لغز الشفرة القاتلة
١
قرأ البروفيسور أوجستس إس إف إكس فان دوسن — الملقب بآلة التفكير — الرسالةَ للمرة الثالثة. كانتْ مبسوطة أمامه على المنضدة، وقد واربَ عينَيه الزرقاوَين وهو يتأمَّلها من وراء نظَّارته السميكة حتى لم يَعُد يبدو منهما سوى شِقَّين ضيقَّين. أما الفتاة الشابة التي كانت قد وَضعَت الرسالة بين يديه، وهي الآنسة إليزابيث ديفان، فجلستْ تنتظر في صبرٍ على الأريكة في حجرة الاستقبال الصغيرة ببيتِ آلة التفكير. كانت عيناها الزرقاوان تحملقان، وتُحدِّق وكأنها مسحورة بهذا الرجل الذي أصبح عاملًا فعَّالًا للغاية في حل الألغاز الغامضة.
إلى من يَهمُّه الأمر
لقد ضِقتُ بالأمر كلِّه؛ لذا فأنا أسعى للموت، وأنا مُطمئن لهذا. لقد مات الطموح الآن؛ إن القبر يفغَر فاه في شَرَهٍ تحت قدمي، وبضياعِ عملِ يديَّ فإنني أرحِّب بالموت بإرادتي أنا، وبيديَّ أنا. ها قد وضعتُ في يد ابني كلَّ شيء؛ أما أنتم يا مَن آذيتموني، أنتم يا من هَممتُم بتثبيط عزيمتي، حين تقرءون هذه الرسالة من المحتمل سوف تدركون أنني أُنزلُ بكم العقاب لهذا السبب. وأترك العفو لابني. لقد جرؤتُ على الوقوف أمام غضبكم الأبديِّ في حياتي، وأجرؤ على مواجهته وأنا أموت، ليس فقط الغضب الذي تحاشيتم الحديثَ عنه وإنما أيضًا ذلك الذي تُضمرونه قُلوبكم، وإن أذني مغلقة إلى الأبد أمامكم. إن القبو مدفني، وفي أبهج وأعزِّ صفحة من صفحات الحياة دوَّنتُ (٧) حبي له. وحيث إن العائلة بروابطها مُلزِمة مثل الكتاب المقدس نفسه، فهي تفرضُ عليَّ إعطاءَ كلِّ شيء لابني.
الوداع. سوف أموت.
سأل آلةُ التفكير الفتاة: «تحت أيِّ ظروف تحديدًا تحصَّلتِ على هذه الرسالة يا آنسة ديفان؟ أخبريني بالقصة كلِّها دون حذف أيِّ شيء منها.»
اتكأ العالِم على كرسيه وأسند رأسَه الضخم ذا الشعر الأشقر على المسند في وضعية مريحة، وضمَّ أطرافَ أصابع يدَيه الطويلة المتناسقة بعضها إلى بعض. ولم ينظر حتى إلى ضيفته الجميلة، التي أتتْ تطلبُ منه بعضَ المعلومات؛ وكان هو مُستعدًّا لتقديمها؛ كَونها تعرِض لقضية أخرى من تلك القضايا العويصة التي طالما وجدها مُشوِّقة. لقد كانت شهرتُه في مجال تخصُّصِه — ألا وهو العلوم — ذائعةً عبر أنحاء العالم. ربما كان هذا التركيز، بالنسبة لعقلٍ حقَّقَ الكثير والكثير في أشياء أكثر مادية، نوعًا من الاستجمام.
كان صوتُ الآنسة ديفان عذبًا مُريحًا، يقطعه من حين لآخر أثناء حديثِها شيءٌ كالنشيج. كان وجهها مُتورِّدًا قليلًا، وكانت تؤكِّد كلامَها بتشبيك يدَيها — المغطاتَين بالقفازات في أناقة — وفكِّهما بسرعة.
استهلَّتْ ديفان حديثها قائلةً: «كان أبي، أو بالأحرى أبي بالتبنِّي، بوميروي ستوكتون، مُخترِعًا. لقد كنَّا نعيش في منزل كبيرٍ عتيق الطراز في مدينة دورتشيستر منذ كنتُ طفلة، ثم تيتَّمتُ ولم أكن قد جاوزتُ الخامسة أو السادسة من العمر، فتبنَّاني السيد ستوكتون، وكان إذ ذاك في سنِّ الأربعين. أنا الآن في الثالثة والعشرين. لقد تربَّيتُ على يد السيد ستوكتون وهو الذي اعتنى بي، وكان دائمًا ما يعاملني كابْنتِه؛ لذا كان موتُه مصيبةً بالنسبة لي.
كان السيد ستوكتون أرملًا ولم يكن لديه سوى ولد واحدٍ من صُلبه، اسمه جون ستوكتون، يبلغ عمُرُه الآن واحدًا وثلاثين عامًا تقريبًا. إنه رجلٌ ذو شخصية لا غبارَ عليها، ودائمًا ما كان يَميلُ إلى التديُّنِ منذ أن عرفتُه. وهو شريك ثانوي في شركة تِجارية كبرى، وهي شركة دوتن آند ستوكتون للمصنوعات الجلدية للرجال. أعتقد أن لديه ثروةً كبيرة؛ فهو يُنفق بسخاء على الأعمال الخيرية، علاوةً على كَوْنه رئيسًا نشِطًا لمدرسة كبيرة من مدارس الأحد.
كان حبُّ والدي بالتَّبنِّي، بوميروي ستوكتون، لابنه هذا يكاد يصلُ إلى حد العِبادة، وإن كان سلوكُه تجاهه قد شابه شيءٌ أشبه بالخوف. كان العملُ في سرِّيَّةٍ قد جعل أبي متذمِّرًا وحادَّ الطبعِ، ومع ذلك لا أعتقدُ أنه كان ثمَّةَ مَن هو أطيب منه قلبًا على الإطلاق. كان يعمل معظم الوقت في ورشة صغيرة، كان قد أنشأها داخل حجرةٍ خلفية كبيرة في الدور الأرضيِّ من المنزل. كان دائمًا ما يعملُ والباب مغلق عليه. وكان في هذه الورشة أفرانٌ وقوالبُ، وكثيرٌ من الأشياء لم أكن أعلم فيما تُستخدَمُ.»
قال آلة التفكير: «أنا أعرفُه؛ لقد كان يعمل على إعادة اكتشاف سرِّ النحاس المُقوَّى؛ أحد الأسرار التي ضاعت في مصر. إنني أعرف السيد ستوكتون جيدًا جدًّا من خلال شُهرتِه. أَكمِلي.»
استأنفتِ الآنسةُ ديفان حديثَها قائلةً: «أيًّا كان ذلك الذي كان يعملُ عليه، فقد كان يحميه بعناية شديدة؛ فلم يكن يسمحُ لأحد مطلقًا بدخول الغرفة، فأنا لم أرَ قطُّ ما كان داخِلَها إلا بقدر ما تسمح نظرةٌ خاطفةٌ برؤيته. ولقد رأيتُ ابنه تحديدًا وهو يُصَدُّ عن الورشة عشرات المرات، وفي كل مرة كان يقع شِجارٌ على إثْرِ ذلك.
تلك كانت الظروف التي مَرِض فيها السيدُ ستوكتون للمرة الأولى، منذ ستة أو سبعة أشهر. في ذلك الوقت ضاعفَ الأقفالَ على أبواب ورشته، وانسحب إلى غُرفته بالطابق الثاني، وبقي هناك في عُزلةٍ شِبهِ تامة استمرَّت أسبوعَين أو أكثر. كانت هذه الغرفة مجاورةً لغرفتي، وقد سمعتُ الأبَ وابنه مرتَين خلال هذه المدة يتحدثان بصوت عالٍ، وكأنما كانا يتشاجران. ومع نهاية الأسبوعَين عاد السيد ستوكتون للعمل في الورشة مرةً ثانية، ثم بعدَ فترة قصيرة اتَّخذ الابنُ — الذي كان يعيش في المنزل هو الآخر — لنفْسه شقَّةً في شارع بيكون، ونَقَل أمتعته من المنزل.
منذ ذلك الوقت وحتى يوم الإثنين الماضي — واليوم هو الخميس — لم أرَ الابنَ في المنزل قطُّ. في يوم الإثنين كان الأب يعمل في الورشة كالمعتاد، وكان قد أخبرني سابقًا أنَّ العمل الذي كان منشغلًا فيه قد انتهى فعليًّا وأنه يتوقَّع أن يجنيَ منه ثروةً عظيمة. في حوالي الساعة الخامسة عصر الإثنين أتى الابن إلى المنزل، ولا يعرفُ أحدٌ متى غادر. لكنَّ أبي لم يتناول الغداء في الموعد المعتاد؛ ٦:٣٠. فاعتقدتُ أنه في عمله، وأنه لمْ يقطعْه ليتناول غداءه. وكنتُ قد رأيتُه يفعل ذلك مرات عديدة.»
توقفَتِ الفتاةُ عن الكلام للَحظة، وبدا عليها أنها كانتْ في صِراعٍ مع حزْنٍ عميقٍ لم تستطعِ السيطرةَ عليه.
فسألها آلةُ التفكير في رِفقٍ: «وفي الصباح التالي؟»
واصلت الفتاةُ حديثَها: «في الصباح التالي وجدنا أبي ميتًا في الورشة. لم تكن ثمة علامات على جسده، لا شيء كان يوضِّح طريقة موته في بداية الأمر. بدا الأمرُ وكأنه جلس على كرسيه بجوار أحد الأفران ثم تناول سمًّا ومات في الحال؛ فقد كان ثمَّة زجاجةٌ صغيرةٌ مُهشَّمةٌ على الأرض بجوار كرسيه تقريبًا، أعتقد أنها كانت تحتوي على حمض الهيدروسيانيد. لقد اكتشفنا وفاته بعدما طرقنا الباب كثيرًا ولم يُجِب؛ حينذاك حطَّم كبير الخدم — مونتجمري — الباب، بناءً على طلبي، ووجدنا أبي هناك.
على الفور طلبتُ الابنَ، جون ستوكتون، على الهاتف، فأتى إلى المنزل. الرسالةُ التي معك الآن وُجدتْ في جيب أبي، كانت كما تراها هكذا تمامًا. كان السيد ستوكتون منفعلًا جدًّا، فكاد يُمزِّق الرسالة. لكني أقنعتُه بأن يعطيني إياها؛ إذ خطر لي على الفور أن ثمَّة خطأً ما في الأمر برمَّته. لقد حدثني أبي كثيرًا جدًّا عن المستقبل، وعمَّا كان ينوي فعله وما كان يخطِّطه لأجلي. قد لا يكون هناك أيُّ خطأ. ربما لا يكون للرسالة معنًى سوى ما جاء بها. آمل أنها كذلك — آهٍ — آمل أنها كذلك. لكنَّ كل شيء اعتُبِر …»
سأل آلةُ التفكير الفتاة: «هل شُرِّحت الجثة؟»
«لا، كانت تصرُّفات جون ستوكتون توحي برفضه أيَّ تحقيق. لقد قال لي إنه يعتقد أن بمقدوره عملَ أشياء معينة من شأنها أن تَحولَ دون لَفْتِ انتباه الشرطة إلى القضية. وهكذا دُفن أبي بموجب شهادة وفاة أصدرها طبيبٌ يُدعى بنتون، كان صديقًا لجون ستوكتون منذ أن كانا في الجامعة؛ وبهذه الطريقة أُخفيَت دلائلُ الانتحار أو أيِّ شيء آخر تمامًا.
لقد جعلني جون ستوكتون أتعهَّد له — قبل الجنازة وبعدها أيضًا — بأن أخفي هذه الرسالة عن الأنظار أو أن أمزِّقَها. ولكي أضع حدًّا لهذا، أخبرتُه بأنني قد مزَّقتُ الرسالة. لقد بدا موقفه هذا — كلَّما أمعنتُ التفكيرَ فيه — يؤكِّد فكرتي الأولى بأن الأمر لم يكن انتحارًا. لقد ظللتُ أفكِّر في هذا ليلةً تِلو أُخرى، ثم في النهاية قرَّرتُ أن آتي إليكَ أنت بدل الذهاب إلى الشرطة. إنني أشعر أن ثمَّة لغزًا غامضًا وراء الأمر برمَّته. إذا كنتَ تستطيع مساعدتي الآن …»
قاطعها آلة التفكير قائلًا: «نعم نعم، أين كان مفتاح الورشة؟ أكان في جيب بوميروي؟ في حجرته؟ في الباب؟»
قالت الآنسة ديفان: «في الواقع، لا أعلم. لم يخطر هذا ببالي.»
«هل ترك السيد ستوكتون وصيةً؟»
«نعم، إنها مع محاميه، ويُدعَى السيد سلون.»
«هل قرأتموها؟ هل تعلمون ما كُتب فيها؟»
«سوف تُقرأ في خلال يوم أو نحو ذلك. وأعتقد، من خلال قراءتي الفقرة الثانية من الرسالة، أنه قد ترك كلَّ شيء لابنه.»
قرأ آلة التفكير الرسالة للمرة الرابعة، وعندما انتهى منها نظرَ مُجدَّدًا إلى الآنسة ديفان.
وسألها: «ما تفسيرُك تحديدًا لهذه الرسالة برمتها؟»
قالت الفتاة: «من خلال معرفتي بالسيد ستوكتون وبالظروف المحيطة به، أستطيع القول إن الرسالة إنما تعني ما يُفهم من منطوقها تمامًا. وأتخيل من خلال فهمي للفقرة الأولى منها أنه قد أُخذ منه شيءٌ كان قد اخترعه، ربما سُرِق. أما الفقرة الثانية والثالثة، فأعتقد أن الغرض من ورائهما كان لوْمَ أشخاص معينين من أقاربه — أخٍ واثنَين من أقاربه البعيدين — لأنهم دائمًا ما كانوا يَعدُّونه غريبَ الأطوار، وقد استغلوا الفرصة أكثر من مرة لإخباره بهذا. لكني لا أعرف الكثير عن تاريخ ذلك الفرع الآخر من العائلة. والفقرتان الأخيرتان تشرحان نفسَيهما باستثناء …»
قاطعها العالِم قائلًا: «باستثناء الرقم سبعة، هل لديكِ أيَّة فكرة عن معنى هذا؟»
تناولت الفتاة الرسالة ودقَّقَتِ النظر فيها لحظة.
ثم قالت: «ولا أدنى فكرة. لا يبدو أن لها علاقة بأي شيء آخر في الرسالة.»
«هل تعتقدين، يا آنسة ديفان، أنه من الجائز أن تكون هذه الرسالة قد كُتبَت تحت وطأة الإكراه؟»
فقالت الفتاة على الفور، وقد أشرق وجهُها: «نعم، هذا هو ما أعتقده تمامًا. منذ البداية وأنا أعتقد أن ثمَّة لغزًا رهيبًا مُروِّعًا وراء الأمر برمته.»
قال آلة التفكير متأمِّلًا: «أو ربما لمْ يرَ بوميروي ستوكتون هذه الرسالة مطلقًا، ربما تكون مزوَّرةً، أليس كذلك؟»
قالت الفتاة لاهثةً: «مزوَّرة! إذن جون ستوكتون …»
تابع آلة التفكير حديثه في هدوء: «أيًّا كان حالها، مزوَّرةً أو حقيقيةً، فإنها وثيقة من أغرب ما يكون. ربما يكون مَن كتبها شاعرًا. إنها تتحدَّث عن الأشياء بطريقةٍ ملتوية، ولا تدخل مباشرةً إلى الموضوع كما يُتوقَّع لأسلوب رجلٍ عملي مثل ستوكتون في الكتابة.»
ساد الصمت بضع دقائق، وجلست الفتاة على المنضدة مائلةً إلى الأمام، وراحت تحدِّق في عينَي العالِم الغامضتَين.
ثم قالت: «ربما، ربما، لكن هل بها شفرة من نوع ما؟»
قال آلة التفكير في حسم: «هذا صحيح تمامًا. إن فيها شفرة، وشفرة في غاية الذكاء.»
٢
بعد مرور أربع وعشرين ساعة أرسل آلة التفكير في طلب هتشينسون هاتش، المراسل الصحفي، وأخذ يناقش القضية معه؛ فلطالما وجد هاتشَ شخصًا مميَّزًا حكيمًا واسعَ الحيلة، مستعدًّا لتقديم المساعدة بكل ما أوتي من جهد.
قرأ هاتش الرسالة التي أخبره آلة التفكير بأنها تحتوي على شفرة، ثم أُعيدت على سمعه ملابساتُ القضية كما روتها الآنسة ديفان من قبل.
سأل هاتش بعدما انتهى آلة التفكير من حديثه: «هل تعتقد أنها شفرة؟»
أجابه آلة التفكير: «نعم إنها شفرة. ولو كان ما قالته الآنسة ديفان صحيحًا، فلا يُحتمَل أن يكون جون ستوكتون قد تفوَّه بأي شيءٍ عن الأمر. أريدك أن تذهب للحديث معه، وتعرف لي كل شيء عنه وعن طريقة تقسيم الثروة وفقًا للوصية، وهل سيئول كلُّ شيء للابن بناءً على هذه القسمة؟
اعرف أيضًا نوع الخصومة الشخصية التي بين جون ستوكتون والآنسة ديفان، وسببها. هل كانت بسبب رجل ما؟ وإذا كان الأمر كذلك، فمَن هو هذا الرجل؟ وعندما تنتهي من هذا كلِّه، اذهب إلى المنزل في دورتشيستر، وأحضر لي نسخة الكتاب المقدس التي لدى العائلة، إن كانت هناك واحدة. من المحتمل أن تكون كتابًا كبيرًا. وإذا لم تجدها هناك، فأخبرني هاتفيًّا على الفور. أظن أن الآنسة ديفان ستعطيك إيَّاها، لو كانت معها.»
غادر هاتش بعدما تلقَّى هذه التعليمات، وبعد نصف ساعة كان في مكتب جون ستوكتون الخاص في محل عمل ذلك الأخير. كان السيد ستوكتون رجلًا ذا وجه طويل، وكان نحيلًا بعض الشيء ويُشبِه في هيئتِه هيئةَ رجال الدين إلى حدٍّ ما. كان في الرجل شيءٌ من الاعتداد بالنفس وهو ما لم يستحسنه هاتش كثيرًا، لكن هذه السمة لم تتجلَّ إلا في صوته الرقيق وأشياء بسيطة يفعلها على سبيل الكياسة التي لا داعي لها.
عَلَتْ وجهَ ستوكتون نظرةُ استنكار عندما سأله هاتش السؤال الأول، والذي كان يخصُّ علاقته ببوميروي ستوكتون.
قال ستوكتون بنبرة مُتملِّقة رقيقة: «كنتُ آملُ ألَّا يَلفِتَ هذا الأمرُ انتباهَ الصحافة، إنه شيءٌ لن يجلب لذكرى والدي المسكين سوى الخِزْي والعار، وقد كان اسمُه من قبل مرتبطًا بإنجازات متميِّزة في ارتقاء البشرية. مع ذلك، إذا كان هذا ضروريًّا، فسأقول ما أعرفه عن الأمر، وأُعلن ترحيبي بالتحقيق الذي أعترف بصراحة أنني قد حاولتُ منعه.»
سأله هاتش: «كم كانت تبلغ ثروة والدك؟»
وكانت الإجابة: «كانت تزيد على المليون، جنى معظمَها من اختراعٍ يربِط عربات القطار بعضها ببعض. وهو الآن يُستخدَم عمليًّا في جميع خطوط السكك الحديدية تقريبًا.»
سأله هاتش: «وماذا عن تقسيم هذه الثروة تبعًا للوصية؟»
«أنا لم أرَ الوصية، ولكني أعرف أنه قد ترك لي كلَّ شيء تقريبًا، ووهب الآنسة ديفان دخلًا سنويًّا والمنزل الذي في دورتشيستر؛ فلطالما عدَّها في منزلة ابنتِه.»
«سيكون نصيبك بهذا، تقريبًا، ثلثَي الثروة أو ثلاثة أرباعها.»
«في هذه الحدود، تقريبًا ٨٠٠٠٠٠ دولارًا.»
«أين هذه الوصية الآن؟»
«أظنها مع محامي والدي، السيد سلون.»
«ومتى ستُقرأ؟»
«كان من المفترض أن تكون قد قُرئت اليوم، لكن ثمَّة ما أخَّرها. لقد أجَّلها المحامي بضعة أيام.»
سأل هاتش: «ماذا كان الغرض يا سيد ستوكتون من وراء جعْلِ الأمر يبدو وكأن والدك قد مات بطريقة طبيعية، في حين أن من الواضح أنه قد انتحر، حتى إن ثمة ما يوحي بحدوث شيءٍ آخر؟»
جلس جون ستوكتون منتصبًا في كرسيه وفي عينَيه نظرةُ ذُعر. كان يَفرُك كفَّيه معًا من قبلُ في اطمئنان، لكنه توقَّف الآن عن هذا وأخذ يحدِّق في الصحفي.
وقال: «أثمةَ شيءٌ آخر؟ أرجوك، ماذا لديك أيضًا؟»
هزَّ هاتش كتفَيه، ولكن كان في عينَيه ما يشبه الاتهام.
وقال: «هل كان لدى والدك أي دافع للانتحار؟»
ردَّ ستوكتون: «لا أعلم أيًّا من هذا. لكن إذا سلَّمنا بأن هذا انتحارٌ، ومن دون دافعٍ، فيبدو أن الخطأ الوحيد الذي ارتكبتُه هو أنني جعلتُ أحد أصدقائي يبلِّغ أن الأمر كان على خلاف ذلك، وتجنَّبتُ بهذا تحقيق الشرطة.»
«إن الأمر كذلك تمامًا. لكن لِمَ فعلتَ هذا؟»
«لأنقذ اسم العائلة من الفضيحة بالتأكيد. لكن ماذا عن هذا الشيء الآخر الذي تحدثتَ عنه؟ أتقصد أن أي شخص آخر يعتقد في احتمالية حدوث شيء آخر غير الانتحار أو الموت الطبيعي؟»
عندما ألقَى السؤال عَلا وجهَه تغيُّرٌ طفيف، ثم مال إلى الأمام صَوْب الصحفي، وقد اختفتْ جميعُ آثارِ ابتسامة النفاق الباهتة من حول ذلك الفم الرقيق الشفتَين.
استأنف الصحفي قائلًا: «لقد أبرزَتِ الآنسة ديفان الرسالةَ التي وُجدَت مع والدك عند وفاته، وقالتْ …»
صاح جون ستوكتون قائلًا: «إليزابيث! الآنسة ديفان!» ونهض من كرسيه فجأة، وأخذ يَذْرَع الغرفة جيئةً وذهوبًا أكثر من مرة، ثم توقف أمام الصحفي، وقال: «لقد وعدَتْني أنها لن تُعلِم أحدًا بوجود هذه الرسالة.»
قال هاتش: «لكنها أعلنتْ عن وجودها. وفوق هذا فهي تُلمِّح إلى أن وفاة والدك لم تكن انتحارًا حتى، كما بدا الأمر.»
قال ستوكتون باهتياجٍ شديد: «إنها مجنونةٌ يا رجل، مجنونة. مَن عساه يكون قد قتلَ والدي؟ أيُّ دافعٍ قد يكون وراء هذا؟»
كانت شفتا هاتش تتشنَّجان بشدة.
لكنه حادَ عن أسئلة جون، وسأل هو قائلًا: «هل تبنَّى والدك الآنسة ديفان بطريقة قانونية؟»
«نعم.»
«في هذه الحالة، وبصرف النظر عن أقاربكم الآخرين، ألا يبدو غريبًا حتى بالنسبة لك أن يُعطيَك ثلاثة أرباع ممتلكاته — وأنت تمتلك ثروةً بالفعل — ولا يُعطي الآنسة ديفان سوى جزءٍ صغير، وهي لا تملك شيئًا؟»
«هذا شأنُ والدي.»
عمَّ الصمتُ قليلًا. وكان ستوكتون لا يزال يذرع المكان.
في النهاية هوى جالسًا في كرسيه أمام المنضدة، وظل للحظة ينظر إلى الصحفي.
ثم سأله: «هل هذا كل شيء؟»
«أود أن أعرف، إذا كنت لا تمانع، ما السبب المباشر وراء العداوة التي بينك وبين الآنسة ديفان؟»
«ليس بيننا عداوة. لكننا فقط لم نكن على وفاق قطُّ. لقد تشاجرتُ أنا وأبي بشأنها عدَّة مرات لأسبابٍ لا داعي للخوض فيها.»
«هل حدث بينكما شجار كهذا ليلةَ اكتشاف وفاة والدك؟»
«أعتقد أننا قُلنا شيئًا ما عنها.»
«متى غادرتَ الورشة في تلك الليلة؟»
«في حوالي الساعة العاشرة.»
«وظللتَ مع والدك في الغرفة منذ العصر، أليس كذلك؟»
«بلى.»
«من دون غداء؟»
«نعم.»
«كيف أهملتما شيئًا كهذا؟»
«كان أبي يشرح لي اختراعًا جديدًا كان قد انتهى منه، وكان مزمِعًا أن أُدخِله السوق.»
«أتصوَّر أن احتمال انتحاره أو وفاته بأية طريقة لمْ يرد بذهنك، أليس كذلك؟»
«لم يحدث هذا على الإطلاق. لقد كُنَّا نرسم خُططًا مُفصَّلةً للمستقبل.»
ربما كان بعضُ التحيُّز ضد مظهر الرجل هو ما جعل هاتش شديدَ الاستياء من نتيجة المقابلة؛ فقد شعر أنه لم ينلْ شيئًا، ولكن ستوكتون كان صريحًا تمامًا، كما ظهر من كلامه. كان ثمة سؤال أخير.
قال هاتش: «هل تذكُر أي شيء عن وجود نسخة ضخمة من الكتاب المقدس خاصة بالعائلة في منزل والدك؟»
قال ستوكتون: «لقد رأيتُها عدَّة مرات.»
«ألا تزال هناك؟»
«حسب علمي، نعم.»
انتهت المقابلة على ذلك، وتوجَّه هاتش مباشرةً إلى المنزل في دورتشيستر لمقابلة الآنسة ديفان. وهناك، ووفقًا لتعليمات آلة التفكير، طلب منها نسخة العائلة من الكتاب المقدس.
قالت الآنسة ديفان: «كان ثمة واحدة هنا منذ بضعة أيام، لكنها اختفت.»
سأل هاتش: «منذ وفاة والدك؟»
«نعم، في اليوم التالي.»
«هل لديكِ أية فكرة عمَّن أخذها؟»
«لا، إلا إذا … إلا إذا …»
قال هاتش دون تفكير: «جون ستوكتون! لِمَ أخذها؟»
أشارت الفتاة بيديها إشارة استسلامٍ خفيفة؛ إشارة كان معناها: «لا أدري.»
قال هاتش باستياء: «لقد أخبرني هو الآخر أنه يظن أن الكتاب المقدس لا يزال هنا.»
اقتربت الفتاة من الصحفي ولمسَتْ كمَّه بإحدى يدَيها البيضاوَين، ثم نظرتْ في عينَيه والدموع تترقرق في عينَيها، وشفتاها ترتجفان.
وقالت: «ذلك الكتاب مع جون ستوكتون. لقد أخذه من هنا في اليوم التالي لوفاة والدي، وقد فعل هذا لغرض ما. لكن ما هو، لا أعرف.»
سأل هاتش: «هل أنتِ واثقةٌ تمامًا أنه معه؟»
ردَّت الفتاة: «لقد رأيتُه في غرفته. لقد خبَّأه هناك.»
٣
قدَّم هاتش نتائج المقابلتَين للعالِم في بيته بحي بيكون هيل. استمعَ آلةُ التفكير دون أن يعلِّق على شيء حتى ورد ذِكرُ ذلك الموقف الذي قالت فيه الآنسة ديفان إنها تعلم أن نسخة العائلة من الكتاب المقدس في حَوْزة الابن.
فتساءل آلة التفكير قائلًا: «إذا لم تكن الآنسة ديفان على علاقة جيدة بستوكتون، فلِمَ تزورُ مكان إقامته أصلًا؟»
أجاب هاتش: «لا أعلم، إلَّا إن كانت تعتقد في وجود صلة أكيدةٍ بينه وبين وفاة والدها، وتُحقِّق في الأمر بطريقتها. لكن ما علاقة هذا الكتاب المقدس بالقضية على أية حال؟»
قال آلة التفكير بطريقة تنبو على الفهم: «ربما يكون له علاقة كبيرة. أما ما يجب فعله الآن فهو معرفة ما إذا كانت الفتاة قد قالت الحقيقة، وما إذا كان الكتاب المقدس في شقة ستوكتون. والآن يا سيد هاتش، فأنا أُوكِل هذا الأمر إليك؛ أريد أن أرى تلك النسخة من الكتاب المقدس. إذا كنت تستطيع إحضارها لي، فبها ونِعمَت، أما إذا كنت لا تستطيع أن تحضرها، ففتش في الصفحة السابعة عن أيَّة علامات مكتوبة بالقلم الرصاص على النص، أيِّ شيءٍ مهما يكن. ويُحبَّذ حتى — إذا أُتيحتْ لك الفرصة — أن تقطع تلك الصفحة وتأتيني بها. لن يقع أيُّ ضرر، ويمكننا إعادتها في الوقت المناسب.»
كانت جبهةُ هاتش تتغضَّن من الحيرة وهو يستمع لهذا الكلام؛ فماذا عسى أن تكون علاقة الصفحة رقم سبعة من إحدى نسخ الكتاب المقدس بما يبدو أنه لغز جريمة قتل؟ ومَن الذي قال أيَّ شيءٍ عن الكتاب المقدس أصلًا؟ لقد ذكرت الرسالةُ التي تركها ستوكتون الكتابَ المقدس، لكنْ لمْ يبدُ أن هذا كان يعني أيَّ شيء. ثم تذكر هاتش أن الرقم سبعة كان مكتوبًا بين أقواسٍ في الرسالة نفسها، وأنه لمْ تكن له أيَّةُ صلة تُذكَر — فيما يبدو — بأي جزء آخر من أجزاء الرسالة. لكن آلةَ التفكير قاطعَ تأمُّلات هاتش للقضية.
وقال: «سوف أنتظر تقريرك هنا يا سيد هاتش. وإذا كان كما أتوقَّع، فسنخرج في وقت متأخرٍ الليلةَ في رحلة استكشافية قصيرة. أما الآن، فانظر في أمر ذلك الكتاب المقدس، وأخبرني بما ستجد.»
اهتدى هاتش إلى شقة جون ستوكتون في شارع بيكون دون أية صعوبة، وبطريقةٍ ما استطاع الدخول وتفتيش المكان، ولكن عندما خرج كانت تكسو وجهَه علاماتُ الضيق وهو يسرع الخطى إلى منزل آلة التفكير الواقع بالجوار.
سأل العالِم: «ماذا وجدت؟»
قال هاتش: «لقد رأيتُ نسخة الكتاب المقدس.»
«والصفحة رقم ٧؟»
أجاب المراسل: «كانت مقطوعة، مفقودة، ضائعة.»
صاح العالِم: «آهٍ، لقد توقَّعتُ هذا. سوف نخرج الليلة إلى الرحلة القصيرة التي تحدَّثتُ عنها. بالمناسبة، ألم يتَّفق لك أن لاحظت ما إذا كان جون ستوكتون يملك أو يستخدم قلم حبر.»
قال هاتش: «لمْ أرَ أي قلم حبر هناك.»
«حسنٌ، اعرفْ لي من فضلك إن كان أيٌّ من موظفيه قد لاحظَ وجود قلمٍ كهذا من قبل، ثم قابِلني هنا الليلةَ في الساعة العاشرة.»
هكذا انصرف هاتش، وبعد قليل عرَّج على ستوكتون مرةً أخرى فجأةً دون موعد. لقد اقتنع من خلال التحقيقات التي أجراها هناك أن ستوكتون لم يكن يمتلك قلم حبر. ثم واصل مناقشة أمر الكتاب المقدس من جديد مع ستوكتون نفسه.
بدأ هاتش كلامه بأرقِّ نبرة لديه قائلًا: «لقد فهمتُ منك يا سيد ستوكتون أنك كنتَ تعلم بوجود نسخة من الكتاب المقدس تخص العائلة، لكنك لم تكن تعلم ما إذا كانت لا تزال موجودة في منزل دورتشيستر.»
قال ستوكتون: «هذا صحيح.»
تابع هاتش: «لكن كيف يتسنَّى إذن لهذه النسخة نفسها أن تكون موجودةً الآن في شقتك، مُخبأةً بعناية في صندوقٍ تحت إحدى الأرائك؟»
بدتْ على السيد ستوكتون علامات الدهشة؛ فنهض من كرسيه فجأةً ومالَ على الصحفي ويداه مقبوضتان. كانت عيناه تتوهَّجان بما يشبه الغضب.
وسأل: «ما الذي تعرفه عن هذا الأمر؟ عن أي شيء تتحدث؟»
«أقصد أنك قلتَ من قبل إنك لا تعلم مكان هذا الكتاب، وفي الوقت نفسه تخبئه عندك، لماذا؟»
سأل ستوكتون: «هل رأيت الكتاب المقدس في مسكني؟»
قال الصحفي بجفاء: «نعم.»
في تلك اللحظة بدتْ علاماتُ نيةٍ جديدة على وجه التاجر؛ فقد تبدَّد أُسلوبُه المُتملِّق، ومُحيَتِ ابتسامةُ النفاق المُتكلِّفة، وأُطبقَتِ الشفتان الرقيقتان حتى أصبحتا خطًّا صارمًا واحدًا.
وقال بطريقة أقرب إلى العنف: «ليس لديَّ ما أقوله أكثر من هذا.»
سأل هاتش: «هلَّا تخبرني لِمَ قطعتَ الصفحة السابعة من الكتاب المقدس؟»
حدَّق ستوكتون إليه قليلًا في بلاهة وكأنما أُصيب بدوار، ولمْ تبقَ في وجهه قطرةُ دمٍ واحدة، واستحال إلى شُحوبٍ مخيف، وعندما تكلم بعد ذلك كان صوتُه متوتِّرًا ومُرهَقًا.
وقال: «هل … هل … الصفحة السابعة مفقودة؟»
أجاب هاتش: «نعم، أين هي؟»
«لن أزيد أي شيء على ما قلتُ تحتَ أي ظرفٍ كان. انتهى ما عندي.»
كشف هاتش عن تصريحات كانت في مجملها متعارضةً مع الوقائع، كشف عنها دون أدنى فكرة عمَّا قد تعنيه أو عن علاقتها بالقضية. لماذا تأثَّر ستوكتون إلى هذا الحد عندما تحدث عن ضياع الصفحة رقم سبعة؟ لماذا أُخذ الكتاب المقدس من منزل دورتشيستر؟ ولماذا أُخفي بعناية شديدة هكذا؟ وكيف عرفت الآنسة ديفان أنه كان هناك؟
لم تكن هذه سوى بعض الأسئلة التي كانت تتسارع في رأس الصحفي. لم يبدُ أنه كان قادرًا على وضْع يده على شيء حقيقي. لو كان ثمة شفرة مُخبَّأة في الرسالة، فما هي؟ وما علاقتها بالقضية؟
أخذ هاتش عربة أجرة وعاد سريعًا إلى منزل دورتشيستر، سعيًا لإيجاد حلٍّ معقول لبعض هذه الأسئلة. وقد تفاجأ بعض الشيء عندما رأى آلةَ التفكير واقفًا على الدَّرَج الصغير المؤدِّي إلى مدخل المنزل ينتظر أن يُؤذَنَ له بالدخول. أمَّا العالِم فقد عدَّ وجودَه أمرًا طبيعيًّا.
وسأله: «ماذا وجدت بشأن قلم ستوكتون؟»
«لقد تأكَّدتُ أنه لم يكن يمتلك قلم حبر، على الأقل منذ فترة قريبة بما يكفي لكي يستخدمه في كتابة تلك الرسالة. أظن أن هذه هي نتيجة التحقيقات في تلك النقطة.»
سُمِح للرجلَين بدخول المنزل وبعد دقائق دخلت الآنسة ديفان. أدركت الآنسة ديفان مغزى الزيارة عندما أخبرها آلة التفكير أنهما يريدان فقط رؤية الورشة التي وُجد فيها السيد ستوكتون ميتًا.
قال العالِم: «وحبذا كذلك لو كان لديك نموذجٌ لخطِّ يد السيد ستوكتون.»
قالت الآنسة ديفان: «إن خطَّ يده غريب إلى حدٍّ ما، ولكني أشك في وجود نموذج أصلي لخط يده مُتاحٍ الآن وكبير بما يكفي لمضاهاته بهذه الرسالة. لقد كان لديه عددٌ من الرسائل، لكنني كنتُ أكتبها له على الآلة الكاتبة، وأحيانًا ما كان يُعِدُّ مقالًا ما لإحدى الدوريات العلمية، ولكنَّ هذه أيضًا كان يُمْليها عليَّ لأكتبها. لقد اعتاد فعل هذا لسنوات.»
«يبدو أن هذه الرسالة هي كل ما لدينا من خَطِّه، أليس كذلك؟»
«لا شك أن توقيعه موجود على الشيكات وعلى أوراق أخرى. يمكنني أن أُحضِرَ لكما بعضها. لكنني لا أعتقد أن ثمة أدنى شكٍّ في أنه كتب هذه الرسالة. إنه خطُّه.»
سأل آلة التفكير: «أظن أنه لم يستخدم قلم حبر قط، أليس كذلك؟»
أجابت الفتاة: «لا أعلم شيئًا عن هذا. لكن لديَّ واحدًا.» وأخرجَتْه من تحت وشاح ذهبي صغير كانت تغطي به صدرها.
ضغط العالِم رأس القلم على ظفر إبهامه، فخرجتْ نقطة حبرٍ زرقاء بالغة الصغر، لكن الرسالة كانت مكتوبة بحبر أسود. وهنا بدت على آلة التفكير علامات الرضا.
ثم قال: «والآن، لنذهب إلى الورشة.»
تقدمت الآنسةُ ديفان الرجليْن عبر الردهة الواسعة الممتدة المؤدية إلى الجزء الخلفي من المبنى. وهناك فتحتْ بابًا بدتْ عليه آثارُ ضربات متكررة، وأدخلتْهما. ثم أعادتْ سرد القصة كاملةً بناءً على طلب آلة التفكير؛ فأرتْه أين عثروا على ستوكتون، وأين كُسِرتْ زجاجة حمض الهيدروسيانيد، وكيف حطم الخادمُ مونتجمري البابَ عندما طلبتْ منه ذلك.
«ألم تعثري على مفتاح الباب مطلقًا؟»
«لم أجده. ولا أعرف أين ذهب.»
«هل هذه الغرفة الآن على حالها تمامًا كما كانت عندما وجدتم الجثة؟ أعني، ألم يُنقل أيُّ شيء منها؟»
أجابت الفتاة: «إطلاقًا.»
«هل أخرج الخدم أيَّ شيء؟ هل كان يُسمح لهم بدخول هذه الغرفة؟»
«لم يُسمح لهم بدخولها بتاتًا. لقد نُقلت الجثةُ وأُزيلت شظايا زجاجة الحمض، لكن لم يحدث شيء آخر.»
«هل رأيتِ قلمًا وحبرًا في هذه الغرفة من قبل قطُّ؟»
«لم أُفكر في هذا الأمر.»
«لمْ تُخرجيهما منذ عُثِر على الجثة، أليس كذلك؟»
أخذت الفتاة تتلعثم: «ﻟ… ﻟ… ها … لم أفعل.»
غادرت الآنسة ديفان الغرفة، وتولَّى هاتش وآلة التفكير التفتيش لمدة ساعة.
أمر آلة التفكير هاتش قائلًا: «اعثُرْ على قلم وحبر.»
لكنه لم يجد لهما أثرًا.
بعد مرور ستِّ ساعات، وفي منتصف الليل، كان آلة التفكير وهاتشنسون هاتش يتلمَّسان طريقهما في ظلمة قبْو منزل دورتشيستر على ضوء مصباحٍ كهربائيٍّ صغيرٍ، كان يشق الهواءَ الضبابيَّ الرطبَ بقوةٍ بشعاع مستقيم من النور. في النهاية سقط ضوء المصباح على باب صغير مُثبَّتٍ في جدار القبو الصُّلب.
أطلق آلةُ التفكير صيحةً ضعيفةً، تلتها على الفور تكَّةُ مسدسٍ حادةٌ جليةٌ قادمة من مكان ما من خلفهم وسط الظلمة.
قال هاتش لاهثًا: «انخفِض، أسرِع.» ودفع المصباح الكهربائي جانبًا بضربةٍ مفاجئةٍ أطفأتْ نورَه. في الوقت نفسه أُطلقتْ رصاصةٌ من المسدسِ اخترقت الحائطَ خلف رأس هاتش.
٤
كان صدى طلقة المسدس لا يزال يُدوِّي في أُذنَيْ هاتش عندما أحسَّ بيد آلة التفكير فوق ذراعه، وبعدها ومن قلب ظلمة القبو المُطبِقة أتى صوتُ العالِم المنفعل.
وقال بحدَّة: «إلى يمينك، إلى يمينك.»
ثم، وعلى نقيض تلك النصيحة، لم يشعر هاتش بالعالِم إلا وهو يسحبه إلى اليسار. وبعد دقيقة أخرى أُطلقت رصاصةٌ ثانية، ومن خلال الوميض استطاع هاتش أن يرى أنها كانت مُصوَّبةً على مكانٍ يقع على مسافة اثني عشر قدمًا إلى يمين المكان الذي كانا فيه عندما أُطلقت الرصاصة الأولى؛ فلقد سمع الشخصُ الذي يحمل المسدسَ العالِمَ وانخدع بما قال.
سحبَ العالِمُ هاتش وراءه بقوة حتى أصبحا تقريبًا أمام درجات سُلَّم القَبْو، وهناك استطاعا — بفضل انبعاث ضوء خافت من أعلى درجات السلم — أن يريَا هيئةَ شخص طويل القامة يُحدِّق في الظلام إلى مكانٍ مقابلٍ للمكان الذي كانا يقفان فيه. لم يرَ هاتش أمامَه سوى شيء واحد وقد أقدم عليه بالفعل، حيث وثَب إلى الأمام وارتمى على ظهر ذلك الشخص وأسقطه أرضًا. وفي لحظةٍ أطبقتْ يدُه على المسدس وانتزعه بقوة.
ثم صاح قائلًا: «حسنٌ، أمسكتُ به.»
أما المصباحُ الكهربائي الذي كان أسقطه من يد آلة التفكير فقد عاد يضيء في القبو مرةً أخرى، حتى سقط ضوءُه على وجه جون ستوكتون الذي استلقى لاهثًا عاجزًا بين يدَي الصحفي.
سألهما ستوكتون في هدوء: «عجبًا! أأنتما لصَّان أم ماذا؟»
قال آلة التفكير: «لنصعد إلى النور في الطابق العلوي.»
في هذه الظروف الغريبة التقى العالِم وجون ستوكتون وجهًا لوجه للمرة الأولى. عرَّف هاتش الرجلَين أحدهما إلى الآخر بنبرة جافة وصارمة للغاية، وأعاد المسدس إلى ستوكتون، وقد فعل هذا بعدما أومأ له العالِم برأسه موافِقًا. ووضع ستوكتون المسدس على طاولة كانت هناك.
سأله آلة التفكير: «لماذا حاولتَ قَتْلنا؟»
أجاب ستوكتون: «حسبتكما لصَّيْن. لقد سمعتُ الضجيج بالأسفل ونزلتُ أتحرَّى أمره.»
قال العالِم: «كنتُ أظن أنك تقيم في شارع بيكون.»
«أنا أُقيم هناك بالفعل، ولكنني جئتُ هنا الليلة في أمرٍ صغير، وهو أمر يخصني تمامًا، ثم تصادفَ أن سمعتُكما. ماذا كنتما تفعلان في القبو؟»
«منذ متى وأنتَ هنا؟»
«منذ خمسٍ أو عشر دقائق.»
«هل معك مفتاح لهذا المنزل؟»
«إن معي واحدًا منذ سنوات عِدَّة. ما كل هذا، على أية حال؟ كيف دخلتما هذا المنزل؟ وبأي حقٍّ دخلتما؟»
سأل آلة التفكير، متجاهلًا أسئلة الرجل كليَّةً: «هل الآنسة ديفان في المنزل هذه الليلة؟»
«لا أعرف. أظنها هنا.»
«لكنك لمْ ترها بالطبع، أليس كذلك؟»
«بلى بالتأكيد.»
«وأتيتَ إلى هنا سرًّا دون علمها، أليس كذلك؟»
هزَّ ستوكتون كتفَيه والتزم الصمت. وهنا اعتدل آلة التفكير في الكرسي الذي كان جالسًا عليه وأخذ يُضيِّق عينَيه ويُحدِّق بثباتٍ في عينَي ستوكتون. ولم يُشِحْ ببصره عنه حتى عندما وجَّه كلامه إلى هاتش.
وجَّه آلة التفكير أمره قائلًا: «أيقظ الخدم، واعرف مكان غرفة الآنسة ديفان، وانظر ما إذا كان أيُّ شيء قد أصابها.»
فقاطعه ستوكتون من فوره: «أظن أن هذا سيكون تصرُّفًا طائشًا.»
«لِمَ؟»
قال ستوكتون: «لو كان لي أن أطلب منك إسداءَ معروف شخصيٍّ لي، فسيكون أن تمتنع عن إخبار الآنسة ديفان بأمر مجيئي إلى هنا، أو مجيئك أنت كذلك.»
كان في سلوك الرجل نوعٌ من الارتباك؛ نوع من التلهُّف على إبقاء الأمور بعيدًا عن علم الآنسة ديفان، وهو ما دفع هاتش للتصرُّف على الفور؛ إذ خرج من الغرفة مُسرعًا وبعد عشر دقائق أتت معه الآنسة ديفان إلى الغرفة، بعد أن ارتدتْ ملابسها على عجل. وقف الخدمُ في الردهة في الخارج والفضولُ يغمرهم، لكنَّ الباب المغلق منعهم من الاطلاع على ما كان يجري.
لفترةٍ وجيزةٍ ساد صمتٌ درامي عند دخول الآنسة ديفان ونهوض ستوكتون من كرسيه. راح آلة التفكير يوزِّع نظراتِه بينهما، وقد لاحظ امتقاع وجه الفتاة والارتباكَ الواضح على وجه ستوكتون.
سألت الآنسة ديفان بصوت مرتجف قليلًا: «ما الأمر؟ لِمَ أنتم جميعًا هنا؟»
شرع آلة التفكير في الحديث بهدوء قائلًا: «لقد جاء السيد ستوكتون إلى هنا الليلة لينقل محتويات الغرفة المغلقة التي في القبو، وقد جاء دون علمِكِ ووجدَ أننا قد سبقناه. أما أنا والسيد هاتش، فنوجد هُنا في إطار تحقيقنا في القضية التي أسندتِها إليَّ، وقد أتينا نحن أيضًا دون علمِكِ؛ لأنني رأيتُ أن هذا هو الأفضل. لكن السيد ستوكتون كان في أشد اللهفة لإخفاء أمر زيارته عنك؛ فهل لديك ما تقولينه الآن؟»
التفتت الفتاة إلى ستوكتون بازدراءٍ كبير. كانت نظرات الاتهام تملأ عينَيها، وكانت يدها الصغيرة مُصوَّبةً إلى ستوكتون مباشرةً، فظهر على وجهه انفعالٌ غريبٌ كان يجاهد من أجل السيطرةِ عليه.
همست الفتاة بحدَّة: «قاتل! لص!»
سأل آلةُ التفكير: «أتعلمين لِمَ أتى؟»
قالت الفتاة بشراسة: «جاء ليسرق الغرفة كما قلتَ. لقد قتلَ هذا الرجلُ والدي لأنه رفض إطْلاعَه على سرِّ اختراعه الأخير. ولكن كيف أَجبره على كتابة تلك الرسالة؛ لا أدري.»
قال ستوكتون وقد شحب وجهُه: «إليزابيث، ماذا تقولين بحق الإله؟»
واصلت الفتاة كلامها في اندفاع: «إن جَشَعه جمٌّ لدرجة أنه أراد الاستحواذ على ثروة والدي كلِّها، ولم يرضَ بأن آخُذ ولو جزءًا صغيرًا منها.»
قال ستوكتون وهو يميل إلى الأمام ورأسه بين كفَّيه: «إليزابيث، إليزابيث!»
سأل العالِم: «ماذا تعرفين عن هذه الغرفة السرية؟»
قالت الفتاة مُوضِّحة: «ﻟ… ﻟ… لطالما ظننتُ أن ثمة غرفة سرية في القبو، وربما اعتقدتُ بوجودها؛ لأن والدي كان دائمًا ما يُخفي تلك الأشياء التي كان يُوليها مزيدَ اهتمامِه في مكانٍ ما في المنزل. لا يمكنني تصوُّر مكان آخر غير القبو.»
خيَّمَ صمتٌ طويل، ثم وقفت الفتاةُ في صرامة، وأخذَتْ تحدِّقُ في بدن ستوكتون المنحني أمامها دون أدنى مسحة من شفقة في وجهها. لاحظ هاتش سيماء وجهها وتنبَّه للمرة الأولى أن الآنسة ديفان كانت حاقدة على الرجل، وأصبح مقتنعًا أكثر من أي وقت مضى بوجود عداء قديم بين الاثنَين. نقضَ آلةُ التفكير هدوءَ الصمت الطويل قائلًا:
«أتعلمين يا آنسة ديفان أن الصفحة السابعة من الكتاب المقدس الذي وجدتُه مُخبَّأً في شقة السيد ستوكتون، أتعلمين أنها مفقودة؟»
قالت الفتاة: «لمْ ألاحظ هذا.»
نهض ستوكتون من انحناءته مع هذه الكلمات، ووقف في تلك اللحظة شاحبَ الوجه يستمع لما يُقال باهتمام.
سأل العالِم: «هل رأيتِ الصفحة رقم سبعة من قبل في هذه النسخة من الكتاب المقدس؟»
«لا أذكر.»
سأل ستوكتون الفتاة: «ماذا كنتِ تفعلين في شقتي؟»
سأل آلة التفكير: «لِمَ قطعت الصفحة السابعة؟»
ظنَّ ستوكتون أن السؤال كان موجَّهًا له فالتفت لكي يجيب، ثم تأكَّدَ أنه كان سؤالًا للآنسة ديفان فالتفت إليها مرة أخرى.
صاحت الآنسة ديفان قائلةً: «لمْ أقطعها، أنا لمْ أرَها قط. لا أعلم ما الذي تعنيه.»
قبضَ آلة التفكير على يدَيه في إشارةٍ لنفاد صبره؛ ثم وجَّه سؤاله التالي لستوكتون.
«هل لديك نموذجٌ لخط يد والدك؟»
قال ستوكتون: «لديَّ الكثير، ها هي ذي ثلاث أو أربع رسائل منه.»
هنا أخذت الآنسة ديفان تلهث قليلًا كالمذعورة، أما ستوكتون فأخرج الرسائل وسلَّمها لآلة التفكير، فألقى الأخيرُ نظرة سريعة على اثنتَين منهما.
وقال: «أظن يا آنسة ديفان أنكِ قلتِ إن والدك كان دائمًا ما يُمليكِ رسائله، أليس كذلك؟!»
قالت الفتاة: «لقد قلتُ ذلك بالفعل، لكني لمْ أكن أعلم بوجود هذه الرسائل.»
سأل آلة التفكير: «هل لي أن آخذ هذه الرسائل؟»
«نعم. إنها غير ذات أهمية.»
واصل العالِم كلامَه: «لنرَ الآن ماذا يوجد في الغرفة السرية.»
نهض العالِم من مكانه وتقدَّمهم باتجاه القبو مرة أخرى مُستخدمًا المصباح الكهربائي لإضاءة طريقه. وتبعه ستوكتون مباشرةً، ثم الآنسة ديفان، التي راح رداءُ نومها الأبيضُ يزحف خلفها تحت الضوء الخافت في جوٍّ من الغموض، ثم أخيرًا تبعهم هاتش. توجَّه آلة التفكير مباشرةً إلى ذلك المكان الذي كان فيه هو وهاتش عندما أطلق ستوكتون النار عليهما. ومن جديد أظهرت أشعةُ المصباح ذلك البابَ الصغير المُثبَّت في جدار القبو. انفتح الباب بسهولة بمجرَّد أن لمسه؛ لكنَّ الحجرة الصغيرة كانت فارغة.
ظلَّ آلة التفكير لدقيقةٍ ذاهلًا عمَّا كان يحدث، وذلك لاستغراقه في فحص الحجرة. وفجأةً سُمع دويُّ إطلاق النار مرة أخرى، وتلته على الفور صرخةُ امرأة.
«يا إلهي، لقد قتل نفسه. لقد قتل نفسه.»
كان ذلك صوت الآنسة ديفان.
٥
عندما وجَّه آلة التفكير ضوء مصباحه نحو عتمة القبو مرةً أخرى، رأى الآنسة ديفان وهاتش مُنحنيَيْن فوق جسد جون ستوكتون المُنبَطحِ على الأرض. كان وجه ذلك الأخير كاملَ الشحوب باستثناء بقعة واحدة فقط عند حدود شعره، كانت ترشَحُ منها قطرات حمراء رقيقة. وكانت يده اليمنى مُطبِقة على مسدس.
صاح العالِم قائلًا: «يا إلهي! يا إلهي! ما الذي حدث؟»
قال هاتش بنبرة ملؤها الانفعال: «لقد أطلق ستوكتون النار على نفسه.»
فحص العالِم الرجل المُصاب فحصًا سريعًا وهو جاثٍ على ركبتَيه، ثم فجأةً — وربما دون قصد — ألقى بضوء المصباح على وجه الآنسة ديفان.
فبادر بسؤالها قائلًا: «أين كنتِ؟»
قالت الفتاة: «كنتُ خلفَه مباشرةً. هل سيموت؟ هل إصابتُه قاتلة؟»
قال العالِم: «إن إصابته ميئوسٌ منها. لِنأخذه إلى الطابق العلوي.»
رُفع الرجل الفاقد الوعي من فوق الأرض، وساروا به، يتقدَّمهم هاتش، حتى أعادوه مرةً أخرى إلى الغرفة التي لم يمضِ على مغادرتهم إيَّاها سوى دقائق معدودة. وقف هاتش عاجزًا لا يستطيع تحريك ساكن، بينما راح آلة التفكير — بوصفه طبيبًا — يفحص الجرح فحصًا أكثر دقَّة. كان أثرُ الرصاصة الذي يعلو الصدغ الأيمن مباشرةً يكاد يكون خاليًا من علامات الدم؛ وكانت حوله آثارٌ جليَّةٌ لبارود محترق.
قال آلة التفكير وهو يربط رأس ستوكتون بضمادة صنعها على عجلٍ من وشاحٍ وجده أمامه: «ساعديني دقيقةً فقط يا آنسة ديفان.» فبدأت الآنسة ديفان تعقد العُقَد الأخيرة من الضمادة، وبينما كانت تفعل ذلك أخذ آلة التفكير يفحص يدَيها عن قرب. وعندما انتهوا من العمل، التفتَ إليها بأسلوب خالٍ من أية عاطفة.
وسألها: «لِمَ أطلقتِ عليه النار؟»
قالت الفتاة بتلعثم: «ﻟَ… ﻟَ… لمْ أطلق عليه النار، بل هو أطلق النار على نفسه.»
«من أين أتت آثار البارود التي على يدكِ اليمنى هذه؟»
ألقت الآنسة ديفان نظرةً سريعة على يدها اليمنى فذبلتْ على إثرها تلك النضارةُ التي كانت في وجهها وكأنَّما أصابها شيءٌ من السحر. وسيطر الخوف على تصُّرفاتها في تلك اللحظة.
وأجابتْ بتلعثم: «ﻟَ… لا أعرف، أنت لا تعتقد بالتأكيد أنني …»
«يا سيد هاتش، اطلب سيارةَ إسعاف في الحال، ثم انظُر إن كان من الممكن استدعاء المحقِّق مالوري إلى هنا على الفور. سوف أرسل الآنسة ديفان إلى السجن بتهمة إطلاق النار على هذا الرجل.»
ظلَّت الفتاة ترمقه بنظرة باهتة للحظات ثم هَوَتْ جالسةً على كرسيٍّ ووجهُها شاحبٌ شحوب الأموات وعيناها جاحظتان من الخوف. توجَّه هاتش إلى الخارج باحثًا عن هاتف، وجلست الآنسة ديفان صامتةً بعض الوقت وكأنما أُصيبَت بدوار. في النهاية، وبعد جهد، نهضت من فوق الكرسي وانفجرت وهي تواجه آلة التفكير في تحدٍّ، وقالت:
«لمْ أطلق النار عليه. لمْ أفعل، لمْ أفعل. هو فعلها بنفسه.»
أطبقتْ أصابعُ آلةِ التفكير الطويلةُ الضامرةُ على المسدس ونزعتْه برفقٍ من يد الرجل المصاب.
ثم قال فجأةً: «آه، لقد أخطأتُ، لمْ تكن إصابته خطيرةً كما ظننتُ. انظري! إنه يستعيد وعيه من جديد.»
صاحت الآنسة ديفان: «يستعيد وعيه، ألن يموت إذن؟!»
سأل آلة التفكير بحدَّة: «لِمَ تسألين هذا السؤال؟»
فصاحت من فَوْرها قائلةً: «إن الأمر يبدو جديرًا جدًّا بالشفقة، إنه أقرب ما يكون إلى اعترافٍ بالذنب. ألن يموت؟!»
كانت الدماء تعود رويدًا رويدًا لتسري من جديدٍ في وجه ستوكتون. ثم رأى آلةُ التفكير وهو مُنحنٍ فوقه وإحدى يدَيه على قلبه، رأى جفنَيه يرتعشان ثم راحت عيناه تنفتحان ببطء، وتلا ذلك مباشرةً تقريبًا أن قوِيَ نبضُ القلب على نحو ملموس. أخذَ ستوكتون يُحدِّق فيه قليلًا، ثم ارتخى جفناه مرةً ثانية من شدة التعب.
سأل آلةُ التفكير: «لِمَ أطلقت الآنسةُ ديفان النارَ عليك؟»
صمتَ ستوكتون لبرهة ثم فتح عينَيه للمرة الثانية. كانت الآنسة ديفان واقفةً في مرمى بصره، فمدتْ يدَيها نحوه في تضرُّع.
أعاد آلة التفكير سؤاله: «لمَ أطلقتْ عليك النار؟»
قال ستوكتون بتثاقل: «لمْ … تفعل. أنا … فعلتُها … بنفسي.»
تغضَّنتْ جبهةُ آلة التفكير قليلًا في شيءٍ من الحيرة ثم بعد هنيهة عادت لطبيعتها.
وسأل: «فعلتَ ذلك عمدًا؟»
«أنا فعلتُها بنفسي.»
أغمضتْ عينا ستوكتون مرةً أخرى وبدا أنه كان على وشك فقدان الوعي. نظر آلة التفكير إلى الآنسة ديفان نظرةً سريعةً فرأى على وجهها علاماتِ ارتياح غير متناهية. أما أسلوبه هو فتغيَّر؛ فقد صار في الواقع ينمُّ عن شعور شديد بما يشبه الخِزْي عندما التفت إليها مرة أخرى.
وقال: «أرجو أن تغفري لي. لقد أخطأتُ.»
«هل سيموت؟»
«لا، لقد كان هذا خطأً آخر. سوف يتعافى.»
في غضون لحظاتٍ قليلةٍ كانت إحدى سيارات الإسعاف من مستشفى المدينة تُجِدُّ السيرَ مُحدِثةً جلبةً حتى توقَّفتْ أمام الباب ثم أخذتْ جون ستوكتون. انتاب هاتش شعورٌ بالشفقة وهو يساعد الآنسة ديفان للوصول إلى حجرتها، حيث كانت في حالة من شبه الإغماء في تلك اللحظة، وقد أعطاها آلة التفكير مُنشِّطًا ضعيف التأثير قبل ذلك. أما المُحقِّق مالوري فلمْ يُجِب على الهاتف.
عاد آلة التفكير وهاتش إلى بوسطن، وعند محطة مترو بارك ستريت ذهب كل منهما في طريق، بعد أن أعطى آلةُ التفكير بعض التعليمات لهاتش. وقضى هاتش معظم اليوم التالي ينفِّذ تلك التعليمات؛ فتوجَّه أولًا لزيارة الدكتور بنتون، ذلك الطبيب الذي أصدر شهادة الوفاة التي دُفن بوميروي ستوكتون بموجبها. شعر الدكتور بنتون بانزعاج شديد عندما تطرَّق الصحفي إلى الدافع من وراء زيارته، لكنه تكلَّم عن القضية بصراحة بعد مرور بعض الوقت.
فقال: «أعرف جون ستوكتون مُذْ كُنَّا في الجامعة معًا، وأنا أَعُدُّه بحقٍّ واحدًا من الرجال الصالحين القلائل الذين أعرفهم، ولا يمكنني أن أصدِّق شيئًا بخلاف ذلك. ومما يميِّزه أيضًا، أنه واحدٌ من الرجال الصالحين القلائل الذين صنعوا ثروتهم بأنفسهم. إنه إنسان لا تشوبه شائبة من نِفاق.
لقد هاتَفني بعد العثور على جثة والده مباشرة، فتوجَّهتُ إلى منزلهم في دورتشيستر؛ ومن ثمَّ أوضح لي أنه من الظاهر أن بوميروي ستوكتون قد انتحر. لقد كان يخشى من العار الذي كان سيُلحِقه إعلانُ الأمر بسمعة والده الطيبة، وسألني عمَّا يمكننا أن نفعله؛ فاقترحتُ عليه الشيءَ الوحيد الذي أعرفه، وهو استصدار شهادة وفاة تنص على أن أسباب الوفاة طبيعية، واقترحتُ أن يكون السبب هو مرض القلب. لقد فعلتُ هذا بدافعٍ خالِصٍ من صداقتي له.
لقد فحصتُ الجثة ووجدتُ أثرًا من حمض الهيدروسيانيد على لسان بوميروي. كانت ثمة زجاجة مكسورة إلى جوار الكرسي الذي كان جالسًا عليه وكانت تحتوي على حمض الهيدروسيانيد. ولمْ أُشرِّح الجثة بالتأكيد. قد أكون ارتكبتُ ذنبًا على المستوى الأخلاقي، لكني أشعر أنني لمْ أتسبب في أذًى حقيقي. لا شك أن عملي كلَّه قد صار على المحك الآن بعد أن عرفتَ الحقيقة.»
سأل هاتش: «ألا تشك في حدوث شيء آخر غير الانتحار؟»
«لا، أبدًا. وعلاوةً على ذلك، كان هناك تلك الرسالة التي وُجدت في جيب بوميروي ستوكتون. لقد اطَّلعتُ عليها، ولئن كان هناك أيُّ شكٍّ من قبلُ، فقد أزالته تلك الرسالةُ. أظن أن هذه الرسالة أصبحت بعد ذلك في حوزة الآنسة ديفان، وأعتقد أنها لا تزال معها.»
«هل تعلم أيَّ شيء عن الآنسة ديفان؟»
«لا شيء، باستثناء أنها ابنةٌ بالتبني، وقد احتفظتْ باسم عائلتها لسببٍ ما. وقد دخلت منذ ثلاثة أو أربعة أعوام في علاقة غرامية استمرَّت فترة قصيرة، ولكن جون ستوكتون كان يعارضها. أعتقد أنه كان السبب في انتهائها. في الواقع، أعتقد أنه هو نفسه كان يحبُّها في وقت ما ولكنها رفضَتْ عرضَه للزواج. منذ ذلك الوقت وبينهما شيءٌ من خلافٍ يسير، ولكني لا أعرف عن هذا إلا صورةً مُجْملةً من خلال ما قاله لي.»
بعد ذلك شرعَ هاتش في تنفيذ الجزء الثاني من تعليمات آلة التفكير، وهو زيارة المحامي الذي كان من المفترض أن تكون وصية بوميروي ستوكتون في حوزته، وسؤاله عن سبب التأخر في قراءة تلك الوصية.
عَثَر هاتش على المحامي فريدريك سلون، دون مشقَّة، وعرض عليه ملابساتِ القضية كلَّها كما يعرفها من دون أن يُخفيَ شيئًا، ثم سأله عن السبب وراء عدم قراءة الوصية حتى الآن. وكان السيد سلون صريحًا هو الآخر.
حيث قال: «هذا لأن الوصية ليست معي الآن؛ فإما أن أكون وضعتُها في مكان لا أتذكَّره، وإما أن تكون ضاعتْ، أو ربما سُرقَت. لكنني لمْ أرغب في أن تعرف العائلة ذلك الآن بالتحديد؛ لذا أجَّلتُ إطْلاعهم على الوصية ريثما أبحث عنها. لكنني إلى الآن لمْ أعثر لها على أثر، وليس لديَّ أدنى فكرة حتى عن مكانها.»
سأل هاتش: «علامَ تنصُّ الوصية؟»
«إنها تجعل الجزء الأعظم من التركة من نصيب جون ستوكتون، وتَهَبُ الآنسة ديفان دخلًا سنويًّا بقيمة خمسة آلاف دولار، كما تمنحها منزل دورتشيستر، وتنص بصورة خاصة على حرمان أقارب بوميروي ستوكتون الآخرين الذين اتَّهمهم ذات مرة بسرقة أحد اختراعاته. إن الرسالة التي وُجدت بعد وفاة السيد ستوكتون …»
قاطعه هاتش قائلًا: «وهل علمتَ بشأن تلك الرسالة أيضًا؟»
«آه، نعم، إن هذه الرسالة تؤكِّد الوصية، باستثناء أنها إذا ما أُطلقَتْ على عمومها فإنها تَحرم الآنسة ديفان هي الأخرى من الميراث.»
«أليس من مصلحة أقارب ستوكتون المباشرين الآخرين — أولئك الذين خُصُّوا بالحرمان من الميراث — أن يحصلوا على تلك الوصية وأن يُتلفوها؟»
«لا شك أن هذا أمر محتمل، ولكن الصِّلة مقطوعة بين فرعَي العائلة منذ سنوات عديدة. إن ذلك الفرع من العائلة يعيش في أقصى الغرب وقد بذلتُ جهودًا كبيرةً للتأكُّد من عدم وجود أيِّ صلة لهم باختفاء الوصية.»
عندما تحصَّل هاتش على هذه المعلومات الجديدة شرعَ في إبلاغها لآلة التفكير، واضطر أن ينتظر مدة نصف ساعة تقريبًا، إلى أن وصل العالِم أخيرًا.
قال: «لقد كنتُ أحضُرُ تشريح جثة.»
«تشريح؟ تشريح مَن؟»
«تشريح جثة بوميروي ستوكتون.»
«يا لَلهول، كنتُ أظن أنه دُفِن.»
«لا، إنما كان في مقبرة مؤقَّتة لحفظ الجثث حيث تعذَّر حفر قبر دائم له نتيجة لتجمُّد الأرض بفعل الشتاء. كان عليَّ أن ألفت انتباه الطبيب الشرعي للقضية حتى أحصل على تصريح بتشريح الجثة. وقد شرَّحناها معًا.»
سأل هاتش: «وماذا وجدتَ؟»
سأل آلة التفكير بدوره: «ماذا وجدتَ أنت؟»
أخبره هاتش بإيجازٍ عن لقائه بالدكتور بنتون والسيد سلون، وأنصت له العالِم دون أن يعقِّبَ على شيء، ثم في النهاية أسند ظهره إلى كرسيه الضخم وراح يُحدِّق إلى السقف بعينَين نصف مغلقتَين.
ثم قال: «يبدو أن القضية قد انتهت بهذا. تلك هي الأسئلة التي طُرحَت؛ أولًا: كيف مات بوميروي ستوكتون؟ ثانيًا: إذا لم يكن قد مات منتحرًا، مثلما يبدو، فماذا كان الدافع وراء أيِّ شيء آخر؟ ثالثًا: إذا كان ثمة دافع، فإلى مَن يقودنا؟ رابعًا: ما الذي كانت تحتوي عليه الرسالة المُشفَّرة؟ والآن يا سيد هاتش، أعتقد أن بإمكاني توضيحَ الأمر كلِّه. لقد كان ثمة شفرة في الرسالة؛ شفرة يمكن أن تُوصَف بأن لها علاقة بالرقم خمسة؛ أي أن الرقم خمسة هو مفتاح الوصول إلى حلِّه.»
٦
استأنف آلة التفكير حديثَه وهو يُخرج الرسالة التي أعطته إياها الآنسة ديفان في أول الأمر ويَبسطها على طاولةٍ أمامه: «أولًا، يا سيد هاتش، كان لا بد من البتِّ القاطع فيما إذا كان ثمَّة شفرة في الرسالة أم لا.
يوجد آلاف الأنواع المختلفة من الشفرات. إحدى هذه الشفرات — وهي ما سنسمِّيها بالشفرة الاعتباطية — مُوضَّحة على نحو ممتاز في قصة «الحشرة الذهبية» التي كتبها الشاعر الأمريكي إدجار ألان بو. في هذا النوع من الشفرات، يُمثَّل كلُّ حرف من حروف الأبجدية برقم أو رمز.
ثم هناك شفرات الكُتُب، ولعل هذه هي أكثر أنواع الشفرات أمانًا؛ لأنه من دون معرفة الكتاب الذي يُحتمَل أن تكون الكلمات قد اختيرت منه ورُمِز إليها بالأرقام، فلن يستطيع أحد أن يحلَّها.
لن يُجديني نفعًا أن أُسهب كثيرًا في شرح هذا الموضوع؛ لذا فلْنعامل هذه الرسالة تحديدًا كشفرة محتملة. إن التأمُّل الدقيق في الرسالة يُؤدِّي إلى ثلاث نقاط انطلاقٍ محتملة؛ أولى هذه النقاط هي أسلوب التعبير في الرسالة عمومًا، إنه بعيد عن التعبير المباشر الخالي من التردُّد الذي يُتوقَّع من رجلٍ على وشك الانتحار أن يكتبَه، إلا إذا كان له غرضٌ ما؛ أعني غرضًا بعيدًا عن المعنى الظاهري المجرَّد للرسالة نفسِها؛ لذا سنفترض أنه كان ثمة غرض آخر خفي وراء استخدام شفرة.
أما نقطة الانطلاق الثانية فهي ما يتبيَّن في غيابِ إحدى الكلمات؛ فإذا نظرتَ إلى الرسالة فسترى أنه ينبغي لحرف الجر «في» أن يظهر بين كلمتَي «تضمرونه» و«قلوبكم». ربما نتج ذلك، بالطبع، عن سَهْو غير مقصودٍ أثناء الكتابة، وهو ما قد يقع فيه أيُّ أحد، لكننا نجد نقطة الانطلاق الثالثة إذا اقتربنا أكثر من نهاية الرسالة.
إنه الرقم سبعة بين القوسَين. من الواضح أنه ليست له علاقة البتة بما يسبقه أو بما يليه، ولا يمكن أن يكون هذا الأمر مصادفة. إذن ما الذي كان يعنيه؟ أكان إشارةً مباشرةً أو صريحة إلى شفرة أُنشئَت على عَجَل؟
لقد اعتبرتُ الرقم سبعة في البداية مفتاحًا لفهم الرسالة برمَّتها، وقد فعلتُ ذلك وأنا أفترضُ طوالَ الوقت أنه كان ثمة شفرة. لقد عددتُ سبع كلماتٍ من بعد ذلك الرقم فوجدتُ كلمة «مُلزِمة»، ثم عددتُ سبع كلمات أخرى بعد تلك الكلمة فوجدتُ كلمة «إعطاء». لقد بدا لي أن الكلمتَين معًا تعنيان شيئًا ما.
لكنني توقَّفتُ عند ذلك وبدأتُ بالعدِّ عكسيًّا قبل الرقم. إن الكلمة السابعة قبله هي «و»، أما الكلمة السابعة ابتداءً من «و» — وما زلت أعدُّ عكسيًّا — فلم يبدُ أنها ذات معنًى. وظللتُ أَتْبعُ نظرية الرقم سبعة هذه في الرسالة بكاملها ولم أجد سوى مجموعة مختلطة من الكلماتٍ بغير نظام. وحدث الشيءُ ذاته أيضًا عندما عددتُ سبعة أحرف؛ لم تكن هذه الأحرفُ تعني شيئًا، إلا إذا كان كلُّ حرف قد كُتب ليرمز — على نحو تقديري — إلى حرف آخر. لقد أدَّى ذلك مباشرةً إلى تعقيد الأمر، لكنني أُومِن على الدوام بضرورة استنفاد الاحتمالات البسيطة أولًا؛ لذا فقد بدأتُ من جديد.
والآن، ما الكلمة الأقرب للرقم سبعة التي قد تعني أيَّ شيء إذا ما ضُمَّتْ إليه؟ لم تكن «العائلة»، ولا «الكتاب المقدس»، ولم تكن كذلك «ابني»، بالنظر إلى الكلمات الجوهرية التي ظهرت بعد الرقم سبعة. لكن عندما نظرتُ إلى ما قبل الرقم سبعة وجدتُ كلمةً منسجمةً معه ولها معنًى؛ لقد كانت كلمة «صفحة». وعلى الفور صار لديَّ عبارة «الصفحة السابعة». كانت كلمةُ «صفحة» هي الكلمة الخامسة قبل الرقم سبعة.
ما الكلمة التالية في الترتيب الخامس، وأنا ما زلتُ أنظر للكلمات قبل رقم سبعة؟ لقد كانت «في»؛ من ثَمَّ أصبح لديَّ «في الصفحة السابعة»؛ وبدأت الكلماتُ المتصلة بعضها ببعض تظهر تباعًا، وكانت كل واحدة تقع في الترتيب الخامس بعد الأخرى. كانت الكلمة الخامسة التي وجدتُها بعد الرقم سبعة هي «العائلة»، والتي بعدها بخمس كلمات هي «الكتاب المقدس»؛ وهكذا يصبح لدينا «في الصفحة السابعة من الكتاب المقدس للعائلة».
لا حاجة للإسهابِ أكثر من ذلك في شرح الدراسة التي أجريتُها لتلك الشفرة. لقد مضيتُ في تتبُّع الكلمات السابقة على الرقم سبعة، وكنتُ أختارُ كل كلمة تقع في الترتيب الخامس حتى حصلتُ على كلمات الشفرة كلِّها. وقد وضعتُ تحتها خطوطًا هنا. اقرأ الكلمات التي تحتها الخط وستحصل على حل الشفرة.»
إلى مَن يهمه الأمر
لقد ضِقتُ بالأمر كلِّه؛ لذا فأنا أسعى للموت، وأنا مُطمئن لهذا. لقد مات الطموح الآن؛ إن القبر يفغرُ فاه في شَرَهٍ تحت قدمي، وبضياعِ عملِ يدَيَّ فإنني أرحِّب بالموت بإرادتي أنا، وبيديَّ أنا. ها قد وضعتُ في يد ابني كلَّ شيء؛ أما أنتم يا مَن أذيتموني، أنتم يا من هممتم بتثبيط عزيمتي، حين تقرءون هذه الرسالة من المحتمل سوف تدركون أنني أُنزِل بكم العقاب لهذا السبب، وأترك العفو لابني. لقد جرؤتُ على الوقوف أمام غضبِكم الأبديِّ في حياتي، وأجرؤ على مواجهته وأنا أموت، ليس فقط الغضب الذي تحاشيتم الحديث عنه؛ وإنما أيضًا ذلك الذي تضمرونه قُلوبكم، وإن أذني مغلقة إلى الأبد أمامكم. إن القبو مدفني. وفي أبهج وأعزِّ صفحة من صفحات الحياة دوَّنتُ (٧) حبي له. وحيث إن العائلة بروابطها مُلزِمة مثل الكتاب المقدس نفسه، فهي تفرضُ عليَّ إعطاءَ كل شيء لابني.
الوداع. سوف أموت.
سوف أموت على يد ابني. أنتم يا من تقرءون، أنزلوا به العقاب. فأنا لا أجرؤ على الحديث. القبو المغلق في الصفحة السابعة من كتاب العائلة المقدس.
صاح الصحفي قائلًا: «هكذا إذن، بخٍ بخٍ!» كان هذا ثناءً على آلة التفكير، كما كان تعبيرًا عن دهشته ممَّا قرأ.
قال آلة التفكير: «أتعرف، لو كان حرف الجر «في» ظهرَ بين كلمتَي «تضمرونه» و«قلوبكم»، كما كان من الطبيعي له أن يظهر، لكان أضاع ترتيب الشفرة؛ لذا فقد حُذِف عَمْدًا.»
قال هاتش: «إن هذا لكفيلٌ بإعدام ستوكتون على الكرسي الكهربائي.»
قال العالِم مُغضبًا: «كان ذلك سيحدث لو لم تكن الرسالة مُزوَّرة.»
قال هاتش لاهثًا: «مُزوَّرة، أما كتبَ بوميروي ستوكتون هذه الرسالة؟»
«نعم، لم يكتبها.»
«وبالتأكيد ليس جون ستوكتون، أليس كذلك؟»
«بلى، ليس هو.»
«فمَن إذن؟»
«الآنسة ديفان.»
قال هاتش مُكرِّرًا عبارة العالِم في دهشة: «الآنسة ديفان! إذن، الآنسة ديفان هي التي قتلت بوميروي ستوكتون؟»
«لا، بل مات ميتة طبيعية.»
شعر هاتش بارتباك شديد. كان في رأسه ما لا يُحصى من الأسئلة التي تستلزم إجابة فورية؛ فأخذ يُحَدِّق — فاغرًا فمه — إلى آلة التفكير. كان كل ما يعرفه عن القضية ينهار فوق رأسه، حتى لمْ يبقَ له شيء.
قال آلة التفكير: «إليك ما حدث باختصار. لقد مات بوميروي ستوكتون ميتةً طبيعية إثْرَ مرض قلبي، ثم وجدته الآنسة ديفان ميتًا، فكتبت هذه الرسالة ووضعتْها في جَيْبه، ثم وضعتْ نقطةً من حمض الهيدروسيانيد على لسانه، وحطَّمت زجاجة الحمض، ثم غادرت الحجرة، وأغلقت الباب، ثم في اليوم التالي أمرتْ بتحطيمه.
هي مَن أطلق النار على جون ستوكتون. وهي التي مزَّقت الصفحة السابعة من نسخة العائلة من الكتاب المقدس، ثم خبَّأت الكتاب في حجرة ستوكتون. وهي مَن حصل بطريقةٍ ما على الوصية. وهي إما أن تكون معها وإما أن تكون قد أتلفتْها. وهي كذلك التي استغلَّت الوفاة المفاجِئَة لوليِّ نعمتها العجوز لكي تحيك مؤامرةً من أغرب وأقسى ما تستطيع امرأةٌ تدبيرَه ضد إنسان. لا شيءَ في الدنيا أسوأ من امرأةٍ شريرة، ولا شيء فيها أفضل من امرأةٍ صالحة. أعتقد أنَّ هذا الكلام قِيل من قبل.»
قاطعه هاتش قائلًا: «لكن بخصوص هذه القضية، كيف؟ وماذا؟ ولماذا؟»
أجاب آلةُ التفكير: «لقد فهمتُ الشفرةَ في غضون بضع ساعات من حصولي على الرسالة، وبطبيعة الحال أردتُ أن أعرف مَن كان ذلك الابن وماذا كان يعمل.
كان لديَّ بالطبع القصة التي رَوَتها الآنسة ديفان، وكانت قصةَ خلافٍ بين أبٍ وابنِه، ومشاجرة، وما إلى ذلك. لكنها كذلك — وبرغم دهاء الآنسة ديفان — كانت قصةً تنمُّ عن عداء مُضمَر. لقد مزَجَت الحقائق بالكذب مزجًا شديدًا بحيث لم يَعُد من السهل تمامًا استخراج الحقيقة؛ لذا انتقيتُ من كلامها ما أُصدِّقه.
كانت فكرة الآنسة ديفان — كما عبَّرتْ لي عنها — ترمي إلى أن ستوكتون أُكرِه على كتابة الرسالة. لكن مَن يكونون على وشك أن يُقتَلوا لا يكتبون رسائل مُشفَّرةً بمثل هذا التعقيد، كما أن أولئك الذين ينتحرون ليس لديهم دوافع واضحة لكتابة مثل هذه الرسائل. لقد كانت جملة «لكنني لا أجرؤ أن أتكلم» جملةً سخيفة؛ فلمْ يكن بوميروي ستوكتون سجينًا، ولئن كان يخشى من مؤامرة لقتله، فلِمَ لمْ يتكلم؟
كانت كل هذه الأشياء في ذهني عندما طلبتُ منك زيارة ستوكتون. لقد كنتُ متلهفًا بصورة خاصة لمعرفة ما كان سيقوله بشأن نسخة العائلة من الكتاب المقدس، ولكنني أستطيع القَوْل إنني كنت أعلم أن الصفحة السابعة كانت قد قُطِعت من الكتاب؛ ومن ثمَّ أصبحت في حَوْزة الآنسة ديفان.
كما يمكنني القول كذلك إنني كنتُ أعلم أن الحجرة السرية كانت خالية، وأيًّا كان ما تضمَّنه هذان الشيئان — بافتراض أنها هي مَن كتب الشفرة — فقد أزالتْه، وإلَّا لَمَا كانت لفتتْ الانتباهَ إليهما في هذه الشفرة. وأنا لمْ أستنتج أنها ربما تكون هي مَن كتبت الرسالة إلا بناءً على أنها كانت هي أولَ مَن لفتَ انتباهي إلى احتمالية وجود شفرة.
عندما افترضتُ حينها أنَّ الشفرة كانت مُزوَّرةً، وأنها هي التي كتبتها، وأن تلك الشفرة تُوجِّه اتهامًا مباشرًا إلى جون ستوكتون، وحيث إنها أحضرتْها إليَّ؛ لأجل ذلك كلِّه أصبح لدي دليلٌ شِبْه حاسم أنه لو كان بوميروي ستوكتون قد قُتِل، لكان لها يد في قَتلِه. أما دافع جون ستوكتون من وراء محاولته إخفاءَ واقعة الانتحار — كما كان يعتقد — فقد كان واضحًا تمامًا؛ لقد كان دافعه — كما قال — هو تجنُّب الفضيحة، وكثيرًا ما تَحدُث مثل هذه الأمور.
منذ اللحظة التي أخبرتَه فيها باحتمال وقوع جريمة قتلٍ، اتجهتْ شكوكه نحو الآنسة ديفان. لماذا؟ لأنها — فوق كل اعتبار — كانت لديها الفرصة لذلك؛ لأنها أرادت الاستحواذ على الجزء الأكبر من التركة، وكان لديها شيء من العداء تجاه جون ستوكتون.
لقد ثبتَ الآن أن الأمر كان علاقة حبٍّ انتهت، أنهاها جون ستوكتون. لقد كان هو نفسه يحب الآنسة ديفان، لكنها رفضتْه. وفيما بعد — عندما أنهى علاقة الحب — كرهتْه.
لقد كانت خطة انتقامها أقرب إلى خطة شيطانية؛ فقد كانت تنوي من ورائها أن تنتقم انتقامًا شاملًا وتحصل على التركة في الوقت نفسه. ولقد كانت تأمُل، بل كانت توقن، أنني كنتُ سأفهم تلك الشفرة، وكانت تخطِّط أن يُعدَم جون ستوكتون على الكرسي الكهربائي بسببها.»
عقَّب هاتش، وقد سرتْ في جسمه قشعريرة خفيفة: «رهيب!»
«إن خوفها من احتمال فشل هذه الخطة هو ما أغواها بمحاولة قتل ستوكتون بإطلاق النار عليه. لقد كان القبو مظلمًا، لكنها نسيتْ أن تسعةً وتسعين مسدسًا من بين كل مائة مسدس تترك آثارًا طفيفة من البارود على يد مَن يطلق النار منها. أما قول ستوكتون إنها لمْ تطلق النار عليه، فكان لذلك الوفاءِ الذي يستعصي على الشرح والذي يُكِنُّه بعض الرجال للمرأة التي يحبونها أو التي كانوا يحبونها.
لقد زار ستوكتون المنزلَ سرًّا في تلك الليلة ليحصل على ما كان في تلك الحجرة دون أن تعلم. ولقد كان يعلم بوجوده؛ من المحتمل أن يكون أبوه قد أخبره عنه. وأغلب الظن أن الشيء الذي كان في الصفحة السابعة من نسخة العائلة من الكتاب المقدس هو عملية تقسية النحاس التي كان بوميروي ستوكتون منشغلًا بإتمامها؛ أعتقد أنها كانت مكتوبةً فيها بالحبر السري. لقد علم جون ستوكتون بوجودها هناك، أبوه أخبره بذلك. وإذا كان أبوه قال ذلك، فمن المُرجَّح أن تكون الآنسة ديفان قد استرقتِ السمعَ إليه؛ لذا فقد كانت تعلم بوجودها هي الأخرى.
والآن نأتي إلى الملابسات الحقيقية للوفاة. لا بد أن الفتاة كان لديها مفتاح للورشة وأنها كانت تستعمله، وبعدما غادر جون ستوكتون المنزل في مساء يوم الإثنين هذا، دخلتْ هي تلك الورشة فوجدت والدَه وقد فارق الحياةَ على إثْر مرض قلبي؛ لقد أثبتَ تشريح الجثة هذا.
في ذلك الحين صارت معالم الخطة كلها واضحةً أمامها؛ فزوَّرت تلك الرسالة المُشفَّرة — ولأنها كانت سكرتيرة بوميروي ستوكتون فمن المرجَّح أنها تعرف خط يده أكثر من أي شخص آخر — ثم وضعتْها في جيبه، والباقي أنتَ تعلمه.»
سأل هاتش: «لكن ماذا عن نسخة الكتاب المقدس التي في شقة جون ستوكتون؟»
أجاب آلة التفكير: «وضعتْها الآنسة ديفان هناك. كان هذا جزءًا من خطتها الكبرى لتوريط ستوكتون ورطةً لا مخرج له منها. إنها امرأة ذكية، ولقد دلَّلتْ على ذكائها هذا عندما أبرزت قلم الحبر وقد ملأتْه في حذر بالحبر الأزرق بدلَ الأسود.»
«ماذا كان يوجد في الحجرة المغلقة؟»
«أمَّا هذا فلا أستطيع سوى أن أُخمِّنَه، لكن لا يُستبعد ألَّا يكون المخترعُ قد كتبَ من الوصفة — التي كان يحميها بعناية شديدة — في صفحة الكتاب المقدس سوى جزء واحد فقط، وأن يكون قد احتفظ بالجزء الآخر في تلك الحجرة السرية مع مستندات قيِّمة أخرى.
يمكنني أن أضيف كذلك أن الرسائل التي كانت لدى جون ستوكتون لمْ تكن مُزوَّرة؛ فقد كُتبَت دون علم الآنسة ديفان؛ فقد كان ثمة فرق كبير بين خط اليد في الرسالة المُشفَّرة التي كتبتْها وبين الخط في تلك الرسائل التي كتبها الأب.
من الواضح الآن، من دون شك، أن الوصية المفقودة موجودة الآن — أو كانت موجودةً — مع الآنسة ديفان. أما كيف حصلتْ عليها، فهذا ما لا أعرفه. لكن بإزاحة هذه الوصية من طريقها، وبإسْفار حلِّ هذه الشفرة عن إدانة الابنِ إدانةً واضحة، كان سيئول إليها نصفُ التركة على الأقل، أو ربما التركة كلها.»
أشعل هاتش سيجارةً في تأمُّل وظل صامتًا بعض الوقت.
ثم سأل: «كيف سينتهي هذا الأمر برمته؟ أنا أعلم بالطبع أن جون ستوكتون سوف يتعافى.»
«ستكون مَغبَّة الأمر أن العالَم سوف يخسر إنجازًا علميًّا عظيمًا؛ وهو سرُّ تقسية النحاس، الذي أعاد بوميروي ستوكتون اكتشافه. أظن أنه يمكنني القول من دون حرجٍ إن الآنسة ديفان لم تترك قصاصةً تدل على هذا الاكتشاف إلا وأحرقتْها.»
«لكن إلامَ سيئول أمرها؟»
«إنها لا تعرف شيئًا عن كل هذا، أعتقد أنها ستختفي قبل أن يستعيد ستوكتون عافيته، لكنه لن يقاضيَها على أية حال. تذكَّر أنه أحبَّها يومًا ما.»
تماثل جون ستوكتون للشفاء بعد أسبوعَين، وفي ذلك الحين سلَّمتْه إحدى الممرضات في مستشفى المدينة مظروفًا، وعندما فتحه انسابتْ من بين أصابعه حفنةٌ ضئيلة من الرماد حتى سقطتْ على أغطية السرير؛ فلما رآها أسند رأسه إلى الوسادة وراح يبكي.