الملحق الأول
(١) أليكس هيلي والأدب الأمريكي الحديث
«عيد ميلاد جديد» رواية من نوعٍ خاص، فمن ناحية الطول نجدها أقصر مما اعتدناه في الروايات العالمية، ومع ذلك فهي لا تندرج، بسبب ثراء مادتها وشخصياتها وفن صنعتها، فيما يُسمَّى بفنون الرواية القصيرة — «نوفيلا» و«نوفيليت» — أو القصة القصيرة الطويلة، وهي رواية من نوعٍ خاص لسببٍ آخر، فهي تعتمد على حبكةٍ درامية تقترب بها كل الاقتراب من فن المسرح، ولكنها مع ذلك تتحرك في حريةٍ داخل الإطار العريض للأيام العصيبة التي سبقت الحرب الأهلية الأمريكية، من مكانٍ إلى مكان، وإن كان الزمان محدودًا بالشهور السابقة على عيد الميلاد، وهي رواية من نوعٍ خاص لسببٍ أخير، وهو التزامها الدقة التاريخية في ذلك الإطار الذي أشرت إليه مما يجعلها من الروايات الجديدة التي شاعت في الغرب منذ الستينيات والتي استطاعت المزج بين الواقع والخيال، أو بالأحرى إقامة الأحداث الخيالية على أسسٍ تاريخية واقعية، فيما يُسمَّى برواية الحقائق.
والإطار العام للرواية هو الأدب الأمريكي الحديث، أما إطارها الخاص فهو أدب السود من أبناء أمريكا الذين اتجهوا في كتاباتهم بصفةٍ خاصة إلى معالجة قضاياهم في نطاق القضايا الإنسانية العامة، ومنهم أليكس هيلي الذي اشتهر أو أشهرته رواية «جذور» (١٩٧٦م)، ثم عاد بعد هذه السنوات ليقدم هذه الرائعة «عيد ميلاد جديد». أما الإطار العام، أي الأدب الأمريكي، فلم يعد في حاجةٍ إلى تعريفٍ أو تقديم، بعد أن ازدهر في القرن العشرين في كل الفنون الأدبية من قصةٍ ورواية ومسرح وشعر ونقد، ولم يعد من اليسير كما كان الحال في بداية هذا القرن، أن نقول إن ذلك اللون من الشعر «أمريكي» الطابع لابتعاده عن البيئة الثقافية الأوروبية مثلًا، أو إن هذا اللون من الرواية أمريكي الطابع؛ لأنه يعالج قضايا خاصة بالعالم الجديد، وقس على ذلك فنون المسرح والقصة القصيرة والمقال الأدبي، فالواقع أن الأدب الأمريكي في القرن العشرين قد شق الطريق إلى قمم الأدب الإنساني الرفيع فتسنمها، ثم شق طرقًا أخرى إلى ذُرًى أخرى، فاتبعه الكثيرون ممن كانوا يعتبرونه رافدًا أوروبيًّا، وهل ثم أدل على ذلك من ريادة النقد الأمريكي للمدارس الجديدة في تناول النصوص الأدبية منذ الخمسينيات؟ أي إن الأدب الأمريكي الذي كان رافدًا قد أصبح نهرًا رئيسيًّا تصب فيه روافد متعددة في شتى بقاع الأرض، وربما كان ذلك كما يقول كريستوفر بيجسبي بسبب اتساع نطاق التجربة الأمريكية التي كانت في بدايتها «أوروبية النشأة والتطور … ثم أصبحت عالمية الإنجاز والتوجه.» ولا شك أن بيجسبي، بحكم عمله أستاذًا للدراما في إنجلترا، يعني فن المسرح بالدرجة الأولى، ولكن ما يقوله ينطبق على سائر الفنون الأدبية.
وليس معنى هذا أن الأدب الأمريكي الحديث قد انفصل عن التيار الرئيسي للأدب الأمريكي، وهو التيار الذي ندرسه في الجامعات ونقصره على القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فالواقع أننا نستطيع، رغم شتى التيارات التي يحفل بها الأدب الحديث في العالم الجديد، أن نرصد اتجاهاتٍ متصلة، في فن الصنعة والشكل الفني بصفةٍ عامة، وموضوعات متكررة لا أحسب أن أحدًا يجهلها، وإن كان من المفيد أن نومئ إليها مثل معنى الحرية، ومعنى الحضارة، وصراع الذات الإنسانية مع المجتمع الذي يغلها بأصفاد العادة وأصفاد التقاليد، ومعنى الترف الذي أتت به الانتصارات العلمية المتوالية، ومحاولة الخروج من القوالب الاجتماعية التي نشأت في كنف الحياة الحديثة التي تسيطر عليها الآلة وما إلى ذلك، أي إن الموضوعات الرئيسية في الأدب الأمريكي تشترك مع مثيلاتها في الآداب الأوروبية من حيث «المادة الإنسانية»، وإن كانت تختلف عنها في تأكيدها على عنصر «التحول»، أي الإحساس بأننا نعيش في عالمٍ يتغير من يومٍ ليوم، ومن ثَم تتغير فيه دلالات القيم التي ورثناها عن أسلافنا الذين عاصروا العالم القديم بثباته وانتظامه واستقراره.
ولأضرب مثلًا واحدًا من هذه القيم ألا وهو قيمة «الحرية». إن أمريكا بلادٌ فتية، تقاطر عليها الناس من شتى أرجاء المعمورة منذ اكتشافها، وانهالت عليها «أحلام» البشر من كل حدبٍ وصوب، فانخرط الجميع في «البناء»، كلٌّ يبني لنفسه عالمًا جديدًا، في مجتمعاتٍ جديدة، ينفصل بعضها عن بعض، وهم جميعًا يتطلعون إلى مستقبلٍ نفض عن نفسه أغلال الماضي. كان كل واحد يحلم، وكانت الأرض معطاء، فلم تبخل عليهم بتحقيق الأحلام، ثم دار الزمن دورته، وتقدم العلم فانهارت الحواجز بين المجتمعات المختلفة وبين الأفراد، وأشرق عصرٌ غريب، عصرٌ يجمعهم رغم أنوفهم، ويذكرهم بل ويهزهم هزًّا بذكر «الماضي»، وفجأةً، وربما كان ذلك بُعيد الحرب العالمية الأولى فحسب، أحس الأدباء في أمريكا أن الأحلام التي جسدها كبار الشعراء وقيمة الحرية التي كانت «مطلقة» قد أصبحت مقيدة، وأن البلد الفتي هو في حقيقته جزءٌ لا يتجزأ من عالم الماضي، وأنه من المحال على الأمريكي في هذا القرن أن يتحدث عن الحرية المطلقة.
لقد أصاب التحول، كما يقول البروفيسور رايموند وليامز، قيمة الحرية نفسها لأول مرةٍ في تاريخ أمريكا حين أحس الأدباء أنهم أبناء هذا العصر وأبناء هذا العالم الواحد، وكان التحول في اتجاه تأكيد هذه القيمة والإصرار عليها، فكأنما أحس العالم الجديد أنه ينبغي أن يظل جديدًا، أي أن عليه أن يحمل لواء الدعوة للمدينة الفاضلة أيًّا كانت العراقيل التي يصطدم بها أبناؤه، وكل منا يذكر مقولة توماس جيفرسون، أحد أوائل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، عن مثله الأعلى في حرية الإنسان في العمل والفكر والإحساس والقول، وكلٌّ منا يعرف كيف تعرضت هذه المقولة لتقلبات القرن التاسع عشر وقلاقله التي بلغت أوجَها في الحرب الأهلية الأمريكية، حرب التحرير الاجتماعي الطاحنة. وهكذا وجدنا في الأدب الأمريكي من لا يملك إلا أن يواجه قيمة الحرية في سياقها الاجتماعي الجديد أولًا، ثم في سياقها العالمي الجديد ثانيًا.
وكان من ثمار انتصار الحرية، سياسيًّا واجتماعيًّا، بروز ما يُسمَّى بأدب السود أو الزنوج أو الأفرو أمريكيين، أي الأمريكيون من ذوي الأصول الأفريقية، وهذا هو الإطار الضيق الذي تقع فيه رواية «عيد ميلاد جديد»، كانت الحرية في بداية القرن مثلًا أعلى، كما قلت، وكان التصور العام لها تصورًا شاعريًّا يكاد يقتصر على أدب البيض، وكان الانفصال كبيرًا بين الحياة في المصنع والمكتب والشارع، وبين الحياة في صفحات الكتب، فالناس تقول كلامًا أصبح تراثًا لا نزاع عليه، وتحيا واقعًا يتفاوت حظه من القبول والرفض بتفاوت الأحوال الاجتماعية، وكانت العلة الأولى كما يقول مايكل كوك في كتابه «أدب الأفرو أمريكيين في القرن العشرين» (١٩٨٤م)، هي أن العيون التي كانت تبصر المشكلة كانت عيون الرجل الأبيض؛ لأن التراث الحافل بالقيم الرفيعة كان يتضمن أيضًا عادات اجتماعية شاعت فأمعنت في الشيوع، وساعد على شيوعها في بدايات القرن طبيعة البلاد الشاسعة المترامية، وعدم قدرة وسائل الإعلام على النفاذ عبر الحدود التي تفصل الولايات بعضها عن بعض، مما أغرى الكثيرين من النقاد باتهام المجتمع والأدب الأمريكي جميعًا بالانحصار في حياتهم الخاصة، وهي حياة كانت دوائرها تضيق بدلًا من أن تتسع، حتى لكأنما تقتصر على الذات الفردية وحدها.
وبعد الحرب العالمية الأولى، كما قلت، حدث التحول الكبير في معاني القيم الموروثة ومعاني الأحلام الأولى، وذلك حين بدأ الأدباء السود يكتبون الشعر والقصة والمسرح دون إفصاحٍ عن قضاياهم الأولى، إذ كانوا قد تنسموا روح التغيير، وكانوا يتحسسون طرقهم فحسب، وكانت البداية إن شئنا التحديد بعد ما يُسمَّى بنهضة هارلم في العشرينيات، عندما أفصح الكتاب عن مولد «الزنجي الجديد»، أي ذلك القادر على المشاركة في الحياة الاجتماعية بعيدًا عن تراث التمييز العنصري، ولكن هذه النهضة كانت تحمل في طياتها مفارقةً غريبة، وهي الاتجاه إلى التهوين من أهمية اللون الأسود، أي أهمية الاختلاف العنصري، وهكذا وجدنا ثلاثةً من كبار كتاب الزنوج الأمريكيين في تلك الفترة، وهم: لانجستون هيوز وكاونتي كالين وجين تومر، يرفضون رفضًا باتًّا فكرة الكفاح من أجل الاعتراف بوجود الزنوج على مسرح الحياة الأدبية، أو ضرورة تصوير الزنوج في أدبهم؛ إذ إن هذا معناه في رأيهم تأكيد الاختلاف والتمييز مما يحبط قضية المساواة التي يؤمنون بها.
ولا أجد أدل على ذلك من قول هيوز الشهير حول هذه القضية:
«إننا، نحن شباب الكتاب من الزنوج ممن يبدعون الأدب اليوم، نعتزم التعبير عن ذواتنا الفردية ذوات البشرة السوداء دون خوف أو خجل، فإذا رضي البيض وسعدوا رضينا وسررنا، أما إذا لم يرضوا ولم يسعدوا فلن نكترث لهم، فنحن ندرك جمالنا وندرك قبحنا، فها هو الأفريقي يبكي، وها هو الأفريقي يضحك! إذا رضي الملونون وسعدوا رضينا وسررنا، وإذا لم يرضوا لم نكترث لهم أيضًا، إننا نبني معابدنا من أجل الغد كأقوى ما تكون المعابد، ونقف على قمة الجبل أحرارًا في دخائلنا.»
ويختلف النقاد حول طبيعة هذه المرحلة من مراحل نشأة أدب الزنوج، فبينما يتجاهلها تمامًا دانيل هوفمان محرر كتاب «دليل هارفارد إلى الأدب الأمريكي المعاصر» (١٩٧٩م)، باعتبارها مرحلة إرهاص لا مرحلة إنجاز، يعترف بها مايكل كوك في كتابه الذي سبقت الإشارة إليه، ويفرد لها فصلًا كاملًا باعتبارها مرحلة «الحجاب المزدوج»، وخلاصة تفسيره لها هي أن الحياة التي كان الزنوج يعيشونها في مطلع القرن فرضت عليهم حجابًا، أو أقامت حاجزًا بينهم وبين المجتمع، وهذا هو الحجاب الأول، أما الحجاب الثاني فهو ذلك الذي فرضه الكاتب الزنجي على نفسه، حين اختار أن يقيم علائق مباشرة مع مجتمعه من السود، إما بأن يتوجه إليهم بالحديث فحسب، أو بأن يتناول حياتهم وقيمهم وحسب في أدبه؛ ولذلك ظل جيلٌ كامل من الكُتاب الذين ذاعت أعمالهم وانتشرت في فترة ما بين الحربين حبيس هذا الحجاب المفروض من الخارج ومن الداخل معًا، مما أثر في مسار الأدب الزنجي بصفةٍ عامة.
أما المرحلة الثانية في تطور هذا الأدب فهي مرحلة ما يسميه كوك بالعزلة، وأعتقد أن ما قرأته من رواياتٍ لبعض كتاب تلك الفترة يؤيد هذه النظرة إلى حدٍّ كبير، إذ تتخطى الشخصيات من الزنوج ذلك السور أو الحاجز الاجتماعي، أي إنها تكسر حدود «الحجاب» الاجتماعي، دون أن تفلح في كسر حجاب العزلة الذاتية، وأهم روايتين في هذا الصدد هما: رواية «ابن البلد» لمؤلفها ريتشارد رايت، ورواية «الرجل الخفي» لمؤلفها رالف إليسون، رغم اختلافهما الشديد في النظرة الاجتماعية؛ إذ تعتبر الأولى عماد حركة الاحتجاج على وضع السود في أمريكا، بينما يعتبر كثيرٌ من النقاد أن «الرجل الخفي» تتضمن تسليمًا بقيم عالم الرجل الأبيض. وربما كان علينا أن نذكر روايةً أخرى من روايات تلك الفترة ألا وهي رواية السيدة زورا نيل هيرستون، وعنوانها «كانت عيونهم تتطلع إلى الله»، ولو أن هذه تختلف أيضًا في نهايتها التي تتميز بالصراع بين قبول الحجاب الاجتماعي، وبين تحقيق الذات بصورةٍ رومانسية، ولا نستطيع أن ننهي حديثنا عن هذه المرحلة دون ذكر روايتين لم تلقيا حظهما من الاهتمام، وإن كانتا تمثلان هذه المرحلة خير تمثيل وهما: رواية «البدائي» لمؤلفها تشستر هايم، ورواية «الشارع» لمؤلفتها آن بتري، فهما تشتركان مع رواية «ابن البلد» في تصويرهما لجريمة القتل التي تمثل الفشل المطلق في الاندماج في المجتمع، وتعتبر دليلًا على العجز التام عن قبول الواقع، وإذا كانت مرحلة «العزلة» هذه تتضمن لحظات تواصل لا شك في صدقها، فالواقع أن لحظات التواصل عابرة ولا تتيح القدر الكافي من العلاقة الحميمة التي تعيد للشخصية الإنسانية كيانها الاجتماعي.
أما المرحلة الأخيرة، فهي مرحلة إزالة الحجُب جميعًا وإقامة العلاقات الصادقة داخل المجتمع، كما يصورها أبطال العديد من الروايات التي كُتبت بعد الحرب العالمية الثانية، ووصلت إلى أرفع درجات الإحكام الفني في الثلاثين عامًا الأخيرة، ويعرض كتاب «الرواية الأفرو أمريكية منذ عام ١٩٦٠م» (تحرير بيتر براك وفولفجانج كارير) (١٩٨٢م) لأهم الاتجاهات الأدبية في أدب الزنوج في أمريكا في المرحلة التي يمكن، إن شئنا التحديد، أن تنقسم تاريخيًّا إلى عدة مراحل هي الأخرى، فهي تبدأ من حيث انتهى ريتشارد رايت في روايته «أبناء العم توم»، وإلدريدج كليفر في روايته «نفس على الجليد»، وأهم كتابها في نظري هو الشاعر مايكل هاربر، وعندما وقع في يدي ديوان هاربر وعنوانه «صور القرابة» (١٩٧٧م)، أيقنت أنني أمام شاعرٍ يعاني مأساة مجتمع بأسره، وأن «صور القرابة» أو أشكال العلاقات لديه أعقد من أن تصنف داخل المراحل التي يولع النقاد بها، بل إن فكرة المراحل بصفةٍ عامة تعتمد على التبسيط الشديد، فالمراحل تتداخل تداخلًا زمنيًّا إلى الحد الذي يجعل وضع الفواصل أمرًا متعذرًا بل مستحيلًا، ولكننا نحاول وحسب أن نقدم للقارئ صورةً موجزة مبسطة.
ولذلك فعندما أقول إن مرحلة إزالة الحجب التي تسبق الاندماج أو الترابط، قد بدأت من حيث انتهى إلدريدج كليفر في روايته «نفس على الجليد»، فأنا لا أعني على الإطلاق أنه ينتمي للمرحلة السابقة، كما يوحي بذلك التعبير الذي اخترته، ولكنني أعني أن روايته تبشر بمرحلةٍ جديدة ربما كانت تنتمي إليها، فالرواية تعتبر صراعًا مريرًا من أجل تحقيق العلاقة الوطيدة بين السود والبيض، وهي تنتهي نهايةً أقرب ما تكون إلى الابتهال إلى تحقيق هذه العلاقة، دون أن تحققها في الواقع! وهو يشبه في هذا ما فعله ملفن ب. تولسون من قبله في قصيدة «متحف هارلم» (١٩٦٥م)، فكلٌّ منهما يستكشف مجالات العلاقات المتاحة، وكلٌّ منهما يوحي بما يمكن تحقيقه وإن لم يتحقق.
أما التحقيق الكامل للترابط والعلاقة الكاملة بشتى صورها فلم يكتب له أن ينعكس في أدب الأفرو أمريكيين إلا في أواخر الستينيات، وإن كان اغتيال مالكوم إكس في عام ١٩٦٥م واغتيال مارتن لوثر كنج في عام ١٩٦٨م، قد أثَّرا تأثيرًا بالغًا على تطور هذا الأدب، وربما يكفي في هذه العجالة أن نرصد تيارَين متناقضين في هذا الصدد؛ أولهما تحقيق الترابط، والثاني إنكاره ومغالبته، أما الأول فيتمثل في كتابات روبرت هايدن وأليس ووكر (الأول شاعرٌ والثانية روائية)، وأما الثاني فيتمثل في كتابات جين تومر وجيمس بولدوين وإشميل ريد، وإذا شئنا التركيز على الرواية وجدنا أن أليس ووكر من ألمع أسماء هذه المرحلة، وخصوصًا روايتها المسماة «خط الزوال» التي تعتبر بحق من ألمع وأهم روايات الأدب الأمريكي في هذا القرن، ولكن المجال لا يتسع لتحليلها في سياق الأحوال الاجتماعية والسياسية وما إليها في منتصف السبعينيات، وأما أهم كتابات مُنكري الترابط ومغالبته، فهي روايات جين تومر وجيمس بولدوين، وبالتحديد رواية «لو كان شارع بيل يستطيع الحديث»، ورواية إشميل ريد المسماة «الهذر». وهكذا نرى أن الوضع الحالي يتميز بالتناقضات تجاه موقف الزنجي من مجتمعه، ويلمح كوك في نهاية كتابه «أدب الأفرو أمريكيين في القرن العشرين»، إلى أن ثمة اتجاهاتٍ جديدة في معالجة معنى الترابط والانفصال في الأدب الأمريكي الحديث الذي يبدعه أهل أمريكا السود، وإن كنت لم أطَّلع على ما صدر من رواياتٍ بعد ١٩٨٤م، باستثناء هذه الرواية بطبيعة الحال — عيد ميلاد جديد — التي صدرت منذ خمسة أعوام.
هذه هي الصورة العامة لأدب الزنوج في أمريكا في إطار الأدب الأمريكي الحديث بصفةٍ عامة، وسوف أختتمها بالإشارة إلى بعض الدراسات المتخصصة في أهم الأعمال التي صدرت حتى عام ١٩٨٠م، ففي رأيي أن أهم هذه الدراسات هي التي قام بها بيتر براك في تحليله لمعنى الاحتجاج ومعنى العالمية واللون الأسود في الرواية الأفرو أمريكية، خاصةً إذا وضعت جنبًا إلى جنب مع الدراسة التي كتبها فولفجانج كارير عن التكامل والانفصال باعتبارهما القطبَين، أو المحورَين اللذين يدور حولهما هذا الأدب منذ الحرب العالمية الثانية، وإلى جانب ذلك قدم الأول دراستين قيمتين: الأولى عن رواية «عازف طبل من نوعٍ مختلف» للروائي وليام ملفين كيلي (١٩٦٢م)، والثانية عن رواية «نشيد سليمان» (١٩٧٧م) للكاتبة توني موريسون، وعنوان الدراسة «البحث عن الجذور: فكرة البحث والهروب»، كما قدم الثاني دراستين قيمتين أيضًا: أولاهما عن رواية جون أ. وليامز وعنوانها «أغنية الليل» (١٩٦١م)، والثانية عن رواية ألبرت مري وعنوانها «جيتار صفارة القطار» (١٩٧٤م)، بل ينبغي أن نذكر بعض الدراسات الهامة مثل دراسة ديبورا شنايدر عن رواية بول مارشال وعنوانها «فتاةٌ سمراء وأحجار سمراء» (١٩٥٩م)، ودراسة كلاوس هانسن عن رواية «المقابر» من تأليف وليم دانبي (١٩٦٥م)، ودراسة إيرهارد كرويتزر عن رواية «الشعر المستعار» للكاتب تشارلز رايت (١٩٦٦م)، ودراسة مايكل فابر عن رواية «المذياع الخلفي الأصفر لا يعمل» للمؤلف إشميل ريد (١٩٦٩م)، ودراسة كلاوس إنسلن عن رواية «الحياة الثالثة لجرينج كوبلاند» من تأليف أليس ووكر (١٩٧٠م)، ودراسة ألبرت فيرتهايم لرواية أرنست جينز وعنوانها «السيرة الذاتية للآنسة جين بتمان» (١٩٧١م)، وأخيرًا دراسة إليزابيث شولتز لرواية «من هي أنجلينا؟» (١٩٧٥م) من تأليف آل ينج وعنوان الدراسة «البحث عن مجال الروح وأبعاد الحرية».
أين إذن أليكس هيلي في هذا كله؟ بل أين سواهم من كبار الروائيين، مثل كلارنس ماجور أو جون وايدمان أو ليون فورست، وغيرهم (جون كلينز ورونالدفير وناثان هيرد ومارجريت ووكر وسيرس كولتر) ممن كتبوا العديد من الروايات وطبقت شهرتهم الآفاق؟ الواقع أن الشهرة ليست وحدها دليل التفوق الفني، وفي اعتقادي أن ثمة عاملًا، بل عدة عوامل تشترك في إعلاء شأن المؤلف جماهيريًّا وليس بأهمها امتيازه الأدبي؛ ولذلك فعندما نشرت رواية «جذور» عام ١٩٧٦م، ذاع اسم هيلي وأصبح ظاهرة، كما نقول هذه الأيام، خصوصًا بعد أن تحولت إلى مسلسلٍ تلفزيوني شاهده الملايين، ليس فقط لأنها رواية رائعة (وهي كذلك بأي مقياس)، ولكن لأنها مسَّت وترًا حساسًا في نفوس الأمريكيين جميعًا من بيض وسود، ألا وهو وتر الانتماء الذي ألمحت إليه في بداية المقال في إطار ما أسميته بالماضي، ثم تعرضت له بالتفصيل عند استعراض مراحل تطور أدب الزنوج في أمريكا في إطار ما أسميته بالعزلة والترابط.
لقد صحا الأمريكيون ذات يوم ليكتشفوا أن لديهم صورًا من الماضي متعددة، لا صورة واحدة! وأن الجذور الأفريقية لا تقل أهميةً عن الجذور الأوروبية! وإلى جانب ذلك برزت قدرة الكاتب — قدرة القصاص — على امتلاك أفئدة القراء بدقة بحثه العلمي الذي يوحي بالثقة ويغرسها في النفوس، فهو لا يصور خيالًا مهما كانت درجة ارتباطه بالواقع ولكنه يصور الواقع نفسه! ومع ذلك فإننا ما زلنا نسمع أصوات بعض النقاد الذين يفصلون بين ماضي المؤلف وماضيهم، واقرأ ما يقوله ناثان سكوت (الابن) في ختام عرضه لهذه الرواية:
«ورغم نقائص هذه الرواية فهي رائعةٌ حقًّا؛ إذ إن التصميم الحاسم الذي دفع هذا الرجل إلى استعادة ماضيه الشخصي نموذج فريد، وهو من أشد صور الكفاح الدرامي إيحاءً وإلهامًا في الحياة الأدبية في عصرنا هذا، ولقد ازدادت الأمة ثراءً به بعد أن مضى عليها حينٌ من الدهر أنكرت فيه إنسانيته على المستوى الرسمي.»
ولقد أوردت هذه الفقرة بالتحديد لأشير إلى عبارة «استعادة ماضيه الشخصي»، فهي عبارةٌ تفصل بين ماضي المؤلف وماضي الأمة التي ينتمي إليها، وإن كان الواضح أن سائر النقاد قد أدركوا مغزى ذلك البحث عن الماضي، فهو موضوع يتكرر في الأدب الحديث وليس مقصورًا على أدب أمةٍ بعينها.
أما رواية «عيد ميلاد جديد» فتختلف عن «جذور» في أنها تدور في نفس طالب جامعي يكتشف عن طريق المثل العليا للدين، ومن خلال تجربةٍ ذاتية فريدة، طبيعة الرق المنافية للإنسانية، وعندها يكتشف وسيلةً ناجعة للتواؤم مع ذاته بعد أن طالت حربه الباطنة، أي إنها رواية موضوعة في قالبٍ كلاسيكي مثل روايات القرن التاسع عشر، فهي أيضًا تعتمد على السرد وتمزج الحوار بالسرد، وتغاير بين وجهات النظر، فلا تحبسنا طول الوقت في وجهة نظر الشخصية المحورية — شخصية فلتشر راندول — وهي تجنح إلى الفكاهة الهادئة في أحيانٍ متعددة، ولكنها قبل هذا وذاك رواية مشوقة ما إن يتناولها القارئ حتى ينتهي منها وكأنما يطلب المزيد.
أما البناء فيعتمد ببساطةٍ على عدة رموز دينية واضحة، أهمها رمز الكوكريين، وربما كان من المهم هنا أن أوضح أن هذه الطائفة الدينية تعود بجذورها إلى القرن السابع عشر في إنجلترا، وأصل التسمية يعود إلى كلمة «كويكر» المشتق من فعل «كويك»، أي يرتجف لذكر الله (مَن إذا ذُكر الله وجِلت قلوبهم)، وليس لها، للأسف، مرادفٌ بالعربية. وعندما يظهر الإخوة الكوكريون الثلاثة إلى فلتشر يبدون في هيئة المجوس الثلاثة ويستدعون إلى الذهن صورة الطفل المسيح في المزود، ومنذ تلك اللحظة يستخدم هيلي رمزية الثنائية، في كل موقفٍ تقريبًا، وهي رمزية واضحة، فالأبيض والأسود صنوان، وهما يتحركان في كل مكانٍ لإثبات هذا المعنى الخفي أو للإيحاء به.
ويستخدم المؤلف في روايته مزيجًا من الرموز الأدبية الشائعة مثل الرحلة إلى الشمال اهتداءً بالنجم القطبي، والإيحاء بالجو النفسي مستعينًا بالطبيعة سواء بالليل أو بالنهار، كما يسخر من صور الممارسة الدينية في الجنوب من خلال العرض المسرحي لميلاد السيد المسيح في وقتٍ يشير فيه أهل الجنوب إلى العبيد من السود على أنهم من ممتلكاتهم، ويكفي أن ميليسا آن هارون تقول لفلتشر بكل ثقةٍ إن السود ليسوا من البشر.
وأخيرًا فلن يفوت على القارئ استخدام بعض الأسماء ذات الدلالة في الرواية مثل موسى وهارون ونوح، وكلهم من أنبياء الله، وإطلاق هذه الأسماء على السود والبيض بلا تمييز! وأظن أن الكاتب كان يفعل ذلك واعيًا؛ ولذلك فضلت تقديم المرادف العربي لهذه الأسماء، في ترجمة الرواية (الصادرة عن مركز الأهرام للترجمة والنشر عام ١٩٨٩م)، إلى جانب الإشارات المباشرة إلى التاريخ الحقيقي لهرب العبيد من الجنوب إلى الشمال، فيما يُسمَّى بطريق الهروب السري الذي أصبح يطلق عليه «قطار الهروب السري»، ويكفي أن يعرف مثلًا أن شخصية فريدريك داجلاس شخصية حقيقية، بل إن لدَينا كتابًا كتبه داجلاس بنفسه وعنوانه «تاريخ حياة فريدريك داجلاس – العبد الأمريكي».
(٢) رواية الحقيقة: ذئبٌ في قرص الشمس
ولكن أهم ما أتى به هدم «الخيالية الخالصة»، هو الاعتراف بأن ثمة أشكالًا أدبية تستخدم الحقائق أو تسجل الوقائع كما هي دون تزييف، أي إن «الصدق التاريخي» بمعناه الضيق لا يمنع من خلق العالم البديل في الفن، وأن الإحالة إلى الواقع خارج الفن لا تمنع من كونه فنًّا … وفي هذا الصدد لا بد من القول بأن تراثنا العربي حافلٌ بهذه الأشكال الأدبية، وأن الكتب التي تسجل أقاصيص الرواة بأشعار شعرائها الحقيقيين تمثل أنواعًا أدبية لا شك في مكانتها، وقارئ «الأغاني» للأصفهاني قد يجد فيه إعمالًا للخيال هنا وهناك، ولكنه مضطرٌّ إلى اعتباره عملًا فنيًّا باهرًا، رغم استناده إلى الواقع التاريخي بحذافيره والمتعة الأدبية، التي تتحقق لنا من قراءة كتاب تاريخ قديم (مثل كتاب جيبون عن سقوط الإمبراطورية الرومانية) أو كتاب تاريخ حديث (مثل كتاب كلارندون: تاريخ التمرد)، وهي نماذج من الكتب التي يوردها «إيجلتون»، تتحقق لنا عند قراءة ابن إياس «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، أو ذلك السِّفر الضخم الذي ما أفتأ أرجع إليه «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة»، والفرق بين الفن والتاريخ الذي كان وضعه القدماء لم يعد يقوم على أسس «الخيالية الصرفة»، بل أصبحت له معايير أخرى ليس هذا مجال الحديث عنها.
وتعتبر قصة «جورج وسارة جرين» أول قصة في العصر الحديث تروي واقعةً حقيقية بحذافيرها، فتسمو بها إلى مصاف الأدب الرفيع دون استخدام حيل الصنعة التي أشرت إليها، وربما كانت نهضة الصحافة في القرن الثامن عشر في أوروبا وراء الخيال ورواية الواقع من ناحيةٍ أخرى، وقد أتيح لي أن أدرك شيئًا ما عن هذه القضية في أوائل الستينيات، عندما ترجمت مناقشةً نقدية حول القصاص الأمريكي «رنج لاردنر»، وهو المعلق الرياضي الصحفي الذي تحول إلى كتابة القصة القصيرة واستمد «وقائعه» (ولا أقول مادته) من عالم الرياضة، وقد قرأ الأستاذ عباس محمود العقاد الترجمة، وقدم لها بمقدمةٍ بالغة الأهمية نشرت آنذاك باسم «حول مائدة المعرفة» (١٩٦٣م)، نبهتني إلى سؤالين مهمين: أولهما أن الفن الأدبي لم يعد ولا كان في يومٍ من الأيام محصورًا ولا مقصورًا على ما يُسمَّى بالصياغة، والثاني أن الفن الأدبي ليس بالضرورة فن «الخيالية الخالصة» التي أشرت إليها في أول المقال، وقد شغلني هذا البحث الجديد القديم عن طريق تساؤلاتٍ عديدة: ألا ينطلق الفنان في عمله من رؤيةٍ معينة؟ أوليست الرؤية في جوهرها إعادة تشكيل؟ أفلا تعتمد إعادة التشكيل على الاختيار؟ أفلا يلتقي مبدأ التنظيم بمبدأ الاختيار في كل مرحلةٍ من مراحل إعادة التشكيل؟
وأذكر أنني عندما بدأت نشاطي الأدبي الإبداعي، وكانت القصة القصيرة هي الفن السائد آنذاك، حاولت أن أكتب ثلاث قصص قصيرة حقيقية، ولا تكاد تحتاج إلى تعديلٍ خيالي، وكنت في كل مرة أصطدم بتقاليد القصة الأدبية التي تفرض على الكاتب أسلوبًا معينًا في العرض والسرد واللغة، والغريب أنني ما فتئت أحكي هذه القصص بالعامية لطلابي على أنها تلخيص لقصصٍ أدبية فينفعلون بها ويطلبون الأصل، ولا أستطيع أن أقول لهم إنها لم تكتب حتى الآن! كانت إحداها عنوانها في رأسي هو «المستثنى»، تدور حول محاولة المرحوم الأستاذ أبو التسهيل الدلبشاني الترقي إلى وظيفة مدرس أول للغة العربية، وهو على مشارف الخروج إلى التقاعد، وقد حكاها لي الشاعر صلاح عبد الصبور الذي كان يعمل مدرسًا للغة العربية معه في نفس المدرسة، ووجدت أنني أعيد القصة إلى الوجود في كل مرةٍ أقصها، دون أن أحيد على الإطلاق عن حقائق الواقع، ومع ذلك فإن استجابة المستمع لي كانت تتغير على مر الزمن، مما دفعني إلى التساؤل عن السر، هل هو اختلاف نظرتي أنا باعتباري الراوي أم اختلاف الجمهور؟
وقد اهتم الناقد المجري الأشهر «جورج لوكاتش» بهذه القضية في كتابه «الرواية التاريخية»، عندما تعرض للقضايا المتصلة بما سمي «وجهة نظر» أو «النظرة» في النقد الروائي، وكان من أهم ما أثاره النقاد تعقيبًا على آرائه مدى «حرية» الافتراض لدى الكاتب إزاء جمهوره، ومعنى ذلك مدى حرية الكاتب في افتراض تأييد جمهوره له، أو افتراض اختلافهم عنه؛ لأنه في الحالة الأولى سوف يستخدم «علامات» متفقًا عليها مع جمهورٍ يسلِّم بصحة ما يقول، وفي الحالة الثانية سوف يميل إلى استخدام الحجة أو التحاج لإقناع جمهوره بما يقول؛ ولهذا فإن نجاح السرد بضمير الغائب مع تبني وجهة نظر الشخصية التاريخية، يتوقف على «افتراض» مشاركة القارئ وجهة النظر هذه، أما إذا كان يفترض اختلاف القراء، فإن السرد قد يبدو محايدًا في الظاهر، وإن كان يتيح لوجهات النظر المتعددة لدى الشخصيات، أن تتصارع في الباطن وصولًا إلى ما يريد أن يقنع به القارئ.
إن محمد عبد المنعم يتحدث عن أشخاصٍ حقيقيين، وهو ينسج منهم شخصًا واحدًا أو روحًا واحدة، لا أغالي إن قلت إنها روح مصر، وأعترف أن أول ما شدني وأثارني في هذه الرواية هو تلك الروح، إنها الروح التي بشرنا توفيق الحكيم بعودتها في العشرينيات، والتهبت أيام النهضة الأولى في الثلاثينيات بين شباب جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن)، الذين تبنوا القضية الوطنية وأحسوا بمصرية مصر، وإن اختلفت السبل التي سلكوها في التعبير عن ذلك الإحساس، وهي الروح التي أفرخت التدفق الثوري في الأربعينيات، وقد رصدها وسجلها واحدٌ من ألد أعداء العرب، وهو «ريتشارد كروسمان»، الوزير البريطاني الذي زار مصر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وسجل في كتابه «بعثة فلسطين» (١٩٤٦م) ما أحسه من غليانٍ بين شتى فئات الأمة، بين المثقفين الذين كانوا ينادون بالثورة على النظم الرجعية الفاسدة التي اتخذت في الظاهر صور الحكم الديمقراطية المنسوخة من الغرب نسخًا شائهًا، وأفراد الشعب الذين كانوا قد بدءوا الصحوة الحقيقية على أنوار الحرية والاستقلال، وهذه الروح التي تبلورت فيما بعد واتخذت عدة صور بعد الثورة، يمكن أن يلقاها كل إنسانٍ في كل مجال، وقد وجدها محمد عبد المنعم في شباب الطيارين الذين اقترب منهم كل الاقتراب، ومبلغ علمي أنه عمل معهم يومًا ما وشاركهم حياتهم، وهو يلمح في ثنايا روايته إلى هذه الروح قائلًا:
«وعلى مر التاريخ كان لهذا البلد العظيم حفنة مقدسة من الرجال، تعيش دائمًا في صمتٍ ولا تظهر إلا وقت الحاجة، تحسم الأمور بما يشبه المعجزة، ثم تعود إلى الصمت المقدس مرةً أخرى.»
(٣) تغريبة بني حتحوت
صدرت للأديب مجيد طوبيا رواية جديدة كان قد نشر فصولًا منها في الأهرام هي «تغريبة بني حتحوت»، والرواية جديدة من عدة زوايا، أهمها محاولته الجادة لاستنباط شكل جديد للرواية المصرية، يستند إلى تجارب أدبائنا أنفسهم في كتابة هذا النوع الأدبي الذي تمصَّر وتعرَّب في هذا القرن، وأصبحت له تقاليده التي بدأت تختلف بالتدريج عن تقاليد الرواية الأوروبية، شأنه في ذلك شأن القصة القصيرة والشعر والمسرح.
والشكل الجديد يستلهم تراثنا المصري العريق في سرد الأحداث وروايتها، وما زال حيًّا في كتب التاريخ التي كتبت في مصر (مثل كتب ابن إياس والجبرتي)، وفي السير الشعبية (مثل الهلالية وغيرها)، وفي مجموعات القصص التي جمعت وكتبت في مصر (ولا بد هنا من قبول رأي تيري إيجلتون، الناقد الإنجليزي المعاصر الذي دفعنا إلى إعادة تعريف الأدب) مثل «ألف ليلة وليلة»، وهو التراث الذي يرقى إلى مصاف الأدب الأصيل، دون أن يستخدم مظاهر فن الصنعة التي اتسم بها فن الرواية الأوروبية.
وأول مظاهر هذا الشكل التي تقدمه «التغريبة» هو مظهر الحكاية، أي السرد الذي يسير في خطٍّ مستمر دون التفاتٍ إلى الخلف إلا فيما ندر، وهو المذهب الذي يفسره جورج وودكوك أحد نُقاد الرواية العالميين (الذي كتب سيرة حياة بعض العظماء إلى جانب النقد الأدبي) بأنه تعبيرٌ عن «امتداد الإنسان في الزمان وعدم خشيته من الفناء»؛ لأنه «عرف بالحدس، قبل برجسون، معنى الديمومة»، وهذا المذهب السردي ذو دلالات أكبر من الدلالات الفنية المألوفة؛ لأنه فلسفيًّا يمزج بين نظرة الإنسان إلى الزمن باعتباره فيضًا من اللحظات المتصلة (وهي فلسفة المصري القديم) وبين الزمن باعتباره «وقائع نفسية» (وهي نظرة الروائي الحديث)، بحيث تخرج من قراءة التغريبة وأنت تحس أنك تشهد الماضي والحاضر معًا.
فن السرد الحكائي في «تغريبة بني حتحوت» يؤثر إذن في إحساسنا بالزمن، فالوقائع تمتد على مدى عشرات السنين، وهي تصور أحوال مصر في فترة التحول الحاسمة من أيام الماليك وحتى قيام دولة محمد علي، ولكنها بتركيزها على الحالة النفسية الممتدة عبر أجيالٍ ثلاثة من أسرة حتحوت، تتخطى الفترة التاريخية فتصبح لا زمنية، بمعنى أنها تصبح واقعًا أدبيًّا يمكن لأبناء العصر الحاضر أن يعيشوه باعتباره جزءًا من ماضيهم، وأيضًا باعتباره قطعةً من زمن الإنسان المطلق، كما هو الحال في كل رواية.
أما المظهر الثاني للتجديد فهو لغة الحكاية الشعبية كما سجلها تراثنا؛ إذ يختلط الحوار بالسرد ليس كما تعودنا في الرواية الأوروبية (حيث تظل قطع الحوار منفصلةً عن السرد)، بل مثلما نجد في ابن إياس والجبرتي (ومثلما نجد في بعض كتب الأدب العربي القديم)، حيث يقدم الراوي شخصيةً تاريخية لم يكتب له أن يراها، فيضع على لسانها حوارًا حيًّا نابضًا مع شخصياتٍ أخرى، أو يلخص على لسانها بعض الأوضاع الاجتماعية التي تشغل باله، ومن المحال أن تدركها تلك الشخصية، انظر إلى ما تحكيه التغريبة على لسان أحد التجار عما يحدث في القاهرة (أواخر القرن الثامن عشر):
«لقد بلغ بهم الحال أنهم مدوا أيديهم في المواريث، فإذا مات ثري من الأعيان بادر أحد المماليك إلى سيده الأمير صاحب الشوكة وقبل يده، وطلب منه أن ينعم عليه بزوجة الميت فيجيبه إلى ذلك، فيركب في الوقت والساعة ويذهب إلى بيت المتوفى، ويتصرف في ممتلكاته ويحوزها ويطرد الورثة الشرعيين … فإذا رأته زوجة المتوفى شابًّا مليحًا قويًّا وجاء على مزاجها، أظهرت له المخبآت والمدخرات، فيصبح أميرًا من غير إمارة، وتتعدد عنده الخيول والخدام والفراشون!»
والتاجر هنا يظل بلا اسم، ولكنه يمثل الأهالي (وخاصة العاملين بالبحر)، ويقدم وجهة نظر الناس وبلغة الناس، فهو راوية يستخدمه الكاتب لتعديد وجهات النظر، وهذا لازم في وقتٍ كانت الأخبار خاضعةً فيه لأفكار الناس وأمزجتهم، وكلما تعددت وجهات النظر ازداد إحساس القارئ بغياب السلطة المركزية التي تفرض عليها اتجاهًا لا نحيد عنه.
ومصدر قوة هذا اللون من الحوار السردي هو خلوُّه من المحسنات الأسلوبية التي ارتبطت في أذهاننا بالرواية العالمية وبعض من حاكاها من الكتاب العرب، فهو الأسلوب الذي يتوخى الإيجاز الشديد، ويحكي وقائع كثيرة في أسطرٍ قليلة، متكئًا على بعض التفاصيل التي تهم الناس باعتبارهم سامعي هذه الحكاية، مثلما تفصح عن اهتمام المتحدث ببعض مظاهر الحياة في تلك الفترة.
ولغة «التغريبة» ذات مستويات متعددة، أهمها هذا المستوى الحواري، ولكن المؤلف يلجأ أحيانًا إلى مستوًى آخر هو السرد الخالص الذي يتميز أيضًا بالإيجاز، ولكنه يعكس أنماط الفكر والإحساس القديمة التي تساعد على خلق جو تلك الفترة، ويتميز بلمسةٍ عابرة من السجع غير المتكلف … انظر كيف يحكي المؤلف قصة القضاء على الحامية الفرنسية التي أقامها نابليون في مدينة تلة:
«… وتمنى لو نازل الفرنسي «ترس»، لكنه صرف هذه الفكرة عن ذهنه، إلى أن أتى يوم اكتسب فيه مزيدًا من الأموال، وكان هذا ضربًا من المحال، بسبب إفلاس جميع الرجال، وعندئذٍ استيقظت بداخله الفكرة النائمة، وراح يحرض الناس على نزال عسكر الفرنسيس الهائلة … فالتفوا من حوله وقتلوا الصراف والعسكر …»
إن لهذا الأسلوب مذاقًا خاصًّا بعثه إلى الوجود مجيد طوبيا، فأعاد إلينا الإحساس بالماضي بلحمه ودمه.
وآخر هذه المظاهر هو الاعتماد في هيكل الرواية نفسه على فكرة الرحلة المقترنة بالنبوءة، وهي فكرةٌ متأصلة في الآداب الشعبية جميعًا، وليست مقصورة على الأدب العربي وحده، وهي من الجذور الأساسية للأدب الملحمي، الشعبي منه والرسمي، وتعتبر عنصرًا من عناصر البناء في هذه الرواية؛ لأن إيمان والدة البطل بصدق نبوءة العرافة، وحتمية عودة ابنها من الشمال، يقترب من الإيمان الديني ويمثل عمادًا من عمد الشخصية المصرية، وكذلك فإن رحلات النيل، شريان الحياة في مصر، تصبح مصدرًا لصورٍ عريقة راسخة في الوجدان المصري منذ آلاف السنين، وتتيح للشخصيات أن تتحرك على أكثر من مستوًى في كل رحيلٍ وكل لقاء.
إن «تغريبة بني حتحوت» إضافة جديدة قيمة إلى تراث الرواية المصرية في عصر ما بعد نجيب محفوظ.
(٤) خريف الأزهار الحجرية
القصة القصيرة من الفنون الأدبية التي ما فتئت تتغير وتتبدل، حتى لقد أصبحت تستعصي على التعريف، ففي الستينيات استطاع الباحثون أن يحددوا الأشكال الأساسية للقصة القصيرة، على ضوء علاقاتها وجذورها بأقدم فنون السرد قاطبةً وهو فن رواية الأحداث التاريخية، وكان ذلك الفن قد بدأ شعرًا ثم اكتسى رداء النثر في القرن التاسع عشر، عندما أصبح للرواية الطويلة قراؤها وعشاقها، وعندما ازدهرت الصحافة في أوروبا فولدت لغة جديدة، تسمح بتقديم الواقعة الحقيقية في ثوب اللغة الصحفية غير المثقلة بالزخارف اللغوية التي اقترنت بحرفة الأدب.
والواقع أننا لم نفقد حلقات التحول من رواية الوقائع إلى رواية الخيال في الأدب العربي، علَّ ما يوحي به تأثر رائد القصة القصيرة العربية محمود تيمور بالقصاص الفرنسي الأشهر جي دي موباسان، أو تأثر الجيل الذي تلاه بقصص الغربيين من ألمانٍ وإنجليز وفرنسيين وأمريكيين، وإن كنا لا نريد الاعتراف بهذه الحلقات؛ خوفًا على ضياع الحدود التي نعتز بها بين رواية الواقع ورواية الخيال.
ولذلك فقد أصبحنا نعالج أدبنا من زاويتين منفصلتين، وأصبحنا نخشى أن نعترف بالتطور الذي شهدناه (وهو طبيعي)، مثلما شهدته آداب الأمم الأخرى.
ولكن يبدو أن التطور الذي تشهده القصة القصيرة المعاصرة في أدبنا العربي، قد اتخذ مساره الطبيعي في الثمانينيات، على أيدي نفر قليل ممن طوروا التصنيفات الشكلية القديمة للقصة، مثل «القصة الحدث» و«القصة الصورة» و«القصة القصيدة»، وما إلى ذلك مما رصده الدكتور نعيم اليافي (في رسالته التي نال بها درجة الدكتوراه عن القصة القصيرة الحديثة في بلاد الشام) إلى الألوان التي فرضتها علينا فنون العصر الحديث، وأهمها فنون الحداثة أو المودرنية وما بعدها، فاتجه البعض إلى «الأقصوصة» (أي «القصة القصيرة جدًّا»)، والتي تركز على لحظةٍ قصيرة وعابرة في حياة إنسانٍ ما، وتعتمد على التركيز الشديد في التصوير وفي الزمن والمكان، واتجه البعض إلى الصياغة الشعرية واتباع مناهج الشعر في المعالجة، بينما اتجهت الغالبية إلى تطوير فن كتابة القصة عند المنبع، أي من حيث هي قصة تروي واقعةً ما فتفرقوا في ذلك شيعًا؛ إذ عمد بعضهم إلى إحياء «فن الحكاية» أو ما يُسمَّى بالسرد (وهو في الحقيقة فن رواية الأحداث بغض النظر عن المعنى العام لها)، وعمد البعض الآخر إلى التجديد في اللغة حتى غدت اللغة نفسها مسرح الأحداث (جامعين في ذلك بين فن الشعر والفنون التشكيلية من رسمٍ ونحت)، وعمد آخرون إلى تعديل المفهومات الأساسية لفن القصة القصيرة، مثل الشخصية والحدث لتلائم الدعوة الفكرية أو العقائدية التي يعملون في سبيل نصرتها، وينتمي إلى الفئة الأخيرة معظم كُتاب الحركة النسائية رجالًا ونساء.
وقد دعاني إلى وضع التعريفات الأخيرة التي لا بد أن تُعتبر امتدادًا لما ذكرته عن القصة القصيرة في كتاب الأدب وفنونه (١٩٨٤م، ١٩٩٢م)، ظهور عدد من المبدعين الذين فرضوا علينا تعديل مفاهيمنا النقدية، إذ برع في الأقصوصة عبد الفتاح رزق وخيري شلبي وغيرهما ممن اتخذوا من الصحافة مسرحًا للتجريب، وبرع في القصة الشاعرية محمد المخزنجي وماهر شفيق فريد، وفي تطوير الأنواع الجديدة عند المنبع إبراهيم أصلان، وسعيد بعد الفتاح وسلوى بكر واعتدال عثمان وسعد القرش، وسناء صليحة وكثيرون ممن يطلون الإطلالة الأولى أو الثانية على عالم القصة القصيرة، ولا ينفي ذلك أن الكثيرين الراسخين من كتاب الرواية قد شاركوا وما يزالون يشاركون في تطوير القصة القصيرة، وعلى رأسهم نجيب محفوظ نفسه ويوسف جوهر وجمال الغيطاني ويوسف القعيد ومجيد طوبيا، وإلى حدٍّ ما يوسف الشاروني وإدروار الخراط ونعيم عطية، وكذلك سكينة فؤاد ومحمد عبد السلام العمري وفؤاد قنديل وغيرهم، ولكن درجة التطوير هنا محدودة بأسلوب كلٍّ من هؤلاء؛ ولذلك فمهما استطاع المرء أن يحلل تطور أسلوب نجيب محفوظ مثلًا، مثلما فعلت في دراستي بالإنجليزية:
وهكذا فإن مجموعة «خريف الأزهار الحجرية» للدكتور ماهر شفيق فريد مجموعة فريدة، بسبب ابتداعها أسلوبًا جديدًا ومثيرًا في فن السرد وفن الصياغة الشعرية وفن البناء جميعًا، فهي تنتمي إلى ما يمكن أن نسميه التيار النفسي الذي اشتد عوده ونما في الغرب في أعقاب انحسار «موجة الاحتجاج» التي أتى بها «جيل الغضب»، أي الجيل الذي أعرب عن رفضه لقيم الأسلاف التي أثمرت حربين عالميتين طاحنتين؛ إذ إن كتاب أواخر السبعينيات انقسموا إلى فريقين يجمعهما تيارٌ واحد (هو التيار النفسي)، فأما الفريق الأول فقد تحول رفضه للمؤسسة الاجتماعية إلى انغماسٍ في بحار النفس البشرية، يستجلي كوامنها ويستكشف أبعادها انطلاقًا من الإيمان بالإنسان وبالفرد باعتباره النموذج الأول للإنسان، وكانت أفراد هذا الفريق يمثلون، إلى حدٍّ ما، تطويرًا وامتدادًا لمذهب الروائية البريطانية فيرجينيا وولف والروائي البريطاني جيمس جويس، ونبغ منهم في أمريكا الكثيرون في الثمانينيات مثل هارولد برودكي الذي بدأ نجمه يلمع في عام ١٩٧٥م، عندما فاز بالجائزة الأولى مشاركة عن قصَّتيه «قصة بأسلوبٍ يكاد يكون كلاسيكيًّا» في مسابقة القصة القصيرة السنوية المسماة «جوائز أو. هنري»، ثم انفرد بالجائزة الأولى في العام التالي (١٩٧٦م) في نفس المسابقة عن قصةٍ بعنوان «ابنه بين ذراعيه، في الضوء، عاليًا»، ومن ثَم انطلق ليفرض هذا الأسلوب النفسي التحليلي في مجموعات قصصه التالية، ومثل مارك شورار، وروبرت هنسون، وغوردون ويفر وهنري بروميل، ومن النساء أليس آدامز وجولي هيشت، والجدير بالذكر أن الكتابات النسائية التي شهدت ازدهارًا كبيرًا في الثمانينيات عندما بزغ نجم إيمي هيمبل وأليس مونرو وجيسيكا نيلي ومونا سيمسون (وغيرهن كثيرات)، لم تكن تعالج قضايا الحركة النسائية كما نعرفها في مصر، بل إنها ركزت على التحول النفسي أو التحولات النفسية التي صاحبت انتهاء عصر الحروب، وبداية ظهور القوميات الممثلة في النزعات الإقليمية الضيقة في أوروبا وأمريكا الشمالية، وهي التي سبقت انهيار الاتحاد السوفيتي وتمزق الكتلة الشيوعية والصراعات «القبلية» والطائفية، التي ما تزال رحاها دائرةً حتى عصرنا هذا.
وأما الفريق الثاني الذي تزعمته بلا جدال الكاتبة البريطانية فاي ويلدون، التي بدأت بالكتابة للتليفزيون ثم تحولت إلى الرواية والقصة القصيرة، فهو يضع الإنسان في سياقه الاجتماعي، ويضع التحليلات النفسية العميقة في سياق الأسرة ثم أولًا في سياق المجتمع الكبير، وهو التيار الذي ينتمي إليه كاتب أمريكا الأول جون أبدايك، ويحاول اللحاق به عددٌ لا بأس به من كتاب الثمانينيات، مثل بعض من ذكرت من الكاتبات، وكذلك دونالد بارثيلم وتشارلز باكستر وجيمس لي بيرك.
وقد أطلقت على هؤلاء صفة كتاب أواخر السبعينيات رغم أنهم قد حققوا شهرةً كبيرة، وحظي الكثيرون منهم بالاعتراف من النقاد على اختلاف مشاربهم، وإنما قصدت من ذلك إلى رصد جذور الاتجاه النفسي الجمالي في القصة العالمية الذي ينتمي إليه ماهر شفيق فريد؛ ولذلك فأنا أرى أن الدراسة التي جمعتنا منذ الصبا في كلية الآداب كانت من العوامل الحية المتجددة التي وجهت كلًّا منا وجهته الطبيعية، فالكاتب ماهر شفيق فريد قارئ أولًا، وهو مثلي ومثل كل كاتبٍ جدير بهذه الصفة يكتب حين يقرأ، ويقرأ حين يكتب؛ ولذلك خرجت قصصه بمثابة النبت الطبيعي لأرض الأدب الإنساني العالمي الحديث.
أما أسلوبه الذي يتميز به فهو التحليل الدقيق لمشاعر النفس في صورٍ متتابعة متشابكة، يؤدي بعضها إلى بعض، ويلقي بعضها بظلاله على بعض، مثلما يفعل الشاعر الذي يبني قصيدته الحديثة على أساس التداخل والتشابك والترابط، سعيًا لإخراج ما يُسمَّى بالانطباع الموحد، أي الصورة الواحدة التي تتمازج فيها الخطوط والألوان، ولأضرب لذلك مثلًا من قصته الأولى «مباراة شطرنج»، إن المتحدث أي بطل القصة الذي يروي المؤلف القصة على لسانه، يقدم إلينا صورًا متتابعة كأنما يهمس إلينا بأفكاره الخاصة:
«أحيانًا أشعر أن في الهواء أعمدةً، أعمدةٌ هوائية لا تُرى ولكن لها كيانًا، أجسامها الصلبة الباردة تتدلى من سلاسل فضية لتهتز في الهواء.»
وهذه الصورة الغريبة في تصورها أو رسمها أعمدة الهواء ليست في الحقيقة «محالة»، فهي تمزج بين «الأعمدة الهوائية» الضخمة في آلة الأرغن القديمة، التي ما تزال تستخدم في بعض الكاتدرائيات، وهي بطبيعة الحال ألوانٌ من المزامير الضخمة (أي إنها أعمدةٌ مفرغة ومن ثَم فهي هوائية، وربما كانت لها صلة بالهارب الهوائي، وهي آلة عتيقة كانت توضع في مهب الريح لتصدر أنغامًا تتفاوت بتفاوت سرعته واتجاهه)، وبين أعمدة الساعات الضخمة التي ما تزال تستخدم في بعض بلدان أوروبا القديمة وتتدلى من سلاسل ضخمة، أي إن الصورة على غرابتها صورة حسية تمزج بين آلةٍ موسيقية وساعة تستخدم الأعمدة في إصدار الدقات التي تتبع نهجًا موسيقيًّا ثابتًا وموقوتًا بطبيعة الحال، وإن لم يكن الهدف من هذه الصورة الإحالة إلى شيءٍ ما بعينه، بل تأكيد الرؤية الخاصة للبطل التي يطورها تدريجيًّا من خلال مجموعة أخرى من الصور التي تتفرع من هذه الصور الأولى.
وأول هذه الصور هي صورة المرآة، فنحن نسمع من البطل بعد تأكيد صدق رؤياه (والملاحظ أنه يستخدم هنا اللفظ الخاص برؤيا يوسف عليه السلام «هذا تأويل رؤياي») أنه يرى الحياة من خلال زجاج مغبش وفي ضوء الغروب، ويرى نفسه وصديقه في المرآة، ثم تعود صورة موسيقى الأرغن واضحةً هذه المرة:
«أسمع أصواتًا موسيقية من آلاتٍ لا تمتُّ إلى الأرض بصلةٍ، وفي خيالي تنفتح كهوف فسيحة تسري فيها مياه البحر الزرقاء كالفيروز، وأرى كنائس رخامية ملونة الزجاج تنيرها أعمدة النور الشفاف.»
أي إن وجدان البطل هنا ينسج من الموسيقى الهوائية صورًا حسية تبصرها العين، وربما كان العامل «المازج» في اللاشعور لديه هو نبرة الإحساس الرومانسي بوجود تلك الحياة الحافلة في باطن الإنسان، التي عبر عنها الشاعر الإنجليزي كولردج في قصيدة «الهارب الهوائي»، وعبر عنها زميله وردزورث في صورة الكهوف الموجودة تحت الماء التي لا ينفذ إليها ضوء الشمس (في قصيدة المقدمة، السفر الرابع، البيت ٢٦٢ من طبعة ١٨٥٠م)، وهي الحياة التي تتحول من أعمدةٍ هوائية إلى «أعمدة من النور الشفاف» داخل بيت العبادة.
أي إن صور المرآة التي تعتبر رمزًا هنا لانعكاس عالم الواقع المحسوس في نفس البطل، تعود بنا إلى صورةٍ أخرى، تنويعة أخرى (بلغة الموسيقى) على تيمة الموسيقى الهوائية أو العلوية، بحيث ندرك أننا أمام تجربةٍ منعكسة على نفسٍ ترفض الانصياع لسيطرة الأرض، وترى في المشهد الواقعي تمثيليةً يقوم بها اثنان، أحدهما البطل نفسه وقد انفصل عن وجوده المادي وأصبح يطل عليه من الخارج.
وقبل أن ندخل في هذا العالم الذي يخشاه بطل القصة، تتطور الصورة من جديدٍ من خلال إيحاءات كلمة «الرخام» الباردة، فهي ترد أولًا في وصف الكنيسة لتوحي بالثبات والصلابة، وإن كانت تشير من طرفٍ خفي إلى تراث ارتباط الرخام بالأضرحة وبالتماثيل الباردة، كما في شيكسبير مثلًا، ثم تفاجئنا هنا بامتزاجٍ جديد مع الظلال والرخام.
«على مائدتنا الرخامية ارتسم ظل، وعلى الجدران كان النور قد تقلص نهائيًّا، والعتمة بدأت تدب في زوايا القهوة …»
والقارئ هنا يتابع الحياة الداخلية للبطل في لحظة التأزم التي بدأ بها الكاتب قصته، مثلما يفعل الكاتب الدرامي المحترف، في تجاوبها المتواصل مع رموزها الخارجية، حتى إنه قد تفوته لحظات الاشتباك والانفراج بسبب دقتها ورهافتها المتناهية، فالرخام الذي ارتسم عليه الظل هو الصورة الجامدة لما سبق أن أشرتُ إليه من غلبة ذلك الإحساس الأول وهو رفض الانصياع للأرض، فالرخام يعود بنا إلى الصورة التي رسمها ت. س. إليوت للحياة الحديثة في القسم الذي يحمل عنوان «مباراة شطرنج» من قصيدته «أرض الضياع» (ترجمة نبيل راغب، أو «الأرض الخراب» كما كان رشاد رشدي يسميها)، ولا يمكن أن يكون ذلك من قبيل الصدفة، فمباراة الشطرنج ترمز في القصيدة المذكورة لتحول العلاقة بين الرجل والمرأة إلى مباراةٍ، أي إلى حدثٍ بين خصمَين بدلًا من كونها تمازجًا بين حبيبين؛ ولذلك فنحن نحس هنا بأن البطل مكتوبٌ عليه أن يلعب دورًا ما، وصديقه (أو قرينه الذي يحمل نفس اسمه) يدعوه مباشرة إلى اللعب!
ولكن البطل هنا يكون قد انتهى من استدراجنا إلى جوهر القصة، وهو عقدته التي تحول بينه وبين «لعب» دوره الطبيعي في الدنيا؛ إذ يعود بنا إلى قطعٍ متناثرة من ذكرياته توحي بارتباطه بأمه، وتوحي بمشاعر خاصة لديه تحول بينه وبين الانسياق وراء المشاعر «المعتادة» في لعبة الحب والزواج، ومن ثَم يلقي بنا فجأةً في غمرة الصور الشعرية التي كان قد مهَّد لها منذ البداية؛ إذ نكتشف مدى زيف العلاقة التي كان يتصور صدقها، من خلال صورة المرآة، صورة الإنسان غير الحقيقية، وهي الصورة التي لعب معها البطل مباراة الشطرنج فخسرها على المائدة الرخامية، وانتصر فيها حين انسحب ورفض التسليم بصور المرآة الخادعة.
والانتصار والانكسار في آنٍ واحد من المفارقات التي تنقل القصة القصيرة بحدثها المحدد من عالم الواقع إلى عالم الرمز الخالص، الذي يربطها باعتبارها كلًّا موحدًا بعالم الشعر؛ إذ تختلط لحظات الانتصار (التي يدرك فيها البطل حقيقة قرينه الأرضي) ولحظات الانكسار التي يدرك فيها حاجته إليه، ومن ثَم ينطلق ليطارده (في قاع المدينة)، مثلما تختلط في نفسه رؤى المرآة، و«رؤياه» الصادقة الأولى للحظة الصفاء التي تسمو به على قرينه.
وإذا كنت قد ركزت بعض الشيء على تحليل هذه القصة، فإنني أهدف من ذلك إلى إلقاء الضوء على أسلوب ماهر شفيق فريد بصفةٍ عامة، فالقارئ لا يملك إزاء هذا الأسلوب إلا أن يعود إليه المرة بعد المرة، ليكتشف خباياه ويحاول متابعة خيوطه الدقيقة المنسوجة ببراعةٍ متناهية، خصوصًا عندما ينتقل بنا الكاتب من قصةٍ إلى قصة؛ إذ يقدم لنا صورةً أخرى من صور ذلك البطل ذي الأقنعة المتعددة، وهو الذي يشبه إلى حدٍّ كبير بطلًا روائيًّا يمر بلحظاتٍ شعورية متعاقبة، ويعيش أعمارًا زمنية متفاوتة، فكأنما نحن إزاء نفس عارية تثقل كواهلنا متابعة تقلبات أحاسيسها ورؤاها المتضاربة لهذا العالم، فقصة الوحدة التالية لمباراة الشطرنج في خريف الأزهار تنويعة أخرى على ذلك الألم المستمر النابع من الوعي الحاد بوقع هذه الحياة؛ ولذلك فنحن نعاني من تجريداتها ونكاد نحس بالإرهاق في متابعة نسيجها الشعري الزاخر.
«أقوم إلى النافذة وأزيح الستارة، ملقيًا ببصري إلى الشارع شبه المهجور، والمصابيح تلمع في وحدتها الليلية، وأنوارها تنعكس على الأسفلت المبلول بماء المطر، وثمة ريح تهز أشجار الجزورينا الممتدة على طول الشارع، وأمام البواكي اضطجعت في ردائي المرمري، وحيدًا مع الواحد، أرمق بنظرةٍ محايدة هذين الشبحين اللذين يرميان بظلالهما المتطاولة على الأرض.»
هذه هي الصورة النهائية للخيانة التي تعتبر «موضوع» القصة الأولى، وتعتبر كذلك «موضوع» القصة الثانية والثالثة، ولكن الموضوع غير مهم في طرائقها ومسالكها؛ إذ إن الخيانة هنا تكاد تكون فكرية، بينما تتحول في القصة الثالثة «الموت في الروح» إلى خيانةٍ ذاتية، وما أبعد الأسلوب القصصي هنا عن الأسلوب الرمزي للقصة الأولى! إنه يكتشف «الخيانة» حقًّا، ويحاول أن يجد تسريةً في رموز حياته وأفكاره، مشيرًا بالتحديد إلى قصة «نشوة» للكاتبة كاترين ماتسفليد، وهي التي نرى فيها البطلة في لحظة الصدمة تنشد العزاء والسلوى في إيمانها بذاتها وبالطبيعة ممثلة في شجرة الكمثرى بالحديقة، ولكن البطل هنا لا يجد في كل ما حوله عزاءً أو تسرية، فهو قد خان (مثلما خانت بطلة نشوة) عندما عاش وهم حب بديل، ولكنه في هذا العالم لا يستطيع أن يمحو آثار تلك الخيانة.
وقد يطول بنا الحديث إذا نحن تعرضنا لكل قصص المجموعة، كما فعل الدكتور نعيم عطية في مقدمته الممتازة لها، ولكنني أحببت فحسب أن ألقي الضوء على منهجٍ جديد في كتابة القصة القصيرة، يضع الكاتب ماهر شفيق فريد في مصاف أرباب الحداثة الحقيقية، حيث يحكم استخدام اللغة العربية، ويتفنن في ابتداع الأساليب الفنية لكتابة النثر الشعري الجديد، وحيث يعلم المبتدئين درسًا في الانتماء إلى التراث العالمي مع صدق الرؤية الذي يؤكد الصدق الفني.