براري بلدة موريس
في يوم الثالث من نوفمبر عام ١٨٥١، وضعتُ أنا وابنا عمي، توماس ليدلو المقيم الآن في بليث، وشقيقه جون، الذي ذهب إلى كولومبيا البريطانية منذ عدة أعوام، صندوقًا يحوي أغطية أَسِرَّة وبعض أواني الطهي في عربة تجرُّها الخيول، وانطلقنا من مقاطعة هالتون لنجرِّب حظوظنا في براري بلدة موريس.
لم نتجاوز برستون في اليوم الأول؛ نظرًا لشدة وعورة الطرق وسوئها عبر بلدَتَي ناساجاوايا وباسلينتش. وفي اليوم التالي وصلنا إلى قرية شكسبير، وبعد ظهيرة اليوم الثالث وصلنا إلى ستراتفورد. كانت الطرق دائمًا ما تزداد سوءًا كلما اتجهنا غربًا؛ لذا اعتقدنا أنه من الأفضل أن نرسل حقائبنا ومقتنياتنا الصغيرة إلى كلينتون بواسطة عربة السفر النظامية. ولكن تلك العربة توقفت عن السير، حتى تجمَّدت الطرق؛ لذا تركنا الخيول والعربة تعود، حيث جاء معنا ابن عمٍّ آخر لنا ليعيدها. حملتُ أنا وجون ليدلو وتوماس فئوسنا على أكتافنا وذهبنا إلى موريس سيرًا على الأقدام. حصلنا على مكانٍ لنسكن فيه، وإن كنَّا قد اضطررنا للنوم على الأرض متدثرين بلحاف. كان الطقس باردًا بعض الشيء لقرب حلول الشتاء، ولكنَّنا توقعنا أننا سنضطر لمواجهة بعض الصعاب وقد واجهناها على نحوٍ أفضل، قدر استطاعتنا.
بدأنا في نشر شجيراتٍ ونباتات دغلية صغيرة عبر طريق مؤدٍّ إلى منزل جون، لمَّا كان المكان الأقرب إلى حيث أوينا، ثم قطعنا أخشابًا من أجل بناء كوخ وتعريشاتٍ كبيرة لتسقيفه. كان الرجل الذي نقيم عنده يملك ثورين يقرن بينهما بِنِير، وقد سمح لنا باستخدامهما لجرٍّ ألواح الخشب والتعريشات. بعدها استعنَّا ببعض الرجال للمساعدة في إقامة الكوخ، ولكن كان عددهم قليلًا جدًّا؛ إذ لم يكن يوجد سوى خمسة مستوطنين فقط في البلدة. غير أننا نصبنا أعمدة الكوخ جيدًا، ووضعنا فوقه التعريشات. وفي اليوم التالي، شرعنا في ملء الفراغات بين ألواح الأخشاب بالطين، حيث لم تكن الألواح متراصة على مقربة شديدة بعضها من بعض، كما ملأنا الفراغات بين التعريشات بالطحالب. وفَّرنا للكوخ ما جعله يبدو مريحًا إلى حدٍّ ما، ولمَّا أصابنا الإرهاق من السير عبر الجليد كل يوم وكان الفراش صلبًا وباردًا، توجهنا إلى بلدة جودريتش لمحاولة الحصول على عمل لبضعة أيام، ولنرى إن كانت صناديقنا وأواني الطهي قد وصلت أم لا.
لم نلتقِ أحدًا يرغب في مساعدة منا، على الرغم من أن ثلاثتنا كنَّا نتسم بحُسن الطلعة. صادفنا رجلًا أرادَ منَّا تقطيع بعض الحطب له ولكنه لم يكن سيتولى إيواءنا، مما جعلنا نقرِّر العودة إلى موريس؛ إذ كان هناك الكثير من أعمال تقطيع الحطب التي يمكننا ممارستها هناك. وقرَّرنا تجميع الأعمال والقيام بها دفعة واحدة بطريقة ما.
ابتعنا برميلًا من السمك في جودريتش وحَمَلنا جزءًا من محتوياته على ظهورنا. وبينما كنَّا نمر ببلدة كولبورن، تحصَّلنا على بعض الدقيق من أحد الرجال، ولمَّا كان في طريقه إلى جودريتش قال إنه سيُوصل لنا بقية السمك وبرميلًا من الدقيق حتى مانشستر (أوبرن الآن). والْتقينا به هناك، ونقلَ السيد إلكينز العجوز السمكَ والدقيق عبر النهر وكان علينا أن نحملهما من هناك. ولم أكن أحبُّ حمل مُؤَنِنَا.
توجَّهنا نحو كوخنا، وأحضرنا بعض أفرع الشوكران لنصنع منها سريرًا، ولوحًا كبيرًا من خشب شجرة دردار لنصنع منه بابًا. ذات مرة، قال رجلٌ فرنسي من كيبك لجون إن المدفأة في الأكواخ المشيَّدة من خشب الأشجار يجب أن تكون في منتصفها؛ لذا قال جون إنه سيجعلها في منتصف الكوخ. أقمنا أربعة أعمدة وأخذنا نبني المدخنة فوقها. وضعنا شرائح خشبية فوق الأعمدة، على شكل منزل، معتزمين لحامها معًا بالطين من الداخل ومن الخارج. وحين خلدنا إلى سريرنا المصنوع من خشب الشوكران، أشعلنا نارًا ضخمة، وحين استيقظ بعضنا خلال الليل كانت النار قد اشتَعلت في الألواح الخشبية للكوخ بأكملها وكانت بعض التعريشات تشتعل بسرعة رهيبة أيضًا. ومن ثَمَّ، فككنا المدخنة، ولم تكن التعريشات صلبة لكي يتم تفكيكها، حيث كانت من خشب شجر الزيزفون الأخضر. وكانت تلك هي آخر مرة نسمع فيها عن بناء مدفأةٍ في وسط المنزل. وبمجرد أن بزغ ضوء النهار شرعنا في بناء المدخنة في نهاية المنزل، إلا أن توماس كثيرًا ما كان يسخر من جون ويتهكَّم عليه بشأن مسألة بناء المدفأة في منتصف الكوخ. غير أننا أقمنا المدخنة، وأُنجزتْ مهمتها على نحوٍ جيد. وحققنا تقدمًا أكبر بكثير في تقطيع الأخشاب، بعد أن أُزِيحَتِ الأشجار الصغيرة والأفرع من الطريق.
وهكذا كنَّا نتقدَّم بخطًى بطيئة، حيث كان توماس يتولى الخَبْز والطهي؛ لأنه كان أفضل ثلاثتنا في ذلك. ولم نكن نغسل أيَّ صحون على الإطلاق، وكان لدينا طبق جديد لكل وجبة.
أرسلَ لنا رجلٌ يُدعى فالنتاين هاريسون، كان يعيش على الطرف الجنوبي لقطعة الأرض رقم ٣، منطقة الامتياز رقم ٨؛ جلدَ جاموسٍ كبيرًا جدًّا، لنبسطه فوقنا على السرير. كنَّا قد صنعنا هيكلًا خشنًا للسرير وربطنا أجزاءه معًا باستخدام أغصان الأشجار الرفيعة بدلًا من الحبل، إلا أن الأغصان تدلَّت على نحوٍ سيئ في منتصف السرير، ومن ثَمَّ أحضرنا عمودين ووضعناهما على نحوٍ طولي أسفل أفرع الشوكران، بحيث أصبح لكلٍّ مِنَّا نصيبه من السرير، ولم نكن نتقلب على الجزء الذي في المنتصف؛ مما أدخل تحسنًا على سرير العُزَّاب هذا.
أخذنا نتقدَّم ببطءٍ على هذا النحو، إلى أن وصلت صناديقنا وأواني الطهي خاصتنا إلى كلينتون، واستَعَنَّا برجل بِثَوريه وزلَّاجته لإحضارها من هناك. وعندما حصلنا على أغطية الأسِرَّة خاصتنا، خطر لنا أننا كنَّا نرقد وسط البرسيم؛ حيث إننا قد نمنا على أفرع الشوكران لخمسة أو ستة أسابيع.
قطعنا شجرة دردار ضخمة وقطَّعناها إلى شرائح، وصنعنا منها أرضية لكوخنا، وهكذا كنَّا نضفي على الأشياء شكلًا أفضل.
كنَّا في أوائل فبراير تقريبًا حين أحضرَ أبي والدة وشقيقة جون وتوماس للإقامة معنا. وقد عانوا بشدة للمجيء عبر هوليت؛ إذ لم يكن هناك أي جسور تعلو الجداول المائية الكثيرة المنتشرة، ولم تكن تلك الجداول المائية متجمدة. ثم وصلوا إلى كينيث بينز، حيث توجد بليث الآن، وترك أبي الخيول وزوجة عمي وابنة عمي هناك وجاء ليصطحب ثلاثتنا كي نقودهم لبقية الطريق. استطعنا التحرك من هناك بصعوبة ولم نواجه سوى مشكلة واحدة، وهي أن الخيول كانت في قمة الإرهاق؛ إذ كان الجليد عميقًا جدًّا حتى إنها كانت تتوقف كثيرًا في الطريق. وأخيرًا وصلنا إلى الكوخ، وأدخلنا الخيول إلى مأوًى خاصٍّ بها، وشعرنا بالارتياح نوعًا ما لما أحضره أبي معه من مؤن.
أراد أبي أن يأخذ معه حمولة من السمك وهو عائدٌ إلى بيته؛ لذا ذهبنا إلى جودريتش في اليوم التالي وأحضرنا السمك. وفي اليوم التالي انطلق عائدًا إلى بيته.
عدتُ إلى موريس حيث كانت زوجة عمي وابنته قد رتَّبتا الأشياء على نحوٍ رائع. وتحلَّل توماس من أعباء مهمة الخَبْز والطهي وشعرنا جميعًا بتغييرٍ للأفضل.
واصلنا العمل وقطعنا بعضًا من الأشجار الضخمة، لكننا لم نكن معتادين كثيرًا على العمل والجليد يزداد عمقًا، وكان المشي عليه بطيئًا جدًّا. وفي بداية أبريل ١٨٥٢، تكوَّنت قِشرة شديدة الصلابة على الجليد، بحيث كان بمقدور أي شخص أن يركض عليها في أي مكان.
ولمَّا كنت بصدد البحث عن قطعة أرض من أجل جارٍ مُسِنٍّ، فقد بدأنا في الخامس من أبريل في تفقُّد بعض الأراضي الخالية المعروضة للبيع. كنَّا على بُعد خمسة أو ستة أميال من كوخنا حين هبَّت عاصفة ثلجية عنيفة، وتسبَّبت الرياح الشرقية في تغطية العلامات الهادية للطريق على الأشجار بالجليد، وواجهنا صعوبة كبيرة في إيجاد طريقنا إلى المنزل. وسعدت زوجة عمي وابنته كثيرًا لرؤيتنا حين وصلنا؛ لأنهما اعتقدتا أننا قد أصبحنا حتمًا في عِداد المفقودين.
لم أفعل أيَّ شيءٍ بمنزلي في ذلك الشتاء، وكذلك توماس، الذي عمل مع جون لبضع سنوات. أما أنا فَعُدتُ إلى هالتون في الربيع، وعُدتُ إلى موريس في خريف عام ١٨٥٢، وبدأت في التجهيز لكوخي الخاص، وقُطِعَ جزءٌ من الخشب اللازم له في ذلك الشتاء. تعاونت مع ابنَي عمي في العمل معًا في الأماكن التي كانت في أشد الحاجة إلى عملنا.
وقد ساعداني في قطع بعض الأشجار في خريف عام ١٨٥٣، ولم أحضر إلى موريس مجددًا حتى ربيع عام ١٨٥٧ حين حظيت بزوجة تشاركني مِحَني وأفراحي وأحزاني.
لقد عشتُ هنا (ونحن الآن في عام ١٩٠٧) لستِّين عامًا، وواجهت بعض المِحَن والصعاب، وشهدتُ الكثير من التغييرات في كل من السكان والقرية. فخلال الأشهر القليلة الأولى كنَّا نحمل مؤننا لمسافة سبعين ميلًا، أما الآن فقد صار هناك طريق سكك حديدية على بُعد أقل من رُبع ميل منَّا.
في الخامس من نوفمبر عام ١٨٥٢، قطعتُ أوَّلَ شجرة على أرضي، ولو كان لديَّ أشجار عليها الآن، كتلك التي كانت موجودة آنذاك، لصرتُ أغنى رجل في بلدة موريس.
انتقل جيمس ليدلو، الأخ الأكبر لجون وتوماس، إلى موريس في خريف عام ١٨٥٢. تولَّى جون مهمة بناء كوخ لجيمس والدي، الذي أصبح حماه فيما بعد. وذهبتُ أنا وجيمس لمساعدة جون في البناء، وبينما كنَّا نُسْقِط إحدى الأشجار، إذا بأحد فروعها ينكسر خلال عملية السقوط، ويسقط في اتجاهٍ عكسي مرتطمًا برأس جيمس ليرديه قتيلًا في الحال.
كان علينا أن نحمل جثمانه لمسافة ميل ورُبع ميل إلى أقرب منزل، وكان عليَّ إبلاغ زوجته ووالدته وشقيقه وشقيقته بهذا الخبر السيئ. كانت تلك هي المهمة الأكثر حزنًا في حياتي. واضطررتُ للاستعانة بمساعدة لحَمْل الجثمان إلى الوطن؛ إذ لم يكن يوجد سوى ممر للمشاة عبر الأحراش، وكان الجليد غاية في العمق والنعومة. وكان ذلك في الخامس من أبريل عام ١٨٥٣.
لقد شهدتُ الكثيرَ من الأفراح والأتراح منذ قَدِمتُ إلى موريس. لا يسكن منطقة الامتياز هذه إلا ثلاثة من أوائل مَنِ استوطنوا الأرض هنا، وذرية خمسة آخرين كانوا أيضًا من أوائل المستوطنين هنا. بعبارة أخرى، لا توجد هنا سوى ثماني عائلات يعيشون على الأراضي التي شغلها آباؤهم ما بين والتون وبليث، وهي مسافة تصل لسبعة أميال ونصف.
فارقَ ابن عمي، جون، الذي كان واحدًا من الثلاثة الذين جاءوا إلى هنا في عام ١٨٥١، الحياة في الحادي عشر من أبريل عام ١٩٠٧. ورحل جميع عُجُز آل ليدلو تقريبًا، ولم يعد على قيد الحياة الآن (في عام ١٩٠٧) من هؤلاء الذين كانوا أوائل مَنْ جاءوا إلى موريس سواي أنا وابن عمي توماس.
والمكان الذي يعرفنا الآن لن يعرفنا عما قريب، بعد أن أصبحنا جميعًا كائناتٍ ضعيفة بلغت من العمر أرذله.
مات جيمس ليدلو، الذي كان في وقتٍ ما يُدعى جيمي، مثل والده في مكانٍ لم تكن توجد فيه بعدُ سجلات دَفْن موثوق بها. ويُعتقَد أنه قد دُفِنَ في ركن من الأرض التي قام هو وشقيقاه وابن عمه بتسويتها وإخلائها من الأشجار، وفي وقتٍ ما في حوالي عام ١٩٠٠ نُقِلَ جثمانه إلى جبَّانة بليث.
كان روب الكبير، كاتِبُ هذه القصة عن الاستيطان في موريس، والدًا للعديد من الأبناء والبنات؛ سايمون، وجون، ودنكان، وفوريست، وساندي، وسوزان، وماجي، وآني، وليزي. ترك دنكان المنزل مبكرًا (هذا الاسم صحيح، ولكنني لست واثقة تمامًا من الأسماء الأخرى)؛ فقد ذهب إلى جويلف، وقلَّما كانوا يرونه. أما الآخرون، فقد ظلُّوا بالمنزل؛ فقد كان المنزل كبيرًا ويتَّسع لهم جميعًا. في البداية كان والدهم ووالدتهم يعيشان معهم، بعدها ولعدة سنوات لم يَعِشْ معهم سوى الأب، وفي النهاية أصبحوا يعيشون بمفردهم، ولم يكن الناس يذكرون أنهم كانوا صغارًا قط.
لقد أداروا ظهورهم للعالم؛ فالْتزمت النساءُ الشَّعْرَ المفروق من المنتصف الملتصق بشدة برءوسهن، رغم أنَّ الموضة الشائعة حينها كانت تتَّجه إلى الشعر الملفوف والمُهدَّب. وكنَّ يرتدين ثيابًا داكنة اللون منزلية الصنع ذات تنانير ضيقة. وكانت أياديهن حمراء؛ إذ كنَّ يدعكن أرضية مطبخهن المصنوعة من خشب الصنوبر بالبوتاس كل يوم، ما جعلها لامعة كلمعان المخمل.
كان بمقدورهن الذهاب إلى الكنيسة — وهو ما كنَّ يَفْعَلْنَه كلَّ يومِ أحد — والعودة إلى المنزل دون التحدث مع أي شخص.
كانت ممارساتهن الدينية نابعة من إحساسٍ بالواجب، ولكن لم يكن للعاطفة دورٌ فيها على الإطلاق.
كان الرجالُ مضطرين للتحدث أكثر من النساء عند ممارسة أعمالهم في الطاحونة أو مصنع الجبن، ولكنهم كانوا لا يهدرون كلماتٍ ولا وقتًا. كانوا أمناء ولكن صارمين في كل معاملاتهم. وإذا ما اكتسبوا مالًا، فلم يكونوا أبدًا يهدفون إلى شراء آلاتٍ حديثة أو تقليل تعبهم أو إضافة رفاهياتٍ لأسلوب معيشتهم. وكانوا لا يقسون على حيواناتهم، ولكن لم يكونوا يكنُّون أيَّ مشاعر عاطفية نحوها.
كان الطعام المقدَّم في المنزل بسيطًا جدًّا، وكان الماءُ هو شرابهم في الوجبات بدلًا من الشاي.
وهكذا ودون ضغطٍ من المجتمع أو من عقيدتهم الدينية (كانت العقيدة المشيخية لا تزال جَدَلية ومتشددة، ولكنها لم تكن تفرض حصارًا على الروح بالعنف والشراسة التي كانت عليهما في أيام القس بوستون)، خلقوا لأنفسهم حياةً تشبه حياة الرهبنة دون أي ثوابٍ إلهي أو لحظاتٍ من التسامي.
•••
في عصر يوم أحدٍ في الخريف طلَّت سوزان من إحدى النوافذ لترى فوريست يسير جيئةً وذهابًا في الحقل الأمامي الكبير، حيث لم يكن هناك سوى بقايا حصاد القمح. كان يمشي بتثاقل، ثم يتوقَّف وينظر فيما كان يفعله.
ولكن ماذا كان ذلك الشيء الذي يفعله؟ لم تكن لتمنحه نشوة السؤال.
وتبيَّن لها أنه قبل هطول الصقيع كان قد شرع في حَفْرِ حُفْرة كبيرة. كان يحفر بالنهار، ويحفر في الليل على ضوء المصباح، إلى أن حفر لعمق ستة أقدام، ولكن الحفرة كانت أكبر من أن تكون قبرًا. لقد كانت معدَّة في الحقيقة لكي تكون قبوًا لمنزل. كان ينقل التراب في عربة صغيرة تُجر باليد، مستفيدًا من ممرٍّ منحدر كان قد بناه.
سحب بعض الأحجار الكبيرة من كومة الأحجار الموجودة في الحظيرة، وهناك، وبعد أن انتهى فصلُ الشتاء، عكف على تشذيب تلك الأحجار بواسطة أزميل الحجارة لكي يصنع بها جدران قَبْوِه. لم يتوقف عن أداء نصيبه من أعمال الحقل، ولكنه كان يعمل على هذا المشروع المنفرد في جوفِ الليل.
في الربيع التالي، وما إن جفَّت الحفرة حتى قام بتمليط الحجارة وتثبيتها ليصنع جدران القبو. وركَّبَ الماسورة من أجل الصرف، وبنى الخزَّان، ثم وضعَ على نحوٍ واضح للعيان الأساسَ الحجري لمنزله. كان من الممكن إدراك أن ما يخطط له ليس كوخًا من غرفتين، بل كان منزلًا حقيقيًّا وفسيحًا، وكان سيحتاج إلى طريق للدخول، وقناة للصرف، إلى جانب أنه كان سيشغل أرضًا زراعية.
وأخيرًا تحدَّث إليه أشقاؤه، فقال إنه لم يكن سيحفر قناة الصرف حتى مجيء الخريف، حين يتمُّ حصاد المحصول. أما بالنسبة إلى الطريق، فلم يفكر قط في إنشاءِ طريق، وكان يعتقد أن بإمكانه السير من المنزل الأساسي على طريق ضيق، بحيث لا يحرمهم من أيِّ قدر من الحبوب أكثر من اللازم.
قالوا إنه لا يزال من الضروري التحدث جِديًّا بشأن المنزل؛ أي بشأن الأرض التي سيقتطعها المنزل منهم، فكان قوله إن هذا صحيح، وإنه سيدفع مبلغًا لا بأس به في مقابلها.
من أين كان سيأتي بالمال؟
كان المقابل الذي سيقدمه هو قيمة العمل الذي قام به بالفعل في المزرعة، مع خصم نفقات المعيشة، إلى جانب تنازله عن نصيبه في الميراث، وهما معًا كانا من المفترض أن يمثِّلا مقابلًا لحفرة في الحقل.
وعرضَ أن يتوقَّف عن العمل في المزرعة على أن يحصل على وظيفة في مشغل سجح الألواح الخشبية.
لم يستطيعوا أن يصدِّقوا آذانهم، مثلما لم يستطيعوا أن يصدقوا أعينهم، إلى أن نسَّقَ تلك الأحجار الضخمة والمشذبة معًا، فما كان منهم إلا أن قالوا: حسنًا إذن، إذا أردت أن تجعل من نفسك أضحوكة، فعليك إذن أن تفعل ما تريد.
ذهبَ للعمل في مشغل سجح الألواح الخشبية، وفي الأمسيات الطويلة كان يباشر نصب هيكل منزله. كان يُفترض أن يكون المنزل بارتفاع طابقين، ويضم أربع غرف للنوم، ومطبخًا أماميًّا وخلفيًّا، وحجرةً للمؤن، وأدوات المائدة، وغرفتي معيشة. كان من المزمع أن تُكسى الجدران بألواح من الخشب مُطعَّمة بطبقة خارجية من الطوب. بالطبع كان سيضطر لشراء الطوب، أما الخشب الذي كان يخطط لاستخدامه في الجدران أسفل الطوب، فكان من تلك الأخشاب المُكدَّسة في الحظيرة، المتبقية من السقيفة الخارجية القديمة التي هدمها هو وأشقاؤه حين بنوا الحظيرة الجديدة ذات الطابقين. هل كانت هذه الأخشاب ملكًا له كي يستغلَّها؟ قطعًا لم تكن ملكًا له، ولكن لم يكن من المزمع استخدامها بأي نحو آخر. وكان ثَمَّةَ بعض القلق داخل العائلة من نظرة الناس لهم إذا ما دبَّ بينهم الشجار والتشاحن حول تلك الأشياء. فقد كان فوريست بالفعل يتناول عشاءه في أحد الفنادق ببليث بسبب ملاحظات أبدتها ساندي حول تناوله للطعام على مائدة الأسرة قائلة إنه يأكل من عَمَل الآخرين وكَدحهم. لقد تركوه يأخذ الأرض اللازمة لبناء المنزل حين طالب بها باعتبارها حقَّه؛ لأنهم لم يشاءوا أن يدينهم الناس لرفضهم إعطاءه إياها، ومن نفس المنطلق تركوه الآن يأخذ الأخشاب.
في خريف ذلك العام، بنى السقف على الرغم من أنه لم يَكْسُه بالخشب، وركَّبَ موقدًا. وقد استعان في كلتا المهمتين بمساعدة رجل يعمل معه في المشغل. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يؤدي فيها أيُّ شخص من خارج العائلة أيَّ عمل في الأماكن التابعة لها، فيما عدا عند تشييد الحظيرة في حياة الأب. فقد غضبَ والدهم من بناته في ذلك اليوم؛ لأنهن وضعن كلَّ الطعام على الطاولات ذات الحَامليْن في الفناء ثم اختفين، بدلًا من مواجهة خدمة الغرباء.
لم ينجح الزمن في أن يجعلهن أكثر سلاسة في التعامل، فبينما كان الرجل الذي يعاونه في البناء هناك — ولم يكن غريبًا بحق، بل كان مجرد رجل من البلدة لم يسبق له أن ذهب إلى كنيستهم — لم تخرج ليزي وماجي إلى الحظيرة قط، على الرغم من أنه كان دورهما في حلب الأبقار، واضطرَّت سوزان للذهاب. كانت دائمًا مَنْ تتولى الحديث حين يضطررن لدخول متجر وشراء شيءٍ ما. وكانت هي مَنْ تقود أشقاءها حين يكونون بالمنزل. وكانت هي مَنْ سَنَّ قاعدة ضرورة عدم مساءلة فوريست خلال المراحل الأولى من مشروعه. واتضح أنها كانت تعتقد أنه سيتخلى عنه لو لم يلقَ اهتمامًا أو محاولة لرده. كانت تقول إنه يفعل ذلك فقط من أجل لفت الأنظار إليه.
وبالتأكيد كان كذلك، لم يلفت أنظار أشقائه وشقيقاته — الذين كانوا يتجنبون النظر من النوافذ على ذلك الجانب من منزلهم — بقدر ما لفت أنظار الجيران، بل وأهل البلدة الذين كانوا يمرون بعرباتهم خصوصًا لمشاهدته في أيام الأحد. لقد كانت حقيقةُ أنَّه قد حصل على وظيفة بعيدًا عن نطاق المنزل، وأنه كان يتناول طعامه في الفندق على الرغم من أنه لم يقدم قط على تناول شراب هناك، وأنه قد انفصل فعليًّا عن عائلته؛ مثارَ حديثٍ واسع النطاق؛ فقد كان مثلُ هذا الانفصال عن كل ما كان معروفًا عن بقية العائلة بمنزلة فضيحة (كان رحيل دنكان عن المنزل حينئذٍ قد طواه النسيان بطريقة أو بأخرى). كان الناس يتساءلون عمَّا حدث، من وراء ظهر فوريست في البداية، ثم صاروا يسألونه مباشرةً.
هل تشاجرتم؟ كلا.
حسنًا، حسنًا. إذن، هل يخطط للزواج؟
لو كانت هذه دعابة، فإنه لم يكن يعتبرها كذلك. لم يقل لا أو نعم أو ربما.
لم تكن ثَمَّةَ مرآة في منزل العائلة، عدا تلك المرآة الصغيرة المموَّجة التي كان الرجال يَحْلِقُون أمامها؛ فقد كان بإمكان الشقيقات أن تسأل كلٌّ منهن الأخرى عن مظهرها. أما في الفندق، فكانت توجد مرآة ضخمة خلف طاولة الدفع، وكان بإمكان فوريست أن يرى فيها أنه شابٌّ على قدرٍ كافٍ من الوسامة في أواخر العقد الثالث من عمره، أسود الشعر، عريض المنكبين، طويل القامة. (في الواقع كانت الشقيقات أبهى وأكثر حسنًا من الأشقاء، ولكن لا أحدَ كان ينظر إليهن عن كثبٍ بما يكفي لكي يدرك ذلك؛ وكان هذا نتاجَ سلوكهن وأسلوبهن في الحياة.)
فلماذا إذن يُفترَض ألا يُفكِّرَ في الزواج، إن لم يكن قد فكَّر في ذلك بالفعل؟
في ذلك الشتاء كان يعيش وحيدًا مع الجدران الخشبية التي تفصله عن الطقس بالخارج، ومع الألواح الخشبية المؤقتة التي كانت تغلق المساحات المخصَّصة للنوافذ. وبنى الفواصل الداخلية والسلالم والخزانات ووضع ألواح الأرضيات النهائية المصنوعة من خشب البلوط والصنوبر.
في الصيف التالي، قام ببناء المدخنة الطوبية لتحلَّ محل أنبوب الموقد البارز من السقف. وغطَّى البناء بأكمله بطوبٍ أحمرَ جديدٍ مُنَسِّقًا إياه معًا بإتقان كأي عامل متخصص في هذا. ورُكِّبت النوافذ، وأُزيلتِ الأبوابُ الخشبية وحلَّت محلها أبوابٌ جاهزة في الأمام والخلف. ورُكِّبَ موقدٌ حديث، له فرنٌ للخبز وفرنٌ للتسخين وخزانٌ لتسخين الماء، ورُكِّبَت الأنابيب في المدخنة الجديدة. وكانت المهمة الكبيرة المتبقية هي تغطية الجدران الداخلية بالجَصِّ، وكان مستعدًّا للقيام بذلك حين يزداد الطقس برودة. في البداية وضع طبقة من الجصِّ الخشن، ثم وضع الجصَّ الأملس فوقها بدقة. كان يدرك أن ورق الحائط يجب أن يغطي كلَّ ذلك، ولكنه لم يفكر في كيفية اختياره. في غضون ذلك، كانت كلُّ الغرف تبدو زاهية على نحوٍ رائع، حيث كان الجصُّ يلمع بالداخل بينما الثلج بالخارج بلا لمعان.
كانت الحاجة إلى مفروشاتٍ بمنزلة مفاجأة صادمة له. ففي المنزل حيث كان يعيش مع أشقائه وشقيقاته كان الطراز الأسبرطي هو السائد. فلا وجودَ لستائر، فقط ستائرُ خشبية ذات لونٍ أخضر داكن، وأرضيَّات دون سجاجيد، وكراسي صلبة، ولا وجودَ لأيِّ أرائك، مع وجود أرفف بدلًا من الخِزانات. كانت الثيابُ تتدلى من خطَّافاتٍ مثبَّتة خلف الأبواب بدلًا من وضعها داخل خِزانات الملابس، وكانوا يعتبرون الملابس التي تزيد عن سعة الخطَّافات نوعًا من الإسراف. لم يكن يرغب بالضرورة في استنساخ هذا النمط، ولكن خبرته بالبيوت الأخرى كانت محدودة، حتى إنه لم يعرف كيف يمكنه التعامل مع الأمر بطريقةٍ أخرى. ولم يكن في متناوله أن يجعل المكان يبدو كالفندق، ولم تكن تلك رغبته.
واكتفى في الوقت الراهن بالأشياء القديمة الموجودة بالحظيرة؛ كرسي فُقدَت منه عارضتان، بعض الأرفف القديمة، طاولة كان الدجاج يُنتف ريشه عليها، سريرٌ صغير وُضِعت عليه أغطية الخيول كمَرتبة. وقد وضع كل ذلك في نفس الغرفة التي يوجد بها الموقد، فيما تُرِكَتِ الغرف الأخرى جرداء خاوية على عروشها.
•••
أصدرت سوزان، حين كانوا جميعًا يعيشون معًا، أوامرها بأنَّ على ماجي أن تهتم بثياب ساندي، فيما تهتم ليزي بملابس فوريست، وآني بملابس سايمون، فيما عليها هي الاهتمام بثياب جون. وكان هذا يعني كيَّها وإصلاحها ورفوَ الجوارب، وغزل الأوشحة والصديريات، وحِياكة قمصان جديدة حسبما تقتضي الحاجة. لم يكن منوطًا بليزي أن تستمرَّ في الاعتناء بملابس فوريست — أو أن تكون لها أي صلة به على الإطلاق — بعد رحيله. ولكن، حان وقتٌ — بعد خمس أو ست سنواتٍ من اكتمال منزله — قررت فيه أن تعرف كيف يدبِّر أموره. كانت سوزان مريضةً في ذلك الوقت، وأصابها وَهَنٌ شديد جراء إصابتها بأنيميا خبيثة، ومن ثَمَّ لم تكن قواعدها تُطبَّق دائمًا.
ترك فوريست عمله بمشغل سجح الألواح الخشبية، وكان السبب في ذلك، حسبما قال الناس، أنه لم يستطع تحمُّل سهام السخرية التي كانت تُوَجَّه إليه بشأن مسألة الزواج. فقد راجت على الألسنة القصص والأقاويل حول ذهابه إلى تورونتو بالقطار، وجلوسه في محطة يونيون ستيشن طوال يوم كامل باحثًا عن امرأة تنال قبوله دون جدوى. وتناقلت كذلك قصة عن مراسلته لإحدى وكالات الزواج في الولايات المتحدة، واختبائه في قبوه حين جاءت إحدى السيدات البدينات تطرق بابه. وكان زملاؤه الأصغر منه سنًّا في المشغل يؤذون مشاعره بصفةٍ خاصة بنصائحهم المستحيلة.
حصل على وظيفة حارس بالكنيسة المشيخية، حيث لم يكن مضطرًّا لرؤية أيٍّ شخص سوى القَسِّ أو أحد الأعضاء الفضوليين للمجلس القائم على شئونه من آنٍ لآخر؛ ولم يكن أيٌّ من هؤلاء من النوعية التي تبدي ملاحظاتٍ وقحة أو شخصية.
•••
اجتازت ليزي الحقل في عصر أحد أيام الربيع، وطرقت باب منزله دون مجيب، غير أنه لم يكن مغلقًا؛ ما دفعها للدخول.
لم يكن فوريست نائمًا، كان مستلقيًا بكامل ثيابه على السرير واضعًا ذراعيه خلف رأسه.
قالت ليزي: «هل أنت مريض؟» إذ لم يكن أيٌّ منهم يستلقي خلال النهار هكذا ما لم يكن مريضًا.
كان جوابه بالنفي. لم يُعنِّفها لدخولها بلا استئذان، ولكنها لم تكن كذلك موضع ترحيبٍ منه.
كانت الرائحة المنبعثة من المنزل كريهة. لم يُوضَع أي ورق حائط على الجدران قط، وكان لا يزال هناك أثر لرائحة جَصٍّ خام، إلى جانب رائحة أغطية الخيول ورائحة ملابس لم تُغسَل لفترة طويلة، إنْ كانت قد غُسلت من الأساس. وكذا رائحة دهنٍ قديم في المقلاة وأوراق شاي مُرَّة في القِدر (فقد كان فوريست قد اتَّخذ تلك العادة المرفهة لشرب الشاي بدلًا من مجرد الاكتفاء بالماء الساخن). كانت النوافذ غائمة في شمس الربيع والذباب الميت يرقد على حوافِّها.
قال فوريست: «هل أرسلتكِ سوزان؟»
قالت ليزي: «كلا، إنها ليست على ما يُرام.»
لم يكن لديه أيُّ شيءٍ ليقوله في هذا الشأن: «هل أرسلكِ سايمون؟»
«لقد جئتُ من تلقاءِ نفسي.» وضعت ليزي الصُّرة التي كانت تحملها، وراحت تبحث عن مكنسة، ثم قالت وكأنه قد سأل: «نحن جميعًا بخير في المنزل، فيما عدا سوزان.»
كانت الصُّرة تحوي قميصًا جديدًا من القطن الأزرق، ونصفَ رغيفٍ من الخبز وقطعةً من الزبد الطازج. كان كل الخبز الذي تصنعه الشقيقات رائعًا، وكان الزبد طيبَ المذاق؛ لكونه مصنوعًا من حليب أبقار جيرزي. وكانت ليزي قد أخذت تلك الأشياء دون استئذان.
كانت هذه بداية نزعة جديدة تتكوَّن لدى العائلة. استجمعت سوزان عافيتها حين عادت ليزي إلى المنزل بما يكفي لكي تخبرها بأن عليها الاختيار بين الرحيل أو البقاء. فقالت ليزي إنها سترحل، ولكن لدهشة سوزان والجميع، طلبت نصيبَها من المقتنيات الموجودة بالمنزل. فصلَ سايمون ما تعيَّن أن تحصل عليه، بعدالة بالغة، وكانت تلك هي الطريقة التي أُثِّث بها منزل فوريست أخيرًا ولو على نحوٍ ضئيل. لم يُلصَقْ ورق حائطٍ أو تُعلق ستائر، ولكن أصبح كلُّ شيءٍ يشعُّ نظافة وبريقًا. طلبت ليزي بقرة وستًّا من الدجاج وخنزيرًا لتربيتها، وشرعَ فوريست في العمل بالنجارة مرة أخرى، وبنى حظيرة بمربطين ومخزنًا للتبن. وعند وفاة سوزان، اكتشفوا أنها مُدَّخِرة مبلغًا كبيرًا من المال، وخُصِّص لهما نصيبٌ من ذلك المبلغ أيضًا. وتمَّ شراء حصان وعربة، وتزامن ذلك تقريبًا مع المرة الأولى التي أصبحت فيها السيارات أمرًا معتادًا على هذه الطرق. ولم يعد فوريست يذهب إلى عمله سيرًا على الأقدام. وفي ليالي السبت كان هو وليزي يستقلَّان العربة معًا إلى البلدة للتسوق. وأصبح لليزي السيطرة والهيمنة في منزلها كأي امرأة متزوجة.
في إحدى ليالي عيد القديسين — وكان عيد القديسين في تلك الأيام وقتًا لتدبير الحيل والمكائد الخطيرة أكثر من كونه مناسبة لإغداق الصدقات — تُركَت صُرَّة على باب منزل ليزي وفوريست. كانت ليزي أوَّل مَنْ فتحت الباب في الصباح. كانت قد نسيت عيد القديسين الذي لم يكن أيٌّ من أفراد العائلة يعيره أيَّ انتباهٍ، وحين رأت شكل الصُّرة صرخت بصوتٍ أقرب إلى الدهشة منه إلى الاستياء والضيق. في لفافاتها الصوفية المتهرئة رأت ما أشبه بطفل رضيع، وكانت قد سمعت من قبلُ عن رُضَّع يُتركون أمام عتبات أبواب الأشخاص الذين قد يعتنون بهم. وخطرَ لها للحظةٍ أن هذا هو حتمًا ما حدث معها، وأنها قد اصطُفيت من دون الآخرين لهذه الهدية وهذا الواجب الإنساني. حينئذٍ أقبل فوريست من خلف المنزل ليراها تنحني وتلتقط الصُّرة، وعلى الفور عرف ما بها، مثلما عرفت هي أيضًا بمجرد أن تحسستها. كانت عبارة عن كومة من القَشِّ ملفوفة في خيشٍ مربوط بحبال بحيث تشبه طفلًا رضيعًا، وكان الوجه مرسومًا بأحد ألوان الشمع في الموضع المناسب على الخيش لإظهار وجه طفل رضيع.
أدرك فوريست المعنى الضمني لذلك، لكونه أقل براءة وسذاجة من ليزي، فانتزع الصُّرة منها ومزَّقها إربًا وألقى بقطعها الممزقة داخل الموقد.
ارتأى أن هذا كان شيئًا من الأفضل ألا تسأل عنه ليزي أو حتى تُورِد له ذكرًا في المستقبل، ولم تفعل مطلقًا. ولم يذكره هو أيضًا، وبقيت القصة مجرد شائعة ومثارًا للتساؤل والتدبر من قِبَل مَنْ تناقلوها.
•••
«لقد كرَّس كلٌّ منهما حياته للآخر»، هكذا قالت أمي التي لم يسبق لها أن قابلتهما مطلقًا، ولكنها بصفةٍ عامة كانت تشجع العلاقات الأخوية بين الشقيقات والأشقاء غير المُدنسة بالجنس.
كان أبي قد رآهما في الكنيسة حين كان طفلًا، وربما يكون قد زارهما بضع مراتٍ مع والدته. فقد كانا أبناءَ عمومة من الدرجة الثانية لوالده، ولم يكن يعتقد أنهما قد سبق لهما أن زارا منزل والديه.
لم يكن معجبًا بهما، ولم يعتبْ أيضًا عليهما، بل كان مندهشًا بشأنهما.
كان يقول: «إذا تأمل المرءُ ما فعله أسلافهما والشجاعة التي احتاجوها لكي يبادروا ويعبروا المحيط، فسيتساءل ما الذي حطَّم معنوياتهما بهذه السرعة الشديدة.»