الشعر بين العامية والفصحى
(١) مِن بيرم التونسي إلى محمد الغيطي
ربما كانت بداية قصتنا مع شعر العامية ترجع إلى أقدم عصور العربية في كل مكان على امتداد الوطن العربي؛ إذ طالما ازدهر الشعر العربي على مستويَين، الأول هو المستوى «الرسمي» (وهذه هي الصفة التي أطلقها الدكتور عبد الحميد يونس رحمه الله على الأدب المكتوب بالفصحى المعربة شعرًا ونثرًا، والذي سُجِّل ودُوِّن وحظي بنقد النقاد وحفظ الرواة)، والمستوى «الشعبي» هو الذي كُتب باللهجات العربية المحلية، التي كان لا بد أن تنشأ وتزدهر على امتداد الوطن العربي كله، وأن تتأثر باللغات القديمة التي دخلت العربية عليها، أو امتزجت بها أو حلت محلها.
ولقد ظلم التاريخ هذا المستوى «الشعبي» فأهمله بصورةٍ كاملة تقريبًا، وكان حين يلتفت إليه يُكسبه لونًا من الشرعية بتحويله إلى «صورة» من صور الفصحى المعربة، ونحن لا نعرف على وجه اليقين متى بدأ امتزاج المستويين، ولكن الباحثين يعتبرون القرن العاشر الميلادي (الثالث الهجري) بدايةً «معقولة»؛ إذ شاعت الأقاصيص والأشعار التي سجلها أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني على الألسنة، وامتزجت بها روايات «شعبية» لقصصٍ هندية وفارسية، وكذلك عدد محدود من القصص الرومية (اليونانية)، إلى جانب قصص العالم القديم في مصر والشام، بحيث أصبح من المألوف أن تجد في القصص الشعبية أمشاجًا متباينة من هذه المصادر جميعًا، وبحيث يتعذر على الباحث أحيانًا أن يُرجع العناصر إلى أصولها المختلفة، كما هو الحال في كتاب ألف ليلة وليلة الذي يضم شتى الأخلاط التي ذكرناها، والتي يرجح الباحثون كتابتها في تلك الفترة.
وأشكال الشعر الشعبي كثيرة، منها ما سجله بعض المتخصصين في أدب الفصحى وربطوا بينه وبين نظائره في المستوى الرسمي (مثل الدكتور حسين نصار)، ومنها ما يسجله الآن كثيرٌ من الدارسين في بعض البلدان العربية باعتباره أدبًا مستقلًّا أو فرعًا مستقلًّا من فروع الأدب العربي (كما فعل رشدي صالح وفاروق خورشيد وكما يفعل شمس الدين الحجاجي)، ومنها ما يمثل ظواهر مستقلة ذات أبعاد ثقافية عامة جديرة بالبحث من عدة زوايا علمية تتخطى المجالات الأدبية الصرفة، مثل الزاوية الفلسفية والزوايا الاجتماعية والنفسية والسياسية (كما يفعل أحمد مرسى ونبيلة إبراهيم)، ولكن الواقع أن الأدب الشعبي لا يمكن فصله عن الأدب الرسمي حتى من زاوية اللغة، فأنا أختلف مع سائر الباحثين الذين يقيمون التفرقة على أساس اختلاف الأبنية اللغوية بين هذين المستويين؛ لأن في هذا تفرقةً شكلية قد تؤدي بنا إلى إقامة العديد من «أنواع» الشعر داخل كل إطارٍ من الأطر اللغوية العربية، وهذه تقسيمات غير فنية بل ولا دلالة لها في ذاتها من الزوايا العلمية التي سبق أن أشرت إليها.
أما مصدر هذا التقسيم اللغوي فهو خوف شعراء العربية (الرسمية) (برياسة أحمد شوقي)، من الخلط في كلٍّ من هذين المستويين بين العامية المصرية والفصحى كما فعل بيرم التونسي، وهو الخلط الذي تصوروا أنه يهدد الفصحى المعربة ويضربها في الصميم؛ لأنك لا تستطيع أن تتذوق شعر بيرم بالفصحى إلا إذا كنت قادرًا على إحالته إلى العامية، لا في ألفاظٍ بعينها فحسب، فهذا ليس بذي بال، ولكن في المصطلح اللغوي نفسه، وسوف أورد هنا نماذج لما استحدثه بيرم من خلطٍ أشاع الرعب في القلوب:
فنحن هنا أمام مصطلحٍ عامي مكتوب بالفصحى المعربة، وهو مصطلحٌ محلي صرف، حتى إنه أحيانًا ما يتناقض مع أصوله بالفصحى (مثل «جماعة» التي تشير إلى أهل البيت أو الزوجة، مثل «تنحط» التي تعني «تدخل» ولا شأن لها بالانحطاط)، ومصدر المتعة في هذا اللون من «الشعر» هو إدراك التناقض بين «الموضوع» الهازل والنظم العمودي الذي كتب به، حتى إن الإنسان لا يملك إلا أن يبسم له أو يضحك منه؛ لأن «القيمة الشعرية» فيه قيمة فكاهية في المقام الأول، أي إن مقصد «الشاعر» هنا ليس كتابة الشعر بل السخرية والدعابة، وإليك نموذج آخر يستخدم بيرم فيه «الصورة الشعرية» حقًّا ولكن لنفس الهدف، فهو يقول عن المرأة «الجرمانية»:
وعن الإيطالية:
وعن إحدى المصريات:
وقد يهبط بيرم التونسي إلى مستوى الشارع المصري حقًّا، حين يجعل بطله في إحدى المقامات (وهو يرسمه في صورة أشعب الطفيلي) يشتم صاحبه؛ لأنه تركه يسرف في تناول فواتح لشهية (الأوردفر)، فلا ينال ما يكفي من صنوف الطعام الرئيسية:
والواضح هنا أن إشارة بيرم إلى الآية القرآنية مقصودة لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وهي الآية التي تتكرر عدة مرات في سورة الكهف، بحيث يصور العلم لدى الفقيه الأول في صورة علم لدنيٍّ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا، وهكذا يزيد من رنة السخرية من جشع الرجلَين، خصوصًا حين نقارن مستوى اللغة هنا بمستواها العامي المصري (في الشتائم وغيرها)، وأقصد بالمقارنة هنا «الإحالة» إلى العامية التي تبلغ ذروتها فيما يلي:
وأتصور أن شارح ديوان بيرم لا بد أن يرفقه بحواشٍ تشرح للعرب من غير أبناء مصر معنى كلمة «أمير» المصرية (أي طيب القلب غير عدواني)، و«الغطا» (بمعنى الاحتجاب عن الرجال)، وربما معنى «كله» (بمعنى معظمه) ومفلفل (بمعنى غير مخلوط بأي شيءٍ بل متفرد الحبات وأبيض)، وأخيرًا «تثقل» (بمعنى تتدلل) وهكذا.
وختامًا أورد من بيرم التونسي قطعةً متكاملة مما يعتبر البداية الحقيقية لفن «الزجل» رغم أنها بالفصحى، وذلك للترابط النحوي الشديد بين كلماتها؛ «كأني باللصوص … سينتخبون عضوًا» في البرلمان.
والكلمة الأخيرة هي قلبٌ لكلمة «البرلمان» — والسبب هو ضرورة القافية — والمقطوعة كلها فكاهة منظومة من بحر الوافر، وهنا لا بد من الإشارة إلى ما كان يُسمَّى بالشعر «الحلمنتيشي»، الذي شاع في فترة ما بين الحربين، وعرفته معرفةً وثيقة في أواخر الأربعينيات في إحدى المجلات التي اختفت الآن (الاثنين والدنيا)، وأذكر بيتًا لا أذكر قائله ولكنه يصور للقارئ ما أعنيه (من قصيدةٍ عنوانها «شم النسيم أتانا يا أفندينا»):
وأظن ظنًّا أن موجة الشعر الحلمنتيشي التي ازدهرت في تلك الفترة، كانت لونًا من الاعتراض على الشعر الكلاسيكي الذي لم يكن قريبًا من روح الشعب في فترة الكفاح الوطني، التي صهرت طوائف الشعب في بوتقةٍ واحدة وأعلت من شأن الإنسان العادي ولُغته التي تحمل مشاعره وأفكاره، وتصب فيها تجاربه في التعامل مع العالم الذي كان قد بدأ يتفتح من حوله، بسبب دخول الراديو وانتشار الصحف وزيادة الوعي السياسي والاجتماعي بشكلٍ لم يسبق له مثيل، وأقرب شبيه بهذا انتشار فن المونولوج الغنائي الساخر (شكوكو، إسماعيل يس، ثريا حلمي، محمد الجنيدي آنذاك)، الذي كان بمثابة اعتراض على كلاسيكيات عبد الوهاب بالفصحى، بينما ظل فن الموال الشعبي مقصورًا على أهل الريف، ولا يكاد يصل إلى قلب المدن الكبرى.
وكان ازدهار فن «الزجل» إيذانًا بالاعتراف الرسمي بلغة الشعب كوسيطٍ فني، ومن يقرأ أزجال بيرم التونسي التي شاعت أيضًا في تلك الفترة، يدرك أن خوف أحمد شوقي منه كان له ما يبرره؛ إذ إنه — ببساطةٍ — حل محله في كتابة الأغاني التي ملأت بها أم كلثوم أسماع الشرق العربي كله، ولم يستطع أي كاتب للشعر (فصيحه وعاميه) أن ينافسه هذه المكانة، لا ولا أحمد رامي نفسه الذي اشتهر بأغانيه المنمقة ذات الحلاوة والطلاوة، فبيرم التونسي شاعرٌ لا يكترث لتقاليد الشعر المعروفة، ولكنه يمزج لأول مرة في تاريخ الشعر العربي بين الموال التقليدي بأنواعه المعروفة، وبين الأشكال الحديثة التي ولدت في المدن (وكانت التفرقة واضحةً كل الوضوح في إنجلترا مثلًا أثناء القرن الثامن عشر بين اللونين)، وفي هذا — دون جدال — تكمن عظمة إنتاجه الشعري.
وفي شعر بيرم القصيدة العمودية التي بدأت «زجلًا» وتطورت إلى الموال الدافئ الصادق، وأصدق نماذجه هي ما تغنيه أم كلثوم، وفيه أيضًا مقطوعات النقد الاجتماعي والسياسي الساخر اللاذع الذي تحفل به دواوينه، وفيه بدايات ما أصبح يُسمَّى بشعر العامية، وهو النموذج المقابل للشعر الجديد بالفصحى (شعر التفعيلة أو الشعر المرسل)، وربما كان جوهر هذه البدايات جميعًا هو وحدة الصورة الشعرية في القصيدة الجديدة، عموديةً كانت أو مرسلة، وهي الوحدة التي تهب القصيدة وحدةً داخلية، بحيث أصبح ما يميز القديم عن الجديد ليس اللغة بل الوحدة الفنية، وربما كان هذا أيضًا هو ما يميز الشعر العامي عن الزجل، ويميز الشعر الحديث عن القديم سواءٌ كتب بالفصحى أم بالعامية.
وقد يجد القارئ صعوبةً في إدراك ما أقول إذا لم أقدِّم له نماذج لهذه الأنواع المختلفة، متخذًا من بيرم التونسي أيضًا نقطة انطلاق جديدة، وهذه إذن قصيدة كُتبت بالعامية لكنها تستخدم ألفاظًا فصحى، وتتبع منهجًا يتميز بالتماسك ويحقق الوحدة الداخلية عن طريق المقابلة بين الفقرتين:
•••
والغريب أن هذه الوحدة تقوم على صراعٍ يقترب من الصراع الدرامي بأحدث معانيه، فهو يقوم على التقابل «الكنترابنطي» كما يقول أهل الموسيقى، أي المقابلة بين كل نقطةٍ ونقيضها، فالفقرة الأولى تطرح تساؤلاتٍ ترد عليها الفقرة الثانية، لكنها لا تلغيها، أي إن التكامل الداخلي بين الفقرتين لا يهتز بسبب هذه الإجابات، بل يمكن للقارئ أن يضيف بعد البيت الأخير نفس التساؤل الذي بدأت به الفقرة الأولى، بحيث تتضح المفارقة التي ربما كان الشاعر يرمي إليها، فالأرض رحيمة وجميلة وطروبة وكريمة، وهي مع ذلك تضطرب بالزلازل والبراكين، وتهزها العواصف والأعاصير، كأن لها وجهَين متناقضَين، ومع ذلك فإن عدم وجود هذا البيت إلا في افتتاح الفقرة الأولى، يجبر القارئ على قبول المقابلة التي يتغلب فيها وجه الأرض الجميل على وجهها العابس، ويرجح كفة الأنهار والأزهار والأطيار والفاكهة على كفة الزلزال والطوفان والإعصار.
جوهر هذا اللون من الشعر إذن هو «التركيب»، أي التنظيم الداخلي للصور والأفكار، الذي يجبر القارئ على الإحساس بنمطٍ معين، وما النمط في مصطلح النقد الحديث إلا «الشكل الداخلي»، الذي تحدث عنه كولريدج الناقد الإنجليزي الأشهر، فأرسى بذلك أساسًا من أسس التفكير الفني الحديث لا يمكن لأحدٍ أن يتغاضى عنه اليوم، فهو الذي يحكم شعر التراث الفصيح، وهو الذي يحكم اللون الجديد من الشعر الذي أرساه فؤاد حداد ونبغ فيه صلاح جاهين، وما فتئ يخرج لنا مواهب متعددة بعضها وصل مرحلة النضج واكتملت له عدته الفنية، وبعضهم ما يزال في وسط الطريق يصارع الأمواج.
أما مشكلة الشعر العامي الجديد فهي الخروج على الشكل الخارجي الذي كان بيرم التونسي قد أرساه، والاتكاء أكثر مما ينبغي على الشكل الداخلي، بحيث أصبح على القارئ أن يستمع إلى هذا الشعر، وأن يستوعب أنغامه حتى يتذوقه، خصوصًا بسبب محاكاته للشعر الجديد بالفصحى الذي انفرط شكله الخارجي هو الآخر، وأصبح القارئ لا يعرف للقصيدة بدايةً من نهاية؛ إذ إن الجيل الذي خلف صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي — وأنا أقصد جيل الشباب الذين يخطون خطواتهم الأولى في هذا المضمار — لا سيطرة لهم على الشكل الداخلي، وهم يكتبون من وحي الكلمات المكتوبة نفسها لا من وحي الرؤية الشاعرية الأساسية، التي هي عامل التوحيد الأساسي في القصيدة الجديدة.
وسوف أقف وقفةً قصيرة هنا عند فؤاد حداد وصلاح جاهين باعتبارهما من أهم عمد هذا الشعر الجديد، أما الأول فأعتقد أنه يمثل نقطة تحول في مجرى هذا الشعر؛ إذ ترك تمامًا الإحالة إلى الفصحى، وحاول جاهدًا أن يمنح العامية استقلالًا كاملًا يمكنها من نحت مصطلحها الخاص، وقد مكَّنته موهبته الأصلية من استحداث الصور الشعرية التي منحت هذا اللون من الشعر ثراءً لم يكن يعرفه على أيدي من سبقه، بل إن إغراقه في «المحلِّية» المصرية أعطى شعره مذاقًا خاصًّا جعل تأثيره يمتد إلى كل من عاصره، ولا أبالغ إذا قلت إنه بسط سلطانه على كل من كتب شعر العامية من بعده، ومنهم صلاح جاهين نفسه.
ولكن فؤاد حداد لم يستطع — على عبقريته الفريدة — أن يكسر طوق «العقائدية»، أي الإيمان بمجموعةٍ من الأفكار المثالية التي أرستها حكومة الثورة وأدانت كل من يخالفها، بل دمغته بالخيانة، ومن ثَم أصبح شعر فؤاد حداد موجهًا لمن اعتنقوا هذه الأفكار، وغير موجه لمن يخالفها، أي إنه يتطلب الاتفاق العقائدي أولًا، وربما كانت الأبيات التالية من ديوانه «كلمة مصر» تلخيصًا لهذا الموقف، وعنوان القصيدة «مبدأ الكلام»:
لهذا فإن شعر فؤاد حداد ينضح بمصطلح الستينيات، ويحس القارئ في ثناياه — صراحةً ودون مواربة — بأنه إما أنه يفترض فيه الإيمان بما يقول أو يطلب منه أن يؤمن معه به، مع الإدانة المضمرة له إن لم يؤمن؛ إذ مَن ذا الذي يجرؤ على إنكار «الطيبة» و«الشرف» و«الأصالة» و«الكرم» و«الحب» وسائر القيم الإنسانية العليا التي أسبغتها أقلام الكتاب في صحف الحكومة على مذهبٍ سياسي بعينه، في أعقاب قوانين الاستيلاء على أملاك الأفراد والشركات في يوليو ١٩٦١م، والمسماة «بقوانين يوليو الاشتراكية»، والمشكلة في هذا اللون من الشعر أنه دائمًا ما يضمر قضيةً ما، ويرتبط تذوقه بل يعتمد على قبول هذه القضية، وأعترف أنني رغم إيماني المطلق بقضية التحرر الوطني وبناء مصر الحديثة وقيم العلم والعمل والتقدم بصفةٍ عامة، لم أستطع أن أتخلص من الإحساس بأن هذا الشاعر يلوح لي بعصًا غليظة إن أنا أردت الاختلاف معه، فهو يخاطب القضية في ذهني، بصراحةٍ وبأسلوبٍ مباشر.
وقد تسربت كليشهات فؤاد حداد إلى شعراء الجيل التالي (الناس الحلوين، أخضر وأخضراني، الشمس غزالة داقة عصفورتين، النور، جنينة حلوة، إيدك في إيدي، يا صحبة الخير، الميه للعطشان …)، وأصبحت التراث الذي ينهلون منه، فالمثل الشعرية الجديدة هي الأسمر والأسمراني وندى الفجر وماء النيل وناي العبقرية وما إلى ذلك، بحيث تبرز صورة مثالية شعرية للحياة في مصر، تتناقض تمام التناقض مع ما كتبه بيرم عن واقع الحياة! لم يعد أحدٌ في شعر فؤاد حداد يشكو مثلما يفعل أفراد بيرم.
لأن تمجيد العقائدية لدى حداد يؤدي إلى إخراج صورة زائفة للواقع — صورة واقع منشود أو صورة حلم من نسج الكلمات والشعارات، فالكل في مصر سعيدٌ وواع بتاريخه المجيد، والكل أخضراني والناس حلوين والحياة عال العال — بنفس نبرة الأغنية التي أُلفت في أغسطس ١٩٥٢م ولم تعد تذاع وهي «ما خلاص اتعدلت/والحالة اتبدلت».
ولنقارن هذه الصور التي تطالعنا بها دواوين فؤاد حداد بعبقرية الصورة التي رسمها صلاح عبد الصبور في أول دواوينه «الناس في بلادي»:
وربما مما يزيد هذا التناقض بين الصورتين هو استحالة «مناقشة» صور فؤاد حداد؛ لأنها غير حقيقية (أي خيالية من نسخ ما يتمنى ويطمح إليه)، أما بالنسبة لصلاح عبد الصبور فقد انبرى له الدكتور زكي نجيب محمود، وعارضه في مقالٍ نشر بالأهرام بعنوان «ما هكذا الناس في بلادي»، ولم يغير الاختلاف شيئًا من طبيعة القضية المطروحة!
وليعذرني القارئ إن أنا سقت إليه باقي قصيدة صلاح عبد الصبور؛ لأنها تمثل الوجه الآخر لصورة الواقع، الوجه الذي لم تمله الحكومة «الاشتراكية»:
وعندما اتجه صلاح جاهين نفس الوجهة، أي عندما قرر كتابة شعر العامية، وهو بعدُ رسام كاريكاتير في العشرينيات يختط لنفسه طريقًا جديدًا، كانت ألوان فؤاد حداد تصبغ الوجود، وكان الخط الأساسي الذي أُمر الشعراء «بالتزامه» هو التفاؤل والإشراق، وكان «النقد الأيديولوجي» — وهي العبارة التي ابتكرها المرحوم الدكتور محمد مندور — يشهد أزهى عصوره، بحيث أصبح الالتزام «إلزامًا» في كل الفنون، وأصبحت الهراوة سيفًا مصلتًا على رقاب المبدعين، لم ينجُ منه كاتب ولا شاعر، وساد «الخوف» الذي عبر عنه نجيب محفوظ في قصةٍ بهذا العنوان، ولكن صلاح جاهين لم يخَف، بل انطلق يكتب غير هيَّاب عن كل شيءٍ، ورغم فرحته الشعرية الحقيقية — وهي الفرحة التي عمَّت أبناء جيلنا جميعًا آنذاك — تسربت أنغام الحزن إلى رباعياته، ومثلما كان أحمد عبد المعطي حجازي يصور خيانة المدينة له، وخيانة محمد علي للمماليك، وقتل المدينة لروح الريف النضرة في سلة الليمون، وضياع الصبي الأسمر الذي يبيع هذا الليمون بين وحوش السيارات، كان صلاح جاهين يصور غفلة الذليل المستعبد الذي يتصور أن لطريقه نهاية، سواء كان شعبًا أم فردًا يعيش في ظل الحكم المستبد:
هذه الدعوة إلى الثورة وإلى الوعي كانت تقدم مصطلحًا شعريًّا جديدًا، وإلى جانب الأشعار «السياسية» تخطى صلاح جاهين تقاليد فؤاد حداد، بأن كتب أشكالًا جديدة من الشعر الفلسفي العميق، والأغاني الشعبية الحقيقية، والشعر العاطفي الصادق، فكان بحقٍّ عملاق جيلنا والصوت الأصدق والأعلى في هذه الحلبة.
وأذكر أنه عندما أصدرت دار المعرفة ديوانه الأول «عن القمر والطين»، كنت في مكتب الأستاذ محمود عبد المنعم مراد في صحبة الدكتور مجدي وهبة والدكتور عبد الحميد يونس، ومعنا آخرون، حين ذكر أحدهم نهاية القصيدة الافتتاحية «شوفي قد إيه»، ودارت مناقشة حول دلالتها ووجدت صورة «الخروج» التي رسمها صلاح عبد الصبور باقتدارٍ في قصيدةٍ بهذا العنوان في ديوان أحلام الفارس القديم، وجدت هذه الصورة تبرز من أعماقي باعتبارها الصورة المقابلة، فعند عبد الصبور يخرج الشاعر من مدينته ومسقط رأسه بحثًا عن الملاذ والمأوى، بحثًا عن ذاتٍ جديدة تمثل موئلًا لمن تقطعت به سبل الماضي، وفي قصيدة جاهين يجد الشاعر هذا الموئل في العلاقة الإنسانية العميقة التي تربطه بزوجته، وفي كلٍّ من القصيدتين يستمد الشاعر وحيه من سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك عارضت تغيير النهاية ولكنها غُيرت.
وإنما سُقت هذه الأمثلة لأدلل على أن الاستناد إلى المستوى اللغوي للتفرقة بين الشعر العامي والشعر الفصيح ليس صحيحًا، فالشعر هنا مثل الشعر هناك، وروح العصر تفرض على هذا وعلى ذلك همومها وآمالها؛ ولذلك أدرجت شعر صلاح جاهين في سياق الشعر العربي المعاصر، في كتابي الذي أصدرته بالإنجليزية عن هذا الشعر (القاهرة، ١٩٨٦م).
•••
واليوم بعد أن ازدهر شعر العامية ولم يعد موقعه على خريطة الشعر العربي مجالًا للنزاع، آن لنا أن نتجاهل التفرقة بينه وبين الشعر «الرسمي» على أساس اللغة، فهو كما أسلفت ليس شعرًا «شعبيًّا» بالمعنى العلمي الدقيق، بحيث يمكن المقابلة بينه وبين الشعر الرسمي، ولكنه شعر وحسب؛ ولذلك أيضًا كان لا بد من هذه المقدمة الموجزة عن شعر العامية في مصر، حتى نضع محمد الغيطي في مكانه الصحيح، فهو يسير مثلما سار بهاء جاهين في خُطى صلاح جاهين، وهو ينشد الجدة في صوره ومصطلحه بحيث يرسم لنفسه طريقًا متميزًا، وهو يصيب أكبر قدر من النجاح حين يكتب القصيدة القصيرة، ففيها يتضح إحكامه للشكل الفني (أو الشكل الداخلي)، وفيها يستطيع توجيه بؤرة الضوء إلى صورةٍ معينة تحتل في العمل مركز القلب؛ ولذلك تجد أن التماسك الذي تتميز به قصائده القصيرة عادةً ما ينبع من وحدة الصور ومن ورائها وحدة الرؤية.
ومن النماذج المتميزة على ذلك قصيدة «النرجساية» التي تشغل فيها صورة الزمن العابر (أي صورة اللحظة العابرة) بؤرة القصيدة، وتخرج في عدة أشكال تكاد تتصارع حتى تصل إلى مفارقةٍ أعتبرها من أدق ما أبدع الشعر الحديث، وأعتقد أنها قصيدة جديرة بالوقوف عندها قليلًا.
تبدأ القصيدة بتصوير اضطراب «وجودي» يتعلق بسر هذا المصيف الجميل — بلطيم — الذي تنتقل فيه عين الشاعر بسرعةٍ خارقة (كالكاميرا الحديثة) من الأمواج إلى الشاطئ ثم إلى الأمواج، بحيث تلتقي صورتاه في لحظة اكتشاف السؤال الذي يعتبر المدخل للقصيدة: «السر إيه في النرجساية؟» ومن هذا السؤال ترسم كاميرا الشاعر مشهدًا عريضًا للشط، تبرز فيها صورٌ متعددة لهذه الزهرة، وليس اختيارها من قبيل المصادفة، فهي تعريفًا زهرة وحيدة تطل برأسها في الماء كأنما تتأمل صورتها (ومن خلف ذلك أسطورة نرجس، الفتى الذي عشق صورته فمات حبًّا وهيامًا بها)، وهي رمز للحظة العابرة مثل كل الزهور، وهي التي أعطت شعراء أوروبا فكرة «اقطف زهرة يومك» أي «عش اللحظة الحاضرة»، فالمستقبل سر لا يعلمه إلا الله!
ومن هذه الصورة التي تحتل، كما قلت، بؤرة القصيدة، تتبع الصور التي تمثل التطور الذي يصل بالصراع إلى ذروته، «ساعة الشفق»، وهي الساعة التي تلي الغروب مباشرة، ثم «الشفق اللي مر»، ثم اللحظة المحتومة «أوام ييجي النبا/وقت الرحيل للقاهرة»، ومن هنا حتى النهاية تتلاقى الصور وتتجمع كي تصوغ صورًا جديدة، تعتبر تنويعات على الصور الأولى للقصيدة، فالمتكلم الذي كان في البداية «موجة مهدهدة/بتجيني ريح/وتسيبني ريح»، يصبح الآن إنسانًا يضرب الأمواج بساعديه، ويتلهف إلى طوق النجاة الذي هو في حقيقته حلم اللحظة الفائتة، وهي لحظة لا يمكن أن تعود؛ لأن حياة الزهور محتومة، ولحظات الزمن مثل الأمواج لا تتكرر!
ومن أجمل النماذج على التشكيل الإبداعي — خارجيًّا وداخليًّا — قصيدة «تقسيمات»، وهي كما يوحي عنوانها تنويعات في الحقيقة على نفس الصور والأفكار التي تشغل نفس الشاعر، أي مصارعة اللحظات العابرة، وهي التي تبرز في صور الزهور والأمواج ولحظات البصر اللماح، بل (وهذه صورة جديدة تمامًا) في صورة النبض الذي يعلن انقضاء حياة الإنسان، حتى وهو يعلن حياته بكل إصرارٍ وتأكيد! وقد يخطر لقارئ هذا الكلام أن ثَم إحالةً هنا إلى بيت أحمد شوقي الشهير:
ولكن هذا يختلف عما يقوله الشاعر، فهو يجعل من النبض إيقاعًا للحظات اللقاء الوجدانية، التي تجعل من تمازج الأحبة تنويعات على نغم الحياة، تنويعات توافق وتناغم، أو ما يُسمَّى في الموسيقى بالهارموني؛ ولذلك فإن دقات الطبل في البيت الأول … دم … دم … دم، هي دقات النبض الذي يعلن تدفق الحياة، كأنه دقات المسرح التقليدية، سواء قرأته بفتح الدال وتسكين الميم ليعني الدماء، أو كهمهمةٍ لا يحتل المعنى فيها مكانًا كبيرًا!
وقد ذكرني هذا المطلع بمطلع قصيدة لي كنت كتبتها قبل أن يولد محمد الغيطي، عن طائرٍ جريح يأبى أن يموت إلا لدى القمة:
وللقارئ أن يتهمني هنا بأنني أنحاز إلى شعر الغيطي بسبب اتفاقه معي في المدرسة الشعرية، ولكن ذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ إذ توقفت أنا عن كتابة الشعر الغنائي منذ سنوات، ولم أعد أستخدم النظم إلا في الكتابة المسرحية أو ترجمة المسرح الشعري، ولكنني ولا شك أناصر المدرسة الحديثة وأومن بالإيقاع ذي المعنى الفني، أي الإيقاع الذي لا يلجأ إليه الشاعر باعتباره ضرورةً وحسب من ضرورات الشعر؛ بل لأن التجربة الشعرية تمليه عليه إملاءً، وبحيث يكون من المحال فصل الإيقاع عن عناصر الشعر الأخرى، وهذا شأن كل شعرٍ حقيقي على أي حال.
ولا أريد أن أستفيض في تحليل شعر محمد الغيطي، فهو ما يزال يتطور (ويتغير ويتبدل)، كما تشهد بذلك الاختلافات الواضحة بين القصائد التي كتبها منذ عدة سنوات، والقصائد الحديثة في هذا الديوان، ولكنني أريد وحسب أن أقدم للقارئ أهم ملامح هذا الشعر الجديد، وأن أشير إلى أهم مزاياه وعيوبه، أما مزاياه فقد أفضتُ فيها، وأما عيوبه فهي ما تزال تتعلق بالتركيب! فسواء كانت القصيدة قد كتبت عام ١٩٨٤م أو ١٩٨٩م، فما زالت تحمل آثار تردد الشاعر بين سحر الصورة المفردة، وبين البناء المتماسك الذي ينتظم الصورة فيما ينتظم من عناصر؛ ولذلك فإن أنجح قصائده هي التي لا تنازُع فيها بين الصور، يساعد على ذلك قصرها وتركيزها، ولا عجب في ذلك فإن الغيطي يستند إلى تراثٍ ما يزال في طور التشكيل، وهو يضيف إليه مع زملائه من شعراء العامية الشبان.
إنني أرحب بهذا الشاعر الجديد، وأرجو أن يتقبله القراء بمثل ما تقبلته به من ترحيب، فهو كسبٌ صادق لشعرنا العربي.
(٢) صلاح جاهين شاعرًا
عندما كنت أقدِّم برنامجًا إذاعيًّا منذ عدة أعوام عن الشعر العربي المعاصر مترجمًا إلى الإنجليزية، كان يتربع على عرش الشعر في مصر صلاح عبد الصبور وصلاح جاهين، وأنا أجمع بينهما ليس لأنهما رحلا عن عالمنا ولكن لأنهما استطاعا أن يحققا المثل الأعلى، الذي يصبو إليه كل شاعر وهو الحياة في وجدان الناس بتجسيده مشاعرهم، أي أن ينبع منهم ليصبَّ فيهم، وذلك على اختلاف الطرائق التي يتبعها كل شاعر، وعندما دار الزمان دورته وآن وضع المختارات الشعرية التي تمثِّل تيارات الشعر المعاصر في مصر في كتابٍ واحد، كان من الطبيعي أن يحتل الشاعران المكانة الأولى في الكتاب، فالأول يعيش في وجدان قارئي الفصحى في كل مكانٍ في العالم العربي، والثاني يعيش في وجدان كل الناس، وإذا كانت الصدمة قد عقدت لساني عندما رحل الأول فلم أكتب عنه شيئًا، فقد رفضت أن ينعقد اللسان هنا أيضًا، خصوصًا وأنني كنت قد كتبت منذ شهور مقدمةً موجزة لديوان ابن الشاعر الراحل — بهاء جاهين — باعتباره شاعرًا متميزًا ورث الكثير عن والده، واختلف عنه في الكثير، فأصبح امتدادًا حيًّا لتراثٍ خصب نفخر به جميعًا.
وإذا كانت الحياة في وجدان الناس نقطة انطلاقي، فقد عدت عندما اعتزمت الكتابة عن صلاح جاهين إلى وجداني ووجدان من حولي، وتساءلت ماذا يعيش فيه من شعر صلاح، وأذهلني ما وجدت! إن شعر جاهين يدف بين الجوانح ليس فقط ليجسد ما أحسسته في فترةٍ من فترات الصبا، ولكن ليرسم الطريق الذي سلكته الحساسية الجديدة في الفن والأدب جميعًا إلى حياتنا المعاصرة، وسوف أحاول أن أرصد أهم الخطى على هذا الطريق.
هذه إحدى الرباعيات التي ما تفتأ تعاودني:
إن الحركة في هذه الصورة حركة تجمع بين الدراما ولذع السخرية، والمرارة المتولدة عن هذه الصورة مرارة اكتشاف يمكن مقارنتها بلحظة التكشف التي تتوج كل صراعٍ درامي، ودون أن أوغل في التفاصيل يكفي أن أشير إلى الإيجاز المعجز في الصورة، إن الدعوة إلى الثورة مكتوبٌ عليها الفشل، ليس فقط لأن المخاطب «ثور»، ولكن لأن «الموقف» الذي خلقه الكاتب مألوف وقائم في نفوس القراء أو السامعين، إلى الحد الذي يحقق فيه الرمز درجةً من الشفافية تجعله غير مقصور على «الثور»، بأي معنًى من معاني التفسير (الغافل، العامل الآمل في المحال، الشعب المطحون الذي يتصور خطأً احتمال النجاء وما إلى ذلك)، ولكنه يصبح لازمانيًّا ولامكانيًّا، فالثور يمكن أن يرمز للأمل في نفس الكاتب ذاته، أو قل إنه حوارٌ باطن بين إحساسه بالحياة وعلمه بها، حوارٌ قائمٌ على عدة مفارقاتٍ أهمها حتمية الارتباط بساقية الحياة، التي لا تجف مياهها وتديرنا دوراتٍ أبدية، ولا شك في دلالة صورة الدائرة، تلك الصورة الفطرية القديمة، صورة الأزل والأبد، أيًّا كان ما يقوله لنا من ينظرون إليها من «خارج» الحياة! ووجه المفارقة هنا أن الأمل الدافع على الحياة أملٌ أعمى ولا حيلة لنا في عماه! إنه الإحساس «المودرني» الذي نجده في شعر كبار شعراء بريطانيا مثلًا في العشرين عامًا الأخيرة، الإحساس الذي يحوله جاهين إلى صورةٍ مطلقة أي مفتوحة الدلالة، تمامًا مثل الصورة التالية:
إن المُخاطب هنا طائرٌ صغير — قد يكون عصفورًا وقد يكون أصغر من ذلك — والدلالة المباشرة للصورة واضحة، ولكن الدلائل الباطنة قائمة ولا تقل في أهميتها عن الدلالة المباشرة، والتي كنت أتصور في صباي أنها سياسية في المقام الأول، انظر معي إلى البيت الثاني في الرباعية تدركْ ما أعنيه: إن الريح تدمِّر عش هذا الطائر بالفعل، وهو ليس إذن بقادر على الاحتماء من قسوة الطبيعة وغلبتها، وكذلك فليس بقادرٍ على الاحتماء من غلبة المخالب الضارية، ولكنه رغم كل شيء يحيا! إن دفعة الحياة فيه (مثل دفعة الحياة لدى الثور) تجعله يتقبل وجود تلك القوى التي لا طاقة له بمجالدتها، وهو لا يتعايش معها استسلامًا، فلديه هو الآخر «منقار» يستطيع به أن يحيا في عالمه!
إن الصور التي تزخر بها الرباعيات تقوم على الدهشة الشاعرية، التي تكمن في أعماق كل إحساسٍ رومانسي صادق، وهذه هي الخطوة الثانية التي نود رصدها لصلاح جاهين، الدهشة إحساسٌ مبعثه رؤية الكون بعيونٍ جديدة، كأنما ينظر إليها الإنسان لأول مرة، ويكتشف ما بها من متناقضاتٍ، حجبتها عنا أغشية الأُلفة والتعود، فالشاعر الصادق يشبه الطفل الذي يدهش لكل شيءٍ؛ لأنه بطبيعته يريد أن يتعرف على ما لا يفهم وأن يفهم ما يتعرف عليه، والشاعر الرومانسي الحقيقي إذن — على عكس الكلاسيكي — لا يقبل الواقع ولا يستسلم له فكرًا وشعورًا، بل هو يحاوره ويجادله في حلقاتٍ لا تنتهي من الإنكار والقبول، ثم الرفض والتقبل، ثم الرغبة في التغيير والتفاعل الخيالي! والشاعر الرومانسي عبر العصور (على عكس ما يتصور البعض) شاعرٌ واقعي؛ لأنه لا يحلق في الخيال إلا حين يمتزج الواقع في باطنه بمشاعره، التي قد يستمدها منه وقد يستمدها من خياله، ولذلك كانت الثورة الرومانسية في إنجلترا مثلًا في أول القرن التاسع عشر ثورةً على القوالب اللغوية التي تعني ببساطة قبول كل ما هو موجود، ولذلك فإن الشعور بغرابة الكون (الدهشة) وتناقضات المجتمع (دهشة من نوعٍ آخر)، يمثل عصب تمرد وردزورث على شعر القرن الثامن عشر، وعودته إلى الحرية والديمقراطية، وعصب دعوة شلي إلى التحرر والانطلاق، بل وعصب تمرد المحدثين على الحضارة الحديثة.
ولكن الدهشة التي يفاجئنا بها صلاح جاهين في كل عملٍ له دهشة، تمزج بين الاستخدام الدقيق لمفردات الواقع والرغبة الصادقة في تعديل رؤية هذا الواقع، وهذا هو ما أحسسته شخصيًّا عندما قرأت ديوانه الثالث «عن القمر والطين» أول مرة في مطلع الستينيات، كنا نجلس في مكتب الأستاذ محمود عبد المنعم مراد (دار المعرفة)، حين انطلق الدكتور عبد الحميد يونس يتحدث عن تجسيد صلاح جاهين للوجدان الجمعي، وتحدث الدكتور مجدي وهبة عن جرأة الشاعر في استخدام اللغة العامية المصرية، ولكنني كنت — على صمتي طوال المحادثة — أحس أن شيئًا ما في شعر الشاعر يتخطى كل ما قيل وكل ما يقال، لأنني (وكنت بعدُ معيدًا في قسم اللغة الإنجليزية، أكتب التمثيلية الإذاعية بالعامية، وأشترك مع سمير سرحان في كتابة المسرحيات أو إعدادها وترجمتها)، أقول لأنني كنت أحس أن سر صلاح جاهين لا يكمن وحسب في تجسيده الوجدان الجمعي (مثلما كان يفعل في قصائده الوطنية) أو استخدامه الجريء للعامية، بل يتخطى ذلك إلى مفاجأة القارئ برؤيته الجديدة حتى يدهش معه وله — وهذه لم تكن حيلةً شعرية بقدر ما كانت جزءًا لا يتجزأ من طبيعة عمله الشعري — وأعود إلى وجداني لأرى فيه هذه الأبيات من سلسلة «أهل الهوى»:
إن الدهشة هنا دهشة من يرفض أن يكون منحطًّا، فهي محاولة لتعديل رؤية الإنسان لواقعه، وهو كما نرى ليس واقعًا اجتماعيًّا بالمعنى الضيق، ولكنه واقع إنساني عام يتحول فيه الشعور الخاص إلى فرحةٍ كبرى بالحياة، وتزيد فيه الفرحة حتى لتكاد أن تصبح صنوًا لدافع الحياة أو لدفقة الحياة عند «الثور» وعند الطائر الصغير!
والخطوة الثالثة إذن هي هذا الاحتفال بالحياة الذي يشيع في شعر صلاح جاهين، وهو احتفالٌ يمكن إرجاعه إلى النزعة المتأصلة في كل رومانسي صادق، فالرومانسي يرى في الإنسان حياةً مستمرة لا تقف عند الموت ولا تكترث للموت، وهو لذلك يفرح بكل لحظةٍ تمر لأن كل لحظةٍ تؤكد له أن الرحلة جديرة بأن تُقصد لذاتها، وقد عبَّر صلاح عن هذه اللحظات في اللقطات الفرحة الكثيرة التي تشيع في جنبات ديوانه، وهي لحظات يستقيها من حياتنا المعاصرة بحيث لا يسع القارئ إلا أن يبتهج لما يبهجه، وأن يرى في كل شيءٍ مبعث تفاؤلٍ وأمل.
ومن بين القصائد التي اخترتها للكتاب الذي أعددته بالإنجليزية، قصيدةٌ تتميز عن سائر قصائده بالتورية الساخرة التي يتميز بها شعر العالم اليوم، وهي قصيدة تتناقض كل التناقض مع التشاؤم الذي يتميز به شعر السلف عن الموت والقبور — وأعود إلى ذاكرتي فأجدها محفورةً بها — بنصِّها الأصلي وترجمتها معًا — وها هي:
ضبط النبرة أو النغمة إذن هو الخطوة الرابعة التي يدين بها جيلنا من كُتاب وقراء لصلاح جاهين، وقد جاء هذا الضبط نتيجة حسٍّ شعري بالغ الرهافة؛ لأن الستينيات كانت سنوات انفعالاتٍ عاطفية يصعب ضبطها، وكم من شعراء تلك الأيام وكُتابها من وقع في تلك الهوَّة فلم يكتب له البقاء، وربما كان ينبغي هنا أن أخص بالذكر تلك الفنون الأدبية التي تغري بالانطلاقات العاطفية كالشعر في أشكاله المتعددة حتى المسرحي منه. إن كثيرًا من فنون الشعر الذي شهدته تلك الفترة قد جرفه تيار الرقة المصطنعة فوقع ولم يقم، كما أن كثيرًا من شعر هذه الأيام (وخصوصًا في أيدي الشباب) لا يسلَم من هذه الآفة، وضبط النغمة هو ما يعنيه فؤاد حداد من أن صلاح جاهين «يقص قماش الشِّعْر بمقص خيَّاط على المقاس» — (مقدمة ديوان أنغام سبتمبرية، القاهرة ١٩٨٤م) — أي إنه يحدث التعادل الدقيق بين العاطفة والمادة التي تجسدها، ثم تثيرها في نفس القارئ — وهو تعادلٌ عسير شاق لا يصل إليه الإنسان إلا بطول الدربة والمراس — وهو تعادلٌ لا يتأتى، حتى بعد طول الجهد، إلا بالموهبة الصادقة — وأعتقد أن الاصطلاح الشائع له في الستينيات كان «المعادل الموضوعي».
ومشكلة التعادل بين العاطفة (أو الشعور) والمادة (أو التركيبة الفنية من شخوصٍ ومواقف وصور وموسيقى وما إليها) ما تزال مشكلة المشاكل للشاعر الحديث، أي ذلك الذي يريد أن ينحت لنفسه مصطلحًا حيًّا من لغة الناس، فكل شاعر يكتب الفصحى يجد أن المادة قد «سبق تجهيزها» — إذا صح هذا التعبير — لارتباطها باستخدام العربية الفصحى في تراثنا الشعري الحافل؛ ولذلك فلا مهرب له إذا استخدمها من استدعاء دلالاتها في الأعمال الشعرية الكبرى (بل والصغرى) — ولذلك كان «المجددون» في شعرنا الحديث أولئك القلة الذين استطاعوا تحرير المصطلح الشعري من دلالاته التاريخية، فنحتوا صورًا وعبارات بل وألفاظًا جديدة، وأقاموا «تركيبات» جديدة، تضمن وصول أصواتهم الأصيلة إلى القارئ، وتحُول دون استدعاء الأصداء التي تضفي على مشاعرهم جوًّا تاريخيًّا لا يريدونه! وهكذا كانت النظرية عند فلاسفة المثالية الألمان في أواخر القرن الثامن عشر — وبخاصة عند شلنج — التي أثَّرت تأثيرًا مباشرًا على نظرية الشعر الرومانسية الإنجليزية، وهي باختصارٍ احتمال وجود مستوًى نفسي للتجربة يسبق المستوى اللغوي، أي إن التجربة الشعورية يمكن أن تسبق التعبير عنها أو أن توجد في صورةٍ غير لغوية؛ ولذلك كان ما يسميه «إيرفنج بابيت» «بالصوت الداخلي» (في كتابه اللاوكون الجديد) ترجمةً لهذه التجربة وليس التجربة نفسها؛ ولذلك ترى أيضًا محاولة الشعراء الرومانسيين «اقتناص» التجربة في صورةٍ خالصة أي قبل ترجمتها إلى لغة الأدب، فهي التي كانوا يشكون في نقائها ويتهمونها بالتزييف؛ لأن كل ترجمةٍ تتضمن قدرًا من التزييف!
وهذا هو السر في أن كل محاولات التجديد في الشعر الحديث تتخذ مجالًا لها لغة الحديث اليومي، ليس نشدانًا للتجديد في حد ذاته — ولكن طلبًا للتجربة في أنقى صورها — في الصورة التي تسبق ترجمة المشاعر إلى اللغة الأدبية، وقد حاول صلاح جاهين أن يفعل ذلك على استحياءٍ في بداية حياته الفنية، وأقول (على استحياء) لأنه رغم استعمال اللغة العامية كان يهتم الاهتمام الأول بالبناء الفني المحكم؛ ولذلك ترى أنه في قصائده الأولى بالعامية، لا يكترث بإخراج التجربة الباطنة اكتراثه بالصورة الفنية، التي ضربت لها عدة أمثال في بداية هذا المقال، ولكنه سرعان ما عاد للمبدأ الذي أتصور أنه يمثل الدافع الأول للكتابة بالعامية، وهو ما أسميته اقتناص التجربة في صورتها الخالصة، والمثل الواضح على الشكل الفني المحكم هو قصيدة «شوفي قد إيه»، التي يفتتح بها ديوانه «عن القمر والطين»، والمثل الأوضح على تبنِّيه النظرية المثالية التي أشرت إليها هي قصيدة «الشوارع» من ديوانه «قصاقيص ورق»، انظر إلى الصورة التالية من القصيدة الأولى:
إنها صورةٌ مألوفة وشائعة في الشعر الفصيح والعامي جميعًا، ولا تكاد تنقل لنا انطباعاتٍ حسية بالمعنى المفهوم؛ لأن إطارها المرجعي تجريدي، فلا صورة الطبيب محقَّقة، ولا صورة السهم محقَّقة، ولكنهما مترجمتان إلى لغة الأدب، أي إن الشاعر هنا يحيل القارئ إلى التراث، وهو (رغم أن الألفاظ عامية) يستند إلى بلاغة اللغة الفصحى، وصورة أحمد شوقي «يا ويح جنبك بالسهم المصيب رُمي» تختلط مع صورة حسين السيد «جبت الطبيب يداوي سألني الجرح فين»، بحيث يجد القارئ نفسه في أرضٍ مألوفة، ولا تمثِّل له الصورتان أي تحدٍ لخياله أو لحواسه، وعندما يمضي صلاح جاهين في قصيدته بعد إقامة هذه الرابطة من الألفة مع القارئ ليقدم صوره الجديدة (الجريئة)، فهو لا يتحدى القارئ بتقديم التجربة في صورتها الخالصة، ولكنه يقدم إليه تجربةً انطباعية (متقدمة في فن الصنعة إلى درجة الإحكام المذهل) عن لحظة الإلهام، فهو يربط بينها — مثل شلي — وبين لحظة الإلهام عند الأنبياء، والأبيات أشهر من أن تقدَّم ثانيًا في هذا المقال الموجز، ولكن انظر معي إلى قصيدة الشوارع، انظر كيف تتحدى التجربة الخالصة حواسنا وتشدنا إليها شدًّا:
هذا هو التحدي الشعري الحقيقي: أي أن تقدم تجربةً أصيلة في صورٍ أصيلة ولغةٍ أصيلة! ولعلك تدهش معي إذا تأملت الأبيات ثانيًا فلم تجد كلمةً واحدة ليست عربية الاشتقاق أو المصدر، فالحدوة هي الأحدوثة والحواداية مشتقة من حود «حاد، يحيد»، بل إن بعض الأبيات عربية الألفاظ والبناء! ولكن هذا جانب ثانوي، فالجانب الأول هو أصالة التجربة التي يضغطها الشاعر في كلماتٍ معدودة، ولا يمكن لشارحٍ أن يفسرها دون أن يفسدها! إن البيت الثاني يجمع الصبا والطفولة في صورةٍ واحدة، وكل منعطفٍ زاخر بالذكريات، وهي الذكريات التي يسميها الحواديت ولكنها تزاحمت، مثلما تزاحم البشر، فلم يعد لمن يعيش في أضواء النضج والعمل لكسب الرزق، إلا أن يرى فيها قصصًا تاهت في الزمان؛ ولذلك فهي تختلط بأوهام الطفولة «العفاريت» وظلام المنعطفات! إن شارع المولد رحم يخرج منه الإنسان ثم يعوده ليعجب منه، فهو يضيق في نظر الكبير مثلما تضيق جميع أمكنة الطفولة، مع أنها على حالها لم تتغير! وما يفتأ الشاعر يقدم صوره التي تبني تحديًا من بعد تحدٍّ حتى يصل إلى ذروةٍ محددة، وهي أن قلب الشاعر الناضج هو في حقيقة الأمر قلب طفل مولعٌ بذكريات الصبا؛ ولذا فهو «قديم» وليس كهلًا أو هرمًا!
إن التركيز الشديد في الصور والألفاظ سمة أولى من سمات شعر صلاح جاهين، وهي السمة التي تسمو بشعره إلى مصاف الأدب العظيم، فهو يستطيع أن يضغط في كلمةٍ أو كلمتين عدة أحاسيس، قد يستغرق غيره من الشعراء دهرًا في نظمها وبنائها، انظر إلى افتتاحية رثائه لبيرم التونسي:
هذه هي عروس الشعر التي كانت تلهم بيرم التونسي، وهي نفس العروس التي تلهم تلميذه صلاح جاهين، وهو يصفها في لمستين حاسمتين «الملاية اللف والكف المتحني» ثم لا يسهب! وهو يترك الصورة «تعمل» بدلًا من أن «يعمل» هو إما بتعليقٍ أو بتحليل! وأنا أعود إلى ذاكرتي فأجد تلك الأبيات التي تهز الوجدان هزًّا:
إن تصوير الموت هنا تصويرٌ يبلغ في أصالته ذُرًا لا أعرفها في أي شعرٍ بأي لغة، فالاعتزاز والكرامة التي اتسم بها الراحل لا يمكن تصويرها إلا في صورة الجبل الشامخ، فهو حين ينهار يحدث زلزلةً وأي زلزلة، ولكنه كذلك لا يتفوَّه بشكوى ولا يطلب رثاء؛ ولذلك فعندما يستمر صلاح في وصف سَير النعش يتحول بيرم من راحلٍ إلى قادم، ويصبح روحًا حيًّا يعرف القاهرة وشوارعها وأهلها، بل إنه يضمها ويقبلها:
ولا أعظم في رأيي من ختام تلك القصيدة التي طالما ترددت في ذاكرتي؛ بل هي تعيش في وجدان جيلنا إلى الأبد.
إننا لم نودِّع صلاح جاهين فهو موجود (شأن كل عمالقة الأدب) في ديوانه، وإذا كنت قد اقتصرت في هذا المقال الموجز على ما أحفظ من شعره … وهو كثيرٌ، فإنما كنت أحاول أن أثبت صحة نقطة انطلاقي، وهي إلى أي مدًى يمكن أن يكون وجود الشاعر في وجدان الناس مقياسًا لعظمته، بل إنني لم أتحدث عن أغانيه الوطنية، تلك التي بنت شبابنا وصبانا من قبله، ولم أتحدث عن أغانيه العاطفية، وهي التي حفظناها وعزفناها على أوتارنا، ولا عن مسرحه الشعري الخاص الذي أثرى به حياتنا وملأها بهجة، ولكن هذا له مكانٌ آخر ودراسة مستقلة.
(٣) مقدمةٌ لبهاء جاهين
عرفت بهاء جاهين أول ما عرفته منذ ثمانية عشر عامًا وهو بعدُ طالب في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بجامعة القاهرة، يتميز عن سواه بنضجٍ مبكر أشفقتُ منه عليه، فهو يعيش الأدب ويعشقه، يقرؤه فيستغرقه، ويحسه فيتعمقه، ويكتب الشعر فيتقنه، وكلما كتب شيئًا جاء به إلي، واستمع إلى تعليقي وتقبله بتواضعٍ صادق، وكان يغيب أيامًا أو أسابيع وأسأل عنه، ثم يعود بأبياتٍ أخرى يلقيها بين يدي لنعاود الكرة.
كنت أشفق على بهاء في تلك الآونة لأنه كان غير واثق مما يريد أن يفعل.
كان ممزقًا بين الدراسة والإبداع، لا يدري إن كان طريق حياته سيوصله إلى موقع الناقد الدارس أو إلى موقع الكاتب المبدع، كان يخشى الأول ويطمح إلى الثاني، مثلما كنت في مثل سنِّه، وكنت أخشى عليه من هذا التمزق مثلما كان أستاذي الدكتور شكري عياد يخشى عليَّ أنا منه، كان الذي حدث في أواخر الخمسينيات يعود في أواخر السبعينيات، وكأنما كانت الحياة تدور دورتها المحتومة لتفرخ جيلًا آخر ليواجه نفس الصراع، ويكتوي بنفس اللهب، ولما كنت قد وجدت أن الصراع ظاهري في الواقع، وأن دراسة الأدب تصقل الحس الفني وتعمق الوعي بتراث الإنسانية الأدبي، وأن القراءة المتصلة لازمة لربط الإبداع الجديد بالإبداع القديم؛ ولأنني — استنادًا إلى خبرتي الشخصية — لم أجد تناقضًا بين قراءة الشعر وكتابته، فقد شجعته على المُضي في دراسته، بل وألححت عليه ألا يهجر الدرس ابتغاء حرية موهومة من التراث.
وهكذا تخرَّج بهاء بامتيازٍ في قسم اللغة الإنجليزية وعمل معيدًا في الجامعة، كان إنتاجه الشعري قليلًا، ولكنه كان يُفصح عن موهبةٍ صادقة، وكانت نصائحي إليه آنذاك أن يزيد من إقباله على التراث العربي القديم، وألا يقتصر في قراءاته على تراث المحدثين، كنت أقول ذلك وما زلت أقوله للجيل التالي لجيلنا، حتى يتمتع بأكبر قدرٍ من الحرية في اختيار الشكل الشعري، فإن الشاعر إذا ألمَّ بالتراث الشعري الحافل العربي والأجنبي، استطاع شيطان شعره أن يجد له صوتًا متفردًا متميزًا لا يرجع صدى شاعر بعينه أو مدرسةٍ بعينها، والحق أن بهاء جاهين كان مُصرًّا على استلهام واقعه ونبض واقعه، ولم يكن يرى بأسًا في أن يكتب بالعامية إذا كانت أصدق في نقل رؤيته للواقع (على أي مستوًى من مستوياته)، أو أن يمزج العامية بالفصحى.
وبعد دراسته التي انتهت بحصوله على درجة الماجستير، وبعد إقامته في أمريكا فترةً خصبة حافلة، استطاع بهاء أن يتغلب على تردده الذي منعه من تقديم إنتاجه للقراء، وأن يقهر استحياءه من نشر شعر لا يثق في امتيازه، فأصغى إلى نصيحتي وجمع ورَيقاتٍ متفرقة تمثِّل خلاصة ما أسميه أول تجربة ناضجة للجيل الجديد في كتابة الشعر، وأنا لا أبالغ في هذا، فالديوان يمثل تجربة، والكلمة تستدعي إلى الذهن ما قاله وردزورث وكولريدج حين نشرا ديوانهما المشترك أول الأمر «مواويل غنائية» عام ١٧٩٨م، ومثلما كان وردزورث يجرِّب استخدام اللغة (غير الشاعرية)، أي لغة الحياة العادية في كتابة الشعر، رأينا الشعراء المحدثين في بريطانيا هذه الأيام يفعلون نفس الشيء — على اتساع الهوة التي تفصل بين وردزورث عن المصطلح الشعري في عصره — وهو المصطلح الذي حبس شعراء القرن الثامن عشر في قوالب متكررة من الصور والأخيلة وأنماط التعبير المعادة، فاستطاع أن يقترب من الواقع — اجتماعيًّا ونفسيًّا — وكتب قصائد أصبحت نماذج يطمح إليها كل من يريد الصدق الفني (الذي ينبع من الصدق النفسي)، وينبذ الزيف والبهرجة اللغوية الكاذبة، وكم كان العقاد يطمح إلى ذلك المثل الأعلى فيقترب منه حينًا ويبتعد عنه أحيانًا! ومع ذلك فقد كان وردزورث رومانسيًّا استطاع بطاقة المخيلة والرؤية الأصيلة أن يزيل لثام الألفة الذي يحجب عن الإنسان جمال الكون وحقائق نفس الإنسان، وأن ينحت لنفسه مصطلحًا شعريًّا جديدًا صار علَمًا عليه وحده، وهكذا فعل بهاء جاهين.
إن كل ثورة على المصطلح القديم رومانسية في جوهرها لأنها تنشد الحرية والتحرر، وتنشد الاقتراب من الواقع بما لا يستطيعه المصطلح القديم الذي يفقد طاقته على الإحياء لكثرة تكراره، بحيث يصبح نوعًا من «الكليشيهات»، ولا بد — في تقديم شعر بهاء جاهين — من توضيح ذلك، إن استخدام صور الزهور مثلًا في شعرنا العربي (الكلاسيكي) أصبح نمطيًّا لكثرة تكراره، بحيث فقد القدرة على استدعاء الصور إلى الذهن، فالشاعر العربي التقليدي لا يصور زهرًا بعينه أو زهرةً بعينها، ولكنه يستخدمها في إطار المصطلح التقليدي الذي يحيلها تجريدًا من التجريدات، فالشاعر علي الجارم مثلًا يستهل قصيدة له بهذين البيتين:
إن المصطلح الشعري هنا — والبحر هنا ثلاثي التفعيلة (الخفيف)، جزءٌ من هذا المصطلح — يحول دون استدعاء صور إلى الذهن؛ لأننا نعرف أن الشاعر يقصد أن الشعر هو الثمر والزهور والغصون جميعًا! فالاستعارة لفظية وتقف عند حدود أنغام الألفاظ، ولا تثير في الإنسان إلا لذة السمع الظاهرية! فنحن نطرب للصوت ثم لا نجد وراءه شيئًا … ولهذا نقول إن الاستعارة غير محققة، وهي بلاغةٌ قديمة لم تعد تثير في النفس إلا حاسة الطرب اللفظية، فإذا قارنتها باستخدام الرومانسيين للزهور وجدت البون شاسعًا، فالأقاحي عند وردزورث زهورٌ حقيقية لها رءوسٌ وهي ترقص على شاطئ البحيرة على إيقاع الأمواج، وأوراق الوردة عند شلي أوراق وردةٍ حقيقية تنشر لينام عليها الحبيب، وهلم جرًّا، ولا شك أننا نستطيع أن نرى في هذا وذاك معاني استعارية، ولكن الاستعارة محققة في الحالين؛ لأنها تقوم على انطباعاتٍ حسية محددة.
وهكذا كانت حركة «التصويريِّين» في مطلع هذا القرن، رغم إعلانهم الثورة على الرومانسية، ذات طابع رومانسي لا ينكر، وهو طابع يكسو شعر بهاء جاهين، إن الصورة عنده صورة محققة دائمًا، فهي تنبع من الواقع وتصب فيه، وهي صادقة لأن حزنها الرومانسي ينتمي لهذا العصر لا للتراث التقليدي … وهو يعتمد على البساطة اللغوية المتناهية، حتى لا يصرف أذن القارئ إلى أنغامٍ قد لا تمثِّل جوهر تجربته الشعرية، ويعتمد في كل قصيدةٍ تقريبًا على نوعٍ من التركيب خاصٍّ به، وهو التركيب الذي نستطيع أن نقول إنه يستند إلى جماليات المحدثين، فالقصيدة عنده وحدة واحدة تمثل لحظةً شعورية مركزة، تتكشف لنا بالتدريج من خلال الصور حتى تصل إلى ذروةٍ ربما فاجأتنا بقوتها ولكنها — في كل مرة — تلقي الضوء على ما كان الشاعر قد أوحى به أو ألمح إليه، فإذا بالبناء يكتمل حتى إنك لا تستطيع أن تضيف إليه، ولا أن تنتقص منه دون أن تفسده.
وقبل أن أوضح ما أعني بهذا أرجو أن يأذن لي القارئ، بأن أعود إلى قضية العامية والفصحى، التي ما فتئت تبرز لتثير عدة تساؤلات لا بد من التصدي لها، أما القضية نفسها فأكاد أجزم بأنها حُسمت، وهي لم تُحسم برأيٍ يدلي به أنصار الفصحى، أو برأيٍ يقطع به أنصار العامية وهم كثيرون، ولكن الذي حسمها هو الواقع الأدبي نفسه الذي انطلق فيه تيار الشعر المكتوب بالعامية ليقدِّم ثمارًا طيبة لا يمكن أن نتجاهلها، فهي شعرٌ صادق بأي المقاييس، وهو مكتوب باللغة الحية التي يتكلمها الناس ويفكرون بها، وهو ينبع من الواقع ويصب فيه، وهو يعمِّق إحساسنا به ووعينا بروحه وتفاصيله.
وأما التساؤلات التي تطرحها هذه القضية فسوف أطرحها بإيجاز.
في كل مرةٍ تنفصل اللغة التي يتكلمها الناس عن اللغة الرسمية — عبر تاريخ الإنسانية الطويل — تهب الأقلام للدفاع عن اللغة الرسمية، إما لأسبابٍ لا علاقة لها بالأدب من حيث هو أدب — مثل السبب السياسي الحالي وهو ربط أجزاء الوطن العربي بعضها بالبعض — أو لأسبابٍ تاريخية مثل الحفاظ على التراث، أو تعليمية أو دينية وهلم جرًّا، أو لأسبابٍ أدبية أهمها أن اللغة الفصحى أقدر على التصوير والتعبير عن الأفكار، وتجسيد أدق المشاعر والخلجات من العامية التي ما تزال في مرحلة التكوين؛ إذ لا يستخدمها العلماء ولا الأدباء في الكتابة، واللغة الفصحى تامة الأعضاء كاملة البنيان، وقد استفادت من اللغات الأخرى وامتصت تركيبات جديدة على مدى القرن الماضي، واستوعبت معظم ألفاظ الحضارة الحديثة وغيرها مما يجعلها صالحةً لكل شيء.
إن البداية القرآنية تسمو باللغة إلى مصاف الجدية المطلقة، فكأنما نحن إزاء زيارة وحي من السماء لا إزاء زيارة شيطان شعر، فالعبارة الأولى تذكرنا بالآية كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ وهي واضحة المرجع، «وأغمض عينيك» يحاكي تركيبها فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ — وهكذا يحدد هذا المستوى جديةً لا مراء فيها، سرعان ما يكسرها صوت الإنسان العادي الذي ينطلق من داخله لا من لسانه، فكأنما «مين اللي بيتكلم» ليست ردًّا على الأمر، بل تساؤلٌ نفسي لا يكاد يغادر شفة المتكلم! إنه يتساءل في نفسه وحسب، ما هذا الصوت؟ من يتكلم؟ (ولو قال هذا بالفصحى لبدا ردًّا على الأمر، أي إجابةً موجهة إلى الأمر)، الانتقال إلى العامية هنا إذن ضروري؛ لأنه يمثل انتقالًا إلى المستوى الداخلي، مستوى الفكرة لا القول.
وهكذا عندما تتوالى التساؤلات والإجابات يقع ما نسميه في لغة النقد الأدبي بالحدث الدرامي، فالصوت القادم من خارج الذات يدخل إلى قلب الشاعر، ويهب قلبه القدرة على تصوير حالة الوحشة، التي كُتب عليه أن يعيشها وهو يبين له مغبة انطلاقه في الدنيا، و«رقصه في زحام المرور» غير عابئ بحاله البشري ووجوده وسط أناسٍ لا يستطيعون أن يقدروا مد يديه إليهم!
هنا تعود صور «ابسط كفيك» بتنويعٍ آخر! فكلمة مبسوطين تلعب على مستويين لغويين في الوقت نفسه: الانبساط بمعنى السرور والسعادة، وهو المعنى الدارج، والانبساط الذي أوحت به كلمات البداية، وأكدته عبارة «فاتح لي إديك»، (أي عكس الانقباض، حرفيًّا!)، ومن ثَم تبرز المفارقة التي تقوم عليها القصيدة؛ إذ يتضح أن معنى «ابسط كفيك» ليس «مد يديك إلى الناس» ولكن استسلم! وهو الذي تؤكده الإشارة القرآنية:
كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ (سورة الرعد: ١٤)، وعند هذه الذروة لا بد أن يعود المستوى اللغوي الأول لينهي القصيدة:
ولا داعي للإفاضة — في هذا التقديم الموجز — لقدرة العامية التي يستخدمها بهاء جاهين على إخراج ضروب منوعة من الأنغام، تتفاوت في جديتها وسخريتها، ولكنها تتفق جميعًا في صدقها وعمقها، والواقع، إنني أجد أن القصائد المكتوبة بالعامية في الديوان صادقةً عميقة، تتميز بالحيوية والجدة والدقة في ضبط صورها (وهي الدقة التي كان «عزرا باوند» ورفاقه من رواد المدرسة التصويرية، ينادون بها لتحاشي التجريدات والتهويمات الرومانسية)، انظر إلى النغمة التي يخرجها الشاعر باستخدامه العامية المصرية في التليفون: إن المتكلم (بطل القصيدة) يعيش في عزلةٍ كأنما هو في سجن، وهو يستهل القصيدة بتنويعةٍ على مطلع أغنيةٍ شهيرة لعبد الوهاب «طول عمري عايش لوحدي»، لكي يؤكد أن عيشه ليس الحياة التي نعرفها، وأنَّ تعلق آماله برنين التليفون معناه أنه قد حُرم الاتصال بالعالم، وأنه لذلك «مش موجود»، والمفارقة في هذه القصيدة التي يجسدها الشاعر صراحةً في النصف الأخير منها، تتضمن توريةً ساخرة من أرق ما قرأت:
أما المفارقة فهي يسيرة قريبة المأخذ، مفارقة الوجود والعدم معًا، وأما التورية الساخرة فهي أن الإنكار على المستوى الواقعي إنكارٌ أيضًا على المستوى النفسي والرمزي، فكلمة «غريب» التي تتردد مرتين في سطرين متوالين، تلقي بظلالها لتشرح معنى عدم الوجود وتأكيده معًا، فكل صوت يأتيه غريب، وكل ذكرٍ لاسمه — رغم يقينه من إشارته إليه — يؤكد له غربته.
ثم انظر إلى النغمة الخفيفة التي تُخرجها هذه الصورة الدقيقة:
إن ما نسميه بالاقتصاد في الألفاظ والدقة في التصوير (اللذَين يفخر بهما الشعر الإنجليزي الحديث مثلًا)، يخرجان لنا لقطةً سريعة تأخذ طريقها إلى القلب دون تردد، فشوق الامتزاج مع الحبيب الذي تجسده الصورة، يتضمن عدة مشاعر توحي بها التفاصيل الدقيقة، «وتضبطها» النغمة العامة التي تعتمد على السرعة — كما قلت — وعلى رجع صدى الألفاظ في سمع القارئ.
واستخدام العامية هنا ضروري؛ لأن صورة «الليمونادة» — أو عصير الليمون المحلَّى بالسكر — تعتمد على تفاصيل نراها في حياتنا اليومية ولا نترجمها (بل لا نستطيع ترجمتها) إلى الفصحى، فالبنزهير صغير وأخضر — (مثل الشاعر!) ولا مقابل للكلمة في الفصحى — وكذلك تعبير «حتة السكر» فهي تعبيرٌ استعاري في العامية لكل إنسانٍ أو كل فتاة «حلوة»، ولا يقابله بالقَطع تعبير «قطعة السكر» التي تصرف الذهن إلى السكر الحقيقي.
النغمة هنا إذن تستمد طاقتها من توظيف العبارة للإيحاء بما لا تستطيع أن توحي به ترجمتها إلى الفصحى، والشاعر في هذا يذكرنا بمحاولة الرومانسيين الأوائل إخراج التجربة في صورتها اللغوية الأولى، أي قبل ترجمتها إلى لغة الشعر أو إلى اللغة الرسمية، اعتقادًا منهم أن هذه الصورة اللغوية أصدق لاقترابها زمنًا ومكانًا من التجربة الشعورية التي قد تسبقها (وكان بعضهم يؤمن بذلك، أي بوجود تجربةٍ نفسية تسبق الألفاظ المعبرة عنها) وقد تصاحبها، أي إن ثمة مستوًى للغة يمكنه مرادفة الشعور الذي يعبر عنه، وإذن فإن الإحساس الذي توحي به «حتة السكر» — كما قلت — قد يكون هو نفسه الإحساس الذي أوحى بهذا التعبير، وهو إحساسٌ يفقد قدرًا ما من الصدق الفني إذا تُرجم إلى الفصحى.
ولا يعني هذا أن القصائد المكتوبة بالفصحى تقل في صدقها عن قصائد العامية، فالشاعر هنا يتحاشى المصطلح التقليدي قدر الطاقة، ويستمد لغته من اللغة المألوفة في أجهزة الإعلام والكتب السيارة، بحيث يطبعها بطابع المعاصرة الكاملة، حتى لكأنها صورة أخرى من صور التفكير لدى كل متعلم.
ولكن بهاء جاهين يظهر أصالةً لا أجدها عند الكثيرين من شباب الشعراء، أصالة تضعه بهذا الديوان في مصاف النضج الفني، إذ يعتمد في قصائد الفصحى لا على النغمة وحدها، بل على الصورة أيضًا، وصوره تنطق في معظمها بلسان العصر وتجسد مشاعر المصري الصادق في هذه الآونة من حياتنا، وخصوصًا مشاعر الشباب الذي يجد نفسه محاصرًا بقيمٍ غريبة عليه — قيم قادمة من البلدان المحيطة به — فيستصرخ مشاعر انتمائه القديم، ويحاول دائمًا أن يتشبث بجذوره في تربة مصر المعطاء ونيلها الكريم، فالقصيدة الأولى في الديوان تجسيدٌ رائع لهذه المشاعر، ومصطلحها الشعري جديد، وكذلك القصيدة التالية «رحلة في فنجان»، ولو أنها ترجع بعض أصداء صلاح عبد الصبور، أما القصيدة الثالثة — تقرير — فهي تعتمد على النغمة أكثر من الصورة، وهي النغمة التي يعتمد فيها الشاعر على تكرار سطر واحد يتغير معناه من موقعٍ إلى موقع في القصيدة، حتى يكتسي مرارةً واضحة نتيجةً للإحباط الأليم الذي تصوره القصيدة في سرعةٍ لاهثة.
وربما كان ثَم تشابه غير مقصود — ولكنني أجده جديرًا بالرصد — بين قصيدة معنى الأيام في هذا الديوان وقصيدة لإمام المحدَثين من شعراء الإنجليز هو فيليب لاركن بعنوان الأيام، فاليقظة التي يتحدث عنها لاركن هي يقظة الحياة والنوم الذي يتحدث عنه بهاء جاهين هو الموت، والقصيدتان على اختلافهما في التصوير تتفقان في رنة السخرية، التي تنبع من الوعي بأن الحياة تذكر الإنسان بوقع الخطى نحو الفناء، انظر إلى بداية قصيدة لاركن:
إن جو المباشرة والتلقائية الذي يسود هذه الأبيات يخفي نبرة السخرية التي يخلقها السؤال الإنكاري في البداية، وتؤكدها نبرة الهزل في البيت الأخير، فالنبرة الساخرة تقول أكثر مما تعنيه الألفاظ وتوحي بجانبٍ مما تتضمنه أبيات بهاء جاهين في ختام قصيدته:
أما الجانب الآخر الذي لم يصرِّح به بهاء، فهو الصورة التي يرسمها لاركن في الجزء الثاني من القصيدة، صورة مرض الموت الذي يجعل الإنسان يستدعي الطبيب ومعه قسيس، يجريان لاهثين حتى يدركا المرء قبيل رحيله عن الأيام (وقد اخترت بحرًا آخر):
ولا داعي للإفاضة في مدى «الحداثة» التي تتسم بها قصائد شاعرنا الشاب، ويكفي أن أقول إنه شاعرٌ ذو موهبة كبيرة، استطاع أن يفلت من أنغام معظم المعاصرين من الجيل الذي سبقه، ونجح في أن يتخذ لنفسه صوتًا متميزًا، وأن يشق طريقًا جديدًا أمام جيلٍ جديدٍ.
(٤) البالاد أو الموال الغربي
لا يمكن للمرء أن يتجاهل هذه الأيام ظاهرة «أغاني الفولكلور» والمغنين الذين تخصصوا فيها، كما لا يمكن لنا أن نهرب من هذه الأغاني — سواء موسيقاها أو أشعارها — إلا إذا صممنا على أن نغلق على أنفسنا الأبواب فلا نسمع الراديو، أو الأغنية التي تحكي قصةً بسيطة، والتي تقترب إلى حدٍّ كبير من الموال في أدبنا العربي، ويمكننا دون إجهاد أن نضع أيدينا على خصائص هذا النوع — الذي يبدو لأول وهلةٍ أنه جديدٌ بعض الشيء — وهي باختصار: الموسيقية الغلابة، القصة البسيطة (التي تقترب من «لقطةٍ عابرة»)، واللغة العامية بل الدارجة أحيانًا، وروح الفكاهة أو على الأقل انتفاء روح المأساة، وأحدث «بالاد» سمعناه يصور ذلك تمامًا، وعنوانه «أخد إيه» ترجم إلى العامية لأنه مكتوبٌ بعاميةٍ محضة:
وفي الوقت نفسه سمعنا أغنيةً شائعة في العالم الغربي عمومًا، وعرف لحنها معظم الناس، وهي تختلف عن هذه في التكرار الذي تتميز به، وفي انعدم عنصر السرد تقريبًا، وانعدام الفكاهة، وفي مسحة الجد الرومانسية التي تكسوها، واسمها عشرة آلاف ميل أو «وداع الأحبة»:
وربما كانت هذه الأخيرة هي نقطة انطلاقنا إلى تفهُّم صلة هذه الظاهرة الجديدة بجذورها التاريخية، وإدراك عناصر الجدة وعناصر القدم فيها، فهذه الأغنية الحديثة لا مؤلف لها … ولحنها أشهر من كلماته، والحقيقة أنها ليست جديدة على الإطلاق، ولكنها إحياءٌ لأغنيةٍ شعبية كانت تتمتع بنفس الشيوع في القرن السادس عشر:
إن التشابه بين الأغنيتين لا يمكن أن يكون وليد المصادفة، ورغم تغير العالم وتغير مغزى المسافات فإن العشرة آلاف ميل لا تزال رمزًا لبعد الشقة وصعوبة اللقاء، ولكن إذا كانت هذه هي نفس القصيدة، فهل هناك أصولٌ أدبية أخرى للبالادات الفكهة أو الساخرة الحديثة؟
مواويل كبلنج
لا يمكن أن نحدد بداية النهضة في فن البالاد في القرن العشرين عند تاريخ محدد، فالواقع أن الأغاني الشعبية — مهما تفاوت حظها من الشعبية انتشارًا وانحسارًا — لم تمت أبدًا، وظلت تتردد في أنحاء البلاد على كافة المستويات طوال قرونٍ عديدة، ولكن الذي حدث في القرن العشرين هو أن ثورةً أدبية — مشابهة لثورة وردزورث وكولريدج في بداية القرن التاسع عشر — قامت بالنسبة لموقف الأدب الرسمي (كما يسميه الدكتور عبد الحميد يونس) من الأدب الشعبي، وباختصار فإنه مثلما دعا الشاعران الإنجليزيان الرومانسيان في أول القرن الماضي إلى عدم نبذ البالادات من دنيا الأدب، والاعتراف بهذا الشكل الفني باعتباره أدبًا رفيعًا، بالرغم من نقائصه الفنية واللغوية، وذلك (بصفةٍ رئيسية) لتجسيده لمشاعر الإنسان الأولية وثراء مادته العاطفية، وجدنا ت. س. إليوت في مقدمةٍ نقدية كتبها لمختاراتٍ من شعر رديارد كبلنج — الذي ارتبط اسمه بالإمبراطورية البريطانية وحياة الإنجليز في الهند — ينبه النقاد والأدباء إلى أن هذا الشاعر قد بعث فن الموال، وأن سر نجاحه يعود إلى ذلك، مؤكدًا أن نظم المواويل ليس فحسب مرحلةً من مراحل تطور الشعر، ولكنه لونٌ فني لا يزال حيًّا ومتطورًا (بطريقته الخاصة)، وأنه يهب لذةً أدبية دائمة.
وربما اختلفنا مع إليوت في تفسيره لشعر كبلنج، الذي يميل كثيرًا إلى اتخاذ نعرةٍ قومية وتفاخر ممجوج بعظمة الإمبراطورية، وربما كان إليوت نفسه متأثرًا بقول كبلنج إنه كان يكتب المواويل، فهو يسمي قصيدةً من أشهر قصائده «موال الشرق والغرب»، تلك التي تبدأ:
أقول ربما اختلفنا مع إليوت، ولكن الحقيقة أن تأثير هذه المقدمة النقدية، قد تخطى حدود تقييم شعر كبلنج إلى فتح عيون النقاد، إلى هذا اللون من الشعر الذي يستمد حياته من الشعب، ولن يموت أبدًا طالما ظل في الشعب حياة.
البالاد … شكلٌ فني محض؟
ولم يكن الباحثون قبل إليوت أقل اهتمامًا بهذا اللون، الذي ساد القرن التاسع عشر، ولكنهم اختلفوا ولا يزالون حول تعريفٍ جامع مانع له، وأهم اتجاهاتهم هي أولًا نزعة تؤكد أن الموال شكلٌ فني محض، أي إطار فني من الموسيقى والألفاظ، له روحٌ خاصة به تشكل أي موضوع يتناوله، وأهم من دعا بهذا هو البروفسور و. ب. كير في كتابه «شكل الشعر وأسلوبه» (الذي بين أن البالاد من الناحية التاريخية لا يمكن إلا أن يكون شكلًا فنيًّا محضًا، فالكلمة اللاتينية التي اشتق منها اسم «بالاري» معناها يرقص، ومنها اشتقت كلمة باليه، وهكذا فإن المواويل لا بد أن تعتبر أغاني أولًا وقبل كل شيء، مهما كانت موضوعاتها).
والاتجاه الثاني يعتمد أيضًا على الأصول التاريخية لهذا اللون من الأدب الشعبي، قائلًا إنه ذو صلة وثيقة بحياة الشعب في أفراحه ومآسيه، إذ كانت المواويل هذه تنشد في المناسبات السعيدة وفي المآتم (وخاصةً في بلاد إسكنديناوه، كما بين ذلك البروفسور إنتويسيل)، ولا بد أن نعتبره صورةً من صور المجتمع، معبرًا عن المشاعر الإنسانية التي يحفل بها، والتي تتركز في لحظات الانفعال الجماعية في هذه المناسبات.
وهناك اتجاهٌ حديث يعترف بصحة الاتجاهين السابقَين ويجمع بينهما، كما أنه — وهذه أهم سمة فيه — يتناول المواويل هذه ليس على أساس أنها فولكلور من نوعٍ خاص يندرج تحت علم الاجتماع، بل وربما علم النفس الاجتماعي، ولكن على أساس أنها أدبٌ وحسب، وهنا نجد أن النقاد وخاصةً أولئك الذين اهتموا بهذا اللون وتخصصوا فيه، يسلمون بأنه لا حاجز هناك بين الأدب الشعبي (باعتباره أن المواويل شعبية المنشأ واللغة والتكنيك)، وبين الأدب الرسمي الذي يفترض فيه مخاطبة المتعلمين، واستخدام فنون لغوية (رفيعة)، وقد بدأت هذه الدراسات في بداية الستينيات معتمدة على ما جمعه الدارسون من مواويل، وأهمها مجموعة مواويل فرانسيس تشايلد في القرن التاسع عشر، ومجموعة روكسبره ومجموعات بروفسور رولينز الحديثة.
المواويل والملاحم
وأهم ما انتهى إليه جهد الباحثين في هذا الصدد، هو تقسيم المواويل إلى نوعين: (١) المواويل التقليدية و(٢) مواويل الشارع، أو الأزجال الساخرة، أما الأولى فقد نشأت في مجتمعٍ ريفي لم يعرف القراءة والكتابة، وكان لا يزال يعيش في جوٍّ من العقائد والشعائر الموغلة في القدم، ولم تكن هذه المواويل من تأليف شاعر بعينه، ولكنها كانت نتاج قرائح ولغة الأجيال المتعاقبة، فسواء كانت تقدِّم لقطةً فنية محدودة أم تحكي قصةً بطولية طويلة، فإنها لم تكن تقتصر على تصوير مجتمع بعينه أو تتناول أمور بقعة خاصة، ولكنها كانت تعبر عن وجدانٍ جماعي، ربما امتد ليشمل عدة مجتمعات على مدى عدة أجيال، وربما احتوى عدة قصص يتداخل بعضها في بعض تداخُل الملاحم الكلاسيكية.
التصوير والرمز
ومما يؤيد هذا الرأي هو الطبيعة التصويرية التي تتميز بها هذه المواويل التقليدية، والتي تشبه الملاحم شبهًا كبيرًا، وربما كان أسطع دليل على ذلك فشل الرموز الدينية، التي شكلت ضروبًا شتى من الأدب في العصور الوسطى، في تغيير طبيعة المواويل حتى المسيحية منها، فلا يمكننا إلا أن نلاحظ ذلك الرباط القوي الذي كان دائمًا يشد المواويل إلى دنيا الأساطير وعالم الملاحم الكلاسيكية، رغم تغير أوروبا فكرًا وإحساسًا، ورغم شيوع الدين السماوي الجديد، فكما قال البروفسور شبرد، نجد أن هذه المواويل حتى الدينية منها، تستقي صورها ورموزها من الملاحم الشعبية، أي أنها «كانت تقدم الأفكار المسيحية في قالب أسطوري مستقًى من الملحمة»، ويمكننا أن نرى ذلك بوضوحٍ في هذه القصيدة التي تشيع فيها روح الغموض، وذلك الجو الرمزي الذي تضرب جذوره في أعماق عالم الوثنية وعالم السحر:
ولعل هذه القصيدة تكفي لتبيان تكنيك السرد في المواويل التقليدية، التي يقول عنها هودجارت (في كتابه «المواويل») إنها «تعتمد على اللقطات السردية التعسفية — أي التي لا ترتبط بمنطقٍ محدد — وعلى صورٍ فنية مشابهة لصور الأحلام، وعلى التقابل — أي وضع الانطباعات بعضها إلى جوار بعض — بدلًا من الشرح والتفسير، وتتوسل بالحدث بدلًا من التحليل عند تناولها للأفكار والشخصيات»، ويمكن أن نضيف إلى هذا أنها تميل إلى الرمز في تناولها للحدث أكثر مما تميل إلى التصوير الواقعي الدقيق؛ وذلك لاستقائها المادة الأولى من التراث، ومن موسيقى الكلمات الأصلية التي تتوارثها الأجيال، وللعنصر الجماعي في تأليفها وإنشادها.
مواويل الشارع أو الأزجال الساخرة
وقد ظلت هذه المواويل التقليدية بشتى أنواعها شائعة، يتناقلها الرواة ويتغنى بها الناس جيلًا بعد جيل، حتى اخترعت الطباعة وانتشرت، فبدأ بعض أصحاب المطابع في استغلال هذه المواويل لكسب الرزق، ولكن هذه المواويل بدأت تتحول على أيدي هؤلاء (الذين يسميهم البروفسور جريرسون بالصحفيين) تحولًا جذريًّا؛ لم تعد تتناول المشاعر الدينية أو البطولية أو الرومانسية بشكلٍ عام، وإنما أصبحت تتناول المشاكل الاجتماعية الدقيقة، التي يعاني منها أهل المدن، وانتحت في تناولها لهذه المشاكل ناحية الفكاهة والواقعية، بدلًا من المأساة والرمزية، بل إنها اكتسبت اسمًّا جديدًا هو «بالاد الشارع»، وشاعت في المجتمع المتعلم أو نصف المتعلم في الحضر، وبخاصة في الطبقة العاملة التي بدأت تظهر في المدن.
وكان أصحاب المطابع يطبعون المواويل — دون ذكر اسم المؤلف — على جانبٍ واحد من «صحيفة عريضة» (كما كانت تُسمَّى) من الورق السميك نوعًا، وحوله زخارف ورسوم ذات أنماط متكررة، وكانت تُباع في الأسواق وفي الطريق العام، وتدريجيًّا بدأ المؤلفون يستغلون أخبار الساعة في صياغة مواويل تتناول هذه الأحداث، سعيًا وراء الكسب والإثارة، ورغم أن الموضوعات الجديدة التي تتناولها هذه المواويل أصبحت محدودة إلى درجةٍ كبيرة، إلا أن هذا اللون أصبحت له وظيفة اجتماعية من نوعٍ آخر؛ ألا وهي النقد اللاذع للمجتمع الذي نشأت فيه، ومثال ذلك هذه القصيدة التي هي أقرب إلى الزجل منها إلى الشعر (ولذلك ترجمت إلى العامية)، وبعض أبياتها تقول:
والواضح أن هذه القصيدة — أو هذا الموال — كان يؤلف ليتغنى به على أنغام لحنٍ تقليدي — أي أن الكلمات تركب وحسب على اللحن الموجود — ولهذا كانت سريعة الانتشار، وذات تأثير فعال في نشر الوعي الاجتماعي وتعميق إحساس الناس بالأوضاع السائدة، في وقتٍ لم تكن الصحف قد انتشرت فيه انتشارها اليوم.
ولقد كان «الأدباء الرسميون» أي أصحاب الشعر الفصيح المطبوع في دواوين خاصة، يحسون بقدرة هذه المواويل على تصوير المشاعر التي تفوتهم وتصعب عليهم بسبب تقيدهم بالفصحى، ولكنهم كانوا يأنفون من كتابتها بسبب ارتباطها بالعوام من غير المثقفين، وبسبب الموضوعات التافهة أحيانًا والروح غير الأخلاقية التي كانت تسود كثيرًا منها، ولكننا نعرف أن نُقادًا كبارًا مثل الدكتور جونسون نفسه وإديسون وغيره من عمالقة القرن الثامن عشر، قد أثنوا على بعض هذه المواويل، كما امتدحها وأحس بقيمتها الفنية شعراءٌ بارزون مثل كوبر وجراي وغيرهما من أبناء نفس القرن — بل إن بوب نفسه كتب موالًا ذات يوم! — ولكن المواويل لم تكن في ذلك القرن تعد من بين ألوان الأدب المحترمة، صحيحٌ أنها أثرت في الكثيرين من الشعراء مثل بليك وبيرنز، وصحيحٌ أن كثيرين من صغار الشعراء قد حاكوا هذه المواويل شكلًا وموضوعًا مثل برايور وشنستون، ولكن الثورة الحقيقية التي أتت بهذا اللون الأدبي إلى مكان الصدارة في عالم الشعر، لم تقم إلا حين أصدر كولريدج ووردزورث ديوانهما المسمى «مواويل غنائية» عام ١٧٩٨م.
ومثلما فعل الرومانسيون، نجد أن الشعراء المحدثين لا يبنون مواويلهم على الأنماط التقليدية الحديثة فحسب، ولكنهم أيضًا يستلهمون مواويل الشارع، ويستقون منها روح السخرية والدعابة والواقعية، وربما اعترض معترضٌ قائلًا إن بعض الشعراء المبدعين مثل لوي ماكنيس، قد كتبوا مواويل أصليةً تفيض حيويةً وتجيش بالمشاعر الرومانسية، دون محاكاة أي من النوعين في الأوزان والقوافي والألحان، هذا لا شك صحيح، ولكن لوي ماكنيس عبقريةٌ مستقلة، فهو يسطع بين شعراء الثلاثينيات أساسًا لاختلافه عن معاصريه، ولا يمكننا أن نعتبره نموذجًا لتيارٍ كامل في الشعر.
النهضة الحديثة إذن ليست جديدةً بالمعنى المفهوم، ولكنها إحياء لتراثٍ أُهمل فترةً ثم امتدت إليه يد الزمان فأحيته، وربما كان هذا شأن الأدب والفن في كل عصرٍ وكل مكان.
(٥) عبد الوهاب والرومانسية العربية
قد يعجب القارئ حين يجد اسم مطرب وموسيقي كبير مثل محمد عبد الوهاب في محفل الشعر والشعراء، ولكن الواقع أنه شارك مع أم كلثوم في ترسيخ تيارٍ فني في الأدب العربي لا يمكن تجاهله، فهو الذي أرسى قواعد الشعر الرومانسي (بمعنى الأسس التي يستند عليها البنيان) بين الناس، وساهم في إيجاد القدرة على التذوق بل والاستمتاع — على مستوى جماهير الشعب — بشعراء الإحياء ثم بالرومانسيين، ومن ثَم فهو عاملٌ مهم في حركة الشعر العربي الحديثة — بالفصحى والعامية كما سوف يتضح من مقالي هذا — ولا بد من إدراجه في قائمة المساهمين في هذا الاتجاه؛ لأن «اختيار» القصيدة يتضمن حكمًا نقديًّا، بل هو من أهم الأحكام حين يتصدى المطرب لإشاعتها على ألسنة الجماهير، ومن ثَم فلا بد لنا من رصد نصيب عبد الوهاب في هذه الرحلة.
تمتد رحلة محمد عبد الوهاب الفنية بامتداد سنوات القرن العشرين، وتاريخه الفني هو نفسه تاريخ الشعر العربي الحديث، من حركة «الإحياء» أو «البعث» بزعامة أحمد شوقي إلى الشعر الجديد، بحيث كانت آخر أغنية لحَّنها لنجاة الصغيرة هي «أسألك الرحيلا» لنزار قباني، والمتتبع لأغاني محمد عبد الوهاب بالفصحى والعامية جميعًا، لا يمكنه إلا أن يلاحظ اتجاهًا فنيًّا واضحًا في تذوق الشعر، واختيار النماذج التي تتفق مع مذهبه الخاص، ومفهوماته التي استقاها من حركة الإحياء التي شاع وصفها بالكلاسيكية (بسبب التزامها بالشكل الخارجي القديم)، والتي كانت في حقيقتها حركةً رومانسية فياضة بالمعنى الحديث؛ ولذلك لم يكن من الغريب أن يختار أعضاء جماعة أبوللو الرومانسية أحمد شوقي لرئاسة الجماعة قبيل رحيله.
واتجاه محمد عبد الوهاب الرومانسي يتجلى منذ البداية في اختيار قصائد الحب والغزل، وخصوصًا ما يتكئ فيها الشاعر على نقاء العاطفة، بحيث تصبح القيم مطلقة … قيمة الجمال، وقيمة الوفاء، وقيمة انطلاق الإنسان في حياته بحرية مطلقة! والغريب أن هذه القيم التي تبدو في أعين نُقاد أوروبا هذه الأيام منفصلةً بعض الشيء عن الواقع، كانت انعكاسًا لطموحات أهل مصر وأهل الشرق بعامة في أيام التحرر الوطني والكفاح ضد المستعمر، ونشدانًا لمجد الأجداد التليد الذي بُني على نفس هذه القيم!
لقد حملت موسيقى عبد الوهاب، وحمل صوته الرخيم، أنغام العربية الجزلة إلى شتى طبقات الشعب، فنشأ جيلان كاملان على لونٍ معين من الشعر، اختاره عبد الوهاب بحسه الصادق من بين شتى الاتجاهات، فتفتحت آذاننا على وعي عميق بعاطفة الانتماء والحرية والجمال، قبل أن تدركها عقولنا أو تشهدها عيوننا، وكان أسلوبه في ذلك أن يتسلل إلى نفوسنا بقوة اللحن الشرقي الذي يتطور استراقًا وهونًا، فهو يبدأ من الأنغام القديمة التي تضرب بجذورها في تاريخنا، وتستمد كيانها من أصالتها، ويتطور إلى الألحان الحديثة التي شاعت في الموسيقى الأوروبية، وإن لم تفقد الصلة بجذورها؛ إذ يبدأ عبد الوهاب «بتدريب» الأذن الشرقية على أنغام الفرقة المستحدثة التي حلت محل التخت الشرقي، مضيفًا آلةً بعد آلةٍ من الآلات التي يستخدمها الغربيون، وإن كان مخترعوها هم قدماء المصريين، حتى إذا ما أحس أن الذوق قد تغير، وأصبح على استعداد لقبول ألحان من نوع جديد، أتى بأنغامه الجديدة التي استعاضت بالسلالم الكبيرة (الماجور) عن الصغيرة (المينور) أو مزجت بينها، حتى جاء زمن استطاع عبد الوهاب أن يكتب لحنًا للبيانو، يطرح فيه ربع النغمة الشرقية (ثلاثة أرباع النغمة في الحقيقة) في المطلع، ثم يعود للاستعانة بها في مقطعٍ لاحق (الصبا والجمال مثلًا)، كما كان من أسلوبه استلهام الألحان الشعبية التي يتغنى بها الباعة الجائلون، ويتغنى بها الفلاحون في الحقول، والصيادون في البحر، مثل نغم البيات، حتى أزال تمامًا أي شعور بالغربة، كان يمكن أن ينتاب السامع لموسيقاه الجديدة.
أما اختياراته الأولى من الشعر العربي، فصيحه وعاميه، فكانت بطبيعة الحال من أحمد شوقي، ويحسب لمحمد عبد الوهاب هنا أنه أزال الفارق الزائف، الذي يفصل بين هذين المستويين من مستويات اللغة العربية، فغنى لأمير الشعراء «يا جارة الوادي»، مثلما غنى له «في الليل لما خلى»، وغنى «يا ناعمًا رقدت جفونه» مثلما غنى «اللي يحب الجمال»، وغنى «تلفتت ظبية الوادي» (قيس بن الملوح) مثلما غنى «النيل نجاشي»، وفي كل هذه الأغاني نجد إبداع الشاعر، وإبداع الملحن الذي اختار شعر الشاعر، في تقديم الصور الفنية الجديدة، والاستعانة بفنون الشعر الحديثة، مثل «الموقف الرمزي» والتوتر الدرامي، مثلما يفعل في «بلبل حيران» التي يستلهم فيها شوقي قصة «البلبل والوردة الحمراء» لأوسكار وايلد، ليصور لنا تفاني الفنان في حب الجمال؛ إذ يموت البلبل من وخز شوكة الوردة عند أوسكار وايلد، حتى تصبح وردة تعين العاشق في القصة المشهورة على الظفر بفؤاد حبيبته، بينما يتحول عند شوقي وعبد الوهاب إلى عاشقٍ للجمال فحسب، وانظر كيف نقل عبد الوهاب صور شوقي الشعرية في ذلك «المونولوج» الأشهر:
وسرعان ما يتحول استغراق البلبل في جمال الورد إلى عاطفةٍ مدمرة، تودي به في الصباح، ولكن هذه الصور التي أبدعها تظل حيةً في موسيقى عبد الوهاب إلى الأبد، وانظر معي كيف يرقى عبد الوهاب وشوقي إلى مصاف الشعر العظيم والموسيقى العظيمة، في الأغنية التي غناها في افتتاح معهد الموسيقى العربية أمام الملك فؤاد عام ١٩٣١م، واستخدم في مطلعها سلمًا كبيرًا «ماجور» يخلو حتى من أنصاف النغمات وهي «في الليل لما خلى»:
وقد قيل إن شوقي هو الذي أثر على عبد الوهاب؛ إذ أمده بهذه القصائد البديعة، ولكن الواقع هو أن عبد الوهاب هو الذي أثر على شعر شوقي، فجعله يرقى إلى هذا المستوى من الشعر العامي، وهو عامي في بنائه النحوي فقط أما كلماته فهي فصحى دائمًا، حتى كلمة «شأشأ» هنا فصحى، كما أثبت الدكتور محمد التنير، وكما أوردها الدكتور شوقي ضيف في كتابه عن شوقي، أي إن الشأشأة هنا ليست شقشقةً كما يتبادر إلى ذهن غير المتخصص.
ولم يترك عبد الوهاب هذا المستوى الرفيع في فترته السينمائية التي اقتضت الاستعانة بشعر العامية الخالصة، فغنى لرامي أغاني جميلة بالعامية بعد قصيدتيه الجميلتين «على غصون البان وسهرت منه الليالي»، أهمها أغاني فيلم «يحيا الحب»، التي أفرغ رامي فيها طاقته الشعرية في العامية المصرية الراقية، وإلى جانب رامي نذكر عزيز أباظة «همسة حائرة» محمود أبو الوفا «عندما يأتي المساء»، وبشارة الخوري «جفنه علم الغزل»، والشاعر الرومانسي الأكبر إليا أبو ماضي «الطلاسم»، وهي التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حيرة الإنسان في كل موقف؛ إذ غناها عبد الوهاب أولًا في «رصاصة في القلب»، ثم غناها عبد الحليم حافظ في «الخطايا»، وأصبحت افتتاحيتها التي تنساب بأنغام القانون علَمًا على هذه الحيرة الوجودية، ونذكر منهم أيضًا الأخطل الصغير، أي شاعر لبنان العظيم ووارث إمارة الشعر من شوقي بشارة الخوري؛ إذ غنى له في «يوم سعيد» قصيدة «الصبا والجمال» التي تبدأ أيضًا وتنتهي بسلمٍ كبير (ماجور) يعزف على البيانو، وتتخللها أنغام شرقية بالغة العذوبة:
وكذلك غنى لبشارة الخوري (خارج السينما) «الهوى والشباب» على العود فحسب، فأشاع أبيات العربية الجزلة في قلوب العرب مثقفين وأميين:
وسرعان ما تغنى بشعر شاعر مدرسة أبوللو علي محمود طه «الجندول، كليوباترا وفلسطين» وأحمد فتحي «الكرنك»، إلى جانب بعض أغاني شوقي التي طواها النسيان، وإن كانت بعض أبياتها ما زالت تتردد على الألسنة مثل «دمشق»:
و«إلام الخلف»:
وفي الأربعينيات أيضًا إحدى المعارضات الحديثة للحصري القيرواني التي مطلعها:
إذ يقول شوقي:
والواضح أن عبد الوهاب في هذه الفترة لم يكن حدد لنفسه منهجًا واضحًا في تلحين الشعر، فأحيانًا يغني الشطر في جملةٍ موسيقية واحدة كما يفعل في القصيدة المذكورة، وأحيانًا يغني البيت كله في نفس الجملة الموسيقية، مثلما يفعل في قصيدة شوقي الأخرى «يا شراعًا وراء دجلة يجري … في دموعي تجنبتك العوادي»، وانظر تلحين عبد الوهاب في جملةٍ موسيقية واحدة لهذا البيت:
ولكنه أحيانًا يقطع البيت تقطيعًا مثلما يفعل في «كليوباترا»، ولله در صديقي المستشار أحمد السودة الذي ذكرني في الخمسينيات بأن تلحين اسم كليوباترا وحده يوحي بالنداء، فكأنما يوقظ حسناء الزمان من سبات القرون! وهو يفعل ذلك في «بعثت/في زورق مستلهم من كل فن» وهلم جرًّا، ولكن السمة الغالبة هو أنه ما زال يحتفظ للبيت بوحدته الموسيقية مهما قطع فيه، ويكفي أن نقارن بين تلحينه لبيتٍ كامل في «فلسطين» هو:
وتلحينه لبيتٍ كامل في قصيدةٍ قديمة هي «يا ناعمًا رقدت جفونه»:
يكفي أن نقارن بين طول الجملتين الموسيقيتين، لندرك المحاولة الجديدة التي بدأها موسيقارنا الكبير.
وفي الخمسينيات بدأت مرحلة جديدة اتسمت بنفس الاتجاه الرومانسي الذي عرفناه بإيجاز، ولكنها اتسمت أيضًا بالتنوع فدخل من مدرسة أبوللو الشاعر الفذ محمود حسن إسماعيل «دعاء الشرق، النهر الخالد»، وانضم إليه كامل الشناوي «كان وهمًا وأماني وحلمًا، على باب مصر»، وأحمد خميس «الروابي الخضر» ونزار قباني «أيظن».
ولفيفٌ من شعراء العامية يتقدمهم رفيق عمره حسين السيد، ويتميز من بينهم مأمون الشناوي «من قد إيه كنا هنا» وغيرهما.
وقد امتدَّت مرحلة الخمسينيات إلى الستينيات حين توقف الشعراء عن كتابة الشعر العمودي، ولم يستجب عبد الوهاب للشعر الجديد المرسل (شعر التفعيلة)، بل اتجه بصورةٍ كاملة إلى الشعر العامي، وهو شعرٌ يتفاوت في مستوى لغته بين الجزالة (كما في شوقي) واللغة الدارجة (حسين السيد)، وإن كان عبد الوهاب لا يقف عند المستوى اللغوي إطلاقًا، بل يتناول المستويين كما لو كانا مستوًى واحدًا، وربما كان مثله الأعلى في هذا هو بشارة الخوري:
فالمزج المتعمد هنا بين الفصحى المعربة والعامية، يقصد به إزالة ما أسميته بالحاجز الوهمي بين المستويين، وهو الذي أعدُّه من أعظم إنجازات عبد الوهاب، إنه يغني «لا تكذبي» ويغنيها معه عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة، ويغنيها معه الملايين دون أن يتوقف واحدٌ لحظةً واحدة، ليعلن عن إدراكه أنها مكتوبةٌ بالفصحى، وحين ينتقد أحد العروضيين كامل الشناوي لأنه «يخطف» حرف العلة في «سفحتها»:
بينما يحتفظ بالحرف كاملًا في البيت التالي «مزقتها»:
يضحك منه كامل الشناوي ويقول له: «اقرأها بالعامية.» رحم الله جليل البنداري الذي شهد هذا التجاذب وتصورها فكاهة، وما هي بفكاهة؛ إذ أزال عبد الوهاب الحاجز وأجاز ما لا يجوز!
ولذلك فعندما بدأ عبد الوهاب وضع ألحانه لأم كلثوم (١٩٦٤م)، لم تكن قضية اللغة ومستوياتها واردةً على الإطلاق، فوضع ألحانًا لشعر الشاعر اللبناني جورج جرداق «هذه ليلتي وحلم حياتي»، ثم الشاعر السوداني الهادي آدم «أغدًا ألقاك»، وسرعان ما غنى لعبد المنعم الرفاعي «نجوى» على العود … بين عشرات الألحان التي كان يضعها للآخرين! وإذا كان ثمة سمة تستوقفنا في الشعر الذي اختاره في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، فهو أنه يتبع في روحه شعر شوقي، ويختلف تمامًا عن الشعر الجديد الذي شاع في الوطن العربي، وسادته نبرات الشك والسخرية بل والقتامة والجهامة! فمحمد عبد الوهاب كان مشرق النظرة فياضًا بالتفاؤل والأمل، مؤمنًا بالقيم المطلقة التي ذكرتها في بداية الحديث، وكان يغني لكل ما هو إيجابي في حياة الإنسان المصري والعربي، «أيها الخفاق في مسرى الهوى»، «مين زيك عندي يا خضرة»، «مصر نادتنا فلبينا نداها»، «يا اللي زرعتوا البرتقال»، «هليت يا ربيع»، «كنت في صمتك مرغم»، «دقت ساعة العمل الثوري»، «زود جيش أوطانك» إلى آخر قائمة لا تنتهي، وهي كما نرى بالفصحى والعامية جميعًا …
ولا يفوتنا ونحن نشير إلى علاقة الشعر العربي بغناء عبد الوهاب أن نشير إلى آخر ما غنَّاه بصوته، «من غير ليه»، وهي الأغنية التي كان لا بد أن تثير الجدل مثل سائر أغاني عبد الوهاب، ولعلنا نقتبس عنوانها للرد على من اتهموه بهذا وبذاك، فهو قد غنى لمهيار الديلمي «أعجبت بي بين نادي قومها» مثلما غنى لعبد المنعم السباعي «أنا والعذاب وهواك»، وهو قد غنى أخيرًا لمرسي جميل عزيز، أغنيةً تقول ببساطة إن الشعر هو الشعر، سواء كتب بالفصحى أم بالعامية، وإن حياة الفنان تطور مستمر مع روح عصره، سواء كان يسبقه أو يلاحقه، أما عبد الوهاب فكان ذا طابع رومانسي دفاق، ما فتئ يشارك في صنع وجدان جيله والأجيال التي تلته، بالموسيقى وبالشعر.
(٦) بين وفاء وجدي وفتحي سعيد
عندما يصل الشاعر إلى مرحلة الديوان الثالث يكون من واجب الناقد أن يتخطى مرحلة التقديم إلى مرحلة التقييم، ولكن التقييم قد يحتاج إلى إطارٍ قد يتسع ليشمل الشعراء المعاصرين، بل أكثر من تيارٍ أدبي واحد محليًّا وعالميًّا، وهكذا فربما كان من الأجدى أن نحاول هنا إلقاء الضوء وحسب على الإطار الضيق الذي تنتمي إليه مدرسة وفاء وجدي الشعرية في مصر والعالم العربي، ثم إلقاء الضوء أيضًا — وهذا أهم — على الخصائص التي تهبها تفردًا واختلافًا عمن يكتبون هذا اللون من الشعر اليوم.
أما هذا الإطار فهو إطار الشعر الحديث الذي يختلف من الناحية الشكلية عن الشعر العمودي، ويختلف من ناحية مادته عن التراث الشعري الذي يشكل صلب الأدب العربي الذي درجنا عليه، وبالذات في تنوع «أصواته» أي في تجاوزه الدور التقليدي للشاعر في المجتمع، والذي استلزم صوتًا محددًا عالي النبرة ممثلًا لأفكارٍ ومشاعر عامة — في الغالب — إذ أصبح الشاعر يميل اليوم إلى قول الشعر المقروء (أو المهموس أو شعر الوجدان)، وأصبح يفضل هذا الصوت الجديد الذي أخذ مكانه، إلى جانب الأصوات الأخرى التي أتت بها حركة التجديد، مثل شعر الأقنعة، أي الشعر الذي يتقمص فيه الشاعر شخصيةً أخرى ويتحدث بلسانها، فينوع بذلك من مستوى لغته وصوره وتركيباته الفنية (وهو ما يسميه إليوت بالصوت الثاني للشعر)، ومثل الشعر المسرحي، أي الشعر الذي يختفي فيه الشاعر تمامًا وراء شخصيات الدراما.
ومن ناحية التركيب فقد أمكن لنا أن نسمع في الشعر الحديث أصواتًا متعددة، تتمازج وتتشابك لتخرج لنا أنغامًا «بوليفونية» (مثل الموسيقى)، حتى لو تعارضت أجزاؤها ونبراتها من مكانٍ إلى مكان؛ إذ إن البناء الدقيق للقصيدة يستطيع أن يُحدث أثرًا تراكميًّا من توالي وتقابل اللحظات الشعورية مهما اختلفت وتداخلت وتناقضت.
وأما الخلاف الشكلي بين الشعر العمودي والشعر الحديث (والذي أحيانًا ما يوصف بأنه «مرسل»)، فقد آن له أن يبتعد عن بؤرة الصورة؛ لأنه خلاف في الحقيقة بين صوتين مختلفين من أصوات الشعر، أعتقد أننا بحاجةٍ إليهما معًا، بل إن ارتفاع النبرة (بل والخطابية) لها مكان إلى جانب الشعر الوجداني أو المهموس، وقد يجتمع الصوتان في عملٍ شعري درامي أو حتى في قصيدةٍ غنائية حديثة تحتاج إلى التقابل بينهما، ولكن نقطة الخلاف التي لا يمكن أن تحسم هي أن الشعراء المحدثين ينعون على من يقرضون الشعر العمودي إصرارهم على وحدة البيت، بحيث لا تتجاوز الفكرة أو الصورة «بيتها»، وبحيث يصبح العامل الذي يربط بين الأبيات إطار شعري أو فكري عام بدلًا من النسيج الداخلي، هذا إلى جانب الصعوبات التي تضعها القافية في طريق من يحاول كتابة الشعر القصصي أو الدرامي أو حتى القصائد «الغنائية» الطويلة.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن أصحاب الشعر العمودي يأخذون على من يكتبون الشعر الحديث عدم خروجهم على البحور الصافية، أي التي تتوسل بالتفعيلة الواحدة، والتي قد تتكرر إلى ما لا نهاية دون تنويع، عدا ما يهيئه الزحاف الطبيعي، فتحدث لونًا من الرتابة في الإيقاع يحرم القارئ من التلوين، أي المغايرة في الموسيقى، وهو ما لا يتأتى في نظرهم إلا بالتوسل بتفعيلاتٍ متعددة.
كما أنهم يأخذون عليهم التزامهم بموضوعاتٍ محدودة ومتكررة، حتى لتكاد القصائد المرسلة تكرر نفسها من شاعرٍ إلى شاعر، بل وفي أيدي الشاعر الواحد مهما حاول التنويع في المدخل والمعالجة.
والحق أن الكثيرين ممن يكتبون الشعر الجديد، قد وقعوا في نفس الخطأ الذي وقع فيه كتاب الشعر العمودي، من اقتصارٍ على قاموس شعري محدود (في الألفاظ والصور بل والأفكار)، يمكننا أن نرصد مفرداته التي تظهر في أشكال وتراكيب مختلفة ولكنها في النهاية واحدة، وأصدق مثلٍ على هذا هو الصور «السريالية»، أي التي تنشأ من استعاراتٍ معقدة متداخلة لا تقدم إلى العين أو الحواس الأخرى صورًا منظورة أو يمكن تخيلها مهما حاول القارئ وأجهد خياله، وهكذا ابتعد المولعون بهذه «الصور» عن المنبع الأول، الذي استمد الشعر الحديث منه طاقته الثورية، وهو مدرسة التصويريين التي ازدهرت في إنجلترا في أوائل هذا القرن، وكانت تمثل ثورةً على رومانسية القرن التاسع عشر بتجريداتها وتعميماتها وتهويماتها بعيدًا عن عالم الحواس، أي إنه إذا كان الشعر الحديث في مصر قد نشأ في حجر المدرسة الحديثة في الشعر في أوروبا وأمريكا، داعيًا إلى الصور الحسية والتجسيد ومحاولة الاقتراب بالشعر من الفنون الأخرى، وبخاصة الفنون التشكيلية والدرامية والموسيقى، فإنه قد جنح (خاصةً في أيدي الشباب) إلى لونٍ من المبالغة الاستعارية في التصوير، ابتعدت به عن هذه الفنون، وعادت به إما إلى الصور المعقدة التي اشتهر بها شعراء المدرسة الميتافيزيقية، أو إلى التجريدات الرومانسية التي دفعت إلى الثورة الحديثة.
وهكذا يواجه من يكتب الشعر اليوم اختبارًا صعبًا … فهو يفضل الشكل الجديد لما يتيحه من حريةٍ ومن السبل المتعددة للتحقيق الفني، وفي الوقت نفسه يجد من الصعب عليه ألا يجاري هذه النزعة السريالية التي أصبحت طابع شعر كثير من المحدثين، كما أنه لا يستطيع بسهولةٍ أن يكتب الشعر العمودي؛ إما لأنه لم يستوعب التراث ويتسلح بالأدوات اللغوية والفنية، التي تجعله يترجم مشاعره وأفكاره بيسرٍ إلى لغة القدماء؛ وإما لأنه لا يرى في الشكل الصارم للقصيدة العربية إطارًا، يستطيع أن يصب فيه مشاعر عالَمه المعاصر بكل تعقيداته وحياته الحافلة.
وهكذا فإن الشاعر الحديث دائمًا في صراعٍ للتوصل إلى صيغةٍ جديدة يستطيع أن يُسمع من خلالها صوته إلى القراء، صيغة تمثل حلقة الوصل بين القديم الذي يثور عليه والجديد الذي يريد أن يأتي به، أي صيغة يتفرد هو بها دون أن تنتمي لجمودٍ قديم أو لشططٍ حديث، والناقد الذي دائمًا ما يمثل الحساسية الجديدة للقراء والشعراء معًا، عليه أن يدرك أبعاد هذه الصيغة وحلقة الوصل التي تمثلها.
•••
يبرز في كل عصرٍ أدبي عبقري يحدد المسار الفني الجديد لجيله أو للجيل الذي يليه، وأقصد به الفنان الذي لديه من الأصالة ومن الجرأة ما يدفعه إلى التغيير والإصرار على التغيير، مهما كانت الصدمة التي يحدثها في البداية، ومهما لاقى من عنتٍ ونكران في أول الأمر، فهو واثقٌ أنه سوف يثبت أقدامه تدريجيًّا وأن من حوله سوف يتبعون خطاه، وقد أحدث صلاح عبد الصبور هذا التغيير الهام حقًّا في حياة الشعر العربي؛ إذ وجد الصيغة الصائبة التي بلورَت الحساسية الجديدة لجيل النصف الثاني من القرن العشرين في الأدب العربي، وهي صيغة امتدت جذورها في التراث وارتوت بفن العالم الواسع من حولنا، وأورقت أغصانها ثم أثمرت لتقدم مشاعر جيلنا وأفكاره واستجابته للحياة في هذا العصر.
وقد كان من الطبيعي أن يرى نُقاد اليوم — الذين يحملون شعر صلاح عبد الصبور في وجدانهم — كل شعرٍ جديد في إطار ما أبدعه ويبدعه، وكان من الطبيعي أيضًا أن يقارن كل شعرٍ جديد به، بل وأن يقاس كل إبداعٍ في هذا الإطار بما يبدعه هو، هذه طبيعة الأشياء ولكن ثمة أصواتًا أخرى يمكن أن تسمع خارج هذه المقارنة، أصواتًا ربما استمدت أنغامها الأولى منه ولكنها استقلت بعد ذلك فلم تعد المقارنة لازمة، ومن بين هذه الأصوات صوت وفاء وجدي الذي ما يفتأ يتطور ويرسم لنفسه مسارًا خارج هذا الإطار.
وعندما قرأت ديوانها الثاني «الرؤية من فوق الجرح»، اتضح لي منذ الوهلة الأولى أن لديها صوتًا متميزًا، يمكن أن يُسمع من بين عشرات القصائد التي تكتب في إطار الشعر الجديد، واستوقفتني بالذات عشر قصائد «عرس الدم، حكاية من ألف ليلة وليلة، وداع، أغنية للقيود، قصيدتان من قيل وقال، المجنونة، السيف والكلمات، الرؤية من فوق الجرح، سوناتا الأيام السبعة، أغنية للحب والحياة»، وتصورت أن الديوان كان يمكن أن يقتصر عليها، فيحدد للقارئ صوتها المنفرد.
والذي استوقفني في هذه القصائد هو قدرة الشاعر على تقديم حدثٍ رمزي، من خلال نسيجٍ رمزي أو الاستخدام الرمزي للمادة، بحيث ينشأ إطارٌ يبدو من خلاله كل شيء وقد اكتسب معنًى رمزيًّا، أي وقد تخطى دلالته المباشرة ليوحي بدلالاتٍ أوسع مهما اختلفت اتجاهات هذه الدلالات، فهي تبني قصيدة عرس الدم مثلًا على العادة الريفية الشائعة في حفلة الزفاف، عادة إطلاق الأعيرةٌ النارية ابتهاجًا بالمناسبة السعيدة، والتي أحيانًا ما تؤدي إلى وقوع ضحايا للطلقات الطائشة، الحادثة في ذاتها تشتمل على مفارقةٍ حين يتحول الفرح إلى مأتم، ولكن الشاعرة تستغل فحسب هذه المفارقة، لكي تبني موقفًا غريبًا يمكن أن تمثل أي مجتمع أو أي بلدٍ ينام فيه «الحراس» (أو الخفراء)، فتغلق المصابيح عيونها ويسود الظلام وتقتل فيه العروس، أي تزف إلى الموت بدلًا من أن تزف إلى الحياة! والموقف الذي وصفته بالغرابة، هو أن أحدًا لا يريد أن يستيقظ ليرى حقيقة ما حدث أو ليتساءل عما حدث — فهو موقف السعادة بالغفلة والاطمئنان إلى الظلام — ودون أن تشير الشاعرة مباشرةً إلى أن القصيدة من وحي هزيمة ١٩٦٧، يمكن للقارئ أن يشعر بالدلالة الاجتماعية الواسعة لهذا الحدث الرمزي حينما تتوجه العروس — أو شبح العروس القتيل — بالحديث إلى الخفراء النائمين ومن خلالهم إلى الجمهور، لتلقي بالسؤال الذي لا إجابة له، بل ولا يمكن أن تكون له إجابة!
أما النموذج الصادق للشعر الرمزي الخالص في هذا الديوان، فهو قصيدتان من قيل وقال:
١
٢
«القيل والقال» تمثل المدخل الصحيح إلى هذه القصيدة التي انشطرت، ولكنها تستخدم رمزًا «متحوِّلًا» يربط بين شطرَيها وييسر لنا رصد خط التطوير الرمزي للثيمات الأساسية فيها، وهذه بإيجازٍ هي ثيمة الماء الذي يرِده الإنسان للشرب، الماء الزلال الذي يتحول نتيجةً للفعل اللاإرادي إلى بِركة أوحال، وثيمة النور السماوي الذي يتحول نتيجة الغفلة والسلوك الآلي إلى ظلامٍ، بحيث يصبح القمر كائنًا ممسوخًا أو رجيمًا، ثم ثيمة المقابلة بين إنسان المدينة وقرود الغابة، وهي مقابلة تتم نتيجةً لنزوع هذا الإنسان إلى المحاكاة اللاواعية، التي يفقد معها أخص خصائص إنسانيته.
قد يجد القارئ هذه القصيدة الغامضة، وقد يحتاج إلى إعمال الذهن لفك «طلاسمها»، ولكنها ليست قصيدة ألغاز، بل قصيدة رموز متحولة تنتمي للونٍ من الشعر لم يعُد شائعًا في عصرنا … لأنه يقوم على الحدث الخيالي بل الفانتازيا الشعرية، التي وجدنا أكبر شعراء بريطانيا اليوم (تدهيوز) يمارسها ببراعة، بل ويعيد إليها مكانها في الشعر الحديث.
ولكن وفاء وجدي تنجح في إخراج أنماط شعرية مختلفة عن هذه الأنماط الرمزية، مستعينةً بما يتيح لها الشعر الحديث أن تفعله بالتركيبات اللغوية، التي لا تقتصر على البيت الواحد ولا تحدها قيود القافية، خذ مثلًا الأبيات الأولى من قصيدة وداع، وهي مرثية حديثة:
فلننظر كيف تستغل الشاعرة بناء الجملة من حيث هي تركيب نحوي لتثري دلالات الكلمات، إن الجملة الأولى يمكن أن تنتهي مع البيت الأول، بحيث يمكن اعتبار الفعل والفاعل صلب الجملة «دقت ساعات الليل»، والجملة التالية لها «ثقيلات الخطوات» في موقع الحال أي في موقع وصفٍ للساعات (بل ويمكننا إذا توقفنا عند «الليل» أن نقرأ ثقيلات مرفوعة، بحيث يكون لها معنى البدل أو الفاعل)، ولكننا إذا انتقلنا إلى البيتين الثاني والثالث رأينا أن الفعل «تتعثر» يفترض فاعلًا (ضمير مستتر تقديره هي يعود على الساعات)، ولكنه في الوقت نفسه ينسحب على الأسماء التالية، وأولها وأهمها «آهات» — وبخاصةٍ إذا قرأنا البيتين الثاني والثالث كوحدةٍ جديدة — إذ يمكن أن يقول هذا الجزء: «تتعثر آهات بين دقائقنا وثوانينا.» بل كأنما يقول: «تتعثر آهات وتتعثر حشرجة وتتعثر غيبوبة بين دقائقنا وثوانينا.»، حتى والفعل ما زال له فاعل مستتر، وما زالت هذه الأسماء توحي بموقع البدل من ساعات الليل.
إن الحرية التي تتمتع بها هذه الجملة بنائيًّا (أي من ناحية التركيب المنطقي الذي تستلزمه قواعد النحو) تمزج بين الفاعل في البيت الأول، وبين الأسماء الثلاثة التي يبدو أن لا فاعل لها ولا خبر (إلا تقديرًا)، ثم يتكرر نفس النمط في الجملة التالية، حين نرى تنازع فعل «يأتي» وفعل «يتسلل»؛ إذ إننا لا يمكننا أن نقرأ عبارةً تقليدية البناء فيها فاعل يتلوه فعلان دون رابط بهذا الشكل، أي إننا إذا توقفنا عند كلمة «المكروه» وجب أن نبدأ البيت التالي دون اعتبار لعامل النصب؛ إذ ليس ثم حرف عطف (كالفاء مثلًا) يضطرنا إلى اعتباره معطوفًا على «يأتي»، أما افتراض وجود «وهو» قبل يتسلل حتى يكون لدَينا جملة حال، فيقتضي إجهاد السياق دون مبرر! فالواقع أن الشاعرة تقدِّم لنا عبارتين منفصلتين لا تشتبكان إلا في معناهما المتداخل، فهي تقول: «حقًّا ما عنَّ لنا أن يأتي زائرك المكروه.» وتقول في نفس الوقت: «ما عن لنا أن يتسلل زائرك المكروه من ثقبٍ في نافذة الظهر!» أما في الجملتين التاليتين فالشاعرة تقدم لنا جملةً تمتد إلى أربعة أبياتٍ تبدؤها بروي وتنهيها بنفس الروي، ثم تبدأ جملةً أخرى تمتد أيضًا إلى أربعة أبيات تنتهي أيضًا بنفس الروي! أي إن الشاعرة قد أفادت من الحرية التي يتيحها الشعر الحديث أولًا في عدم الالتزام بقافية في الأبيات الخمسة الأولى، ثم في استخدامها للإيحاء بنمطٍ معين أقامت عليه بناءها الشعوري، كما أفادت من التركيز في الإيحاء بنغمة المفارقة التي تسود قصيدة الرثاء الحديثة هذه، بل ومعظم القصائد التي تستوقف القارئ في الديوان الثاني.
ولم يكن هذا الصوت الجديد قد سُمع بنفس الوضوح في الديوان الأول، فعدد القصائد التي تعتمد على الحدث الرمزي فيه أقل، كما شهد محاولةً واضحة لكتابة قصائد طويلة في نفس الإطار، وهو إطار لا يحتمل الطول، والنتيجة أننا يمكن أن نتوقف بعد أي فقرةٍ من الفقرات في قصيدة العيد مثلًا، دون أن نمس الرابط العضوي الذي يصلها بما بعدها أو يتطلب المزيد، وحتى عندما تحاول الشاعرة في هذا الديوان الأول أن تعيد الكرة، فتبني بناءً رمزيًّا في قصيدةٍ من قصائد الرثاء سقراط العصر، نجد أن الصور التقليدية تعود لتضفي طابعًا من التعميم والتجريد، لا نستطيع معه أن نرى أنور المعداوي أو نحس بوجوده المنفرد أو فقده، لأن الصور تختفي في الدلالات المجردة التي تتسع وتنداح حتى تتلاشى في أُطرها، أي في الرموز التي تطرحها الشاعرة: الجنون، السكينة، الوهم، اللذة، الإنسان، القداسة، الحياة، الجحود، السنين، الأنين، الألم، الظلام، الجبن، الموت، السكون، الحق، الزيف … إلخ، أي إن لمسة التجريد والتعميم تتسلل في الديوان الأول إلى معظم القصائد، مما يبتعد بها عن التيار الرمزي الذي تتميز به في الديوان الثاني، ويقترب بها من رومانسية التجريد الذي ثار عليها الشعر الحديث.
ولا أعتقد أن وفاء وجدي وجدت صوتها الحقيقي في شعر هذه المرحلة الأولى، وذلك رغم أن الديوان الثالث يقدم لنا نفس الإطار التجريدي مع اختلافٍ هام، وهو نزوع الشاعرة إلى تقديم معنى التجربة بدلًا من التجربة نفسها، أي إننا رغم كلمات التجريد التي أصبحت تمثل جزءًا لا يتجزأ من إطار القصيدة (الأحلام، الحياة، الألم، الحب، الجراح، الزمن، الحقيقة، الاغتراب، الأحزان، الظلام … إلخ) نحسُّ ميل الشاعرة إلى تقديم دلالة التجربة الشعورية بدلًا من مادتها الحسية، وذلك بإحدى صورتَين: إما في صورٍ فنية دقيقة مهما اشتطَّت في الخيال، والتي يمكن رصد جذورها في الشعراء الميتافيزيقيين الإنجليز (كما نشهد في قصيدة قصاصات حب في هذا الديوان)، أو في إطار ترانيم تتصل بالصوت الثاني للشعر — كما سبق أن ذكرت — كما نشهد في قصيدة «السؤال على باب طيبة» فالصور المستقاة من «مادة الهندسة» في قصاصات حب صور حديثة، وهي تتطور في القصيدة من الداخل حتى عندما تستقل كل فقرة بصورها الخاصة؛ ولذلك فالتعميم والتجريد الذي نصل إليه في النهاية باعتباره لازمًا لمعنى التجربة، يخرج إلى حدٍّ ما عن نزعة التجريد العامة لدى الشاعرة، أما قصيدة «السؤال على باب طيبة» فهي قصيدة مسموعة، أي لا بد لها من جمهورٍ حتى تكتسب رنة الترانيم معناها الفني، وهي من هذه الزاوية قصيدة غير غنائية، وغير مهموسة لاعتمادها على موقفٍ يشتمل على عناصر درامية.
إن وفاء وجدي تتطور، ولست أريد أن أستبق الأحداث فأتنبأ بخط تطورها بعد هذا الديوان رغم وضوحه! ولكنني فقط لم أعد أسمع صوت الرمزية المتفرد الذي رحبت به في الديوان الثاني، وربما كان هذا هو خط التطور الطبيعي لها، ولكنه يبتعد بها على أي حالٍ عن مدرسة التصويريين، التي كان منبعًا للشعر الحديث، ويعود بها إلى رومانسية التجريد التي ثار عليها المحدثون.
•••
أما من باب التقديم — لا التقييم — فينبغي أن نسجل أولًا أن ديوان مسافر إلى الأبد للشاعر فتحي سعيد يمثل مخاطرةً فنية فريدة؛ إنه يقدم لنا قصائد تدور جميعًا في فلك الرثاء، وإن لم تكن مراثي بالمعنى التقليدي، كتبت على مدى سنوات طويلة، ومن ثَم فهي تمثل مراحل متعددة من تطور فن الشاعر، ولكن هذه المخاطرة تؤتي أكلها لنفس هذا السبب، أي للتنوع البالغ بين أساليبها وموضوعاتها، بحيث يمكننا أن نسميها تنويعاتٍ على ثيمة الرحيل.
وينبغي أن نسجل ثانيًا — من باب التقديم أيضًا — أن الشاعر قد استطاع أن يكسر الحاجز الوهمي بين الشعر العمودي والشعر المرسل بتنويعه في شكل القصيدة، وفي العروض والقافية بتنويعه للبحور، وإقدامه على استخدام بحور لم يعد لها مكانها البارز في الشعر المرسل (مثل مجزوء الخفيف والمديد والبسيط)، إلى جانب البحور الصافية المشهورة (وأهمها المحدث والكامل)، بكل ما تتيحه من زحافٍ وتنوع نغمي.
فإذا حاولنا التقييم بإيجازٍ قلنا إن ديوانًا كهذا، كان يمكن أن يكون ثقيل الوطأة لجرعة الحزن الكبيرة التي يشتمل عليها، لولا «توسيع» الزاوية التي يتناول منها الشاعر موضوعه — أو قل موضوعاته — وما يستتبع ذلك من تراوح الدفقات العاطفية بين الحزن المباشر، والتأمل الهادئ، والتصوير الواقعي، والإيحاء غير المباشر بأفكارٍ تتصل بالأحياء أكثر مما تتصل برثاء الرحيل، وهذا هو ما يستطيع به فتحي سعيد أن يتجاوز الرثاء، باعتباره موضوعًا تقليديًّا درج الشعراء على طرقه بذكر محاسن الراحلين، فاقتربوا به من المديح بمبالغاته الممجوجة، فأمام الموت لا يملك الإنسان أن يسأل أو يتساءل، بل ينبغي ألا يسأل أو يتساءل؛ لأن أبلغ لغةٍ أمام هذا اللون من الرحيل هي لغة الصمت، وهذا كما أوضحت الأستاذة «آبي بوتس» ما يفسر الرثاء في الأدب العالمي الحديث.
وتجاوز الرثاء بتوسيع الزاوية يؤدي إلى قصائد هي كما قلنا تنويعات على ثيمة الرحيل، فنحن ننتقل من اللقطات الواقعية التي يسجلها الشاعر من الحياة اليومية التي كان يعيشها من رحل، والتي يصورها بلمساتٍ عريضة قد تشتمل على نبرةٍ مرحة، وألفة دافئة لا مكان معها إلا للحزن العميق:
ننتقل من هذه اللقطات إلى أنغام الشعر الكلاسيكية، التي يطرب لها كل من استوعب تراثنا الشعري الحافل، فنرى فتحي سعيد يحاكي من يرثيه (الشاعر محمود حسن إسماعيل)، في رقة لفظه التي تحكي رقة حاشيته وحسه المرهف، ونرانا نسترجع شعر الراحل في مرثيةٍ خافتة النبرة متئدة الخطو:
أو هذه الأبيات من مرثية عازف الأحجار (جمال السجيني):
وهذا ما يجعل تعبير الشاعر عن الحزن مثلًا، في قصيدة الحزن في المدينة إنكارًا للرحيل، وإثباتًا لاستمرار الحياة وجمالها، ففي أول كل فقرةٍ من الفقرات التالية نجد كلمة حزينة، ولكن الصورة نفسها تنفي الحزن:
وإذا كان لهذا الديوان أن يقول شيئًا في ساحتنا الأدبية، فهو أن القضية ليست قضية شعر قديم أو شعر جديد، بل هي قضية شعر أو لا شعر، كما يقول أستاذنا الدكتور شوقي ضيف، وقد استطاعت الروح الحديثة التي تهب هذا الديوان حياته، أن تخرج لنا شعرًا حقيقيًّا، عموديًّا كان أم مرسلًا.