أبرشية بلا ميزة
ليس لهذه الأبرشية أي ميزة؛ فالتربة فوق تلالها، في مواضع كثيرة منها، تكسوها الطحالب ولا تصلح لأي شيء، والهواء رطب في الغالب؛ والسبب في هذا ارتفاع التلال التي لا تجذب السحب باستمرار، والبخار الذي لا ينقطع عن الانبعاث من التربة المكسوة بالطحالب … وأقرب بلدة بها سوق منتظمة تبعد ١٥ ميلًا، والطرق المؤدية إليها يكاد يستحيل السير عليها بسبب وعورتها، والجليد كذلك يسبب متاعب كبيرة أحيانًا؛ إذ غالبًا ما نقضي شهورًا كثيرة دون أي اتصال بالناس من حولنا. ومن بين العيوب الخطيرة في هذه الأبرشية نَقْص الجسور؛ حتى إن المجاري المائية إذا فاضت أعاقت حركة الناس تمامًا … ولا يكاد يُزرع هنا غير البطاطس والشعير والشوفان، ولم تُجرَّب زراعة القمح ولا الجاودار ولا اللفت ولا الكرنب أبدًا …
يمتلك أراضي هذه الأبرشية عشرة من الملاك، لكن لا يَقطن أيٌّ منهم بها.
يقع وادي إتريك على بعد حوالي ٥٠ ميلًا جنوب إدنبرة و٣٠ ميلًا — أو ما يقرب من ذلك — شمال حدود إنجلترا، التي تمتد بالقرب من السور الذي بناه هادريان ليعزل القبائل الهمجية عن الشمال. وفي أثناء حكم أنطونيوس، وصل الرومان إلى أماكن أبعد، وشيَّدوا سورًا حصينًا بين خليجي كلايد وفورث، إلا أنه لم يَدُمْ طويلًا. وقد احتلَّ الأرضَ الواقعة بين السورين لفترة طويلة شعوبٌ شتى؛ منها السلتيون الذين جاء بعضهم من أيرلندا، وكان يُطلق عليهم السكوتس، والأنجلو ساكسون الذين جاءوا من الجنوب، والنورديون الذين جاءوا من شتى أنحاء بحر الشمال، وربما احتلها كذلك بعض من فلول البكتيين.
كنَّا نطلق على المزرعة المرتفعة، التي يغطي أرضها الحصى، التي كانت تقيم فيها عائلتي لبعض الوقت في وادي إتريك؛ اسم فار-هوب. وكلمة «هوب» — كما هي مستخدمة في الجغرافيا المحلية — كلمة قديمة من الكلمات النوردية؛ فالكلمات النوردية والأنجلو ساكسونية والغيلية تمتزج جميعًا، بعضها مع بعض، في هذه المنطقة من الدولة — كما هو متوقع — مع بعض الكلمات البريثونية القديمة للإشارة إلى الوجود الويلزي القديم هناك. وكلمة «هوب» تعني الخليج، لكنه ليس خليجًا مليئًا بالمياه، بل خليج تملؤه الأرض وتحيط به التلال جزئيًّا، وهي في هذه الحالةِ التلالُ القاحلة المرتفعة؛ أي المرتفعات القريبة من منطقة النجود الجنوبية، حيث تُوجد التلال الثلاثة الضخمة؛ بلاك نو وبودزبيك لو وإتريك بن، وكلها تحتوي في أسمائها على كلمة «تل» ولكن بثلاث لغات مختلفة. والآن يُعاد تشجير بعض هذه التلال بأشجار التنوب السيتكي، ولكن كانت هذه التلال على مدار القرنين السابع عشر والثامن عشر قاحلة، أو معظمها كان قاحلًا؛ فغابة إتريك العظيمة التي كانت ساحة يمارس فيها ملوك اسكتلندا رياضة الصيد قُطعت أشجارها، وتحولت إلى مرعًى أو أرض خلاء قبل ذلك بقرن أو قرنين من الزمان.
ويُعتبر الحد المائي فوق فار-هوب، الذي يظهر عند طرف الوادي، بمنزلة العمود الفقري لاسكتلندا، الذي يمثل علامة الفصل بين المياه التي تتدفق جهة الغرب إلى خليج سولواي والمحيط الأطلنطي والمياه التي تتدفق جهة الشرق إلى بحر الشمال. ويقع على بُعد ١٠ أميال ناحية الشمال أشْهَرُ شلَّال في البلاد، وهو شلال جراي ميرز تيل. ويقع على بُعد ٥ أميال من بلدة موفات — وهي بلدة تنعقد فيها سوق منتظمة يأتي إليه السكان الذين يعيشون في الجزء المرتفع من الوادي — صَدْع ديفيلز بيف تب، وهو صدع عظيم في التلال يعتقد الناس أنه كان مخبأً للماشية المسروقة؛ الماشية الإنجليزية التي كان يستولي عليها اللصوص إبَّان القرن السادس عشر، حيث كانت تسود الفوضى وغياب القانون. يقع في الجزء السفلي من وادي إتريك بلدة أيكوود، وهي مسقط رأس مايكل سكوت، الفيلسوف والساحر الذي عاش في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، والذي يظهر في قصيدة دانتي الملحمية «الجحيم». وإذا لم يكن كل ما سبق كافيًا، فيُقال إن ويليام والاس البطل الاسكتلندي الشهير قد اختبأ هنا من الإنجليز، ويروي الناس قصةً عن مطاردة رعاة الأغنام الإتريكيين للساحر ميرلين وقتله في الغابة القديمة.
(لقد كان أجدادي جيلًا بعد جيل — بحسب علمي — رعاة أغنام إتريكيين. ربما يبدو غريبًا للبعض أن يتم توظيف رعاة أغنام للرعي في الغابة، إلا أن غابات الصيد — على ما يبدو — كانت في أماكن كثيرة عبارة عن ساحات مفتوحة.)
ومع ذلك، جعلني الوادي أشعر بخيبة أمل عندما رأيته لأول مرة. عادةً ما تترك الأماكن مثل هذا الشعور عندما ترسمها في مخيلتك قبل أن تزورها. لقد زرته في أول الربيع، وقد اكتستِ التلال باللون البني أو ما يشبه البني الأرجواني الفاتح، وهو ما ذكَّرني بالتلال المحيطة بمدينة كالجاري. كان نهر إتريك يتدفق بسرعة وصفاء، إلا أنه لا يتجاوز اتساعه اتساع نهر ميتلاند، الذي يمر بالمزرعة التي تربيت وترعرعت فيها في مقاطعة أونتاريو. كانت دوائر الحصى، التي ظننت في بادئ الأمر أنها من آثار الديانة السلتية المثيرة للاهتمام، كثيرة جدًّا ومنظمة جيدًا، لا لشيء إلا ليسهل استخدامها في حظائر الأغنام.
كنت مسافرة بمفردي، وقد جئتُ من سيلكيرك مستقلةً حافلة المتسوقين، التي تعمل مرتين في الأسبوع، والتي لم تأخذني إلى ما هو أبعد من جسر إتريك، حيث تجوَّلت في جنبات المكان منتظرة ساعي البريد، والذي قِيل لي إنه سوف يأخذني إلى أعلى الوادي. ولعل أهم ما يراه الناظر في جسر إتريك لافتةً على محل مغلق تروِّج لشيء اسمه سيلك كت. ولم يتسنَّ لي أن أعرف هذا الشيء، لكن تبيَّن لي أنه علامة تجارية معروفة خاصة بالسجائر.
وبعد فترة وجيزة جاء ساعي البريد، وركبت معه إلى كنيسة إتريك. وحينها كانت السماء قد بدأت تمطر، وبغزارة. كانت الكنيسة مغلقة، وهو ما أصابني بخيبة أمل مرة أخرى؛ فبالرغم من أن تلك الكنيسة قد شُيدت في عام ١٨٢٤، فإنه لا يمكن مقارنتها، من حيث الشكل التاريخي أو الطابع المعماري الباهت، بالكنائس الأخرى التي كنت قد زُرْتُها بالفعل في اسكتلندا. عندها شعرت بالغربة وعدم الراحة والبرد. احتميت بالجدار إلى أن هدأ المطر قليلًا، ثم تفقدت فِناء الكنيسة حيث الحشائش الطويلة المبتلة التي بلَّلت قدماي.
وجدت هناك — أول ما وجدت — شاهدَ قبرِ ويليام ليدلو، جدي المباشر الذي وُلد في نهاية القرن السابع عشر، والذي كانت كُنيته ويل أوفوب. وهذا الرجل اكتسب — على الأقل محليًّا — شيئًا من التألق الأسطوري، وتمكَّن من ذلك في آخر لحظة يمكن لأي رجل أن يفعل ذلك فيها من لحظات التاريخ؛ أي تاريخ سكان الجزر البريطانية. كان شاهد القبر يحمل أيضًا اسم ابنته مارجريت ليدلو هوج التي سبق أن هاجمت السير والتر سكوت، واسم روبرت هوج زوجها الذي كان مزارعًا مستأجرًا في إتريكهول. ثم رأيت على اليمين شاهدًا آخر للكاتب جيمس هوج الذي كان ابنهما وحفيد ويل أوفوب. وكان معروفًا بين الناس ﺑ «راعي أغنام إتريك». وفي مكان ليس ببعيد عن هذا الشاهد يوجد شاهد قبر القس توماس بوستون الذي كان مشهورًا في جميع أنحاء اسكتلندا بكتبه ووعظه، وإن لم تشفع له هذه الشهرة في الوصول إلى أي منصب كهنوتي مهم.
وجدت كذلك — بين أبناء عائلة ليدلو الكثيرين — شاهدَ قبرٍ يحمل اسم روبرت ليدلو، الذي مات في هوبهاوس في التاسع والعشرين من يناير عام ١٨٠٠، عن عمر ناهز ٧٢ عامًا، وهو ابن ويل، وأخو مارجريت، وعم جيمس، والذي ربما لم يعرف أبدًا أن الناس سوف يتذكرونه بسبب قرابته لهؤلاء الأشخاص تمامًا كما لم يكن له أن يعرف تاريخ موته.
إنه جدي الأكبر.
وعندما كنت أقرأ هذه النقوش الموجودة على تلك الشواهد، إذا بالمطر يعود مرة أخرى، ولكنه كان متقطعًا هذه المرة، وظننت أنه من الأفضل أن أبدأ بالعودة مشيًا إلى توشيلو؛ حيث ينبغي أن ألحق بحافلة المدرسة كي أعود إلى سيلكيرك. ولم يكن بمقدوري أن أتلكأ؛ لأن الحافلة قد تأتي قبل موعدها، وقد يزداد المطر.
عندها أصابني شعور يألفه — على ما أظن — كثير ممن ترجع أصولهم لبلد بعيد جدًّا عن البلد الذي نشئوا فيه. كنت شخصًا ساذجًا من أبناء أمريكا الشمالية بالرغم من معرفتي المتراكمة؛ فالماضي والحاضر الماثلان ها هنا أفرزا واقعًا مألوفًا، ولكنه واقع مقلق أكثر مما كنت أتخيل.
(١) رجال إتريك
(١-١) ويل أوفوب
ها هنا يرقد جسد ويليام ليدلو المشهور بويل أوفوب، الذي لم يكن يضاهيه من رجال زمانه أحد في مرحه وذكائه وقوَّته …
اسمه ويليام ليدلو، وشهرته ويل أوفوب، وفوب هو الاسم المحلي للمزرعة فار-هوب التي سكن فيها في أعلى وادي إتريك. ويبدو أن تلك المزرعة كانت مهجورة لسنوات قبل أن يسكن بها ويل. أما منزل المزرعة، فقد كان مهجورًا بسبب موقعه المرتفع عند طرف الوادي البعيد، وكانت تهب عليه أسوأ عواصف الشتاء الموسمية، وكانت تتساقط عليه الثلوج بشدة. وبجوار هذا المنزل يوجد منزل بوتبيرن، الذي يقع في منطقة أقل ارتفاعًا، والذي قيل إلى وقت قريب إنه أكثر المنازل التي تمَّ العيش فيها في جميع أنحاء اسكتلندا. غير أنه صار مهجورًا الآن، اللهم إلا من عصافير الحسون والدوري التي تطوف حول ملحقاته.
لم يكن ويل لِيملك الأرض الخاصة بالمزرعة، بل ولم يكن ليستأجرها، إنما كان له أن يستأجر المنزل أو يحصل عليه باعتباره جزءًا من أجره كراعي أغنام؛ إذ لم يكن يسعى أبدًا وراء المتع الدنيوية.
المجد وحده هو ما كان يسعى إليه.
•••
لم يكن ويل من سكان الوادي الأصليين، وإن كان أفراد من عائلة ليدلو يسكنون هناك، وذلك منذ أن دُوِّنت سجلات الوادي الأولى. وأقدم رجل يحمل لقب العائلة هذا عرفتُه هنا وجدْتُه في سجلات المحكمة التي يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر، وكان متهمًا بقتل فرد آخر من أفراد عائلة ليدلو الآخرين. لم يكن ثَمَّةَ سجون في تلك الأيام، بل كانت هناك أبراج محصنة يُحتجز فيها بالأساس المنتمون للطبقة العليا أو أصحاب المكانة السياسية الذين يختلفون مع الحُكَّام، كما كانت هناك عمليات إعدامٍ فورية، ولكنها كانت تحدث في الغالب في أوقات الاضطرابات الكبرى كالتي حدثت أثناء الغارات الحدودية في القرن السادس عشر، حيث كان من الممكن أن يُشنق اللصوص على أبواب منازلهم، أو في ميدان سيلكيرك، كما حدث عندما أُعدم ١٦ لصًّا من لصوص الماشية، وكلهم من عائلة إيليوت، في يوم واحد. إلا أن ويل أفلت من العقاب بدفع غرامة.
قِيل إن ويل كان «واحدًا من أفراد عائلة ليدلو القدامى الذين سكنوا قرية كريك»، والذين لم أستطع معرفة أي شيء عنهم على الإطلاق، باستثناء ما عرفته عن كريك؛ فهي قرية اختفت تقريبًا، تقع على طريق روماني قد اختفى تمامًا في وادٍ من الأودية القريبة إلى جنوب إتريك. لا بد أنه انتقل عبر التلال — شأنه في ذلك شأن أي فتًى في سنوات المراهقة — باحثًا عن عمل. لقد وُلد في عام ١٦٩٥، وقتئذٍ كانت اسكتلندا لا تزال بلدًا منفصلًا، وإن كانت تدخل تحت لواء مملكة واحدة مع إنجلترا. ولا بد أنه كان يبلغ من العمر ١٢ عامًا في وقت الاتحاد المثير للجدل بين إنجلترا واسكتلندا، وصار شابًّا عند وقوع تمرد اليعاقبة الذي فشل فشلًا ذريعًا في عام ١٧١٥، وصار رجلًا في منتصف العمر عند وقوع معركة كلودن. ولا توجد أي رواية تسجِّل رأيه في هذه الأحداث، وإن كان يراودني شعور بأنه عاش حياته في عالم منعزل ومتحفِّظ يحتفظ بأساطيره وعجائبه المحلية. وكان هو نفسه جزءًا من هذه العجائب والأساطير.
•••
إنَّ أول ما حُكيَ عن ويل كانت براعته في العَدْو. وكان رعي الأغنام أول عمل يمتهنه في وادي إتريك لصالح رجلٍ يُدعى السيد أندرسون، وقد لاحظ السيد أندرسون كيف كان يجري ويل على نحوٍ مستقيم وسريع وراء الأغنام دون أن يتخذ طرقًا ملتوية عندما كان يريد الإمساك بها، وعرف من ذلك أن ويل عدَّاء سريع. وعندما جاء إلى الوادي بطل إنجليزي من أبطال العدْوِ راهن السيد أندرسون بويل ضد هذا البطل بمبلغ كبير من المال. سخر البطل الإنجليزي، وسخر مشجعوه من ذلك، وفاز ويل في السباق. وقد جمع السيد أندرسون كومة كبيرة من النقود، وكان نصيب ويل معطفًا رماديًّا وجوربًا.
قال إن هذا ليس ظلمًا؛ حيث إن المعطف والجورب كانا يعنيان له ما تعنيه كل هذه الأموال لرجل مثل السيد أندرسون.
وإليكم قصةً كلاسيكية سمعت لها رواياتٍ شتى بأسماءٍ مختلفة وجوانب مختلفة عندما كنت طفلة أترعرع في هورون بمقاطعة أونتاريو. القصة تقول إن شخصًا أجنبيًّا شهيرًا يتفاخر بقدراته جاء إلينا، إلا أنه هُزم على يد البطل المحلي الذي هو شخص طيب لم يكن يطمع حتى في الحصول على أي مكافأة.
تكرَّرت عناصر تلك القصة في قصة قديمة أخرى ينتقل فيها ويل عبر التلال حتى يصل بلدة موفات لإنجاز مهمة ما، غيرَ مدركٍ أنَّ هذا اليوم هو يوم السوق، وقد أقنعه الناس بأن يشارك في سباق عام. لم يكن يرتدي ملابس تتناسب مع السباق، وفي أثناء العدْو سقط منه سرواله الريفي، لم يعبأ بسقوطه، وشقَّ طريقه من دونه، وواصل العَدْوَ وهو لا يرتدي إلا قميصًا، وفاز بالسباق. كان ثَمَّةَ اهتمام كبير به، وتلقى دعوة لتناول العشاء في فندق البلدة مع النبلاء والنبيلات. حينها، كان من المفترض أن يكون قد ارتدى سرواله، ولكنه كان يشعر بالخجل على أي حال، ولم يقبل الدعوة مدعيًا أنه يشعر بالإحراج الشديد أمام تلك النبيلات.
ربما كان الأمر كذلك بالفعل بالنسبة إليه، غير أن إعجاب النبيلات برياضي، شاب وسيم مثله، بطبيعة الحال يُعتبر محور القصة الفاضح والممتع.
تزوَّج ويل في وقت غير معلوم لي، من امرأة تُدعى بيسي سكوت، وبدآ معًا في تكوين أسرتهما. وفي أثناء هذه الفترة تحوَّل البطل الشاب إلى رجل عادي، وإن كانت هناك أعمال بطولية أظهرت مواهبه ولا يزال يُفتخَر بها؛ فقد أُطلِقَ على إحدى البقاع على نهر إتريك «قفزة ويل» تخليدًا لذكرى قفزة قفزها لجلب مساعدة أو إحضار دواء لشخص مريض. ومع ذلك، لم يتكسَّب ويل ماديًّا من وراء أي عمل من تلك الأعمال، ويبدو أن ضغوط كسب لقمة العيش لإعالة أسرته، إضافة إلى حبه للخمور، حوَّلته إلى مهرِّب للخمور. وكان منزله في موقع مناسب يمكِّنه من استلام الخمور المهرَّبة عبر التلال من بلدة موفات. ومما يدعو للدهشة أن هذه الخمور لم تكن من الويسكي، بل كانت من البراندي الفرنسي الذي لا شك أنه كان يدخل البلد بطريقة غير قانونية عن طريق خليج سولواي، وهو الوضع الذي سيستمر على ما هو عليه بالرغم من جهود روبرت بيرنز الشاعر ومُحصل الضرائب في مواجهة هذا الفعل في أواخر ذلك القرن. وصار فوب مشهورًا بالعربدة أو على الأقل بالحفلات الصاخبة. وما زال اسمه كبطل مرتبطًا بالسلوك النبيل والقوة والكرم، ولكنه لم يَعُدْ مرتبطًا بالرزانة والوقار.
ماتت بيسي سكوت في سن صغيرة بعض الشيء، وربما بدأت هذه الحفلات بعد موتها. وأغلب الظن أن الأولاد قد نُقلوا إلى مبنًى خارجي ملحق بالبيت أو إلى الطابق العلوي المخصَّص للنوم. ولا يبدو أن الرجل قد ارتكب جرمًا كبيرًا أو خسر احترام الناس له. ومع ذلك، ربما يجدر بنا أن نشير إلى البراندي الفرنسي في ضوء المغامرات التي مرَّ بها ويل في سنوات نضجه.
•••
خرج إلى التلال والنهار يلج في الليل، وأخذ يسمع صوتًا كصوت زقزقة أو دندنة. غير أنه كان يعرف كل الأصوات التي يمكن أن تصدرها الطيور، وكان يدرك أن هذا الصوت ليس بصوت طائر. وبدا له أن هذا الصوت خرج من حفرة عميقة غير بعيدة؛ لذا أخذ يزحف ويزحف برفق إلى حافة الحفرة، ثم انبطح أرضًا، ورفع رأسه بالقدر الذي يمكِّنه فقط من رؤية ما أمامه.
لم يرَ بالأسفل سوى مجموعة من المخلوقات لم يبلغ طول أيٍّ منها طولَ طفل في عامه الثاني، إلا أنه لم يكن بينهم طفلٌ على الإطلاق؛ إنهن نساء صغيرات ذوات طلَّة جميلة ويرتدين فساتين خضراء اللون. وكن مشغولات بشِدة؛ فبعضهن يخبز الخبز في تنُّور صغير، وبعضهن يصب الخمور من براميل صغيرة في أوعية زجاجية، وغيرهن يمشطن شعر أخريات، وكنَّ يدندنَّ ويزقزقن طوال الوقت، ولا ينظرن إلى أعلى أبدًا، ولا يرفعن رءوسهن أبدًا، ولا ينظرن إلا على ما يَقُمْنَ به. لكن كلما واصل الإنصات إليهن، ظنَّ أنه يسمع شيئًا يألفه، ثم اتضح الصوت — أو الأغنية القصيرة التي كنَّ يُغَنِّينَها — أكثر فأكثر. وأخيرًا، صارت واضحة كدقات الجرس.
«ويل أوفوب، ويل أوفوب، ويل أوفوب.»
الكلمة الوحيدة التي كنَّ ينطقن بها هي اسمه. ولم تعد تلك الأغنية عذبة كما بدت له عندما سمعها لأول مرة؛ فقد صارت كلها قهقهاتٍ، غير أنها قهقهاتٌ غير لطيفة جعلت ظهره يتصبب عرقًا باردًا. وتذكَّر في الوقت نفسه أن تلك الليلة كانت ليلة عيد القديسين أو ما يُسَمَّى بالهالوين؛ وفي هذا الوقت من كل عام تفعل هذه المخلوقات ما يروق لها مع أي مخلوق بشري؛ لذا نهض وركض عائدًا إلى بيته بسرعة كبيرة لا تُمكِّن أي عفريت من اللحاق به.
وظلَّ طوال الطريق يسمع أغنية «ويل أوفوب، ويل أوفوب» تَرِنُّ خلف أذنيه مباشرةً دون أن يعلو الرنين أو يخفت أبدًا. وصل إلى البيت، ودخله وأغلق الأبواب وجمع أولاده كلهم حوله، وبدأ يصلِّي لربه بأعلى صوت، ولم يكن يسمع هذه الأغنية طوال صلاته. لكنه عندما سمح لنفسه أن يتوقف قليلًا عن الصلاة ليلتقط أنفاسه، وجدَ أن الصوت يأتي إليه من المدخنة، ومن شقوق باب البيت، بل وصار أعلى بينما تشوِّش هذه المخلوقات عليه صلاته وتخالطها، ولم يجرؤ أن يستريح حتى حلول منتصف الليل عندما دعا ربه قائلًا: «رحماك ربي!» وسكت بعدها. لم يسمع بعد ذلك صوت هذه المخلوقات أبدًا، ولو زقزقة واحدة. أما خارج البيت، فلم يزل الوقت ليلًا كأي ليلة، وكان سلام الرب يغشى الوادي من أقصاه إلى أقصاه.
•••
ثم في مرة أخرى في الصيف، ولكن في ساعة متأخرة ليلًا وبينما هو في طريقه إلى البيت بعد أن أغلق الحظيرة على الأغنام؛ ظنَّ أنه يرى بعض جيرانه على مسافة منه، وخطر بباله أنهم راجعون إلى البيت من سوق بلدة موفات، حيث كان ذلك اليوم يوم سوق موفات حقًّا؛ لذا ظنَّ أنه سوف ينتهز الفرصة ويسرع قليلًا ليتحدث إليهم ويعرف أخبارهم وكيف كان يومهم في السوق.
وما إن اقترب منهم بالقدر الكافي، حتى نادى عليهم.
لكن لم ينتبه أيٌّ منهم له؛ لذلك نادى عليهم مرة أخرى، ولكن لم يَسْتَدِرْ أو ينظر إليه أيٌّ منهم. يستطيع أن يتبيَّنهم جيدًا من ظهورهم، بملابسهم الريفية وقبعاتهم، رجالًا ونساءً بأحجامهم الطبيعية، لكنه لم يكن بإمكانه النظر إلى وجوههم؛ إذ كانوا ما يزالون يعرضون عنه. ولم تكن تبدو عليهم العجلة، بل كانوا يتلكئون ويتسامرون ويثرثرون، وكان بإمكانه سماع كلامهم وإن لم يستطع تفسير ما يقولونه على وجه التحديد.
لذا أسرعَ الخُطَى في تتبعهم، وفي النهاية ركض خلفهم حتى يلحق بهم، لكنه لم يستطع مهما زاد من سرعته، وإن كانوا لا يسرعون في خطاهم على الإطلاق، وما زالوا يتسكعون وحسب. ولم يخطر بباله — وهو مشغول بالتفكير في اللحاق بهم — ولو لبرهة أنهم غير متجهين إلى بيوتهم على الإطلاق.
إنهم كانوا لا يسيرون باتجاه الوادي، بل باتجاه وادٍ جانبي صغير وضيق بعض الشيء به جدول صغير يتدفق إلى وادي إتريك. ومع خفوت الضوء، كانت الرؤية تزداد ضبابية وتشويشًا ويزداد عددهم، وهو أمر يدعو للغرابة!
ومن سفح التلال خرج تيارُ هواءٍ بارد، وإن كان المساءُ مساءَ صيفٍ دافئ.
عندئذٍ أدرك ويل الأمر، أدرك أن هؤلاء ليسوا جيرانه، وأنهم لا يقودونه إلى أي مكان يريد أن يصل إليه، وكما ركض خلفهم من قبلُ ليلحق بهم، ها هو الآن يركض ولكن في الطريق المعاكس. ولما كانت هذه الليلة ليلة عادية وليست كعشية عيد القديسين، فلم يكن في مقدورهم أن يتعقبوه. لكن كان خوفه مختلفًا عن الخوف الذي شعر به في المرة السابقة، وتملَّكه نفس الشعور بالبرد؛ لأنه كان مؤمنًا بأنهم أشباح بشر تحوَّلوا بفِعل السحر إلى جِنٍّ.
•••
يجانبني الصواب إنِ اعتقدتُ أنَّ كل الناس كانوا يؤمنون بمثل هذه القصص، ولا شك أن لتناول البراندي دورًا في ذلك، إلا أن أكثر الناس — سواء كانوا يؤمنون بها أم لا — كانوا يسمعون هذه المخلوقات ويشعرون بخوف شديد. ربما كانوا يشعرون ببعض الفضول وتساورهم بعض الشكوك، إلا أنهم في الغالب كانوا يشعرون بذعر واضح. لم يكن حينها يتم الجمع أبدًا بين الجن والأشباح والدين تحت مسمًّى ما (ربما «القوى الروحية»)، كما جرت العادة في الوقت الحاضر. فالجنُّ لم يكن مرحًا وآسِرًا، وكان ينتمي إلى العصور السحيقة، وليس إلى الفترات التاريخية القديمة الخاصة بمعركة فلودن التي قُتل فيها كل رجال سيلكيرك، اللهم إلا مَن كان يأتي بالأنباء، أو تلك الخاصة بالخارجين عن القانون الذين كانوا يُغيرون ليلًا عبر الأراضي المتنازَع عليها بين إنجلترا واسكتلندا، أو عصر الملكة ماري — أو حتى ما قبل ذلك من عصور؛ عصر ويليام والاس، أو عصر أرتشيبالد دوجلاس، أو مارجريت سيدة النرويج — وإنها عصور الظلام بحق، ما قبل بناء سور أنطوني وما قبل وصول المبشرين المسيحيين الأوائل عبر البحر قادمين من أيرلندا. لقد كان ينتمي إلى عصور قوى الشر والفتن، ونياته كانت عادةً خبيثة، بل ومدمِّرة.
(١-٢) توماس بوستون
أقام هذا الشاهدَ جمهورٌ ممتنٌّ ومتدينٌ كنوع من التقدير لصاحب الفضيلة القَس توماس بوستون، الذي يُكِنُّ الجميع لشخصيته احترامًا جمًّا، والذي استفاد من جهوده العامة الكثيرون، والذي ساهمت كتاباته كثيرًا في ترسيخ الدين المسيحي وانتشاره.
اجْتَهِدوا أن تدخلوا من الباب الضيق؛ فإني أقول لكم إن كثيرين سيطلبون أن يدخلوا ولا يقدرون.
ولا شك أن مشاهدات ويل لم تكن مقبولة على الإطلاق بالنسبة إلى الكنيسة، ولا سيَّما خلال الجزء الأول من القرن الثامن عشر، عندما كانت الكنيسة تحظى بنفوذٍ عظيم في أبرشية إتريك.
وكان قَسُّ الكنيسة في هذا الوقت الواعظ توماس بوستون، الذي يتذكَّره الناس — هذا إن تذكَّروه أصلًا — بكتابه «الطبيعة البشرية في صورها الأربع»، والذي قِيل إنه كان يُوضع بجوار الكتاب المقدَّس في بيوت المتدينين في اسكتلندا. والمقصود بالمتدين في اسكتلندا هو ذلك الذي يتبع الكنيسة المشيخية التي كانت تفتش باستمرار في الحياة الخاصة للناس وتجدِّد إيمانهم على نحوٍ مُعذب من أجل أن يهتموا بالتدين والورع. لم يجد هؤلاء راحةً في الشعائر ولا المراسم الدينية. والصلاة لم تكن شكلية فحسب، بل شخصية كذلك ومُعذبة. وكان استعداد أرواحهم للحياة الأبدية محل شكٍّ وخطر على الدوام.
وَاصَل توماس بوستون هذا العذاب دون أن يلتمس أي هدنة لنفسه ولغيره من أبناء الأبرشية؛ إذ يتحدَّث في سيرته الذاتية عن معاناته المتكررة، وأوقات فتور إيمانه، وشعوره بالضآلة والكآبة حتى في أثناء الوعظ بالإنجيل أو في أثناء الصلاة في دراسته؛ إذ كان يتضرَّع طالبًا الرحمة والفضل من الرب. وكان يُعرِّي صدره باتجاه السماء — وإن كان على نحو رمزي على أقل تقدير — في أوقات اليأس. وكان مستعدًّا دون أي تردد أن يجرح نفسه بسَوْطٍ شائك إن كان هذا السلوك لن يجعله يتشبَّه بأفعال الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، ولن يشكِّل خطيئة أكبر.
تارةً يجيب الرب دعاءه وتارةً لا يجيب. ولم يكن شوقه للرب يفارقه أبدًا، ولم يكن أبدًا يشعر بالشبع والرضا في هذا الشأن. وكان من الممكن أن ينهض من نومه مغمورًا بالروح القُدس، ويدخل في عمليات وعْظٍ طويلة، ويرأس قداسات العشاء الرباني التي يرى نفسه فيها أنه وعاء الرب ويشهد تغير الكثير من الأرواح. غير أنه لم يكن مهتمًّا بإرجاع الفضل لنفسه في هذه التحولات، ويعلم أنه قادر تمامًا على ارتكاب خطيئة التفاخر، ويعلم أيضًا كيف يمكن أن يسحب الرب الرحمة منه فجأة.
كان يجتهد ويخطئ، ويعود للظلام واليأس مرة أخرى.
•••
في تلك الأثناء، كانت المياه تتسرب من سقف بيته، والرطوبة تنتشر في جدرانه، والمدخنة يتسرب منها الدخان، وزوجته وأبناؤه، وهو نفسه، كثيرًا ما يمرضون بالحمى. وكانوا يعانون من الْتهابات بكتيرية في الحلق وآلام روماتيزمية، بل مات بعض أبنائه. وقد وُلدت أول ابنة له وهي تعاني — على ما يبدو لي — من انشقاق العمود الفقري، وقد ماتت بعد ولادتها بقليل. وكانت زوجته تعاني اضطرابًا نفسيًّا، وعلى الرغم من أنه كان يفعل ما بوسعه لتهدئتها وتوفير سبل الراحة لها، فإنه كان يشعر بأنه مضطر أيضًا إلى توبيخها؛ لتذمرها من إرادة الرب. وكان عليه أيضًا أن يؤنِّب نفسه بعدما كان يرفع غطاء التابوت ليلقي نظرة الوداع الأخيرة على وجه ابنه المحبب إليه البالغ من العمر ثلاث سنوات. يا لها من خطيئة وضعف من جانبه أن يحب هذه القطعة الخطَّاءة من اللحم، وأن يجادل على أي نحوٍ في حكمة الرب في أخذها! لا بد أن هذا سيعقبه مزيد من الصراعات ولوم النفس والصلاة والدعاء.
صراعات ليست مع كآبة روحه فحسب، بل مع معظم زملائه من القساوسة؛ إذ صار يبدي اهتمامًا عميقًا بأطروحة اسمها «جوهر اللاهوت المعاصر». وقد اتَّهموه بأنه مؤيد لتلك الأطروحة، وأنه على شفا اعتناق فكرة الأنتينومانية (أي مناهضة الناموس)، التي كانت نتاجًا منطقيًّا لمذهب الجبرية، وهي تطرح سؤالًا بسيطًا ومباشرًا؛ ألا وهو: لماذا — إن كنت منذ خلقك واحدًا من المختارين — لا تستطيع فعل ما تريد دون محاسبة؟
لكن مهلًا، مهلًا. أما بالنسبة إلى كون المرء واحدًا من المختارين، فمن يدريه أنه كذلك؟
والمشكلة بالنسبة إلى بوستون ليست بالتأكيد هي فعل أي شيء يريده دون محاسبة، ولكنها تتعلق بالرغبة الملحَّة، الرغبة الملحَّة العظيمة، في تتبع ما تقوده إليه خطوط تفكير وتأمل معينة.
ولكن في الوقت المناسب يرجع عن الخطأ، ويكف عنه ويشعر بالأمان.
وفي خِضَم ولادة الأطفال وموت بعضهم والعناية بمن تبقَّى منهم ومشاكل السقف والمطر البارد الذي لا ينقطع؛ تغلَّب مرضٌ عصبي على زوجته، وجعلها لا تستطيع مغادرة الفراش. كان إيمانها قويًّا، ولكن به خلل في جانبٍ أساسي، حسب قوله، إلا أنه لم يذكر هذا الجانب. لقد كان يصلي معها. ونحن لا نعرف كيف كان يدير البيت. ويبدو أن زوجته — كاثرين براون التي كانت جميلة فيما مضى — لازمت الفراش لسنوات طويلة فيما عدا الفترة التي مرض فيها كل أفراد الأسرة بعدوى مؤقتة، حينها نهضت من فراشها، واعتنت بهم جميعًا دون تعب وفي حنان وبنفس القوة والتفاؤل اللذين كانت تبديهما أيام شبابها عندما وقع في حبها بوستون أول مرة. الجميع شُفِيَ من المرض لتعود هي طريحة الفراش. وعلى الرغم من تقدمها في السن، فإنها كانت ما تزال على قيد الحياة في الوقت الذي كان يُحتضَر فيه زوجها، ونأمل أن تكون قد نهضت حينها وذهبت لتعيش في بيت غير رطب مع بعض الأقارب اللطفاء في بلدة متحضرة؛ عندها سوف تحافظ على إيمانها، ولكن ربما تُنَحِّيه جانبًا بعض الشيء حتى تستمتع بقدر ضئيل من السعادة الدنيوية.
كان زوجها يعظ من نافذة حجرته عندما صار أضعف وأقرب إلى الموت، بدلًا من أن يذهب إلى الكنيسة ويصعد منبر الوعظ. وكان يعظ بشجاعة وحرارة كما كان طوال عمره، وتلتفُّ الجموع حتى تسمعه كالعادة برغم المطر.
وهذا النوع من الحياة هو الأكثر بؤسًا وكآبة من وجهة نظر غير إيمانية. من خلال وجهة النظر الإيمانية فقط، يمكن للمرء أن يجد فيها الثواب الكبير إلى جانب الصراع، والسعي الحثيث من أجل التقوى الخالصة والاستمتاع بنفحة من نفحات الرب وفضله.
لذا، يبدو غريبًا بالنسبة إليَّ أن توماس بوستون كان القَسَّ الذي كان يستمع لوعظه ويل أوفوب في كل يومِ أحدٍ في شبابه، وربما القَس الذي زوَّجه لبيسي سكوت. من المفترض أن جَدي — وهو رجلٌ شبه كافر، محبٌّ للمرح، مدمنٌ للبراندي، رجلٌ تُعقَد عليه المراهنات، رجلٌ يؤمن بالجن — قد استمع إلى قيود هذا الدين الكالفني القاسي وآماله البعيدة المَنال وآمن بها. بل عندما تتبعتْ بعضُ العفاريت ويل عشية عيد القديسين، ألم يطلب الحماية من نفس الرب، الذي كان يدعوه بوستون، بأن يرفع الأحمال عن كاهله؛ أحمال الفتور والشك والحزن؟ إن الماضي يَعِجُّ بالتناقضات والتعقيدات — التي ربما لا تختلف عن تناقضات الحاضر وتعقيداته — وإن كنَّا لا نعتقد ذلك في الغالب.
كيف يمكن لهؤلاء الناس ألا يأخذوا الدين مأخذ الجِدِّ وهو يهددهم بأن النار لن يَنْجُوَ منها أحد، وأن الشيطان يمكر بهم مكرًا شديدًا، وأنه لا يفتر عن إغوائهم، وأن أهل الفردوس قلة قليلة؟ لقد فعلوا كذلك، أخذوه بالفعل مأخذ الجِد. لقد استُدعوا ليجلسوا على كرسي الاعتراف ليعترفوا بخطاياهم ويحملوا خزيهم — عادة بسبب علاقة جنسية يشار إليها عقائديًّا بالزنا — أمام جمع من المصلين. استُدعي جيمس هوج من قَبْلُ إلى هذا المقعد مرتين على الأقل للرد على ادعاء بنتين من بنات البلدة بأنه أبوهما. وقد اعترف بسهولة بحالة واحدة، وقال في الحالة الأخرى إنه ربما يكون بالفعل أباها. (وعلى بعد ٨٠ ميلًا أو ما يقرب من ذلك ناحية الغرب، في بلدة موكلين بأيرشاير، عانى روبرت بيرنز الذي يكبر هوج بإحدى عشرة سنة، نفس الإذلال العلني.) وكان المسئولون في الكنيسة يتنقلون من بيت لآخر حتى يتأكَّدوا من عدم طبخ الأهالي يوم الأحد، ودائمًا ما يستخدمون أياديهم القاسية في عَصْرِ صدر أي امرأة يشكُّون في ولادتها طفلًا غير شرعي عصرًا عنيفًا، حتى إذا خرجت نقطة لبن من صدرها تأكدوا من أنها كذلك. إلا أن حقيقة تعاملهم مع هذا الحذر على أنه ضروري تُبيِّن أن هؤلاء المؤمنين متأثرون بالطبيعة على نحو سلبي يعوقهم عن ممارسة حياتهم بالأسلوب الصحيح، كما هو الحال مع الناس دائمًا. ويروي مسئول في كنيسة بيرنز قائلًا: «لم تحدث سوى ٢٦ واقعة زِنًا فقط منذ آخر سرٍّ مقدس.» كما لو كان هذا الرقم يُعد في واقع الأمر خطوة في الاتجاه الصحيح.
علاوة على ذلك، هؤلاء المؤمنون يتأثرون بالطبيعة أيضًا في طريقتهم في ممارسة الدين، بل ويتأثرون كذلك بنتاج عقولهم من أفكار، بالحجج والتأويلات التي من المفترض أن تُثار.
لا بد أن هذا الأمر له علاقة بكونهم أكثر أهل الريف ثقافةً وتعلمًا في أوروبا. لقد أراد جون نوكس أن يكونوا متعلمين؛ حتى يستطيعوا قراءة الكتاب المقدس، وقد قرءوه عن إيمانٍ وشَغَفٍ على حدٍّ سواء؛ كي يكتشفوا أوامر الرب وتدبيره. وقد وجدوا كثيرًا من الألغاز في هذا التدبير. شكا بعض القساوسة ممن كانوا يعيشون في زمن بوستون من الولع الشديد بالجدل الذي كان عليه أهالي الأبرشية، «حتى النساء منهم» (لم يذكر بوستون أي شيء عن هذا الأمر؛ بسبب كثرة انشغاله بلوم نفسه). إنهم كانوا لا يقبلون — في هدوء — ما جاءهم به من العظات التي كانت تستمر لساعاتٍ، ولكنهم كانوا يعتبرونها نوعًا من الغذاء الفكري، ويحكمون عليها كما لو أنهم ملتزمون بخوض نقاشاتٍ أبدية وجادة للغاية. وكانوا دائمًا ما يشعرون بالقلق حيال موضوعاتٍ في العقيدة ومقتطفاتٍ من الكتاب المقدس، وهو ما يرون أنه من الأفضل — كما يقول لهم كهنتهم — عدم الخوض فيها وتركها للأشخاص المدرَّبين على التصدي لمثل هذه الأمور. ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل إن بعض القساوسة المدرَّبين كانوا يَصِلُون في بعض الأحيان إلى استنتاجات يرفضها قساوسة آخرون. والنتيجة هي أن الانقسامات كانت تعصف بالكنيسة، وأن رجال الدين في حالة مستمرة من التناحر بعضهم مع بعض، كما اتَّضح من المشكلات التي وقع فيها بوستون. وربما كان اتهامه بأنه مؤيد لأطروحة «جوهر اللاهوت المعاصر» وبأنه متَّبِعٌ لأفكاره التي لم يستطع أن يتحاشاها هما ما جعلاه يبقى في وادي إتريك النائي ولا يُنقَل إلى مكان مريح إلى حدٍّ ما حتى يوم وفاته.
(١-٣) جيمس هوج وجيمس ليدلو
كان دائمًا يتمتَّع بشخصية فريدة ومسلِّية للغاية تتمسك بكل فكرة قديمة ومدحضة في العلم والدين والسياسة … وما من شيء أثار غضبه أكثر من النظرية التي تقول بدوران الأرض حول محورها ودورانها حول الشمس …
… وقد كان يتحدث ويقرأ عن أمريكا على مدار سنوات، حتى تملَّك الحزن منه، وفي النهاية، عندما ناهز الستِّين من عمره، شرع بالفعل في البحث عن بيت مؤقت يعيش فيه وقبرٍ يُدفن فيه في هذا العالم الجديد.
هوج، هذا الرجل المسكين، قضى معظم حياته في اختلاق الأكاذيب …
كان رجلًا مرهفَ الإحساسِ للغاية، رغم كل الهراء الذي كتبه …
كان جيمس هوج وجيمس ليدلو أبناء عمومة مباشرة، وُلِدَا وتَرَبَّيَا في وادي إتريك، وهو مكان غير ملائم لمن هم على شاكلتهما؛ أي لهؤلاء الذين يحبُّون الظهور ولا يفضلون الحياة الهادئة.
أمَّا إذا صار أحد هؤلاء مشهورًا، فتلكم قصة أخرى بالطبع. فإن كان على قيد الحياة، فإنه يُطرَد، وإن كان ميتًا، فهو مرحَّب به. أما بعد مرور جيل أو جيلين، فتلكم قصة أخرى.
هرب هوج إلى إدنبرة متقمِّصًا الدور الصعب للمهرج الساذج العبقري الريفي، ثم هرب — عندما ألَّفَ عمله «اعترافات مذنب معذور» — إلى شهرة دائمة رحبة الآفاق. أمَّا ليدلو، وإن كان يفتقد المواهب التي كان يحظى بها ابن عمه، فإنه لم يكن يفتقر — فيما يبدو — إلى الاستعراض وحب الظهور وإبراز أنه بحاجةٍ إلى مكان آخر غير حانة تيبي شيل لاستعراض مواهبه. وكان له بعض التأثير عندما رفع من شأن أكثر أفراد عائلته خضوعًا وإذعانًا وجعلهم ينتقلون للعيش في أمريكا — أو بالأحرى كندا — عندما كبر في السن، حسبما أشار هوج، حتى إنه كان على وشك الموت.
إن حب الظهور واستعراض الذات صفة مرفوضة من قِبَلِ عائلتنا. والآن عندما أتأمل هذا المصطلح، أتذكر أنهم لم يكونوا يستخدمونه كذلك على وجه التحديد، بل كانوا يستخدمون مصطلح «جذب الانتباه»؛ أي «أن يجذب المرءُ انتباه الآخرين إليه.» ولم يكن التواضع هو المقابل الدقيق لهذا المصطلح؛ بل كان الوقار وضبط النفس الشديدين، أو نوعًا من الرفض؛ رفض الشعور بالحاجة لتحويل حياتك إلى قصة من أجل الآخرين أو من أجل نفسك. وعندما أمعنت النظر في الأفراد الذين أعرِف معلوماتٍ عنهم في العائلة، بدا لي أن بعضهم يشعر بتلك الحاجة على نحوٍ كبير، لا يقاوم، بالنحو الكافي الذي يجعل الآخرين يشعرون بالإحراج والضيق. من أجل ذلك كان يجب أن يُعلن الحكم عليهم أو التحذير من أمرهم على نحوٍ متكرر.
•••
أَفَلَ عالَم ويل أوفوب تقريبًا، لمَّا صار حفيداه — جيمس هوج وجيمس ليدلو — شابَّيْن. كان هناك وعيٌ تاريخيٌّ بهذا الماضي الحديث؛ إما إعجابًا به وإما استغلالًا له، وهو أمر ممكن فقط عندما يشعر الناس بأنهم منبوذون لا محالة. وهذا بالضبط ما شعر به جيمس هوج، وإن كان ينتمي بشدة لإتريك. يرجع الفضل إلى كتاباته في كلِّ ما عرَفت عن ويل أوفوب. لقد كان هوج عالمًا بما يحدث ببلدته وفي الوقت نفسه غريبًا عنها، وكان يجتهد في صياغة قصص أهله وتسجيلها، ويحدوه الأمل إلى استثمار ذلك على نحو مربح. ولقد وجد في أمه مارجريت ليدلو — أكبر بنات ويل أوفوب — مصدرًا رائعًا في هذا الشأن، وهي التي تربَّت وترعرعت في فار-هوب. وكان هوج يتولَّى تهذيب المعلومات التي يجمعها وتجميلها، وهو نوعٌ من الكذب البارع الذي نتوقَّع من الكُتاب أن يضمِّنوه في كتبهم.
كان والتر سكوت غريبًا عن بلده، ولكن على نحوٍ مختلف؛ إذ كان محاميًا في إدنبرة ثم عُين في منصب رفيع في المنطقة التي كانت تعيش فيها عائلته. إلا أنه كان قد أدرك أيضًا — كما يفعل الغرباء في بعض الأحيان — مدى أهمية شيء كان يتلاشى. عندما أصبح القاضي المحلي لسيلكيرك شاير، بدأ يتنقل في أنحاء البلاد ليجمع الأغنيات والقصائد الشعبية القديمة التي لم تُدَوَّن من قبلُ، ونشرها في كتابه «قصائد وأغاني مناطق اسكتلندا الحدودية». أما مارجريت ليدلو هوج، فقد اشتهرت محليًّا بسبب القصائد الكثيرة التي كانت تحفظها. وأما هوج — الذي كانت عينه على الأجيال القادمة وما سيحصل عليه من مكاسب في الوقت الحاضر — فقد سعى لاصطحاب سكوت ليرى أمه.
أنشدت مارجريت كثيرًا من القصائد، بما في ذلك «قصيدة جوني أرمسترونج» المكتشَفَة حديثًا، التي قالت إنها حصلت عليها هي وأخوها «من أندرو مور العجوز، الذي حصل عليها بدوره من بيبي متلين (أو ميتلاند) التي كانت مديرة منزل أول لوردات توشيلو.»
(تصادف أن أندرو مور هذا كان خادمًا لبوستون وهو من قال إن بوستون قد «طرد الشبح» الذي ظهر في إحدى قصائد هوج. وهذا بُعدٌ جديد في شخصية القَسِّ.)
اعترَضَتْ مارجريت هوج بشدة عندما رأتِ الكتاب الذي ألَّفه سكوت عام ١٨٠٢ وبه إسهاماتها.
وأظن أنها قالت إن هذه القصائد «كُتبت كي تُنشد لا كي تُطبع، وإنها لن تُغنَّى بعد هذا اليوم على الإطلاق.»
واعترضت أيضًا قائلةً إن القصائد «لم تُدوَّن تدوينًا صحيحًا، وهجاؤها ليس سليمًا»، وإن بدا أن هذا الحكم غريب أن يخرج من شخص قُدِّم — من قِبل نفسه أو من قِبل هوج — على أنه امرأة ريفية عجوز وبسيطة لم تحصل إلا على الحد الأدنى من التعليم.
ربما كانت بسيطة وشديدة الذكاء على حدٍّ سواء. فقد كانت تعرف ماذا كانت تفعل، لكنها لم تستطع منع نفسها من الندم على ما قامت به.
«ولن تُغنَّى بعد هذا اليوم أبدًا.»
وربما كانت تستمتع بإظهار أن الأمر كان يحتاج لأكثر من كتاب مطبوع، ولأكثر من تدوين القاضي المحلي لسيلكيرك، كي يترك انطباعًا جيدًا لديها. وأظن أن كل الاسكتلنديين كذلك. كل أفراد عائلتي كانوا كذلك.
•••
وبعد مرور ٥٠ عامًا على جمع ويل أوفوب لأبنائه حوله ودعائه ليلة عيد القديسين لأن يشمله الرب بالحماية، الْتقى هوج عددًا من أبناء عمومته من الذكور — الذين لم يذكر أسماءهم — في نفس البيت المرتفع في مزرعة فوب. وكان البيت يُستخدم آنذاك كنُزُلٍ يسكنه أي راعٍ أعزب يرعى أغنامًا تحتاج إلى طعام كثير. وقد اجتمع المجتمعون في هذا البيت، لا ليسكروا ويحكوا قصصًا بل من أجل «قراءة مقالات». ويصف هوج هذه المقالات بأنها حماسية ورنَّانة. ومن تلك الكلمات ومما قيل بعد ذلك، يبدو أن هؤلاء الشباب الذين لم يخرجوا عن نطاق إتريك قد سمعوا عن عصر العقل — وإن كانوا ربما لم يطلقوا عليه ذلك — وعن أفكار فولتير ولوك وديفيد هيوم، الاسكتلندي الذي ينتمي لمنطقة الأراضي المنخفضة. نشأ هيوم في ناينويلز التي تبعد حوالي ٥٠ ميلًا عن قرية تشيرنسايد، تلك القرية التي عاد إليها مرة أخرى عندما كان يعاني من انهيار عصبي في سن الثامنة عشر، وهو أمرٌ ربما تغلَّب عليه مؤقتًا بسبب ما رآه هناك من تنقيبٍ في الحياة الشخصية للناس. وقد كان ما زال على قيد الحياة وقتَ ولادة هؤلاء الشباب.
يمكن بالطبع أن يكون تخميني في غير محله؛ إذ ربما كان ما يسمِّيه هوج مقالات هو في واقع الأمر قصص؛ حكايات عن مطاردة المعاهدين في اجتماعاتهم السرية الخارجية من قِبَل فرسان المشاة الذين يرتدون سترات حرب حمراء، وحكايات عن الساحرات وعن الموتى الذين يسيرون على أقدامهم. وكان هؤلاء الشباب يحاولون قراءة أي مُؤَلف، نثرًا كان أم شعرًا. مدارس جون نوكس أدَّت ما عليها، وقد بدأ حب الأدب والشعر ينتشر في جميع المراحل الدراسية بتلك المدارس. ولما كان هوج في أقل منزلة له، حيث كان يعمل راعيًا للأغنام على تلال نيثسدال الموحشة ويعيش في كوخ صغير يصعب العيش فيه؛ جاءه الأخوان آلان كانينجهام، الشاعر والمتدرِّب لدى البنَّاء بالحَجر، وأخوه جيمس — بعد أن اجتازا مسافة طويلة عبر الريف حتى يقابلاه ويعبرا له عن إعجابهما به. (أصاب هوج الذعر في بداية الأمر؛ إذ ظنَّ أنهما أتيا إليه يتهمانه بإثارة مشكلة ما مع إحدى النساء.) ترك ثلاثتهم الكلب هيكتور يحرس الأغنام وجلسوا يتحدثون عن الشِّعر طوال اليوم، ثم دخلوا إلى الكوخ كي يحتسوا الويسكي ويتحدثوا عن الشِّعر طوال الليل.
وقد عُقد اجتماع رعاة الأغنام شتاءً في مزرعة فوب، وهو الاجتماع الذي ادَّعى هوج أنه لم يتمكن من حضوره على الرغم من وجود مثل هذا المقال في جيبه. كان الجو دافئًا على غير العادة، إلا أن عاصفة هبَّت في هذه الليلة، وسرعان ما تبيَّن أنها أسوأ عاصفة منذ نصف قرن مضى. تجمدت الأغنام من البرد في حظائرها، وحوصرت الخيول والرجال وتجمدوا على الطرق، ودُفنت المنازل حتى أسقفها في الجليد، واستمرَّت العاصفة على مدار ثلاثة أو أربعة أيام، وهي تزمجر وتدمر، ولما انتهت، ونزل رعاة الأغنام الشباب إلى الوادي أحياءً، هدأت عائلاتهم وتنفست الصعداء، ولكنها لم تكن راضية عنهم على الإطلاق.
قالت أم هوج لابنها بوضوح إن العاصفة كانت عقابًا حلَّ بالمنطقة كلِّها بسبب العمل الشيطاني المتمثل في أي مطالعة أو مناقشة جرت في المزرعة في تلك الليلة. ولا شكَّ أن كثيرًا من الآباء ظنُّوا كما ظنَّت أمُّ هوج.
وبعد مرور بضع سنوات، كتب هوج وصفًا دقيقًا لهذه العاصفة، ونُشر هذا الوصف في مجلة «بلاكوودز ماجازين». وكانت هذه المجلة من المجلات المحبَّبة للأختين برونتي وهما صغيرتان في بيت أبيهما القسيس الكائن في قرية هاوورث، وعندما اختارت كلٌّ منهما بطلًا لتجسيده في ألعابها، اختارت إيميلي شخصية راعي أغنام إتريك، جيمس هوج (أما الأخت شارلوت، فقد اختارت دوق ويلنجتون). وتبدأ رواية «مرتفعات ويذرينج»، وهي الرواية الشهيرة لإيميلي، بوصف عاصفة هوجاء مرعبة. وكثيرًا ما تساءلتُ إن كان ثَمَّةَ رابطٌ بين هذا الوصف ومقال هوج.
•••
لا أعتقدُ أن جيمس ليدلو كان واحدًا من الموجودين في مزرعة فوب في تلك الليلة؛ فخطاباته التي قرأتها له لا توحي بأن له عقلًا كعقل المتشككين أو المُنظِّرين أو الشعراء. وبالطبع، فإن الخطابات التي قرأتُها كتبَها عندما صار عجوزًا. فالناسُ يتغيَّرون بلا شك.
ولا شَكَّ أنه كان خفيف الظل في أول لقاء لنا معه هنا — حسب رواية هوج — في حانة تيبي شيل (التي ما زالت موجودة، والتي تبعد عن مزرعة فوب مسافةَ أكثر من ساعةٍ مشيًا عبر التلال، تلك المزرعة التي ما زالت موجودة أيضًا، وقد تحوَّلت الآن إلى كوخ صغير عام على ممر ساوثذرن أبلاند واي للمشي). وكان يقدم عرضًا فنيًّا قد يراه البعض نوعًا من الكفر. لقد كان نوعًا من الكفر، ومحفوفًا بالمخاطر، ومضحكًا. كان يركع على ركبتيه ويصلي للكثير من الحضور. كان يطلب العفو ويتحدث عن الخطايا المُعلَّق أمر توبتها، بادئًا كلًّا منها بعبارة «إنْ صَحَّ أنَّ …»
««إنْ صَحَّ أنَّ» الطفلَ قد وُلِدَ لأسبوعين بعد أن أصبح لزوجة فلان طلَّة مبهرة عن كذا، فهل سترحم يا ربي كلَّ الضالعين …؟»
««إنْ صَحَّ أنَّ» فلانًا غشَّ فلانًا في عشرين قطعة من الفضة في سوق الأغنام الأخيرة بقرية سانت بازويلز، فندعوك يا رب، على الرغم من هذا الفِعل الشيطاني، أنْ …»
لم يكن بالإمكان منعُ بعض مَنْ ذَكَرَ أسماءهم من الهجوم عليه، واضطر أصدقاؤه إلى إخراجه قبل أن يمسه سوء.
ربما كان في هذا الوقت أرملًا، رجلًا حرًّا بلا قيود، أفقر من أن ترضى أي امرأة بالزواج منه. أنجبت له زوجته بنتًا وخمسة أولاد ثم ماتت وهي تضع مولودها الأخير. سمَّى البنت ماري، وسمى الأولاد: روبرت، وجيمس، وأندرو، وويليام، ووالتر.
عندما كان يكتب لجمعية مختصة بالهجرة إبَّان اندلاع معركة ووترلو، كان يقدِّم نفسه على أنه شخص مناسب للهجرة؛ لأن لديه خمسة أولاد أقوياء كان سيصطحبهم إلى العالم الجديد. لا أعرف إن كان قد حصل على مساعدة للهجرة أم لا. ولكنه على الأرجح لم يحصل؛ لأننا سمعنا بعد ذلك أنه كان يمرُّ بمشاكل في جمع تكاليف السفر. ثم حلَّ الكساد بعدما وضعت الحروب النابليونية أوزارها، وانهارت أسعار الأغنام. ولم يعد يتفاخر بأولاده الخمسة. رحل الابن الأكبر روبرت إلى منطقة الأراضي المرتفعة الاسكتلندية، وذهب جيمس إلى أمريكا — التي كانت كندا جزءًا منها آنذاك — بمفرده تمامًا، ويبدو أنه لم يرسل خطابًا يخبر فيه أباه عن مكانه أو عما يفعل. (كان في نوفا سكوشا ويعمل معلمًا بإحدى المدارس في منطقة اسمها إيكونومي، وإن كان لا يتمتع بأي مؤهلات تؤهله لشغل هذه الوظيفة باستثناء ما تعلمه في مدرسة إتريك وربما ذراعه اليمنى القوية.)
أما ابنه قبل الأخير ويليام — الذي كان ما زال صبيًّا لم يتجاوز مرحلة المراهقة بعدُ، والذي سيصبح جدَّ جدي فيما بعد — فقد رحل أيضًا. ولما سمعنا عنه بعد ذلك، عرفنا أنه استقرَّ في منطقة الأراضي المرتفعة الاسكتلندية، وكان عاملًا في إحدى مزارع الأغنام الجديدة التي أُخْلِيَتْ من المستأجرين. وكان يمقت مسقط رأسه مقتًا شديدًا، وهو ما ظهر في خطابه إلى الفتاة التي تزوَّجها فيما بعد، الذي قال فيه إنه لا يمكن أن يفكر في العيش مرة أخرى في وادي إتريك.
ويبدو أن الفقر والجهل أصاباه بالحزن الشديد؛ فالفقر بدا له متعنتًا، والجهل — حسبما رأى — كان جاهلًا حتى بوجوده. كان رجلًا عصريًّا.