المنظر من صخرة القلعة
كان أندرو يبلغ من العمر عشر سنوات عندما زار إدنبرة لأوَّل مرة في حياته. في ذلك الوقت، سار أندرو بصحبة والده ورجال آخرين في شارع زَلْقٍ أرضيته سوداء. وكانت السماء تمطر ورائحة الدخان المنبعثة من المدينة تملأ الهواء، وكانت الأبواب النصفية مفتوحة وتظهر منها الأجزاء الداخلية للحانات المضاءة بنور نيران المدافئ التي كان يتمنى أن يدخلها؛ لأنه كان مبَلَّلًا تمامًا بالماء. ولكنهم لم يدخلوها، بل توجهوا إلى مكان آخر؛ إذ كانوا في بداية فترة ما بعد الظهيرة في ذلك اليوم في مكان يشبه تلك الحانات، إلا أنه لم يكن إلا فجوة داخل جدار بها بعض ألواح الخشب التي توضع عليها الزجاجات والكئوس والعملات المعدنية. وقد حُشر أكثر من مرَّة بين الجالسين؛ مما كان يؤدي إلى دفعه خارج هذا المكان إلى الشارع، ومنه إلى البِركة الصغيرة التي صنعتها قطرات الماء المتساقطة من الرف الموجود أعلى المدخل. ولكي يمنع حدوث ذلك، زجَّ بنفسه تحت العباءات والسُّترات المصنوعة من جلد الأغنام وحشر نفسه بين الثَّمَلة وتحت أذرعهم.
تَفاجَأ بعدد الناس الذين بدا أن والده كان يعرفهم في مدينة إدنبرة. وربما ظنَّ أن الناس الذين يجلسون في الحانة غرباء بالنسبة إليه، لكن اتضح له أن الأمر ليس كذلك. كان صوت أبيه هو الأعلى بين كل الأصوات الغريبة المجادلة والهائجة. قال أبوه: «أمريكا!» ثم ضرب بكفه على أحد الألواح الخشبية ليجذب انتباه من حوله، وهو نفس الشيء الذي اعتاد أن يفعله في بيته. سمع أندرو هذه الكلمة بنفس هذه النبرة قبل فترة طويلة من إدراكه أنها أرضٌ تقع عبر المحيط. كانت هذه الكلمة تُقال من باب التحدي وباعتبارها حقيقة لا جدال فيها، لكنها كانت تُقال أحيانًا — في غياب والده — على سبيل التهكم والمزاح. كان أخواه الأكبر سنًّا يسأل كلٌّ منهما الآخر قائلًا: «هل ستذهب إلى أمريكا؟» عندما يرتدي أحدهما وشاحه ليخرج ويؤدي عملًا ما كأن يئوي الأغنام إلى الحظيرة؛ أو «لماذا لا تذهب إلى أمريكا؟» عندما يدخلان في جدال ويريد أحدهما أن يُظهر الآخر على أنه أحمق.
كان إيقاع صوت أبيه في كلامه الذي تلا هذه الكلمة إيقاعًا مألوفًا للغاية، وقد طغى الدخان على أعين أندرو حتى إنه لم يستغرق وقتًا طويلًا قبل أن ينام واقفًا. استيقظ على وقع تدافع عدد من الأشخاص أثناء خروجهم من المكان وكان أبوه واحدًا منهم. قال أحدهم: «أهذا ولدك أم هو عابر سبيل دخل إلى هنا حتى يسرقنا؟» فما كان من والده إلا أن ضحك ومسك يده وبدآ في الصعود. تعثَّر رجل ووقع آخر عليه وسبَّه. مرَّرَتِ امرأتان سَلَّتَيْن على الجمع بازدراءٍ شديد ليضعوا فيهما النقود، وأطلقتا بعض التعليقات بكلام غير مألوف لم يفهم منه أندرو سوى عبارتي: «أجسام جميلة» و«ممرات عامة للمشاة.»
ثم ذهب أبوه ومن معه من الأصدقاء إلى شارع أوسع بكثير مرصوف بقوالب كبيرة من الحَجر، وكان في حقيقة الأمر عبارة عن ساحة. استدار الأب عندئذٍ وتوجَّه بالحديث إلى أندرو.
ثم قال: «أتعلم أين أنت يا بُني؟ أنت في ساحة القلعة، قلعة إدنبرة التي ظلَّت صامدة على مدار عشرة آلاف عام، وسوف تظل صامدة لعشرة آلاف عام أخرى. وقعت ها هنا أحداث شنيعة. كانت الدماء تسيل على هذه الأحجار.» ثم قال ذلك رافعًا رأسه حتى يصغي الجميع إلى ما يقول: «أتعلمون ذلك؟»
ثم أضاف: «إن الملك جيمي هو مَنْ دعا نبيلي دوجلاس إلى العشاء معه، وعندما جلسا واطمئنَّا في جلستهما، قال لرجاله: أوه، نحن لا نرغب في العشاء معهم، خذوهم إلى الساحة واقطعوا رءوسهم. وقد فعلوا. كل هذا حدث ها هنا في هذه الساحة التي نقف عليها الآن.»
ثم واصل حديثه قائلًا: «غير أن الملك جايمي مات متأثرًا بالجُذام.» قال ذلك متنهدًا ثم متأوِّهًا؛ مما جعل الجميع يهدءون ليفكروا في هذا المصير.
ثم هزَّ رأسه.
ثم قال: «آه، لا، ليس هو. إنه الملك روبرت ذا بروس من مات وهو أبرص. صحيح أنه مات ملكًا، لكنه مات وهو أبرص أيضًا.»
لم يستطع أندرو أن يرى شيئًا سوى أسوار حجرية كثيرة وبوابات مؤصدة، وجنديًّا يرتدي سترة حمراء ويسير ذهابًا وإيابًا. على أي حال، لم يمهله أبوه كثيرًا من الوقت حتى يتأمل المكان، ودفعه إلى الأمام، ثم قال لمن معه أثناء عبور ممر مقنطر: «أخفضوا رءوسكم أيها الرجال! فقد كان الرجال في ذلك الوقت صغار الحجم وقصار القامة، مثلهم مثل بوني الفرنسي (نابليون)، وكان ثَمَّةَ قتال وتشاحن كبيران بين هؤلاء الرجال الضئيلي الأجسام.»
كانوا يصعدون درجاتٍ حجرية غير مستوية، يبلغ ارتفاع بعضها ارتفاع ركبتي أندرو، الذي كان عليه أن يزحف من حين لآخر، داخل ما اعتقد أنه برج بلا سقف. صاح أبوه قائلًا: «هل الجميع معي الآن؟ هل الجميع يصعدون معي؟» وردَّت عليه أصواتٌ قليلة متفرقة. لكن تكوَّن لدى أندرو انطباع بأن عدد من كانوا يتبعون أباه ليس كما كان أثناء سيرهم معه في الشارع.
تسلَّقوا إلى أن وصلوا إلى دَرَج دوَّار، وفي نهايته ظهرت صخرة جرداء، جرفٌ صخري، تنحدر عنده الأرض انحدارًا شديدًا. وكان المطر قد توقف عن الهطول بحلول ذلك الوقت.
قال والد أندرو: «آه، قد وصلنا. والآن أين كلُّ مَنْ كانوا يسيرون في أعقابنا وصولًا إلى هنا؟»
ردَّ عليه أحد الرجال الذين وصلوا توًّا إلى القمة: «ثَمَّةَ اثنان أو ثلاثة منهم انسلُّوا حتى يلقوا نظرة على مدفع ميج.»
قال والد أندرو: «آلات الحرب! كل ما يريدون أن يروه هو آلات الحرب. لا تدعهم يذهبوا حتى لا ينسفوا أنفسهم.»
وقال آخر وهو يلهث: «الأرجح أنه ليست لديهم القوة التي تمكِّنهم من صعود الدَّرَج.» فردَّ الأول ضاحكًا: «إنهم يخافون من صعود كل هذا الدَّرَج حتى يصلوا إلى هنا. إنهم يخافون من السقوط من هذا المكان المرتفع.»
صعد رجل ثالث — وكان آخرهم — وأخذ يترنَّح عبر الجرف الصخري كما لو كان متعمِّدًا ذلك.
ثم صرخ قائلًا: «أين هو إذن؟ ألم نصل إلى مقعد آرثر؟» ردَّ والد أندرو قائلًا: «كلا، لم نصل. انظر خلفك.»
ها هي الشمس قد أشرقت الآن لتتألَّق فوق مجموعة المنازل والشوارع الحجرية الموجودة أسفلهم، وكذلك فوق الكنائس التي لم تصل قممها المستدقة إلى هذا الارتفاع، وبعض الأشجار الصغيرة والحقول، ومساحة فسيحة من الماء بلون الفِضَّة. ووراء هذا كله أرضٌ لها لون أخضر باهت وأزرق يميل إلى الرمادي، بعضها يصل إليه ضوء الشمس والبعض الآخر يغشاه الظلُّ، وهي أرضٌ باهتٌ لونها كالضباب، تتوارى في غيابات السماء.
قال والد أندرو: «ألم أقل لكم؟ إنها أمريكا. هذا ليس سوى جزءٍ صغير منها؛ شاطئها فقط. هناك يجلس كل رجل وسط أملاكه، حتى المتسوِّلون يتنقلون من مكان لآخر مستخدمين العربات.»
قال الرجل الذي توقَّف عن الترنُّح: «حسنًا، لا يبدو لي أن البحر عريض جدًّا بقدر ما ظننت. ولا يبدو أنه سوف يستغرق منك أسابيع حتى تعبره.»
ردَّ الرجل الواقف بجوار والد أندرو: «إن هذا هو تأثير الارتفاع الذي نحن عليه الآن. إذ إن هذا الارتفاع يجعل عرض البحر يبدو أصغر.»
ردَّ والد أندرو قائلًا: «إنه يوم مثالي لرؤية هذا المنظر. فكَمْ مرة يمكن للمرء أن يصل إلى هذا الارتفاع وما يرى إلا الضباب!»
ثم استدار ووجَّه كلامه إلى أندرو قائلًا: «ها قد وصلت يا بُني، وها أنت تنظر إلى أمريكا. اللَّهم هَبْ له يومًا يراها من مسافة أقرب ويتفقدها ويعايشها بنفسه.»
•••
ذهب أندرو إلى القلعة مرة واحدة منذ ذلك اليوم وبصحبته مجموعة من الفتية من إتريك كانوا يريدون جميعًا رؤية مدفع مونس ميج الكبير. لكن لم يعد شيء — على ما يبدو — في نفس مكانه آنذاك، ولم يستطع أندرو أن يجد الطريق الذي اتخذوه من قبل حتى يصعدوا إلى الصخرة. بل رأى مكانين مغلقين بألواح، أحدهما قد يكون هذا الطريق. غير أنه لم يحاول أن ينظر عبر أيٍّ منهما؛ إذ لم يكن يرغب في إخبار من معه عما يبحث عنه. وحتى عندما كان عمره عشر سنوات، أدرك أن الرجال الذين كانوا مع والده آنذاك كانوا سكارى، وإذا لم يكن يدرك أن والده كان ثَمِلًا؛ نظرًا لثبات خُطَى والده وعلمه بما يفعل وسلوكه القيادي، فقد كان يدرك بلا شك أن شيئًا ما ليس صحيحًا. كان يعلم أنه لم يكن ينظر إلى أمريكا، وإن كان هذا قد حدث قبل سنوات قليلة من إلمامه بالخرائط بالقدر الذي يكفي لأن يعرف أن ما كان ينظر إليه هو مقاطعة فايف.
ومع ذلك، لم يكن يعرف إن كان هؤلاء الرجال الذين قابلهم في الحانة كانون يهزءون بوالده أم أن والده كان يمارس خدعة من خدَعِه عليهم.
•••
جيمس الأب، وأندرو، ووالتر، وأختهم ماري، وأجنيس زوجة أندرو، وجيمس الابن — ابن أندرو وأجنيس — الذي لم يبلغ عامه الثاني بعد.
ركب كل هؤلاء لأول مرة في حياتهم سفينة، وذلك من ميناء ليث في الرابع من يونيو عام ١٨١٨.
ذكر جيمس الأب هذه الحقيقة للشخص المسئول عن التحقق من أسماء الركَّاب على ظهر السفينة.
قال له: «إنها أول مرة في حياتي كلها. نحن من وادي إتريك، إنه جزء غير ساحلي من هذا العالم.»
عاجلهم الرجل بكلمة غامضة، غير أنها كانت واضحة في معناها؛ قال لهم: «تحركوا للأمام!» ووضع علامة على أسمائهم. تحركوا بالفعل للأمام أو دُفعوا للأمام، وكان جيمس الابن محمولًا على خصر ماري.
قال جيمس الأب: «ما هذا؟» في إشارة منه إلى تزاحم الناس على ظهر السفينة. وتساءل: «أين سننام؟ ومن أين جاء كل هؤلاء الأوباش؟ انظر إلى وجوههم، هل هم من الزنوج؟»
قال ابنه والتر: «أغلب الظنِّ أنهم سكَّان منطقة الأراضي المرتفعة من السود.» كانت هذه مزحة تَمْتَمَ بها حتى لا يسمعه والده؛ حيث كان هؤلاء من الذين كان يحتقرهم أبوه.
ثم وَاصَل الأب حديثه قائلًا: «الناس ها هنا كثيرون للغاية. السفينة ستغرق.»
ردَّ والتر — وبصوت عالٍ هذه المرة — قائلًا: «لا، لا تغرق السفن في العادة بسبب كثرة الموجودين عليها. هذا ما كان يفعله ذلك الرجل هناك؛ كان يُحصي الركاب.»
لا يكاد يُوجد على ظهر السفينة مَنْ يحاول التصرف بتكلُّف سوى هذا الفتى البالغ من العمر سبعة عشر عامًا، وقد أخذ يعارض والده. ويبدو أن التعب والدهشة وثِقل المعطف الذي كان يرتديه جيمس الأب منعه من أن يصفع هذا الفتى.
لقد علمت العائلة كل ما يتعلَّق بالوجود والتصرف على متن السفينة. وكان جيمس الأب العجوز هو مَنْ أخبرهم بكل هذه المعلومات؛ إذ كان هو الشخص الوحيد الذي يعرف كل شيء عن المؤن، وأماكن المبيت، وأصناف البشر التي قد تسافر على متن هذه السفن؛ الاسكتلنديين والأشخاص المحترمين فقط، وليس سكان منطقة الأراضي المرتفعة الاسكتلندية أو الأيرلنديين.
غير أنه صرخ الآن قائلًا إن السفينة تشبه سِرْبَ نحلٍ تَكَالَبَ على جُثَّة أسد.
ثم أضاف: «هذه مصيبة، مصيبة بالفعل. أوه، هذا ما دعانا إلى أن نترك وطننا.»
ردَّ أندرو: «لم نتركه بعد. ما زال ميناء ليث باديًا لنا. حَرِيٌّ بنا أن ننزل لأسفل لنبحث عن مكان نمكث فيه.»
وهنا ظهر المزيد من الامتعاض. الأَسِرَّة ضيقة، ما هي إلا ألواح خشبية عليها فراش خشن وشائك، قماشه مصنوع من شعر الخيول.
قال أندرو: «أفضل من لا شيء.»
«أوه، لم يخطر ببالي قط أن نأتيَ إلى هنا، على ظهر هذا القبر العائم.»
قالت أجنيس في نفسها: ألا يُسْكِته أحدٌ؟ سوف يستمر على هذا المنوال، كما لو كان واعظًا أو معتوهًا، وهذا هو الحال الذي يكون عليه عندما تأتيه النوبة. لم تكن باستطاعتها تَحَمُّل هذا؛ فحجم الألم والمعاناة الذي كانت تشعر به أكبر ممَّا يمكن أن يدركه.
قالت: «حسنًا، هل سنجد مكانًا للمبيت هنا أم لا؟»
علَّق بعض الناس أَوْشِحَتَهم وشالاتهم حتى يصنعوا أماكن شبه خاصة لعائلاتهم وذويهم. وما كان منها إلى أن خلعت ما تلبسه من لفاح فوق ملابسها وفعلت مثلما فعلوا.
كان جنينها يتحرك حركاتٍ عنيفة في بطنها، ووجهُها تخرجُ منه الحرارة كما تخرج من قطعة فحمٍ مشتعلة، ورِجلاها كانتا ترتجفان، واللحم المنتفخ الموجود بينهما — الشفرتان اللتان سوف يندفع من خلاهما قريبًا جنينها ليأتي إلى الوجود — كان مصدرًا لآلام شديدة. لعلَّ أمها كانت تعلم ما كان ينبغي عليها فعله في مثل هذه الظروف؛ إذ لعلها كانت تعلم أيُّ أنواع الأعشاب يجب أن تهرسها حتى تصنع منها لبخة مسكِّنة لهذه الآلام.
ولما تذكَّرتْ أمها، تملَّكها هذا العناء والشقاء، حتى إنها كانت تريد أن تركل أي شخص.
نشر أندرو وِشاحه حتى يصنع مقعدًا مريحًا لوالده. جلس الرجل العجوز وتأوَّه ثم وضع يديه على وجهه حتى تخرج كلماته وكأنها تخرج من أعماقه.
ثم قال: «لن أرى المزيد من هذا بعد الآن. ولن أُصغيَ إلى أصواتهم العالية أو كلماتهم الشيطانية. ولن أُدْخِلَ في جوفي أي شيء — ولو طعامًا قليلًا — حتى أرى شواطئ أمريكا.»
ويبدو أن أجنيس كانت تقول في نفسها إنه كان لديهم نفس هذا الشعور.
لماذا لم يتحدث أندرو صراحةً إلى والده ويذكِّره بِمَن كان صاحب هذه الفكرة ومَن بالغ في الحديث عن الأمر واستدان وتوسَّل حتى يصلوا إلى ما هم فيه الآن؟
لم يكن أندرو ليفعل، ووالتر كان يمزح فقط، أما ماري، فقلَّما كانت تنبس بكلمة في وجود أبيها.
انحدرت أجنيس من عائلة كبيرة من النسَّاجين ينتمون إلى بلدة هويك، يعملون الآن في مصانع بعد أن ظلوا يعملون لأجيالٍ في المنازل. ولما كانوا يعملون في هذه البلدة، فقد تعلَّموا كلَّ فنون الجدال والتعامل مع الآخرين وَوَضْع الآخرين في حجمهم الحقيقي والنجاة في المواجهات والمواقف الصعبة. غير أن الدهشة كانت لا تزال تعتريها من طباع أفراد عائلة زوجها القاسية وخنوعهم وسكوتهم. ظنَّت منذ البداية أنهم صنف غريب من البشر، وكانت ما زالت تظن بهم هذا الظن. هم كانوا لا يقلون فقرًا عن عائلتها، غير أنهم كانوا يتصورون أنهم أفضل من الآخرين. ما الذي كان لديهم لدعم هذا التصور؟ كان الرجل العجوز أضحوكة في حانة بلدته على مدار أعوام عديدة، وابن عمهم كان شاعرًا كذوبًا يرتدي ثيابًا مهترئة، واضطر للانتقال إلى نيثسدال عندما لم يجد أحدًا في إتريك يثق به ويوليه رعي الأغنام. تَرَبَّوْا كلهم على أيدي ثلاث من العمات اللاتي كُنَّ يُشْبِهْنَ الساحرات، واللاتي كُنَّ يفزعن من الرجال لدرجة أَنَّهُنَّ كُنَّ يَجْرِين ويَخْتَبِئْن في حظيرة الأغنام إن مرَّ رجل من غير رجال العائلة بالقرب منهن على الطريق.
كما لو لم يكن من المفترض من الرجال أن يكونوا هم مَن يهربون منهن.
عاد والتر بعدما حمل مقتنياتهم الثقيلة ووضعها في مكان ما في باطن السفينة.
قال والتر والدهشة تعتريه: «إنكم لم تَرَوا مثل هذا الجبل من الصناديق والحقائب وأجولة الطعام والبطاطس في حياتكم أبدًا. على المرء أن يتسلق كل هذه الأكوام حتى يصل إلى أنبوب المياه. ولا يسع المرء إلا أن يسكب الماء في طريق عودته، وهو ما سوف يؤدي إلى بلل الأجولة وعطب ما بها.»
قال أندرو: «لم يكن عليهم جلب كل هذه الأشياء. ألم يتعهدوا بأن يطعمونا عندما سددنا لهم قيمة الرحلة؟» رد الرجل العجوز قائلًا: «بلى، ولكن هل من الملائم لنا أن نأكل؟»
قال والتر، الذي ما زال يحافظ على حالته المزاجية المازحة من أي شيء: «إذن، حسنًا فعلتُ أنْ أحضرتُ قِطع الكعك معي.» نَقَر بإحدى قدميه على الصندوق المعدني الصغير والمرتَّب والمملوء بكعك الشوفان الذي أعطته إياه عمَّاته باعتباره هدية خاصة؛ لأنه كان الابن الأصغر، ولأنهن كنَّ لا يزلن ينظرن إليه على أنه يتيم الأم.
قالت أجنيس: «ستدرك معنى السعادة عندما نتضور جوعًا.» كان والتر كالبلاء بالنسبة لها، شأنه في ذلك شأنه الرجل العجوز. كانت تعرف أنه على الأرجح لا يوجد أي احتمال بأن يتضوروا جوعًا؛ لأن أندرو كان يبدو ضَجِرًا فقط وليس قَلِقًا. وبطبيعة الحال كان من الصعب أن يتسلل القلق إلى أندرو بسهولة. وبدا أنه كان غير قَلِقٍ عليها؛ لأنه فكَّر أول ما فكر في أن يوفِّر مقعدًا مريحًا لوالده.
•••
عادت ماري بجيمس الابن مرة أخرى إلى سطح السفينة؛ إذ استشفَّت أن الخوف قد انتابه في هذا المكان شبه المظلم بأسفل. فلم يكن ينبغي له أن يتذمَّر أو يشكو؛ فهي كانت تدرك مشاعره من طريقة دفع ركبتيه الصغيرتين في خصرها.
تَمَّ لَفُّ أشرعة السفينة بإحكام. قالت ماري وهي تشير إلى أحد البحارة بأعلى السفينة وهو مشغول بتجهيز السفينة وربط الصواري والقلوع: «انظر إلى أعلى، انظر إلى أعلى.» وأصدر الطفل الذي كان محمولًا على خصرها صوتًا أشبه بصوت طائر. قالت: «البَحَّار-صو صو، البَحَّار-صو صو.» قالت المسمَّى الصحيح لوظيفة هذا الرجل، وهي بَحَّار، ولكنها استخدمت كلمته هو التي كان يعبِّر بها عن الطائر. لقد كانت تتواصل معه بلغة نصفها من اللغة العادية ونصفها الآخر من ابتكاره هو. كانت تعتقد أنه أحد أمهر الأطفال الذين وُلدوا في العالم بأسره. ولأنها كانت أكبر الأبناء سنًّا في عائلتها، ولأنها كانت الفتاة الوحيدة بينهم؛ فقد كانت تعتني بكل إخوتها وترعاهم، وكانت فخورة بهم جميعًا في السابق، لكنها لم ترَ طفلًا كهذا الطفل. لا أحد غيرها كان يعرف مدى براعته واستقلاليته وذكائه؛ فالرجال لا يهتمون كثيرًا بالأطفال في هذه السن الصغيرة، وأمه أجنيس لا صبر لها معه.
كانت أجنيس تقول له: «تَحَدَّثْ كما يتحدث البشر!» وإن لم يفعل ذلك، كانت تضربه. وكانت تقول له: «ماذا أنت؟ هل أنت من البشر أم من العفاريت؟»
كانت ماري تخشى من طبع أجنيس، ولكنها نوعًا ما كانت لا تلومها على ذلك؛ إذ كانت تظن أن النساء اللائي مثل أجنيس — سواء كُنَّ زوجاتٍ أم أمهاتٍ — يَعِشْنَ حياة عصيبة؛ أولًا، فيما يتعلق بما يفعله الأزواج معهن — حتى وإن كانوا في مثل طيبة أندرو — وثانيًا، بما يجدن من الأطفال عند ولادتهم. لم تكن لتنسى أمها التي لازمت الفراش وفقدت عقلها من الحمى، ولم تستطع التعرف على أيٍّ منهم حتى أتاها الموت بعد ثلاثة أيام من ولادة والتر. وكانت تصرخ خوفًا من الإناء الأسود المعلق فوق المدفأة؛ لأنها كانت تظن أنه مليء بالشياطين.
يُطلق إخوة ماري عليها «ماري المسكينة». وفي واقع الأمر، أدَّى خنوع الكثير من النساء وضعفهن في عائلتهم إلى إلحاق هذه الكلمة بأسمائهن التي أعُطين إياها عند تعميدهن؛ وهي الأسماء التي غُيرت إلى أسماء أقل قبولًا واحترامًا. فصار اسم إيزابيل تيبي المسكينة، ومارجريت ماجي المسكينة، وجين جيني المسكينة. وكان الناس في إتريك يعتقدون أن جمال المظهر وطول القامة أمران يخصان الرجال فقط.
تبلغ ماري من الطول أقلَّ من خمس أقدام، ولها وجه مشدود قليلًا، وذقن ناتئ، وجِلْد معرَّض دومًا للإصابة بحالات طفح الْتهابي لا يزول إلا بعد مرور فترة طويلة. عندما يتحدث إليها أحد، يجد فمها ينتفض كما لو أن الكلمات امتزجت كلها بلعابها وأسنانها الصغيرة المعوَجَّة، ويكون رَدُّها عبارة عن كلام مختلط بالرذاذ، وكانت نبرة صوتها منخفضة وكلماتها متلعثمة جدًّا حتى يصعب على الآخرين ألا يظنوا أنها متأخرة عقليًّا. كما كانت تعاني من صعوبة بالغة في النظر إلى وجوه الآخرين أثناء الحديث معهم، حتى مع أفراد عائلتها. وكانت لا تقدر على أن تتحدث حديثًا متسقًا وواضحًا على نحوٍ ما إلا عندما ترفع الولد الصغير إلى أعلى خصرها النحيف، وعندها يكون معظم كلامها موجهًا إليه.
أخذت تتساءل: من أي منطقة من البلاد، بل من العالم، يمكن أن يكون قد جاء هذا الرجل؟ ثم أدركت أنها كانت تتحدث لأول مرة في حياتها مع شخص غريب. ولولا ما كانت تجده من صعوبة في فَهْم ما كان يقوله، لتمكَّنت من الحديث إليه بسهولة أكبر مما لو كانت تتحدَّث إلى جارٍ لها في إتريك أو حتى إلى والدها.
سمعت صياح بقرة قبل أن يكون بإمكانها رؤيتها. أخذ احتشاد الناس من حولها ومن حول جيمس يزداد ويشكل سورًا من أمامها ويحشرها من خلفها. ثم سمعت صوت صياح بقرة في السماء، وعندما نظرت إلى أعلى، رأت بقرةً بُنِّيَّة اللون معلقة في الهواء موضوعة في قفص من الحبال، وهي ترفس وتزمجر على نحوٍ جامح. البقرة مربوطة في خطَّاف على ونش كان يسحبها الآن بعيدًا عن الأنظار. والناس من حولها كانوا يصيحون ويصفقون. تحدَّث طفل بصوت عالٍ باللغة التي كانت تفهمها، وكان يريد أن يعرف إن كانوا سيلقون بالبقرة في البحر أم لا. ردَّ عليه رجل بالنفي، وقال له إنها سوف تسافر معهم على سطح السفينة.
«هل سيحلبونها إذن؟»
ردَّ الرجل زاجرًا: «نعم، الْزمِ الصمت! نعم، سيحلبونها.»
وجاء صوت رجل آخر ليهيمن بصخب على صوت هذا الرجل، وقال: «سوف يحلبونها بعنف لدرجة أنهم سيضربونها بالمطرقة حتى تنتج المزيد من اللبن، ومن ثم، ستحصلون على بودنج الدم كطعام على العشاء.»
والآن نتابع الدجاج وهو يتأرجح في الهواء داخل الأقفصة، وهو يصيح ويرفرف بجناحيه في محبسه وينقر بعضه بعضًا متى استطاع حتى خرج بعض الريش وتهاوى في الهواء إلى أسفل. وبعد ذلك، رُفِعَ خنزير مربوط كما رُفِعت البقرة، وكان يصيح بصوت بشري معبرًا عن وجعه وحزنه، ويتغوَّط بقوة في الهواء حتى ارتفع صياح الناس من أسفله غضبًا وفرحًا، حسب مكانهم بين هؤلاء الذين وقع عليهم غائط الخنزير أو بين هؤلاء الذين رأوا آخرين وقد وقع عليهم هذا الغائط.
ضحك جيمس أيضًا وقد تعرف على غائط الخنزير وصاح معبرًا عن ذلك بكلمته الخاصة، ألا وهي «كِخ».
ربما تذكَّر كل هذا في يوم ما، وقال في نفسه: «لقد رأيت بقرة وخنزيرًا يطيران في الهواء.» وربما تساءل إن كان هذا حلمًا. ولن يكون معه أحد في ذلك الوقت — هي لن تكون معه بالتأكيد — لإخباره بأن ذلك لم يكن حلمًا، وأنه حدث بالفعل على سطح السفينة. سوف يعرف أنه كان على متن سفينة في يوم من الأيام لأنه سيُقال له هذا، لكن ربما لن يرى سفينة مثل هذه السفينة مرة أخرى في حياة اليقظة. لم تكن تعرف إلى أين سيذهبون عندما يصلون إلى الجانب الآخر من البحر، لكنها تتخيَّل أنه سيكون مكانًا داخليًّا وسط التلال، مكانًا يشبه إتريك.
لم تكن تظن أنها سوف تعيش طويلًا، أيًّا كان المكان الذي كانت ستذهب إليه؛ فقد كان يصيبها السعال في الصيف والشتاء، وعندما كانت تسعل كان صدرها يؤلمها بشدة. وكانت تعاني كذلك من شحاذ في العينين، وتقلصات في البطن، وقلَّما كانت تأتيها الدورة الشهرية، ولكنها إن جاءت قد تستمر شهرًا كاملًا. ومع ذلك، كانت تتمنى ألا تموت وجيمس لا يزال صغيرًا يجلس على خصرها أو في حاجة إليها، وهذا ما سيكون عليه الوضع لبعض الوقت. وكانت تعرف أنه سيحين الوقت الذي سيُعرِض عنها فيه، كما أعرض عنها إخوتها، وذلك عندما يعتريه الخجل من علاقته بها. هذا ما كانت تقوله لنفسها أنه سيحدث، ولكن لم يكن باستطاعتها أن تصدقه، شأنها في ذلك شأن كل محب.
•••
في رحلة قصيرة إلى بيبلز قبل أن يغادروا منزلهم، اشترى والتر لنفسه دفترًا حتى يكتب فيه، ولكنه — على مدار عدة أيام — انشغل بعدة أمور مهمة، ولم تكن ثَمَّةَ مساحة أو هدوء كافيين على سطح السفينة ليتمكن حتى من فتح دفتره. وكان لديه أيضًا قارورة من الحِبْر ملفوفة في جِرَاب من الجلد ومربوطة بحزام في صدره تحت قميصه. وقد كانت هذه هي الحيلة التي كان يستخدمها ابن عمه، جايمي هوج الشاعر، عندما كان يخرج إلى براري نيثسدال يرعى الأغنام. وما إن تخطر ببال جايمي قصيدة شعرية، حتى يسحب قطعة ورق من بنطاله، ثم ينزع سدادة الحبر، الذي حالت حرارة جسمه دون تجمده، ويدوِّنها بالكامل، بغضِّ النظر عن المكان الذي هو فيه أو حتى حاله وقتها.
أو هكذا قال. فكَّر والتر في تجربة هذه الطريقة، ولكن تبيَّن له أن الأمر قد يكون أسهل بين الأغنام منه بين الناس. كذلك، فإن قوة الريح في عرض البحر يمكن بالتأكيد أن تكون أكبر من قوتها في نيثسدال. وكان من المهم له بالطبع أن يكون ذلك على غير مرأًى من عائلته؛ إذ قد يسخر منه أندرو بلطف، لكن أجنيس كانت ستسخر منه بوقاحة؛ إذ تغضبها مجرد فكرة قيام أي شخص بعمل لا تريد هي القيام به. أما ماري، فبالطبع ما كانت لتتفوَّه بكلمة كعهدها، لكن الطفل الذي يجلس على خصرها، والذي تحبه بشدة وتُدلِّلـه، كان كل همه إمساك القلم والورق والعبث بهما وإتلافهما. ناهيك أنه لا يمكن أن يعرف أي نوع من التدخل كان سيأتي من جانب والده.
صعدنا على متن السفينة في اليوم الرابع من شهر يونيو، ثم بتنا في الأيام الأربعة التالية في مرسى ليث، نحرِّك السفينة إلى المكان، حيث نستطيع أن نبدأ الإبحار، وبدأنا الإبحار بالفعل في التاسع من يونيو. عَبَرْنَا منعطف فايفشاير دون أي مشكلات، ولم يحدث أي شيء يستحق الذكر حتى صباح يوم الثالث عشر من يونيو، عندما استيقظنا على صرخة من بيت جون أوجروتس. كان باستطاعتنا رؤية البيت بوضوح، وقد كان الإبحار جيدًا عبر خليج بنتلاند، وكانت الريح والمد في صالحنا، ولم يبدُ البيت على أي نحوٍ خطيرًا كما كنَّا نسمع. ومن بين ما سمعناه أن طفلًا قد مات هناك، اسمه أورميستون، وقد تمَّ التخلص من جثته بإلقائها في البحر بعد أن لُفَّت في قطعة من قماش الكتَّان مع وضع قطعة كبيرة من الفحم عند قدميه …
توقف قليلًا عن الكتابة لِيُفَكِّر في الجِوال الثقيل الموضوع فيه الطفل الميت وهو يسقط إلى عرض البحر. المياه كان يزداد لونها دَكَانة أكثر فأكثر، وكان سطحها يلمع على نحوٍ خافت مثل السماء في الليل. هل كانت قطعة الفحم الكبيرة ستؤدي بالمهمة المطلوبة منها، وهل كان الجوال يسقط إلى قاع البحر مباشرةً؟ أو هل كان تيار البحر قويًّا بالقدْر الكافي بحيث يستمر في رفعه على سطح البحر ثم إسقاطه ودفعه جانبيًّا، آخذًا إياه إلى مكان بعيد جدًّا مثل جرينلاند، أو ناحية الجنوب حيث المياه الاستوائية المليئة بالأعشاب الكثيفة؛ بحر سارجاسو؟ أو ربما عثرت على الجوال سمكة مفترسة وقطعته والْتهمت الجثَّة الموجودة فيه حتى قبل أن يترك سطح البحر والمنطقة المضيئة منه.
لقد رأى رسومًا لأسماك لا تقلُّ في حجمها عن حجم الخيول، أسماك لها قرون أيضًا، وعدد هائل من الأسنان التي تشبه السكاكين التي يستخدمها تجار الجلود. وبعضها كان أملس ومبتسمًا، ومشاكسًا على نحوٍ شرير، له صدر كصدر المرأة، لكنه لم يكن يشتمل على الأجزاء الأخرى من الصدر التي يذهب فِكْر الرجل إليها عندما يتخيله. كل هذا كان موجودًا في كتاب مليء بالقصص والنقوش، والذي حصل عليه من مكتبة بيبلز.
لم تُصِبْهُ هذه الأفكار بأي ضيق؛ إذ كان يعد نفسه دائمًا للتفكير بوضوح في أكثر الأمور بغضًا وترويعًا، والتخيل الدقيق لها إن أمكن؛ وذلك حتى يقلل من تأثيرها عليه. وكما كان يتخيَّل الأمر الآن، فالطفلُ كان يُؤكَل. لم يُبتلع مرة واحدة كما حدث مع النبي يونس، بل يُمضغ إرْبًا إرْبًا مثلما يمضغ هو قطعة لذيذة من لحم الأغنام المسلوق. لكن يبقى شأن روح الطفل. الروح تفارق الجسد في لحظة موت الشخص مباشرةً، لكن مِنْ أيِّ عضو من أعضاء الجسم تخرج؟ أين هو موضعها على وجه التحديد في الجسد؟ أفضل تخمين هو أن الروح — على ما يبدو — تخرج مع آخر نَفَس، بعد أن كانت مختفية في موضع ما في الصدر في محيط منطقة القلب والرئتين. هذا على الرغم من أن والتر قد سمع مزحة تعوَّدوا أن يسردوها عن رفيق قديم لهم في إتريك، مفادها أنه من شدة قذارته خرجت روحه من مؤخرته عندما مات، وسمعوا أنها خرجت بصوتٍ عال.
هذه هي نوعية المعلومات التي قد يتوقع الناس أن يعطيها لهم الوعاظ؛ هم لا يذكرون بالطبع شيئًا من قبيل خروج الروح من المؤخرة، لكنهم يخبرونك بشيءٍ عن المكان الصحيح لوجود الروح وخروجها. غير أنهم يتحاشون الحديث عنها. كما أنهم لا يسعهم توضيح — أو ربما لم يسمعهم أحدٌ أبدًا يوضحون — كيفية بقاء الأرواح خارج الأجساد حتى يأتي يوم الحساب، وكيف تجد كلُّ روح في ذلك اليوم جسد صاحبها وتميِّزه، وكيف يتحد الروح والجسد من جديد، وإن كان الجسد لا يشبه الهيكل العظمي كثيرًا عندئذٍ، «وإنْ كان ترابًا». لا بد أن ثَمَّةَ أشخاصًا قد درسوا من المواد ما يكفي لأن يعرفوا كيفية حدوث تلك الأمور كلها، لكن ثَمَّةَ أناس آخرون أيضًا — وهو ما عَلِمَ به منذ وقتٍ قريب — مِمَّنْ درسوا وقرءوا وفكَّروا حتى وصلوا إلى نتيجة مفادها عدم وجود أرواح على الإطلاق. لا يعبأ أيُّ أحدٍ بالحديث عن هؤلاء أيضًا، بل إن مجرد التفكير فيهم أمرٌ مخيف ومفزع. كيف يمكنهم العيش في ظلِّ الخوف من جهنم وكذلك اليقين من وجودها؟
كان ثَمَّةَ رجلٌ من هؤلاء، جاءَ من بيرويك، وكان يُدعى ديفي البَدين؛ لأنه كان يجد صعوبة في الجلوس أمام الطاولة لتناول الطعام لفرط بدانته. وعندما مات في إدنبرة، حيث كان يعمل باحثًا في مجال ما، وقف الناسُ في الشارع خارج منزله ينتظرون ليروا إن كان الشيطان سيأتي لحصد روحه أم لا. فقد أُلقيتْ عظةٌ في إتريك عن هذا الموضوع، زعمتْ — حسبما فَهِمَ والتر — أن الشيطان لا يقوم بمثل هذه الأمور، وأنه لا يؤمن بذلك سوى الدهماء من الناس ومَنْ يؤمنون بالخرافات والرومان الكاثوليك، وأنَّ أَخْذَه للروح كان أكثر رهبةً بكثير على الرغم من ذلك، وألوان العذاب التي تصاحبه كانت أكثر دهاءً وبراعةً مما قد يخطر على بال أيٍّ من هؤلاء.
•••
وفي اليوم الثالث على متن السفينة، استيقظ جيمس الأب، وبدأ يسير في أرجاء المكان. أصبح الآن يقضي كلَّ وقته في المشي. كان يتوقَّف ويتحدَّث مع أي شخص يبدو له أنه على استعدادٍ لأن يسمعه. كان يخبره باسمه ويقول له إنه من إتريك، من وادي وغابة إتريك؛ حيث اعتاد ملوك اسكتلندا الأوائل أن يمارسوا الصيد.
وكان يقول: «يُقال إنه في أرض فلودن، بعد انتهاء المعركة، كان بإمكان المرء أن يتحرك هنا وهناك بين الجثث ويتعرَّف على مقاتلي إتريك وجنودها؛ لأنهم كانوا أكثر المقاتلين طولًا وقوةً ووسامةً. لديَّ خمسة من الأولاد وكلهم أقوياء ومؤدبون، لكن لا يُوجد معي الآن سوى اثنين منهم. ذهبَ أحدهم إلى نوفا سكوشا، وكان اسمه كاسمي وآخر ما سَمِعتُ عنه أنه كان في مكان اسمه إيكونومي، لكن لم نعرف عنه شيئًا منذ ذلك الوقت، ولا أعرف إنْ كان حيًّا أو ميتًا. أما أكبر أولادي، فقد هاجر ليعمل في منطقة الأراضي المرتفعة الاسكتلندية، وأما الابن قبل الأخير، فقد قرَّر الرحيل إلى هناك هو الآخر، ولن أرى أيًّا منهما مرة أخرى. خمسة أبناءٍ، كلُّهم — بفضل الرَّب — صاروا رجالًا، غير أن الرَّب لم يشأ أن يظلُّوا معي. ماتت أمهم بعدما وضعت آخرهم؛ إذ أصابتها حمى، ولم تقوَ على النهوض أبدًا من فراشها بعدما ولدته. إنَّ حياة المرة مليئة بالأحزان. لديَّ أيضًا بنت واحدة، وهي أكبرهم، غير أنها أقرب ما يكون إلى الأقزام. طارد أمها كبشٌ عندما كانت تحملها. وعندي ثلاث أخواتٍ كبيرات كلُّهن نفس الشيء، قزمات.»
وفيما بعد ظهيرة يوم الرابع عشر من يونيو، هبَّت ريح من ناحية الشمال، وأخذت السفينة تهتز كما لو كان كلُّ ما فيها من ألواح خشبية سوف تتفكك بعضها من بعض. شعر الناسُ بالغثيان وفاضت الدِّلاء التي كانوا يتقيئون فيها، وأخذت محتوياتها تتسرَّب وتنتشر في كل مكان على سطح السفينة. وصدر أمرٌ لجميع الرُّكَّاب بأن يتركوا سطح السفينة، غير أن الكثير منهم سقط عند سور السفينة، ولم يعبأ إن كان سيغمره الماء أم لا. ومع ذلك، لم يُصَبْ أيٌّ من أفراد عائلتي بالغثيان، وها هي الريح قد هدأت، والشمس قد أشرقت، ونهضَ الذين لم يكونوا يعبئون إن كانوا سيموتون في القذارة أم لا منذ فترة قليلة، وأخذوا يجرجرون أنفسهم حتى يغتسلوا؛ حيث كان البحَّارة يسكبون دلاء المياه في جميع الأرجاء على سطح السفينة. وكانت النساءُ مشغولاتٍ في غسل الملابس المتسخة وشطفها وعَصْرِها. لقد كانت هذه أسوأ وأسرع معاناة أراها في حياتي كلِّها …
وقفت فتاة صغيرة عمرها عشرة أعوام أو اثنا عشر عامًا تشاهد والتر وهو يكتب. وكانت ترتدي ثوبًا رائعًا وقلنسوة، وكان لها شعر مجعَّد لونه بُنِّي فاتح، غير أن وجهها لم يكن جميلًا كالوجه الصغير الجميل.
قالت: «هل أنت أحد نزلاء الكبائن؟»
ردَّ والتر: «لا، لست كذلك.»
«أعرفُ أنك لست منهم؛ إذ لا توجد سوى أربع كبائن، الأولى لأبي ولي، والثانية لقبطان السفينة، والثالثة لأمه، وهي لا تخرج من غرفتها أبدًا، والرابعة لسيدتين. لا يجوز لك الجلوس في هذا الجزء من سطح السفينة إلا إذا كنت أحد نزلاء الكبائن.»
ردَّ والتر دون أن يهمَّ بترك المكان قائلًا: «حسنًا، لم أكن أعرف ذلك.»
«لقد رأيتك من قبلُ وأنت تكتب في دفترك.»
«لم أركِ.»
«لا، كنتَ تكتب؛ ولذلك لم تلحظْ وجودي.»
قال والتر: «حسنًا. لقد انتهيتُ من الكتابة الآن على أي حال.»
قالت دون أن تبالي بشيء، كما لو كان الأمر مسألة اختيار وأنها قد تغيِّر رأيها: «أنا لم أخبر أحدًا عنك».
•••
في نفس ذلك اليوم — لكن بعد ساعة، أو ما يقرب من ذلك — خرجت صيحةٌ عالية من ناحية الميناء تقول إن هذا هو آخر جزءٍ من اسكتلندا ستمرُّ عليه السفينة، وبعدها ستختفي اسكتلندا عن الأنظار. صعد كلٌّ من والتر وأندرو إلى السطح حتى يُلقيا النظرة الأخيرة على البلد، وهكذا فعلت ماري وجيمس الابن الذي كانت تحمله على خصرها، وغيرهم كثيرون. لم يذهب جيمس الأب، ولا أجنيس لأنها كانت تأبى التحرك من مكانها إلى أي مكان آخر، لا لسببٍ آخر سوى العناد. حثَّ أولاد جيمس أباهم على الذهاب، لكنه قال: «الأمرُ لا يعني أي شيء بالنسبة إليَّ. لقد ألقيتُ آخر نظرة على إتريك، وهو ما يعني أنني قد ألقيتُ بالفعل آخر نظرة على اسكتلندا.»
وتبيَّن أن صيحة الوداع هذه قد أُطلِقتْ قبل موعدها؛ إذ ظلَّت تظهر في الأفق حافة رمادية من الأرض، وذلك لعدَّة ساعات. كان كثيرون يتعبون من كثرة النظر إليها؛ فهي ليست سوى قطعة من الأرض، كأي أرض أخرى، لكن البعض لم يغادروا سور السفينة حتى تلاشى آخر جزءٍ منها، مع بزوغ الفجر.
قال جيمس الأب مخاطبًا أجنيس: «يجب أن تذهبي إلى هناك كي تودعي وطنكِ وأبيك وأمك؛ لأنكِ لن تري أيًّا منهم مرة أخرى. وما زال ينتظركِ ما هو أسوأ. نعم، هذا صحيح، ما زال أمامك لعنة حواء (آلام الولادة).» قال ذلك وهو يتلذذ كتلذذ الوعاظ، غير أن أجنيس قالت في نفسها إنه حقير، ولم تكن لديها طاقة حتى كي تعبس في وجهه.
«حقيرٌ. أنتْ ووطنك.»
•••
وفي هذه الليلة من عام ١٨١٨، غابت اسكتلندا عن أنظارنا.
أما يوم السادس عشر من يونيو، فكان يومًا عاصفًا تأتي الريح فيه من الناحية الجنوبية الغربية. وارتفع المدُّ على نحوٍ كبير جدًّا، وتحطمت ذراع ساري مقدمة السفينة بفعل الرياح العنيفة. وفي هذا اليوم، أُدخِلت أختنا أجنيس إلى إحدى الكبائن.
كتبَ كلمة «أختنا» كما لو لم يكن فارق بينها وبين ماري المسكينة بالنسبة إليه، لكن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق؛ كانت أجنيس فتاة طويلة، قوية البِنية، شعرها أسود غزير، وعيناها سوداوان، يأخذ الاحمرار الذي يعتلي إحدى وجنتيها شكل بقعة كبيرة ذات لون بُني فاتح في حجم بصمة اليد. لقد كانت وحمة يأسف الناسُ لوجودها؛ إذ لولاها لصارت أجنيس أجمل. لا يكاد والتر يتحمَّل النظر إلى تلك الوحمة، ليس لأنها قبيحة المنظر؛ بل لأنه كان يشتاق إلى لمسها، إلى أن يتحسَّسها بأطراف أصابعه. لم تكن تبدو مثل الجلد العادي، ولكن مثل قطعة من القطيفة على جلد غزالة. ومن شدَّة اضطراب مشاعره تجاه أجنيس، كان لا يستطيع أن يتحدَّث إليها إلا حديثًا منفِّرًا، هذا إن تحدَّث إليها من الأساس. وما كان منها إلا أن تبادله بقدرٍ مناسب من الازدراء.
•••
كانت أجنيس تعتقد أنها في الماء وأن الأمواج تارة ترفعها إلى أعلى وتارة تلقيها إلى أسفل. كلُّ مرة كانت تلقيها فيها الأمواج إلى أسفل كانت أسوأ من المرة التي قبلها، وكذلك أعمق وأبعد، وكانت لا تشعر بالراحة إلا لبرهة قبل أن تلتقطها الأمواج مرة أخرى، التي كانت تستجمع قواها لتتقاذفها مرة أخرى.
أحيانًا كانت تعرف أنها ترقد في فراش، فراش غريب في شكله وفي نعومته، لكنه سيئ جدًّا؛ لأنها عندما كانت تغوص فيه، لم تكن تجد أي مقاومة؛ لا تجد موضعًا صلبًا حيث يتوقف معه الألم. وهنا، أو في المياه، لا ينقطع الناسُ عن الاندفاع جيئة وذهابًا من أمامها. كانت تراهم كلَّهم من الجانب، وكانوا واضحين تمامًا، يتحدثون بسرعة كبيرة، حتى إنها لم تستطع أن تتبيَّن ما يقولونه جيدًا، وكانوا يتجاهلونها، وكان هذا خبثًا منهم. رأت أندرو في وسطهم اثنين أو ثلاثة من إخوتها. بل رأت من بينهم كذلك بعضَ الفتيات التي كانت تعرفهن، وهُنَّ صديقاتها اللائي اعتادت أن تمرح معهن في بلدة هويك. ولم يهتممن بالنظر إليها أو حتى إعطائها بنسًا واحدًا لما هي فيه من شدةٍ الآن.
صرخت فيهن طالبةً منهن الابتعاد عنها، ولكن لم تعِرها أيٌّ منهن أيَّ انتباه، ورأت المزيد منهن قادمات عبر الحائط مباشرةً. لم تكن تعرف من قبل أن لها أعداءً كثيرين جدًّا. لقد كانوا يسحقونها ويتظاهرون بأنهم لا يفعلون شيئًا البتة. حركتهم هذه كادت تسحقها حتى الموت.
مالت أمها نحوها وقالت بصوتٍ بارد وضعيف ومتثاقل: «أنتِ لا تحاولين، يا بنيتي! لا بد أن تحاولي بقوةٍ أكبر.» كانت أمها ترتدي ملابس مهندمة، وتتحدَّث بأسلوبٍ لطيف مثل سيدات إدنبرة.
سُكِبَت مادة رديئة الطعم في فمها، وأخذت تحاول أن تلفظها معتقدة أنها سُم.
تقول في بالها: سوف أنهض وأتخلص من كل هذا. حاولت سحب نفسها بعنفٍ من جسدها، كما لو كانت عبارة عن كومة من الثياب البالية الموضوعة في النار.
سمعت صوت رجل يُصدر أمرًا ما.
قال الرجل: «امسكها!» ثم فُرِجَ بين ساقيها وأصبحتا مكشوفتين على العالم ونار المدفأة.
قال الرجل: «آه، آه، آه!» وهو يلهث كما لو كان يجري في سباق.
ثم صعدت بقرة ثقيلة جدًّا مليئة باللبن وهي تصيح ثم جلست على بطن أجنيس.
قال الرجل: «الآن، الآن»، وتأوَّه بكامل قوته وهو يحاول أن يُخرِج الطفل.
لم تتحسن حالتها إلا في يوم الثامن عشر من يونيو عندما ولدت بنتًا. وحيث إننا كان معنا جرَّاح على سطح السفينة، فلم يحدث شيء. لم يحدث أي شيء حتى يوم الثاني والعشرين من يونيو، الذي كان أصعب يوم مررنا به في ذلك الوقت. تحطَّم في هذا اليوم ذراع ساري مقدمة السفينة للمرة الثانية، ولم يحدث بعدها أي شيء يستحق الذكر، وكانت أجنيس تتعافى على نحوٍ طبيعي، حتى حلَّ علينا التاسع والعشرون من نفس الشهر عندما رأينا سربًا ضخمًا من خنازير البحر، وكان البحر في الثلاثين من نفس الشهر (أي بالأمس) عاتيًا جدًّا، وكانت الريح تهب من ناحية الغرب، وأخذت السفينة تتقهقر بدلًا من أن تتقدم للأمام …
قال جيمس: «لدينا في إتريك ما يرى الناسُ أنه أعلى بيتٍ في اسكتلندا، ولكن البيت الذي عاش فيه جدي كان أعلى بكثير من هذا البيت. المكان اسمه فوهوب، وكان الناسُ يطلقون عليه فوب، وكان جدي اسمه ويل أوفوب، وقبل خمسين عامًا مضت، لو أنَّك جئت من أي مكان جنوب خليج فورث أو شمال الأراضي المتنازَع عليها بين إنجلترا واسكتلندا؛ لكنت سمعت به.»
يقول والتر في نفسه: ما لم يَسُدَّ المرءُ أُذُنَيْه، فما عساه أن يفعل إلا أن يستمع إليه؟ يوجد أناسٌ يَلعنون عندما يرون الرجل العجوز قادمًا إليهم، لكن يبدو أنَّ ثَمَّةَ آخرين يسعدون بأي نوعٍ من التسلية.
كان يتحدث عن ويل والسباقات التي دخلها والمراهنات التي كانت تُعقَد عليه، وغير ذلك من الحماقات التي لم يكن والتر يستطيع تحمُّلها.
وأضاف: «وتزوج من امرأة اسمها بيسي سكوت، وكان أحد أولاده اسمه روبرت وهذا هو والدي. نعم، والدي. وها أنا ذا أقف أمامكم.»
وقال أيضًا: «استطاع ويل في وثبة واحدة لا غير أن يعبر نهر إتريك، ومكان القفزة صار من بعد ذلك مَعْلمًا.»
•••
رفضَ جيمس الابن أن يترك خصر ماري على مدار اليومين أو الأيام الثلاثة الأولى. كان جريئًا بالقدر الكافي، طالما كان جالسًا على خصرها. وعند حلول الليل، ينام في عباءتها بجانبها، طاويًا ذراعيه وساقيه بالقرب من جسده، وكانت تستيقظ من الألم في جنبها الأيسر؛ لأنها كانت تضطجع دون أن تتقلب طوال الليل كي لا تزعجه. وفي صباح يوم من الأيام، تركها وحاول التجول في المكان، وعندما حاولت أن تمسكه، ركلها برجليه.
كلُّ شيءٍ على سطح السفينة كان يسترعي انتباهه، حتى إنه في أثناء الليل كان يحاول أن يتسلق عليها ويجري في الظلام. ولهذا، كانت تستيقظ من نومها متألمة، ليس من وضعية نومها المُقيِّدة، بل من عدم النوم على الإطلاق بسببه. غلبها النعاس في إحدى الليالي، وتسلَّل الطفل منها، ولكنه تعثَّر لحسن الحظ في جسم أبيه وهو في طريقه للهروب. أصرَّ أندرو منذ هذه اللحظة على أن يربطه أثناء الليل. كان الطفل يبكي بشدة بطبيعة الحال عند ربطه، إلا أن أندرو كان يهزه ويصفعه، ثم يظلُّ الولد ينشج بالبكاء حتى ينام. كانت ماري تنام بالقرب منه، وتشرح له في لُطْفٍ ضرورة ربطه حتى لا يسقط من السفينة في المحيط، لكنه كان ينظر إليها في مثل هذه الأوقات على أنها عدوة له، وكانت إذا وضعت يدها على وجهه لتَتَحَسَّسه، يحاول أن يعضها بأسنانه الصغيرة. كان ينام كل ليلة وهو غاضب، ولكن عندما يحلُّ الصباح وتفكُّ رباطه، وهو ما يزال شبه نائم ومفعمًا بلطف الأطفال، كان يتعلَّق بها والنعاس يغشاه وهي في غمرة من مشاعر الحب تجاهه.
الحقيقة أنها كانت تحب حتى بكاءه وغضبه ورَفْسه وعَضَّه. بل كانت تعشق روائحه القذرة والمتخثرة، كما تعشق رائحته وهو نظيف. وما إن تركه النعاس حتى كانت عيناه الزرقاوان الصافيتان وهما تنظران إلى عينيها يملؤهما ذكاءٌ عجيبٌ وعنادٌ شديد، الأمر الذي يبدو لها وكأنه هبة من السماء. (هذا على الرغم من أن دينها يقول لها دائمًا إن العناد يأتي من الاتجاه المعاكس؛ أي من الشيطان.) كانت تحب إخوتها أيضًا عندما يكونون ظرفاء ومشاكسين، وكان يتحتَّم عليها أن تحافظ عليهم من الوقوع في جدول المياه، ولكنها لم تكن بالطبع تحبُّهم كحبِّها الجَمِّ لجيمس.
وذات يوم، تَاهَ منها جيمس. كانت تقف في صفٍّ طويل تنتظر دورها في الحصول على ماءٍ للغسيل، وعندما استدارت لم تَجِدْه بجانبها. تحدَّثت ببعض الكلمات إلى المرأة التي كانت تسبقها في الصف، وأجابتها عن سؤال سألته عن أجنيس وعن الطفلة، وذكرت لها اسم الطفلة — إيزابيل — وفي هذه اللحظة ضاعَ منها. وعندما كانت تنطق باسم إيزابيل، شعرت برغبة مفاجئة في حمل هذه الحزمة الجديدة الخفيفة والناعمة. وبينما هي تتخلى عن مكانها في الصفِّ وتذهب هنا وهناك بحثًا عن جيمس، بدا لها أنه حتمًا شعر بعدم إخلاصها له فاختفى عقابًا لها.
وتبدَّل الحال في لمح البصر، وتغيَّرت طبيعة العالم من حولها، أخذت تجري هنا وهناك وتصرخ بأعلى صوتها منادية على جيمس. سألتِ الغرباء والبحَّارة الذين سخروا من توسلها لهم وهي تقول: «هل رأيت طفلًا صغيرًا؟ هل رأيت طفلًا صغيرًا طوله هكذا وعيناه زرقاوان؟»
ردَّ عليها رجلٌ قائلًا: «لقد رأيت ما يقرب من خمسين أو ستِّين طفلًا بمثل هذه الأوصاف في الدقائق الخمس الفائتة.» وقالت امرأة حاولت أن تكون لطيفة معها إنه سوف يظهر، وإن ماري يجب ألا تقلق؛ إذ لا بد أنه كان يلعب مع غيره من الأطفال. وأخذ بعض النساء ينظرن هنا وهناك كما لو كنَّ يساعدنها في البحث، لكن لم يستطعن مساعدتها بطبيعة الحال؛ بسبب ما لديهن من مسئوليات.
رأت ماري بجلاء، في لحظات الشدة والحزن هذه، أن العالم الذي تحوَّل إلى شيءٍ مرعب لها لا يزال هو نفس العالم العادي بالنسبة إلى الآخرين من حولها، وسوف يظل كذلك حتى وإن اختفى جيمس بحق، حتى وإن حبا إلى سور السفينة — رمقت بعينيها كل الأماكن التي يُحتمَل أن يكون قد ذهب إليها — وسقط في المحيط.
فأكثر الأحداث بشاعة بالنسبة إليها، والتي لم تكن تستطيع تصورها، قد تبدو لكثير غيرها مجرد حادثة حزينة ولكنها عادية. الأمر وارد بالنسبة إليهم.
أو هكذا يبدو بالنسبة إلى الرَّب. فعندما يخلق الرَّبُّ طفلًا جميلًا على نحوٍ ملحوظ ونادر، ألا يتوق لاستعادة هذا المخلوق، وكأن العالم لا يستحقه؟
لكنها كانت تصلي له طوال الوقت. في البداية، دعت باسم الرَّب، غير أنه عندما أصبح البحث أكثر تحديدًا، وأصبح أكثر غرابة نوعًا ما — حيث شرعت تبحث بجنون تحت حواجز الملابس التي أنشأها الناسُ ليتمتعوا ببعض الخصوصية، ولم تتردد في مقاطعة أي عمل يقوم به الناس، وأخذت تفتِّش في صناديقهم وتطيح بأغطية أَسِرَّتهم، بل إنها حتى لم تسمعهم وهم يسبونها وهي تفعل ذلك — أصبحت صلواتها أكثر تعقيدًا وجرأةً. حاولت أن تفكر في شيءٍ ما كنَذْرِ شيء يمكن أن تتخلى عنه في مقابل أن يعود إليها جيمس. ولكن ما الذي كانت تملك؟ لم تكن تملك أيَّ شيء؛ لم تكن تملك حتى الصحة أو فُرَصًا في المستقبل أو أيَّ شيء يعتبره الناس ذا قيمة، ولا حتى شيئًا من الحظ أو الأمل، كلُّ ما كانت تملكه هو جيمس.
وكيف لها أن تتخلى عن جيمس مقابل عودته هو نفسه؟
كان هذا هو كل ما كان يجول بخاطرها.
لكن ماذا عن حُبِّها لجيمس؟ الحب المبالَغ فيه الذي قد يصل إلى حدِّ العبادة أو الذي قد يكون نوعًا من الشر لمخلوق آخر. هي الآن مستعدة أن تتخلى عن ذلك، كانت على استعدادٍ للتخلي عنه عن طيب خاطر، في مقابل ألا يكون قد تاه، في مقابل أن يُعثَر عليه، في مقابل ألا يكون قد مات.
•••
تذكَّرت كل هذا بعد ساعة أو ساعتين من لمح أحد الأشخاص للولد وهو يظهر جزئيًّا من تحت دَلْوٍ فارغة كبيرة ويستمع إلى الضجيج. تراجعت على الفور عن نذرها الذي نذرته، وأمسكت به بين ذراعيها وضمَّته إليها بقوة، وأخذت أنفاسًا عميقة متأوهة، بينما كان هو يحاول التملُّص منها.
فِكرتها عن الرَّب ضحلة وغير مستقرة، والحقيقة أنها لم تكن تتذكَّره إلا في أوقات الخوف كتلك التي شهدتها لتوِّها. شعرت دائمًا أن الرَّب أو حتى مجرد التفكير فيه بعيد عنها أكثر من بُعده عن غيرها من الناس. وكانت لا تخاف من عقابه بعد الموت كما كان ينبغي عليها، ولم تكن حتى تعرف السبب وراء ذلك. كانت لديها حالة من اللامبالاة والعناد في عقلها لا يعرف عنها أحدٌ شيئًا. قد يتصوَّر الجميع في الواقع أنها متدينة بداخلها؛ إذ ليس لديها خيارات كثيرة. غير أنهم كانوا مخطئين تمامًا؛ فبعد أن عاد جيمس إليها مرة أخرى، لم تشكر الرَّب، ورأت كَمْ كانت ساذجة وكيف أنه من المستحيل أن تتخلى عن حبها للولد، الحب الذي لن تتخلى عنه ما دام لها قلبٌ ينبض.
•••
وبعد ذلك، أصرَّ أندرو أن يربط جيمس ليس فقط أثناء الليل، بل أثناء النهار أيضًا، وذلك بعمود السرير أو بحبل الملابس خاصتهم على سطح السفينة. رغبت ماري أن يُربَط جيمس معها بحبل، لكن أندرو أخبرها أنها قد تُصاب بأذًى بسبب ركلات صبي كهذا. ضرب أندرو الولد بشدة بسبب حيلته، لكن نظرةً في عينَي جيمس تقول إن حِيَل ذلك الولد لم تكن لتنتهي.
•••
إنَّ هذا التسلق إلى قمة قلعة إدنبرة، هذا المنظر الذي رآه عبر البحر، لم يكن بالأمر الذي يذكره أندرو حتى لإخوته؛ حيث كان الحديث عن أمريكا حينها موضوعًا شائكًا. فأخوه الأكبر روبرت رحلَ إلى منطقة الأراضي المرتفعة الاسكتلندية، بمجرد أن كَبِرَ، تاركًا البيت دون كلمة وداعٍ ظُهْرَ يومٍ ما كان والده فيه بحانة تيبي شيل. وقال صراحةً إنه قد فعل هذا حتى لا يصاحب أباه في أي مغامرة قد يقوم بها. ثم رحل أخوه جيمس على عكس ما كان متوقعًا إلى أمريكا بمفرده، قائلًا إنه على الأقل بقيامه بهذا يمكن أن يوفِّر على نفسه سماع أي أخبار حول هذا الموضوع. ثم تلاهم ويل — الذي على الرغم من أن سِنَّه أصغر من أندرو، فإنه كان دائم الخلاف والصراع مع أبيه — الذي هرب كذلك ليلحق بروبرت. ولم يبقَ سوى والتر، الذي كان لا يزال طفوليًّا في تفكيره بحيث لا تشغل المغامرات فِكْره، والذي كبر وهو يعتقد أنه سوف يذهب للقتال ضد الفرنسيين؛ وربما يعتقد الآن أنه سيحارب الهنود.
ثم نأتي إلى أندرو نفسه، الذي منذ اليوم الذي كان فيه على الصخرة أحسَّ تجاه أبيه بشعور عميق وغريب من المسئولية، وهو شعورٌ أقرب ما يكون إلى الشعور بالأسى والحزن.
لكن حينها شعر أندرو بالمسئولية تجاهَ كل أفراد عائلته؛ تجاه زوجته الصغيرة السن العصبية في معظم الأوقات التي جعلها عرضةً للخطر مرة ثانية، وتجاه إخوته البعيدين عنه وأخيه الذي يُوجد بجانبه، وتجاه أخته المثيرة للشفقة وابنه المتهور. كان هذا عبئًا بالنسبة إليه؛ فلم يخطر بباله أبدًا أن يسميه حبًّا.
•••
ظلَّت أجنيس تطلب مِلْحًا حتى خشيَ مَنْ معها أن تصيبها حمَّى من فرط عصبيتها وألمها. وكانت السيدتان اللتان ترعيانِها من نُزَلاء إحدى الكبائن، وكانتا من إدنبرة، وقد تطوعتا للقيام بهذه المهمة.
قالتا لها: «اهدئي الآن! أنتِ لا تعلمين كَمْ أنت فتاة محظوظة؛ لأن السيد سوتر كان على متن السفينة.»
أخبرتاها أن الطفل لم يكن في الوضع المناسب للولادة، وأنهما كانتا تخشيان أن يُضطر السيد سوتر لفتح بطنها، الأمر الذي قد يكون فيه هلاكها. إلا أنه تمكَّن من إدارة الجنين حتى يتمكَّن من إخراجه.
قالت أجنيس: «أنا بحاجة إلى المِلح من أجل الرضاعة»، التي لم تكن لتسمح لهما بالحطِّ من قدرها من خلال توبيخهما لها وطريقة حديثهما الراقية الخاصة بإدنبرة. فقد كانت ترى أنهما حمقاوان على أي حال. كان عليها إخبارهما أنه ينبغي أن تمتزج أول نقطة لبن يحصل عليها الرضيع بقليل من الملح؛ حيث تضع الأم بضع ذرات من الملح على إصبعها ثم تعصر أحد ثدييها لتنزل منه قطرة أو اثنتين من اللبن على هذا المِلح، ثم تعطي الخليط للطفل قبل أن يبدأ في الرضاعة الفعلية. ومن دون هذه الاحتياطات، فهناك احتمال كبير أن يكون الرضيع غبيًّا حين يكبر.
قالت إحداهما للأخرى: «هل هي أصلًا مسيحية؟»
قالت أجنيس: «أنا مسيحية مثلكما تمامًا!» ولكن بسبب تفاجئها وشعورها بالهوان، أخذت في البكاء بصوتٍ عالٍ، وبكى الرضيع بشدة معها، تعاطفًا معها أو بسبب الجوع. وما زالت هي ترفض إطعامه.
أتى السيد سوتر ليسأل عن حالها، وسأل عن سرِّ كل هذا الحزن البادي عليها، فأخبرتاه بالأمر.
«كيف يمكن إعطاء رضيع حديث الولادة قليلًا من المِلح؟ من أين أتت بهذه الفكرة؟»
قال: «أعطوها الملح!» ثم ظلَّ يرقبها وهي تعصر أحد ثدييها ليُخرج لبنًا على إصبعها الذي عليه الملح، ثم تضع هذا الإصبع في فم الطفل، ثم تلقمه حلمة ثديها.
سألها عن السبب، فأخبرته.
سألها: «وهل يجدي ذلك في كل مرة؟»
أخبرته أن ذلك لم يفشل ولو لمرة واحدة، ودُهِشَت قليلًا عندما اكتشفت أنه في غباء السيدتين، وإن كان أكثر لطفًا منهما.
«هل هذا معناه أن المكان الذي جئتِ منه يتمتع أهله كلُّهم بقدر عالٍ من الذكاء؟ وهل الفتيات هناك كلُّهن قويات وجميلات مثلك؟»
أخبرته أنها لا تعلم حقًّا.
أحيانًا كان بعضُ الشباب الزائرين لبلدتها، المتعلمين القادمين من المدينة، يقتربون منها ومن صديقاتها ويُثنون على حُسنهن، محاولين بَدء حديثٍ معهن، وكانت دائمًا ما تعتقد أن أيَّ فتاة تسمح بأن يحدث هذا هي فتاةٌ حمقاء، حتى لو كان الرجل وسيمًا. والسيد سوتر أبعد ما يكون عن الوسامة؛ فهو أيضًا نحيف جدًّا، ووجهه تغطيه البثور تمامًا؛ مما جعلها لأول وهلة تظن أنه رجل عجوز. غير أن له صوتًا عطوفًا جعلها تغفر له حتى لو حاول مغازلتها قليلًا. فلن يكون بوسع أي رجل أن يغازل امرأة بعد أن كان هو القائم على توليدها ورأى منها ما رأى.
سألها: «هل تشعرين بالألم؟» نظرت إلى خديه التالفين فلاحظت ظلًّا عليهما؛ قليلًا من حُمرة الخجل. أخبرته أنها ليست أسوأ مما ينبغي. أومأ برأسه وأمسك برسغها، ضاغطًا بقوة عليه ليقيس نبضها.
قال لها: «قوية مثل فرس السباق.» قال هذا وما تزال يده عليها، وكأنه لا يعرف أين يضع يده بعد ذلك. ثم قرَّر أن يُزيح شعرها إلى الوراء ويضغط بأصابعه على صدغيها، وكذلك خلف أذنيها.
ستتذكر لمسته هذه، تلك الضغطة الغريبة، الرقيقة، المثيرة، مع مزيج مشوِّش من الازدراء والاشتياق، لسنواتٍ عديدة قادمة.
قال لها: «جيد! لا أثرَ للحمَّى.»
وأخذ لوهلة يراقب الرضيع وهو يرضع من ثديها.
ثم قال لها بتأوه: «كلُّ شيء على ما يُرام بالنسبة لكِ الآن. لديك بنتٌ جميلة يمكنها أن تتباهى طوال حياتها أنها وُلِدت في البحر.»
•••
وصلَ أندرو لاحقًا ووقف عند مؤخرة السرير. لم يَرَها على سرير كهذا من قبل (كان سريرًا عاديًّا، وإن كان مربوطًا بالحائط). احمرَّ وجهه خجلًا أمام السيدتين، اللتين أتيتا بحوض حتى تغتسل.
قال لها: «لقد انتهت الولادة، أليس كذلك؟» قال هذا وهو يومئ تجاه كومة اللحم التي بجانبها، دون أن ينظر إليها.
ضحكت بطريقة تنمُّ عن الضيق وكأنها تسأله: وماذا تعتقد أنت؟ كان هذا كافيًا لينزل من عليائه غير المستقر، وينهي تظاهره بالهدوء ورباطة الجأش. الآن بدأت علامات التوتر تظهر عليه، وازداد وجهه احمرارًا من الخجل، وكأنه وُضِعَ في النار. ولم يكن ذلك بسبب ما قالته فحسب، وإنما كان بسبب المشهد ككل ورائحة الطفل ولبن الرضاعة والدماء، وفوق ذلك كله بسبب الحوض وقطع القماش والسيدتين الواقفتين بنظراتهما الملائمة التي يمكن أن تبدو لأي رجل معاتبة ومليئة بالازدراء.
لم يجد كلمة أخرى يقولها، فكان عليها أن تطلب منه — بنوعٍ من اللطف الصارم — الخروج؛ لأن لديهن عملًا هنا يجب أن يقمن به.
اعتادَ بعضُ الفتيات على القول بأنه عندما تستسلم امرأة في النهاية لرجل وتقيم علاقة جنسية معه — حتى لو اعتقدت أنه لم يكن الاختيار الأفضل — فإن ذلك يعطيها شعورًا بقلة الحيلة، لكنه أيضًا شعور هادئ ولطيف. لكن أجنيس لم تتذكر أنها أحسَّت بشعور كهذا مع أندرو، فكلُّ ما شعرت به هو أنه رجلٌ مخلص، وأنه هو الشخص المناسب لظروفها، وأنه ليس الشخص الذي يمكن أن يفكِّر في الهرب وتَرْكِها على الإطلاق.
•••
ظلَّ والتر يذهب إلى نفس المكان الخاص الذي يكتب فيه في دفتره ولم يرَه أحدٌ هناك، بالطبع سوى الفتاة التي تحسَّنت علاقته بها الآن. وذات يوم ذهب إلى هذا المكان، وكانت قد سبقته إلى هناك وأخذت تنط حبلًا ذا شُرَّابات حمراء. وعندما رأته، توقفت عن النط وأخذت تلهث. وبمجرد أن الْتقطت أنفاسها، بدأت في السعال لدرجة أنها أخذت عدة دقائق قبل أن تتمكَّن من التحدث إليه. رمت بنفسها على كومة من القماش التي كانت تحيط بالمكان الذي كانت فيه، واحمرَّ وجهها، وامتلأت عيناها بالدموع اللامعة من كثرة السعال. وظلَّ هو واقفًا يراقبها، وانزعج من نوبة السعال هذه، ولم يكن يدري ما عساه أن يفعل.
سألها: «هل تودين أن أحضر إليكِ إحدى السيدتين؟»
إنه الآن على علاقة طيبة بالسيدتين اللتين من إدنبرة، بسبب أجنيس، واللتين كان لديهما اهتمام وعطف تجاه الأم والرضيع وماري وجيمس الابن، وكانتا تعتقدان أن الأب العجوز خفيف الظل. كما راق لهما أندرو ووالتر، اللذين بدا لهما أنهما خجولان للغاية. لم يكن والتر في واقع الأمر خجولًا كما كان الحال مع أندرو، غير أن موضوع الولادة برمَّته كان يصيبه بالفزع أو الاشمئزاز الشديد (رغم أنه كان معتادًا على هذا الأمر عند ولادة الأغنام). وقد فقدت أجنيس الكثير من جاذبيتها المتجهمة بسبب هذا الأمر. (هذا ما حدث من قبل عندما وضعت جيمس الابن، لكن بعد ذلك استعادت قواها الشرسة تدريجيًّا؛ مما جعله يظنُّ أن هذا لن يحدث مرة أخرى. فهو كان قد رأى الكثير في هذا العالم بحلول ذلك الوقت، وعلى متن هذه السفينة رأى الكثير من النساء.)
أخذت الفتاة التي كانت تسعل تهزُّ رأسها ذا الشعر المجعَّد بعنف تعبيرًا عن الرفض.
قالت عندما أصبح بإمكانها التحدث وهي لاهثة: «لست بحاجة إليهما، ولم أخبر أحدًا أبدًا أنك تأتي إلى هنا؛ لذا عليك ألا تخبر أحدًا بشأني.»
قال لها: «أنتِ موقفك سليم.»
هزَّت رأسها مرة أخرى تعبيرًا عن الرفض، وأومأت له أن يصبر حتى تستطيع أن تتحدث على نحوٍ أكثر سهولة.
قالت: «ما أعنيه أنك رأيتني أنط الحبل. وقد خبأ والدي حبل النط، لكنني وجدته حيث خبأه، غير أنه لم يعرف ذلك.»
قال لها والتر بتعقل: «هذا ليس يوم الأحد. فما الخطأ إذن في أن تنطي الحبل؟»
أجابته مستعيدةً نبرتها الوقحة: «وكيف لي أن أعرف؟ ربما يعتقد أني قد كبرت على هذا. فهل تقسم ألا تخبر أحدًا بهذا؟» ثم ضمت إصبعَي السبابة لتصنع شكل الصليب. كان يعرف أن المشهد بريء، لكنه مع ذلك صُدِم؛ فقد كان يعرف كيف يمكن أن ينظر بعضُ الناس إلى الأمر.
غير أنه أخبرها أنه مستعد للقسم.
قالت له: «أنا كذلك أقسم أنني لن أخبر أحدًا بأنك تأتي إلى هنا.»
بعد أن قالت ذلك بجدِّية شديدة، تجهمت.
ثم أردفت قائلةً: «رغم أنني لم أكن لأخبر أحدًا عنك في كل الأحوال.»
يا لها من كائن صغير معتدٍّ بنفسه وغريب! لم تتحدَّث عن أحد سوى أبيها، الأمر الذي جعله يستنتج أنْ ليس لديها إخوة أو أخوات، ومثله تمامًا، ليس لديها أم. وهذا ربما هو الذي جعلها مُدَلَّلة ووحيدة في الوقت نفسه.
•••
بعد هذا القسم المتبادل، أصبحت هذه الفتاة — واسمها نيتي — كثيرة التردد على والتر حينما كان يكتب في دفتره. كانت دائمًا تقول له إنها لا تود إزعاجه، ولكنها بعد أن تظل صامتة على نحوٍ متباهٍ لنحو خمس دقائق، كانت تقاطعه بسؤال عن حياته أو تخبره شيئًا عن حياتها. وتبيَّن حقًّا أنها بلا أم، وحيدة أبيها، ولم تذهب إلى مدرسة قط. أكثر حديثها كان عن حيواناتها الأليفة — سواء تلك التي ماتت أو التي تحتفظ بها في منزلها في إدنبرة — وكذلك عن امرأة تُدعى الآنسة أندرسون، كانت تسافر معها وتعلِّمها. وبدا من طريقة حديثها أنها سعدت برحيل هذه السيدة عنها، وبالتأكيد الآنسة أندرسون نفسها سعدت بالرحيل، خاصةً بعد كل المكائد التي كادتها لها الفتاة؛ بداية من الضفدع الحقيقي الذي وضعته في حذائها، وانتهاءً بالفأر المصنوع من الصوف الذي يشبه الفأر الحقيقي، والذي وضعته على سريرها. وكذلك وطؤها بقدميها الكتب التي لم تكن تروق لها، وتظاهرها بالصمم والغباء كلما أصابها الملل من أداء تمرينات الهجاء.
ذهبت إلى أمريكا ثلاث مرات وعادت؛ فقد كان أبوها بائع خمور يقتضي عمله أن يسافر إلى مونتريال.
أرادت أن تعرف كلَّ شيءٍ عن حياة والتر وأهله، وكانت أسئلتها وقحة جدًّا بمعايير أهل الريف. ولكن والتر لم يكن يهتم؛ ففي عائلته، لم يكن أبدًا في موضعٍ يسمح له بإعطاء الأوامر أو بتلقين شخص أصغر منه سنًّا أو إثارة حنقه، وقد كان سعيدًا على نحو ما بطريقة كلامها.
لكن من المؤكَّد أنه في العالم الذي جاء منه لم يكن لِيُفلح أحدٌ بمثل هذا التطاول والجرأة والفضول البادي على هذه الفتاة التي تُدعى نيتي؛ فقد كانت تسأله أسئلة كثيرة؛ على غرار: ماذا كنتم تتناولون في المنزل على العشاء؟ وكيف تنامون؟ وهل كنتم تحتفظون بحيوانات في المنزل؟ وهل كنتم تطلقون أسماءً على أغنامكم؟ وما هي أسماء الكلاب التي تحرس الأغنام؟ وهل كان من الممكن أن تتخذها لنفسك باعتبارها حيوانات أليفة لك؟ ولِمَ لا؟ وكيف يجلس التلاميذ في حجرة الدراسة؟ وعلى أي شيء يكتبون؟ وهل المعلمون قساة؟ وماذا تعني بعض الكلمات التي لم تكن تفهمها منه؟ وهل الناس في البلد التي جاء منها يتحدثون بنفس طريقته؟
أجابها والتر: «أوه، نعم. حتى صاحب العظمة الدوق؛ دوق باكلو.»
ضحكت وأخذت تضرب بقبضتها الصغيرة بحرية على كتفيه.
ثم قالت: «أنت الآن تغيظني، أليس كذلك؟ فأنا أعلم أن الدوق لا نَصِفه بصاحب العظمة. ليس ثَمَّةَ دوق يُوصَف بذلك.»
ذات مرة أحضرت معها ورقًا وأقلام رصاص للرسم. قالت إنها أحضرتهما لتنشغل بشيءٍ حتى لا تكون مصدر إزعاج له. وأخبرته أنها ستعلِّمه الرسم إذا أراد ذلك. ولكن محاولاته للرسم أثارت ضحكها، وأخذ عن قصدٍ يرسم أسوأ فأسوأ، حتى ضحكت بشدة، ومن فرط ضحكها أتتها إحدى نوبات السعال التي كانت تصيبها (لم يعد ينزعج كثيرًا من نوبات السعال هذه؛ لأنه وجد أنها كانت تبدو على دِرَاية بكيفية التعامل معها). ثم أخبرته أنها سترسم له بعض الرسومات في الصفحات الأخيرة من دفتره حتى تذكِّره بهذه الرحلة البحرية كلما نظر إليها. رسمت أشرعة سفينة ترفرف في السماء، ودجاجة هربت من قفصها بطريقة ما، وتحاول أن تسافر كطائر بحري فوق الماء. وكذلك رسمت من ذاكرتها كلبًا لها قد مات اسمه بايرت. في البداية زعمت أن اسم الكلب كان والتر، غير أنها ندمت واعترفت فيما بعد أنها لم تكن تقول الحقيقة. وكذلك رسمت صورةً للجبال الجليدية التي رأتها في رحلاتٍ بحرية سابقة لها مع أبيها، والتي كانت أكثر ارتفاعًا من المنازل. حينها سطعت شمس الغروب عبر تلك الجبال؛ مما جعلها تبدو — حسب قولها — وكأنها قلاعٌ من ذهب، ذات لون وردي وذهبي.
قالت له: «كنت أتمنى أن تكون معي علبة ألواني؛ فأُريكَ كيف سيكون شكل هذه الرسومات. لست أدري أين وضعتها. على أي حال أنا لست خبيرة في التلوين، لكنني في الرسم أفضل.»
لقد كان كلُّ ما رسمته، بما في ذلك الجبال الجليدية، يبدو ساذجًا وساخرًا في نفس الوقت، ويعبِّر عنها تعبيرًا دقيقًا.
•••
«كنت قد حدثتكم قبل أيام عن هذا الرجل الذي يُدعى ويل أوفوب وهو جدي في الوقت نفسه، لكن ما زال يوجد الكثير عنه ممَّا لم أخبركم به. فأنا لم أخبركم أنه كان آخر رجل في اسكتلندا يتحدَّث إلى الجن. لا شك أنني لم أسمع أبدًا أن أحدًا غيره فعل ذلك، سواءٌ في عصره أو من بعده.»
اضطرَّ والتر لسماع هذه الحكاية التي سمعها بطبيعة الحال مراتٍ ومرات، وإنْ لم يسمعها برواية أبيه. كان يجلس عند ركن من أركان السفينة حيث يُصلِح بعض البحَّارة الأشرعة الممزقة. كان بعضهم يتحدث إلى بعضٍ من حين لآخر — ربما باللغة الإنجليزية، لكنها ليست الإنجليزية التي كان يفهمها والتر — وفي أحيانٍ أخرى، كان يبدو أنهم يستمعون إلى بعض ما كان يحكيه جيمس الأب. واستطاع والتر أن يخمِّن، من خلال الأصوات التي كان يسمعها أثناء حكاية القصة، أن جمهور المستمعين لأبيه — ممَّنْ لا يستطيع تمييزهم — كان معظمه من النساء.
لكن، ثَمَّةَ رجل طويل مهندم الثياب — لا شك أنه أحد نزلاء الكبائن — توقَّف ليستمع للحكاية على مرأًى من والتر. يُوجد شخص بالقرب من الجانب الآخر لهذا الرجل، وفي لحظة من لحظات الحكاية؛ إذ بهذا الشخص يبحث بعينيه هنا وهناك عن والتر، وأدرك أنها نيتي. بدا عليها أنها كانت على وشك الضحك، لكنها وضعت إحدى أصابعها على شفتيها كما لو كانت تطلب من نفسها — ووالتر — السكوت.
لا بد أن هذا الرجل هو أبوها، وقد وقف الاثنان هناك يصغيان إلى الحكاية في هدوءٍ حتى نهايتها.
ثم استدار الرجل وتحدَّث مباشرةً، على نحوٍ معتاد وإن كان وُدِّيًّا، إلى والتر.
وقال له: «لم تَقُلْ أيَّ شيءٍ عما حدث لأغنام هذا الرجل. أتمنى ألا يكون الجن قد أخذوها.»
انزعج والتر ولم يعرف ماذا يقول. لكن نيتي نظرت إليه بسكينة تدعو إلى الهدوء، وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، ثم نظرت بعيدًا، وانتظرت بجوار أبيها كما هو المفترض من آنسة صغيرة رزينة.
سأله الرجل وهو يشير إلى دفتره: «هل تدوِّن ما يمكن أن تستفيد منه من هذه الحكاية؟»
ردَّ والتر ردًّا جامدًا قائلًا: «إنني أكتبُ يوميات الرحلة.»
«الآن الأمر شائق. تلك حقيقة مثيرة؛ لأنني أيضًا أكتب يوميات هذه الرحلة. إنني أتساءل إذا كنَّا نشترك في نفس الأشياء التي نجدها تستحق التدوين.»
قال والتر، وهو يريد أن يوضح أن هذه مهمة مُوكَلة إليه، وليست متعة فارغة: «إنني أكتبُ فقط ما يحدث.» كان لا يزال يشعر بالحاجة إلى تقديم مزيد من التبرير، فأضاف: «إنني أكتبُ كي أسجِّل تفاصيل كل يوم من أيام الرحلة، بحيث أستطيع في نهايتها أن أرسلها في رسالة إلى أهلي.»
أصبح صوت الرجل أكثر نعومة وأسلوبه أكثر لطفًا من أي أسلوب اعتاده والتر. وأخذ والتر يسأل نفسه إن كان هذا الرجل يستهزئ به بأي نحو، أو إن كان والد نيتي من نوعية الأشخاص الذين يسعون بسرعة إلى التعرف على الآخرين على أمل الاستحواذ على أموالهم لاستثمارها في أشياء عديمة الفائدة.
لا يبدو من مظهر والتر ولا أسلوب لبسه أنه يمكن أن يكون أحد الضحايا المُحتمَلين لهذا الرجل.
«لذلك، أنت لا تصف ما تراه، أليس كذلك؟ تصف فقط — حسب قولك — ما «يحدث»؟»
كان والتر على وشك أن يقول لا، لكنه قال نعم؛ إذ خطر بباله توًّا أنه إذا كتبَ في يومياته أن ريحًا عاتية قد هبَّت، أفلا يكون هذا وصفًا؟ ولسان حاله يقول: المرءُ لا يعرف كيف يميِّز مواقفه مع هذا النوع من الناس.
فسأله: «ألم تكتب عمَّا قد سمعناه لتَوِّنَا؟»
«لا.»
«ربما الأمر يستحق. ثَمَّةَ أناسٌ الآن يتنقلون بين كل أنحاء اسكتلندا ويدوِّنون كل ما يقوله أولئك العُجُز من أهل الريف. إنهم يعتقدون أن الأغاني والقصص القديمة في طريقها للاختفاء وأنها تستحق التدوين. إنني لا أعرف الكثير عن هذا الأمر، فهو شأنٌ لا يخصني. لكنني لن أندهش إن كان مَنْ يدونون كل هذا يجدون أن ما يفعلونه يستحق العناء؛ أقصد أن أقول إن هذا الأمر سيجلب لهم المال.»
وهنا تتحدَّث نيتي على غير المتوقع.
«أوه، كفى يا أبتي! ها هو الرجل العجوز يبدأ كلامه من جديد.»
ليس هذا ما ينبغي بأي ابنة أن تقوله لأبيها من وجهة نظر والتر، لكن الرجل بدا مستعدًّا للضحك وهو ينظر إليها بإعجاب.
قال الرجل: «شيءٌ واحد آخر أريد أن أسأل عنه، ماذا تعتقد فيما يخص الجن؟»
ردَّ والتر: «أعتقد أن كلَّ هذا هراء.»
وعادت نيتي تقول متبرمة: «لقد بدأ من جديد.»
في الواقع، كان صوت جيمس مسموعًا في تلك الأثناء ليقاطع بإصرار وتوبيخ مستمعيه الذين ربما ظنُّوا أن هذا الوقت قد يكون هو الوقت المناسب للحديث بعضهم مع البعض.
«… ومرة أخرى، لكن في أيام الصيف ذات النهار الطويل، وفوق التلال في نهاية النهار، ولكن قبل حلول الظلام الدامس …»
أومأ الرجل الطويل برأسه، لكنه بدا كما لو كان ما زال لديه شيءٌ ليسأل عنه والتر. رفعت نيتي يدها لأعلى ووضعتها على فمه.
«وسوف أقول لكم وأقسم بحياتي إنَّ ويل لم يكن ليكذب ولو لمرة واحدة؛ فقد كان في أيام شبابه يذهب إلى الكنيسة التي يعظ بها توماس بوستون، الذي زرع مخافة الرَّب مثل السكين في قلب كل رجل وامرأة حتى يوم مماتهم. لا، أبدًا. لم يكن ليكذب أبدًا.»
•••
قال الرجل الطويل، في هدوءٍ وقد تأكَّد أن القصة قد انتهت: «أكان كلُّ ذلك هراءً؟ حسنًا، إنني أميل لموافقتك الرأي. لك طريقة تفكير مستنيرة، أليس كذلك؟»
أجاب والتر بالإيجاب، كان تفكيره هكذا، وكان يتحدث بطريقة أكثر جرأة وعنادًا من ذي قبل. لقد سمع تلك الحكايات التي كان يتحدث عنها أبوه، وما شابهها من حكاياتٍ على مدار حياته كلها، لكن الغريب أنه لم يسمع هذه الحكايات من والده مباشرةً حتى اعتلوا متن هذه السفينة. وكان على يقين من أن والده، الذي كان يعهده إلى وقتٍ قريب، لم يكن ليؤمن بالخرافات الموجودة بتلك الحكايات.
اعتاد أبوه أن يقول: «ما أفظع هذا المكان الذي نعيش فيه! فلا تجد عن هؤلاء الناس إلا الهراء والعادات السيئة، وحتى صوف الأغنام الذي نملكه لا نستطيع أن نبيعه لرداءته. والطرقات من سوئها لا يستطيع أيُّ حصان أن يقطع عليها أكثر من أربعة أميال في الساعة. والناسُ هنا يستخدمون المجرفة أو المحراث الاسكتلندي القديم في حرث الأرض، وإن كان يوجد محراث أفضل مستخدَم في أماكن أخرى منذ خمسين عامًا. وإذا سألتهم عن السبب في ذلك، قالوا: حسنًا، لكن الأرض شديدة الانحدار ها هنا، وصعبة الحرث.»
وقال أيضًا: «أن يُولَد المرء في إتريك معناه أن يُولَد في مكان متخلف، حيث يؤمن جميع الناس بالحكايات القديمة ورؤية الأشباح، وأقول لك إن من اللعنة أن يُولَد المرء في إتريك.»
وأغلب الظن أن هذا ما قاده للهجرة إلى أمريكا؛ حيث اجتمعت كل مزايا الاختراعات الحديثة ليستفيد منها الناس الذين لا يتوقفون عن تحسين الحياة من حولهم.
لكن استمع إليه الآن.
قالت نيتي: «أنا لا أعتقد أن ما رآه كان من الجن.»
ردَّ أبوها: «إذن هل تعتقدين أنهم كانوا يجاورونه طوال الوقت؟ هل تعتقدين أنهم كانوا يخدعونه؟»
لم يسمع والتر من قبلُ أبًا يتحدث إلى ولده بمثل هذا التساهل. ورغم إعجابه بنيتي، لم يستطع أن يستحسن ذلك؛ إذ يمكن أن يجعلها هذا تؤمن بأنه لا توجد على وجه الأرض آراءٌ تستحق أن يُصغى إليها سوى آرائها.
ردَّت: «لا، أنا لا أعتقد ذلك.»
فيسأل الأب: «ماذا إذن؟»
«أعتقد أنهم موتى.»
سألها أبوها بشيءٍ من الصرامة: «ماذا تعرفين عن الموتى؟ الموتى لا يُبْعَثون إلا يوم القيامة. أنا لا أريدك أن تستخفي بأمور كهذه.»
تقول نيتي بتهاون: «أنا لا أستخف بشيءٍ.»
تَدَافَعَ البحَّارة بسرعة تاركين أشرعتهم، وأخذوا يشيرون إلى السماء، إلى أقصى الغرب. لا بد أنهم كانوا يرون شيئًا ما يثير حفيظتهم. تجرَّأ والتر وسأل: «هل هم من الإنجليز؟ أنا لا أستطيع فَهْمَ ما يقولون.»
«بعضهم إنجليزي، والبعض الآخر من أماكن تبدو لغاتها غريبة بالنسبة إلينا. بعضهم برتغاليون. لكنني لا أستطيع أن أفهمهم أيضًا، أظنُّهم يقولون إنهم يرون طيور الروتش. كلهم يتمتعون بنظر حاد جدًّا.»
كان والتر يعتقد أن لديه أيضًا عيونًا حادة، لكن الأمر استغرق منه لحظة أو لحظتين قبل أن يتمكَّن من رؤية هذه الطيور، تلك التي تُسمى الروتش. انطلقت أسرابٌ متعددة من طيور البحر هذه بسرعة مرتفعة فوق الرءوس، فبَدَتْ كأنها نقط لامعة في الهواء.
قال والد نيتي: «يجب ألا تُغفل ذِكْر تلك الطيور في يومياتك. لقد رأيتُها عندما قمت بهذه الرحلة من قبلُ. تتغذى هذه الطيور على السمك، وهذا أفضل مكان لها. سترى قريبًا الصيادين أيضًا. ولكن رؤية طيور الروتش وهي تملأ السماء العلامة الأولى على أننا حتمًا في جراند بانكس في نيوفاوندلاند.»
ثم قال لوالتر وهو يتركه: «يجب أن تصعد إلى سطح السفينة وتتحدَّث إلينا. لديَّ عمل مشغول به، وهذا يجعلني أنشغل كثيرًا عن مصاحبة ابنتي. كما أنها ممنوعة من الجري واللعب؛ لأنها لم تُشفَ بعدُ من نزلة البرد التي أصابتها في الشتاء، ولكنها مولعة بالجلوس بالخارج والحديث مع الآخرين.»
قال والتر بشيءٍ من الارتباك: «أعتقد أنني لا يجوز لي الصعود إلى سطح السفينة.»
«لا، لا، هذا ليس بالأمر المهم. ابنتي وحيدة، تحبُّ القراءة والرسم، ولكنها أيضًا تحب الرفقة. يمكنها أن تعلمك الرسم، إنْ أحببت. وهذا سيُضيف كثيرًا إلى يومياتك.»
إذا تهلَّل وجه والتر، فلن يُلاحَظ ذلك. بقيت نيتي متزنة ومتماسكة تمامًا.
•••
وهكذا اعتادوا الجلوس بالخارج يرسمون ويكتبون، وأحيانًا كانت تقرأ له بصوتٍ مرتفع من كتابها المفضَّل «قادة اسكتلندا»، ولكنه كان يعرف بالفعل الكثير مما حدث في تلك الرواية — فمَنِ الذي لا يعرف ويليام والاس؟ — ولكنها كانت تقرأ بسلاسة وبسرعة مناسبة، وكانت نبرة قراءتها في بعض المواضع نبرة مهيبة، وفي أخرى مرعبة، وفي أخرى فكاهية؛ مما جعله يقع في أَسْرِ الكتاب، تمامًا كما كانت هي أيضًا، على الرغم من أنها قالت إنها قد قرأته من قبلُ اثنتي عشرة مرَّة.
بات يفهم الآن على نحو أفضل قليلًا لماذا كانت تسأله كل هذه الأسئلة؛ كان يذكِّرها هو وأهله ببعض الناس في كتابها، هؤلاء الذين كانوا يعيشون على التلال وفي الأودية في العصور القديمة. ماذا سيكون موقفها إذا عرفت أن هذا «الرجل العجوز»، راوي القصص القديمة، الذي يسرد قصصه في كل أرجاء السفينة، ويجبر الناس على الاستماع إليه كما لو أنهم كانوا أغنامًا وهو الكلب الراعي لهم؛ هو والِد والتر؟
وصلنا إلى مناطق الصيد في نيوفاوندلاند في الثاني عشر من يوليو، ورأينا في التاسع عشر البرَّ، وبعثَ هذا المنظر البهجة في نفوسنا. كانت تلك الأرض جزءًا من نيوفاوندلاند. أبحرنا بين نيوفاوندلاند وجزيرة سانت بول، ونظرًا لأن الريح كانت جيدة في يومَي الثامن عشر والتاسع عشر، وجدنا أنفسنا في النهر في صباح يوم العشرين، والبر الرئيسي لأمريكا الشمالية على مرمى بصرنا. أيقظونا في الساعة الواحدة صباحًا، وأعتقد أن كلَّ راكب كان بحلول الساعة الرابعة صباحًا قد استيقظ وأخذ يحدُّ النظر في البر، المغطى كله بالغابات، وكان هذا منظرًا جديدًا علينا تمامًا. كانت هذه الأرض جزءًا من نوفا سكوشا، وبلدًا مرتفعًا جميلًا. رأينا في ذلك اليوم حيتانًا عديدة، وهي مخلوقات لم أرَها من قبلُ في حياتي.
كان هذا هو يوم العجائب؛ الأرضُ كانت تغطيها الأشجار كغطاء الشعر للرأس، والشمس كانت تُشرق في خلفية السفينة مفترشًا ضوءُها قمة الأشجار العالية. السماءُ كانت صافية ومشرقة كطبق مصقول، والماءُ كانت تداعبه الرياح فيضطرب على نحو لعوب. لقد ذهب كل غمام الضباب، وامتلأ الهواء بالرائحة الراتنجية للأشجار. وأخذت الطيور البحرية تطير بسرعة فوق الأشرعة، التي كانت كلُّها ذهبية اللون وكأنها مخلوقاتٍ من الجنة، لكن البحَّارين أطلقوا بعض الطلقات ليبعدوها عن حِبال الأشرعة والصواري.
همَّت ماري برفع جيمس الابن لكي يتذكَّر دائمًا هذا الظهور الأول للقارة التي ستكون وطنه للأبد. أخبرته باسم هذه الأرض؛ نوفا سكوشا.
ثم قالت له: «يعني الاسم اسكتلندا الجديدة.»
سمعتها أجنيس، فسألتها: «إذن، لماذا لا يسمونها هكذا؟»
ردَّت ماري: «إن هذا الاسم باللغة اللاتينية، بحسب اعتقادي.»
نخرت أجنيس بضجر. كانت الطفلة قد استيقظت في وقتٍ مبكر بسبب الضجيج والاحتفال، وقد أصبحت الآن حزينة، تريد أن ترضع طوال الوقت، وكانت تبكي كلما حاولت أجنيس التوقف عن إرضاعها. لاحظَ جيمسُ الابن كل هذا عن قرب، وقام بمحاولة ليرضع من الثدي الآخر الذي لا ترضع منه أخته، فضربته أنجيس بشدة مما جعله يترنح.
ثم صرخت فيه قائلة: «غلامٌ شقي!» صرخ باكيًا قليلًا، ثم زحفَ من ورائها وقرصَ أصابع قدم الطفلة.
ضربةٌ قوية أخرى.
قالت والدته: «إنك حقير، حقير فعلًا. ثَمَّةَ شخصٌ أمعن في تدليلك حتى ظننت أنك صرتَ رجلًا بحقٍّ.»
كان صوت أجنيس العالي يجعل ماري تشعر دائمًا وكأنها على وشك أن تأخذ صفعة منها.
جلس جيمس الأب معهم على سطح السفينة، ولكنه لم يعِر هذا الخلاف العائلي أيَّ انتباه.
قالت ماري في حيرة: «هل ستأتي وتنظر إلى البلد يا أبي؟ تستطيع أن ترى المنظر على نحوٍ أفضل من خلال السور.»
ردَّ جيمس الأب قائلًا: «أستطيع أن أراه على نحوٍ جيد بالقدر الكافي.» لم تكن نبرة صوته تحمل أي شيءٍ يدل على أن ما يرَوْنه من مناظر مُرْضٍ بالنسبة إليه.
قال جيمس: «كانت إتريك في قديم الزمان مغطاةً بالأشجار. سكنها الرهبان في البداية، وبعد ذلك أصبحت الغابة الملكية. كانت هي غابة الملك، وكانت مليئة بشجر الزان، وشجر البلُّوط، وشجر الغبيراء.»
ردَّت ماري، وقد أصبحت أكثر جرأةً من المعتاد بسبب الأمور الجديدة وغير المعتادة التي بدت لهم في ذلك اليوم: «هل كانت توجد أشجار كثيرة كهذه؟»
«أشجارٌ أفضل من تلك، وأقدم. وكانت مشهورةً في جميع أنحاء اسكتلندا باسم «غابة إتريك الملكية».»
وأكملت ماري حديثها قائلة: «ونوفا سكوشا هي المكان الذي يعيش فيه أخي جيمس.»
فردَّ: «ربما نعم وربما لا. من السهل أن يموت المرءُ هنا دون أن يعرف أحدٌ عن موته شيئًا. من الممكن أن يكون قد أكلته حيواناتٌ مفترسة.»
قالت أجنيس لجيمس الابن الذي يحوم حولها وحول الطفلة، متظاهرًا بأنه غير عابئ بهما: «اقتربْ من هذه الطفلة مرةً أخرى، وسأعاقبك عقابًا شديدًا.»
كانت أجنيس تعتقد أنه استحقَّ ما حدث له، ذلك الشخص الذي لم يكلِّف نفسه حتى عناء وداعها قبل أن يغادر. لكنها كانت تتمنَّى ظهوره في وقتٍ ما ليراها متزوجة من أخيه، وذلك حتى يتعجب، ويدرك أيضًا في النهاية أنه لم يستطع النيل منها.
تعجبت ماري كيف لأبيها أن يتكلم بهذه الطريقة، كيف يتحدث عن أن الحيوانات المتوحشة ربما تكون قد أكلت ابنه! هل هذا يُبيِّن كيف يستحوذ حزن السنين على المرء، فيُحوِّل قلبه إلى حجر، وذلك حسب كلمات الأغنية القديمة؟ ثم هَبِ الأمر كذلك، فإلى أي مدًى من الازدراء واللامبالاة يمكن أن يتحدث عنها، وهي التي لم تكن تعني له ولو جزءًا ضئيلًا مما يعنيه له أولاده؟
•••
لقد أحضر شخصٌ ما آلة كمان إلى سطح السفينة، وأخذ يضبطها ليعزف عليها. وقد شتَّتت أصوات العزف هذه انتباهَ الذين كانوا عالقين على سور السفينة، يشير كل منهم إلى الآخر، لما كان بإمكان أيٍّ منهم رؤيته بنفسه — إضافة إلى تكرار الاسم الذي بات يعرفه الجميع الآن؛ نوفا سكوشا — ثم بدءوا يتنادون من أجل الرقص. ذكروا أسماء الرقصات الشعبية الاسكتلندية التي يريدون من عازف الكمان أن يعزف موسيقاها. تمَّ إخلاء مكان للرقص، واصطفَّ كل اثنين للرقص بنوع من الترتيب، وبعد فترةٍ تعالت فيها صيحاتُ التشجيع النافد صبرها وصريرُ ضبط الكمان المزعج، بدأ العزف وانتظم اللحن وبدأ الرقص.
الرقصُ في الساعة السابعة صباحًا.
صعد أندرو من أسفل حاملًا ما يحتاجونه من الماء. وقف قليلًا يشاهد الرقص، ثم فاجأ ماري بأن طلبَ منها الرقص معه.
قالت أجنيس على الفور: «ومَنِ الذي سيعتني بالولد؟ لن أقوم من فراشي لأجري وراءه وأمسك به.» لقد كانت مُغرمة بالرقص، ولكن لا يمكنها الرقص الآن، ليس فقط بسبب رضاعة الطفلة، ولكن بسبب تقرح أعضاء جسدها التي تأثرت بشدة أثناء الولادة.
رفضت ماري من جانبها، قائلةً إنها لن تستطيع أن تشاركه الرقص، ولكن أندرو قال: «سنربطه بأمه بحبل.»
ردَّت ماري: «لا، لا، ليس لي حاجة بالرقص.» كانت ماري تعتقد أن أندرو يشفق عليها، متذكِّرًا كيف اعتادت أن تُترك وحيدة دون أن تشارك في الألعاب المدرسية وفي الرقص، على الرغم من أنها كانت تستطيع بالفعل الجري والرقص على نحو رائع. كان أندرو هو الوحيد من بين إخوتها القادر على مثل التعاطف، ولكنها كانت تفضِّل لو عاملها مثلما يعاملها إخوتها الآخرون، وتركها وحيدة كما كانت دائمًا؛ فالشفقة تغضبها.
بدأ جيمس الابن في التبرم بصوتٍ عالٍ، بعدما سمع كلمة «حبل».
قال له أبوه: «اهدأ، اهدأ وإلا سأضربك بقوة.»
ثم فاجأ جيمس الأب الجميعَ بصرف انتباهه إلى حفيده.
«أنت، أيُّها الغلام الصغير! أنت ستجلس بجواري.»
قالت ماري: «أوه، إنه لن يجلس. سيجري، ولن تستطيع الجري وراءه يا أبي. سأجلس أنا معه.»
قال جيمس الأب: «سيجلس.»
قالت أجنيس لماري: «حسنًا، احسمي الأمر. اذهبي أو ابقي معه.»
نظر جيمس الابن لأجنيس ثم لماري، وتنشق بحذر.
قال جده: «ألا يعرف حتى أَبْسَطَ الكلمات؟ اجلسْ هنا يا غلام.»
ردَّت ماري: «إنها كلماتٌ كثيرة. يعرف اسم ذراع ساري مقدمة السفينة.»
كرَّر جيمس الابن: «ذراع الساري.»
قال جيمس الأب: «لا تتكلم واجلس هناك.» طأطأ جيمسُ الابن رأسه على مضض، وجلس في المكان المشار إليه.
أشار جيمس الأب إلى ماري: «الآن، اذهبي.» مضت ماري وهي على وشك البكاء، والحيرة تعلو وجوه الجميع.
قالت أجنيس: «لقد جعلت منه غلامًا سيئًا.» لم تقل ذلك بالطبع أمام والد زوجها، ولكن بعيدًا عنه. كانت تتكلَّم بقدرٍ من اللامبالاة، وهي تمازح وَجْنَةَ طفلتها بحلمة ثديها.
•••
لم يكن الناسُ يرقصون على إيقاع الرقص وخطواته، بل يشذون عنهما تمامًا، وذلك بطول سطح السفينة. كانوا يمسكون بأي شخص ويجعلونه يدور كجزءٍ من الرقص. حتى إنهم كانوا يجتذبون بعض البحَّارة ويرقصون معهم عندما يتمكَّنون من ذلك. كان الرجالُ يرقصون مع النساء، بينما رقصَ بعضُ الرجال مع رجال آخرين، ورقصَ بعضُ النساء مع نساءٍ أخريات، ورقصَ الأطفالُ بعضهم مع بعض، أو كلٌّ بمفرده، وذلك دون مراعاة لخطوات الرقص، أو مع اعتراض البعض لطريق الآخرين؛ حيث كان يعترض كلٌّ منهم طريق الآخر، وهذا لا يهم. كان بعضُ الأطفال يرقصون في مكان ما، وأخذوا يدورون مع تشبيك أذرعتهم معًا في الهواء، حتى شعروا بدوار شديد، فسقطوا على الأرض. وبعد ثانيتين، وقفوا على أقدامهم، متعافين من الدوار الذي كان قد أصابهم، ومستعدِّين للشروع في نفس الأمر من جديد.
أمسكت ماري يد أندرو، وها هي تدور حوله، ثم تنتقل للآخرين، لمن ينحني لها ويدفع جسدها الصغير في الهواء. غابَ جيمس الابن عن بصرها، ولم يعد بإمكانها معرفة إن كان قد بقي مع جده أم لا. ترقص منخفضة في مستوى الأطفال، على الرغم من أنها أقل جرأة وبهجة. وفي ظلِّ كثرة الأجساد كانت عديمة الحيلة، أصبحت غيرَ قادرةٍ على التوقف؛ يجب أن تتحرك مع أنغام الموسيقى وتدور معها وإلا ستسقط على الأرض.
•••
قال جيمسُ الأب: «أَنصِتْ؛ الآن تُنصت وسأقصُّ عليك القصة. هذا الرجل العجوز، ويل أوفوب؛ جدي — كان جدي كما أنني جدُّك — كان يجلس خارج منزله في المساء مسترخيًا، وكان الطقس صيفيًّا معتدلًا. كان بمفرده. وكان هناك ثلاثة أولاد صغار أكبر منك قليلًا، أَتَوا إلى منزل ويل. وألقوا عليه تحية المساء قائلين: «مساءُ الخير يا ويل أوفوب.»
فَرَدَّ عليهم: «مساءُ الخير يا صغار، كيف يمكنني مساعدتكم؟»
أجابوه قائلين: «هل يمكنك أن تعطينا سريرًا نَبِيتُ عليه الليلة أو مكانًا لننام فيه؟» قال: «نعم، نعم. أعتقد أنه لا توجد مشكلة في توفير مكان لثلاثة من الصغار مثلكم للمبيت فيه.» ودخل المنزل وهم من ورائه، ثم قالوا: «بالمناسبة، هل يمكن أن تعطينا المفتاح أيضًا؛ المفتاح الفضي الكبير الذي أخذته منا؟» أخذ ويل ينظر حوله، ويبحث عن المفتاح، وهو يقول في نفسه: أيُّ مفتاح هذا؟ ثم الْتفت ليسألهم: أيُّ مفتاح هذا؟ لأنه كان يعرف أنه لم يَكُنْ لديه هذا الشيء في حياته، لم يَكُنْ لديه من قبلُ مفتاحٌ كبير أو مفتاحٌ فِضِّي. وعندما الْتفتَ ليسألهم لم يجدهم! فخرج من المنزل، وأخذ يبحث عنهم حول المنزل، ثم في الطريق. لكن لم يجد لهم أثرًا. فنظر في التلال بحثًا عنهم. لم يكن لهم أي أثر.»
«ثم أدرك هول الأمر. هم لم يكونوا أولادًا صغارًا على الإطلاق. آه، لا. لم يكونوا صغارًا على الإطلاق!»
لم يُصدر جيمسُ الابن أيَّ صوت. وجدَ خلفه الحائط السميك الذي يفصلهم عن الراقصين والجَلَبَة التي يحدثونها، وإلى الجنب أمه، موجودة مع وحشٍ صغير يعض في جسدها. وكان يجلس أمامه الرجل العجوز بصوته العالي، اللافت ولكن البعيد، ونفخات نفَسه الكريه الرائحة، وشعوره بالاستياء والأهمية الذي يحاكي بالضبط شعور الطفل، وطبيعته الجائعة والماكرة والظالمة. هذه هي المواجهة الواعية الأولى لجيمس الابن مع شخص متمركز حول ذاته تمامًا مثله.
استطاع بالكاد أن يركز ليُظهِر أنه لم يُهزم تمامًا.
وقال: «المفتاح. المفتاح؟»
•••
لمحت أجنيس أندرو وهي تشاهد الرقص، فوجدت احمرارًا في وجهه وثِقلًا في حركته، وكان يرقص ممسكًا بيد العديد من النساء المرحات. إنهم يؤدون الآن رقصة «ستريب ذا ويلو». لا توجد فتاة واحدة يثير شكلها أو رقصها حفيظة أجنيس. كما أنها لم تكن لتقلق من أندرو على أي حال. ولكنها رأت ماري تدور، والتورد في وجهها، على الرغم من أنها كانت خجولة جدًّا وقصيرة جدًّا بحيث كانت لا تقوى على النظر لأي شخص في وجهه. ورأت المرأة التي لا أسنانَ لها تقريبًا التي كانت تشبه الساحرات، والتي ولدت طفلًا بعدها بأسبوع، وهي ترقص مع زوجها صاحب الخدين الغائرين. فلم تكن تعاني من تقرح في أعضاء جسدها. لا بد أنها قد أسقطت الطفل بسهولة كما لو كان جُرَذًا، ثم أعطته لواحدة من بناتها النحيفات كي تعتني به.
ورأت أيضًا السيد سوتر، الجرَّاح، وهو يلهث، مبتعدًا عن امرأة تريد الإمساك به، متملصًا من الرقص وقد أتى ليلقي عليها التحية.
تمنَّت ألا يفعل ذلك. فها هو الآن سيعرف مَنْ هو والد زوجها، وقد يُضطر إلى سماع ثرثرة ذلك العجوز الأحمق. كان سيلقي نظرة على أغراضهم وملابسهم الريفية التي هي الآن غير نظيفة. كان سيرى أجنيس على حقيقتها.
قال: «إذن، ها قد وجدتُكِ. ها أنتِ مع كنزك.»
لم تسمع أجنيس من قَبْلُ هذه الكلمة تُستخدم للإشارة إلى طفل. بدا وكأنه يتحدث إليها بالطريقة التي قد يتحدث بها إلى شخص من معارفه، ربما سيِّدة راقية، وليس كطبيبٍ يتحدث إلى مريضة. أربكها هذا السلوك، ولم تعرف كيف ترد عليه.
قال لها: «هل طفلتكِ بخير؟» كان لا يزال يلتقط أنفاسه بعد الرقص، ووجهه، رغم أنه غير متورد، غطَّاه عرقٌ خفيف.
«نعم.»
«وأنتِ؟ هل استرددتِ عافيتكِ؟»
هزَّت كتفيها قليلًا، لكيلا تنزع حلمة ثديها من طفلتها.
«بشرتك صافية على أي حال، وهذه علامة جيدة.»
اعتقدت أنه كان يتنهَّد أثناء قوله هذا الكلام، وتساءلت هل هذا ربما يرجع لكون بشرته هو، عندما تُرى في ضوء الصباح، تكون شاحبة كشرش اللبن.
ثم سألها إن كانت تأذن له بالجلوس والتحدث إليها لبعض الوقت. وارتبكت للمرة الثانية بسبب رسميته، ولكنها ردَّت عليه قائلة إنه لا مانع لديها.
نظر والد زوجها إلى الجرَّاح — وإليها أيضًا — نظرة ازدراء، ولكن السيد سوتر لم يلحظها، ربما لم يدرك حتى أن هذا الرجل العجوز، والولد ذا الشعر الأشقر الذي يجلس مستقيم الظهر ومواجهًا للرجل العجوز؛ لهما علاقة بها.
قال: «إن الرقص رائع جدًّا. ولا تسنح للمرء فرصة أن يقرر مع مَنْ يرقص. وإنما يجري اجتذابه من قِبل الجميع ومن قِبل صنوفٍ شتى من البشر.» ثم سألها: «ماذا ستفعلين في غرب كندا؟»
بدا السؤال لها أسخف ما يكون. هزَّت رأسها وفكَّرت ماذا عساها أن تقول؛ سوف تغسل وتخيط وتطبخ، وبالتأكيد سترضع أطفالًا أكثر. ولن يمثل المكان الذي ستقوم فيه بكل هذا أهمية كبيرة بالنسبة إليها. سيكون في منزل ما، ليس أحدَ المنازل الأنيقة.
عَرَفَتِ الآن أن هذا الرجل مُعجَب بها، وكيف ذلك؟ تذكَّرت أصابعه وهي تمر على جسدها. ما الضرر الذي يمكن أن يُحدثه ذلك لامرأة لديها طفلة ترضعها؟
شعرت بأن عليها إظهارَ قليلٍ من اللُّطف له.
فقالت له: «ماذا ستفعل أنت؟»
ابتسم وقال إنه يعتقد أنه سيواصل العمل فيما قد تدرَّب على فعله، وأنَّ الناس في أمريكا — كما سمع — في حاجة إلى أطباء وجرَّاحين تمامًا مثل غيرهم في جميع أنحاء العالم.
وأضاف: «لكنني لا أريد أن أُقيَّد بالإقامة في إحدى المدن. أودُّ أن أذهب بعيدًا حيث نهر المسيسيبي، على الأقل. لقد كان كلُّ شيءٍ خلف هذا النهر تمتلكه فرنسا، كما تعلمين، أما الآن، فهو ملك لأمريكا، والباب الآن مفتوحٌ على مصراعيه، حيث يستطيع أي شخص أن يذهب إلى هناك، غير أنه من الممكن أن يصطدم بالهنود. ولا يقلقني هذا الأمر أيضًا. فحيثما يكون قتالٌ مع الهنود، تصبح الحاجة إلى جَرَّاح أشد.»
لم تكن تعرف أيَّ شيءٍ عن نهر المسيسيبي الذي يتحدَّث عنه، لكنها كانت تعرف أنه لا يبدو كمقاتل؛ فهو لم يكن يبدو وكأنه يستطيع أن يصمد في شجار مع الأولاد الصغار المشاغبين في هويك، ناهيك عن معركة مع الهنود الحمر.
تمايل راقصان على مقربة كبيرة منهما، بحيث جلبَا الهواء على وَجْهَيْهِمَا. كانت فتاة صغيرة، طفلة في واقع الأمر، أخذت تنورتها تطير، ولم يكن الشخص الذي يرقص معها سوى أخي زوجها، والتر. انحنى والتر على نحوٍ سخيف لأجنيس والجرَّاح ووالده، ودفعته الفتاة وجعلته يدور، وأخذ يسخر منها. فقد كانت متأنقة في ملبسها مثل السيدة الصغيرة، وقد وضعت أشرطة في شعرها. كان وجهها منيرًا من السعادة، وخدَّاها لامعان مثل المصابيح، وكانت تتعامل مع والتر بأريحية كبيرة، كما لو أنها كانت ممسكة بدُمية كبيرة.
قال السيد سوتر: «هل هذا الفتى صديقك؟»
«لا، إنه أخو زوجي.»
لم تتمالك الفتاة نفسها من الضحك، عندما تسبَّبت هي ووالتر؛ بسبب عدم اكتراثها، في إسقاط راقصين آخرين أثناء الرقص. ولم تستطع الوقوف من شدة الضحك، واضطرَّ والتر لمساعدتها على النهوض. ثم اتَّضح أنها لا تضحك، ولكنها في نَوْبَة سعال، وفي كل مرة تكون النوبة على وشك التوقف، كانت تضحك، فتعود النوبة مرة أخرى. ضمَّها والتر إليه وتحرَّك بها وهو شبه حامل لها إلى سور السفينة.
قال السيد سوتر، وقد تحوَّلت عيناه بسرعة إلى الطفلة الرضيعة قبل أن يركِّز مرة أخرى على الفتاة: «تُوجد فتاةٌ واحدة هنا لن يكون لها أبدًا طفلٌ ترضعه من صدرها. أشكُّ أن تلك الفتاة ستعيش لفترة طويلة بالقدر الكافي بحيث ترى الكثير في أمريكا. أليس لديها أحدٌ ليعتني بها؟ كان يجب ألا يُسمح لها بالرقص.»
وقفَ كي يتمكَّن من رؤية الفتاة بينما يمسكها والتر عند السور.
وقال: «لقد أُوقِفت هناك. لا يوجد نزف، ليس هذه المرة على الأقل.»
لم تكن أجنيس تهتم بأغلب الناس، لكنها كانت تستطيع أن تشعر بأي رجل يهتمُّ بها، وكانت تستطيع أن ترى الآن أنه راضٍ عن رأيه الذي صرَّح به بشأن هذه الفتاة الصغيرة. وكانت ترى هي أن هذا مرجعه حتمًا إلى حالته الشخصية؛ لا بد أنه كان يعتقد أن حاله لم يكن بالغ السوء بالمقارنة مع حال تلك الفتاة.
كان يُوجد صراخ عند سور السفينة، ولم يكن الأمر متعلقًا بالفتاة ولا بِوَالتر. ثم صرخة أخرى، وانصرف الكثير من الناس عن الرقص مسرعين لينظروا إلى الماء. نهض السيد سوتر من جلسته وتحرَّك بضع خطوات في ذلك الاتجاه، تابعًا الحشد، ثم عاد.
وقال: «حُوتٌ. يقولون إنهم شاهدوا حوتًا يبتعد من هذا الجانب.»
صرخت أجنيس بصوتٍ غاضب قائلة: «اجلس أنت هنا»، وقد الْتفتَ إليها مندهشًا. لكنه رأى أنها كانت تُوجِّه كلماتها إلى جيمس الصغير، الواقف على قدميه.
قال السيد سوتر وكأنه قد اكتشف شيئًا غير عادي: «إنه ولدك إذن، أليس كذلك؟ هل يمكنني أن أحمله ليلقي نظرة؟»
•••
وهكذا رأت ماري — التي تصادفَ أن رفعت وجهها لأعلى وسط حشد الركَّاب — جيمسَ الابن، وزاد ذهولها، وهي تراه محمولًا عبر سطح السفينة بين ذراعي رجل غريب مسرع، رجل أسود الشعر شاحب الوجه ورابط الجأش على الرغم من دماثته الماكرة والذي كان يُعَدُّ بالتأكيد غريبًا. سارق أطفال أو قاتل أطفال، متجه إلى سور السفينة.
صرخت صرخةً مدوية كان من شأنها أن تجعل أيَّ شخص يعتقد أنها في قبضة الشيطان، وقد أفسح الناسُ الطريقَ لها كما يفعلون أمام كلب مجنون.
صرخت قائلة: «اقبضوا على هذا اللص، اقبضوا على هذا اللص. خُذوا الولد منه. أمسكوه! جيمس، جيمس! اهرب منه!»
دفعت نفسها بقوة للأمام وأمسكت كاحلَي الطفل، وأخذت تجذبه بعنف، مما جعله يصرخ بخوف وغضب. كاد الرجل الذي كان يحمله أن يسقط ولكنه لم يترك الطفل. تمسَّك الرجلُ بالطفل ودفع ماري بقدمه.
صرخ فيمن حولهما: «امسكوا ذراعيها!» وأخذ يلهث. ثم أضاف: «إنها مصابة بنوبة.»
شقَّ أندرو طريقه بين الناس الذين كانوا ما زالوا يرقصون والآخرين الذين توقفوا عن الرقص ليشاهدوا المأساة. استطاع بطريقة ما الإمساك بماري وجيمس الابن، وأوضحَ أن هذا الطفل هو ابنه، وأن السيدة هي أخته، وأن الأمر لا علاقة له بالنوبات المرضية. أفلت جيمس الابن نفسه من والده وذهب إلى ماري، ثم أخذ في ركلها لتتركه.
شرح السيد سوتر باختصار كل ما حدث مُقدِّمًا اعتذاره واحترامه لهم. وخلال ذلك، وبعد أن استعاد جيمس الابن نشاطه، إذا به يصرخ أكثر من مرة قائلًا إنه لا بد أن يرى الحوت. أصرَّ جيمس على هذا وكأنه كان يعرف تمامًا ما هو الحوت.
أخبره أندرو بما سيحدث له إذا لم يوقف الجلبة التي كان يُحْدِثُها.
قال الجرَّاح: «لقد توقفت لدقائق قليلة لأتكلم مع زوجتك، لأسألها إن كانت بصحة جيدة أم لا. لم يكن لديَّ وقت لأُوَدِّعَها؛ لذلك يجب أن تودِّعَها نيابةً عنِّي.»
•••
كان ثَمَّةَ حيتان كثيرة استطاع جيمس الابن أن يشاهدها طوال اليوم، وكذلك شاهدها الجميع حتى أصابهم الضجر. فقد ملَّ الناسُ من النظر إلى الحيتان.
قال جيمس الأب موجهًا حديثه إلى السماء: «هل من أحدٍ غير هذا الوغد المهندم كان ليجلس هكذا يتحدث إلى امرأة عارية الصدر؟»
ثم اقتبس من الكتاب المقدس آياتٍ تتحدَّث حول الحيتان:
«هُنَاكَ تَجْرِي السُّفُنُ. لوِيَاثَانُ هذَا خَلَقْتَهُ لِيَلْعَبَ فِيهِ»، «الْحَيَّةَ الْهَارِبَةَ. لوِيَاثَانَ الْحَيَّةَ الْمُتَحَوِّيَةَ وَيَقْتُلُ التِّنِّينَ الَّذِي فِي الْبَحْرِ.»
لكنه لم يكن ليكلِّف نفسه عناءَ الذهاب وإلقاء نظرة عليها.
ظلَّت ماري غير مقتنعة بقصة الجرَّاح. بالطبع، كان لا بد أن يقول لأجنيس إنه سيأخذ الطفل ليلقي نظرة على الحوت، لكن هذا لا يجعل القصة حقيقية بالنسبة إليها. فحين كانت تبرز فجأة في عقلها صورة هذا الرجل الشرير وهو يحمل جيمس الابن، وكانت تشعر في داخلها بقوة صرختها، كانت تندهش وتشعر بالسعادة. كانت لا تزال تعتقد أنها هي التي أنقذته.
•••
كان والد نيتي يُدعى السيد كاربرت. وكان يجلس أحيانًا ويستمع إلى نيتي وهي تقرأ لوالتر أو تتحدَّث معه. وفي اليوم التالي للاحتفال والرقص، عندما كان الكثير من الناس في حالة مزاجية سيئة بسبب الإنهاك والبعض الآخر بسبب شرب الويسكي، ولا تَكاد ترى شخصًا واحدًا ينظر إلى الشاطئ، بحث السيد كاربرت عن والتر ليتحدث إليه.
وقال له: «إن نيتي منجذبة إليك جدًّا، حتى إنها ترى أنك لا بد أن تأتي معنا إلى مونتريال.»
ضحكَ ضحكة اعتذاريَّة، وضحك والتر أيضًا.
ردَّ والتر: «لا بد أنها تعتقد أن مونتريال توجد في غرب كندا.»
«لا، لا. أنا لا أمزح. بحثت عنك لأتحدث معك متعمدًا ألا تكون حاضرة معنا. أنت رفيقٌ جيد لها، ويسعدها أن تكون معك. وأرى أنك فتًى ذكي وعاقل وسوف تُبلي بلاءً جيدًا إذا عملت معي.»
قال والتر، وقد اندهش بشدَّة حتى كان في صوته نبحٌ بسيط: «أنا هنا مع أبي وأخي. سنحصل على أرض.»
ردَّ قائلًا: «حسنًا. إذن، أنت لست الابن الوحيد لوالدك. ربما لا توجد أراضٍ جيدة تكفيكم كلكم. وقد لا تريد أن تظل مزارعًا طيلة حياتك.»
قال والتر في نفسه: هذا صحيح.
قال: «في رأيك، كَمْ عمر ابنتي الآن؟»
لم يستطع والتر التفكير. وهزَّ رأسه تعبيرًا عن عدم معرفته بالأمر.
قال والد نيتي: «هي في الرابعة عشرة من عمرها أو تقترب من الخامسة عشرة. لن تظنَّ أن هذا هو عمرها، أليس كذلك؟ لكن هذا لا يهم، ليس هذا هو ما أردت أن أتحدَّث عنه. وأنا لا أتحدث عنك ولا عن نيتي، ولا عن أيٍّ مما سيحدث في السنوات القادمة. هل فهمت هذا؟ لا تهم السنوات القادمة. لكنني أطلب منك أن تأتي معنا وأن تجعلها الطفلة التي هي عليها الآن وتسعدها بصحبتك. ثم إنني بالطبع سأكافئك على ذلك، وسيكون لك عمل أيضًا، وإذا صار كل شيء على ما يرام، فيمكنك أن تتوقع المزيد من التقدم.»
رمقَ كلٌّ منهما في تلك اللحظة نيتي وهي تتقدم تجاههما. أخرجت لسانها لوالتر، بسرعة شديدة، حتى إن أباها لم يلحظ ذلك على ما يبدو.
توقفت سفينتنا لقلة الرياح في يومي الحادي والعشرين والثاني والعشرين، أما في يوم الثالث والعشرين فكانت الريح أكثر، ولكن فيما بعد الظهيرة فزع الجميعُ بسبب هبوب ريح شديدة صاحَبَها رعدٌ وبرق، وكانت مخيفة جدًّا، وأدَّت للمرة الثانية إلى تمزيق أحد الأشرعة الرئيسية بالسفينة، والتي كان قد تمَّ تصليحها توًّا. استمرَّت الريح الشديدة لنحو ٨ أو ١٠ دقائق. وفي يوم الرابع والعشرين كانت الرياح معتدلة؛ مما سهَّل لنا التقدم باتجاه النهر، حيث أصبح الطريق أكثر ضيقًا، بحيث رأينا اليابسة على جانبي النهر. ولكننا توقفنا بسبب قلة الرياح مرة ثانية حتى يوم الحادي والثلاثين، عندما هبَّت ريح خفيفة استغرقت ساعتين فقط …
لم يستغرق والتر وقتًا طويلًا ليتخذ قراره. كان يعرف قواعد اللياقة جيدًا، فشكر السيد كاربرت، ولكنه قال له إنه لم يفكر في العمل في مدينة ما، أو في أي وظيفة داخلية. كان يعني أنه أراد أن يعمل مع عائلته حتى يبنوا منزلًا ويحصلوا على أرض للزراعة، ثم بعد ذلك عندما لا يحتاجون إلى مساعدته، كان يفكر في أن يتاجر مع الهنود، مستكشفًا من نوعٍ ما. أو أن يصبح عامل منجم ذهب.
قال له السيد كاربرت وهما يمشيان عدة خطوات معًا، جنبًا إلى جنب: «كما تشاء. يجب أن أعترف أنني ظننتك أكثر جدية من ذلك. لحسن الحظ أني لم أقل شيئًا لنيتي.»
لكن نيتي كانت على علم بموضوع كلامهما معًا. وقد أخذت تلحُّ على والدها حتى أخبرها بما حدث، فأخذت تبحث عن والتر حتى وجدته.
وقالت له بصوتٍ أكثر نضجًا ممَّا اعتاد أن يسمعه منها قبل ذلك: «لن أتحدث معك مرةً أخرى من الآن فصاعدًا. ليس هذا لأني غاضبة، ولكن فقط لأنني إذا استمررت في الحديث إليك، فسأضطر للتفكير طوال الوقت في أنني قريبًا ما سأودِّعك. لكني إذا توقفت عن الحديث إليك الآن، فسأكون قد ودعتك بالفعل، بحيث ينتهي الأمر كله قريبًا.»
قضتِ الوقتَ المتبقِّي في المشي برزانة مع أبيها وهي مرتدية أفخم ثيابها.
كان والتر يشعر بالأسى عند رؤيتها — ففي عباءاتها وقلنسواتها النسائية، كانت تبدو بائسةً وأكثر طفوليةً من ذي قبل، كما كانت طريقتها في إظهار الغطرسة مؤثرة — لكن كان ثَمَّةَ الكثير من الأمور التي تستحوذ على انتباهه، حتى إنه نادرًا ما كان يفكر فيها عندما لا تكون أمام عينيه.
أتت قوارب عديدة من اليابسة بمحاذاة سفينتنا، بها سمكٌ وشراب رم وأغنام حيَّة وتَبْغٌ وأشياء أخرى، باعوها لنا بأسعار عالية جدًّا. في الأول من أغسطس، هبَّت ريحٌ خفيفة. وفي صباح يوم الثاني مررنا بجزيرة أورليانز، وفي الساعة السادسة صباحًا تقريبًا كانت كيبك بادية لنا، وكنَّا في حالة صحيَّة جيدة، حسبما أعتقد، كالوقت الذي تركنا فيه اسكتلندا. ومن المفترض أن نُبحر إلى مونتريال غدًّا في سفينة بخارية …
•••
كتب أخي والتر في الجزء السابق من هذا الخطاب يومياتٍ طويلة، أسعى إلى تلخيصها في دفتر صغير. قضينا رحلة بحرية رائعة جدًّا، وقد حافظنا فيها على صحتنا جيدًا. مات ثلاثة فقط من أصل ثلاثمائة مسافر، كان اثنان من الثلاثة مريضَيْن عندما غادرا بلادهما، والثالث طفلٌ وُلِدَ في السفينة. وظلَّت عائلتي على متن السفينة تتمتع بحالة صحية جيدة، كالتي كانت عليها في اسكتلندا. لا يمكننا التعليق بعدُ على الوضع في البلد الجديد. ثَمَّةَ أعداد كبيرة من الناس يهاجرون إلى هنا، ولكن العائد جيد. لا يمكنني أن أنصح الناس بالمجيء أو عدم المجيء إلى هنا. الأراضي شاسعة جدًّا هنا، وعدد سكانها ضئيل جدًّا. أعتقد أننا رأينا أرضًا كثيرة يمكن أن تكفي كل سكان بريطانيا، وهي غير مزروعة ومغطَّاة بالغابات. سنكتب لكم مرة أخرى بمجرد استقرارنا.
عندما أضاف أندرو هذه الفقرة، أُقنِعَ جيمسُ الأب بأن يضيف توقيعه إلى توقيع وَلَدَيْه قبل أن يُقفل هذا الخطاب ويُرسَل إلى اسكتلندا، من كيبك. فهو لم يكن ليكتب شيئًا آخر، وقال في هذا الشأن: «ما الذي عسى أن يمثله هذا الأمر من أهميةٍ بالنسبة إلي؟ إنه لا يمكن أن يكون وطني. إنه ليس سوى المكان الذي سأموت فيه.»
ردَّ أندرو: «إنه سيكون كذلك لنا جميعًا. وفي يوم ما، سننظر إليه أكثر كوطنٍ لنا.»
«لن أعيش حتى أفعل هذا.»
«هل أنت بصحة جيدة يا أبي؟»
«أنا كذلك، ولست كذلك.»
أخذ الآن جيمس الابن يلتفت على نحوٍ متقطِّع إلى الرجل العجوز؛ فقد كان يقف أحيانًا أمامه وينظر مباشرةً إلى وجهه قائلًا له كلمة واحدة، بإصرار قوي، كما لو أنه لا يسعه إلا أن يفتح باب الحديث.
كان يختار نفس الكلمة في كل مرة؛ كلمة «مفتاح».
قال جيمس الأب: «إنه يزعجني. إني لا أحبُّ جرأته. سيعيش هنا لفترة طويلة ولن يتذكر شيئًا عن اسكتلندا، المكان الذي وُلِدَ فيه أو السفينة التي سافر عليها، وسيبدأ في التحدث بلغة أخرى بالطريقة التي يتبع الناسُ عندما يذهبون إلى إنجلترا، فقط ستكون أسوأ من طريقتهم. إنه ينظر إليَّ نظرة تَشِي بأنه يعرف أنني قد انتهيتُ أنا وعصري.»
قالت ماري: «سيتذكر العديد من الأمور.» أصبحت ماري أكثر جرأة وانفتاحًا في حديثها داخل العائلة منذ فاصل الرقص الذي أُقيم على سطح السفينة وحادثة السيد سوتر.
ثم أضافت: «وهو لا يقصد أن تكون نظرته جريئة. إنها تعني فقط أنه مهتمٌّ بكلِّ شيء. إنه يفهم ما تقول، على نحوٍ أبعد مما تعتقد. إنه يستوعب كلَّ شيء ثم يفكر فيه. قد يصبح واعظًا عندما يكبر.»
على الرغم من نظرتها القاسية لِدِينها وبُعدها عنه، فإنه ما زال أكثر شيءٍ مميَّز يمكن أن تتخيَّل أن يرتبط به شخصٌ ما.
امتلأت عيناها بدموع الحماس، ونظرت إلى الطفل بتحفظاتٍ رصينة.
كان جيمس الابن يقف وسطهم؛ زاهي العينين، أشقر، قويًّا، مفتخرًا بنفسه قليلًا، متحفظًا بعض الشيء، رزينًا على نحوٍ غير عادي، كما لو أنه قد شعر بالفعل أن أعباء المستقبل قد أُلقيت على عاتقه.
شعر الكبارُ أيضًا بدهشة اللحظة، كما لو أنهم قد حُمِلوا في الأسابيع الستة الماضية ليس على متن سفينة ولكن على موجة واحدة كبيرة، قد أنزلتهم بقوة وسط هذا الضجيج العارم باللغة الفرنسية وصيحات طيور النورس ورنين أجراس الكنائس الكاثوليكية الرومانية؛ صخبٌ كافرٌ تمامًا.
فكَّرت ماري في انتزاع جيمس الابن والهرب به إلى داخل جزءٍ ما من مدينة كيبك الغريبة والعمل كخياطة (عرفت من خلال الأحاديث التي دارت على متن السفينة أن تلك المهنة مطلوبة) والتكفل بتربيته بمفردها، كما لو أنها والدته.
فكَّر أندرو في حال المرءِ كيف سيكون إذا جاء إلى هنا بمفرده، دون زوجة أو والد أو أخت أو أطفال، دون عبءٍ واحد على ظهره، ماذا يستطيع أن يفعل حينئذٍ؟ قال في نفسه إنه لا فائدة من التفكير في ذلك.
لقد سمعت أجنيس نساءً على القارب يَقُلْنَ إن الضباط الموجودين في الشوارع هنا هم بالطبع أوسم الرجال الذين يمكن أن تقابلهم أي امرأة في أي مكان في العالم، ورأت الآن أن هذا الكلام حقيقة مؤكَّدة. ستضطر كل فتاة لأخذ حذرها عندما تكون معهم. لقد سمعت أيضًا أن عدد الرجال في أي مكان هنا أكبر من عدد النساء بعشرة أضعاف أو عشرين ضعفًا. وهذا يعني بالضرورة أنكِ تستطيعين أن تحصلي على ما تريدين منهم. الزواج؛ الزواج من أحد الرجال الأغنياء يجعلك تتنقلين في عربة وتشترين أدوات تجميل لتغطي أي وحمة موجودة على وجهك، وترسلين هدايا إلى أمك. هذا إذا لم تكوني متزوجة بالفعل، وتجرِّين خلفكِ طفليْن.
قال والتر في نفسه إن أخاه قوي، وكذلك أجنيس، التي يمكنها أن تساعده في الأرض، بينما ترعى ماري الطفليْن. إذن، ما الذي يُوجِب عليه أن يكون مزارعًا؟ فعندما يذهبون إلى مونتريال، سيذهب ويلتحق بشركة هدسون باي، وسوف يرسلونه إلى الحدود حيث سيجد الثروة والمغامرة كذلك.
•••
لقد شعر جيمس الأب بأنه قد تخلَّى عن بلده، وها هو قد بدأ في التحسُّر عليه علانيةً: «كيف نرنِّم ترنيمة الرَّبِّ في أرضٍ غريبة؟»
•••
… يتكلم الناس هنا لغةً إنجليزية جيدة جدًّا، ويوجد الكثير من كلماتنا الاسكتلندية التي لا يستطيعون فهمَها، كما أنهم يعيشون مستقلِّين إلى حدٍّ كبير، بعد انتهاء حكم الملك جورج … يوجد طريق يتجه شمالًا مباشرةً من مدينة يورك بطول ٥٠ ميلًا، وبيوت المزارع كلها تقريبًا تتكوَّن من طابقيْن. البعضُ لديه نحو ١٢ بقرة و٤ أو ٥ من الخيول؛ لأنهم لا يدفعون سوى مبلغ ضئيل جدًّا كضرائب، ويتنقلون في عرباتهم الخفيفة مثل اللوردات … لا يوجد كاهنٌ مشيخي في هذه المدينة حتى الآن، لكن توجد كنيسة إنجليزية كبيرة وكنيسة ميثودية … يقرأ الكاهن الإنجليزي كلَّ ما يقوله فيما عدا بكائه الدائم في نهاية كل نقطة قائلًا: «يا ربي العظيم، نَجِّنا!» في حين أن الكاهن الميثودي يصلِّي بأعلى صوتٍ عنده، ويكون جميع الناس في الصلاة جاثين على رُكَبهم يصرخون قائلين: «آمين»، حتى إنك بالكاد تسمع ما يقوله الكاهن، ولقد رأيتُ بعضهم يقفز لأعلى كما لو أن روحهم وأجسادهم ستصعد إلى الجنة، ولكن أجسادهم كانت عائقًا نجسًا لهم؛ لأنهم دائمًا ما كانوا يسقطون مرة أخرى بالرغم من صراخهم: «يا يسوع، يا يسوع»، كما لو أنه هناك وسيسحبهم إليه لأعلى من خلال عُلية الكنيسة … الآن، أنصحك يا روبرت بعدم المجيء إلى هنا. اسمع، ربما تكون قد اتخذت قرارك عندما لم تأتِ معنا إلى هنا، ولا أتوقع أبدًا أن أراك مرةً أخرى … فلْيَهَبْكَ الربُّ رضا الساكن في الْعُلَّيْقَةِ … لو كنت أعلم أنك ستتركنا، ما كنت لآتي إلى هنا، كان هدفي أن تكونوا جميعًا بالقرب مني، لقد جعلتني آتي إلى أمريكا، ولكن أفكار الناس باطلة؛ لأنها أبعدتك عني تمامًا، لكن لا يمكنني تحمُّل هذا الآن … لن أقول المزيد، لكن أرجو أن يكون ربُّ يعقوب هو ربك، وأن يكون دأبك دائمًا هو صلاتك المخلصة لأبيك المحب حتى الموت …
ما زال ثَمَّةَ الكثير من الكلمات في هذا الخطاب الذي نُقِلَ كاملًا بتواطؤ من هوج، ونُشِرَ في مجلة «بلاكوودز»، حيث أستطيع أن أبحث عنه اليوم.
… يتعامل الاسكتلنديون الذين يعيشون هنا بطريقة جيدة مع كل شيءٍ في هذا العالم، ولكنني أخشى أنَّ القليلَ منهم فقط هم الذين يفكرون فيما سيحصل لأرواحهم عندما يأتي الموت بعد نهاية أيامهم هنا؛ لأنهم قد وجدوا هنا ما يُسَمُّونه الويسكي، وقد أعجبهم، وأخذوا يشربونه، حتى إنهم في بعض الأحيان يكونون أسوأ من الثيران أو الحمير … أستطيع الآن أن أخبرك سيدي ببعض القصص، ولكنني أخشى أن تضع اسمي في جريدتك «كولونيال أدفوكيت»، فأنا لا أحبُّ أن يظهر اسمي في منشوراتٍ مطبوعة. ذات مرة، كتبت خطابًا صغيرًا لابني روبرت في اسكتلندا، ونشره صديقي الشاعر جيمس هوج في مجلة «بلاكوودز»، وعرفني الجميع عبر أمريكا الشمالية قبل أن أعرف أن خطابي قد وصل إلى وطني … قضى هوج، الرجل الفقير، معظمَ حياته في اختلاق الأكاذيب، وإذا كانت قراءتي للكتاب المقدس صحيحة، فأنا أعتقد أنه يقول إن جميع الكاذبين سيكون جزاؤهم الإلقاء في البحيرة المتقدة بنارٍ وكبريت. ولكنني أظنُّ أنهم يجدونها تجارة رابحة؛ لأنني أعتقد أن هوج ووالتر سكوت قد حصلا على أموال من الكذب أكثر ممَّا حصل بوستون العجوز والإرسكينيين من كل العظات التي كتبوها …
وأنا بالتأكيد أحد الكاذبين الذين تحدَّث عنهم الرجلُ العجوز، فيما كتبته عن الرحلة البحرية. فإن القصة كلَّها من تأليفي باستثناء يوميات والتر والخطَابيْن.
أما عن قصة رؤية فايف من صخرة القلعة، فقد رواها هوج؛ لذلك لا بد أنها صحيحة.
•••
ترقد أجساد هؤلاء المسافرين — جميعهم فيما عدا واحد — في جبَّانة كنيسة بوستون في إسكوسنج في مقاطعة هالتون، تقريبًا على مرأى ومسمع الطريق السريع رقم ٤٠١ شمال ميلتون، الذي قد يكون في هذا المكان أكثر الطرق ازدحامًا في كندا.
الكنيسة — التي بُنيت على ما كان في السابق مزرعة أندرو ليدلو — سُمِّيت بالطبع على اسم توماس بوستون. وهي مبنية من قوالب سوداء من الحجر الجيري. الجدار الأمامي للكنيسة أكثر ارتفاعًا من بقية أجزاء المبنى — ربما على غرار الواجهات الرئيسية للمباني التي كانت توجد في الشوارع الرئيسية القديمة — كما أن لها مدخلًا مقنطرًا أعلاها، وليس برجًا من أجل جرس الكنيسة.
يوجد هنا جيمسُ الأب. في الحقيقة هو هنا مرتين، أو على الأقل اسمه، مع اسم زوجته، التي كان اسمها هيلين سكوت ودُفِنت في إتريك عام ١٨٠٠. يظهر اسمهما على نفس شاهدِ القبر الذي يحمل اسمَي أندرو وأجنيس. ولكن الشيء المدهش هو أن نفس الاسميْن مكتوبان على شاهِد آخر يبدو أنه أقدم من بقية الشواهد الأخرى في الجبَّانة؛ فهو عبارة عن لوح حجري أسود مُلطَّخ كالذي يمكن أن تراه في جبَّانات الجزر البريطانية. قد يتساءل أيُّ شخص يحاول أن يفهم هذا الأمر إن كانوا قد حملوا هذا اللوح عبر المحيط واسم الأم عليه، منتظرين أن يضيفوا إليه اسم الأب؛ وهل كان حملًا كبيرًا، لُفَّ بخيشٍ ورُبِطَ بحبلٍ متين، نقله والتر إلى مخزن السفينة؟
ولكن لماذا يتحمَّل أحدٌ عناء إضافة اسمَي الأب والأم لهذا الشاهِد الجديد الموضوع على قبر أندرو وأجنيس؟
يبدو الأمر كما لو أن مَوْتَ مِثلِ هذا الأب ودَفنِه أمرٌ يستحقُّ التدوين مرتين.
يُوجد قبر ماري المسكينة بالقرب من قبرَيْ أبيها وأخيها وزوجته أجنيس، وقد تزوَّجت في النهاية، ودُفِنت بجانب زوجها روبرت موراي. كانت النساءُ قليلاتٍ ومن ثَمَّ مقدَّراتٍ في البلد الجديد. لم تُنجب ماري وروبرت أطفالًا، لكن بعد موت ماري المبكِّر، تزوَّج روبرت امرأةً أخرى، وأنجبَ منها أربعة أولاد، توجد قبورهم هنا أيضًا، وقد ماتوا في سِنِّ الثانية والثالثة والرابعة والثالثة عشرة على التوالي. ويُوجد قبر الزوجة الثانية هنا أيضًا، وقد كُتِبَ على شاهِد قبرها: «الأم». في حين كُتِبَ على شاهد قبر ماري «الزوجة».
وهنا قبر الأخ جيمس، الذي سافر من نوفا سكوشا ليلحق بهم أولًا في يورك ثم في إسكوسنج، ويساعد أندرو في الزراعة. أحضرَ زوجة معه، أو تزوَّج واحدة من المجتمع الجديد. ربما ساعدت أجنيس في تربية أبنائها قبل أن تلد هي الأخرى؛ فأجنيس حملت عدَّة مرات، وربَّت الكثيرَ من الأطفال. وذكرَ أندرو، في خطابٍ كتبه لأخويه روبرت وويليام في اسكتلندا، لإعلامهما بوفاة والدهم عام ١٨٢٩ (بسبب السرطان، الذي لم يسبِّب له ألمًا كبيرًا إلا عندما اقتربَ من الموت، بالرغم من «أنه أكل جزءًا كبيرًا من خدَّيه وفكِّه»)؛ أن زوجته كانت تشعر بالضعف في السنوات الثلاث الماضية. قد تكون هذه طريقة ملتفَّة لقول إنها وَلدت في هذه السنوات طفلها السادس والسابع والثامن. لا بد أنها قد استردَّت صحَّتها بعد ذلك؛ لأنها عاشت حتى تجاوزت الثمانين من عمرها.
•••
وَهَبَ أندرو الأرضَ التي بُنيت عليها الكنيسة، أو ربما باعها لمن بَنَى الكنيسة؛ فمن الصعب أن تقيس التديُّن مقابل المنطق التجاري. يبدو أنه كان ميسورَ الحال، وإن لم يَعِشِ الحياةَ المترفة التي عاشها والتر؛ فوالتر تزوَّج من فتاة أمريكية من مقاطعة مونتجوميري في ولاية نيويورك، كانت في الثامنة عشرة عندما تزوَّجته، وقد تُوفِّيت في الثالثة والثلاثين من عمرها بعد ولادة طفلها التاسع. لم يتزوَّج والتر مرةً أخرى، ولكنه عمل في الزراعة بنجاح، وربَّى أبناءَه وضارَب في الأراضي، وكتبَ خطاباتٍ إلى الحكومة يشتكي الضرائب المفروضة عليه، وأيضًا ليعترض على انضمام المقاطعة إلى أحد الطرق السريعة المقترحة؛ قال إن الفائدة ستعود في المقام الأول على الرأسماليِّين في بريطانيا.
وعلى الرغم من ذلك، فمن الثابت أنه هو وأخوه أندرو كانا يدعمان الحاكِم البريطاني السيد فرانسيس بوند هيد، الذي كان يمثِّل بكل تأكيدٍ هؤلاء الرأسماليِّين، ضدَّ التمرُّد الذي قاده مواطنهم الاسكتلندي ويليام ليون ماكينزي، عام ١٨٣٧. كتبوا إلى الحاكِم خطابَ تملُّقٍ، بأكثر طريقة ذليلة في عصرهم. ربما يودُّ بعضُ أحفادهما ألا يكون هذا الأمر صحيحًا، لكن لا يوجد ما نستطيع فعله فيما يتعلَّق بالأمور السياسية لأقاربنا، سواءٌ الأحياء منهم أو الأموات.
وقد استطاع والتر أن يقوم برحلة إلى اسكتلندا، حيث صوَّر نفسه وهو يرتدي ملابس اسكتلندية ويمسك طاقةً من الزهور الشائكة.
يظهر أيضًا على شاهِد القبر الخاص بأندرو وأجنيس (وجيمس الأب وهيلين) اسم ابنتهما إيزابيل، التي ماتت مثل والدتها أجنيس وهي طاعنة في السن. كان تحمل اسم زوجها، ولكن لا توجد إشارة أخرى إليه.
وقد كُتِبَ بجانب اسمها: «المولودة في البحر».
ويوجد على هذا الشاهِد أيضًا اسم أوَّل مولود لأندرو وأجنيس، الأخ الأكبر لإيزابيل، وكذلك تاريخ ميلاده ووفاته.
مات جيمس الابن في غضون شهر من وصول العائلة إلى كيبك. اسمه موجودٌ هنا، لكن لا يمكن بالطبع أن يكون جسده هنا. لم يكونوا قد حصلوا على أرضهم عندما مات، بل إنهم لم يكونوا قد رأوا حتى هذا المكان. ربما يكون قد دُفِنَ في مكانٍ ما بطول الطريق من مونتريال إلى يورك أو في مدينة يورك الجديدة المحمومة. ربما في مكانٍ مؤقت بدائي للدفن قد تمَّ رَصْفُه الآن، ربما من دون شاهِد في جبَّانة بحيث يمكن وضع أجسادٍ أخرى يومًا ما فوق جسده. مات بسبب حادثة ما في الشوارع المزدحمة لمدينة يورك أو بسبب حمَّى أو زُحَار، أو أيٍّ من الأمراض أو الحوادث التي كانت تُعدُّ الأسباب الشائعة لوفاة الأطفال الصغار في ذلك الوقت.