية نفسية، كما هو الحال في سائر العلوم. أمَّا جهلنا بالأسباب فدليل على العجز والنقص في العلم. ونضرب مثالًا ننقله عن فرويد يُوضِّح وظيفة «اللاشعور»، يقول: إن خطيبةً نسيت خاتم الخطوبة على حوض الحمَّام بعد أن غسلت يدَيها، ثم بحثت عنه بعد ذلك في كل مكان فلم تعثر عليه. فظاهرة النسيان غير المقصود في نظر الخطيبة؛ علتها لذلك رفضها الزواج، وبغضها له في باطن نفسها، ولمَّا كان الخاتم رمز الخطوبة وعنوان الزواج، فنسيانها له يُشبع رغبتها الباطنة التي لا تشعر بها في الانصراف عن الزواج.
فهناك الشعور و«اللاشعور»، وبينهما صراع عجيب، كثيرًا ما يُؤدِّي إلى الاضطرابات العصبية. والدليل على وجود «اللاشعور» هو فلتات اللسان، والأخطاء غير المقصودة، والأمور التي ننساها، والأحلام.
وبين الشعور و«اللاشعور» ما يُسميه فرويد «الرقيب»، الذي ينشأ تحت تأثير المجتمع، وما يفرضه من عادات وتقاليد خلقية ودينية واجتماعية، وكثيرًا ما تكون مخالِفةً لرغبات الشخص الذاتية، كما ينشأ أيضًا من معارضة الميل الذاتي للميل الجنسي. ويتكوَّن «الرقيب» عادةً عند سن الخامسة، وكلما كبر المرء في السن؛ أصبح «الرقيب» قويًّا بما يُضاف إليه من معانٍ خلقية؛ كالخجل والاشمئزاز والعفة والشفقة … وما إلى ذلك. فكل رغبة توجد في النفس ولا يستطيع صاحبها أن يُحقِّقها — لمعارضتها المجتمع الذي يعيش فيه — «يكبتها» في «اللاشعور»، ويحجزها «الرقيب» وراءه، ولكنها تتسرَّب بين حينٍ وآخر من «الرقيب» في صورٍ رمزية غير صريحة، كما يحدث في الأحلام مثلًا، أو الأمراض النفسية.
ومن هنا كان «كَبْتُ» الرغبات النفسية أساسًا هامًّا في نظرية فرويد، مثال ذلك: فتاة أُصيبت بشللٍ هستيري في رجلَيها، واتضح من التحليل النفساني أنها كانت تقوم بتمريض والدها الشيخ خلال مرضه الطويل بكل أمانةٍ وإخلاص، فكانت تسند والدها وترفعه معتمدةً كل الاعتماد على رجلَيها، ثم أحبَّت شابًّا اتفقت معه على الزواج لولا مرض والدها، ونشأت في نفسها الرغبة في التخلُّص من والدها، ولكن إخلاصها له جعلها تُبعد من نفسها هذه الرغبة القوية، غير أن الرغبة لم تمت؛ إذ ذهبت إلا «اللاشعور» مكبوتة، وأصبحت تُحرِّكها، فأحدثت ذلك الشلل الوهمي الذي يجعلها تتخلَّص من خدمة والدها.
وأهم ما يعني فرويد بتأكيده هو ثلاثة أمور؛ «الكبت»، والرغبة الجنسية، ومرحلة الطفولة، فهي العُمَد الأساسية التي يقوم عليها مذهبه.