الملحق الثاني
(١) الخيال الرومانسي١
مؤلف هذا الكتاب هو السير موريس باورا أستاذ الشعر بجامعة أكسفورد، والدارس المتعمق للأدبين اليوناني واللاتيني، وهو يحاول في هذا الكتاب دراسة مفهوم الخيال عند الرومانسيين، والوظيفة التي لعبها في خلق شعرهم ذي السمات الخاصة به، عن طريق التطبيق والتحليل الموضوعي في معظم أبواب الكتاب بعد مقدمةٍ عامة عن تصور الرومانسيين للخيال وكيفية استفادتهم منه.
ويبدأ السير باورا كتابه قائلًا:
«إذا أردنا أن نلتمس خصيصةً واحدة تميز بها الشعراء الرومانسيون الإنجليز عن شعراء القرن الثامن عشر، وجدناها في اهتمامهم الشديد بالخيال، وبمفهومهم الخاص عن تلك الملكة، فشعراء القرن الثامن عشر ونقاده مثل «بوب» والدكتور جونسون ودرايدن قبلهما، لم يكونوا يلقون بالًا إليه أو يلتفتون في حماسٍ إلى الدور الذي يلعبه في الشعر، وإنما كانوا يتحدثون عنه في تحفظٍ وعلى شريطة أن يخضع دائمًا لما أسموه الحكم (بمعنى العقل أو المنطق)، وهم يعجبون باللجوء إلى الصور الفنية في الشعر، ولكن هذه أيضًا لم تكن تعني أكثر من الانطباعات البصرية أو الاستعارات، وهم يميلون إلى معالجة التجارب الإنسانية العامة التي يشترك فيها الجميع، ولا يحتفلون بالأهواء الشخصية أو النزوات الفردية التي يشتط الخيال في البعد بها عن الواقع، فالجانب المألوف من الحياة، وصدق تصويره يحتلان المكان الأول في شعرهم.»
أما الرومانسيون فكانوا كلفين بالغريب والغامض من تجارب البشر، كانت الرحلات التي تضرب في أشد البقاع غرابةً وغموضًا تستهوي أفئدتهم وتلهب أخيلتهم، حتى انعكس ذلك في حياتهم وشعرهم بصورةٍ لم يسبق لها مثيل في الشعر الإنجليزي، ونحن إذا تأملنا شعر «وليم بليك» و«كولريدج»، و«وردزورث» و«شلي» و«كيتس»، وجدنا اتفاقًا يكاد يكون تامًّا حول مفهوم الخيال، والدور الذي يلعبه في الشعر، رغم الفروق الجوهرية التي تميز كلًّا منهم عن صاحبه، ويعزو السير «باورا» ذلك إلى عاملين: أولهما الإيمان الكبير بالنفس البشرية وفرديتها، وثانيهما الإيمان بقدرة الشاعر على الخلق، وبأن هذا الخلق يجب أن ينبع من باطن النفس، ويكتشف أغوارها.
وقد قوي إيمان الرومانسيين بالخيال نتيجةً لعوامل أخرى دينية وميتافيزيقية، فالفلسفة الإنجليزية ظلت قرنًا كاملًا خاضعةً لتأثير نظريات «جون لوك»، الذي قال إن الإدراك العقلي سلبي تمامًا، أي مجرد تسجيل للانطباعات الخارجية، فالذهن في نظره «مراقبٌ كسول للعالم الخارجي»، وكان منهجه ملائمًا لعصرٍ غلب فيه التأمل العلمي الذي كان نيوتن أصدق من يمثله، فالتفسير الآلي الذي قدمه الفلاسفة والعلماء للعالم يعني أن أحدًا لم يكن يهتم بالنفس الإنسانية، وخاصة بعقائدها الغريزية التي لا تقل خطرًا عن قضاياها المنطقية، وهكذا رأينا «لوك» و«نيوتن» يقرران وجود إله في كونيهما، فيقرر الأول وجود الإله لأن «الطبيعة بكل ما فيها من دقةٍ وإتقان تشهد بكفاية على وجود رب»، ويقرر نيوتن ذلك استنادًا إلى أن آلة الكون الضخمة تقطع بوجود محرك لها! ولكن الرومانسيين لم يكونوا يكتفون بهذا من الدين، فإيمانهم ينبع أساسًا من إحساسهم، ومن تجربتهم، وهكذا كان عليهم أن يبحثوا عنه في ذواتهم قبل أن ينشدوا تبريرًا منطقيًّا لوجوده.
ومن هذا الإيمان بالدين النابع من الذات، نشأ إيمانٌ بقدرة هذه الذات على الخلق الذي لا بد أن يتوسل بالخيال، فهذه الملكة وحدها قادرة على التحرر من المنطق التقليدي، والتهويم في أكوانٍ جديدة بحثًا عن الخلود، وحينما نبذ الرومانسيون التفسيرات التي قدمها لوك ونيوتن عن العالم المحسوس، كانوا يلبون نداءً داخليًّا يهيب بهم أن يرتادوا عالم الروح ارتيادًا أعمق وأشمل، فكلٌّ منهم يؤمن بوجود عالم مختلف عما نراه ونعرفه، وكان هذا العالم مقصدهم الذي ينشدون، ولقد أرادوا أن يتغلغلوا إلى الحقيقة الخالدة، فيكشفوا أسرارها، كي يفهموا معناها وقيمتها، إن النفس البشرية لتعيش ألف حياة في لحظةٍ واحدة من الانفعال، ومهما بلغ المنطق من حدةٍ فلن يستطيع تفسير ما يحدث داخل صدر الإنسان …
وإذن فقد كان الإيمان بالإنسان وفرديته إلى جانب الإيمان بالله الموجود في داخله حافزًا دفع الرومانسيين إلى طرح التفسيرات المنطقية الآلية، والبحث عن منهلٍ لا ينضب من الخيال، يستطيعون أن يردوه في ثقةٍ، فيطفئ غلتهم، ويفسر لهم ألغاز الكون، الذي كان دائمًا داخل نفوسهم، فالخيال خلاق … والخلق من صفات الله … ومن يمارس الخلق يقترب من الله، ومن يدري، فقد يعرفه … يقول بليك: «إن عالم الخيال هو عالم الخلود، إنه الصدر المقدس الذي سيضمنا بعد أن يفنى الجسد … إن في ذلك العالم الحقائق الخالدة لكل شيءٍ ينعكس وجوده في مرآة الطبيعة … ولا يمكن أن ندرك هذه جميعًا في صورها الخالدة إلا إذا توسلنا بالخيال الإنساني.» ويقول كولريدج: «وإذا لم يكن العقل سلبيًّا، وإذا كان قد خلق حقًّا في صورة الله، وهذه في أجل معانيها صورة الخالق، فإن أي منهجٍ يقوم على سلبية العقل منهج زائف.»
ولا يخفى بطبيعة الحال تأثير الفلسفة الألمانية على كولريدج، فهو لا ينكر أنه قرأ «كانط» و«شلنج»، ولكن كولريدج كان يركن أيضًا إلى عقائده الغريزية وإحساساته، فكونه شاعرًا أولًا ومفكرًا ميتافيزيقيًّا ثانيًا جعله ينتهي دون اعتمادٍ على فلسفةٍ خارجية إلى تصورٍ لعالم الروح مستمد من إحساسٍ عميق بالحياة الباطنية للناس والأشياء، ومن إيمانه بأن الخيال الذي يتوسل بالحدس، أفضل من المنطق التحليلي في اكتشاف حقائق الأشياء؛ إذ إن الحدس في هذه الحالة سوف يتخطى العقل والحواس جميعًا، ويخرج بالإنسان إلى عوالم قد لا تكون معقولة، وقد لا تكون ممكنة الوجود، وقد يكون بنيانها غير مندرج تحت الأنماط التقليدية للحواس الخمس، ولكنها مع ذلك عوالم تجسد في غرابتها وغموضها عالم الروح الزاخر بشتى المشاعر، التي قد تستعصي على الإدراك والفهم والتعبير إلا بهذا السبيل.
ولكن كيف يكون ذلك؟ إن العقل الذي يصور ويتلقى عند الفنان والمتذوق يجمد المشاعر في قوالب ثابتة، ويحدد أنماطها في صورٍ تقليدية فلا يفسح المجال لأشكالٍ جديدة منها أو صورٍ مركبة تكسر هذه الأنماط وتفتتها … أما عوالم الخيال التي يخلقها التهويم فهي وحدها قادرة على ذلك؛ إذ إنها تنسرح بحواسنا بعيدًا عن عالمنا المألوف، وتدخل بنا في أجواء شبه أسطورية، حافلة بدلالات الرمز ودلالات الإيحاء، وحيث يكتسب كل شيء دلالاتٍ مختلفة من دلالاته في عالم العقل والمنطق.
إن عوالم التهويم تشبه الأحلام، وهذه المنطقة الغنية من مناطق الشعور قد تعرضت لرحلاتٍ رائدة بعيدة المدى من جانب كولريدج وغيره من الشعراء الرومانسيين … إذ إن تكسُّر حدود الزمان والمكان فيها، وبروز تكوينات غريبة جديدة، وتحررها من قيود التفكير التقليدي، كل ذلك يجعل المرء يعيش في دنيا مختلفة تمامًا عن دنياه، ويتذوق أنماطًا من الخيال لا توجد في حياته اليومية، ويجرب أحاسيس لا عهد له بها من قبل، فيثرى ثراءً من لونٍ جديد.
ونحن نرى أن وليم بليك قد سبق الرومانسيين جميعًا إلى ارتياد هذا العالم، فبدأ باللجوء إلى الرمز والتجريد، وخلق عوالم غريبة مختلطة الدلالات … فهو يصور قوى الشر المتربصة بالإنسان، دونما تحديد لكُنهها، أو وقوف على تفصيلاتها الزمانية والمكانية، وإنما يخلق رمزًا خاصًّا قد يوجد في واقع الحياة وقد لا يوجد … ويجسد فيه تصويره الخاص لهذا الشر الذي يحس في الإنسان وخارجه …
والغموض الذي يميز القصيدة هو ما خلقت من أجله … فإن جمع تلك الصور هذا الجمع الغريب هو الذي يثير في النفس أحاسيس جديدة، ما كانت لتثار لو اتبع الشاعر المنطق أو لجأ إلى التحليل العقلي التقليدي.
وقد يلجأ «بليك» حقًّا إلى رسم صور «معقولة»، ولكنها حتى في «معقوليتها» لا تقف عند دلالتها الظاهرة، وإنما تتجاوزها لترمز إلى تجارب عديدة منوعة، مكتسبةً بهذا بناءً رمزيًّا يوحي ولا يقف عند حدود الصور الحسية:
يقول السير باورا: «إذا سألتنا عن معنى القصيدة، فسوف نقول إنها تعني ما تعنيه، وهذا واضحٌ كل الوضوح، إنها ترسم صورة وردة هاجمتها دودةٌ في ليلةٍ عاصفة، وبليك يشرح هذا تمامًا في قصيدته، ولكنها، شأن سواها من القصائد الرمزية، تتيح لنا أن نقرأ فيها معاني أخرى وتحمل صورها أثقال ارتباطات ثانوية، فيمكن أن نقول مثلًا إنها تشير إلى تدمير الأنانية للحب، وتدمير التجربة للبراءة، وتدمير الموت الروحي للحياة الروحية، حقًّا، إنها قادرةٌ على احتمال كل هذه المعاني، ومن حقنا أن نستشف فيها كل هذه الدلالات، ولكن المعنى الأخير للقصيدة يظل دائمًا داخل القصيدة نفسها، ويظل يتذبذب في اختلافٍ شديد من ذهن قارئ إلى ذهن سواه، فإن ارتفاع الرمز فوق مستوى الواقع هنا يفسح الطريق للإيحاء التجريدي الذي يكاد يكون مطلقًا.»
وأعتقد أن السير موريس باورا كان من الممكن أن يجد في شعر وردزورث أكثر من مكانٍ يلعب فيه الخيال الدور الرئيسي، ولكنه فيما يبدو طرق المسلك الممهد، ولم يأتِ قطعًا بجديدٍ في «تحليله» لهذه القصيدة، فهو يعلق على هذه الفقرة:
فيقول:
«لم يكن وردزورث بالرجل الذي يدرج الأفكار في شعره لمجرد ملاءمتها له، كما لم يكن ليقول في الشعر ما لا يستطيع أن يؤمن به في حياته الشخصية، فإذا قال شيئًا فهو قطعًا يؤمن بصدقه وبأنه الحق وأنه لا بد من قوله، ومن المستحيل أن يقرأ المرء هذه القصيدة ثم لا يرى أن وردزورث كان مقتنعًا (حين كتبها) بنظرية الوجود السابق على الحياة الأرضية، في عالمٍ من المثل أو الأفكار، وأن الطفل يسترجع صورًا من هذا الوجود السابق في طفولته المبكرة.
إن نظرية التذكر في الطفولة أو الاسترجاع تعود إلى أفلاطون، ولكن وردزورث لم يستقِ هذه النظرية منه، ولم يطبقها بالصورة التي اتبعها أفلاطون … فقد استمدها من كولريدج وهنري فون …»
وهكذا … فإن السير باورا، على ما يبدو، قد نسي ما انتوى أن يفعله حين تعرض لدور الخيال في الشعر الرومانسي، وانساق كغيره في تيار التفسيرات الحياتية والفلسفية للقصيدة …
أقول إنه كان يجدر بمن يتعرض للخيال الرومانسي أن يتناول هذا الحلم، فهو مرتبطٌ بمفهومات الرومانسيين جميعًا عن الحرية والانطلاق، ودلالة البحر لديهم، وارتباطه بالخرافة والأحلام، واتصال الأسطورة بالواقع بل اندماجها فيه، وهو لب الموضوع الذي يعالجه باورا.
فالسير موريس باورا يتعرض لقصيدة كولريدج «الملاح الهرم»، وهي قصيدة تجسد ما نعينه بارتباط الخرافة بالواقع، بل هي المثل الصادق للعوالم الغريبة البعيدة التي يخلقها الخيال الرومانسي، ويتوسل بها لكي يستحدث تجارب غير مألوفة، يشكلها من مواد تقع في نطاق الحواس، ولكنها تتخذ صورًا خاصة عجيبة تضيف إلى عالم الجمال الذي نعرفه مشاعر جمالية غير مألوفة.
وتحكي القصيدة قصة ملاح اقترف إثمًا بقتله طائرًا مسالمًا، وكيف كفَّر عن خطيئته بأن تعرض لعذابٍ أليم في البحر، تاه فيه وقتًا طويلًا، ثم قبل الله توبته بعد أن أخلص فيها وعاد إليه الإيمان الحقيقي بالله، وهو حب كل ما خلق الله، وعدم إيذاء أي من الكائنات كبيرها وصغيرها.
وتبدأ القصيدة بأن يقابل الملاح الهرم ثلاثة فتيان متوجهين إلى حفل زفاف، فيستوقف أحدهم ويقص عليه كيف أبحرت السفينة، وكيف ضلت الطريق في القطب الجنوبي، وأحاط بها الجليد من كل مكانٍ وغدا لذع البرد قارسًا …
وهكذا يقترف الملاح الخطيئة، ويبدأ في التعرض لكفارةٍ مريرة حتى يغفر الله له ذنبه، ولكن جوهر الصورة في هذه القصيدة كما يقول الشاعر و. ﻫ. أودن هو أن الملاح قتل الطائر بإرادته الفردية، أي إنه تحمل الوزر كاملًا، وعلى هذا يستطيع أن يتوب؛ لأنه فردٌ مستقل والله لا يعترف إلا بالأفراد، أما الملاحون رفقاء رحلته، فلم يتخذوا من هذه الجريرة مواقف فردية تتفق وكلًّا منهم، وإنما تصرفوا تصرفًا جماعيًّا، تصرفوا بصورة حشد لا إرادة له، وإنما يُساق كالقطيع وراء من يقوده …
وبطبيعة الحال يبدأ السير باورا بإيضاح الأصل الحيوي للقصيدة، ما مصدرها وكيف جاءت الفكرة إلى الشاعر؟ ثم يبدأ في الحديث عن معالجة الخرافة في الشعر قائلًا: «إن أول مشكلة تواجه الشاعر الذي يتناول الخرافة هي أن يربطها بالتجارب الإنسانية المألوفة، فإذا استطاع أن يبني موضوعه الخرافي من لبناتٍ إنسانية يعرفها البشر ويحسونها، نجح فيما يرمي إليه، ولا ريب في أن الجمهور الذي كان يستمع إلى هومر قد تقبل ظهور شبح والدة «أوديسياس»؛ لأنه كان يؤمن بالأشباح، ويعتقد أن الأشباح لا بد أن تظهر على هذه الصورة وتتصرف بهذه الطريقة، أما كولريدج فلم يعتمد على استجابة جمهور قرائه للخرافة، وإنما وجد أن عليه أن يربطها بشيءٍ يعرفونه ويفهمونه، شيء يلمس أفئدتهم وخيالهم، وكان ذلك الشيء هو خصائص الحلم، وكل ما في الأحلام من غموض … فهو يتوسل بجو الأحلام حتى يهيئنا للدخول في عالمه الخاص، وبعد ذلك يبدأ في خلق ما يريده في إطار الحدود التي رسمها، ونقل الغموض الذي يبغيه عن طريق المشاهد الحسية الواقعية.»
ويقول باورا: «إن معظمنا حين يقرأ «الملاح الهرم» يستجيب إلى سحرها، دون أن يتساءل عن أية أهداف لها خارجة عنها، وعن الدلالة الرمزية لأي شيءٍ فيها؛ إذ إنها تعيش في وجداننا بحيويةٍ بالغة تصدنا عن طرح أسئلة منطقية حول أي مشكلةٍ فيها.» وبعد مناقشة الجزء الأول من القصيدة يمضي باورا في شرح مفهوم الرمز عند كولريدج، وعلى ضوئه يفسر كثيرًا من رموز هذه القصيدة، فالملاح الهرم لا يتوب لأنه تعذب عذابًا أليمًا فحسب، وإنما لأنه أحس بجمال الطبيعة حتى في الليل البهيم (الذي يمثل وحدة النفس البشرية وظلامها) ولأنه استأنس بكائناتٍ حية «مؤمنة»، فأحس بتجاوبٍ معها واتصلت روحه بروحها.
ولكن الملاح، لأنه فردٌ مستقل، لم ينتظر الرحمة من السماء، وإنما جاءته الرحمة من داخله حين أحب، أحب ثعابين الماء! وشعر بجمالها وحياتها في الأعماق …
والسير موريس باورا يعلق على القصيدة تعليقاتٍ تتناول معظم مظاهرها، وإن كان يترك الكثير لذهن القارئ … مثلما يفعل في باقي فصول الكتاب … فهو يتناول قصائد كثيرة لشعراء رومانسيين، ولكنه دائمًا لا يقول كل شيء … وإنما يدور حول فكرةٍ واحدة يرددها ألف مرة في كل سطرٍ وكل جملة، وإذا كان لنا أن نعلق على لغة الكتاب فلا بد أن نذكر ذلك الإسهاب الكثير والإطناب الممل، ولعل السبب في هذا يرجع إلى أن للكتاب مجموعة محاضرات ألقاها على طلبته في أكسفورد، والتكرار له مزايا كثيرة … كما يعلم كل طالبٍ وكل من كان طالبًا.
(٢) الشعراء الرومانسيون الإنجليز
يضم هذا الكتاب مقالاتٍ حديثة عن كبار شعراء الإنجليز في «العصر الرومانسي» كما يسميه محرر الكتاب، ويمتاز الكتاب بأنه يعرض معظم وجهات النظر النقدية تجاه الشعر الرومانسي بصورةٍ عامة، بل إن فيه مقالات تتعارض في المنهج الذي تتبعه والحقائق التي تقدمها تعارضًا أساسيًّا وجوهريًّا، ولكنها مع ذلك لا تختلف في أنها محاولات صادقة، علمية على الأقل، ترمي أولًا وأخيرًا إلى إلقاء الضوء دون فرض رأي خاص لأحد الكتاب.
وينقسم الكتاب إلى سبعة فصول: الأول يتناول العصر الرومانسي بصورةٍ عامة ويشتمل على ثلاث مقالات، الأولى بعنوان «في التفريق بين الاتجاهات الرومانسية» بقلم «أرثر لفجوي»، والثانية بعنوان «تركيب الصور الفنية للطبيعة في الشعر الرومانسي» بقلم «ماير ﻫ. إبرامز»، وهو الذي تولى تحرير الكتاب ونشره، وهذه المقالة هي التي سأحاول عرضها هنا؛ لأنها تمثل طريقة الأستاذ إبرامز في التحليل وتمثل اتجاهًا جديدًا في معالجة الصور الفنية عمومًا، وفي الشعر الرومانسي بصفةٍ خاصة، ولم يكد يسبقه إلى هذا المنهج سوى الشاعر الإنجليزي (الأمريكي الأصل) و. ﻫ. أودن في كتابه «الطوفان الجارف»، والذي درس فيه صورة البحر فقط كما استعملها الشعراء الرومانسيون.
ويشتمل الفصل الثاني على ثلاث مقالاتٍ تتناول «وليم بليك»، ثم تطالعنا أربع مقالاتٍ رائعة في الفصل الثالث عن «وليم وردزورث»، ثم مقالات عن كولريدج في الفصل الرابع، فثلاث أخرى عن بيرون في الفصل الخامس، منها مقالة ت. س. إليوت الشهيرة، التي كان قد نشرها من قبل في كتابه «نفع الشعر والنقد»، ثم أربع مقالاتٍ عن شلي في الفصل السادس، أما كيتس، فيبدو أنه على ضآلة إنتاجه الشعري لا يزال يستأثر بأكبر قدرٍ من الآراء المتضاربة حول مذهبه في الكتابة وأسلوبه وفلسفته وأفكاره العامة، ففي الفصل السابع نراه يستأثر بخمس مقالاتٍ تتفق قليلًا وتختلف كثيرًا في منهجها والحقائق التي تقدمها.
يبدأ إبرامز مقالته بالإشارة إلى ملاحظةٍ أبداها أحد كتاب العصر الرومانسي المتأخرين، وأشار فيها أول إشارة إلى هذه الصورة، صورة النسيم المتجاوب، يقول:
«كتب هنري تايلور عام ١٨٣٤م يقول إن الهجوم الذي شنه وردزورث على لغة الشعر في القرن الثامن عشر قد نجح في أن يجعل الشعر، في بعض خصائصه، قريبًا من لغة الحديث المنطوقة، ولكن لغة شعرية جديدة قد حلت في الواقع وبصورةٍ خفية محل لغة الشعر القديمة، ثم يسخر من هجوم الرومانسيين على اللغة الخاصة بالشعر في القرن الثامن عشر، قائلًا إنهم لم يقتصروا على اصطناع لغتهم الجديدة تلك، وإنما حشوها بألفاظٍ تقليدية وعباراتٍ شاعت بينهم وانتثرت في حنايا شعرهم بطريقةٍ تدل على أنهم لم يكونوا يحسون بدلالتها الحقيقية مثل كلمة «طليق» و«ساطع» و«وحيد» و«حلم»، وخاصةً الأشكال اللغوية المختلفة لكلمة «يتنفس» أو «التنفس»، ويضيف تايلور قائلًا إن فعل يتنفس قد أصبح «كلمةً شعرية يمكن أن تدل على أي شيءٍ إلا التنفس».»
ويعلق إبرامز على ذلك قائلًا إن «التنفس» مجرد مظهر واحد من مظاهر تيار عريض ساد الشعر الرومانسي، وهو «حركة الهواء» بصفةٍ عامة سواء كان ذلك نسيمًا أو أنفاسًا، رياحًا أو شهيقًا أو زفيرًا، وسواء كان الدافع على «حركة الهواء» قوى الطبيعة أو رئتي الإنسان، وكيف نتجاهل أن يكون شعر كولريدج، وردزورث، وشلي بيرون زاخرًا بالعواصف التي تهب عليه من كل جانب؟! ألا يدهشنا ألا تكون الرياح سمة من سمات المنظر الطبيعي فحسب، وإنما تكون عاملًا يؤثر أشد الأثر في نفس الشاعر وتفكيره؟! إن الريح الهابة التي ترتبط عادةً بانتقال الطبيعة من الشتاء إلى الربيع تصحبها عملية ذاتية معقدة، وهي الإحساس بعودة الاتصال بعد العزلة، وتجدد الحياة والتفجر العاطفي بعد موت المشاعر والخمود، بل وترمز إلى انطلاق القوة الخلاقة بعد فترةٍ من عقم الخيال.
ونجد في قصيدة «كولريدج» التي سماها «الحزن» أول مثل على هذه المعادلة الرمزية، فالشاعر يبدأ تأمل موضوعه في أبريل الشهر الذي يصبح، كما هو في قصيدة ت. س. إليوت «الأرض الخراب»، أقسى الشهور؛ لأنه حينما يخرج الحياة من الأرض الميتة، يجدد الحياة العاطفية في قلب المشاهد ويمزج الذكرى بالرغبة فيؤلمه ويوجعه.
وحالما تبدأ القصيدة تداعب آذاننا أصوات نسيم خافت النبرات، تنبعث من مزمارٍ حزين، تتردد ذبذبات ألحانه الغريبة في معظم القصائد التي نحن بصددها، فهذا المزمار النائح ينبئ عن قرب هبوب عاصفة ينتظرها شاعرنا، آملًا أن توقظه من سباته، ثم تطير بروحه وتخلق، وتحرر.
وبينما يأخذ الشاعر في استعراض الأحزان التي قطعت عليه كل سبيلٍ للاتصال العاطفي بالحياة، وشلت ملكاته الشعرية و«روح خياله الخلاقة»، تهب الرياح من كل جانبٍ وتزداد شدة حتى تمسي عاصفةً تهطل بالأمطار الغزيرة، وتبعث من المزمار موسيقى صاخبة، وسرعان ما نجد صدى العاصفة الطبيعية يتردد في نفس الشاعر؛ إذ تصاحب أنغام المزمار عاطفةٌ حية متزايدة الشدة، يسميها الشاعر «الحياة والعاطفة التي تتفجر في داخله»، ولا تسكن هذه العاصفة الداخلية حتى تهب الريح في الخارج، فتدور القصيدة دورتها وتعود إلى حيث بدأت هادئة ناعمة، على حين يكون الشاعر قد انتقل من هدوء الجدب العاطفي إلى هدوء القلب الذي ارتوى فسكن.
وتشير خطابات «كولريدج» إلى أن هذه القصيدة قائمة على تجربةٍ واقعية، فخطاباته تدل على المتعة التي كان يجدها في تأمله الريح والعواصف، وتشهد كيف كان يرقبها «بإحساسٍ غامر وعبارة عميقة، وإدراك للرابط الخالد الذي يشد قوتها إلى قوته» كان يسير في ظلها، كما يقول، «مبهورًا … وقد غلبني حزن لا تسبر أغواره …» ويقول:
«لم يحدث يومًا أن شعرت بالوحدة وأنا أسير في أحضان الصخور والتلال … فإذا مشيت في طريقٍ جبلي أحسست أن روحي تعدو وتنطلق وتحلق ثم تعود كأنها ورقة تتقاذفها رياح الخريف، لكم يتملكني نشاط طليق النزعات … في الفكر والخيال والأحاسيس ونزوات العاطفة … يهب كأنه ريحٌ عاتية في قرارة نفسي، تتجه إلى أمكنةٍ لا يعرفها البشر، وتنبثق من منابع لا أدري مكانها، ولكنها تهز كياني كله …»
ولا يختلف وردزورث عن صديقه كولريدج في هذا الموقف، تقول أخته دوروثي: «إن رياح الشتاء متعته وبهجته، وأعتقد أن خصب ذهنه لا ينبع إلا في هذا الفصل من العام»، فإذا تفحصنا قصيدته الطويلة «المقدمة» التي يسرد فيها تاريخ حياته، وجدنا شواهد لا تحصى على هذه النزعة؛ إذ من البداية إلى النهاية، تحس أن الريح التي تهب وتسكن ثم تعود إلى الهبوب خيطٌ يشتبك في نسجها كله، ويرمز إلى التأثير المتبادل بين الحركة الخارجية في الطبيعة، والقوى الداخلية في الإنسان، بل إن هذا الخيط هو العنصر الذي يضم خيوط الصور الفرعية، ويمتد كالتيار الجارف في كل جزءٍ منها، دون أن يتقيد بزمانٍ أو مكان.
وإذا كان قدامى الشعراء ينشدون الإلهام من ربته، فإن وردزورث يستوحي النسيم في بداية هذه القصيدة! يقول «ملتون» في بداية «الفردوس المفقود»:
أما وردزورث، فيبدأ «المقدمة» قائلًا:
إن شاعرنا الرومانسي لا «يعرف» آلهة الشعر، وإنما يحس بأنفاس الحياة فيستلهمها فنه، وهو كما نعرف لم يكن يجلس في حجرةٍ ليكتب شعره أو يمليه على بناته كما كان يفعل ملتون، وإنما كان يقوله أو يرتجله، إذا جاز هذا التعبير هنا وهو سائرٌ في الهواء الطليق، أي وهو أقرب إلى الإله الحي في الطبيعة، الذي ينفث فيه من روحه … أنسامًا مباركة! لقد تحرر من المدينة ومن أثقال الماضي التي ترين على قلبه … فقال: «لقد عدت أتنفس من جديد.» فالطبيعة أيضًا تتنفس … وهو يصور الرياح في صورة المقابل الخارجي للبعث الروحي في قلبه، ذلك القلب الذي عاد إليه الربيع بعد فصل الشتاء، وهي تقابل أيضًا بعث الإلهام الشعري في ذهنه، فإذا به يماثل بين هذا النسيم وبين وحي الأنبياء إذ تمسهم روح القدس، بل إن ثمة تقابلًا استعاريًّا عابرًا بين الخلق الشعري وخلق الكون في صورته البدائية الأولية حينما نطق الله بالكلمة … «فالطبيعة نفسها» كما يقول وردزورث «هي أنفاس الإله».
وهكذا إذا تتبعنا وصف «وردزورث» لانهياره النفسي في «المقدمة»، وجدناه يماثل الفقرات التي يتعرض فيها «كولريدج» لحياته الشخصية في قصيدته «الحزن»؛ إذ نراه يعبر عن شفائه بمخاطبة النسيم المتجاوب معه:
ويقول: «لقد عاد الربيع … لقد رأيت الربيع يعود!» بل إنه يصور تأثير أخته «دوروثي» عليه في صورة نسيم ربيعي منعش:
كما أن معظم عبارات «وردزورث» التقليدية تشير إلى «نسيم الطبيعة الذي يهز روحه» أو إلى «الرياح التي تهب عليه من حقول لم تزل نائمة» أو تراه يصغي إلى أصوات:
أو يؤكد أن:
وإذا كنا لا نزال نذكر الحلم الذي رآه «وردزورث» ورأى فيه البدوي الذي يمتطي ظهر جمله، فلا بد أننا نذكر أيضًا أن قوقعة البدوي كانت «تصدر أصواتًا عاصفة متوافقة الأنغام في طياتها أكثر من نبوءة».
وفي اللحظة التي يلتقي فيها وردزورث مع صديقه كولريدج لكي يقرأ له الأول قصيدته «المقدمة»، نرى مشهدًا فريدًا بين الصديقين، إن كولريدج يعاني من هبوطٍ شديد في روحه المعنوية، بل إنه انقطع تقريبًا في هذا الوقت عن الكتابة، ومضت عليه خمس سنوات، منذ أن كتب قصيدته الحزن، وهو في حالةٍ يرثى لها من الكآبة والضيق، وأخذ «وردزورث» يقرأ في مهل قصيدته، بينما أخذ كولردج يصغي في صمت، وقد تملكه صوت الشاعر كأنه «ريحٌ هابَّة تصافح روحه الخاملة، بعد أن كاد أملها أن يذوي»، فأيقظها يقظةً مؤلمة؛ إذ أحس «الأنفاس الحية الخفية تتسرب إلى نفسي كأنها روح النمو الربيعي …» فكتب قصيدةً إلى وليم وردزورث يصور شعوره فيها قائلًا:
ويستمر الدكتور إبرامز في تعديد الشواهد الشعرية المشابهة، ثم يمر مر الكرام على بيرون قائلًا إنه يسير في نفس الاتجاه «إذ إن تشايلد هارولد وجد روحه تشارك عنف العاصفة الألبية»، وصور التوازي بين حالته النفسية وبينها، حين انفجر الشعر في رأسه في تلك اللحظة، ويشير إلى دي كوينسي قائلًا: حينما كان دي كوينسي طفلًا في السادسة تسلل سرًّا ووقف إلى جانب سرير أخته الحبيبة التي كانت تحتضر «فبدأت ريحٌ رزينة في الهبوب، في حين سمعت أذنه هذه الأنغام الهوائية البعيدة»، وتحولت عينه من «النضج الذهبي للحياة في الخارج في ظهر أحد أيام الصيف»، لكي «تستقر على الصقيع الذي انتثر على وجه أختي … وفي الحال تملكتني غيبوبة … وخيل إلي أن روحي ترتفع في الهواء كأنما تعلو بها أنسام هابة.»
ولا يقف المؤلف طويلًا عند شلي وإنما يشير إليه أيضًا في إيجازٍ قائلًا إن أشهر قصيدة كتبها شلي موجهة مباشرة إلى الريح في صورة من يطلب الإلهام ويلتمس الغفران، في الفقرات الأولى من القصيدة نجد «الرياح الغربية الضارية» مدمرة للحياة حافظة لها في الوقت نفسه؛ إذ إنها في الخريف تنتزع الأوراق العجفاء وتمزقها وتحطم البذور، لكي تهب في فصلٍ قادم رياحٌ غريبة من لونٍ آخر «أختك الزرقاء التي تهب في الربيع»، فتنفخ بوق البعث، وتعيد الحياة إلى البذور، وتدعو البراعم إلى الطعام كأنها قطعان الأغنام … وما طعامها هنا إلا الريح نفسها التي تهزها وتبعث فيها الحياة … وفي الفقرة الأخيرة نرى شلي يصيح طالبًا من الريح أن تهب عليه في خريف روحه، بل أن تهب فيه وتنفخ فيه من روحها، كأنها مزمارٌ أو قيثارة هوائية … «فلأكن قيثارتك مثلما جعلت الغابة قيثارتك»، يطلب منها أيضًا أن تسوق الأوراق الذابلة في أفكاره الميتة، وتذروها على الكون «حتى تسرع بالميلاد الجديد»، وفي قمة القصيدة حيث تنفخ الريح العاصفة بوق الفناء والبعث تصل المقارنة إلى ذروتها بين تأثير الريح على الأرض التي لم تستيقظ بعد، واستلهام المنشد للشعر، وربيع الروح الإنسانية في كل مكان:
ونجد الريح عند شلي في مواضع أخرى كثيرة مثيرة للإلهام ورمزًا له، في مقالاته النثرية وقصائده على حدٍّ سواء، تبدأ قصيدة «الأستور» بطلب الإلهام من «أم العالم الذي لا يسبر له غور».
أما ختام قصائده عمومًا فهو دائمًا مزيجٌ من الريح الحقيقية والريح المجازية، بل مزيجٌ من الأمل واليأس، والتحول الدائم من السكون إلى الحركة ومن الحركة إلى السكون:
وعلى نفس الصورة نجد أن آلهة الريح في أساطير اليونان والرومان، تبدو مدمرة لا بد من إرضائها وتقديم القرابين لها، وهي مع ذلك، وبخاصة الرياح الغربية «زفيروس» أو «فافونيوس» طالما تعزى إليها قوة الإحياء والإخصاب، وهذه حقيقة لم تفت مؤلفي دوائر المعارف في العصور الوسطى، كما أشار إليها تشوسر أيضًا.
وبعد أن يستعرض المؤلف جذور هذه العلاقة في الديانات السماوية وسواها، ويستعرض جذورها فلسفات اليونان والرومان والجماعات البدائية، يتساءل قائلًا: ويحق لنا الآن أن نسأل هذا السؤال … ماذا يمكننا أن نفهم من ظاهرة «النسيم المتجاوب» في الشعر الرومانسي؟ إن الإجابة تبدو واضحة للغاية في هذه الأيام، وقد يبدو من الغريب أن أرفض طويلًا أن أسمي الريح «صورة فطرية»، وقد كان يمكن ألا أتردد في استعمال هذا اللفظ السهل إذا كان ما بين أيدينا مجرد التوحيد بين رمزٍ مادي وبين حالةٍ نفسية … إذ إن اصطلاح «صورة فطرية» كما هو مستعمل الآن في النقد الحديث، يوحي بدلالاتٍ لا نريدها هنا، فمثلًا حتى نشرح أصل أو منشأ صورة الريح كرمزٍ للحياة الباطنة في الإنسان والأشياء، يكفي أن نشير إلى طبيعة الإنسان التي فطره الله عليها وإلى بيئته العامة، فكون الأنفاس والريح مظهرين لشيءٍ واحد هو حركة الهواء، وكون التنفس دليلًا على الحياة وتوقفه دليلًا على الموت، أمورٌ يلاحظها الإنسان العادي مثلما نبصر الشهيق والزفير، واليأس والفرح، والنشاط والخمول، والميلاد والوفاة في الإيقاعات الدائمة للطبيعة من سكونٍ وعاصفة، وجفاف وأمطار، وشتاء وربيع، وإذن، فإذا كانت هناك علاقة بين تجربةٍ داخلية عامة، وبين شبيه لها في عالم الطبيعة، أصبح من السهل أن تشيع في تراث البشر البدائي ويتضمنها أدب الإنسان الشائع المكتوب منه والمشفوه، ولا أعتقد أن بنا حاجةً إلى أن نفترض مثلما يفعل «يونج» أن الصورة الفنية، بعد أن تؤثر في جهازنا العصبي تتسرب إلى الباطن، ثم تظهر بصورةٍ متقطعة من لا شعورنا البشري، ولكننا بطبيعة الحال إذا أحطنا الصورة الفطرية بسياجٍ من الحياد التام، أي إذا نبذنا كل إشاراتٍ غامضة إلى «الصورة البدائية» أو إلى «الذاكرة البشرية» أو إلى «الأعماق الخارجية عن حدود الزمان»، وجدنا أن نقد الصور الفطرية سوف ينبع مثلما يعتمد أساسًا على الاستجابة الإنسانية العامة لهذه الصور في كل زمانٍ ومكان.
وبالنسبة للنقد الأدبي نجد أن الرأي الأخير لا يتقيد بمقدار تبرير الظاهرة تبريرًا نفسيًّا، وإنما يحتكم دائمًا إلى قدرتها على تفسير أحد النصوص، واستنادًا إلى هذا الرأي يمكننا أن نتهم النقد الدائم على أساس نظريات الصور الفطرية، بأنه نقدٌ يشوه إن لم يحطم خصائص الأعمال الأدبية التي يشرحها، فإن القارئ الذي يصر على البصر في الخصائص الفنية الدقيقة للقصيدة وتعديدها، عله يكتشف أنماطًا لمعانٍ بدائية عامة لا يقصدها الشاعر، وهي قطعًا خارجة عن نطاق القصيدة، ثم يعتبر ذلك أهم من القصيدة نفسها، يدمر فردية القصيدة ويهدد بإلغاء كيانها كعملٍ فني … وإذن فإن نتيجة هذه القراءة هي تحطيم التنوع الحافل الذي يتسم به كل عمل فني، وحصره في مفهوم واحد أو في عددٍ محدود جدًّا من المفهومات أو «الأنماط الفطرية»، والذي يمكن أن تشترك فيه أكثر من قصيدة، بل والذي تشترك فيه مظاهر كثيرة غير فنية كالأساطير والأحلام وتهويمات اللاشعور.
أما المقالات الأخرى التي يشملها الكتاب فهي ممتعة حقًّا، ولكن أكثرها إثارة وجدة هي المقالة التي عرضناها، والمقالات الخاصة بوليم وردزورث، وتلك الخاصة بالشاعر جون كيتس، ولا يمكن أن يقال بعد ذلك إلا أنه كتابٌ جدير بالقراءة والتأمل والدراسة.
(٣) وردزورث، تفسيرٌ جديد
هذا الكتاب جديد، ليس بالنسبة لتاريخ صدوره الزمني، ولكن بالنسبة للموقف الذي يتخذه فيه مؤلفه الأستاذ و. ف. بيتسون من شاعرٍ رومانسي مُغرق في رومانسيته، بل يمكن القول بأنه ممثل للتيار الرومانسي بعامة.
ومصدر الجدة في هذا الموقف أنه لا ينحاز إلى مدرسةٍ نقدية بعينها، وإنما يحاول بصورةٍ علمية، ربما لأول مرةٍ بالنسبة لشاعرنا الرومانسي، أن يربط في إصرارٍ ويقين بين الشاعر وشعره، ويؤكد الصلة بين الفن والفنان وضرورة استيعاب هذه الصلة حتى نتمكن من تذوق الإنتاج الفني أيًّا كان.
وأهمية هذا الموقف تنبع من أنه لم يسبق إليه أحدٌ على كثرة ما كتب عن الشاعر «وردزورث»، وعلى كثرة ما قام حوله من جدل.
وهكذا كان كل ما يكتب تقريبًا حتى عشرينيات هذا القرن ملونًا بموقفٍ محدد يمتنع معه البحث العلمي، هذا إذ تجاهلنا انسياق معظم هؤلاء الكتاب وراء المفهومات التقليدية للشعر الرومانسي، فكانوا إما يؤكدون هذه المفهومات أو يضربون في شعابٍ لا تمت لها ولا للحقيقة بسبب، ثم حدث أمرٌ فرح له النقاد وهللوا؛ إذ ظهر أخيرًا أن «وردزورث» كان حين ذهب إلى فرنسا في صدر شبابه ولما يبلغ العشرين، أن ارتبط في علاقةٍ عاطفية عنيفة مع فتاةٍ فرنسية تدعى «آنيت فالون»، وتزوجها «زواجًا طبيعيًّا» دون عقدٍ رسمي، وأنجب منها فتاةً تدعى «كارولين» لم يرها سوى مرة واحدة بعد ذلك، ثم عاش أعوامه الثمانين بعد ذلك دون أن يعرف عنها سوى أقل القليل.
ولخص الأستاذ «إميل لوجوي» هذه الحادثة في كتابٍ صغير الحجم أصدره عام ١٩٢٢م، وإذا كنا نريد أن نتصور أثر هذا الكتاب ومدى تأثير هذه الحادثة التي لم تظهر إلا بعد قرنٍ ونيف، فما علينا إلا أن نقرأ كتاب «هربرت ريد» الذي أصدره عام ١٩٣٠م، وحاول فيه قدر طاقته أن يفسر معظم شعر «وردزورث» في ضوء هذه الحادثة الفرنسية، إن لم يكن قد فسر شعره كله في ضوئها بالفعل!
فالأستاذ «ريد» لم يدخر جهدًا في الاستفادة بهذا الاكتشاف، ولكن المبالغة فيه لم تعد بالخير على شعرٍ تعددت جوانبه وتكاثرت منابعه الحيوية والفنية، ولا بد لنا من الإلمام بها جميعًا، على الأقل في رأي بيتسون، حتى ندرك دلالاته كاملة.
وحينما صدر هذا الكتاب في أول طبعةٍ له عام ١٩٥٤م، كان المؤلف قد وضع نصب عينيه أن يستفيد من كل المواد الحيوية التي أمكنه العثور عليها، والتي اكتشفت أيضًا بعد كل ما اكتشف عن حياة الشاعر، وبدأ في دراسةٍ علمية منهجية رائعة، إن لم تكن فنية خالصة، فهي تساعد طلاب الدراسة الفنية على تحقيق بغيتهم.
ولكن أرباب مدرسة النقد الحديث وخاصة «ت. س. إليوت» و«إدوين ميور»، قاما بهجومٍ شديد على منهج المؤلف في تفسير كثير من شعر وردزورث استنادًا إلى حياته الشخصية، وقرر إليوت أن هذه الحقائق الحيوية لا مكان لها ويجب ألا تتدخل في تذوقنا للشعر، وخاصةً أن المؤلف قد اجتهد أيما اجتهاد في تفسير دور الشعور واللاشعور في بناء كثيرٍ من قصائد «وردزورث»، وبالغ في ذلك، مما دفع البعض مثل «إدوين ميور» إلى اتهامه بالتخريج والتأويل، وبأن الحقائق التي اكتشفها من المواد التي لم تطبع بعد عن حياة الشاعر، لا تكفي للدلالة على صدق التفسيرات التي أوردها.
ولم يرض المؤلف بطبيعة الحال عن هذا الموقف من أصحاب النقد الحديث، وهو الذي كان ينتوي أن «يقدم تفسيرًا جديدًا للشاعر وشعره من وجهة نظر القرن العشرين»، وبعد استفادته من «حركة النقد الجديد التي تستمد كيانها من نظريات ت. س. إليوت»، فكتب مقدمةً للطبعة الثانية عام ١٩٦٠م، يرد فيها على هذا الهجوم، وربما كانت هذه المقدمة من أهم وأمتع مقالات النقد الإنجليزي الحديث، يقول فيها: أما الاعتراضات التي يراها مستر «إدوين ميور» وت. س. إليوت وغيرهما … فيبدو لي أنها تنبع من سوء فهم خطير لطبيعة الشعر الرومانسي الإنجليزي، والوسيلة الوحيدة التي يمكننا بها في الواقع أن نقرأه اليوم، هذا إذا كان يمكن أن يزيد استمتاعنا به على مجرد النشوة الجمالية المؤقتة، فإنه من العبث أن نتناول شعر «وردزورث» كما نتناول شعر «دن» أو «درايدن» أو «عزرا باوند»؛ إذ إن ثمة اختلافًا نوعيًّا دائمًا بين أفضل الشعر الرومانسي، وما كتب قبله وبعده … وهو: إدراك القارئ المستمر وإحساسه بالشاعر نفسه، فنحن، في أفضل قصائدهم، سواء كان المتكلم ممثلًا، أو قاصًّا، أو معلقًا، أو متخفيًا في صورةٍ ما، أو متحدثًا بصفته الشخصية، لا نخطئ أبدًا في التعرف على «وردزورث» بشخصه ووجوده التاريخي، أو «كولريدج» أو «بيرون» أو «شلي» أو «كيتس»، فهو الذي يتحدث إلينا وليس ضمير المتكلم التقليدي أو «أنا» الرمزية.
ونحن إذا نحينا أو تجاهلنا العناصر الحيوية التي تغشى هذا الشعر، أفقرناه وزيفناه.
فمذكرات كولريدج والأفيون الذي كان يتعاطاه، وخطابات كيتس … وغراميات شلي واهتماماته الفلسفية العلمية، تكون جزءًا جوهريًّا من معنى قصائدهم (تمامًا مثلما تكون بلاغة عصر النهضة جزءًا من معنى الشعر الإليزابيثي، ومثل الدور الذي تلعبه الإشارات الاجتماعية في الشعر الأوغسطي)، فأن يجهل المرء أن قصيدة «كانت طيفًا من المرح» تدور حول زوجة وردزورث أو أنه كان قد زار «كنيسة تنترن» قبل خمسة أعوام تقريبًا من كتابته لقصيدته المشهورة «أبياتٌ من الشعر» عن هذه الزيارة، أو ألا يذكر شيئًا عن الظروف التي قام فيها بالزيارة الأولى، معناه قراءة خاطئة للقصيدتين؛ إذ إن ذلك يخرجهما عن سياقهما الإنساني.
ولكن السياق الإنساني للشعر الرومانسي ليس هو نفسه حياة الشعراء الرومانسيين، وهذا التحديد هام … فالترجمة الذاتية الرومانسية ذاتية بصفةٍ أولية، والرموز التي ترجمها الشعراء إلى أعمالٍ فنية شعرية موضوعية، والتي تملأ الآن دواوينهم، كانت قد نبعت أو اكتسبت ألوانها الخاصة في عقولهم الباطنة في «اللاشعور».
فهناك في أعماق هذا اللاشعور الرومانسي نجد الأساس المادي الحقيقي لها، بكل المخاوف والشهوات الحيوانية الأصيلة، تشهد على ذلك عبقرياتهم التي تفتحت وأزهرت في وقتٍ مبكر، وملكاتهم الشعرية التي نضبت في وقتٍ مبكر أيضًا.
وهناك قصيدتان أو ثلاث من القصائد التي كتبها وردزورث عن «لوسي»، تتصف بهذه الصفة (التي تخرج بالقصيدة عن مجرد نطاقها الفني الضيق وتهيئ لنا فرصة الدراسة النفسية) إذ من المحتمل أن وردزورث لم يكن يدرك بعقله الواعي من هي الشخصية الحقيقية المقابلة لشخصية «لوسي» الرمزية، أو ما ترمز إليه، أو ما يرمز إليه موتها المبكر من الناحية اللاشعورية.
وإذا كان التوحيد بين «لوسي» وأخت وردزورث «دوروثي» صحيحًا، أي إذا كان الأصل الحقيقي للوسي الرمزية هو «دوروثي وردزورث» أخت الشاعر، فإن هذا سبب كافٍ يدفع عقل الشاعر الواعي إلى اختيار الجهل بهذه الحقيقة، ونحن لا ننسى ما قاله «دي كوينسي» من أن «وردزورث» كان دائمًا يحتفظ بصمتٍ مريب تجاه موضوع «لوسي» هذا … الذي يشير إليه باستمرار في قصائده …
ولكن القارئ الحديث، تمامًا مثل دي كوينسي، يريد أن يعرف، بل ولا يملك إلا أن يريد أن يعرف، من كانت «لوسي» هذه، هذا إذا كان للقصائد أن تؤدي دورها، كقصائد، بنجاحٍ كامل …
وإذا كان مستر إليوت قد سأل عند قراءة الطبعة الأولى من هذا الكتاب هذا السؤال:
«لماذا نطلب أن يُلقى مزيدٌ من الضوء على قصائد «لوسي»، ولا نكتفي بالضوء الذي تشعه هذه القصائد نفسها؟»
فأنا أجيبه مقتطفًا جملةً قالها بنفسه في سياقٍ آخر عن الدين «إما أن يقدم الدين لنا لونًا من الرضاء الذهني من الناحيتين الشخصية والاجتماعية؛ أو فلا حاجة لنا به على الإطلاق.»
إذا كان هذا صحيحًا في حالة الدين، وأعتقد أنه صحيح، فإنه يصدق بصورةٍ أشد في عصرنا الحالي عن الشعر «الذي يجسد أيضًا بعضًا من أنقى آمال الإنسان.»
وإذا كان لنا أن نستمر في طلبنا لشعر وردزورث فلا بد أن يكون هذا هو الآخر قادرًا على منحنا بعض الرضا الذهني، فإن نوعَي الرضاء العاطفي اللذين اكتفى بهما الوردزورثيون والأرنودليون لم يستمرا بعد فترة الحربين العالميتين والانهيار العالمي في الأسعار والقنابل الذرية!
فنحن في منتصف القرن العشرين، تقريبًا، نطلب من الشعر أن يكون له معنًى، ولكي يستطيع القارئ الحديث أن يفهم هذا المعنى، يجب أن يكون قادرًا على ربط هذا الشعر ربطًا ذا دلالة فنية بالتيارات العاطفية الباطنية في حياة وردزورث وشخصيته، وعلى كل حال … فقد كان وردزورث إنسانًا، تمامًا كما قال هو عن المثل الأعلى للشعر في نظره «إنسانٌ يتحدث إلى إخوانه من البشر» وليس، إذا استخدمنا لفظة مستر إليوت «ممارسًا يؤدي دوره أمام نُقاد الفن» …
وهكذا، فإن كتاب الأستاذ بيتسون يقدم دراسةً جديدة بالفعل، تقوم على منهجٍ واضح ثابت، ومهما قيل عن صحة هذا المنهج من الناحية الفنية، فهو علميٌّ أولًا وأخيرًا، فالكتاب ليس عرضًا لتذوقٍ شخصي لشعر الشاعر أو لتفسيرٍ لبعض القصائد («ولو أنه حاول ذلك في قصيدة واحدة»)، وإنما يعتمد على تحليلٍ لعلاقة الشعر بالشاعر في ضوء المواد التي اكتُشفت عن حياته، أو التي كانت موجودة من قبل ولم يستغلها أحدٌ بهذه الطريقة.
وأوضح مثلٍ على هذا، ولعله أهم ما في الكتاب، هو الفصل الذي أفرده المؤلف عن طفولة «وردزورث»، وعن أسرار تلك الطفولة الغريبة التي لونت شعره كله تقريبًا، وعاشت دائمًا في حياته حتى حينما بلغ الثمانين، فالمعروف عنه في طفولته أنه كان محبًّا للطبيعة شغوفًا بها أشد الشغف، ينطلق إلى الغابات ويصعد الجبال، ويتأمل الأنهار والغدران، ويحادث الطيور والأشجار إلخ.
وقد تحدث كل من كتب في هذا الموضوع عن تأثير التيارات الفكرية الشائعة في ذلك الوقت من فلسفةٍ فرنسية صاحبت الثورة وخاصة آراء «جان جاك روسو»، وفلسفة إنجليزية ازدهرت في تلك الفترة وبخاصةٍ آراء «جودوين» و«هارتلي» وسواهما، وأجمع النقاد أو اتفقوا في شبه إجماعٍ على إرجاع حب الطبيعة عنده إما إلى عقائد وميول فنية طبع عليها، أو إلى نزعاتٍ جمالية تقنية تشده إلى مصادر المتع الحسية من حوله، أو إلى أحاسيس صوفية ربطته إلى الإله الذي يحل في الكون وينصهر فيه، والذي دفعه إلى الإيمان بوحدة الوجود فيما بعد …
ولكن أحدًا من النقاد، وهذا غريب، لم يحاول دراسة البيئة الأولى لهذا الشاعر في محيط الأسرة والمدرسة، وخارج هذين الجانبين الأولين من الحياة، مع أن الشاعر لم يألُ جهدًا في ذكر الحقائق الكثيرة عن هذه الفترة، في شعره أحيانًا، وفي رسائله أحيانًا، وفي تعليقاته على قصائده في معظم الأحيان …
والنقاد مع هذا لا ينكرون الأهمية البالغة التي لعبتها طفولة الشاعر في تكوينه الفني، ولا ينكرون تأثيرها على أدق دقائق شعره من صياغةٍ بلاغية وصور فنية وموسيقى … إلخ، وسوف نفصل القول في هذا، ومع ذلك فقد اكتفوا بالتفسير الجمالي أو الصوفي لحب الطبيعة عنده، ولم يحاولوا الدخول من باب الدراسة النفسية، ولو على سبيل المحاولة والحدس الذي ربما يفيد!
أما بيتسون فقد حاول وحدس … وهو يرينا كيف قام بذلك … هذه بعض أبيات من قصيدة «كنيسة تنترن» التي يستهلها بقوله:
ويمضي في وصف ظروف عودته لشاطئ نهر «الواي»، وعن ضيقه بالمدينة وحياة الحضارة الزائفة، ويتذكر أيام طفولته قائلًا:
الواضح في هذه الأبيات هو اتجاه الشاعر إلى الطبيعة بغرامٍ مشبوب ليس مألوفًا حتى عند شعراء الطبيعة الإنجليز، إذا جازت هذه التسمية، الذين كان مدار شعرهم ينصب على مظاهر الكون الجميلة التي تفتن الحواس بألوانها وأشكالها، فاللمسة الخاصة التي تفرق شعر وردزورث في الطبيعة عن كل شعرٍ كتبه سواه في الطبيعة هي انبثاقه من نفسه، وانصبابه في نفسه، وارتباطه بشخصه الحقيقي …
وحينما تناول النقاد هذا الحب غير العادي، لم يزيدوا على تناوله من الظاهر، في رأي بيتسون، ولم يستفيدوا مطلقًا بالمواد التي تزودنا بها خطاباته وخطابات أخته «دوروثي»، وغيرها من المذكرات التي طبعت أو لم تطبع، ففي هذه المواد التفسير الكامل لنزعة حب الطبيعة أولًا، وطريقة تأليفه للشعر ثانيًا، والتفسير لاتجاهاته الفنية وخصائص شعره في ضوء العوامل النفسية المبكرة ثالثًا.
وحينما عادت أخته «دوروثي» كان قد بلغ السابعة عشرة، وكانت أحزانه قد نضجت فاتخذت شكلًا جديدًا، جعله لا ينفر فحسب من الدراسة، وإنما ينفر من بلدة «بنريث» كلها؛ إذ لم يكتفِ عمَّاه وجداه بتلك الحياة الصارمة، وإنما فرضا عليه أن يقوم بالعمل في حانوتٍ لبيع الأقمشة كانوا يملكونه، مما ضاعف من القيود التي غل فيها الصبي وقد تعدى طور الطفولة، ولم يعد قادرًا على احتمال أيٍّ منها، وقد كتبت أخته رسالةً في ذلك الوقت إلى إحدى صديقاتها تشكو لها مر الشكوى من تلك الحال وتنهيها قائلةً:
«كم بكينا سويًّا، وليم «الشاعر» وجون وأنا، وذرفنا مر العبرات وأشدها إيلامًا … وكلما مرت الأيام ازددنا جميعًا إحساسًا بالخسارة التي حلت بنا بموت أبوينا … وكنا دائمًا نختم مناقشاتنا المطبوعة بطابع الحزن، بأن نتمنى لو كان لنا والد ومنزل …»
ولم تلبث «دوروثي» أن هربت من «بنريث» ثانيةً، ولم تكد تتأثر بطغيان عميها، أما وليم فقد «تعرض مدةً طويلة وهو طفل أعزل لا يملك دفعًا للألم … تعرض لتعذيب جدَّيه وعمه «كيت»، مما خلف أثرًا عميقًا لا ينمحي على طبيعته الحساسة وكبريائه الأصيل.»
ومن هنا نستطيع أن نفهم الأهمية السلبية لتلك «الأحزان المبكرة» … فإن النتيجة المباشرة لحرمان الصبي من متنفسٍ يعبر فيه عن عواطفه ونشاطه الطفولي، «وحبسه في حانوت القماش» هي نزعة التجوال العميقة التي لم يتحرر منها طول عمره … ونحن لا ننسى أن معظم شعره بل كله تقريبًا قد قيل أثناء سيره …
كان الطريق الفسيح يمثل لوردزورث طريق هرب من «بنريث»، هربٌ من السلطة الإنسانية المتمثلة في عمه، والمجسدة في طباعه الحادة والبلدة الصغيرة الريفية «الحقيرة»، هرب إلى أي شيءٍ لا يفرض عليه، ولا يحده بحدود مجتمع البلدة، ولا يربطه بالبشر …
وبلدة بنريث تقع على مشارف «حي البحيرة» تمامًا، فمن الطبيعي أن تكون متناقضةً أشد التناقض، طبيعيًّا وروحيًّا، مع الجبال والبحيرات، ولم تنبع أهمية هذه المظاهر الطبيعية إلا لتناقضها مع جو «بنريث» الخانق … كم كانت تعزيه عن ضيقه بانفساحها وانبساطها، وكم كانت تمثل له الحرية التي حرم منها في الحانوت لرحابتها واتساعها!
لقد كان المنبع الذي فاضت منه عبادة الطبيعة عند وردزورث، هو نفس المنبع السلبي الذي خلق عنده نزعة التجوال، وإذا لم تفتنا الجملة التي جاءت في الأبيات التي كتبها حينما عاد إلى زيارة كنيسة تنترن (والتي اقتطفناها هنا)، استطعنا أن نقرر أن وردزورث كان على الأقل يدرك إدراكًا جزئيًّا، الطبيعة السلبية لموقفه المبكر تجاه جمال الطبيعة، فهو يقول:
«كنت أشبه رجلًا يهرب من شيءٍ يخافه … أكثر مما أشبه رجلًا ينشد شيئًا يحبه.»
وهذا لا يعني سوى أن عبادة الطبيعة التي أحسها في زيارته الأولى لكنيسة «تنترن»، وهي صورة لما أحسه في شبابه في «حي البحيرة»، كانت قائمةً على خوفه من البشر، ونابعة من هذا الخوف، فالشيء الغامض الذي كان يخشاه هو تجسيد للوضع الاجتماعي الذي عاشه، والذي كان يمثل السلطة فيه عمه «كيت» وجداه …
وفي قصيدته الطويلة «المقدمة» فقراتٌ يجسد فيها هذا الإحساس بالخوف، تارةً تصريحًا وتارة تلميحًا كلما تحدث عن طفولته المبكرة، ولا يكاد ينقطع هو عن ترديد كلمة الخوف في كل جزءٍ من أجزاء القصيدة تقريبًا، مما دفع المؤلف إلى تفسير هذا الموقف بأنه تعبيرٌ عن إحساسٍ بذنب لا شعوري، أو بضمير مذنب.
قد تقول إن الصبي يخاف هنا لأنه اقترف ذنبًا، ولكن ما الذي دفعه إلى اقتراف الذنب؟ إن المؤلف يرى في أمثال هذه الحادثة رد فعل طبيعي للكبت والحرمان الشديد الذي كان يعانيه الصبي، ويرى أن طلبه للذنب والخوف والعقاب كان محاولةً لا شعورية منه لإيهامه نفسه أنه حر … يستطيع أن يخطئ فيعاقب، ويستطيع أن يؤذي الناس فيؤنبه ضميره، ويرى أن إدراكنا لهذا «المرض النفسي»، إذا جاز هذا التعبير المبالغ فيه، أمرٌ ضروري، حتى نفهم دوافعه على السير أميالًا طويلة وحده، حتى بعد أن كبر وتزوج وأنجب، وكيف نفسر تجواله وحيدًا حتى في آخر أيامه، ذلك التجوال الذي دفعه إلى قطع مسافة تتراوح بين ١٧٥ ألفًا و١٨٠ ألفًا من الأميال الإنجليزية سيرًا على قدميه، حتى سن الخامسة والستين، حسبما يؤكد لنا «دي كوينسي»؟!
ثم كيف يجتمع الجمال والخوف هذا الاجتماع الغريب، وما العلاقة النفسية التي مزجتهما على هذه الصورة، هل كان يعبد الطبيعة لأنه يحبها أو لأنه يخافها؟
إن هذه الحادثة الغريبة، التي اقتطفت منها هذا الجزء، لتتردد عشرات المرات في طفولة وردزورث، واختلاط الخوف بالجمال، أو الدور الرمزي الذي تلعبه الصخرة السوداء ذات القمة الضخمة، والذي يمزج قوة الطبيعة كإلهٍ يفرض العقاب على البشر، وكمصدرٍ من مصادر الجمال لذاته، والذي يمكن تفسيره بأنه ممثل لضمير الصبي الذي تيقظ وهلم جرًّا، أقول إن اختلاط الخوف بالإحساس بالجمال منع حب الشاعر للطبيعة من أن يكون حبًّا عاديًّا، وإنما جنح به إلى شذوذٍ من لونٍ خاص، ربما كان مرضيًّا.
والأستاذ بيتسون يفصل القول في هذا تفصيلًا واضحًا، ويقوم بتحليل قصائد كثيرة تجسم هذا الموقف، ويعلق على فقراتٍ كثيرة من شعره ومن المادة النثرية التي خلفها مبينًا صدق دعواه، وينتهي من ذلك قائلًا:
«لقد كان هناك بالتأكيد عنصرٌ عصابي في موقف وردزورث من الطبيعة، فإن استغراقه في المناظر الطبيعية استغراقًا تلونه النشوة المسحورة والخوف الشديد، لبعيدٌ أشد البعد عن المتعة الصادقة الصحيحة التي كان يجدها «تشوسر» أو شيكسبير في عمليات الطبيعة الحية من نماءٍ نباتي وحيواني، فالطبيعة التي يعبدها «وردزورث» هي «صخور وأحجارٌ وأشجار»، أنهارٌ وضباب ورياح ونجوم وأقواس قزح، أي طبيعة غير خلاقة بشكلٍ غريب، بل وميتة أيضًا، هل كان ذلك في أساسه مرآة انعكس فيها عقله الباطن؟ هل يمكن أن نقرأ فيها أسرار اللاشعور عند «وردزورث»؟
من المحتمل أن يكون هذا صحيحًا، فالمرء يستطيع أن يقول، متوسلًا بالطبيعة ومستخدمًا رموزًا محايدة، أشياء كثيرة لا يمكنه قولها أو حتى التفكير فيها تفكيرًا مباشرًا أو موضوعيًّا …»
أما كيف أثر ذلك في فنية شعره وخصائصه، فنستطيع أن نتبين هذا بسهولةٍ إذا درسنا تطور أسلوبه وموسيقاه، وتطور صوره الفنية بصفةٍ خاصة، فالشاعر الذي يسير آلاف الأميال، ويقول الشعر وهو سائر، ثم لا يعدل فيما يقول على الإطلاق، بل يثبته في ديوانه كما هو، ويقول عن قصيدة «كنيسة تنترن» ما يلي:
«بدأتها حين تركت تنترن، بعد أن عبرت نهر «الواي»، وانتهيت منها تمامًا عندما وصلت إلى بلدة بريستول في المساء، بعد جولةٍ على الأقدام استغرقت أربعة أو خمسة أيام مع أختي، ولم أغير فيها حرفًا، ولم أكتب منها سطرًا واحدًا حتى وصلت إلى بريستول، ونشرتها بعد ذلك مباشرة، ضمن ديواني الأول «قصائد غنائية».»
أقول إن مثل هذا الشاعر لا بد أن يختلف عن غيره الذين يكتبون ويعدلون وينقحون ويهذبون، ونحن لا ننسى شاعر الحوليات «زهير» الذي كان يكتب القصيدة في أشهرٍ وينقحها في أشهرٍ ويلقيها في أشهرٍ على مدار الحول كله، بل إنه يختلف مع نفسه حينما نضج وأعاد كتابة قصيدته الطويلة «المقدمة».
فالقصائد الأولى التي قيلت «همسًا في الهواء الطلق» على حد قوله، تمتاز بليونة الحديث العادي والصور التلقائية … ولعل هذا هو ما دفعه إلى وضع مبدئه النقدي الشهير الخاص بتلقائية الشعر «وما الشعر الجيد إلا فيض تلقائي للأحاسيس الجارفة.»
ولعل هذا هو السر في إيمانه بلغة الحديث العادي ونبذه للُّغة الخاصة بالشعر، بل انكبابه على مصدر الأحاسيس الإنسانية الأولية كمبررٍ لسذاجة شعره في أول حياته، ثم تطوره فيما بعد وإبداعه أسلوبًا بلاغيًّا خاصًّا به وصورًا أكثر تعقيدًا وأدل على الصنعة الفنية.
وأعتقد أن المجال لا يتسع هنا للمقارنة بين النسخة الأولى «للمقدمة» التي نشرها عام ١٨٠٥م، والنسخة المعدلة المنقحة التي نشرت عند وفاته عام ١٨٥٠م، ولكن المقارنة على أي حالٍ تثبت القضية، وتفتح مجالاتٍ جديدة للتأمل والدراسة.
وإذا كنا قد اقتصرنا في هذا العرض الموجز لكتابٍ رائع على عرضٍ للمنهج وطريقة تطبيقه في أحد الأبواب، فإن بالكتاب أبوابًا أخرى تستحق المزيد من العناية، مثل الباب الذي خصصه لدراسة حادثة «زواجه الطبيعي» من «آنيت فالون» الفرنسية، والفصل الذي أفرده لمناقشة ذاتية الشاعر، وصلة هذا الارتداد إلى نفسه بشعره، والفصل الذي عقده بهدف دراسة لون المفارقات الشعرية عند وردزورث.
ولا يمكن أن يقال إزاء هذا الكتاب وهذا المنهج، مهما اختلفنا حول صحته ومهما غضب أرباب النقد الحديث، إلا أنه كتابٌ مثير، وعلى الأقل جديرٌ بالقراءة والتأمل.
(٤) الصورة الشعرية عند شيكسبير ودلالاتها
وتخطو المؤلفة في كتابها هذا خطوة جريئة في هذا المجال، وهو كيف يمكن للصور الفنية في الشعر أن تلقي الضوء على:
-
(١)
شخصية شيكسبير ومزاجه النفسي وأفكاره.
-
(٢)
موضوعات مسرحياته وشخصياته.
وإذا كان ولوجها إلى هذه الدراسة عن طريق الصور الشعرية يبدو مثيرًا فهي تبرره بقولها: «أومن أن هناك أمرًا مطلق الصحة، وهو أن مؤلفات أي كاتب يمكن أن تكشف لنا في صدقٍ عن شخصيته وعن مزاجه النفسي ولون أفكاره، سواء كان كاتبًا مسرحيًّا أو كاتبًا روائيًّا، وسواء كان يصف لنا أفكار الآخرين أو يسجل أفكاره الشخصية.
أما إذا كان شاعرًا، فأرى أنه يقدم إلينا ذاته عن طريق الصور الفنية في شعره بصفةٍ أساسية، وإلى حدٍّ ما بطريقةٍ لا شعورية.
من المحتمل حقًّا أن يكون موضوعيًّا إلى أقصى حدٍّ في خلق أشخاصه المسرحية، وفي تصوير نزعاتهم وأفكارهم (ويصدق هذا على شيكسبير)، ولكنه حينئذٍ يشبه شخصًا لا يبدي تأثرًا واضحًا في قسمات وجهه وعينيه إذا انتابه توتر شعوري، ومع ذلك لا تسلم بعض عضلاته من الاختلال أو التصلب، إن الشاعر دون أن يدري يميط اللثام عن أعمق ما يهوى وما يبغض ويكشف عن ملاحظاته واهتماماته، وارتباطات أفكاره، واتجاهاته الذهنية وعقائده، من خلال الصور الفنية، تلك الصور اللفظية التي يرسمها ليوضح شيئًا مختلفًا تمامًا في حديث أشخاصه وأفكارهم.
إن الصور الفنية التي يستخدمها الشاعر بطريقةٍ غريزية، وإلى حدٍّ بعيد لا شعورية، في لحظةٍ من لحظات الإحساس العميق المركز، تكشف لنا عن تركيب ذهنه وتيارات أفكاره والأشياء والحوادث التي يلاحظها ويتذكرها، وربما، وهذه ذات دلالة أبلغ، تلك التي لا يلحظها ولا يتذكرها أيضًا، وتدل تجربتي على أن الشاعر ينشد الصور الفنية واعيًا بها محددًا دورها في القصيدة، بينما نجد في الدراما، وخاصة في المسرحيات التي تكتب في حرارة الانفعال مثل دراما العصر الإليزابيثي، أن الصور الفنية تخرج من أفواه الشخصيات أثناء انفعال الكاتب بأحاسيسهم وعواطفهم، كما تطوف بذهنه بطريقةٍ طبيعية …»
وتمضي المؤلفة قائلةً إنه كلما كان العمل الفني دسمًا وعلى وجبةٍ كبيرة من الإحكام ازدادت قيمة الصور وقدرتها على الإيحاء، وهكذا رأت أنها تستطيع أن تعتمد على الفحص المنهجي المنتظم للصور عند شيكسبير، فجمعت كل صوره الفنية الشعرية، وعكفت على تصنيفها ودراستها مدة تربو على ثماني سنوات.
ولكن أليس لنا أن نتساءل عن مفهوم الصورة الفنية الذي أقامت عليه بحثها؟! تقول المؤلفة إنها تستعمل لفظة «صورة» هنا؛ لأنها الكلمة الوحيدة بين يدينا التي يمكن أن تشمل جميع أنواع التشبيه وكل أنواع الاستعارة (وهي في الحقيقة تشبيه مركز)، وتقترح أن ننزع عن أذهاننا الإيحاء الذي تحمله الكلمة من أنها تعني الصورة البصرية فحسب، فيجب أن نرى فيها (في حالة هذا البحث) كل صورةٍ خيالية أو تجربة خاصة، وفدت إلى الشاعر ليس عن طريق إحدى حواسه فحسب، ولكن عن طريق ذهنه وعواطفه أيضًا، والتي يستخدمها في شكل التشبيه أو الاستعارة بأوسع معانيهما، بقصد التشبيه أيضًا في النهاية.
كذلك تعني «الصورة الفنية» كل ألوان الاستعارة، فالليدي ماكبث تحث زوجها «أن يطلق سهام شجاعته نحو الهدف»، و«دنكان» بعد نوبات حمى الحياة يرقد في سباتٍ عميق، ودنالبين يخشى «الخناجر التي تختفي تحت ابتسامات الرجال»، وماكبث «يخوض في الدم المسفوك» أو «يتخم معدته مع الأهوال» وهكذا …
ولكن الدكتورة كارولين سبيرجون لا تناقش مفهوم الصورة في نطاقها العريض، مثلما يفعل جون كرو رانسوم مثلًا، أو جون مدلتون مري أو سيسل داي لويس أو سواهم، وإنما تقول إن التشبيه، أي التشابه بين الأشياء المختلفة، يحمل في طياته سر الكون، إن البذور النابتة أو الأوراق المتساقطة في الخريف تعبيرٌ آخر عن العمليات التي نشهدها حولنا في حياة الإنسان وموته، وهذه الحقيقة، كما تقول، تثيرها وتهز أعماقها بإحساس أنها تواجه سرًّا غامضًا كبيرًا، لو أمكن فهمه، لاستطاع أن يشرح لنا معنى الحياة والموت.
وإذا عدنا إلى المنهج الذي اتبعته المؤلفة وجدناها تحاول في الفصول الثلاثة الأولى، أن تثبت صحته مستعينة بمقارناتٍ بين الصور الشعرية عند شيكسبير، ومثيلاتها عند بعض معاصريه مثل مارلو وفرانسيس باكون وتوماس ديكر وتشابمان وبن جونسون وماسنجر … والحقيقة أن الفصلين الثاني والثالث يؤيدان وجهة نظرها أشد التأييد، فثمة اختلاف بين الصور الشعرية عند كل واحدٍ من هؤلاء، حتى إن كل واحدٍ منهم يكاد يدور «في صوره» في نطاقٍ معين لا يتعداه، فعند شيكسبير مثلًا نرى أن أكثر الصور التي يرسمها مُستمدة من الطبيعة (وخاصة حالة الجو، والنباتات وإعداد الحدائق) والحيوانات (وخاصة الطيور) والحياة اليومية المنزلية، وصحة الجسم ومرضه، والنار، وبخاصة كتب اليونان والرومان، والشمس والقمر والكواكب والسموات … وهي تؤيد ذلك بالرسومات البيانية التي تتولى بصورةٍ قاطعة حسم الأمر في هذه الأحوال.
وتضرب كثيرًا من الأمثلة التي تؤيد وجهة نظرها، يقول مارلو:
ويصف جمال وجه امرأة قائلًا:
ويصف طبيعة الإنسان قائلًا:
وإذا مات عاشق فذلك:
وحين يصف قصف المدافع يقول:
أما شيكسبير فهو يختلف اختلافًا جوهريًّا عن مارلو في مصادر صوره الشعرية، فهو لا يحلق بعيدًا عن هذه الأرض، وإنما يستمد منها صوره، إذ إن عينيه وحواسه مسلطة على الحياة اليومية من حوله، تفوته أدق تفصيلات حركة من طائر يرف بجناحيه أو زهرة تتفتح أو عمل ربة منزل، أو الأحاسيس المرتسمة على وجوه البشر.
وهكذا نرى استعارته بسيطة مألوفة، ولكنها مع ذلك غاية في الدقة وعمق الدلالة:
وإذا حاول شيكسبير أن يبتعد عن الأرض، فهو إنما يفعل ذلك حاملًا كل أثقال الحياة الإنسانية بين جنبيه … هو يسبح رفيقًا في فضاء الكون بينما تشده على الدوام خيوط البشر إلى الأرض، فلا يكاد يفعل حتى يعود، وحتى وهو يحوم نراه يغذي تحويمه بأكثر تجارب الإنسان ثراءً وعمقًا.
وتعلق الدكتورة سبيرجون قائلةً: «وهكذا … حين نفحص الصور الشعرية، نستطيع أن ندرك كم يختلف كل شاعرٍ عن سواه، في الذهن والنظرة إلى الحياة والمزاج النفسي، فبينما نجد شيكسبير مهتمًّا وملاحظًا للأشياء الملموسة والحوادث اليومية، وخاصة في الحياة خارج المنزل وداخله، ونجد أن حواسه حادة بشكلٍ غريب، ومتجاوبة مع ظواهر الحياة تجاوبًا شديدًا، نرى أن مارلو لم يكن يهتم بالأشياء المحسوسة المجسدة، فهو لا يكاد يراها إذ إنه يعيش تقريبًا في عالمٍ من الأفكار، حتى إن عواطفه تستثار عن طريق الفكرة، بينما تستثار عواطف شيكسبير عن طريق الإحساس.»
وتبدأ المؤلفة في الفصول التالية في مناقشة موضوعات الصور الفنية عند شيكسبير، فتعرض للصور التي يستمدها من البحر ومن حياة البحارة، ويتبين أن هذه الصور لا تدل على أن خالقها ركب البحر كثيرًا، وإنما استمدها من حياته على البر … ثم تناقش صور الحيوانات والطيور، وكيف يهتم اهتمامًا خالصًا بحركتها وألوان طيرانها، وهذا ينبع من حبه أساسًا للحركة، وكيف أن الصور الحركية تمثل تيارًا لا يتوقف في كل صورةٍ تقريبًا، بل وتنتهي إلى أن تصوره للحركة يكاد يعادل تصوره للحياة.
ومن هذه البداية تناقش حواس شيكسبير، فترى أن حاسة البصر عنده لم تكن تدع شيئًا دون إدراك، وترى كيف كان يهتم اهتمامًا شديدًا بتغير اللون، في وجه الإنسان، وفي وجه الطبيعة، كيف كان يحتفل بشروق الشمس وغروبها، وتناقض الألوان وتضادها بوجهٍ عام، ثم ترى كيف ينفعل عن طريق حاسة السمع بمختلف الأصوات وتنوعها، وكيف كان يهتم أشد الاهتمام بأصوات الطيور ودلالاتها، وتتحدث عن الرموز التي يمثلها الصمت والضجيج لديه، وعن حبه للسكون وكراهيته للصخب، ثم تناقش حاسة الشم عنده، وكيف كان يتصور الروائح للأشياء المجردة، مثل الرائحة العفنة للرذيلة وهكذا … وهي تتعرض أيضًا لحاستي اللمس والتذوق عنده، ومن جماع دراستها لهذه الحواس تنتهي إلى آراءٍ شبه عامة عن مزاجه النفسي واهتماماته … تصل إليها في دراسةٍ مضنية عبر فصولٍ عدة حتى تبدأ القسم الثاني من الكتاب.
وتتناول الدكتورة سبيرجون في هذا القسم الثاني، الطريقة التي أثرت بها الصور الفنية في تشكيل مسرحياته، وكيف اتسمت كل مسرحيةٍ بمجموعةٍ من الصور الخاصة بها، سائدة فيها مهيمنة عليها، فترى مثلًا في مسرحية «روميو وجولييت» أن الصور الضوئية هي الصور السائدة، على المستوى الواقعي والمستوى الرمزي، مثلما نجد أن صور الملابس غير المناسبة لمرتديها هي الصور السائدة في «ماكبث»، ثم تقف وقفةً أطول عند مسرحية الملك لير.
وتقول الدكتورة كارولين سبيرجون إن عمق الإحساس والعاطفة في «الملك لير»، وشدة تركيزهما حول بؤرة واحدة، يمكن أن تنم عنهما حقيقة بالغة الوضوح: إن ثمة صورة واحدة مستمرة تجري في خيال شيكسبير، وهذه الصورة المهيمنة شديدة التأثير على الصور الجانبية والفرعية التي تخدمها وتزيد من حدتها وتأكيدها.
ويعترف جلوستر في جرأةٍ إلى ريجان أنه أرسل لير إلى دوفر قائلًا:
والملك لير يقول لكورديليا:
وتعلق المؤلفة على ذلك قائلةً إن شيكسبير فطن إلى حقيقةٍ علمية صحيحة، وهي أن العذاب النفسي يمكن أن يتأكد ويزداد حدةً إذا صحبه عذابٌ جسدي، وإذن فنحن نرى تلك الصورة حتى في المشاهد التي تتناول عذاب الملك لير بصورةٍ مباشرة.
فمناقشات جلوستر مع إدموند تتسم بنفس هذه الخصائص، ونحن نقرأ هذه الأفعال مثلًا: يلوي، يضرب، يخرق، يعض، يكوي … وهكذا … وحينما نفحص مشاهد أخرى غير مؤلمة في ذاتها، تقابلنا هذه الأفعال أيضًا إلى جانب صورة الجسد البشري الذي «تتمزق أوصاله» أو «يشد في آلة تعذيب» أو «تحطم عظامه».
وتنبع من هذه الصورة فكرة الأهوال الخارقة، فمثلًا تقابلنا صورة البشر وهم «يأكلون بعضهم بعضًا» مثل «وحوش الأعماق» أو صورة الذئاب والنمور، وهي تمزق أجسادها، والملك لير يظن أن ابنته ريجان، عندما تعلم بسوء المعاملة التي لقيها على يد أختها جونريل، سوف تخمش «بأظافرها» وجه أختها «الذئبي»، ونكران الجميل من جانب الأبناء يشبه فمًا «يقضم اليد التي تقدم إليه الطعام»، أما دوق أولباني فيصرخ في وجه جونريل قائلًا إنها وأختها ريجان نمرتان لا ابنتان، ويقول إنه لو أطاع نفسه «لمزق أوصالها وفتت عظامها».
وهذه الصور الوحشية التي تغص بها المسرحية، تذكرنا بما أشار إليه برادلي في كتابه عن التراجيديا الشيكسبيرية، من أن صور الحيوانات تفعم المسرحية وتلعب دورًا أساسيًّا في تصوير الشخصيات، والتفسير الذي تقدمه الدكتورة سبيرجون لهذه الصور الوحشية هو أنها تنبع جميعًا من تصورٍ للطبيعة البشرية، وقد ارتدت إلى حالة الحيوان المتوحش، وهو التصور الذي ارتسم في ذهن شيكسبير أثناء كتابة المسرحية وانفعاله بنفسيات أبطالها، وأوحى بل خلق الصور القاسية التي نرى فيها «الذئاب الضارية» والنمور و«الحيات المنقضة اللادغة» و«النسور ذوات المناقير الحادة» و«الحدأة البغيضة»، و«الحشرات السامة» و«الفئران القارضة» و«الدب ذا المخالب المشرعة» إلى جانب الكلاب التي تنبح وتعض وتئن وتنطلق مسعورة.
ولا تسلم الطبيعة من هذا التصور فهي أيضًا ثائرة، متوحشة، غاضبة لا تهدأ، «الأمطار تهطل وتتصارع مع الرياح جيئةً وذهابًا»، بل تتصارع مع الملك وتمزق شعره الأبيض، الذي تشده العواصف العاتية في غضبها الأعمى ويطلب هو إلى الرياح أن تهب وتمزق خدودها، ثم يصل في ذروة هياجه الذي يقترب من الجنون، إلى أن يطلب من الرعد الذي يزلزل كل شيء أن ينقض على الأرض الكروية، فيدكها ويجعلها مستوية كالقرص!
ولا يسلم الآلهة في هذا الجو الملتهب من الافتراس والتوحش، فهم يقتلون البشر، ويقطعون أطراف الرجال، دون أن يتعدى ذلك حدود اللهو … يقول جلوستر:
ما نحن بالنسبة للآلهة إلا كالحشرات في أيدي الأطفال العابثين … إنهم يقتلوننا في لهوهم!
والدكتورة كارولين سبيرجون تقوم بمثل هذا التحليل في كل المسرحيات الأخرى، ثم تلحق بالكتاب بعض الأبواب التي تشتمل على الخرائط والرسوم البيانية الموضحة لعدد الصور وأنواعها، ومصادرها المختلفة في مسرحيات شيكسبير ومعاصريه، وفي كل مسرحيةٍ شيكسبيرية على حدة … متناولة الشخصيات بالتفصيل … وهكذا … وتقول المؤلفة إنها اعتزمت أن تنشر المادة التي بنت عليها كل هذه الدراسة مستقلة، حتى ينتفع بها من يريد أن يقوم بدراسةٍ من لونٍ آخر للصور الفنية، ونحن نرى بالفعل أن كثيرًا من الباحثين قد استفادوا من هذا الكتاب، فمثلًا يعتمد الناقد الأمريكي المعاصر «كلينث بروكس» على الفصل الذي كتبته عن الصور الفنية في مسرحية ماكبث، في كتابة دراسة لرمزين من الرموز القوية في المسرحية، وهما رمز «الطفل العاري» ورمز «عباءة الرجولة» في كتابه المسمى «إناءٌ محكم الصنع».
كما فتحت المؤلفة بكتابها هذا الطريق إلى أبحاثٍ تطبيقية ممتازة مشابهة لبحثها، فطالعنا أخيرًا كتاب «الصور الشعرية عند كيتس وشلي» لريتشارد فوجل وكتاب «الصور الشعرية عند وردزورث» لفلورنس مارش، و«الصور الشعرية عند ملتون» لبانكس، وغيرها من الكتب التي نسجت على منوال الدكتورة سبيرجون وإن اختلفت في غاية البحث، فاهتم فوجل بالناحية الفنية، واهتمت فلورنس مارش بالرؤية الشعرية عند وردزورث، واهتم بانكس بحياة ملتون وجو عصره في كتابه الضخم عن صوره الفنية.
(٥) تطور الصور الشعرية عند شيكسبير
مؤلف هذا الكتاب هو الدكتور و. ﻫ. كليمين أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة ميونيخ، وقد وضعه أول الأمر عام ١٩٣٦م باللغة الألمانية، ولكنه لم يحظ بالاهتمام اللائق به في الدوائر الأدبية إلا حين ترجمه مؤلفه إلى الإنجليزية، وراجعه وأضاف إليه فصولًا جديدة أكملت صورته النهائية عام ١٩٥٩م، ويعتبر هذا الكتاب أول دراسة مستفيضة للصور الشعرية عند شيكسبير، باعتبارها عنصرًا أساسيًّا من عناصر الفن الدرامي وتطوره عند الشاعر؛ لأنه لا يفصلها عن النص أو السياق أو شخصيات المسرحية أو البناء العام لها، وإنما يدرسها وهي «حية» في تربتها الطبيعية التي أنبتتها وهو يدرس علاقتها بهذه التربة، وبالجو الذي ترعرعت فيه، وينتهي من ذلك إلى نتائج بالغة الخطورة.
في هذا الإطار يبدأ الدكتور كليمين دراسته للتطور العام لفن شيكسبير وكيف أسهمت الصور الشعرية في هذا التطور، كيف أثرت فيه وتأثرت به، وكيف سارت وئيدة الخطى في البداية ثم أسرعت نحو النضج والاكتمال في آخر ما أبدعه الشاعر، وهو يقول لنا إن أي شخص يتجشم عناء مقارنة الصور الفنية في مسرحية «أنطونيو وكليوباترا» على سبيل المثال بالصور الفنية في مسرحية «هنري السادس» أو «السيدان من فيرونا»، سوف يهوله الفرق الشاسع بين هذه وتلك، وسوف يحمله ذلك التباين الكبير على الاعتقاد بأنه لا توجد ثمة علاقة أو فترة انتقال بين هذين الأسلوبين، ولكننا إذا أنعمنا النظر في مسرحيات شيكسبير، وفحصنا كل مسرحيةٍ حسب سياقها التاريخي، لرأينا جليًّا أن فن الصور في مآسيه لم ينشأ طفرة، وإنما سبقه إعداد تدريجي استغرق زمنًا طويلًا، فإن شيكسبير لم يكتشف إمكانيات هذا الفن في العمل الدرامي إلا بعد ممارسةٍ مضنية وتجارب لا حصر لها، فالوظائف التي تقوم بها الاستعارة في البداية قليلة وبسيطة، أما في مآسيه الأخيرة فوظائفها تتنوع وتلعب أدوارًا حاسمة في رسم الأشخاص والتعبير عن موضوعاته الدرامية، بل إن الصورة الفنية تصبح أحب وسائل التعبير لديه في آخر مؤلفاته، وهذا التطور المذهل الفريد للصور الشعرية ليس مألوفًا عند سواه من الشعراء … ومن ثَم يحدد الكاتب هدفه: وهو دراسة هذا التطور في مراحله المتصلة وأشكاله المستقلة، وإظهار علاقته بالتطور العام لفن شيكسبير.
ولكن، كيف نقوم بهذه الدراسة؟ أي ما هو المنهج الذي اتبعه المؤلف في دراسة هذا التطور؟ ويجيبنا الدكتور كليمين قائلًا إننا لكي نخرج بفكرةٍ عامة عن الفن الدرامي، يجب علينا أن نقارن المشاهد والمواقف المتشابهة في المسرحيات المختلفة بعضها ببعض، ونبحث طريقة شيكسبير في بناء العقدة، وكيف يرسم شخصيات رجاله ونسائه، كيف يصف الطبيعة، وكيف يعرض أحد الأحداث، ونفحص طريقة إعداده لأزمةٍ معينة، وطريقة حله للصراع، كما ينبغي أن ندرس الاختلاف الذي يطرأ على هذه جميعًا منذ أولى مسرحياته حتى آخر ما كتب، ولكننا في هذه الدراسة التفصيلية لكل جانبٍ من جوانب فنه الدرامي، يجب ألا نعزل أيًّا منها عن العمل الفني المتكامل، ويجب ألا يغيب عن ذهننا لحظةً واحدة أن المسرحية كائنٌ حي، تعتمد صحة أعضائه وسلامتها على صحته هو وسلامته، فإذا بترنا أحد هذه الأعضاء، استحال علينا أن ندرك العلاقة بينه وبين سائر أعضاء الجسد، وأصبح في انعزاله مشوهًا لا ينم عن شيء، وإن نم فإنما يزج بنا في أخطاءٍ جسيمة تحجب عنا الرؤية الصائبة.
والدكتور كليمين بهذا يهاجم منهج الدكتورة كارولين سبيرجون في كتابتها عن الصور الشعرية عند شيكسبير هجومًا صريحًا، ويسخر من منهج الإحصاء الذي اتبعته في كتابها قائلًا: «من الأمور الغريبة أن جهودنا النقدية لا ترتوي إلا إذا نجحنا في تصنيف المادة الأدبية وتبويبها، فنظن أننا قد أصبنا الهدف ما دمنا قد قسمنا الظواهر الأدبية وفصلناها، ثم أعدنا تقسيمها إلى فروعٍ أدق وأضيق نطاقًا، وجعلنا منها أبوابًا تشبه الأعشاش في أبراج الحمام، ولصقنا على كل بابٍ بطاقة بالاسم والعنوان! ولكن هذا بطبيعة الحال يدمر إحساسنا النابض بوحدة العمل الشعري وتنوع ظلاله وثراء أصباغه، مثلما نشهد في أسلوب شيكسبير الذي لا يجارى في تنوعه ومرونته، والمصدر الأساسي للخطأ إذن هو «منهج الإحصاء» الذي يرحب به قوم ويدافعون عنه.
إن الإحصاءات توهمنا أن المادة المبوبة تحت إحدى البطاقات، مادة من نوعٍ واحد، متساوية في دلالتها، فإذا انتهينا من إحصاءٍ في مسرحية ما إلى أن ثمة ثلاث «صور للبحر» تقابلها ثماني «استعارات عن الحدائق»، وجدنا بين أيدينا إحصاءً قد يضللنا بدلًا من أن يفيدنا؛ إذ ربما كانت صور البحر صورًا سائدة شاملة، وربما كان موقعها في المسرحية وعلاقتها بالشخصيات التي نطقت بها سببًا في أن تميل كفة الموازنة إلى جانبها رغم قلة عددها.» وينتهي الدكتور كليمين من ذلك إلى أن منهج الإحصاء بصفةٍ عامة منهج مضلل، ولا يمكن أن يحرز نتائج مرضية في الدراسات الأدبية.
ولكنه مع ذلك يتلمس الأعذار للدكتورة كارولين سبيرجون لأن هدفها «لم يكن دراسة فن شيكسبير، بل دراسة شخصيته وحواسه وذوقه واهتماماته»، ويمضي قائلًا: «وهنا يكمن الاختلاف بين كتابها وهذا الكتاب، لقد شغلت أولًا وقبل كل شيءٍ بمضمون الصور، أما هذا الكتاب فيهتم بشكل الصور وعلاقتها بالسياق الذي وردت فيه، إلى جانب دراسة وظائفها المختلفة وتطورها مع فن شيكسبير.»
ويمضي الدكتور كليمين في تحديد منهجه فيقول إنه لكي يتجنب أضرار فصل الصور عن السياق، بدأ في تحديد «جو» الصورة بأن طرح الأسئلة التالية: ما صلة الصورة الفنية أو الاستعارة بتسلسل الفكرة؟ كيف تلائم الصورة سياق النص؟ هل هناك مقاييس تمكننا من التمييز بين ألوان العلاقة بين الصورة وسياقها؟ ثم تساءل بعد ذلك: هل يؤثر شكل الحديث الدرامي، مونولوجًا كان أو حوارًا، على طبيعة الصورة؟ ما هي الدوافع الخاصة التي تؤدي إلى خلق الصور في المسرحيات؟ وهل هناك مواقف معينة تتطلب التعبير بالصور؟ وما علاقة الصور بهذه جميعًا؟
والخطوة التالية التي اتبعها هي بحث العلاقة بين طبيعة الشخصيات التي يرسمها شيكسبير وبين الصورة الفنية التي يستخدمها، والتساؤل عما إذا كانت ثمة شخصيات تتميز باللجوء إلى الصور في التعبير بصفةٍ خاصة، ويتعرض لسمةٍ من سمات المسرحية تستتبع أحكامًا معينة، وهي اعتماد المسرحية على المدى الزمني في أحداثها … يقول الدكتور كليمين: إننا نستطيع فهم قصيدة غنائية مثلًا، أو لوحة فنية أو تمثالًا محكم الصنع، في لمحةٍ واحدة، أو «مباشرة»، أما الدراما فلا نفهمها إلا عن طريق سلسلةٍ من الانطباعات «المتتابعة» … فالحدث في الدراما يعتمد على عنصر الزمن … أي عن طريق «الكشف المتوالي» عن طبيعة الشخصيات وصراعها وهكذا، كما أن نسيج الدراما ذو خيوط متشابكة لا يتم التحامها إلا عن طريق العلاقات الداخلية التي ما تفتأ تتقابل وتتعقد على مدى «فترة زمنية» معينة. وهكذا نجد الكاتب المسرحي الناجح يمهد تمهيدًا كافيًا لمشاهده وشخصياته، يقدم لمحات في البداية ترهص بما سيتلو في النهاية، وتجعل النسيج كله وحدةً متكاملة لا تقبل التمزيق، وإذن فإن عنصر الزمن أو «التتابع» هنا يحتم علينا أن نضع الصور في سياقها الزمني، فلا نتجاهل إيحاءها بما سوف يحدث، أو نتناسى الظلال التي تلقيها على ما سلف.
ويبدأ الدكتور كليمين بعد مقدمةٍ موجزة عن المسرحية في التعرض لدور الصور الفنية، فيرينا كيف تنتشر الصور هنا وهناك بلا ضابط، ودون انتماءٍ عضوي إلى هيكل المسرحية، ودون علاقة ضرورة بينها وبين السياق الذي ينبتها، وكيف تبدو مضافةً إلى النص خارجة عنه، ويقول إن أول سمات الصور المنفصلة أنها دائمًا تشبيه يتوسل بأدوات التشبيه «مثل» وحرف الكاف … وهذه الأدوات تضع حدًّا فاصلًا بين المشبه والمشبه به، وتوحي بأنهما شيئان منفصلان، وأن الشاعر لم يوحد بينهما في خياله، مثلًا:
ومثلًا:
فهذه الصور قد أضيفت فحسب إلى الجملة الرئيسية، وألحقت بها من قبيل الزينة والتجميل، وهي صور خطرت لشيكسبير بعد أن كتب الفكرة الرئيسية، ليوضح بها ما قاله، أو ليضرب بها مثلًا، ولم تنبع من تصورٍ موحد للمشبه والمشبه به، والنتيجة أننا نستطيع حذف هذه الصور دون أن يفقد النص وضوحه ورواءه، وانظر مثلًا هذه الفقرة:
إن كل بيت مستقل عن صاحبه، وكذلك نجد كثيرًا من الأفكار منفصلة بعضها عن بعض، ففي حديث الشخصيات نستطيع أن نفصل ونحدد مكان كل فكرة، فهي تتوالى دون تمهيد لانتقالها ودون علاقة بين الفكرة السابقة والفكرة اللاحقة.
ويعزو الدكتور كليمين هذا الانفصال والاستقلال في الصور والأبيات والأفكار إلى أن شيكسبير كان ميالًا في بواكير حياته إلى خلق الصور لذاتها، وكان يجد متعةً كبيرة في الأسلوب الطنان الجزل، ولو كان ذلك على حساب الموقف أو الشخصية، فهو أحيانًا يجمع صورًا كثيرة لا رابط بينها في موقفٍ لا يستدعي على الإطلاق مثل هذه الصور التي لا يمكن قبولها منطقيًّا في مثل هذا الموقف.
فلنتأمل هذه الفقرة:
ما هو الموقف الذي نشأت عنه هذه الصور؟ إن مارتيوس قد تعثر لتوه في حفرةٍ عميقة، دفن فيها جثمان باسانيوس، وفي هذا الموقف الرهيب، وقد كاد يخر مارتيوس مغشيًّا عليه (كما يعترف هو لنفسه)، نجده يبني كل هذه الصور الحاذقة والتشبيهات المعقدة عن خاتم باسانيوس.
ومن الطبيعي أن هذه الصور لا يمكن أن تخلق بهذه المهارة الذهنية في مثل هذا الموقف الشعوري لمارتيوس، فحالته من انهيارٍ وهلع شديدين لا تسمح له بإعمال عقله في تركيب هذه الصور المعقدة.
ومن الملاحظ أيضًا أن شيكسبير في هذه المسرحية يضع كثيرًا من الصور في شكل السؤال البليغ، أي السؤال الذي لا يتوقع إجابة مثل الأسئلة الإنكارية أو التعجبية … إلخ، وهذا يكشف لنا عن طبيعة الحوار في هذه المسرحية. إن غزارة هذه الأسئلة تعني أن الشخصيات لا تسأل بعضها بعضًا، وإنما يتحدث كلٌّ على انفرادٍ دون انتظار الرد … فالحوار ليس حوارًا بالمعنى المفهوم، وإنما هو مجموعة من الأحاديث المتقابلة بين الشخصيات، فلنتأمل هذه الصورة مثلًا:
وهذه الصورة:
وهكذا نرى أن كونها أسئلة بليغة يكشف لنا عن طبيعة الحوار في هذه المسرحية، ويمكننا من إدراك التطور الذي بدأ يدب فيما تلا من أعمالٍ فنية.
وبعد أن ينتهي الدكتور كليمين من دراسة «تيتوس أندرونيكوس» دراسةً تفصيلية ينتقل إلى دراسة الملهاوات المبكرة (مثل «خاب سعي العشاق»)، وينتهي إلى نتائج محددة عن دور التورية والجناس وغيرهما من المحسنات البيانية والبديعية في هذه الملهاوات، ويدرس منابعها وتطورها، ثم يوجز ما انتهى إليه قائلًا إن الصور الفنية في الملهاوات المبكرة اتسمت بالدافع الخاص على خلقها، وهو المظهر الخارجي المنمق لها، والجانب الحرفي البلاغي منها، فالصور تخلق لذاتها وتتجمع الواحدة فوق الأخرى … ومعظمها صورٌ مستقلة؛ ولذلك تبدو لنا حشوًا وزينة في غير مقامها، مثل أشغال التطريز الموشاة المنممة … وهذا يشير إلى وظائف الصورة في هذه المرحلة المبكرة وهي التزيين والتجميل، في حين تبدو دائمًا بعيدة عن سياق الحدث «مما يجعلنا نتفق مع الرأي القائل بأن الشاعر في شيكسبير كان في تلك المرحلة أقوى من كاتب المسرح فيه …» ويضيف المؤلف أن انفصال الصور عن السياق أفقد هذه الملهاوات وحدتها العضوية، وجعلنا لا نستسيغ أسلوبها الآن.
وبعد أن يناقش المؤلف مسرحيتي «هنري السادس» و«ريتشارد الثالث»، يقف قليلًا عند «ريتشارد الثاني» التي شهدت بعض التغير في شكل الصورة الفنية ووظيفتها، ثم يفصل الحديث عما كتبه شيكسبير في الفترة الوسطى من تطوره وهي مسرحية روميو وجولييت، وتعود أهمية هذه المسرحية إلى أنها تجمع بين الأسلوبين القديم الذي اتبعه في بواكير إنتاجه، والجديد الذي يبشر بالتطور في آخر ما كتب، ويبدأ الدكتور كليمين حديثه عنها قائلًا إنه من المستحيل علينا في دراستنا لشيكسبير أن نتبين انفصالًا محددًا بين الأسلوب التقليدي والأسلوب المتحرر التلقائي، كما لا نستطيع أن نحدد الفترات الزمنية التي يسود فيها كل من هذين الأسلوبين … ففي مسرحية «روميو وجولييت» نجد إلى جانب الأسلوب التقليدي بوادر ترهص بالأسلوب الجديد، وتمكننا من أن نحدس التطور الذي سيتم حتمًا في المآسي الأخيرة، فإلى جانب موقف ليس بطبيعته خلاقًا للصور وهو مع ذلك مفعم بها، نرى موقفًا آخر يحتم ظهورها وتفيض منه بالفعل بطريقةٍ تلقائية، أما الأول فنرى فيه والد جولييت يدخل عليها حجرتها فيجدها تبكي، وإذا بلسانه ينطلق بعديدٍ من الصور المعقدة التي لا تتفق مع هذا الموقف على الإطلاق:
يقول المؤلف إنه إلى جانب هذا الموقف، نرى مواقف أخرى ممتازة من عدة نواح، فمثلًا نرى «مشهد الشرفة» حيث يتناجى العاشقان بعيدًا عن بيئتهما التقليدية وعن قيود المجتمع، ويتساران ولا من منصت سوى قلب الطبيعة، وهنا نجد أن الدفء والرقة اللذين يميزان مثل هذه المشاهد، يرتفعان باللغة إلى ثراءٍ تصويري يندر وجوده حتى في مسرحيات شيكسبير الأخرى:
ويعلق المؤلف على هذه الفقرة قائلًا إن ارتباط هذه الصور بالموقف الدرامي والأشخاص ارتباط من لونٍ جديد، فالموقف نفسه ذو طبيعة استعارية، يسمح بنشوء صور عضوية منه وتطورها للنهاية. إن روميو يقف ويرفع عينيه إليها تمامًا، مثلما نرفع عيوننا لنبصر الأجرام السماوية «والعيون التي ابيضت من طول التعلق هي عيناه»، وهو يرى في بعدها عنه وارتفاعها سماء جديدة، يستطيع بطبيعته الشاعرة أن يحلق في أجوائها، فهي تبعده عن جو التقاليد المتزمت الذي يسود بلدتهم، و«ترسل» إليه من «سمائها» ما يرتفع به إليها «فيركب متن السحب»، ويبسط شراعه في قلب الفضاء!
وإذا سرنا مع المؤلف إلى المآسي العظيمة الأخيرة، وجدنا تفصيلًا مستفيضًا لكل هذه العلاقات، وسوف نعرض هنا فحسب للمحةٍ من علاقة الصور بالشخصية في إحدى المآسي، وهي مسرحية عطيل، يقول الدكتور كليمين إن شخصيتي عطيل وياجو مختلفتان تمام الاختلاف، مما ينعكس على موقفهما من الصور الفنية، إن ياجو يبحث واعيًا عن أشد الصور ملاءمةً لهدفه، في حين تنبع صور عطيل من أحاسيسه بطريقةٍ طبيعية وفي يسرٍ كبير، إنها تأتي على لسانه بطريقةٍ لا شعورية من خياله الخصب، الذي يزوده دائمًا بصورٍ لا ينضب معينها.
ولكن ياجو ليس ذا خيالٍ جامح أو غير جامح، إنه يواجه العالم بطريقةٍ منطقية لا تلجئه إلى الصور إلا قليلًا، وهذا القليل أيضًا لا يأتيه حينما يكون وحده، وإنما يتوسل به كي يؤثر على من يحادثه، إنه ينتقي الصور عمدًا ويبينها بالطريقة التي يبني بها لغته، كلها تشبيهات تعتمد على أدوات التشبيه، ويندر أن نجد تعبيرًا استعاريًّا واحدًا، إن ياجو بهذا يضع حاجزًا بينه وبين عبارته التصويرية، فهو موضوعي محايد، نزاع إلى التعميم ولا يكاد يذكر نفسه في أي صورة، على عكس عطيل الذي يضع نفسه دائمًا في محور الصور، يقول عطيل:
ويقول:
وياجو لا يقدر على الإطلاق أن يأتي بمثل هذه الصور الملتهبة الجائحة، كما أن عطيل لا يستطيع أن يستخدم صورًا باردة ساخرة مثل التي يستخدمها ياجو، إننا نلاحظ في صور عطيل أن كل شيء تجرفه حركة طاغية؛ لأن هذه الصور جميعًا تنبع من أحاسيسه الدافقة الدائمة الحركة، كما أن صوره تظهر دائمًا في المواقف الحرجة من مأساته الداخلية، فتعكس ذبذبة أحاسيسه وتعبر عن اضطراب عواطفه وقلقها، كما تعكس أيضًا طبيعته البالغة الحساسية، التي تتقبل كل شيء عن طريق الحواس، حتى حينما يتناول أشد الأمور تجريدًا، فهو يقول مثلًا:
ويقول في أحد أحاديثه:
ويقول:
وحينما يتأمل انتقامه يراه في صورة الألم الجسدي البالغ:
أما ياجو فيكشف لنا في صوره عن طرقه الماكرة في الإيقاع بضحاياه، فهو يرى أن ما يفعله ضد «عطيل» و«ديدمونة» و«كاشيو»، يشبه فخًّا من شباك، وسمًّا زعافًا …
ويقول:
ويقول:
إن كل ما يقول ياجو، وليس صوره الشعرية فحسب، يتسم بهذا الوعي الكامل وتعمده ما يفعل، وهو يكيف نفسه على الدوام حسب صاحبه في الحوار، ويستخدم لذلك صورًا تختلف باختلاف من يحاوره حتى يؤثر عليه ويوقع به، فهو ليس غريبًا عن هذه الحياة مثل عطيل، بل خبيرًا بكل قدرات البشر وسلوكهم في كل الأحوال، مما ييسر له بلوغ مقاصده الدنيئة.
وهكذا نجد أن الصورة الفنية في مرحلة نضج شيكسبير بدأت تلعب دورها الفعال في رسم الشخصية والسير بالحدث وتطوير الموقف وخلق الجو العام، وكما رأينا في «عطيل» كيف تتلاءم الصور مع الشخصيات، يمكن أن نرى في غيرها من المآسي الكبيرة مصداقًا لكل وظيفةٍ من وظائف الصورة الشعرية في الدراما.
(٦) التصويرية في الشعر
ليس كتاب «التصويرية – فصل في تاريخ الشعر الحديث»، أول كتاب يتصدى لمدرسة التصوير في الشعر الحديث، كما أنه لم يتكفل بدراسة الشعراء المحدثين أنفسهم، شعرهم ومذاهبهم ونقدهم … إلخ، ولكنه اقتصر على الدراسة العلمية التاريخية لنشأة هذه المدرسة في الشعر الإنجليزي، من حيث هي تيار «محتوم» (على حد قول ت. أ. هيوم) نبع من مدرسة الرمزية في الشعر الفرنسي، واستقى كثيرًا من فلسفة برجسون، ثم انتهى إلى خلق «جيل جديد» من الشعراء (إذا جاز هذا التعبير) في الأدب الإنجليزي الحديث.
ولهذا اهتم المؤلف «بتاريخ» نشأة المدرسة في الفصلين الأول والثاني ثم بالنزعة التصويرية عند «ت. أ. هيوم»، ثم بيَّن كيف تنتسب إلى رمزية الشعر الفرنسي، ثم تحدث عن موقف «عزرا باوند» من هذه المدرسة، وهو يلقي بالضوء هنا وهناك على مفهوم التصويرية منذ نشأتها حتى منتصف القرن الحالي.
من الطبيعي إذن أن نهتم في هذا العرض السريع بالتصويرية ذاتها، وأن نغفل التفاصيل التاريخية التي تمتد في إسهابٍ بين ثنيات الكتاب.
يقصد بالتصويرية مذهب جماعة من الشعراء، والنظريات التي وضعوها أساسًا لهذا المذهب فيما بين عامي ١٩١٢م و١٩١٧م، وقد التقى هؤلاء جميعًا حول محورٍ واحد هو اشتراكهم في الهجوم على الإهمال الفني والقيم الشعرية الجامدة التي غلبت على كثيرٍ من شعر القرن التاسع عشر، وقد بدأت هذه المدرسة بداية هادئة، أو بداية غير ثورية، فنشروا في مجلة «الشعر» مقالات موضوعية تدعو للمذهب الجديد في تعقلٍ واتزان، ومن الطبيعي أن تكون لهذه المدرسة جذور فلسفية ابتدأت مع «ت. أ. هيوم» الذي أنشأ ناديًا أدبيًّا عام ١٩٠٩م، وانتهى مع زملائه إلى آراء في الفن والشعر، ساعدت على تكوين المذهب الجديد من الناحية الفكرية على أقل تقدير.
وقد بدأ نشاط المدرسة يبرز عام ١٩١٣م حين كتب باوند مقالًا في مجلة «الشعر»، استهله بتعريف الصورة الفنية:
«إن الصورة الفنية هي الصورة التي يجتمع فيها عنصران يكونان مركبًا ذهنيًّا عاطفيًّا في الوقت نفسه … وأنا أستعمل لفظ «مركب» هنا بالمعنى الاصطلاحي للنفسيين الجدد من أمثال سهارتش … وتقديم هذا المركب في لحظةٍ واحدة يجعلك تحس بالتحرر المفاجئ من قيود الزمان والمكان، ويهبك الإحساس بالنمو المفاجئ، ذلك الإحساس الذي نشعر به أمام روائع الأعمال الفنية … وخيرٌ للفنان أن يقدم صورةً فنية واحدة في حياته، من أن يقدم أعمالًا ضخمة مطولة خالية من الصور.»
وأتبع باوند، رائد المدرسة في ذلك الوقت، هذا التعريف بتعليقاتٍ شتى على استعمال الصورة الفنية، الذي يقتضي التجسيم الشديد، وينبو نبوًّا تامًّا عن التجريد، كما أخذ يحذر الشعراء الجدد من أخطاء الرومانسية النازعة دومًا إلى التعميم والتجريد.
وفي نفس العدد من مجلة «الشعر» نشر «ف. س. فلنت» كلمةً بعنوان «التصويرية» يعرض فيها للمذهب الجديد، دون أن يكون بعدُ من أصحابه، وقال في كلمته إن لهذا الاتجاه ثلاثة مبادئ:
- أولًا: المعالجة المباشرة «لشيءٍ ما»، موضوعي أو ذاتي، ولكنه محدد.
- ثانيًا: عدم استخدام كلمة لا تساعد على تقديم ذلك الشيء.
- ثالثًا: فيما يختص بالموسيقى الشعرية، يجب اتباع الإيقاع الموسيقي الداخلي للعبارة، وليس التقسيم الخارجي لها.
وقد انضم إلى المدرسة بعد هذه الحملات كثيرٌ من شعراء تلك الفترة، وظلت المناقشات الجدلية قائمة بين أعضاء المذهب وبين وسائل النشر وممثلي الرأي الأدبي العام، حتى صدرت عام ١٩١٥م أول مجموعة قصائد للتصويريين، بعنوان «مختارات من الشعر التصويري» لستةٍ من الشعراء هم «هيلدا دوليتل أولدنجتون»، و«إمي لويل»، و«د. ﻫ. لورنس» (الذي كان عليه أن يحتل مكان عزرا باوند في هذه المدرسة)، و«أولدنجتون»، و«فلتشر»، و«ف. س. فلنت». ويمتاز هذا الكتاب بمقدمته التي وضعت ستة مبادئ للمدرسة، وبالرغم من أنها لم تذكر اسم «عزرا باوند» إلا أنها اعترفت بأنها تدين له بكل شيء تقريبًا، وهذه المبادئ هي:
- أولًا: يجب استعمال لغة الحديث العادي مع ضرورة اختيار الكلمة الدقيقة المحددة المدلول دائمًا، وليس الكلمة التي تقترب من الدقة أو تلك التي تهدف إلى مجرد التزيين.
- ثانيًا: خلق أوزان جديدة، أي إيقاعاتٍ «موسيقية» جديدة تعبر عن حالاتٍ نفسية جديدة، كما يجب ألا ننقل الأوزان القديمة؛ إذ إنها لا تعبر إلا عن الأحاسيس القديمة، ونحن لا نصر على استعمال «الشعر الحر» باعتباره الطريقة الوحيدة لكتابة الشعر، ولكننا نحارب في سبيل استخدامه لأنه يتيح للفنان حريةً في موسيقاه؛ ولأننا نؤمن أن فردية الشاعر تجد تعبيرًا في الشعر الحر أفضل مما تتيحه لها الأشكال التقليدية، فاللحن الجديد في الشعر يعني فكرةً جديدة.
- ثالثًا: أن يسمح بحريةٍ مطلقة في اختيار الموضوع، فليس من أسس الفن الجديد أن نكتب كتابةً منحطة المستوى عن الطائرات والسيارات، وليس من الضروري أن ينخفض المستوى الفني، حين نجيد الكتابة في موضوعاتٍ قديمة، إننا نؤمن إيمانًا شديدًا بالقيمة الفنية للحياة الحديثة، ولكننا نود أن نبين أنه ليس هناك ما هو أبعد عن الإيحاء الشعري وأشد إغراقًا في القدم مثل طائرة عام ١٩١١م.
- رابعًا: أن يقدم الشاعر صورًا فنية حقيقية (ومن هنا جاء اسم تصويري)، لسنا مدرسة من الرسامين ولكننا نؤمن بأن الشعر يجب أن ينقل التفصيلات المُخصصة في دقةٍ شديدة، لا أن يتناول التعميمات الغامضة مهما كانت رائعة وطنانة؛ ولهذا نعارض الشاعر التعميمي فهو في نظرنا يتهرب من الصعوبات الحقيقية لفنه.
- خامسًا: كتابة شعر صُلب واضح، ليس مهزوزًا أو غير محدد.
- سادسًا: وأخيرًا فإن معظمنا يؤمن بأن التركيز هو الجوهر الأساسي للشعر.
وقد استطاع هذا الكتاب أن يحقق رواجًا في الولايات المتحدة؛ إذ بيع منه في نفس العام ١٣٠١ نسخة، أما في إنجلترا فلم يحقق مثل هذا الذيوع، وعلى أي حال فقد أصيبت حركة التصويريين بالبطء، ونشب بين أعضائها بعض الشقاق، وذلك حينما تخلى عزرا باوند عن زملائه، وبالأحرى حينما لم يعودوا هم يقبلون رياسته للمدرسة.
ولم يضع باوند وقته بطبيعة الحال فأخذ يوجه اهتمامه وجهةً جديدة هي اكتشاف الموهوبين من الشبان، وتعليمهم أسس المذهب التصويري، أو على الأقل توجيههم إلى الطريق الموصل إليه، فبعد أن اكتشف «هيلدا دوليتل» و«أولدنجتون»، اكتشف «جون رودكار» و«إيريس باري»، وتحمس لشعرهم وأخذ يرسله إلى مجلة «الشعر» ومجلة «ذا ليتل ريفيو»، وقد كلل بحثه عن المواهب عام ١٩١٤م باكتشافه «لأمريكي يُدعى إليوت … الأمريكي الوحيد الذي استطاع أن يعد نفسه إعدادًا كافيًا للكتابة»، كما أرسل قصيدة إليوت الشهيرة «أغنية العاشق» (ج. ألفريد بروفروك) قائلًا إنها «أفضل قصيدة رأيتها أو سمعت عنها من بين مؤلفات الأمريكيين.»
ومنذ ذلك الحين تبنى باوند اكتشافه الجديد: ت. س. إليوت، وأخذ يدخل بعض قصائده ضمن مجموعات الشعر التصويري، التي توالى صدورها منذ عام ١٩١٥م.
أما «ت. إ. هيوم» فقد كان، كما قلنا، يوجه اهتمامًا أكبر إلى النظريات التي تقوم عليها المدرسة، وقد شغل نفسه حقًّا بهذه المشاكل في المقالات التي كتبها والكتب التي أصدرها منذ عام ١٩٠٨–١٩١٧م، فقام بتحليلٍ تفصيلي لما كان يعتبره المشكلتين الأساسيتين للفنان؛ الأولى تختص بالإدراك أو ما يراه الفنان، والثانية بالتعبير أو بطريقة إيصال المدركات إلى القارئ، فقال إن الإنسان العادي يدرك الأشياء إدراكًا عمليًّا، أي يتصل مباشرةً بما سيفعله هو في الحاضر أو في المستقبل، أي إنه لا يرى «هذه المنضدة» مثلًا، وإنما يرى «منضدةً ما» وهكذا، فهو يصنف الأشياء حسب نفعها المباشر أو الكامن، أما الفنان فهو لا يرى نماذج عامة وإنما ذوات فردية خاصة، وتنحصر مشكلته في رؤية الأشياء (كما هي في ذواتها)، بغض النظر عن الطرق التقليدية لرؤيتها، ويمكن تعريف الأدب، كما يقول، بأنه «الوقوف التام المتعمد عند رؤيةٍ فنية، والتحويم حولها، والتفكير الدائب فيها لحظة واحدة من الزمان، دون أن يؤدي ذلك إلى اتخاذ فعلٍ من لونٍ ما.»
أما المشكلة الثانية، مشكلة الخلق، فيقول هيوم إن الفنان عليه أن يطوع اللغة للتعبير عن رؤيته الجديدة، أي إن عليه أن يكسر الأنماط الجامدة العامة التي تجعل اللغة عاجزةً عن التعبير … عن الانفعال الشخصي بالنسبة لشيءٍ بذاته، فإن اللغة التي يستخدمها الإنسان العادي لا تحاول النفاذ إلى ذاتية الأشياء ونقل صورها الفردية المتميزة، وإنما تستعين على الدوام بعمليات تجريد متوالية تجعل الألفاظ أدوات ناقصة، لا تنجح أبدًا في نقل الشيء أو تقديمه، وإنما هي تقدم فحسب بعض صفاته التي يشترك فيها مع غيره أو التي لا تنفذ إلى جوهر فرديته، أما الفنان فبدلًا من نقل جزء واحد من الإحساس، ذلك الجزء الذي يمثل المعنى العام المتفق عليه بين الناس، يحاول أن ينقل المدى الكامل لإحساسه الفردي، أي إنه ينشد التعبير عما يقع خارج نطاق دائرة المعنى الذي تمثله الكلمة في صورتها العادية، ويتوقف نجاحه أساسًا على مقدرته على استخدام التشبيه، إذ إنه حين يكشف عن تماثلٍ جديد بين الأشياء يمكنه أن ينقل جدة رؤيته وفرديتها.
ويشرح هيوم خصائص التصوير الاستعاري قائلًا: «إن الصورة يجب أن تكون مجسدة مرئية، ويجب أن تكون كل كلمةٍ صورة مرئية وليست أداة عامة مجردة، فالصورة إذن تقديم لشيءٍ موضوعي، وانفعال القارئ بها يماثل انفعاله بالشيء الموضوعي نفسه، وهذا الاتصال المباشر بين القارئ والأشياء يلغي الاستعمال التقليدي للغة الذي يعتمد على التجريد أساسًا، كما أن الشيء الموضوعي يثير في القارئ إحساسًا يحاول الاستيلاء عليك، ويجعلك ترى على الدوام شيئًا موضوعيًّا، ويمنعك من الانزلاق في عمليةٍ تجريدية.»
والصورة المجسدة تهيئ الجدة والنضرة، مثلما تهيئ ذلك جدة التقابل بين الصورة أو أصالتها، وهذا هو المصدر الثاني من مصادر قوة التشبيه، إنه يسبب هزة اكتشاف مفاجئة لدى القارئ؛ إذ إنه في هذه الحالة لن يرى ما يراه في الحياة، وإنما سيرى صورةً جديدة مركبة من خلق فنان، وهذه اللمحة الخالقة هي سر التشبيه.
ويقول هيوم: «إن الجمال لا يوجد بذاته في الطبيعة في انتظار الفنان الذي يحاكيه … ولكنه يوجد في القدرة على تجميع عناصره في مركب الصورة الفنية.»
كان هيوم يحاول أن يقيم أساسًا ثابتًا لإيمانه بالتشبيه بأن يربط بين التفكير والتصوير، أي أن يوطد العلاقة الفلسفية بين الفن والفكر، فهو يقول إن الفكرة عبارة عن تقديم صورتين مختلفتين إلى الذهن في نفس اللحظة … أي اكتشاف تماثل جديد بين شيئين، تماثل لا يقف عند حدود الظاهرة، ولا يقنع بالمفارقات، وإنما يكشف عن ارتباط الجوهرين بخيط الفكرة …
وهيوم لا يقول بهذا إن التفكير الإنساني عبارة عن سلسلةٍ من الصور أو مجموعاتٍ متمازجة من الصور، وإنما يقوم أساسًا على الصور، فالفنان لا يستطيع أن يكتب دون أن تمثل له الصور تمثيلًا قويًّا، أي أن يضع حواسه على مصدر أفكاره النابعة من هذا الأساس الحسي الملموس.
وقد أكد هيوم أنه يدين لهنري برجسون بجوانب عديدة من نظريته الجمالية، فذكر جانبين من جوانب فلسفة برجسون وقال إنهما بالِغا الأهمية لكل من يتصدى لعلم الجمال.
فالجانب الأول خاصٌّ باعتبار الحقيقة فيضًا من العناصر المتشابكة التي لا يمكن للذهن أن يدركها.
والآخر خاصٌّ بتوجيه العقل ناحية الفعل، وتأثير هذا التوجيه على العادات الطبيعية التي يتبعها العقل في عمله، فالعقل أو الذهن يدرك المظاهر الخارجية بطريقةٍ تمكن الإنسان من اتخاذ فعلٍ ما، ولا تمكنه من معرفتها، أي تضع حجابًا بين الإنسان والحقيقة.
أما الفنان فهو وحده، لتحرره من ضرورة اتخاذ فعلٍ ما، يستطيع أن يرفع ذلك النقاب ويعري الحقيقة، فهو لا يسأل: «كيف أستطيع استغلال هذا لصالحي؟»
وإنما يسأل: «كيف يكشف هذا عن الحياة الداخلية للأشياء؟»
وبينما نجد أن الإدراك الطبيعي يرى في ملامح الكائن الحي «معالم مجتمعه لا تخضع لنظامٍ مشترك فيما بينها، وهكذا يضل عن الدافع الحيوي الذي يجري في عروقها ويهبها معناها، ونجد أن هذا الدافع الحيوي هو ما يحاول الفنان بالفعل، جاهدًا، أن يستعيده وأن يبرزه … حين يحطم الحاجز الذي يضعه الفراغ بينه وبين النموذج الذي يصوره»، وهذا هو الأساس الذي يقيم عليه نظريته في الإدراك الفني.
وقد استمد هيوم من برجسون أيضًا تحليله للغة، الذي يكشف عن القصور الذي يفرضه عليها خضوعها لمقتضيات التفكير العملي والمجرد، وخضوع اللغة للذهن يستتبع عجزها عن التعبير عما يراه الفنان، فهو يعترف بأن اللغة أثرت الذكاء ثراءً كبيرًا، فبدونها كان يمكن أن يظل الذهن مقتصرًا على معالجة الأشياء الخارجية من ظاهرها وحسب، ولم يكن بمستطيعٍ أن يتحرر فيمارس العمليات الفكرية الأكثر تعقيدًا.
ومع ذلك فإن خدمة اللغة للذهن تحد كثيرًا من قدرتها على التعبير عما يقع خارج نطاقه، فهي لا تستطيع مثلًا أن تعبر عن حقيقةٍ مثل الوعي؛ لأن الوعي يتكون من حالاتٍ متداخلة متشابكة، بينما تتحكم التحليلات الذهنية في اللغة، فتحد من قدرتها على التجميع والاتساع والشمول.
وهكذا نرى أن اللغة إذا حاولت التعبير عن حقيقةٍ تختلف في طبيعتها عنها، كان من المحتوم أن يكون التعبير عن هذه الحقيقة، الوعي مثلًا، في ألفاظٍ غير حقيقية.
وقد اهتدى برجسون آخر الأمر إلى حلٍّ لمشكلة التوصيل اللغوي لهذه الحقائق، وذلك عن طريق الصورة الفنية أو التشبيه، فحينما واجهته مشكلة التعبير عن الشيء «المتفرد بذاته» والأشياء التي لا يمكن التعبير عنها، بدأ يعتمد في فلسفته اعتمادًا كبيرًا على التشبيه، لم يكن يؤمن حقًّا بأن الصور يمكن أن تعبر عن الحقيقة تعبيرًا كاملًا أو حتى تعبيرًا جزئيًّا، ولكنه كان مقتنعًا بأن الصور هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن للإنسان أن يقترب عن طريقها من المكان، الذي يجبره على الإحساس بالحقيقة والتسليم بها.
يقول برجسون: «لا توجد صورة ما تستطيع أن تقوم مقام حدس الديمومة، ولكن عدة صور منوعة مستقاة من أشياء بالغة التنوع أيضًا، يمكن إذا تمازج تأثيرها أن توجه الشعور إلى النقطة المحددة تمامًا، التي يمكن عندها إدراك ذلك الحدس المعين.»
ويعلق هيوم على ذلك قائلًا إن الفنان يهيئ السبيل للحدس، بأن يخدر القوى الفعالة للذهن التي تقاوم الاستسلام للحدس، وبأن يخلق حالةً ذهنية يمكنها تقبل الإيحاء، فالشاعر يتوسل مثلًا بالصور الفنية والإيقاع الموسيقي للعبارة حتى يحدث ذلك التأثير.
ويقول برجسون: «إن الشاعر يطور أحاسيسه إلى صورٍ ويحيل الصور إلى كلماتٍ تترجمها، مطبقًا في ذلك قوانين الإيقاع.»
ويعلق هيوم قائلًا إن الشاعر يستطيع عن طريق إيقاعات كلماته أن يخضع الذهن له وأن يهيئ السبيل للحدس، فهو لا يسيطر على الصور الفنية فحسب، وإنما يستطيع أن يخلق حالاتٍ خاصة، مركبة دائمًا، تزيد من تأثيرها.
ونستطيع أن نلمح تأثير برجسون أيضًا في هذه الفقرة المقتطفة من كتاب هيوم «محاضرة في الشعر الحديث».
«فلنقل إن الشاعر انفعل بمنظرٍ طبيعي معين، إنه يختار منه صورًا معينة يضعها في مقابلات فيما بينها في أبياتٍ منفصلة، وبذلك يمكنها أن توحي وأن تبعث الإحساس الذي يحسه. وإلى جانب هذا التجميع للصور المتميزة بعضها عن بعض، وتقابلها في الأبيات المنفصلة نستطيع أن نجد تقابلًا موسيقيًّا يتمشى مع هذه الصور. وهكذا نجد ثورةً كبيرة في الموسيقى، حين يجري إبدال اللحن المنفرد في الموسيقى ذات البعد الواحد بألحانٍ توافقية ذات بعدين، أي إننا نجد صورتين بصريتين قد كونتا توافقًا بصريًّا … وهو ما يؤدي إليه اتحادهما من الإيحاء بصورةٍ تختلف عن كلٍّ منهما.»
وهيوم بهذا يستفيد من مجمل فلسفة برجسون، ويحاول أن يبني نظريته الجمالية عليها، دون إنكارٍ على الإطلاق للتأثير البرجسوني عليه.
وإذا تأملنا الفقرة الأخيرة في أناةٍ أكبر، رأينا أي فن معقد متطور كان هيوم يريد للشعر أن يكون، لقد كان يضايقه أن يشهد مسطحات اللوحة الرومانسية، أو أن يسمع اللحن المنفرد ذا الآلة الواحدة في شعر «وردزورث» أو «شلي» مثلًا … وكان يطمح إلى أن يرى أبعادًا جديدةً في شعر العصر الحديث، يمكن أن تجعل منه فنًّا عميقًا مركبًا، وليس بالضرورة معقدًا، يساير التطور العام الذي وسم الفنون التشكيلية والموسيقية في عصرنا الحالي، ولم يكن من الممكن أن يحدث ذلك إلا عن طريق الصور الفنية.