المقدمة
عن قضية المصطلح
(١) القضية
يواجه دارس الأدب هذه الأيام حشدًا من المصطلحات
لم يكن يألفها أسلافه، وقد يكون حسَن الحظ فيجد من
بين الأساتذة من يوضح له معناها أو يقدمها إليه في
سياقاتها الجديدة، بحيث يتضح له معناها من خلال
استخدامها وتطبيقاتها، وقد يكون سيئ الحظ فلا يجد
من أساتذته الصبر والأناة في هذا العصر الذي تجري
فيه الحياة بسرعةٍ لاهثة، فيتخرج في الجامعة أو
يحصل على الشهادات العالية دون أن يعرف تمامًا ما
يعني الآخرون بكلمةٍ مثل «الحداثة» أو «الخطاب»،
باعتبارهما مصطلحاتٍ نقدية، ومكمن الخطر في ذلك أنه
قد يتصور لهذه اللفظة أو تلك معنًى من المعاني
ويستخدمها لتدل عليه، بينما يستخدمها غيره لتدل على
معنًى آخر، وتكون النتيجة أن تصبح لدينا عدة لغاتٍ
نقدية اصطلاحية بدلًا من لغةٍ نقدية اصطلاحية
واحدة، وفي هذا ما فيه من البلبلة؛ إذ ربما تعذر
التفاهم بين النقاد، وربما ظنوا أنهم مختلفون وهم
متفقون أو العكس، والضحية في النهاية هو القارئ
الذي سيجد أنه أحيانًا يخرج بمعنًى معين يتصور أنه
مقصد الكاتب، وقد يصيب هنا وقد يخطئ، وأحيانًا لا
يخرج بأي معنًى على الإطلاق بسبب عدم إلمامه
بالمعنى الذي يقصده هذا الكاتب، والذي قد يختلف عن
معنًى سواه، ولما كنت من المؤمنين بأن هدف الناقد
أولًا هو تشكيل الضلع الثالث في المثلث الذي يضم
الكاتب والقارئ، أي إنه يوجه كلامه إليهما مثلما
يتلقى منهما مادته، فإن عدم فهم القارئ إياه أو
إساءة فهمه، وكذلك تعذر فهم الكاتب له أو سوء فهمه
إياه، سوف يجعل الناقد، كاتبًا أو مفكرًا أو
دارسًا، يخاطب غيره من النقاد الذين قد يشاركونه
مفاهيمه فحسب، وفي هذا من التغريب والغربة ما يهدد
بإقصاء الناقد عن عملية الإبداع وعملية التذوق
جميعًا، أي بإلغاء مهمته المنوطة به في المثلث
المذكور.
نحن إذن أمام مشكلةٍ عويصة، فالناقد يريد أن
يستخدم لغة العصر التي يستخدمها غيره في بلاد
العالم المتقدمة، حتى يستطيع متابعة ما ينتهون إليه
والمساهمة في حركة الأدب والنقد على مستوى العالم
الحديث، وهو حريصٌ على فهم وإفهام ما يصله من
نظرياته، ويحس أن عليه لونًا من الالتزام
بالمصطلحات الحديثة، إما باعتبارها المفاتيح التي
تفتح أمامه ما استغلق على فهمه من نظرياتٍ أو من
نظراتٍ جديدة أو من تطبيقاتٍ لهذه النظريات، أو
باعتبارها المداخل اللازمة لتذوق الأعمال الأدبية
الجديدة أو لتحليلها ودراستها، ولكنه يحس في نفس
الوقت بالتزامٍ نحو القارئ، المتخصص وغير المتخصص
جميعًا، ويريد أن ينهض بعمله باعتباره همزة الوصل
بين المُبدع والمُتلقي أو ما أسميتُه بالضلع الثالث
في المثلث، ويجد أن ذلك القارئ لا يُلم الإلمام
الكافي بالمصطلحات الجديدة، وأحيانًا ما يحار في
فهمها بل ويكاد أن يرمقها بإشفاقٍ ووجَل، ومن ثَم
يجد أن عليه واجبًا آخر هو إيضاح هذه المصطلحات،
إما في ثنايا استعماله إياها أو في معجمٍ مستقل
مرفق بمقاله أو بكتابه، وعندها سيواجه مشكلة تحديد
المعاني بصورةٍ قد تختلف عن تحديد غيره معاني تلك
المصطلحات ذاتها.
ولأضرب لذلك مثلًا مما ذكرت أنه يمثل مشكلةً
للنقاد بل وللكُتاب قبل أن يكون مشكلةً أمام
القراء، وهما تعبير «الحداثة» وتعبير «الخطاب»،
فأولهما تعبيرٌ بالغ الصعوبة في التعريف لأنه يشير
إلى عددٍ من المعاني التي اختلفت في أوروبا على
امتداد قرنٍ كامل، وبالتحديد منذ عام ١٨٩٠م وحتى
اليوم، فمنشأ المصطلح الأوروبي
Modernism كان
مجال الفنون التشكيلية، وهو اللفظ الذي عرَّبته في
هذا الكتاب (في باب التصوير والشعر الإنجليزي
الحديث، وأطلقت عليه لفظ المودرنية، تفريقًا له
باعتباره مفهومًا مستقلًّا عن شتى معاني الحداثة أو
الجدة، وللقارئ أن يرجع إلى ذلك الفصل ليرى ما
أعني)، أي إن مولد المودرنية كان في فنون الرسم
والنحت وما إليهما مما ينتسب في هذه الأيام إليهما
مثل الديكور وصناعة الأثاث والنسيج والطباعة
والتصميمات الهندسية والمعمارية، وما إلى ذلك مما
يدرسه أصحاب الفنون الجميلة والتطبيقية، وأما جوهر
المودرنية في تلك الفنون أصلًا وتطورًا فهو الثورة
على المحاكاة ونبذها، أي النظر إلى فنون الإنسان
ليس باعتبارها محاكاةً للطبيعة، وهو المبدأ الذي
اكتسب درجةً ما من القداسة بسبب ارتباطه باسم
أرسطو، ولكن باعتبارها انعكاساتٍ تشكيليةً للطبيعة
يبتدعها الفنان الأصيل، ومعنى ذلك أن الفنان لا
ينقل ما في الطبيعة بل هو يحور ويجرد ويفتت في سبيل
إعادة التشكيل، فالرسام المودرني الذي ينتمي إلى
المدرسة التكعيبية مثلًا
Cubism (إحدى
مدارس المودرنية)، لا يصور الشجرة كما تبدو لعَين
آلة التصوير أو لعين الرائي المحايد طبقًا لقواعد
المنظور
Perspective،
وإنما يقدم إلينا ما يمكن أن يحدث لصورتها لو وصلت
إلى عينه من خلال مكعباتٍ أو منشوراتٍ زجاجية،
فتصبح في خياله تشكيلًا يتكون من مربعاتٍ متداخلة
ومتقابلة، وتصبح ألوانها مضلعةً توحي بالشجرة ولا
تحاكيها، بل قد لا توحي بها على الإطلاق! فإذا كان
من أتباع مدرسةٍ أخرى من مدارس المودرنية أخرج
إلينا «أثر» الشجرة في نفسه، أو ما انطبع في وجدانه
منها، فخرجت إلينا في ثوبٍ جديد لا يحاكي الخطوط
البارزة بل يطمسها، ولا ينقل الألوان الظاهرة بل
يذيبها في غيرها، ومن ثَم ذهب النقاد إلى تسمية هذه
المدرسة بالتأثيرية أو الانطباعية
Impressionism،
وكذلك وجدنا من يسمَّون بالسرياليين يحاولون النفاذ
إلى ما وراء الظاهرة التي تشهدها العين إلى ما يدور
فيما أصبح يُسمَّى باللاشعور، وكان يُسمَّى آنذاك
بالعقل الباطن
Unconscious
بدلًا من
Subconscious
أو ما نعرفه في صور الأحلام، فيكسرون القواعد
المنطقية للترابط، مثلما يحدث في أحلامنا، ويضخمون
بعض الأجزاء ويصغرون البعض الآخر، كأنما هم ينشدون
واقعًا آخر، واقعًا نفسيًّا يختلف عن الواقع المادي
الذي يصورونه، وإن كان يكمن خلفه وفي باطنه، أي وإن
كان لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال هذا الواقع
المرئي نفسه!
ولقد توالت هذه المدارس في الفنون التشكيلية على
امتداد القرن العشرين، واتفق النقاد على أن
المودرنية تطورت مدارسها، دون أن تُلغي مدرسةٌ
«مدرسةً» أخرى، بهذا الترتيب التقريبي: الانطباعية،
ما بعد الانطباعية
Post-Impressionism،
فالتعبيرية
Expressionism،
فالتكعيبية، فالرمزية
Symbolism،
فالتصويرية
Imagism، فالدوامية
Vorticism،
فالدادية Dadaism،
ثم السريالية
Surrealism،
وكلها مدفوعة بنفس ما قلته عن معاداة المحاكاة، أي
محاولتها قهر الواقع لا تصويره ونقله! ولم يكن
الأدب بمعزلٍ عن هذه المدارس أو الحركات، فاتجه
هرمان هسه Hesse
الكاتب الألماني الذي عاصر هذه المدارس إلى مزج
الواقعية في رواياته ببعض اتجاهاتها، (في رواية ذئب
الأحراش
Steppenwolf
مثلًا)، وكذلك فعل الكاتب الأيرلندي جيمسي جويس
Joyce في
الرواية، وعزرا باوند
Pound في
الشعر، وصمويل بيكيت
Beckett في
المسرح، إلى آخر القائمة التي يتضمن هذا الكتاب بعض
أعلامها.
ولكن «الحداثة» تعبيرٌ عربي لا ينطبق كل الانطباق
على المودرنية، ويختلف معناه باختلاف مستخدميه،
وإذا كان قد اتخذه بعض الكتاب علمًا على كتاباتهم،
فليس معنى ذلك أنهم يعنون به مدرسةً بعينها من
مدارس الأدب الحديث أي الأدب الذي ابتعد عن
المحاكاة واتخذ منهجًا من هذه المناهج الجديدة، وما
أكبر الفارق بين إنتاج إدوار الخراط الذي ارتبط
اسمه أكثر من غيره بما يُسمَّى أدب الحداثة، وبين
أعمال جمال الغيطاني الذي يبتدع أساليب ووسائل
فنيةً تجعله ينتمي إلى أكثر من مدرسةٍ من هذه
المدارس، وإن لم يقُل لنا إنه من أرباب الحداثة ولا
من دعاتها، بل — وهذا من مفارقات التاريخ الأدبي —
إنه يقول بعكس ذلك!
فإذا لجأنا إلى نُقاد الأدب المتخصصين زادت
حيرتنا؛ إذ سنجد بعض الكبار من ذوي التأثير يضع
للحداثة دلالاتٍ لا تتصل بذلك المفهوم الغربي بل
تنصرف إلى بعض الدلالات الاجتماعية والنفسية
والسياسية، مثل جابر عصفور، الذي يربطها بالوعي
وبالوعي البديل، أي إنه يربطها بالأصول والجذور
والدوافع لا بالظواهر والملامح (انظر بحثه عن
الحداثة الذي شارك به في مؤتمر الشعر العالمي في
ديسمبر ١٩٩١م)، وسوف نجد نُقادًا يحاولون أن
يقصُروا دلالتها على أنواعٍ فنية دون أخرى، وآخرين
يقيمون لها أسسًا فكرية وأدبية معًا — مثل شكري
عياد (في معظم كتاباته وخصوصًا في كتاب المذاهب
الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين، ١٩٩٤م) — بل
وسوف نجد من كبار النقاد من يتجاهلها تمامًا ويرى
فيها تكلفًا واستنطاعًا ومحاولةً فجة لمحاكاة آداب
الغير دون الرجوع إلى القارئ أو المتلقي الذي لن
يسيغها أو يقبلها مثل شكري عياد نفسه وماهر شفيق
فريد.
فإذا انتقلنا إلى التعبير الآخر الذي شاع حتى لم
يعُد يخلو منه مقالٌ نقدي أو سياسي فهو تعبير
«الخطاب»، وهو تعبيرٌ له دلالته القديمة في العربية
وأبسط معانيه القديمة هو الكلام الموجه من شخصٍ إلى
آخر، وإلى جانب ذلك قد يعني «الأمر» أو «المسألة»
أو «القضية»؛ إذ ورد في كتاب الله في المعنيين، في
المعنى الأول في: وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا
سَلَامًا (الفرقان: ٦٣)، وفي: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (هود:
٣٧)، وفي الثاني: فَصْلَ
الْخِطَابِ، ووَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (سورة ص:
٢٠، ٢٣)، ولكنه في الحقيقة لا يستمد دلالته الحديثة
من التراث العربي بقدر ما يمثل ترجمةً لكلمة
Discourse
الإنجليزية ونظيرتها الفرنسية (بدون حرف اﻟ
E الأخير)،
والتي كانت تعني في الماضي دراسةً أو بحثًا (إلى
جانب معنى الخطبة التي تلقى في محفل) كالذي كان
يكتبه بيير كورني في المسرح (انظر كتاب درايدن
والشعر المسرحي، مجدي وهبة ومحمد عناني، القاهرة
١٩٦٤م، ١٩٨٢م، ١٩٩٤م)، أو رينيه ديكارت (الفرنسي)
أو ماكيافيلي (الإيطالي) أو دافيد هيوم
(الإنجليزي)، أما الآن، وعلى مدى ربع القرن الماضي،
فقد أصبح المصطلح يمثل التقاء بعض التيارات الفكرية
التي دخلت النقد الأدبي، وأولها وأهمها الدراسات في
علم اللغة، ثم الفلسفة، فالتاريخ، فعلم النفس، وعلم
الاجتماع، بهذا الترتيب، وسوف أشير في غضون شرح
معانيه إلى أهم الكتب التي استندتُ إليها في تحديد
المعاني الجديدة التي اكتسبها هذا اللفظ
القديم.
وأهم ما أود أن أنبه القارئ إليه هو أن المصطلحات
النقدية الجديدة لم تثبت معانيها بعد، بل هي تتطور
يومًا بعد يوم نتيجة التداخل بين مجالات العلوم
الإنسانية، فلم يعد يُنظر إلى الأدب في نهاية القرن
العشرين على أنه ظاهرةٌ أدبية محضة بالمعنى القديم،
أي لا يخضع إلا للمواصفات الشكلية (اللغوية في
المقام الأول)، ولا يقبل الإحالة إلى العالم
الخارجي، بل أصبح يُنظر إليه باعتباره نشاطًا
إنسانيًّا يتسع للدراسة والبحث من شتى جوانب العلوم
الإنسانية التي ذكرتها؛ ولذلك فإن إعادة تعريف تيري
إيجلتون للأدب في الثمانينيات (انظر كتاب مقدمة إلى
النظرية الأدبية، ١٩٨٤م)، فتحت الأبواب على
مصراعَيها لهذه العلوم، وخصوصًا ما يُشار إليه باسم
المباحث البينية أو المشتركة بين التخصصات
Interdisciplinary،
وليس معنى هذا أن الأدب نفسه قد تغير تغيرًا
جذريًّا نتيجةً لذلك، أو أن المصطلح الأدبي
Literary Idiom
قد اختلف اختلافًا ابتعد به — أو يبتعد به —
تدريجيًّا عن التراث الأدبي الإنساني، فما زال
الشعر يتسم بالإيقاع، وما تزال للاستعارة منزلتها،
وما تزال المفارقة قائمةً بأشكالها المختلفة، وما
يزال فن السرد أساسيًّا في الرواية، وما زال الحوار
يُستخدم في المسرح وما إلى ذلك، ولكن المناهج
النقدية التي تأثرت بالعلوم الإنسانية الحديثة تفرض
علينا بصورةٍ مطردة أن نُفسح مكانًا لتداخل
التخصصات، وأن نقبل في أُطر النقد الأدبي الحديث ما
تفرضه من مكتشفاتٍ لم يكن يوليها أسلافنا ما تستحقه
من عناية.
وقبل أن أنتقل إلى معنى مصطلح «الخطاب» أو معانيه
الكثيرة، أود أن أقدم نموذجًا لما يؤدي إليه التسرع
في ترجمة المصطلحات الفنية والأدبية من تداخلٍ بين
مفاهيمها، بل إن الكاتب يُضطَر أحيانًا إلى الإحجام
عن تقديم ترجمة لمصطلحٍ أجنبي يعرفه خير المعرفة
ويستخدمه مطمئنًا حين يكتب باللغة الأجنبية التي
ينتمي إليها المصطلح بسبب إدراكه صعوبة إيجاد
المرادف الدقيق، فنحن هنا نواجه مصطلحاتٍ فنيةً
يكاد استخدامها أن يقتصر على المتخصصين، أي إن
دائرة مستخدميها ضيقة ومحدودة، بخلاف ألفاظ الحضارة
التي يستخدمها جميع أبناء اللغة، وما أشبهنا في ذلك
بأصحاب الصنعة الذين يستخدمون الرطانة الخاصة
Jargon والتي
لا يملك المترجم إلا الانصياع لها، وقد تعرضت لذلك
الموضوع في فن الترجمة (لونجمان، ١٩٩٢م)، وأنا أدعو
من يريد الاستزادة إلى النظر في ذلك الكتاب، وقد
أحجمت إحجامًا واضحًا عندما عرضت لأنواع التكرار
البلاغي في النص الشعري الدرامي في المقدمة التي
كتبتها لترجمة مسرحية «حلم ليلة صيف» (الهيئة
المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٢م)، مكتفيًا بشرح كلٍّ
منها وداعيًا الزملاء من النقاد والأدباء
والمترجمين إلى اقتراح ما يرونه من ترجمات، وغنيٌّ
عن البيان أن تلك المصطلحات التي تشير إلى حيلٍ
بلاغية Rhetorical
Devices أو إلى تراكيب أو نُظم
بلاغية Rhetorical
Schemes لا تعرفها العربية
التراثية بسبب عدم ازدهار الشعر المسرحي (أو المسرح
الشعري) في تراثنا القديم، وما تزال بحاجةٍ إلى
الدرس وانتقاء الألفاظ القادرة على نقل معناها
بدقة، فنحن لا خيار لنا إلا استخدام العربية، وأشهد
أنني من المنحازين إلى الاشتقاق والنحت والإتيان
بالصيَغ الصرفية التي تجاهلها القدماء في ترجماتي
(قرار مجمع اللغة العربية بجواز الاشتقاقات في
مادةٍ لم ترِد في المعاجم عند الحاجة) تحاشيًا
للتعريب (أي نقل اللفظة الأجنبية بصورتها المنطوقة
إلى العربية)، وأحيانًا ما أفضل الشرح على فرض
الكلمة الأجنبية، وأحيانًا ما ألجأ إلى اللف
والدوران تلافيًا لفرض الكلمة الأجنبية على آذان
قراء العربية، وكثيرًا ما عبت على الزملاء استخدام
تعبير الهرمانيوطيقا تعريبًا لكلمة
Hermeneutics،
بينما يجدون بين أيديهم مصطلح التأويل أو التخريج
(معجم المصطلحات الأدبية، مجدي وهبة)، وقس على ذلك
عشرات الكلمات الجديدة التي تغزو العربية المعاصرة
دونما داعٍ، وكأن لها دلالاتٍ جديدة غير مألوفة
لدَينا، ولكنني أعترف دائمًا أنني أنتمي لمجموعةٍ
كبيرة من الباحثين الذين جعلوا همهم أن يقدموا
المصطلحات الجديدة، ولقد تعلمت من الترجمة في
المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة ضرورة
التشاور والتحاور، ومن الجامعة ضرورة التأني
والتيقن والتثبت، ومن الكتابة في الأدب والنقد
والعمل بالنشر أهمية العلاقة الحية والحيوية بين
الكاتب والقارئ؛ ولذلك فأنا لم أُحجم عن اقتراح
كلماتٍ عربية للتراكيب البلاغية في «حلم ليلة صيف»
تكاسلًا أو تقاعسًا، ولكنني رأيت أن شرحها أجدى
وأنفع، فإذا تقبل القراء هذا الشرح باعتباره كافيًا
كان بها، وإذا لم يكتفوا به وجدوا ضالتهم في معجم
المصطلحات الأدبية الذي وضعه مجدي وهبة (١٩٧٤م)،
حتى لو اختلفوا معه، وفيما يلي بعض النماذج:
كان القدماء يصنفون التكرار البلاغي طبقًا لأشكال
وقوعه في الجملة، فأيسر الأنواع هو التكرار المباشر
Epizeuxis
(التكرار التوكيدي، وهبة)، الذي يقابل التوكيد
بالعربية، ففيه يكرر المتحدث الكلمة، أي يعيد
التلفظ بها مباشرةً ودون فاصل توكيدًا لما يريد،
ونحن في اللغة الدارجة نفعل ذلك كل يوم، أما إذا
فصلت فاصلة (اسم أو فعل أو حرف) بين اللفظين كان
للتكرار اسم بلاغي آخر هو
Ploce (ليست في
وهبة)، فإذا وقعت الكلمة في أول العبارة وفي آخرها
أطلق القدماء على ذلك اصطلاحًا آخر هو
Epanalepsis
(رد العجز على الصدر، وهبة)، فإذا انتهى البيتان أو
شطرا البيت الواحد بنفس الكلمة أسماه القدماء
Epistrophe
(تكرار النهاية، وهبة)، فإذا كانت الكلمة الواقعة
في نهاية البيت الأول (أو الشطر الأول من البيت)
بدايةً لبيتٍ أو لشطرٍ جديد كان له اسم آخر هو
Anadiplosis
(تماثُل البداية والنهاية، وهبة)، فإذا ابتدأت عدة
سطور متعاقبة بنفس الكلمة نشأ تركيبٌ بلاغي جديد
يُسمَّى Anaphora
(تكرار الصدارة، وهبة)، فإذا حدث التكرار مع عكس
بناء الجملة (أي ترتيب الكلمات في الشطر أو في
البيت) أصبح اسمه
Antimetabole
(العكس، وهبة)، فإذا حدث التكرار للعبارة كلها مع
تغييرٍ في لفظٍ واحد (فعل أو اسم) أصبح اسمه
Parison (ليست
في وهبة)، وقد يكون التكرار في مادة الكلمة، أي
إيراد صورة صرفية أو نحوية مختلفة لها فيُسمَّى
Polyptoton
(جناس الاشتقاق، وهبة)، بل قد يكون التكرار في طول
العبارة فقط (أو في عدد الكلمات)، وهو يعتبر هنا
نوعًا من أنواع التكرار
Isocolon
(الترصيع، السجع المتوازي، وهبة)، فإذا حدث ذلك
أثناء الحوار المسرحي، واستتبع أن يقتصر كل متحدثٍ
على بيت (أو شطر) واحد أصبح اسمه
Stichomythia
(المعارضة المسرحية، جدل المماحكة، التناشد
المسرحي، وهبة) وهلم جرًّا.
ولقد تعمدت أن أذكر ما اقترحه العبقري الراحل
مجدي وهبة من ترجمات هذه المصطلحات حتى يقارن
القارئ المُلم بالتراث العربي بين الشرح الذي
أوردته والمصطلح المقابل الذي أتى به وهبة، وأظن
ظنًّا أن المقارنة تؤكد صواب ما دعوت إليه من الحذر
والتردد، ونحن نخطو في هذا الدرب العسير، فنحن نسأل
ولا بد أن نسأل: لماذا نأتي بمصطلحٍ عربي جديد؟
والإجابة اليسيرة هي أننا نفعل ذلك للدلالة على
معنًى مُحدَّد جديد! أي إن جدة المعنى هي التي
تستلزم جدة المصطلح! فإذا كان المعنى قديمًا لم يكن
للمصطلح الجديد فائدة، وكان اللفظ القديم الذي يدل
على ذلك المعنى كافيًا!
ولكن: ما حدود هذه المعاني الجديدة؟ وهل تتوقف
جدة هذه المعاني النقدية على جدة الأعمال الأدبية؟
الواقع يقول بغير ذلك، فالدارس لأدب القدماء سيجد
نموذجًا لما أسميته في هذا الكتاب بالتورية الساخرة
Irony
(السخرية، وهبة) في إنتاج الشعراء والمسرحيين
والروائيين منذ نشأة الأدب اليوناني وعلى امتداد
عصور الأدب الروماني، أي لِما يزيد على ألف سنةٍ
قبل ظهور الأدب العربي في القرن الخامس الميلادي
تقريبًا (استنادًا إلى أقدم النصوص الجاهلية التي
حفظها لنا التاريخ)، وسوف يجد نماذج لمعظم الحيل
البلاغية المحددة التي ما فتئت تتكشف لنا يومًا بعد
يوم، سواء كان أصحابها يطلقون عليها نفس الأسماء
التي نطلقها عليها اليوم أم لا، في الآداب الشرقية
(الهندية والصينية والفارسية) والغربية (الأوروبية
بصفةٍ خاصة) وآداب الشرق الأوسط (في اللغات السامية
مثلًا)، بل وفي الآداب الشفاهية (غير المكتوبة)
لبعض شعوب آسيا وأفريقيا والشعوب الأصلية
للأمريكتين وأستراليا! بل لقد قدَّم أحد كبار
المتخصصين في الآداب الآسيوية نماذج من الشعر
الياباني القديم (مترجمة إلى الإنجليزية) تتضمن
حيَلًا بلاغية لم يكن يتصور أحدٌ وجودها في لغةٍ
تُكتب بالصور المحوَّرة
Ideograms
(التحوير بمعنى التحويل صحيحٌ من باب الإبدال وليس
من باب المجاز كما يقول شوقي ضيف)، وأقام أوجه شبهٍ
غريبةً وغير متوقعة بينها وبين آداب المصريين
القدماء، وخصوصًا فيما يتعلق بالسمات الأساسية
للتراكيب البلاغية والتقابل والجناس والتكرار، دون
أن يثبت تأثر أدب شعب بأدب شعبٍ آخر!
ولست أريد أن أشير إلى ما أطلقت عليه التورية
الساخرة Irony، وما
يسميه غيري بالمفارقة أو بالسخرية وحسب، دون أن
أغتنم الفرصة لإلقاء الضوء على صعوبةٍ من نوعٍ آخر،
وهي التداخل فيما بين التراكيب أو الحيل أو
الأساليب البلاغية، ولنحاول إذن أن نصف هذا المذهب
البلاغي ما دُمنا لم نتفق على تسميةٍ عربية له،
ولتكن محاولة الوصف نفسها بمثابة منهج المعالجة
الذي أتصوره ملائمًا لوضع المصطلحات.
(٢) المنهج
الخطوة الأولى هي نُشدان الأصل الاشتقاقي وجذور
المعنى القديم، فمن شأن ذلك أن يُرسي الأساس اللازم
لبناء الحجة، وهو يوحي بما أصبح يُسمَّى بالتأصيل
أي البحث عن الأصول والجذور، قبل متابعة الفروع
وفحص الزهور والثمرات! وبعد هذه الخطوة تأتي خطوات
متابعة تطور المعنى ابتغاء العثور على المعنى
الأخير الذي وصلت إليه الكلمة، وهو في الواقع عدة
معانٍ لا معنًى واحد، من واقع استقراء الأدب
المكتوب واستخدام النقاد للكلمة في
دراساتهم.
وتقودنا الخطوة الأولى إلى أصل الكلمة اليوناني،
فهي موجودة في جمهورية أفلاطون التي كُتبت في القرن
الرابع قبل الميلاد، وتحمل معنًى يمكن وصفه عمومًا
بأنه أسلوب التظاهر الذكي البارع! وفي محاورات
أفلاطون يتقمص سقراط دور المتظاهر
Eiron بالجهل
والسذاجة بل وبالغباء، حتى يقيم الحجة على مُحاوره
ويقنعه بوجهة نظره، أو كما يقول أفلاطون: «حتى
يجعله يرى الحقيقة.» وفي هذه المحاورات، كما تقول
لنا مراجع الأدب اليوناني كان الأسلوب السقراطي
يقوم على «التظاهر» و«التغابي» وصولًا إلى الحقيقة،
ومن هنا نشأ الارتباط بين التناقض بين الظاهر
والواقع، أو بين البادي والخفي، في المعاني الأولى
لهذا المصطلح، ومن خلال التناقض بين ما نرى وما لا
نرى أو من خلال «تورية» المقصد الحقيقي لكلام سقراط
خلف قناع الألفاظ الظاهر ينشأ عنصر «التورية» في
المصطلح.
ولكن التورية السقراطية لونٌ واحد وحسب من ألوان
التورية الساخرة، فنحن نجد في الأدب اليوناني نماذج
أخرى تضفي على الكلمة معاني أخرى لا تقل أهميةً
عنها، فإن ديموثين
Demosthenes
يعرِّف المخاتل
Elron بأنه
الشخص أو المواطن الذي يتهرب من مسئولياته بادعاء
المرض، ويقول ثيوفراست
Theophrastus
إن «الأيرون» هو المراوغ في استخدام الألفاظ،
البارع في التلاعب بها، الذي لا يلتزم بموقفٍ بل
ولا يعلن أن له موقفًا ما! وباختصارٍ كان ثيوفراست
يطلق هذا الاسم على «الماكر» الخبيث الذي يعتبر
الصراحة عدوه اللدود، ومن ثَم كان استخدام هذه
الشخصية في الكوميديا اليونانية نموذجًا لقوة المكر
والدهاء، وما المكر إلا «تورية» الواقع والتظاهر
بغيره، فكان «الأيرون» في العادة شخصًا ضعيفًا
يستطيع بسعة حيلته أن يتغلب على المتفاخر القوي
المتباهي بقوته العضلية وثرائه وحسبه ونسبه!
وعلى امتداد عصور الأدب اليوناني ظل معنى
«التورية» كامنًا في الكلمة، حتى أفصح عنه نُقاد
الأدب الروماني، كما يذكر كادون
Cuddon في معجم
ألفاظه الأدبية (١٩٧٧م)، وكما أكد ذلك ميوك من قبلُ
في مقاله الرائع عن هذا المصطلح (١٩٧٠م)، فأصبح لفظ
«إيرونيا» Ironia
دليلًا على وجود مستويَين للمعنى: مستوى المعنى
الظاهر للألفاظ، ومستوى المعنى المقصود، وأصبح بذلك
خصوصًا عند شيشيرون وكوينتيليان حيلةً بلاغيةً أو
أسلوبًا بلاغيًّا يتوارى فيه المقصد، إن لم يتناقض
تناقضًا كاملًا مع ظاهر معنى الكلمة، أي إن عنصر
«التورية» استمر قائمًا في المصطلح.
وعندما دخل ذلك المصطلح إلى اللغة الإنجليزية كان
المعنى الروماني هو الغالب عليه، وكان يتجلى في
مظهرَين غلابين من مظاهر البلاغة الإنجليزية هما
«المبالغة» و«المخافضة» (التقليل البلاغي، وهبة)
Overstatement and
understatement، وتضرب جذور
أصولهما الكلاسيكية في المصطلحَين
Hyperbole and
litotes على الترتيب، فكان
الكُتاب ينزعون إلى المبالغة المُتعمَّدة والواضحة
حتى تكون النتيجة عكسية، وكذلك إلى المخافضة
Meioses
وخصوصًا المخافضة المنفية
Litotes
(الإثبات بالنفي، وهبة)، وقد شرحتهما بالتفصيل
عندما تعرضت لقضية ترجمة النغمة
Tone في مقدمتي
لترجمة روميو وجولييت (الهيئة المصرية العامة
للكتاب، القاهرة، ١٩٩٣م)، ومن ثَم أصبحت هذه
«التورية» نمطًا بلاغيًّا يتسم به أسلوبٌ معين من
أساليب التعبير، ولما كان عادةً ما يدفع إلى
الابتسام ويرتبط بالكوميديا في الأدب القديم، فقد
تسلل إليه معنى «السخرية».
وشاع في القرن الثامن عشر في إنجلترا استخدام هذا
اللون من الأسلوب الساخر في كتابات أبناء العصر
الأوغسطي، أي أرباب الكلاسيكية الجديدة، والتي بدأت
في الواقع في النصف الأخير من القرن السابع عشر على
أيدي جون درايدن الإنجليزي وبيير كورني الفرنسي،
وإن كنت لم أعثر على نماذج استخدام درايدن لهذا
المصطلح، ويقال إنه استخدمه مرةً واحدة (انظر
درايدن والشعر المسرحي، مجدي وهبة ومحمد عناني،
١٩٦٣م، ١٩٨٢م، ١٩٩٤م)، ولكن كتابات درايدن النثرية
والشعرية والدرامية تشهد بولوعه بهذا اللون من
التعبير، وكذلك روايات جوناثان سويفت (مؤلف رحلات
جاليفر) وأشعاره، وأشعار ألكسندر بوب وروايات هنري
فيلدنج والكتابات النقدية للدكتور صمويل جونسون، بل
لا أُغالي إذا قلت إن الأسلوب المميز للغة
المستخدمة في أوساط المحافظين في إنجلترا تمتد
جذورها إلى هذه الفترة، وما يُسمَّى بأسلوب تفكه
أكسفورد Oxonian
homour (نسبة إلى جامعة
أكسفورد)، يتوسل أساسًا بهذَين الأسلوبين: المبالغة
والمخافضة (والأخيرة تُسمَّى أحيانًا
Meioses كما
سبق أن ذكرت)، فالإنجليزي (المحترم) لا يحب الضحك
المجلجل والقهقهة، ولكنه يفضل الابتسام عندما يسمع
من يستعمل أسلوب المبالغة أو المخافضة، وأذكر أنني
عند رحيلي من بريطانيا منذ عشرين عامًا، بعد أن
قضيت فيها عشر سنوات كاملة، استعنت ببعض أصدقائي في
إعداد صناديق المتاع، وكان بينها ٥٨ صندوقًا مليئًا
بالكتب فقال أحدهم: «ألم تترك لنا بعض الكتب في
إنجلترا؟»، وقال الآخر: «يبدو أنك لا تكره الكتب!»
ولم يكد يبدو على شفاههما إلا «شبح» ابتسامة كما
يقولون!
ويبدو أن الإنجليز لم يشغلوا أنفسهم بمحاولة
تعريف هذا المصطلح إلا منذ عهدٍ قريب (النصف الأخير
من القرن التاسع عشر)، أما السابقون فكانوا من
الألمان الذين استمدوا مادة بحثهم — وهذه من
المفارقات — من الأدب الإنجليزي نفسه! إذ قدَّم
الأخوان أوغسط فيلهلم شليجل وفريدريش شليجل وغيرهما
تفسيراتٍ لمصطلح التورية الساخرة باعتبارها لونًا
من ألوان الأساليب الأدبية التي لا تقتصر على
الكوميديا بل تضرب بجذورها في جميع أنماط التعبير
الأدبي، وكان تعريف كارل سولجر
Solger
وفريدريش شليجل
Schlegel يقترب
بها من المفارقة
Paradox، وهو
معنًى قائمٌ ولا شك إذا وسعنا نطاق المصطلح ليشمل
العمل الفني كله، روايةً كان أم مسرحية، وبحيث لا
يقتصر على طرائق التعبير اللغوي، وهنا نقترب في
المنهج الذي أشرنا إليه من فرعٍ أساسي من فروع تلك
الشجرة الضخمة، وهو فرع التناقض بين المقصد
والنتيجة، أو مفارقة الحدث، أو ما نسميه في حياتنا
العامة بسخرية القدر Irony of
fate، فالدراسة التي كتبها
فريدريش شليجل عن شيكسبير تؤكد ذلك المعنى: انظر
إلى «جبال» الكلمات الرنانة الطنانة التي تهز أرجاء
هذه المسرحية أو تلك، ولا تؤدي في النهاية لنصرٍ أو
هزيمة! انظر إلى قصة الغرام في ترويلوس وكريسيدا،
وكيف يقدم الوالد بانداروس ابنته إلى الطروادي في
خضم القتال، فإذا انجلى غبار المعركة انقشع ضباب
الغرام وذاب الحب مثل أنداء الفجر الرطيب! وانظر
كما يقول شليجل إلى المفارقة التراجيدية
Tragic Irony
(التي يسميها «أيروني»
Irony أيضًا)
في الملك لير، حيث يرفض الملك العجوز حب ابنته التي
تحبه حقًّا، ويقبل نفاق ابنتَيه فتكون على أيديهما
نهايته المفجعة! وقِس على ذلك سخرية القدر في
أوديب، وفي شخصية الشيطان في مسرحية الدكتور
فاوستوس للشاعر كريستوفر مارلو، الذي كان معاصرًا
لشيكسبير، فهذا الشيطان، كما تُصوره المسرحية،
محكومٌ عليه باللعنة الأبدية والهلاك الأبدي،
ومحكومٌ عليه كذلك بالهزيمة ونحن — المتفرجين —
نعلم ذلك، ولكنه يقف شامخًا رافع الرأس كأنه بطلٌ
أسطوري، تمامًا مثلما يفعل ياجو في مسرحية عطيل،
فالعلاقة الجدلية بين ياجو وعطيل تقترب من القدرية
الأليمة، ونحن نعرف ما لا يعرفه عطيل؛ إذ يُسر
إلينا ياجو بخبيئة نفسه ويبثنا لواعج ذاته، فنعرف
ما لا يمكن أن يحيط به البطل الضحية إلَّا في لحظة
النهاية، لحظة الموت التي ينتحر فيها
أمامنا!
ومن هنا ينشأ «الوصف» الحديث لهذا المصطلح الذي
يستعصي على التعريف؛ إذ إنه يتضمن عنصرَين أساسيين
(وهو ما دفعني إلى استخدام كلمتين في «وصفه») هما
التورية والسخرية، أما الأول فيتصل باستخدامه في
الأعمال الأدبية، أي وجود المعنى الموارى دائمًا،
وفي كل حالة، سواء كان المعنى قدريًّا، أم كان
يتعلق بالشخصية الدرامية أو الروائية أو الشعرية،
وسواء كان لفظيًّا
Verbal أم
موقفيًّا
Situational،
وأما العنصر الثاني فهو نتيجة لتلك التورية،
فالسخرية هي في الحقيقة نتيجة من نتائج إخفاء
الحقيقة والإيحاء بنقيض الواقع، ومنشؤها فلسفي،
وربما كان يرجع إلى كيركجارد فيلسوف الوجودية
الأشهَر، الذي كتب في عام ١٨٤١م تعريفه الرائع
للمصطلح في دراسةٍ عنوانها مفهوم التورية الساخرة،
وإن كنت أعتقد أنه استقاه من دراسة سولجار
الألمانية عن التورية الساخرة باعتبارها التورية
الساخرة للعالم، أو للكون، أو فلسفة التورية
الساخرة، فإلى سولجار (وفريدريش شليجل) يرجع الفضل
فيما نسميه بالنغمة الحديثة
Modernist tone
(أو المودرنية)، وهي التي يكون المؤلف فيها على
وعيٍ بمدى جديته ومدى هزله، ولو أن شليجل المذكور
يطلق عليها اسمًا مضللًا هو التورية الساخرة
الرومانسية Romantic
Irony.
وتبرز هنا حاشية لا بأس من إيرادها في المتن، وهي
أن شليجل يسبق المحدثين جميعًا الذين اضطروا إلى
ابتداع صيغةٍ جديدة لألوان الفنون القائمة على ما
كان يعنيه من الوعي بالنغمة، وهم يستخدمون في
الإشارة إليها تعبيرات تبدأ بسابقة يونانية هي
Meta، (والتي
أصبحت تتضمن الميتامسرح
Metatheatre)
(وأنا أعربها محاكاة لتعبير الميتافيزيقا
Metaphysics)،
ومعناه كتابة المسرح الذي لا يستند إلى الوهم
الكامل بأن الشخوص والأحداث حقيقية، مهما بلغت
براعة الكاتب في الإيحاء بذلك، وبعد ذلك جاء تعبير
الميتارواية
Metanovel
والميتاشعر
Metapoetry
والميتانقد
Metacriticism،
وكلٌّ منها يقتضي (أو يعني) ابتعاد الكاتب عن
الانغماس في مادته، بحيث يستطيع أن يرى أي عمل في
أي مجال من هذه المجالات من وجهة النظر الشاملة
التي تحقق له الوعي بأنه كاتب، وبأن هذه كتابة
مؤلفة (أي مبتدَعة وخيالية وغير حقيقية)، وبأنها —
بتعبير المسرح الحديث — «لعبة» لا يمكن أخذها مأخذ
الجد.
وروح الهزل التي تكسر الأنشطة الأدبية الجادة هي
ابنة هذا العصر، وإن كنا سوف نجدها في أعمال
الأقدمين الذين اتخذوا الكتابة الإبداعية سبيلًا
لتجسيد فلسفة «ساخرة» من العالم، بل وساخرة من
مسرحية الوجود والعدم، وهي النظرة التي أجاد
التعبير عنها توماس مان الروائي الألماني الأشهر في
كتابه «الفن الروائي» Die kunst des
romans، الذي صدر عشية اندلاع
الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩م)، فكان إيذانًا
حقيقيًّا باتحاد التورية والسخرية في التورية
الساخرة.
فإذا شئنا تلخيصًا لهذه الشروح والأوصاف، قلنا إن
معظم أشكال التورية الساخرة، تتضمن الإدراك أو
الوعي بالتفاوت أو التفارق بين الكلمات ومعناها، أو
بين الأفعال وما تُفضي إليه، أو بين الظاهر
والباطن، وفي كل حالةٍ من حالات ذلك التفاوت نرى
عنصرًا من عناصر السخف أو العبث (بمعنى العبط
Absurd، وشوقي
ضيف يقول إن هذه الكلمة فصيحة! انظر تيسيرات لغوية،
القاهرة، ١٩٩٠م)، وعنصرًا آخر هو المفارقة.
ومتابعةً منا لثمار الشجرة (استمرارًا للصورة
الاستعارية للمنهج)، نرى أن التورية الساخرة تثمر
ألوانًا من الهزل والسخرية، بحيث تنهض بوظائف الزجر
والتطهير والتشذيب، وتدمير غرور الإنسان الذي يزعم
العلم بكل شيء، والذي هو أكثر شيء جدلًا، فالتورية
الساخرة من الوسائل التي يلجأ إليها الكاتب، ليبث
في كتابته الإحساس بتعدد وجوه الحقيقة، فإذا رأى
الإنسان شيئًا لم يكن معنى ذلك أنه «رأى» كل شيء؛
إذ لا مفر من وجود ما يتوارى عنه، سواء كانت
المواراة مقصودة أم غير مقصودة، أي سواء كانت
التورية من صنع الكاتب أم مفروضة عليه.
وينتهي بنا منهجنا إلى النظر في حال التورية
الساخرة الآن، فلقد رأيت من خلال قراءاتي في الآداب
الأوروبية والعربية على مدى نيف وأربعين عامًا — أي
منذ دخلت الجامعة وشرعت في الدراسة المنتظمة للنصوص
الأدبية القديمة والحديثة — أن التورية الساخرة قد
أصبحت سمةً مميزة لهذا العصر، وأننا نستطيع، خلافًا
لما يقوله كادون في معجمه المشار إليه، واستدراكًا
لما فات ميوك في كتيبه الجميل، أن نرصد «روح العصر»
في ألوان الأدب الحديث التي تتوسل بالتوريات بشتى
أنواعها، فالأصل في التورية كما ذكرت (وهو أصلٌ
قائم حتى في المصطلح العربي القديم نفسه، الذي قد
يكون لفظيًّا محضًا فيقابل الكلمة الأجنبية
Paronomasia
وقد يتضمن الجناس، وقد يكون ذا معنًى أوسع
PUN) هو تعدد
أوجه الحقيقة، وتفاوُت النظرة إليها، وتضارب
الزوايا التي يمكن أن تشترك في رسم صور الواقع،
بحيث يتولد التوتر
Tension في كل
عملٍ أدبي جدير بلفظ الحداثة، أو المودرنية، أي
الانتماء إلى التعقيد الذي هو أخص خصائص هذا العصر،
والتوتر مصطلحٌ أدبي معناه وجود أقطاب فعالة داخل
العمل الأدبي الحي، فهي دائبة الحركة والتأثير، ومن
خلال تشادها وتجاذبها يبرز لنا كيانٌ أقرب ما يكون
إلى التركيب الديناميكي، ونادرًا ما يكتشفه القارئ
للوهلة الأولى، بل هو لا يبرز إلا بإعادة النظر
وإمعانه المرَّة بعد المرَّة، وعندما ركزت اهتمامي
على الشعر الإنجليزي الحديث وجدت أن التوتر النابع
من التورية الساخرة هو صفته المميزة، ومن ثَم خصصت
دراسةً مستقلة عنه كتبتها بالإنجليزية وعنوانها
Varieties of
Irony، ١٩٨٦م، رصدت فيها خمسة
أنواع للتورية الساخرة في الشعر الإنجليزي الحديث،
أولها ما يعتمد على المفارقة بالمعنى المألوف
Paradox، وهو
الذي اجتهد أرباب مدرسة النقد الحديث في إيضاحه
وتفصيل القول فيه، وضربت لها مثلًا من قصيدةٍ
لشاعرةٍ معاصرة متوفاة هي سيلفيا بلاث، وعنوانها
«سفينة الشتاء»، تعتمد فيها على التناقض بين مظاهر
الحياة في السفينة وجمودها الحقيقي، بحيث تتحول كل
دلالات الحياة إلى دلالات موت، وبحيث تنبع المفارقة
من التورية العامة في الصور الشعرية المستخدمة،
التي توحي ببعض المعاني من التراث كي تنفيها عن
الحاضر، وبحيث تصبح دلالات الكلمات مستمدة من قوة
إيحائها بنقيض معناها! وهذا اللون من التورية يولد
إحساسًا أقرب إلى الدهشة الشعرية
Poetic Wonder،
وهو مصطلحٌ آخر من المصطلحات التي روجها أصحاب
النقد الحديث، بعد أن اكتشفوا شيوعه في الشعر
الرومانسي الإنجليزي، بل واستناد المفارقة لديهم
إليه، ومن ثَم فالتورية هنا تورية داهشة لا تورية
ساخرة، ولمسة السخرية تشف حتى ما تكاد تبين!
والنوع الثاني من التورية الساخرة يتولد من تصارع
نغمتين في نفس القصيدة، والنغمة
Tone مصطلحٌ
نقدي حديث نشأ في رحم النقد الحديث أيضًا، على يدَي
جون كرو رانسوم، لكنه لم يشبَّ عن الطوق حتى
السبعينيات من هذا القرن، حين دعت الحاجة الأدبية
إلى الاستعانة به في تفسير بعض الأعمال الحديثة
والقديمة (انظر مقدمتي لترجمة روميو وجولييت
١٩٩٣م)، وتصارُع النغمتين الذي أشير إليه في قصيدة
طويلة لشاعرٍ حديث اسمه جون وين J.
Wain، وعنوانها «زيارة شاعرٍ
هرم»، يولد إحساسًا بالتردد بين الموقف المعلَن
والموقف الخبيء (ومن ثَم التورية)، فالموقف المعلن
يتمثل في الصدام بين الأنا (الذي يمثله الشاعر
الشاب) وبين الآخر (المتمثل في الشاعر العجوز)
(وهذان مصطلحان جديدان في العربية، وسوف يلاحظ
القارئ أنني أستخدم تعبير «الغير» في دراساتي عن
الكوميديا التي نُشرت أول الأمر عام ١٩٨٠م بدلًا من
الآخر The Other،
بل وأشتق مصدرًا صناعيًّا من هذا الاسم وهو
«الغيرية»
Otherness،
وأقول إن الإحساس بالكوميديا يعتمد على إدراك
«غيرية الغير»، ولكن شيوع التعبير الجديد يجبرني
على الخضوع له، فهكذا شأن المصطلح!)، أي الصدام بين
الشاعر الشاب الذي يكتب القصيدة ويصر فيها على
استخدام ضمير المتكلم، وبين الآخر الذي يمثله ضمير
الغائب الذي يشير في الظاهر إلى الشاعر الهرم،
بينما يتمثل الموقف الخبيء الموارى في التشابه إلى
درجة التطابق بين ضميرَي المتكلم والغائب! وهنا
أيضًا نجد أن نتيجة التورية ليست السخرية بل
الاكتشاف؛ فرحة الاكتشاف الذي يمثل الأوج أو الذروة
التي يبينها التصارع بين نغمة الجد ونغمة
الهزل.
ويعتمد النوع الثالث على توليد الصراع الداخلي
بين الصور الشعرية وما يُسمَّى بالصور الضد
Anti-images
(أو الصور المضادة)، أي الصور التي تنزع صفة الجدية
عن معظم الصور «الجادة» التي يسوقها الشاعر، وهي
تفعل ذلك بأن تقدم وجهة النظر الأخرى، مما يكشف لنا
عما كان «متواريًا» منذ البداية، بمعنى إلقاء الضوء
على «احتمالات» المشاعر بدلًا من «حقائق» المشاعر
التي تجسدها الصور الأولى، وخصوصًا الصورة الأساسية
في قصيدة «شارع طولبوت» لشاعرٍ معاصر آخر هو توم جن
Thom Gunn
(الواردة في ديوانه رحلات الهناء ١٩٨٢م)، وهذا
النوع الذي يوحي بالسخرية في «الصور الضد» يتضمن
دائمًا ما يوفر للميزان اعتدال الكفتين في الصور
الجادة، وهو يشترك مع النوع الرابع الذي يمثله
إدوين مورجان Edwin
Morgan في توسله، ولو إلى حدٍّ
محدود، بالرمزية.
والرمزية من العوامل التي ساعدت على نشأة حركة
المودرنية (أو الحداثة) بصفةٍ عامة، وإن كانت
قائمةً في الأدب منذ أقدم عصوره، فهي تُستخدم اليوم
لتغيير دفة النغمة وتوليد المفارقة التي تمنحنا
الوعي بما يتوارى خلف الظواهر، ومن ثَم تساهم في
النوع الرابع من التورية الساخرة، الذي يعتمد
اعتمادًا شبه كامل على الرمزية.
أما النوع الخامس فهو النوع الذي يحمل أكبر قسط
من السخرية في هذا اللون من الأنظمة (أو التراكيب)
البلاغية الحديثة Rhetorical
Schemes فهو تورية ساخرة؛
لأنها تتصل بنظرة الشاعر المعاصر إلى الوجود نفسه
(وقد سُقت في الكتاب نماذج من شعر فيليب لاركن
Philip
Larkin)، من خلال تحليل كل ما يمس
حياة الإنسان في مجتمعه المباشر وأوضاع الدنيا
الواسعة من حوله، فهي نظرةٌ ساخرة بمعنى أنها لا
تعترف بجدية أو أهمية شيء، بل تسخر من كل شيءٍ
بالمعنى العربي الشائع، انظر قوله جل شأنه: وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ
مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ
تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ
كَمَا تَسْخَرُونَ (هود: ٣٨)، وفيها
استهزاءٌ واستخفافٌ وضحك، فهي تقوم على رفض الحياة
باعتبارها ملهاةً سخيفة
Absurd، أي إن
فيها عنصرًا مما اصطلح على تسميته بالفلسفة الكلبية
Cynicism، وأصل
هذه التسمية يعود إلى الضحك الذي يدل على رفض فكرة
الخير في الإنسان، والذي اتخذ في مبدئه رمزًا هو
تقلص عضلات الوجه في هذه الصورة من صور الضحك، بحيث
أصبح شبيهًا بالكلب الذي يكشر عن أنيابه
Cynic-Spasm،
ومن ثَم تطورت الكلمة من اليونانية التي كانت تعني
الكلب Kuvo’s
(كونوس)، فتحولت الواو ياءً في اللاتينية وأصبحت
Cynicus، ومن
ثَم أطلقت على فلسفة أنتيثين
Antisthenes
أحد تلاميذ سقراط، الذي أعلن احتقاره لحياة
الرفاهية والثراء والاستمتاع بالملاذ، وإن ارتبطت
هذه المدرسة في الحقيقة باسم ديوجين
Diogenes، الذي
تطرف في تطبيق مبادئها. أما المعنى الحديث للكلمة
فقد ابتعد أيما ابتعاد عن ذلك، فأصبح يدل على
الاستهزاء بقيم الحياة وقواعدها الخلقية ومثُلها
العليا، يأسًا وإحباطًا، بسبب استبعاد فكرة الروح
والإيمان بالغيب، ومن ثَم فكرة الحياة الأبدية التي
تؤكدها الأديان، مما يجعل كل شيء «عبثًا»، و«لهوًا
ولعبًا»، و«سدًى» (ومعاني هذه الكلمات الأربع
بالتحديد هي التي يتعرض لها القرآن العظيم: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا
خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا (المؤمنون:
١١٥)، وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ
(العنكبوت: ٦٤)، أَيَحْسَبُ
الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى
(القيامة: ٣٦)، أي إن هذا اللون من السخرية يفترض
أيضًا رفض الدين، وفيه نظرة تشاؤم وألم، وينبغي ألا
ننسى أن السخرية والاستهزاء هنا مترادفتان فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا
مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (الأنعام: ١٠،
والأنبياء: ٤١)).
السخرية هنا إذن من المعاني الأصلية في هذا اللون
من التورية الساخرة؛ لأن الشاعر الحديث الذي
يتناولها يمثل أو يجسد (وأنا أفضل أحد هذين الفعلين
على الفعل البديل الذي شاع شيوع الأمراض المعدية،
وهو فعل «يعكس» ترجمةً للفظة
reflect) في
الواقع موقفًا متأصلًا في نظرة المحدثين الأوروبيين
خصوصًا في إنجلترا وفرنسا وبلاد الشمال للحياة
الإنسانية، فالسخرية هنا تلوِّن كل ما يقول لأنه
يختار نغمةً ساخرة تقدم كل شيء في إطار استهزائه
بالحياة، وأوضح دليل على ذلك شعر الشاعر الإنجليزي
المعاصر فيليب لاركن، فهو يجنح في أعماق النص حتى
حين تبدو على شعره نغمات الجد إلى الإيحاء بنغمات
الهزل، مما يجعله «يواري» السخرية، ويُخرج شعرًا
يعتمد على ما أسميته التورية الساخرة.
(٣) الخطاب
وأعود الآن بعد هذا الاستطراد الذي كان لا بد
منه، والذي حتَّم عليَّ التطرق إلى معاني بعض
المصطلحات التي ألِفناها، وعدت إليها المرة تلو
المرة في كتاباتي النقدية (وهي، من باب التذكير، ما
تزال غير مستقرة بالعربية) أعود إلى «الخطاب»، أما
المنشأ «الشرعي» لكلمة
Discourse في
الكتابات النقدية الإنجليزية فهو استخدامها في علوم
اللغة (اللسانيات أو الألسنة) في إطار الرد على
نظرية نعوم تشومسكي Noam
Chomsky، عالم اللغة الأمريكي
الذي أحدث تأثيرًا مدويًّا في الدراسات اللغوية
الحديثة، بما أتى به من افتراض أن الجملة هي وحدة
التفكير، وأن النحو أو الإحساس ببناء الجملة موهبةٌ
فطرية تولد مع الإنسان، ولا يكتسبها من الدرس
والتلقين، فلقد برزت في الدراسات اللغوية، منذ أن
كتبت عن هذا الموضوع في مجلة الجديد القاهرية عام
١٩٧٢م دراستي عن تشومسكي، نظرياتٌ لا تكاد تتفق على
شيء، بل وتكاد تمثل كلٌّ منها مدرسةً في التفكير
قائمةً برأسها، ثم تبلور الاتجاه في السبعينيات
استنادًا إلى كتابات كاتب مخضرم — أي شهد العصرين:
عصر تشومسكي وما بعد تشومسكي — بل وأصدر أول كتاب
له في هذا الصدد في السبعينيات (وهو هاليداي)، واسم
الكتاب التماسك في اللغة الإنجليزية، الذي كتبه
بالاشتراك مع رقية حسن (زوجته) في عام ١٩٧٦م، وفحوى
هذا الاتجاه أن اللغة قد تتكون في الواقع من جملٍ
نحوية أي جمل سليمة البناء، ولكن عملية التواصل
التي تهدف إليها اللغة لا تتحقق إلا بالتماسك فيما
بين هذه الوحدات، وبين السياقات التي تقع فيها هذه
الوحدات، ومن ثَم أصبح السياق اللغوي هو المعنى
الأول لكلمة «الخطاب».
وقبل الانتقال إلى تطوير هاليداي نفسه لهذه
الفكرة في كتابه الأشهر «اللغة باعتبارها علامات
اجتماعية» Languages As Social
Semiotic الذي أصدره في عام
١٩٧٨م، يجدر بنا أن نرصد تطور فكرة «الخطاب»،
استنادًا إلى أحد المباحث الفلسفية البالغة الأهمية
في مجال اللغة، وهو اعتبار أن الكلام فعلٌ لا قول!
والفكرة التي تبدو غامضةً في الظاهر، شأنها شأن شتى
أفكار الفلسفة الحديثة، بسيطةٌ في الواقع؛ فهي تعني
أن اللغة ليست كما كان يقول فلاسفة المنطقية
الوضعية (أو الوضعية المنطقية
Logical
Positivism) مجرد أقوالٍ تصف
الواقع، ويمكن إثبات صدقها أو كذبها (مما نسميه في
العربية بالأسلوب الخبري)، ولكنها أيضًا تعبيرٌ عن
النوايا فيما يتعلق بشخصٍ ما أو بحالةٍ ما، أي
تعبيرٌ عن موقفٍ أو عن اعتزام؛ ولذلك فإن فهمها
الفهم الصحيح يقتضي إدراك القوة الكامنة فيها، فقد
يكون التعبير «إنشائيًّا» بمعنى عدم إحالته إلى
واقعٍ قائم، كأن يكون إعرابًا عن رجاء، أو دعاء، أو
أمر، أو وعد، أو سؤال، وما إلى ذلك مما رصده أوستن
Austin أول
الأمر، ثم طوَّره سيرل
Searle في
كتابٍ أصبح من أمهات الكتب في هذا الباب، وهو كتاب
فعل الكلام (١٩٦٩م) Speech
Acts، ويطلق أوستن وسيرل على
هذا الأسلوب الإنشائي المعروف في التراث العربي
تعبير الأفعال الإنشائية
Illocutionary
Acts، ومن ثَم أدخل هذا
التمييز بين «الخبر» و«الإنشاء» إلى مجال المباحث
اللغوية الحديثة، كأنه اكتشافٌ لم يسبق إليه أحد،
وأصبح تعريف «الخطاب» يتضمن الأسلوبين معًا، ما
دامت اللغة وسيلة تواصل وتوصيل.
وإلى جانب عنصرَي «رصد السياق» و«الأسلوب
الإنشائي» في عملية التواصل اللغوي، أضيفَت عدة
اعتبارات ليست جديدةً كل الجدة، تتمثل في رصد
العوامل الاجتماعية الكثيرة التي تتدخل في تشكيل
اللغة، وبناء النحو وتفضيل أبنية نحوية معينة على
سواها، فمنها ما يُسمَّى بمبحث «العرقية» اللغوية
Linguistic
Ethnograpy، وهو مصطلح مخيف في
مظهره بسيط في جوهره، فهو يعني أن استخدام اللغة
يساهم في تحديد المكانة الاجتماعية للشخص وإبراز
اختلاف الأشخاص بعضهم عن بعض وكذلك اختلاف الطبقات
الاجتماعية فيما بينها، ومن ثَم انتهى دارسو هذا
المجال إلى القول بأن اللغة ليست مجرد وسيلة من
وسائل التعبير، بل هي «قوةٌ اجتماعية» لا بد من
أخذها في اعتبارنا عند تحليل كلام الناس في مواقعهم
المختلفة (ما أسماه الدكتور بيرن «بالألعاب
اللغوية» في كتابه Games People
Play الصادر عام ١٩٦٤م)، وما
أظن أحدًا من المشتغلين بالعلوم الإنسانية باللغة
العربية، سوف يشق عليه إدراك صحة ذلك، ونحن نواجه
هذه المستويات المتعددة من اللغة العربية في شتى
شرائح مجتمعاتنا العربية في كل مكان، وإن كنت أوصي
القارئ بالرجوع إلى أحد الكتب الأولى في هذا الحقل،
وهو كتاب Directions In
Sociolinguistics الذي أصدره
J. J. Gumperz
بالاشتراك مع D.
Hymes في عام ١٩٧٢م.
ويرتبط بهذه الدراسات الاجتماعية للغة الاتجاه
إلى دراسة ما يُسمَّى «بالوظائف النحوية» للغة، أي
دراسة الوظيفة التي يقوم بها البناء النحوي المحدد
في السياقات الاجتماعية المتباينة وفي تلبية
الحاجات الشخصية، وأهم من ذلك كله في الإيحاء
بفكرةٍ أو أفكارٍ معينة، وهو ما يرتبط ارتباطًا
وثيقًا بما أصبح يُسمَّى بالنظم العقائدية
Ideological
Systems، أي مجموعة الأفكار
التي توحي بها استخدامات اللغة بصورةٍ نحوية معينة،
فالنحو ليس نظامًا ثابتًا صارمًا يفرض أبنيةً لغوية
غير قابلة للتغيير، ولكنه يصف الأبنية المختلفة
المتاحة لكل من يستخدم اللغة؛ ولذلك فإن استخدام
بناء دون بناء يوحي بعقيدةٍ معينة أو يفرض — من
طرفٍ خفي — عقيدةً معينة، وهذا في رأيي أهم مبحثٍ
أتت به الدراسات اللغوية الحديثة، وأهم معنًى أضيف
إلى كلمة «الخطاب»، ويسمونه علم اللغويات الوظيفية
Functional
Linguistics، وسوف أضرب له
أمثلةً من العربية لتقريب معناه إلى القارئ، فنحن
مثلًا نألف ولوع السياسيين باستخدام الجمل الاسمية
وتجهيل الفاعل حتى في المبني للمعلوم، والهدف من
ذلك عادةً هو الإيحاء بأفكارٍ معينة، صادقةً كانت
أم كاذبة، فأنت تقرأ في الصحيفة: «ترشيح فلان
رئيسًا للجمعية الوطنية»، وهي جملةٌ اسمية تفيد
حدوث شيء ما دون ذكر الفاعل، فربما تكون الجمعية
ممثلةً في بعض أعضائها قد رشحته، أو سترشحه، وربما
تكون الجمعية قد قبِلت ترشيحه لنفسه أو ستقبله،
وربما يكون الملك أو رئيس الجمهورية هو الذي رشحه،
وفي مثل هذه الأحوال يعتمد الكاتب على معرفة القارئ
«بالأحوال»؛ إذ غالبًا ما يكون القارئ واثقًا أن
فلانًا المذكور سوف يرأس الجمعية الوطنية، أو هو قد
أصبح رئيسًا لها دون انتظار انتخابه نتيجة هذا
«الترشيح»، وتسخير اللغة للإيحاء بفكرةٍ ما ليس
جديدًا، ولكن المباحث اللغوية الحديثة كشفت عن
أنواعٍ متباينة من الأبنية المقترنة بمعانٍ معينة،
وهي جديرة بأن نأخذها في اعتبارنا عند دراسة
الأدب.
فالأديب الذي يفضل الأبنية الاسمية على الفعلية،
يرتبط بصورةٍ تقليدية بما يُسمَّى بالاتجاه
الرومانسي، وهذا ما ذهبت إليه جوزفين مايلز في
كتابها «عصور وطرائق تعبير في الشعر الإنجليزي»
Josephine Miles Eras And Modes
In English Poetry، والذي ذهبت
فيه إلى أن الشعراء الرومانسيين في كل عصرٍ ينزعون
إلى الابتعاد عن الأفعال العاملة أي أفعال الحركة؛
إذ كان أهم ما يثير مشاعرهم هو الوجود نفسه، ومن
ثَم كان التعبير لديهم يتخذ صور رصد الموجود في
الظاهر والباطن، حتى ما يجيش في النفوس ويعتمل في
الصدور، بينما كان غيرهم ينزع إلى استخدام الأبنية
الفعلية لارتباطهم بالمجتمع وحياة البشر الدائبة
الحركة، ومن ثَم فإن هذا الجانب من «اللغويات
الوظيفية» يلقي ضوءًا على هذه الاتجاهات النحوية،
أو اتجاهات الأبنية اللغوية في الشعر، وفي غير ذلك
من الأنواع الأدبية بطبيعة الحال، فالكاتب الروائي
قد يعمد إلى افتراض أفعال أو فواعل خبيئة أو معروفة
أو موحًى بها، فإذا تكرر ذلك في عمله أصبح نمطًا له
دلالته ومن المُحال تجاهله، وكذلك كاتب المسرح الذي
يجعل شخصياته تستخدم أبنيةً متكررة ذات دلالة خاصة،
كما هو الحال في شيكسبير (موضوع الدراسة الممتازة
التي قامت بها الدكتورة علا حافظ وحصرتها في مسرحية
يوليوس قيصر دون غيرها)، ويكفي أن ننظر إلى المثال
التالي من هاملت، لنرى كيف يتعمد شيكسبير أن يتجنب
جميع الأفعال العاملة مفضِّلًا عليها أفعال الوجود
— أي الأفعال المساعِدة التي عادةً ما لا تظهر في
العربية في المضارع — لإبراز استغراق هاملت «البطل»
في التفكير التفكير والتأمل بدلًا من الاتجاه إلى
فعل شيءٍ ما:
To be, or not to
be - that is the
question،
Whether, tis
nobler in the mind to
suffer،
The slings and
arrows of outrageous
fortune,
Or to take arms
against a sea of
troubles,
And by opposing
and them? To die - to
sleep،
No more, and by
a sleep to say we
end،
The heart– ache,
and the thousand natural
shocks،
That Flesh is
heir to, tis a
consummation،
Devoutly to
wished, To die، to
sleep،
To sleep!
Perchance to dream. Ay, there’s
the rub.
lll. i.
56–65
وهذه مقطوعة من أشهر المقطوعات، وفيما يلي ترجمةٌ
حرفية لها:
نكون أم لا نكون؟ هذا هو
السؤال:
أيهما أشرف للعاقل: أن
يتحمل
رماح القدر الغاشم
وسهامه،
أم أن يحمل السلاح في وجه خضم
الأقدار،
وبمواجهتها يضع لها حدًّا …
الموت … النوم،
لا أكثر! وللقائل بالنوم أن
يفترض نهايةً
لآلام القلب وألف كارثة من كوارث
الطبيعة
الموروثة في جسد الإنسان! إنها
لذروة
جديرةٌ بأن يتمناها المرء،
الموت! أو النوم!
أن ينام المرء، ومن المحتمل أن
يحلم، أجل! هذه هي العقبة!
(ف٣، م١، ٥٦–٦٥)
(استنادًا إلى شروح طبعة
New
Cambridge
للأستاذ برنارد لوط، عام
١٩٨٧م)
ولقد حاولت في هذه الترجمة عامدًا وقدر الطاقة
محاكاة الأبنية اللغوية في الأصل إيضاحًا لما
أعنيه، فهنا نجد الإصرار على استخدام المصادر
الصريحة أو المؤوَّلة، واستخدام فعل الكون (الذي
يظهر في العربية في تراكيب المبتدأ والخبر)،
واستخدام البدل
apposition،
فالتأملات هنا لا تمثل فعلًا أو عملًا من أي لون،
واللغة المستخدمة تجنح عمدًا إلى الغموض، فما أكثر
ما احتار النقاد في تفسير المطلع To
Be or not To Be، بل إن
الأستاذ الذي استندت إلى شرحه يخالف من سبقه في
تفسير To be
بالوجود — ومن ثَم بالحياة — ويقول إن هاملت يعني
بذلك إبقاء الحال على ما هو عليه (الطبعة المشار
إليها صفحة ٩٦)، وقِس على ذلك الخلاف على تفسير
«خضم الأكدار» و«العاقل» (أو لذي العقل) لأن الأساس
البنائي للعبارات هو الجمل الاسمية، والمصادر
(مؤوَّلة أو صريحة) توحي بالغموض، لعدم وجود
الفاعل، وقس على ذلك استخدام البدل.
واستخدام هذا الأسلوب الإنشائي (عكس الخبري
indicative) من
الخصائص التي يدرجها علماء «اللغويات الوظيفية» في
تعريف «الخطاب»، وما دُمنا ضربنا المثل من مسرحيةٍ
شهيرة وقطعةٍ بالغة الشهرة، فيجمل بنا أن نضيف
المجال الأخير من المجالات اللغوية التي أثَّرت في
تحديد معنى الخطاب، ألا وهو «الحوار»
Conversation
(ليست في وهبة)، فهو يخضع في الأدب لما يخضع له في
الحياة اليومية من عوامل، وأهمها وجود قطبين على
الأقل للكلام، وهما يتبادلان مواقعهما سلبًا
وإيجابًا، بحيث يمكن رصد تحول السلبي إلى إيجابي
والإيجابي إلى سلبي، حتى في أكثر المواقف شيوعًا
وأيسرها على الفهم والإدراك وأبعدها عن الصنعة
الأدبية؛ ولذلك فإن الحوار المسرحي
Dialogue
نموذجٌ في الواقع للحوار الحياتي بعد ضغطه وتوجيهه
لبناء «موقف»
Situation
(ليست في وهبة) معين يتسم بالتوتر ويؤدي إلى حدوث
شيءٍ ما أي إلى تطور الفعل «الحدث» الدرامي
Dramatic
Action (الحادثة، وهبة)، أما
المحاورة التي يطلق عليها اللفظ نفسه فهي تمثل
التجاذب فيما بين قطبين أيضًا، ولكنها لا تؤدي إلى
فعل «حدث» من أي نوعٍ درامي، وتقتصر على تطارح
الأفكار Exchange Of
Ideas (ليست في وهبة) أو
المناظرة Debate
الموروثة من اليونان، من محاورات أفلاطون الشهيرة
إلى صورها الحديثة في الأدب الإنجليزي، وأقربها
الحوار حول أصول النقد الكلاسيكي في المسرح الشعري
لدرايدن (مقال في الشعر المسرحي، ١٦٦٨م)، والحوارات
الخيالية Imaginary
Conversation التي كتبها شاعرٌ
رومانسي هو «لاندور» ما بين عامَي ١٨٢٤م و١٨٢٩م
(ونال عنها زميلنا الدكتور شفيق مجلي درجة
الدكتوراة)، والعمل الذي ألحقه به في ١٨٥٣م وهو
الحوارات الخيالية لليونان وأفلاطون، ونستطيع إلى
حدٍّ ما اعتبار الأعمال الحوارية التي تأثرت بمنهج
أفلاطون في هذا الباب ضربًا من ضروب النشاط الفني
الإبداعي، وإن كانت لا تنتمي للدراما الخالصة أي
التي تقوم على الفعل المسرحي
Action، مثل
كثيرٍ من مسرحيات توفيق الحكيم التي تأثر فيها
ببرنارد شو وخصوصًا بمسرحيته عربة التفاح
The Apple Cart
(١٩٢٩م)، وبالفرنسي بول فاليري
Valery الذي
أثر أيضًا في شعر صلاح عبد الصبور (باعترافه) سواء
في بنائه للقصائد الطويلة (انظر «حوارية» في
الإبحار في الذاكرة، ١٩٧٩م)، أو كثيرٍ من قصائد
تأملات في زمنٍ جريح، ذلك الديوان الذي لم يلقَ حظه
من الاهتمام بسبب الظروف السياسية التي صدر فيها،
ولما كان الموضوع بطبيعته عسيرًا معقدًا، فلا بد من
ضرب المزيد من الأمثلة: فصلاح عبد الصبور من رواد
تعدد الأصوات
Polyphony
(ليست في وهبة) في القصيدة، وهو يبتدع شخصياتٍ
تتحاور داخل قصائده الطويلة، حتى وإن لم تتكامل لها
صفات الشخصية الدرامية
Character
(الشخصية، وهبة)، وأحيانًا يجعل الحديث من جانبٍ
واحد محاكاةً للشاعر الإنجليزي روبرت براوننج، الذي
أبدع صياغة ما يُسمَّى بالمونولوج الدرامي واقترن
اسمه به Dramatic
Monologue (الحديث الفردي
المسرحي، المونولوج المسرحي، وهبة)، وإن لم يكن قد
اخترعه، مثلما يفعل صلاح عبد الصبور في قصيدته
«حديثٌ في مقهى»، وما هذا المونولوج في الحقيقة إلا
حوار لا نسمع منه إلا حديث متحدثٍ واحد، ولا نعرف
ما يقوله المشارك في الحوار
Interlocutor
(ليست في وهبة) إلا من خلال ردود المتحدث عليه، وهو
يصعد في بنائه إلى ذروةٍ تجعله أشبه بالقصة
القصيرة، بحيث نصل إلى لحظة التكشف التي ندرك عندها
معنى أو مغزى كل ما قيل أو كل ما حدث، أي إن
المونولوج الدرامي في الحقيقة حوار
Dialogue، أو
إن شئت الدقة حوار بين اثنين فقط، كما أن كل موقفٍ
في أي مسرحيةٍ يفترض التراشق الفكري أو النفسي بين
شخصيتين (عمومًا) أو أكثر (في حالاتٍ أقل) على
المسرح، وهذا التعريف التقليدي للحوار هو ما طعن
فيه المحدثون وصوبوا إليه سهام انتقاداتهم؛ لأنه
يتجاهل وجود العامل الحاسم الذي يحدد مسار الحوار
من داخل المسرحية إلى خارجها، وهو وجود القارئ أو
المستمع أو جمهور المستمعين
Audience أو
النظارة في المسرح، ومن ثَم فقد انصبَّت الدراسات
الجديدة في علم اللغة على دراسة العلاقة بين ما
يدور فيما بين المتحاورين وبين المستمع، ثم إلى
إقامة علاقة جديدة بين المتحدث الفرد، حتى وإن لم
يكن يتصور أنه «يخاطب» أحدًا، وبين السامع، فأصبح
وجود المستمع الصامت شبيهًا بوجود المشارك الصامت
في الحوار، أي إن أحد معاني «الخطاب» هو اللغة
باعتبارها حوارًا بين الكاتب والقارئ، أو بين أفكار
الكاتب وأفكار القارئ، أو بين ما يمثله الكاتب
(اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو ثقافيًّا) وما يمثله
القارئ.
ونقطة الانطلاق في هذه الدراسات هي تجاوز أو تخطى
مبدأ اللياقة
Decorum أو
«مقتضى الحال»، أو مبدأ «لكل مقامٍ مقال» الذي عرفه
النقد الكلاسيكي سواء في الآداب القديمة أم في
الأدب العربي، ومعنى تجاوزه هو العزوف عن افتراض
المواءمة الدائمة بين المتكلم والمخاطب، فالحياة
تزخر بالمواقف التي لا تكون «اللياقة» فيها العامل
الحاسم في تحديد مسار الحوار (أو ما يُسمَّى
«بالخطاب» في هذا المعنى)، فالكلام الموجه إلى
قارئٍ معين يتصور ردود فعل معينة تحدد طبيعة اللغة
المستخدمة فيه؛ ولذلك فنحن نستطيع من خلال دراسة
اللغة أن نحدد مستويات هذا الكلام والخطط العامة
(الاستراتيجيات) التي يتبعها في بنائه، ومن ثَم
ننتهي إلى المستويات الخاصة بالمتكلم والمتلقي، ومن
الطبيعي أن ذلك يفترض قدرًا من الإيجابية في السامع
لم يكن يسلِّم القدماء بوجوده، ربما بسبب افتراض
وجود «سامع» نمطي أو سامعٍ اتُّفق على تحديده
سلفًا، بل ربما يكون قد اتُّفق سلفًا على تحديد
ردود أفعاله، وأذكر أنني «خاطبت» دافيد لوج
Lodge أثناء
مؤتمر كيمبريدج عام ١٩٨٧م في هذه المسألة بالذات،
بعد أن تحول من كتابة «النقد» إلى كتابة «الرواية»
أي إلى الإبداع، ولم يعد يمارس النقد إلا في حدود
التزاماته الوظيفية، فأكد لي أن دراسة «الخطاب» من
هذه الزاوية ما تزال في مهدها؛ لأن افتراض
الإيجابية في قارئ اللغة الإنجليزية يتطلب دراساتٍ
تتعدى ما يُسمَّى باللغويات الاجتماعية
Socio-linguls-tics،
وتتضمن النظر إلى أنماط «الحوار» في اللغات الأخرى
للإفادة منها، خصوصًا ما يندرج منها في إطار علم
«العلامات» أو السيميوطيقا
Semiotics، وهي
«علامات» لم تأخذ حظها بعدُ من الدراسة في الأعمال
الأدبية.
ولعل القارئ المُلم باللغة الإنجليزية أو
الفرنسية قد لاحظ أنني أتجنب عمدًا ترجمة مصطلح
Conversation
بالمحادثة، وهي الترجمة التي توردها معظم المعاجم،
مفضلًا تعبير الحوار، وقد يجد القارئ أن في ذلك
قدرًا من التجاوز، ولكنني أقصد من ذلك إلى حذف
مستويات المحادثة الآلية
Automatic
والطقسية Ritual
والتسْروية (اشتقاقًا من التسرية)
Pastime، التي
يوردها الدكتور بيرن في كتابه الذي سبقت الإشارة
إليه، فهي أنواع من المحادثة لا تدخل في باب
الحوار؛ لأنها عادةً ما تكون عاطلة من التجاذب
والتبادل الحقيقي، الذي لا يتوافر إلا في
المستويَين الآخريَن للمحادثة، وهما اللذان يقول
بيرن إنهما ينتميان إما إلى الألعاب الاجتماعية
Games أو
المحاورات الناضجة
Adult؛ ولهذا
لا نجد المهتمين بدراسة «الخطاب» الأدبي باعتباره
حوارًا يولون المستويات الأولى عنايةً تزيد عن
استثنائها أو التنبيه العارض إليها فحسب، ولكنهم
يركزون على الحوار الحقيقي، مثلما فعل الدكتور حسن
وجيه (جامعة الأزهر) في دراسته للدكتوراه ومثلما
يفعل كثيرٌ من زملائنا وأبنائنا في جامعة
القاهرة.
ومنذ أن أصدر هاليداي كتابه المشار إليه عام
١٩٨٧م، أصدر مجموعة من الباحثين بعنوان اللغة
والتحكم في العام الذي يليه، (هم روجر فاولر
Fowler ور.
هودج كريس، وث. ترو)، وتلاهم عام ١٩٨٠م صدور كتاب
مخصص لدراسة العلاقات بين الحوار والخطاب
Dialogue And
Discourse من تأليف بيرتون،
ولا بد قبل أن ألخص ما قلته عن تعريف هذه الكلمة
العسيرة أن أحيل القارئ إلى كتابٍ أراه ذا فائدة
كبيرة في إيضاح المجالات التي يشملها هذا التعبير،
وهو كتاب الأدب باعتباره خطابًا اجتماعيًّا
Literature As Social
Disocurse من تأليف روجر فاولر
المذكور، وقد صدر عام ١٩٨١م.
وسوف أكتفي بهذا القَدر من المعاني التي دخلت إلى
ساحة النقد الأدبي من مجال الدراسات اللغوية
والاجتماعية والسياسية باللغة الإنجليزية، وأحيل
القارئ إلى كتابات الفيلسوف الفرنسي فوكوه
Michel
Foucault؛ لكي يطَّلع على
زوايا أخرى سبقني إليها المتخصصون في الفلسفة
والأدب الفرنسي، فلست أريد في هذه المقدمة عن
المصطلح إلقاء الضوء على مكامن الصعوبة في استخدام
مصطلح يضم في ثناياه كل هذه المعاني دون الإلمام
بها جميعًا، والواقع أن كل كاتبٍ من الكتاب يستخدم
المصطلح ليشير إلى معنًى واحد أو إلى معنيَين على
الأكثر، ومعظم الذين يستخدمون الكلمة اليوم (الخطاب
Discourse)، لا
يعنون إلا «الكلام» أو «القول»؛ ولذلك فعندما اقترح
د. كمال أبو ديب «الإنشاء» ترجمةً للكلمة الأجنبية
المذكورة، كان يريد لها أن تمثل معنًى واحدًا هو
الأسلوب الإنشائي، المقابل للأسلوب الخبري (انظر
ترجمته لكتاب الاستشراق من تأليف إدوارد سعيد)،
ولكن الكلام أو القول اليوم لا يقتصر على الإنشاء،
ومن العبث أن نحاول أن نقصر معنى الكلمة عليه، ولا
بأس من الإشارة إلى المعنى التاريخي الذي يضفيه
فوكوه المذكور على استخدام هذه الكلمة، فهو وحده
يثبت خطل اقتصار «الخطاب» على معنًى من المعاني؛ إذ
يتناول في الكتاب الذي قرأته مترجمًا إلى
الإنجليزية عام ١٩٧٢م (وكان قد صدر بالفرنسية قبل
ذلك بثلاثة أعوام) المعرفة باعتبارها تأريخًا، أي
باعتبارها مخلفات الأسلاف، وباعتبار كل عملٍ أدبي
ممثلًا للحظة تاريخية معينة، تلاقت عندها تيارات
فكرية واجتماعية ومعرفية، ومن ثَم فهي تشبه في نظره
الآثار القديمة التي نبحثها لنعيد تشكيل أو إيجاد
أو افتراض القوى البشرية التي أدَّت إلى إنتاجها،
فأنشودة إخناتون إلى الشمس رمز الإله الواحد، تمثل
تيارًا فكريًّا لحقبةٍ معينة لا إنتاجًا أدبيًّا من
صوغ مؤلفٍ فرد، وقس على ذلك شتى فنون الإنسان
الأدبية التي ستبدو لنا — عند النظر فيها نظرة
عملية فاحصة — نماذج للقوى الاجتماعية السائدة في
ذلك العصر، وتنفي فكرة وجود المؤلف الفرد، فالعمل
الأدبي — طبقًا لهذه النظرة الفرنسية الحديثة — ليس
تحقيقًا لذاتٍ مفكرة أو مبدعة بقدر ما هو تفتيت
لهذه الذات، وليس تجميعًا وتنظيمًا لأفكار مؤلف أو
مشاعره، بقدر ما هو إثارة لأفكارٍ ومشاعر تولدت في
مجتمعٍ معين في فترةٍ معينة، وبقدر ما يمثل تجسيدًا
للقوى المعرفية
Cognitive التي
سادت في تلك الفترة، والتي لا تنفصل عن القوى
الاجتماعية والسياسية فيه.
ولذلك فإن عنوان ذلك الكتاب The
Archeology Of Knowledge
وترجمته الحرفية علم الآثار المعرفي، يحيلنا إلى ما
ذكره الناقد الأمريكي الذي غضب عليه البعض من
المولَعين بالعقائد والفكر الاجتماعي «كلينث
بروكس»، من أن أي دراسةٍ لأثرٍ أدبي من آثار الماضي
تتضمن قدرًا من البحث الأثري، وإن كان يبتدع
مصطلحًا جديدًا لا بأس به هو علم الآثار الثقافي
Cultural
Archeology ويربطه بعلم
الإنسان الثقافي أو Cultural
Anthropology، فالاتجاه الحديث
يبتعد عن المطلق، وينزع إلى النسبية؛ ولذلك كانت
جُلُّ كتابات المحدثين في مدرسة ما بعد البنيوية
Post-Structuralism
منصبَّةً على فكرة المؤلف وفكرة القارئ، كما أن
جهود دارسي الفكرة الأولى وعلى رأسهم فوكوه نفسه
ومَن تبعه من كُتاب الإنجليزية (انظر كتاب الممارسة
النقدية من تأليف بلسي، ١٩٨٠م، وكتاب الشعر
باعتباره خطابًا من تأليف إيستهوب
C. Belsey, Critical Practice,
1980، A. Easthope, Poetry As Discourse,
1983)، قد أفضت إلى تحطيم فكرة
المؤلف الفرد، وإثبات العلاقة الوثيقة بين الأنماط
الفكرية والوجدانية السائدة في فترةٍ ما وبين ما
يقوله المؤلف، وما نظن أنه ثورة أو مخالفة من جانب
المؤلف للأفكار أو المشاعر السائدة، هو في الحقيقة
تجسيد لتيارٍ خبيء لم يكن المسيطرون على التيارات
الثقافية السائدة يسمحون له بالظهور مثلما حدث إبان
الثورة الرومانسية الإنجليزية، فكان كبار الشعراء
في الحقيقة ممثلين لتيارات الثورة الفرنسية التي
كانت قد ألهمت الجماهير العريضة في بريطانيا، ونشأت
النوادي المؤيدة لها في كل مكان، وقصة الجاسوس الذي
أرسلته حكومة الملك ليعرف ما يقوله كولريدج وردزورث
معروفة؛ إذ قيل إنه سمعهما يتحدثان عن
Spinosa، وكان
اسم ذلك الفيلسوف ينطق سباي نوزا، فتصور الجاسوس
أنهما يتحدثان عنه وأن أمره انكشف فرحل في صمت
(«سباي تعني الجاسوس»، ونوزا توحي بكلمة «نوزي» أي
الذي يدس أنفه فيما لا يعنيه!)؛ ولذلك فإن الفصل
الموجز الذي يتحدث في هذا الكتاب عن شلي يركز على
ملامح الثورة في شعره وغيرها من الملامح، التي لم
يفطن إليها الذين ينشدون التبسيط المخِل عن
الرومانسية.
وإذا كان التركيز على مفهوم المؤلف
Author قد أدى
إلى توجيه العديد من الدراسات في أيامنا الحالية
إلى القوى الثقافية التي تصنع المؤلف، فإن التركيز
على القارئ في خضم المدارس الجديدة قد أدى إلى نشوء
المدرسة التفكيكية
Deconstruction،
التي تلغي هي الأخرى فكرة المطلق
Absolute من
العمل الفني، وتركز على النسبية في عملية التذوق
والتحليل، مما أدى إلى نهضةٍ واسعة في مجال التفسير
والتأويل، تعرضت لها في كتابٍ على وشك الصدور
بالإنجليزية؛ إذ إن العوامل التي تتحكم في ميلاد
العمل الأدبي هي نفسها العوامل التي تتحكم في مصيره
ومكانته في المجتمع، فالقارئ يتعرض لما يتعرض له
المؤلف من «قوى»
Forces (وهو
مصطلح جديد)، ويتفاوت حظه من القبول أو الرفض تبعًا
لزخم Momentum (أي
قوة دفع) هذه القوى في مرحلةٍ تاريخية معينة؛ ولذلك
فإن «الخطاب» الأدبي المتجسد في عملٍ فني مكتوب
باللغة المستخدمة في مكانٍ محدد وزمان معين، لا
يكتمل معناه إلا بالضلع الثالث وهو القارئ، ومن هنا
توجهت جهود الكثيرين، اهتداءً بفيلسوفٍ فرنسي آخر
هو جاك دريدا Jacques
Derrida إلى دراسة هذه
العوامل، بحيث أصبحت دراسة «الخطاب» بهذا المعنى
دراسةً تتجمع فيها عناصر معرفية، لم يكن الناقد
يُلقي إليها بالًا في العصور الخوالي.
لهذا السبب أجدني مضطرًا إلى الاعتذار مقدمًا
للقارئ، فأنا تحاشيت استخدام معظم المصطلحات
النقدية التي أرجو أن أكون قد أوضحت مدى تعقيدها،
وحاولت في هذا الكتاب أن أقتصر على المصطلحات التي
ثبتت أو كادت، فالمصطلحات الجديدة على فائدتها ما
تزال غير محددة، وهي تستخدم كما سبق أن ذكرت، في
معانٍ عدة لا في معنًى واحد، ولا أريد أن أحير
القارئ أو أن أزيد من حيرته عندما أدفع إليه
بمصطلحاتٍ ما تزال محل بحث وتمحيص، بل إن هذا
الكتاب برمته لا يعدو أن يكون إسهامًا متواضعًا في
إيضاح المصطلحات الأدبية التي قلتُ إنها ثبتت أو
كادت.
ومع أن مصطلح «الخطاب» مثل مصطلحَي «الحداثة»
و«التورية الساخرة»، يتضمن كل المعاني المذكورة
ويكتنفه هذا القدر من الغموض، فهو مصطلحٌ شائع — أو
أصبح شائعًا — ولذلك فهو لا مفر منه، فالقاعدة في
علم المصطلح أن يصطلح عليه الناس، وما على الكاتب
بعد ذلك إلا أن يتولى إيضاحه وتفسيره وتقريبه من
القارئ، وموقفي هذا لا يعني أنني أقبل كل ما يصطلح
عليه الناس في اللغة النقدية أو في اللغة بصفةٍ
عامة، وإن كان قبولي أو رفضي يظل مسألةً هامشية
وشخصية، فالأدب والنقد ينتميان — مثل اللغة — إلى
الناس، ومع ذلك فسوف يلاحظ القارئ أنني أحاول أن
أتجنب ما يثير البلبلة لدى القارئ أو ما يعتبر من
باب «الموضة» التي ليس لها مبرر قوي، فأنا حين أكتب
دراسةً لا أتردد في أن أطلق عليها هذه التسمية، ولا
أقول إنها «مقاربة» An
Approach، فالكلمة الإنجليزية
تعني الدراسة التمهيدية، أو إجراء دراسة ذات منهج
يختلف بعض الشيء عن المناهج الأخرى، وأنا أرى أنني
لست بحاجةٍ إلى كل هذه الظلال من المعاني عند إطلاق
اسم «الدراسة» على «الدراسة»، واستخدام كلمة «محور»
بدلًا من «موضوع» شائع، وربما كان له ما يبرره،
ترجمةً لكلمة topic
(لا ترجمة لكلمة
axis غير
المستعملة في النقد الأدبي)، وقد يكون المعنى هو
الإطار الشامل الذي ينتظم عدة موضوعات، ولكنني لا
أرى ما يدعو إلى استخدام الفعل ذي الوقع الغريب
المشتق منها وهو «يتمحور» (ولو كان شوقي ضيف
يجيزه)، وأفضِّل «يدور حول» أو «يتركز» (وإن كان
البعض سوف يفضل «يتمركز»)، وكذلك لا بأس إطلاقًا من
استخدام كلمة «نسق» ترجمةً لكلمة
system (وجمعها
أنساق)، وإن كنت أفضل ترجماتٍ أخرى تختلف باختلاف
السياق، وقس على ذلك استخدام «توجُّه» بدلًا من
«اتجاه» ترجمةً لكلمة
Orientation،
و«شكلاني» بدلًا من شكلي ترجمةً لكلمة
formalist،
و«الموروث» بدلًا من التراث، وهلم جرًّا.
ومغبة الانسياق وراء استخدام هذه الكلمات
الجديدة، مهما بلغت فائدتها هو على الأقل الإيحاء
بأن للنقد الأدبي لغةً خاصة لا يفهمها إلا النقاد،
وأن ذلك النشاط الإنساني مقصورٌ على الفئة التي
تجيد استخدام هذه الألفاظ، فهمتها أم لم تفهمها،
فالذي يقول «الأفكار السائدة» بدلًا من «الخطاب» في
سياقٍ ما سوف يبلغ أفهام سامعيه بسرعةٍ أكبر، وكذلك
من يقول لغة الأدب بدلًا من الخطاب الأدبي، وقس على
ذلك لغة النقد، ولغة الفلسفة واللغة المستخدمة في
السياسة «الخطاب السياسي!»
أما أكبر بلاء شهدَته الساحة النقدية فهو استخدام
المصطلحات الجديدة في كتابات بعض العرب الذين
تلقَّوا علومهم بالفرنسية، وانقطعت صلتهم على مدى
قرنٍ أو أكثر بحركة الترجمة والتعريب في المشرق
العربي، فشرعوا يكتبون العربية القائمة على ترجماتٍ
ركيكة من الفرنسية، واكتسبوا نفوذًا في الآونة
الأخيرة بسبب غرابة ما يقولون وبسبب سحر الجدة في
كتاباتهم، فكلامهم غريبٌ يثير الخيال، وهم يكرهون
الكلمات المألوفة أو لا يعرفونها، فقدَّموا لنا
الإشكالية (على وزن الإرسالية!) بدلًا من المشكل
والمشكلة، و«الأدلجة»
ideology بدلًا
من العقائدية، و«الفضاء» بدلًا من المكان (وإن
كانوا قد تأثروا في هذا بكتاب بيتر بروك المكان
الخالي The Empty
Space أي الفضاء، ويعني به
خشبة المسرح الخالية من الديكور، والتي يقوم عليها
الممثلون بالتمثيل)، والخطاب السردي بدلًا من
الرواية، فهم لا يقولون «الرواية» أبدًا ولا الراوي
كأنها كلمات غير عربية، وليأذن لي القارئ أن أشير
إلى كتابٍ صدر هذا العام (١٩٩٤م) في لندن، واضطر
مؤلفه المصري — الدكتور صبري حافظ — إلى استخدام
هذا المصطلح، مع أنه يناقش فيه نشأة الرواية
العربية الحديثة فحسب، لا تكوين الخطاب السردي
وغيره مما تزخر به الساحة النقدية هذه
الأيام.