الفصل الثاني

بين الرومانسية والحداثة في الشعر الإنجليزي

(١) شلي شاعرًا

١

يجمل بنا قبل أن نلقي نظرةً موضوعية على شعر شلي، أن نذكر أن صورة هذا الشاعر قد تغيرت عدة مرات، قبل أن يحتفل به جيل الرومانسيين في الأدب العربي، باعتباره شاعرًا بالمعنى الاشتقاقي للكلمة مثلما هو شاعر بالمعنى الاصطلاحي،١ وقد تغيرت هذه الصورة في أعين مواطنيه وأعين العالم، ومرت بمراحل عديدة حتى نشأة ما يُسمَّى بالشعر الحديث والنقد الحديث،٢ وقد كانت أول مرحلة هي مرحلة التردد في قبوله في بداية العصر الفكتوري الذي ساده شعر وردزورث وبايرون ثم تنسيون وبراوننج، ثم جاءت مرحلة رفضه في نفس العصر، واتهامه بضحالة المادة الفكرية، كما حدث على يدَي روبرت براوننج الذي اتهمه بالإغراق في الذاتية والابتعاد عن الموضوعية، وعلى يدَي ماثيو أرنولد الذي حاول أن يميز بين الشاعر ذي الفكر العميق، الذي يستمد عمقه من الجو الثقافي العام مثل جيته، وبين الشاعر ذي الفكر الهزيل الذي يفتقر إلى ما يمكن لمثقفي عصره أن يزودوه به من ثراءٍ وتنوع، وقد تلت ذلك مرحلة ثورة عارمة في أوائل هذا القرن، حين انتقده الشعراء المحدثون وأصحاب المدرسة التصويرية بزعامة باوند وهيوم وإليوت؛ إذ إنه هوجم بسبب نزعته إلى التجريد والتعميم، وهي النزعة التي قيل إنها أفقدته «التحقيق» الفني عن طريق التجسيد والتصوير الحسي، وأخيرًا جاءت مدرسة «ما بعد إليوت» وما بعد التصويرية، فأعادت إليه مكانته في الدراسة الأكاديمية وأعادته إلى بؤرة الصورة الرومانسية، وذلك على أيدي ماثيوز مثلًا ودافيد ديتشز.٣
وسوف ينقسم هذا المقال إلى قسمَين واضحَين، يتناول أولهما شعر شلي من حيث هو رافد للرومانسية الإنجليزية، ويعالج ثانيهما الأشكال الفنية والموضوعات الأثيرة لدى شلي، والتي تتصل بفلسفته وأفكاره الجديدة، وصوره الفنية وإيقاعاته التي تدخل في إطار الأدوات والمناهج التي توسل بها، لا بد لمن يريد أن يؤصل عطاء شلي أن ينظر إليه باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الحركة الرومانسية الإنجليزية؛ لأن شلي قد عاش ومات دون أن ينفصل عن التيار الذي ولده أقطاب الحركة الرومانسية، رغم اختلافه معهم اختلافًا أدى إلى الضعف التدريجي للأسلوب الرومانسي في أواخر القرن التاسع عشر بل منذ ماثيو أرنولد نفسه.٤
وسوف يكون مدخلنا إلى هذه الخصائص ذلك الإطار العام الذي وُلدت فيه الحركة الرومانسية، أي الإطار الفلسفي والاجتماعي (والسياسي أيضًا)،٥ والذي يعتبر أشمل وأعم من الإطار الأدبي — إطار الموضوعات والصور والبناء الفني — إذ إن الإطار العام إطار فكر جديد يدفع الشاعر إلى أن ينهل من الحياة الروحية للإنسان، وأن يعيد وصل ما انقطع من وشائج روحية بينه وبين الكون، وذلك على عدة مستويات، أما الأول فهو المستوى النفسي الذي نحسُّ معه بحاجة الإنسان في أواخر القرن الثامن عشر، إلى الإيمان بذاته وبانتمائه إلى الإنسانية، في عالمٍ بدأت المادية تدب في أوصاله نتيجةً للانقلاب الصناعي، وانتشار المدن الكبيرة أو قيامها بالدور الأول — اقتصاديًّا واجتماعيًّا — بدلًا من القرية وحياة الريف، مما استتبع تضاؤل إحساس الفرد بذاته وإنسانيته٦ والمستوى الثاني الذي لا ينفصل عن هذا هو المستوى الروحي، الذي أحس معه الفرد بحاجته إلى منابع الدين الأولى، والتخلص من المظاهر الكنسية التي كانت تسود العصور الوسطى، والتخلص بالضرورة من الفلسفة الآلية التي كانت تعزو نظام العالم إلى نظريةٍ في الخلق ساذجة وبسيطة ولكنها مضللة، أي النظرية القائلة بأن الله قد صنع الكون مثلما يصنع الصانع ساعة، ويدير لوالبها أول مرة ثم يتركها لتدور بعد ذلك وحدها، ومن ثَم تكون علاقة الخالق بالمخلوقات علاقة محرك أول Premium Mobile وحسب، وهي النظرية التي سادت النصف الأول من القرن الثامن عشر،٧ أما المستوى الثالث فهو اجتماعي سياسي نستطيع أن نرصد أهم ملامحه فيما أحس به كبار الكتاب والمفكرين في تلك الفترة، من حتمية التغيير وبخاصة تغيير العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي سادت أوروبا دهورًا ودهورًا، والتي أرهصت بها روح النهضة دون أن تؤتي أكلها حقًّا وصدقًا.٨
وربما كان الأصل الفكري لهذا الإحساس هو مبادئ الثورة الفرنسية، وما سبقها من كتابات مفكري التحرر مثل روسو،٩ ولكنه كان في الحقيقة مرتبطًا بالواقع الذي عاشه الإنسان في إنجلترا، فأحس بحاجته إلى الاحترام وإلى ضرورة ربط حياته بحياة الآخرين على أساس المساواة التي هي — كما كانوا يقولون — «قانون الإله الحكيم»، الذي خلق الإنسان على صورته، وهكذا فقد أحس الجميع بضرورة القضاء على النظام الاقتصادي الجائر، الذي كان يتيح لأرباب الصناعة والتجارة في المدن أن يستغلوا الفقراء من العمال والحرفيين، والقضاء على الحروب التي أنهكت الشعوب دون أن يستفيد منها إلا كبار الأغنياء — شأن العصور الوسطى — والتي كانت تخلف معاناةً وقلاقل في محيط الفرد والأسرة والمجتمع خارج المدينة.١٠

وقد أدت هذه الثورة (على مستوياتها المتداخلة) إلى إعادة النظر في كل القيم التي ورثها القرن الثامن عشر من عصور الظلام والعصور الوسطى، وإلى محاولة بعث روح النهضة الأوروبية مرةً ثانية، بحيث يكون الإنسان الفرد في بؤرة الصورة، الإنسان العادي الفقير، وليس الملك أو السلطان الذي يرث امتيازاته وغناه من أجداده بحقٍّ أو دون حق، وهكذا فقد كانت الرومانسية تمثل ثورةً على نظم التفرقة والتمييز والتسلط والهيمنة، وإعادة التفكير فيما أتت به العصور الخوالي من مبادئ حول الحكم وحق الملك الإلهي في الملك، ولقد شهد القرن التاسع عشر تغييرات شاملة على جميع المستويات، ولدت معها نظم بريطانيا الحديثة، بل ونظم كثير من الدول في أوروبا.

أما الإطار الفني الذي تتداخل خطوطه في هذا الإطار فيمكن أن نرصد ملامحه في انشغال الرومانسيين أولًا بقضية الحرية، حرية الفرد التي لا بد منها إذا كان للمجتمع أن يكون متحررًا حقًّا، وقد استتبع إيمانهم بحرية الفرد أن يعيدوا النظر فيما أتت به المسيحية من أفكارٍ حول الخطيئة الأولى، أي النقص المتأصل في نفس الإنسان، بحيث لا ينفصل الشر عن الخير فيه (وقد كانت هذه هي الفكرة التي استغلتها الكنيسة، واستغلها الحكام لقهر الإنسان في العصور الوسطى)، فرحب الرومانسيون أشد الترحيب بأفكار رواد الفكر في ذلك العصر عن الخير المتأصل في الإنسان، أي إن الإنسان كائنٌ خيِّر بطبيعته، وبأنه لا يحمل في قلبه، كما خلقه الله، إلا النقاء والطهر والصفاء، وبأنه قد وُهب عقلًا حكيمًا راجحًا، لو تُرك على سجيته لكان مبدعًا وخلاقًا.١١
وقد استتبعت هذه الفكرة محاولة الرومانسيين العثور على نماذج للإنسان العادي الذي لم تلوثه الحياة الاجتماعية في المدينة (والتي بدأت تتخذ أشكالًا قبيحةً في ظل التصنيع والتجارة، التي لا تبغي سوى الربح ولا تنشد سوى الماديات)، وكان هذا الإنسان في نظرهم هو ابن الريف، الذي يعيش كما خلقه الله وسط عالمٍ من البساطة والبراءة، لا تثقله المادية ولا الربح كأنما هو آدم في جنته، كما كان ذلك الإنسان أيضًا هو الطفل الصغير الذي يتمتع ببراءةٍ تجعله قريبًا من الله، وبعيدًا عن «أرضية الأرض» التي تتمثل في حياة المدينة الملوثة.١٢

وإذا كانت فكرة الحرية هنا تكتسي صورًا مادية، أي إنها حرية في العمل والفكر والقول … فقد ارتبطت بها أيضًا صور غير مادية تتمثل في ارتياد بقاع الخيال، الذي لا تحده قوانين العقلانية وقوانين المنطق وقوانين العلم الطبيعي التي سادت القرن الثامن عشر؛ هكذا وجدنا الرومانسيين ينشدون آفاق الخرافة أو آفاق المستحيل، أو حتى آفاق اللامعقول، ولكنها كانت على أي حالٍ آفاقًا رمزية استطاع الرومانسيون عند محاولة ارتيادها، أن يفتحوا أبوابًا كانت موصدة أمام الكلاسيكيين، وأن يترجموا عن طريق رمزيتها سعي الإنسان الدائب إلى كسر قيود الواقع التي فُرضت عليهم فرضًا.

ولا نريد أن نشير إلى هذه الرمزية دون الإشارة إلى اختلاف النقاد الواضح في النظرة إلى عالم الخيال الذي ارتاده أولئك الشعراء، فبينما نرى أرباب الكلاسيكية مثل ف. ل. لوكاس ينسبه إلى أن الرومانسيين أطلقوا العنان لحياتهم اللاواعية، فأخرجوا محتوى اللاشعور كما هو وسجلوه في شعرهم حتى دون فهم له،١٣ ومثل أ. بابيت الذي يقرنه بالجنون،١٤ نرى أنصار الرومانسية يدافعون عنه فيبرزون أنه متصلٌ بنظرية الإلهام وقمة التحرر من قيود المادة، بحيث يتيح للشاعر أن يجعل من نفسه قلمًا أو ريشة، تصور ما يوحي بها إله الكون وخالقه،١٥ وهكذا فهم يفرقون بين نوعَين من الخيال الشعري، الأول هو الذي يتحرك في إطار معطيات الحس ولا يحاول تغيير قوانين الطبيعة — وذاك هو الخيال الكلاسيكي — والثاني هو الذي يكسر هذه القوانين محاولًا اكتشاف الطاقات الروحية الهائلة، التي آمن الرومانسيون بوجودها في نفس كل إنسان، ومن ثَم كان اتجاه الرومانسيين إلى الخيال رمزيًّا في أساسه، سواء عندما استعانوا بأساطير اليونان القديمة أو توسلوا بعالم الخرافة، الذي لا يقتصر على زمان أو مكان بعينه، أو حتى حينما نسجوا هم أساطيرهم الخاصة بهم.١٦
وقد أثمر إيمان الرومانسيين بالحرية ثمارًا من نوعٍ آخر تخطت علاقة الفرد بمجتمعه، وأهمها النظرة الجديدة إلى علاقة الإنسان بالكون، ليس في الإطار الديني التقليدي ولكن في الإطار الفلسفي الأعمق والأشمل، وقد نمت بذور هذه النظرة من واقع التجربة الشعرية، وليس عن طريق الأفكار الفلسفية المجردة؛ إذ بدأت أول ما بدأت بمحاولة إدراك المعنى، ثم بإضفاء المعنى على كل المدركات الحسية، بحيث أصبح التجاوب بين العين الناظرة والشيء المنظور، تجاوب دلالة واتصال وتفاعل، وبحيث أصبح التداخل بين «الذات» و«الموضوع» أقرب إلى الالتحام منه إلى التقابل أو الاشتباك،١٧ ومن هنا كان انشغالهم بالطبيعة انشغال بصيرة لا انشغال بصر؛ إذ رأوا فيها أمًّا رءومًا ومصدرًا للنماء والبقاء والتجديد، وجنة تثبت أن الإنسان ذو قلب عامر بالحب الخلاق الذي هو الخير بعينه، وما الحب إلا التوافق بين الكائنات، وما التوافق إلا النماء والعطاء، وما النماء والعطاء إلا الروح الحي الذي يهب الإنسان قدرةً على الوصول إلى جوهرة الكون والأشياء، وعندما وهب الرومانسيون هذه المعاني للطبيعة تحولت مشاعر الإنسان إلى كل ما يرى من حوله، إلى حياة النبات والحيوان، بل وإلى صور الطبيعة التي تبدو غير ذات حياة للعين الباردة (عين العالم الطبيعي) من غدران وصخور وسحب ورياح وبحار ورمال وجبال، بل في الصور الكونية التي تترجم للإنسان قوانين ذاته الباطنة من نورٍ وظلمة وقمر ونجوم … حركة الكواكب وحياة السماء بالليل والنهار.

٢

فإذا انتقلنا إلى الشعر الذي كتبه الرومانسيون، وجدنا أن فكرة الحرية وما ارتبطت به من دلالاتٍ اجتماعية وسياسية، قد أدت أيضًا إلى ثورةٍ فنية بدأت برفض الأنماط التقليدية لشعر الكلاسيكية الجديدة، ثم أتت هي بنماذجها الشعرية الجديدة التي تمثل النزول بالشعر من البرج العاجي لأرستقراطية اللغة والسلوك … إلخ، إلى الإنسان العادي في كل شيء، الإنسان البسيط العظيم معًا، أي العظيم في بساطته لاقترابه مما كان يعتبر الجوهر النقي للإنسان، وهو المثال الذي افترض الرومانسيون وجوده على الأرض.

وقد تجلى هذا «النزول» إلى الإنسان العادي في التخلي عن ازدواجية الأسلوب،١٨ التي ورثها القرن الثامن عشر عن القدماء، ومعنى ازدواجية الأسلوب هو وجود أسلوبين مختلفين أحدهما رفيع والثاني منحط، أما الرفيع فيخصص للأعمال الأدبية التي يوجهها الشاعر إلى جمهورٍ ذي مستوًى عالٍ في الفكر والعلم ومن ثَم في الإحساس، وهو يتطلب لغةً شعرية خاصة تستمد مفرداتها وصورها البلاغية من اللغات الكلاسيكية القديمة، وهو الأسلوب الذي درج على تذوقه أبناء الطبقة الأرستقراطية في القرن التاسع عشر، وأما المنحط فهو الذي يتناول الأعمال الأدبية الواقعية، والتي تقترب من الإنسان العادي وتتوسل بلغته؛ ولذلك فقد كان ذلك الأسلوب أقرب إلى الاستخدام في الملهاوات القديمة، وأبعد ما يكون عن روح المأساة أو روح الأدب الرفيع، ومعنى رفض الرومانسيين لازدواجية الأسلوب افتراضهم أساسًا بشريًّا واحدًا لدى الجميع، يمكن أن يتوجهوا إليه بالخطاب فيصلوا إلى كل فرد، انطلاقًا من أن الإنسان الحقيقي هو ذلك الذي يكمن وراء الفوارق والمظاهر الطبقية والاجتماعية، ومن أن وظيفة الشاعر هي أن يتجاهل المظهر ويعتمد على المخبر والجوهر.
ومن هنا كانت ثورة وردزورث وكولريدج على اللغة الخاصة بالشعر — في ديوان المواويل الغنائية (١٧٩٨م) — وطرحهم الاستعارات المعقدة ظهريًّا ومحاولة النفاذ إلى جوهر التجربة الإنسانية، بلغةٍ يستطيع كل إنسانٍ أن يفهمها، لغة هي في جوهرها لغة الحديث العادي، وهي في جوهرها أيضًا المفردات الأساسية التي تتصل بكل ما يشغل الإنسان، باعتباره إنسانًا أولًا وأخيرًا، أي بلغة المشاعر والأحاسيس الأولية Primary emotions and sensations، كالحب والكراهية واللقاء والفراق والحزن والفرح والامتلاك والفقدان والعزلة والتواصل … إلخ، وهكذا فقد جنحت إلى التشبيه البسيط أو الساذج الذي يشيع على الألسنة في الحياة اليومية، انطلاقًا من أن الشاعر ليس صانع لغةٍ جديدة، تختلف عن لغة الناس ولا يتذوقها إلا جمهور خاص نشأ ودرس دراسات لغوية متقعرة، ولكنه رجلٌ يتحدث إلى غيره من الرجال أو إنسان يتحدث إلى الإنسان في كل زمانٍ ومكان man speaking to men، مما جعل كبار النقاد يقولون إن الحركة الرومانسية كانت تمثل «ثورة على الأدب»١٩ أي ثورة على الأدب القديم الذي فقد الصلة الحية باللغة المستخدمة في الحياة، واصطنع لغةً أدبية خاصة به وهي لغة الزركشة اللفظية والزيف في التعبير.
ومعنى هذا ميلاد حركة جديدة تنزع إلى الصدق Sincerity وتبتعد عن القوالب المتوارثة، مما كان يوحي بوجود «لغة طبيعية» أو مثال لغوي حي ينبغي على الشاعر محاكاته،٢٠ ومن ثَم كان احتفال الرومانسيين بما أسموه «أنغام اللغة الطبيعية»، أي الأنغام التي تصدر في الشعر الغنائي ليس عن قوة إيقاع التفعيلات المنتظمة، بل عن الألفاظ نفسها واصطفافها في تركيباتٍ طبيعية تعتمد على الزحاف اعتمادها على موسيقى البحور التقليدية، بحيث غدا الزحاف في حالاتٍ كثيرة جزءًا لا يتجزأ من البحر، إن صح هذا التعبير، وفي هذا المجال شهدنا محاولاتٍ متعددة في الأغلب الأعم لصوغ أنواع جديدة من موسيقى الشعر٢١ لا يلتزم الرومانسيون فيها بالبحر ويغايرون فيها بين البحور في القصيدة الواحدة، ويستخدمون فيها أنماطًا من الموسيقى الداخلية لم يعهدها الشعر الإنجليزي من قبل، كما شهدنا الاحتفالات بالمغايرة أيضًا بين أطوال الأبيات واللجوء إلى العبارات التي شاعت فأصبحت ذات موسيقى غلابة نتيجةً لشيوعها على الألسنة، حتى إن أحد النقاد الكلاسيكيين الذين تعرضوا للجيل الأول من الرومانسيين بالهجوم، قد وصف أنغام شعرهم بأنها تشبه أغاني الأطفال الساذجة في موسيقاها الغلابة، وبخاصة لاعتمادها على السرد البسيط لأحداثٍ قصصية ساذجة في مظهرها.
ولا شك أن اعتماد النماذج الأولى للشعر الرومانسي على القصة كان يميزه عن النماذج الكلاسيكية العريقة؛٢٢ إذ إنه قد ارتبط بالنشأة الأولى للرومانسية في الأدب الإنجليزي، وذلك من خلال تراث الرومانس The Romance Tradition، أي تقاليد مجموعة القصص الشعرية الشعبية التي سادت أوروبا في العصور الوسطى، وأثَّرت على مفاهيم عصر النهضة عن الحب والتضحية والفروسية والشهامة … إلخ، ويمكننا تمييزًا لهذا التراث إذن أن نطلق على هذه القصص اسم الرومانسات (جمع رومانسة A Romance)، وأن نُرجع إليها كثيرًا من ميل الرومانسيين إلى فن القصة أولًا ثم إلى المسرح ثانيًا، وذلك منذ وردزورث وكولريدج حتى كيتس وشلي وبيرون، وذلك رغم غلبة الغنائية على شعر هؤلاء جميعًا.
وقد جنح كثيرٌ من هذه القصص إلى عالم الخرافة والأساطير، إما بإحياء الأساطير التي أصبحت جزءًا من التراث الأدبي لأوروبا خاصةً في العصور الوسطى، أو ابتداع أساطير جديدة من الواقع الذي يعيشونه، ولا بد هنا من وقفةٍ عند هذين الاتجاهين؛ إذ إن وردزورث وكولريدج يمثِّلان تيارَين يكادان يتناقضان في معالجتهما للقصة الشعرية، فبينما نرى وردزورث يستلهم الواقع دائمًا ويستخرج رموزه مما حوله من حياة الطبيعة والكون، نجد كولريدج ينساق إلى عالم الخرافة في كل ما كتب من قصصٍ شعري — مثل الملَّاح الهرم أو كريستابل أو قبلاي خان — كما نجده ينحو نحو الإغراق في الدلالة الرمزية لها، بحيث يقدم لنا شعرًا لم يسبقه إليه شاعرٌ في تاريخ الأدب الإنجليزي، أما الجيل الثاني — كيتس وشلي بالذات — فقد استلهم الأساطير اليونانية وأدخل تحويراتٍ عديدة عليها، بحيث أصبحت لا تنتمي إلى عالم اليونان إلا بأسماء أبطالها.٢٣

٣

حينما شب شاعرنا — شلي — كان الجمهور العريض قد بدأ يعتاد هذا اللون الجديد من الشعر — رغم هجوم جيفري وجيفورد — بل حينما لم يكن قد تجاوز العاشرة كان الديوان الأول للرومانسية — مواويل غنائية — قد اكتسح الأسواق وكانت مقدمة الطبعة الثانية منه قد أرست مبادئ هذه الثورة الجديدة في الشعر الإنجليزي، ولم يكن من الغريب عليه وعلى كيتس وغيرهما أن ينتهيا إلى أن الشعر ينبغي أن يسلك هذا الطريق مهما كان اختلافهما مع وردزورث وكولريدج، وربما كان اختلاف شلي بالذات أهم بالنسبة لنا، ليس لأنه موضوع هذا البحث، ولكن لأنه كان شاعرًا ثوريًّا حقيقيًّا رفض أن يتغير حينما هبت رياح التغير على المثل الأعلى أو الأول؛ وليم وردزورث.

وقد اتفق شلي مع هذا الجيل الأول من الرومانسيين في كل ما نادوا به، وكل ما نشر حتى العقد الأول من القرن التاسع عشر، لم تكن قصيدة المقدمة (١٨٠٥م) قد نشرت بعد،٢٤ ولكن كان أمام شلي عدة دواوين لوردزورث أهمها الديوان الكبير «قصائد في جزئين ١٨٠٧م»، والذي بلور تمامًا المنهج الجديد، وكان أمامه ما ينشر في الصحف والمجلات وبخاصة مساجلات النقاد وتعليقاتهم، وكان أمامه وهو أهم من هذا كله ما وصفه وليم هازلت بأنه «روح العصر»، وهي الروح التي أملَتها الثورة الرومانسية في أعقاب الثورة الفرنسية،٢٥ وهكذا كان المثل الذي احتذاه في أول الأمر هو إطار القصة الشرقية لروبرت سوذي، ووالتر سفدج لاندور، وبخاصة «طلبة» و«لعنة كهامة» للأول، و«جابر» للثاني.
كان شلي ثائرًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، ثائرًا على الأوضاع السياسية والدينية والاقتصادية لإنجلترا، ومن ثَم رأى في وردزورث الرائد الذي جسد في شعره «روح العصر» بصدق، واقترح الحلول للأزمة الكبرى التي كانت تعتصر أبناء وطنه، وإذا كان النقاد قد شغلوا أنفسهم على مدى قرنٍ من الزمان، بتبيان أوجه التشابه والخلاف بين الشاعرين الكبيرين، سواء من ناحية المنهج الفني أو الأفكار والصور، فركز بعضهم على نزعة حب «الطبيعة» في هذا وذاك،٢٦ وركز الآخر على معنى التواصل مع روح الكون لديهما،٢٧ وانهمك آخرون في مناقشة قصائد بعينها تثبت التشابه،٢٨ أو احتمال تأثير الأول على الآخر،٢٩ واهتم البعض الآخر بتأكيد مظاهر الاختلاف،٣٠ فإن المدخل الواضح للعلاقة التي ربطت بين الجيلين، هو تلك الأفكار المثالية التي أتى بها كبار مفكري الفترة وبخاصة روسو ووليام جودوين، وهي أفكارٌ لم تكن غريبةً على شاعرٍ أحس منذ البداية أن ثمة جهازًا أو مؤسسة في بلاده، لا هم لها إلا أن تقمع الثورة التحررية، التي بدأت بوادرها تلوح في أفق إنجلترا وأن تئدها في مهدها، ثورة الإنسان لتحقيق ذاته عن طريق تطبيق مبادئ الثورة الفرنسية، نظر حوله فرأى ما رآه وردزورث من سوء النظام الاقتصادي الجائر، وتغلب الإرهاب والقهر على المستويين السياسي والاجتماعي، ولكنه بدلًا من أن يصور نماذج المعاناة أو وسائل الهرب من هذا كله — مثلما فعل صاحبا المواويل الغنائية — لجأ إلى الشعر السياسي المباشر ليهاجم جرائم العصر، التي كانت تقع يوميًّا على أيدي الطاغية كاسلري، مثل مذبحة بيترلو في عام ١٨١٩م٣١ وكان شلي في إيطاليا في ذلك الوقت، وعلى الفور كتب قصيدةً بعنوان قناع الفوضى، يقول فيها:
قابلت القاتل في الطريق،
كان يرتدي قناع كاسلري،
وجهه جميل وعابس،
وخلفه سبعة كلاب بوليسية،
كانت جميعًا سمينة
رغم عجيب ما ابتليَت به،
لقد كان يلقي إليها واحدًا بعد الآخر،
بقلوبٍ آدمية تلوكها،
وكان يخرجها من ثنايا عباءته!

وقد كتب شلي في نفس العام قصيدةً سياسية لا تتوسل بالرمزية مثل هذه القصيدة، وإنما تعالج الأمر دون التواء، وعنوانها «إنجلترا ١٨١٩» ويقول فيها:

هرمٌ مجنون أعمى … ملك محتقر يحتضر،
أمراء … حثالة السلالة البليدة،
يجرفهم ازدراء الناس … كالطين في نبعٍ قذر،
حكامٌ لا يرََون ولا يشعرون ولا يعرفون،
بل يلتصقون كالديدان بجسد وطنهم المتهالك،
حتى يسقطوا وقد أعماهم الدم الذي امتصوه،
دون ضربةٍ واحدة،
وشعب أجاعوه وطعنوه … في حقلٍ حرموه المحراث،
وجيش يخنق الحرية … وهو نفسه ضحية،
سلاحٌ ذو حدَّين لكل من يقبض عليه …
وقوانين من الذهب والدم
تغوي وتهلك،
ودين أُفرغ من مسيحه وإلهه
فأصبح كتابًا مغلقًا،
ومجلس شيوخ، أسوأ تشريع أتى به الزمن،
ولا رادَّ له،
قبور …
بيد أنه يمكن أن يهبَّ من بينها شبحٌ عظيم؛
ليشع النور في عصرنا المدلهم العاصف.

كما كتب قصيدةً لم يُكتب لها الأخرى أن تُنشر أثناء حياته بعنوان «يا رجال إنجلترا … يا ورثة المجد التليد»، يحث فيها أبناء وطنه على النهوض من سباتهم، والثورة على حكامهم المستبدين قائلًا:

انهضوا من سباتكم مثل الأسود،
في أعدادٍ لا تُقهر،
حطموا أغلالكم،
انفضوها … فإنما هي قطرات ندى،
رانت عليكم أثناء النوم …
إنكم كثيرٌ وهم قليل!
وقد بدأت ثورة شلي منذ صباه المبكر وهو بعدُ في الجامعة، وحينما فُصل بسبب مقاله المعروف عن «ضرورة الإلحاد»، كان ذلك نذيرًا بحياةٍ لم تنفصل فيها أحلام المثالية عن مشاعر الشاب الثائر الذي لا يرى في الكون إلا الخير أو إمكانية الخير، وهكذا رأينا أول قصائده المسماة «الملكة ماب» (١٨١٢-١٨١٣م)، رغم مستواها الفني الفج قصيدة أحلام ومطامح للبشرية بأسرها ويصل عدد أبياتها إلى ٢٣٠٠، وتعتبر السجل الحي لأفكاره الثورية اليوتوبية (الطوبية) وهو في سن العشرين، كما يتضح فيها تأثره الواضح بأفكار صهره وليام جودوين، الذي أثر على الجيلين من شعراء الرومانسية جميعًا.٣٢

وإذا أنعمنا النظر في هذه القصيدة، وجدناها تشتمل على كل الأفكار التي تشكل فيما بينها منهجه الثوري، الذي جعل اسمه على مدى القرن التاسع عشر مقترنًا بالثورة والإلحاد ثم بالاشتراكية رغم تطوره الفكري فيما بعد، ورغم التناقضات القائمة في القصيدة، والتي يمكن أن نعزوها بسهولةٍ إلى حداثة سنه عند تأليفها، وإلى المصادر الفكرية المتناقضة التي استقى منها مادته، مدفوعًا بالرغبة العارمة «لإصلاح العالم» وبعاطفةٍ مشبوبة وحب جارف للخير، لم يكن يعرف له من صورةٍ إلا ما رآه من خلال مفكري العصر.

وتتكون القصيدة من تسعة أناشيد cantos، وتحكي قصةً خيالية مؤداها أن الملكة ماب — ملكة الجان — تهبط إلى الأرض وتصحب روح فتاة نائمة هي «إيانثي» إلى الفضاء (وشكل الرحلة شائعٌ في أدب القرن الثامن عشر)، وينصب النشيدان الأولان على اختطاف الملكة لروح الفتاة، ويتضمنان استعراضًا سريعًا للماضي، ماضي العالم وماضي البشرية بصفةٍ عامة، ثم يبدأ شلي في الأناشيد الخمسة التالية (من الثالث حتى السابع) في الهجوم على شرور عالمه المعاصر، وهي بالتحديد، الطغاة من الحكام، والحرب، والتجارة، والثروة والدين، ثم يتفرغ في النشيدين الأخيرين (الثامن والتاسع) لوصف المستقبل المثالي (اليوتوبي)، وبعدها تعود الفتاة «إيانثي» إلى الأرض، وقد اعتنقت كل أفكار شلي!
وباختصارٍ شديد يمكننا أن نرصد القوى الثورية التي حركت شلي في هذه القصيدة، أما القوة الأولى فتمثل اتجاهًا ماديًّا مناهضًا لسلطة الكنيسة، ويمكننا إذا استخدمنا لغة العصر الحديث أن نصفه بالاتجاه اليساري، وأما القوة الثانية فيبدو أنها تتناقض مع هذا التيار إلى حدٍّ كبير في إعلائها للإنسان (أو اتجاهها نحو «الهيومانزم»)، وإيحائها بمذهب الحلول الذي أوضح البروفسور بايباير أنه مستمد من الحركة المادية الفرنسية (فولني، دولباك، كاباني، بيفون)، والعالم الطبيعي الإنجليزي إرازمس داروين،٣٣ ومن ثَم فإنه يتحدث عن روح الطبيعة أحيانًا بصورةٍ مباشرة:
في شتى أرجاء هذه الدنيا المنوعة الخالدة،
الروح هي العنصر الوحيد الثابت: والصخرة
التي ظلت على مدى عصورٍ لا حصر لها
ركنًا ركينًا وعمادًا لعبءٍ في ثقل الجبال
هي الروح النشطة الحية،
إن كل حبةٍ لها إحساسها وإدراكها — معًا وكلٌّ على حدة —
وأصغر الذرات تدرك وتحتضن
عالمًا من الأهواء والبغضاء.٣٤
ولكنه رغم أن «كل ذرة من هذا الحشد الكبير/تقوم بمهام محددة ومحتومة/ولا تتصرف إلا حسبما ينبغي لها أن تفعل»،٣٥ فإن هذا العالم المنوع الخالد توجهه روحٌ تسوده وتتغلغل فيه لتحقيق السعادة البشرية،٣٦ ومن ثَم فهو يخاطب هذه الروح بهذه الكلمات:
يا روح الطبيعة!
يا روح الأعداد التي لا تنتهي،
يا نفس الأفلاك الجبارة،
ذات المدارات الثابتة في أعماق صمت السماء،
يا روح أصغر الأشياء،
يا من تسكن حياتها في شعاع شمس فاتر في أبريل،
والإنسان — مثل هذه الأشياء الساكنة —
سوف ترضيه إرادتك دون أن يشعر،
وسوف يأتي عصر السلام السرمدي له ولك جميعًا،
إذ يعمل الزمن دائبًا على إنضاجه،
ومن ثَم فلا بد أن يحل سريعًا وبالتأكيد،
وسوف نرى الهيكل اللامحدود الذي تشيعين فيه،
وقد سلم من العيوب
التي تشوب توافقه الهندسي المحكم.٣٧
وقد يبدو الإيمان بالحلول متناقضًا مع الإيمان بالحتمية، ولكن هذا تناقض ظاهري لأن «الروح الحي» الذي يحل في الكون والأشياء (والإنسان بطبيعة الحال) هو الذي سوف يتولى عن طريق التغيير الحتمي الإتيان بالسعادة آخر الأمر، ولكن ثمة أوجه تناقض أخرى في فلسفة شلي الثورية تلت هذه المرحلة، يمكن أن نعزوها إلى تأثير وردزورث عليه، كما يذهب إلى ذلك كبار النقاد،٣٨ وبالذات تحوله من «الجودوينية» الخالصة بمثاليتها وتفاؤلها الشديد إلى الأفلاطونية الجديدة التي تؤمن بوجود الله، وترى أن العالم الفاضل لن تأتي به قوانين الضرورة أو الحتمية والعقل،٣٩ بل لا بد له من طاقة الخيال الذي تدعمه طاقات الحب في صدور البشر بعد تخطي عصور الآلام والمعاناة، وقد ظهر هذا التأثير جليًّا في الشعر الذي كتبه شلي بعد قراءة قصيدة وردزورث الطويلة «الرحلة»، التي صدرت بعد «الملكة ماب» بعامٍ واحد (١٨١٤م)، وبالذات في قصيدة «الأستور» التي لا بد من النظر فيها الآن.٤٠

٤

كان التحول الحاسم في شعر شلي مرتبطًا بما رآه في الحضارة اليونانية بصفةٍ عامة (وفي أفلاطون بصفةٍ خاصة)، من رمزيةٍ ومن رؤيةٍ لمستقبل الإنسان على أساس الحس الجمالي، الذي تغذيه المشاعر بالقدر الذي يتوسل فيه بالعقل، ومن ثَم ابتعد شعره بالتدريج عن النزعة التعليمية المباشرة، وأصبح يرى في ذهن الإنسان عالمه الرحيب الذي يغري بالاكتشاف، ومن ثَم انصبَّ اهتمامه على تقلب أهواء الذهن وما به من غموضٍ يرقى به إلى عالم المجهول، وأصبح يطرب لتبين التناقضات النفسية التي تعج بها نفوس البشر، متخذًا من ذاته مسرحًا لشعره ولكل ما يطمح إلى النفاذ إليه في هذا السبيل.

وقصيدة «الأستور» التي سوف ننظر فيها باعتبارها نموذجًا لهذه المرحلة، ربما كان الدافع على كتابتها «خيبة أمله» في وردزورث للتحول الفكري الذي أصابه،٤١ إذ إنها كما يقول في مقدمتها «تتحدث عن شابٍّ ذي مشاعر صافية وعبقرية مغامرة وخيال مشبوب، اكتسب نقاءه من طول ارتباطه بكل ما هو ممتاز وسامٍ دفعه إلى تأمل الكون»، ولكن «عزلته التي انصب فيها على ذاته» أدت إلى لونٍ من الضياع والإحباط؛ لأنه ربط مثله العليا بكائنٍ خيالي ظل يبحث عنه عبثًا، بل إن هذا الضياع نفسه و«خيبة آماله قد مزقته نفسًا وبدنًا فمات في ريعانه»،٤٢ والعزلة إذن هنا ليست عزلة جسدية بقدر ما هي عزلة نفسية، كما يدل على ذلك الخط الفكري الذي تسير فيه، بل وكما يدل عليها عنوانها نفسه، فهو «الأستور أو روح العزلة»، وهو خطٌّ فكري يتميز بكل سمات شعر شلي من مزجٍ للتجريد بالانفعال، وبالقدرة على خلق أو تخليق الأسطورة مع النرجسية المفرطة والانغماس في اللذة العاطفية (وقد كان هذا جديدًا كل الجدة على الرومانسيين الأوائل)، وأخيرًا بالنبرات الأخلاقية التي حملت طابع شلي دون سواه،٤٣ ولنتأمل بعض الأبيات الأولى للقصيدة:
كان ثم شاعر مات في ريعانه،
لم تبنِ قبره يد الإنسان في جلالٍ أو ورع،
ولكن دوامات ريح الخريف المسحورة
أهالت فوق عظامه النخرة هرمًا من الأوراق الذابلة،
في البرية اليباب، شابٌّ جميل!
ما طافت نائحة به لتزين السرير الذي يرقد فيه،
رقدة الأبد بزهورٍ باكية،
أو طاقة أقاحٍ مقدسة!
رقيقٌ وشجاعٌ وكريم،
لم يطُف به شاعر حزين ليزفر زفرات ألم على مصيره المظلم،
فلقد عاش ومات وأنشد في عزلة،
ولقد أبكى الغرباء سماع ألحانه المشبوبة،
أما العذارى فكن يذوين ويذبلن
لرؤية عينيه الشاردتين وهو يمر بهن غريبًا وحيدًا،
لقد انطفأت جذوة تلك الأفلاك الرقيقة،
وها هو الصمت الذي جاوز حبه لذلك الصوت كل حدود،
يغلق صومعته الخشنة على موسيقاه الخرساء.٤٤

وتقابلنا في هذه القصيدة كل الكلمات التي ألفناها في شلي (وبخاصةٍ في القصائد التي تلت هذه، أي بعد ١٨١٦م) مثل «شاحب» و«ذابل» و«حائل» و«ذاو» و«خاو» و«مظلم» — إلى جانب كلماته المفضلة «مشرق» و«لازوردي» — بل يمكننا أن نلمح بعض العبارات التي تميز بها الأسلوب الشعري عند شلي، فقلَّما وجدناها لدى شاعرٍ رومانسي آخر، كالمقتطفات التالية:

غامت عيناه تحت وشاح السواد،
ثم طوى الليل تلك الرؤيا وابتلعها.٤٥
وتطلعت عيناه الذابلتان إلى المشهد الخاوي،
في خواء مثلما تتطلع صورة البدر في ماء المحيط،
إلى البدر في السماء.٤٦
لقد ضاع — ضاع إلى الأبد — في الصحراء الشاسعة المترامية الأطراف،
صحراء النوم المظلمة.٤٧
قابل ذلك الشبح الغريب على صخرةٍ شاهقة
تصيب الرأس بالدوار فظن أنها روح الهواء
وقد توقفت في مسارها.٤٨
نزعة قلق دفعته للإبحار حتى
يقابل الموت وحيدًا في رقعة المحيط الموحشة.٤٩
فوق الجبين الجميل والعيون المشرقة لهذا النهار.٥٠
لم تكن الرغبة الجامحة الخبيئة،
في تلك الوجنات الملتهبة والعيون الحالمة والإهاب الغض،
قد فعلت فعلها بعد.٥١
صورة صامتة وباردة وجامدة.٥٢
فوق تلك الشفاه الشاحبة ذوات العذوبة الطاغية،
حتى في صمتها.٥٣
وإذا كان نُقاد عصره قد هاجموه لهذا الاستغراق في المشاعر، فإن كبار كتاب العصر الحديث قد هاجموه لسبب آخر، وهو التضحية بالشكل العام أي بالتماسك في البناء، من أجل اللحظات المفردة التي يصوغ فيها هذه الصور الفريدة، ولكن الدراسات الحديثة قد ألقت الضوء على هذا الجانب من شعر شلي، فبينت لنا أن هدف الشاعر لم يكن التركيب أو البناء المتماسك، بقدر ما كان الرؤية الخاصة المنفردة لهذه اللحظات الشعورية ورصدها في القصيدة، ومن ثَم فإننا لا نستطيع أن نحاسبه على ما لم يكن يهدف إلى فعله أو قوله، والحق أن تأمل هذه النماذج من الأستور يكفي لتوضيح هذا، ولكن الصورة الأخيرة تختلف عما سبقها في أنها صورة «تبادل حسي» أو ما يُسمَّى ﺑ Synaesthetic image.
أي إنها صورة يعبر فيها الشاعر عن أحد الانطباعات الحسية عن طريق انطباع من حاسةٍ مختلفة مثل «رؤية الصوت» أو «سماع اللون الأحمر»، ولنأخذ نماذج من هذه الصور:٥٤
ألوان زهرة الياسنت البنفسجية والبيضاء والزرقاء …
أشاعت من ناقوس الزهرة رنينًا عذبًا متجددًا،
موسيقى رقيقة وعميقة،
كان لها وقع الرائحة على الإحساس.٥٥

فهنا يترجم شلي الألوان إلى موسيقى ثم إلى رائحة، ولنأخذ مثلًا آخر من قصيدة الأستور نفسها:

رحلت الأزهار المشرقة، والظل الجميل،
للخمائل الخضراء، بكل نسائمها العاطرة،
وخلجاتها الموسيقية …٥٦
وتبادل الحواس في نسج الصور من الخصائص التي تفرَّد بها كيتس وشلي، وتميزا بها عن الجيل الأول من الرومانسيين، ولكنه بينما كان كيتس يفضِّل التركيب بل والتعقيد في تركيزه على معطيات الحس (حتى عندما ينزع إلى التلقائية)، نرى شلي يميل إلى البساطة التي يمكن تفسيرها بأن خياله قد دأب على التوحيد الشعوري، أي صَهر جميع الأحاسيس الدقيقة التي تستمد مادتها من معطيات الحس في بوتقة عاطفة توحد بينها، وتتجه به نحو الإحساس بالوحدة في الكون روحيًّا وماديًّا، وهكذا فإن الصورة الفنية في شلي دائمًا ما تمثل علاقة التداخل بين التعدد والتنوع من جانبٍ وبين الروح الموحدة٥٧ في كل شيء، وهي العلاقة التي شغلت وردزورث من قبله ولننظر — وقبل أن نشير إلى محاولته المسرحية لتجسيد هذا الصراع وهذه العلاقة — إلى هذه الصورة من الأستور:
رأى فيما يرى النائم فتاةً ذات خمار،
تجلس إلى جواره وتتحدث في صوتٍ خفيض رزين،
كان صوتها مثل صوت روحه،
ينساب في هدوء الفكر … كانت موسيقاه مديدة،
مثل الأصوات التي تنسجها الغدران والنسائم …
فوقعت حواسه في ذلك النسيج المتشابك
ذي الخيوط المتعددة الألوان والأصباغ المتباينة،
كانت تتحدث عن العلم والحق والفضيلة
والآمال العليا للحرية المقدسة،
وهي أقرب الأفكار إلى نفسه … وإلى الشعر؛
إذ إنها كانت نفسها شاعرة،
وسرعان ما ألهب ذهنها النقي نارًا
سرت في هيكلها فتوالت الأبيات من شفتيها
في صوتٍ تخنقه عبراتها المختلجة …٥٨

فالصورة هنا — في الأبيات التي طبعت بالخط الثقيل — تحوِّل الأصوات وهي معطيات السمع إلى النسيج (وهي معطيات اللمس) بدقةٍ وتجسيد، نادرًا ما يشير إليه النقاد، وقد كان اكتشاف هذه القدرة على التجسيد الموضوعي للأحاسيس عند شلي أحد المنجزات التي أتى بها التيار النقدي فيما بعد مدرسة إليوت، فأنصف الشاعر من جور مدرسة النقد الحديث (التي ولدها الشعر الحديث) ورغم أن اتهام هذه المدرسة له بالتفكك ما يزال صحيحًا، فإن هذا لا ينطبق إلا على أعماله الشعرية المطولة، والتي يعجز فيها عن الربط بين اللحظات الشعورية، التي تتفجر في ثنايا الأبيات دون خطٍّ ثابت قوي يشدها بعضها إلى البعض.

ولعل أهم ما يذكر به شلي في هذا الصدد هو مسرحيته الشعرية «بروميثيوس طليقًا» (١٨٢٠م)، التي تحفل حقًّا بكل ما أبدعه من صورٍ كونية ورؤًى أصيلة لموقف الإنسان في هذا الوجود، وشلي هنا يطور الأسطورة اليونانية حتى يبرز «رسالته الشعورية»، أي قدرة الإنسان على الحب اللامحدود، وقدرة هذا الحب على الانتصار على الحقد والانتقام، ويقول الشاعر في مقدمته لها إن هدفه هو أن يعين خيال القراء على تذوق المثل العليا للأخلاق السامية والإحساس بما فيها من جمال.

«أدرك أن الذهن إذا لم يعرف الحب والإعجاب والثقة

والأمل والصبر فسوف تكون المبادئ «المتعلقة»

للسلوك الإنساني مجرد بذور تلقى على طريق الحياة

لتطأها أقدام السائرين فتطعنها وتحيلها ترابًا

غير مدركين أنها يمكن أن تزهر وتثمر قطوف سعادتهم.»

ومعنى هذا أن شلي قد نجح في صوغ «معادلة» (أي في إيجاد صيغة)، يستطيع بها الشاعر أن يصلح المجتمع، بل أن يصلح أحوال البشرية جمعاء دون أن يلجأ إلى «الوعظ» المباشر، وهي صيغة المعاناة الشعورية من خلال صراعٍ بين النوازع الإنسانية الأصيلة وبين ما تفرضه قوى الشر، التي ليست في الحقيقة إلا قوًى شائهة قبيحة؛ تفتقر إلى كل ما يمكن أن يهبها قوة الحياة الحقة، ورغم أن هذه «الصيغة» أو «المعادلة» صحيحة في جوهرها أي في اتكائها على أساسٍ نفسي سليم، فإنها لم تمكن شلي من كتابة مسرحية ذات صلابة درامية وتماسك فني داخلي، فما زلنا هنا أمام الشاعر الغنائي الذي يعتمد على دفقات الإحساس — كما سبق القول — والأفكار المتناثرة التي تحفل بها الأناشيد والقصائد القصيرة المتفرقة التي تزخر بها المسرحية، والتي كثيرًا ما نقرؤها نحن — عشاق الشعر — ونرددها لصورها المركزة ورموزها العامة التي لا تستمد حياتها من المسرحية (من حيث هي عمل درامي مستقل).

والسبب في هذا أن شلي يتخذ من أسطورة بروميثيوس القديمة، صورةً استعارية لموقف الإنسان في المجتمع الإنجليزي وفي ظل النظام السياسي الذي كان يراه فاسدًا نخرًا، ويرى في بروميثيوس رمزًا لخلاص البشرية بصفةٍ عامة من الظلم (مثلما يرى المسيحيون في المسيح رمزًا لخلاص الإنسان من الخطيئة)؛ ولذلك فهو يجعله ينتصر في النهاية على جوبيتر — رب الأرباب — ناسخًا بذلك مفهوم إيسخولوس للأسطورة الأصلية، وهو التصالح بين جوبيتر عدو البشرية وبروميثيوس نصيرها ومنقذها، ومن ثَم فإن صوت شلي الشاعر نفسه لا يغيب عن آذاننا لحظةً واحدة، إنه صوت المعلق أحيانًا أو صوت الراوي أو الجوقة (الكورس)، وهو أحيانًا أخرى صوت البطل الذي اختاره لعمله الفني، صوت الإنسان الذي ينشد الحرية وينادي بها، وينتصر لها وبها آخر الأمر على قوى البغي والبطش والسيطرة.

وقبل أن نختتم حديثنا عن هذا العمل الكبير، يجمل بنا أن نلقي نظرةً عابرة على الصور الكونية، التي تعج بها المسرحية والتي تمحنها طابعها الخاص، فلنتأمل هذه الأنشودة الشهيرة التي تغنيها إحدى «الأرواح» في بداية المشهد الخامس من الفصل الثاني:

المشهد الخامس: تمر العربة في سحابةٍ على قمة جبل تغطيه الثلوج، فنرى آسيا وبانثيا و«روح الساعة».

الروح

على حافة الليل والنهار
تلهث جياد عربتي،
بيد أن الأرض قد همست لي محذرة
بأنها لا بد أن تعدو أسرع من النار،
وأنها لا بد أن تجرع سرعة الرغبة الملتهبة!

أو هذا الحديث المسهب الذي تُدلي بها بانثيا قرب نهاية المسرحية.

(الفصل الرابع، الأبيات ٢٣٤ وما بعدها):

بانثيا :
ومن الفتحة الأخرى في الغابة تندفع كرة
محدثةً دوامة أنغام ودويًّا هائلًا …
كرة كأنها عدة آلاف كرة،
صلبة مثل البلور،
ولكن تتدفق في كيانها المصمت،
موسيقى ونور كأنما ينسابان في الفضاء المفرغ،
عشرة آلاف فلك متداخلة تنتظم
كل الألوان: الأرجواني واللازوردي والأبيض والأخضر والذهبي، فلكٌ يدور داخل فلك،
وتعمر الفضاء بينها أشكال لا تخطر على قلب بشر،
مثلما تحلم الأشباح بمن يسكن أعماق المحيط المظلمة،
ومع هذا فهي شفافة الكيان وهي تدور حول
بعضها البعض بآلاف الحركات والسكنات،
حول ألف محور خفي،
بقوةٍ وسرعة تكفي لتدميرها،
عنيفة بطيئة رزينة …

كما يجمل بنا أن نتأمل ما يعنيه النقد الحديث بالنزعة التجريدية عند شلي، أي نزوعه وولعه باستخدام المجردات — الألفاظ ذات الدلالة العامة والمعاني المجردة — لنأخذ إذن هذا النموذج من الحديث الختامي، الذي يلقي به «ديموجورجون» الذي يرمز في المسرحية لصورة الخلود:

الرقة والفضيلة والحكمة والصبر،
هذه هي الخصال التي تهيئ أثبت ما يحمي الحمى
من قوة إله الدمار،
تحمل آلام لا يرى الأمل نهايةً لها،
وغفران خطايا أشد سوادًا وظلمةً من الموت أو الليل،
وتحدي قوة لا غالب لها فيما يبدو،
الحب والاحتمال والأمل …
الأمل حتى يخلق الأمل من حطامه ما يطمح فيه،
الثبات دون تغير أو تردد أو ندم،
هذا كله — مثل مجدك يا تايتان —
هو الخير والعظمة والفرح والجمال والحرية،
هذا وحده هو الحياة والسعادة والملك والنصر.

(٢) التصوير والشعر الإنجليزي الحديث

كلنا يعرف أن جذور الشعر الإنجليزي الحديث تمتد إلى أوائل هذا القرن، عندما ازدهرت مدرسة التصويريين التي تزعَّمها الشاعر عزرا باوند، وبرز من أبنائها ت. س. إليوت، ومع أن شعر اليوم في بريطانيا وأمريكا (وسائر البلاد الناطقة بالإنجليزية)، قد اختلف عما كان عليه عند نشر القصائد الأولى لهذه المدرسة، فما يزال تيار التصويرية من التيارات التي تتدفق بقوةٍ في شعر المحدثين، وإذا كنا لا نعرف في العربية (أي لم نترجم إلى العربية) إلا نموذجًا أو نموذجين مما يتفق مع الذوق العربي، وتستسيغه آذان الناطقين بالضاد، فينبغي ألا يكون ذلك حائلًا دون الإلمام بخصائص تلك المدرسة ومعرفة اتجاهها العام، خصوصًا أن كلمة التصوير قد ضللتنا على مدى سنواتٍ طويلة؛ إذ ارتبطت في أذهاننا بتقديم الصور، سواء كانت صورًا حقيقية أو مجازية، ثم تطورت لتقتصر على لغة المجاز، وأيضًا فقد ارتبطت المدرسة لدَينا بمبادئ عامة، نادى بها «النقد الحديث» وأشاعها كبار النقاد لدَينا، مثل وحدة القصيدة ووحدة الانطباع، والعضوية، والتماسك، وهلم جرًّا، وهكذا وجدنا أنفسنا نتطور إبداعيًّا في الطريق الصحيح، وهذا محمود، ظانين بأننا نحاكي مدرسة التصويريين، وهذا غير دقيق.

وأعتزم في هذه الدراسة إيضاح الإطار الكبير للحركة التصويرية، وهو إطار المودرنية modernism، وأنا أستخدم هذه الكلمة للتفريق بينها وبين الحداثة modernity التي قد يقتصر معناها على ما هو جديد new أو حديث العهد recent أو معاصر contemporary، فالمودرنية (وهي مصدر صناعي مثل المصادر المستخدمة في الإشارة إلى المذاهب الفنية المتعددة)، لا تتضمن الدلالة الزمنية فحسب، بل تتعدى ذلك إلى خصائص حركة فكرية وفنية معًا؛ إذ لم تقتصر على الفنون التشكيلية والأدب، بل كانت تعبيرًا عن روح العصر كله، وسأقدم بعد ذلك نموذجًا من الشعر التصويري وهو جزء من النشيد رقم ٧٤ للشاعر عزرا باوند — وهو الأول في سلسلة أناشيد بيزا — وقد أقر أحد أبناء المدرسة، وهو ت. س. إليوت بصعوبته في مقدمته لمختاراته من شعر ذلك الشاعر (طبعة بنجوين ١٩٤٨م ص٧)، ثم أقدم دراسةً كاملة كتبتها «جسيكا برنز بيكورينو» الأستاذة في جامعة كاليفورنيا الجنوبية، ونشرت في مجلة الأدب الحديث عام ١٩٨٢م، وهي دورية تصدرها جماعة تمبل بالولايات المتحدة (ص١٥٩، ١٩٧٣م).

ويجمل بنا في البداية أن نلقي نظرةً على نموذجٍ أو نموذجين من الشعر التصويري الذي يكتب اليوم، وقد اخترت قصيدتين كُتبتا في عام ١٩٧٥م، أولاهما للشاعر «روجر جارفيت» بعنوان سأم الحياة، والثانية واحدة من ست قصائد للشاعر «تد هيوز» بعنوان رفات صلب، وعنوان الأولى يوحي أيضًا بأنها تعني «أهم أحداث الحياة»:

١

العجوز عند النافذة،
ليس له يدان، من كل صفٍّ من الخيوط المعقودة
التي تنسجها عقارب الساعة تضيع عقدة،
في بطءٍ يرتفع صوت المغنية إلى النبرة الصحيحة،
سوبرانو تذوب لهبًا،
يتعادل المنفيَّان في مباراةٍ أخرى،
وآخر جرعة من الشراب
ما تزال في الكأس في انتظار فوز واحد منهما،
ولكن السلوك المهذب يحول دون موت ملك الشطرنج،
وهما لا يبصران الشراب وهو يتبخر.

٢

الشفق قبيل الفجر، سماء جافة مثل بودرة التلك،
الآفاق
تشقشق بأصوات الطيور،
يحط الشحرور قريبًا مني في رعبٍ أسود،
ثم يهب طائرًا،
كأنما يبحث عن مهرب،
من عالمٍ ألقي فيه لتوه،
واليرابيع التي لم تر الإنسان قط تنطلق في كل مكان،
مَن تلك السيدة الفارعة التي تسير على الكلأ في حديقتك؟
النجم في السماء آمن،
البومة على عمود التلغراف
تنعم بالدفء والجفاف وهي في ضعف حجمها المعتاد،
تحك أذنها،
وتحت الأحجار الخنافس الدقيقة، أصدقاؤك.
(من كتاب: قصائدٌ جديدة عام ١٩٧٥م، المحررة باتريشيابير، لندن، ١٩٧٥م، ص٩٦ و١٤٥.)

لا شك أن القارئ العربي سوف يتساءل عن نوع «الصور» المقدمة هنا، فالقصيدتان لا تكادان تتوسلان بالاستعارة، ولغة المجاز مقصورة على تشبيهٍ أو تشبيهين (خافتين)، وكأنما تقدم كل قصيدة موقفًا يتكون من «مناظر» متتابعة، وأشياء لا يربط بينها المنطق المألوف، ولا شك أن القارئ العربي سيسرع بالقول بأن المجاز المستخدم رمزي، وبأننا إذا أنعمنا النظر، فسوف نجد مستويات للاستعارة (بمعنى المجاز) في باطن كل «منظر» وكل «حدث»، وأنها جميعًا تشترك في تكوين انطباعٍ عام أو تشكيله، ولكن هذا القول على وجاهته لا يمثل إلا نصف الحقيقة، أما النصف الآخر فهو أن كلًّا من الشاعرين لا يريد لنا أن نحلل الصور تحليلًا منطقيًّا، أو أن نخلص إلى نتيجةٍ ما — انطباعًا كان أو فكرة — من أي من القصيدتين، الهدف هنا «تصويري مودرني»، أي إنه يعتمد على «التفاعل» لا على «المحاكاة»، أي إن الفنان هنا لا يريد أن نخلص من قصيدة سأم الحياة مثلًا إلى أن الحياة تبعث على السأم؛ لأنها مثل مباراة شطرنج تساوت فيها كفتا اللاعبَين (اللذين يمثلان أي نقيضين في جدلية الوجود)، ومن ثَم ضاعت منهما فرصة الفرح، فرح الحياة والانطلاق! بل لا يريد أن يقول إن الزمن يسلب المرء القدرة على العمل (العجوز ليست له يدان)، أو أن الزمن يسرق منا شيئًا ما في كل لحظةٍ (تضيع عقدة من كل صفٍّ منسوج)، أو أن نار الفن تحرق إحساسنا بالحياة! إنه لا يريد أن يقول أيًّا من ذلك، ولكنه يقول كل ذلك في الوقت نفسه، فالصور هنا — حين تترجم إلى معانٍ منثورة — تضيع في حلقات من التجريد ومواقع من «التفريد»، بحيث لا تصبح صورًا على الإطلاق! إن كيانها يتمثل في تتابعها وتفاعلها وتحديها لذهن القارئ، وكذلك قصيدة تد هيوز عن الرفات: أين الرفات فيها؟ إن القصيدة مجموعة من اللحظات النفسية المنبثقة من صورٍ غير مجازية في الغالب، مستمدة بدورها من الحياة اليومية التي يعيشها الجميع، والقارئ يحاول جاهدًا أن يقيم علاقةً ما بين الشحرور واليرابيع والسيدة والنجم فلا يستطيع، وإذا استطاع فربما تغيرت هذه العلاقة في القراءة الثانية القصيدة، وربما تغيرت في القراءة الثالثة، وهكذا إلى ما لا نهاية! إن القصيدة ديناميكية، أي حركة دائبة تطالبنا بالعودة إليها مرات ومرات، وتتطلب منا إيجابيةً في التذوق لا تتوافر لدى القارئ العابر، وإذا اشتكى القارئ العربي مما يرى أنه تمزق وتفتت فهو يضع يده على أول خيطٍ يشده إلى «المودرنية»، فما هي المودرنية في الفنون التشكيلية؟ وكيف أثرت على الأدب — والشعر بصفةٍ خاصة — في القرن العشرين؟

إذا تصفحنا أي كتاب يعالج «المودرنية» فسوف نجد إصرارًا على تتبع جذورها إلى العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وبعض هذه الكتب يحدد تاريخ الحركة من ١٨٩٠–١٩٣٠م، مثل «برادبري» و«ماكفارلين» في كتابهما المودرنية — طبعة بنجوين ١٩٨١م — وبعضها يوسع من نطاقها الزمني قليلًا، فيرصد استمرارها حتى «تد هيوز» و«سيلفيا بلاث»، بل و«فيليب لاركن» مثل كتاب شعر القرن العشرين (جراهام مارتن وب. ن. فيريانك، لندن ١٩٧٩م)، والحقيقة أن الجذور بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ينبغي أن تمتد إلى المدة الأخيرة من القرن التاسع عشر، قبل وفاة ماثيو أرنولد — الناقد الإنجليزي الشهير — بعدة سنوات (وقد ولد ت. س. إليوت في العام نفسه الذي توفي فيه أرنولد، أي في ١٨٨٨م)، كما أن جذورها لم تكن أدبية أو فنية خالصة، بل كانت تتصل بالتحولات التي أتى بها تقدم العلوم الطبيعية، وما استتبعه ذلك من إعادة النظر في موقع الإنسان على خريطة الوجود، خصوصًا في الصورة التي رسمها الرومانسيون للإنسان في بداية القرن التاسع عشر، كان الإنسان الذي صوره الرومانسيون — كما حدد ذلك أحد آباء الحركة الجديدة وهو ت. إ. هيوم في كتابه التأملات (لندن ١٩٢٤م) — كائنًا عظيم الخطر، لا حدود لقوته وجبروته، ولا قيود على خياله، فهو صورة لخالقه، وصوت يرجع أصداء السماء! لم تعد هذه الصورة مقبولةً في عصر اكتشف فيه الإنسان ذاته، فالتمجيد الرومانسي للإنسان ووضعه في مركز الكون، يتضمن تزييفًا واضحًا، وإغفالًا لضعفه (الذي يتمثل أحيانًا في قوته حين يسيطر قومٌ على قوم)، وعجزه عن إدراك الكثير من حقائق النفس، أو رؤية «سواحل بحر الوجود» التي تحدث عنها الرومانسيون كأنما رأوها رأي العين.

كان التدفق الذي لم يسبق له مثيل في مكتشفات العلم، يدعو إلى إعادة النظر في الأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة على ما ورثته أوروبا، وكان ينزع في الحقيقة لا إلى مناهضة الرومانسية بتقديم صورة مقابلة ومبالغ فيها عن ضعف الإنسان وعجزه، بل إلى استكمال الصورة وقبول التناقضات في الإنسان نفسه وأوضاعه، بحيث يتخلص البشر نهائيًّا من التبسيط الشديد في الصورة الرومانسية الأولى، وقد رأى أحد النقاد (وهو ألان بولوك) أن هذا الاتجاه التجميعي أو التوفيقي قد أنشأ «صورة مزدوجة» على حد تعبيره، صورة يلخصها «ماكفارلين» قائلًا إنها تجمع بين الاتجاه الذي ازدهر منذ أواسط القرن على يدي «هربرت سبنسر» مثلًا، وهو الاتجاه إلى الوضعية والتحليلية والموضوعية والمنطقية وإلى التعميم والحتمية، وكل ما هو فكري مطلق وغير ذاتي، والاتجاه الآخر المضاد لهذا، وهو الاهتمام بالإنسان الفرد نفسه، والظواهر «الروحية» التي كان الناس في أواخر القرن يُعلون من شأنها، تأكيدًا «لروحانية» النفس البشرية، وابتغاء اليقين الديني الذي كان قد اندثر أيما اندثار، وعلى أي حال فإن النزعة العامة كانت تشير إلى أن قبول الأفكار الجديدة التي أتى بها «نيتشه» و«ليونيل تريلنج» بعده، من أهم القوى المؤثرة في التيار الجديد؛ إذ كان «نيتشه» — كما هو معروف — يدعو إلى إعادة النظر في كل القيم الموروثة، ويعرب في رسائله إلى «براندز» و«سترندبرج» عن إحساسه بأن تاريخ الإنسان قد وصل إلى مرحلةٍ حاسمة، تعلن نهاية حقبة كاملة من الحضارة القديمة، وبداية جديدة يفيق الإنسان فيها من تراث المسيحية والأعراف الخلقية الموروثة، ويحاول النظر بعين «عادلة» في نفسه وحياته الحقيقية، لم تكن الحقبة الجديدة قد بدأت، ولكن روحها الأول، روح الاستكشاف (وهو ما كان يسميه أرنولد «التساؤل») كان يجسد معنى الحداثة ويرهص بالمودرنية التي لم تكن — كما يبين البحث المرفق — غير حديثة بالمعنى المفهوم.

كانت الصحوة الفنية إذن ذات أبعاد فلسفية وذات جذور تضرب في أعماق الفكر الأوروبي في ذلك الوقت، وكان الرسامون والشعراء الذين عاصروا تلك الحقبة على درايةٍ بما يسميه «هازليت» «روح العصر»، وهي روحٌ تنشد حريةً جديدة تختلف عن حرية الخيال الرومانسي، فهي حرية فكرية وعلمية، ومن ثَم أقبل الناس على أفكار «هيجيل» و«برجسون»، وتلاشت الحدود بين اللغات الأوروبية، وساد الاهتمام بإعادة النظر في المفاهيم التي كاد أن يصيبها البلى، وبرزت مفاهيم جديدة للزمان والمكان والمعرفة وطبيعة الذهن البشري وديناميكيات الحياة الاجتماعية وجدلية التطور ونسبية الأخلاق والمعاني والقيم وما إلى ذلك، ومن ثَم بدأت صورة الحقيقة التي تقوم على الثبات والتجزيء تتراجع، وبدأت تحل محلها صورة جديدة تقوم على التغير والنظرة الكلية وقبول التناقضات بل الفوضى سواء في العالم أو في الفكر، (بل إن المودرنية أحيانًا ما تعني الفوضوية والعدمية) ورفض البعد الديني الذي تقدمه المسيحية؛ إذ رأى فيه كتاب العصر وفنانوه بعدًا محدودًا بالخرافات والأساطير التي ضخمها ضباب التاريخ وأماتتها القوالب الجامدة التي حبست فيها، وكان الجميع ينشد الآن لونًا من التحرر الذي يقبل النسبية والتناقض ويتيح التفاعل والإيجابية.

وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا كله في الفنون البصرية والسمعية واللغوية، وربما كان من أهم ظواهره ظاهرة التقارب الشديد بين شتى فنون الجنس البشري، ليس فحسب في الرؤى التي تفصح عنها، بل أيضًا في أساليبها وطرائق إثارتها لذهن الإنسان وعاطفته، وكان هذا في ذاته دليلًا على انشغالٍ فكري بالفن، ولدَينا وثيقة تنتمي إلى أوائل القرن العشرين، وهي كتاب «إيرفنج بابيت» المسمى اللاوكون الجديد (١٩١٠م)، والذي وضع له عنوانًا جانبيًّا هو: دراسة في الخلط بين الفنون. وقارئ هذا الكتاب سوف يحس بالأهمية التي كان نُقاد بداية القرن يولونها للعلاقات بين الفنون المختلفة؛ إذ لم تعد المقارنة القديمة بين الشعر والرسم كافية؛ إذ كيف نتصور — كما يقول «بابيت» — أن يكون ذكر اللون مقابلًا للون؟ أو أن تكون الخطوط التي يكسرها الفنان على اللوحة مرادفة لأي «تكسير» لغوي في الأدب؟ لقد أتاحت الوسائل البصرية التي يستخدمها الرسام حرية كافية في إعادة صوغ الرؤى وتشكيل صور الحقيقة، أما الأدب فما زال «حبيس» المنطق — فما المنطق إلا اللغة — اشتقاقًا واصطلاحًا!

والغريب أن هذه الدعوة إلى تحرير اللغة من منطق الحياة لم تكن كلاسيكيةً على الإطلاق، بل كانت لها جذور — ينبغي أن نرصدها إحقاقًا للحق — في كتابات الرومانسيين قبل ذلك بقرنٍ كامل، فكان الشاعر الإنجليزي «وليم وردزورث» ينعي على الشاعر الألماني «بيرجر» أنه يعتمد اعتمادًا كبيرًا على موسيقى الألفاظ، ويحاكي الكلاسيكيين في «فرض» منطق الحياة على شخصياته، بحيث خرجت هذه الشخصيات باهتةً غير متصلة بالواقع — أي غير حقيقية — وقولته المشهورة هي: «أريد المزيد من فرشاة الرسام وحريتها» (خطابات وردزورث، الجزء الأول، ص٢٣٤)، ولذلك كان ينشد منذ فجر الحركة الرومانسية (والطريف أنه يسميها الحركة الحديثة) التصوير الذي يحرر الشاعر من سيطرة المنطق، وكان دائمًا يتحدث عن الصور المستقاة من الذهن، بعد أن تتحور وتتغير وتكتسب ألوانًا وخطوطًا مختلفة، أي تكتسب «معاني» مختلفة، ولكن كُتاب تلك الفترة كانوا قد طرحوا التراث الرومانسي برمته، ولم يعودوا ينظرون إلى الوراء!

ومع ذلك فقد كان اشتغال عدد من الفنانين بالرسم وكتابة الشعر في الوقت نفسه في إنجلترا (دانتي جبريال روزيتي) حافزًا على إعادة النظر في تراث الشعر والرسم والعلاقة بينهما، لم يكن أحدٌ قد اكتشف «وليم بليك» بعد! بمعنى أن النقاد كانوا يعتبرونه فنانًا «خاصًّا» يتحدث لغةً رمزية مقصورة عليه، ولا يفهمها سواه، ولكن لوحاته (مثل تلك التي زين بها قصيدته المشهورة بعنوان ملتون) تدل على أنه كان سباقًا إلى «كسر» الخطوط والألوان، ويثبت النقد الحديث اليوم مدى ريادته في هذا الصدد، أما «روزيتي» فقد كان يدعو إلى العودة إلى الطبيعة والبساطة في التصوير في الشعر والرسم جميعًا، ونحن نذكره في هذه الدراسة لأنه أثَّر على كلٍّ من «وليام موريس» و«جون راسكين»، الذي ألقى محاضرات في فن الرسم تعد امتدادًا للتفكير الرومانسي العام؛ ولهذا فعندما بدأ تيار المودرنية الذي نحن بصدده، كان الهجوم ينصب أساسًا على الصورة الرومانسية المتمثلة في هؤلاء وليس — في الواقع — على شعر الرومانسيين الكبار أنفسهم.

كان الاعتقاد قد بدأ يرسخ بأن ثمة حاجة إلى كسر الجمود في التصوير الذي ينبع من فكرة الثبات والتجزيء وبداية عهد جديد، يعتمد الشاعر فيه على التغير والديناميكية وتعدد الأصوات (أي تعدد المستويات)، وكان من ثمار الثورة على هذه المدرسة، مدرسة «روزيتي» التي أطلق عليها اسم «إخوان ما قبل روفائيل»، أن ولدت حركة رمزية ناشئة؛ إذ كان الكُتاب يرون أن الرمز من الوسائل الكفيلة بتحرير الفنان من سيطرة ما يرى وما يسمع، فهو يفتح له الآفاق ليجعل من «المعنى» مساحاتٍ تشبه مساحات الألوان على اللوحة، وهو يستطيع عن طريق الرمز في التصوير إخراج مقابل للألفاظ، فما الألفاظ إلا رموز لمعانٍ متغيرة، وإذا كانت الرمزية قديمةً قدم الأدب نفسه — بل قدم الفن البدائي قبل الأدب — فإنها الآن قد اكتسبت أهميةً قصوى لقدرتها على تحرير الفنان من التاريخ، وقد قاد هذه الصحوة الرمزية شعراء فرنسيون سرعان ما نهل من فنهم شعراء إنجلترا، وأهمهم وأولهم مالارميه (١٨٤٢–١٨٩٨م)، ولكن خليفته بول فاليري (١٨٧١–١٩٤٥م) هو الذي يفتح الطريق حقًّا أمامنا لنفهم التغير في اتجاه الشعر، تأثرًا بالفنون البصرية، أما أكثرهم تأثيرًا على التصويريين الإنجليز (وعلى صلاح عبد الصبور) فهو فيرلين (١٨٤٤–١٨٩٦م)، ويليه لافورج (١٨٦٠–١٨٨٧م) (وأنا أذكرهم بهذا الترتيب عامدًا؛ لأنهم يمثلون تيارًا امتد من الرمزية إلى الانطباعية)، وبهذا فتح الطريق أمام ما نسميه بما بعد الانطباعية، إذ تلته التكعيبية فالدوامية، والمستقبلية والتعبيرية، وأخيرًا الدادية والسريالية، أين تقع التصويرية من هذا كله إذن؟

التصويرية في الشعر تشترك مع هذه «المدارس» (أو الاتجاهات الخاصة) جميعًا في جوهر مودرني واحد هو الثورة على المحاكاة، ولقد أجهد النقاد المحدثون أنفسهم في التفريق بين هذه وتلك، أو الربط بين واحدةٍ وأخرى، وهذا كله مفيد، ولكن الجوهر في هذا كله هو أنها مدارس فنية تقوم على عدم محاكاة الطبيعة، أي عدم التقيد بالخطوط والألوان والنسب القائمة في العالم الخارجي، وقبل أن نستطرد ينبغي أن نوضح ما نعني بكلمتَي «الطبيعة» و«الموضوع»، الطبيعة في النقد الفني تعني ما يصوره الفنان، فهي لا تقتصر على الأشجار والأنهار والمراعي، بل تشمل كل ما تراه العين وتسمعه الأذن ويدركه العقل، أما «الموضوع» الفني فهو الشيء الذي يرسمه الفنان، وقد شاع اصطلاح «موضوعي» اشتقاقًا من هذه الكلمة وإيحاءً بمعناها، وإن كنا نترجم الصفة نفسها في علم الفيزياء بتعبير «الشيء»، ونقول العدسة الشيئية للمنظار، في مقابل العدسة العينية، تفريقًا للعدسة التي تواجه الشيء (أو الموضوع) عن العدسة التي تنظر فيها العين.

والأساس الفكري للابتعاد عن المحاكاة هو الإحساس بأن «النقل» أو «التمثيل» (والتمثيل هنا يعني تقديم أهم ملامح الشيء أو الموضوع حتى يمثل له أو يمثله العمل الفني)، غير قادر على إخراج حقيقة التفاعل بين الفنان والموضوع، فالذي يحاكي الشجرة ألوانًا وخطوطًا ونسبًا إنما يمثل لها بإحالة العين، أي توجيهها، إلى نمطٍ ذهني هو نموذج الشجرة القائم في كل زمانٍ ومكان، وهو بهذا لا يبتعد فحسب عن الشجرة المفردة التي يصورها، بل يبتعد عن حقيقة الموضوع الفني الذي يتناوله، وهو الشجرة كما يراها بعين الذهن، وكما ينفعل بها، وكما يستجيب لها، أي إن المحاكاة (أو التمثيل) تستند إلى فكرة المرآة الكلاسيكية التي تتطلب ثبات الصورة وشيوعها واستقرارها، إنها نظرة تقوم على الأسس القديمة التي لم تعد صالحةً في عالمٍ بدأ يدرك التغير والتحول والحركة، كما أن المحاكاة تفترض ما هو أخطر، ألا وهو سلبية الرائي أو القارئ — أي سلبية المتذوق — لأنها تحيله إلى ما يعرفه سلفًا، وتصر على مخاطبته بلغة الأنماط، وهكذا فهو يتلقى ما لديه، وأيًّا كانت التشكيلات الجديدة التي يقدمها الفنان، فهي تشكيلات منطقية قائمة في ذهن المتلقي؛ لأنها قائمة بصورةٍ ما في العالم الخارجي؛ ولنضرب مثلًا لزيادة الإيضاح: إن إخراج تشكيل جديد من نمطين أو ثلاثة — فلنقل الشجرة والمرعى والسحاب في السماء — في إطار المحاكاة (مثلما يفعل الرسام الإنجليزي كونستابل) لن يزيد على تعديلٍ طفيف في الزاوية التي ينظر منها المتلقي إلى هذه الأنماط، فذهنه لن يعمل عند النظر، وسيظل ذهنه بعد النظر إلى هذا التشكيل ثابتًا مطمئنًّا؛ لأن التشكيل الجديد، على ما به من متعةٍ بصرية، لا يثير فكرة، ولا يدفع الذهن إلى العمل أو الحركة، فالتشكيل الجديد يعتمد على الإحالة إلى ما هو ثابت في الذهن ومعروف؛ لأن كل نمط من الأنماط له دلالته الثابتة، ومجاله المعروف الراسخ، والتشكيل لا يغير شيئًا من هذا على الإطلاق.

كان هناك سبب آخر — إذن — للابتعاد عن المحاكاة، هو الإحساس بوجوب اشتراك الذهن اشتراكًا فعالًا وإيجابيًّا في عملية التذوق الفني، وهكذا دأب فنانو «المودرنية» على محاولة استثارة الذهن والحس معًا في كل مدرسةٍ من هذه المدارس، وهذا يعني أنهم كانوا يبدءون تجربةً جديدة (غير مضمونة العواقب)، لأن الجمهور في أواخر القرن التاسع عشر كان قد درج على أساليب المحاكاة وبخاصة في منتصف القرن، عندما ازدهرت مدرسة «إخوان ما قبل روفائيل» المشار إليها، التي ثارت على انطباعية «وليام تيرنر» وغيره ممن ابتعدوا عن المحاكاة، وطالبت بالعودة إلى تمثيل الطبيعة تمثيلًا صادقًا، وبإيجازٍ فإن المودرنية محاولة فنية لإشراك المتذوق في إبداع العمل الفني، وإفساح الطريق أمامه ليعمل ذهنه في عملية التلقي، بحيث يصبح العمل الفني غير مقصور على التمثيل والنقل، بل يصبح سجلًّا حيًّا لنشاطٍ ذهني وشعوري معًا.

ولكن ماذا كانت طبيعة الرؤى التي يحاول فنانو بداية القرن العشرين إيصالها إلى الجمهور؟ وما تلك الأفكار والمشاعر التي رأى التصويريون أنها تقتضي جهدًا خاصًّا من جانب المتذوق؟ نقول أيضًا باختصارٍ إنها تتمثل في المعنى الجديد للجمال! كانت الكلاسيكية القديمة تؤمن بأن ثمة أشياءً جميلة في ذاتها، وأنه يمكن النظر إلى جمالها وتذوقه منفصلًا عن السياق الذي تعيش فيه وتتحرك، وأن متعة المتذوق تأتي (كما يقول إديسون ابن القرن الثامن عشر) من تأمل هذا الجمال وتأمل براعة الفنان في نقله إلينا، وكان الرومانسيون يؤيدون الفكرة نفسها مع اختلافٍ بسيط، هو أن الأشياء الجميلة لم تعد مقصورة على ما تعارف الناس عليه، بل تعدتها إلى البسيط والعادي في حياتنا اليومية، وإلى ما يمثل المشاعر الأصيلة الدائمة للإنسان، أو يفصح عن الإحساس بالوجود الروحي، وفي كلتا الحالتين كانت أنماط الجمال مستمدة من الطبيعة، أو كانت تحاول أن ترقى إليها، أي تحاول أن تصل إلى مثلٍ أعلى مفترض، يمكن استشفافه من صور الطبيعة، أما المودرنية فهي تحطم هذا المثل الأعلى، وبعبارةٍ أخرى فهي مناهضة للأفلاطونية وللأفلاطونية الجديدة جميعًا، إن المودرنية ترى الجمال في كل ما يجسد تجسيدًا صادقًا حقيقة ذهنية أو حقيقة شعورية، مهما يكن قبح هذه الحقيقة أو تلك في الإطار التقليدي، وهي من ثَم تلغي «الإطار المرجعي» للجمال، وتقدم بدائل ما تفتأ تتغير لما يمكن أن يثير فينا حاسة الجمال.

والجمال عند المحدثين أيضًا لحظة اكتشاف، اكتشاف علاقة جديدة بين شيئين أو أشياء لم يكن يتصور أحدٌ وجود علاقة بينهما، أو اكتشاف حقيقة نفسية لا يجسدها إلا التضارب والتنافر (لا التوافق والاتساق) بين العناصر الذهنية أو النفسية أو الحسية — من ألوان وخطوط — في الإنسان أو الطبيعة، ولم يعد ثَم ما يمكن تسميته بشيءٍ جميل في ذاته، كما لم يعد هناك ما يمكن أن يكون قبيحًا في الفن، ولما كان مجتمع القرن التاسع عشر وارثًا لعصورٍ إقطاعية تقوم على الاستغلال والسيطرة وما إليها، فلم يكن أمام الفنان الذي ينشد صدق الواقع وجماله معًا إلا أن يصدق مع نفسه في تصويره جمالًا يقوم على القبح والإظلام والقتامة والجهامة، وهي مشاعر تنبع بصورةٍ طبيعية من التفكك الذي كان قد بدأ يسري في أوروبا في أوائل القرن العشرين، والإحساس بالاغتراب الذي نشأ مع سيطرة المجتمع الصناعي الجديد، وإدراك ضآلة الإنسان في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت تطحنه طحنًا، وقد قال مؤرخٌ حديث إنها أسبابٌ فكرية — لا بد أن تؤخذ في الحسبان — لنشوب الحرب العالمية الأولى، ولم تكن فحسب وليدة هذه الحرب.

والمحدثون من التصويريين يرون الجمال في التغير والديناميكية والقدرة على النظرة الشاملة، ومن ثَم جاء تعريفهم للاستعارة، وهو تعريفٌ يكسر ما تواضع عليه التاريخ الأدبي من أنها مركبٌ لا زمني، أي مركب تشكيلي يثبت علاقة ما بين شيئين أو أكثر، فأصبحوا يرون في الاستعارة مركبًا زمنيًّا، أي يعتمد على الحركة الدائبة في العلائق بين الأشياء، وأصبحت الموسيقى مثلًا يمكن أن يُحتذى، لاعتماده على (١) التزامن، و(٢) التعاقب، أما التزامن فهو عزف لحنين معًا، وأما التعاقب فهو أن كل لحن بطبيعته يتكون من عدة نغماتٍ متعاقبة، ومعنى هذا أن الاستعارة بمعناها القديم، التي تقدم إلينا صورةً واحدة، أيًّا كانت درجة تركيبها أو تعقيدها، لا بد أن تقل في دلالتها عن الصورة التي تستمد كيانها من عددٍ من الصور المتوالية؛ لأن التتابع والاختلاف يوحي بعلاقاتٍ متغيرة؛ ولذلك فقد أصبح التكرار مع التغير (وهو من مبادئ التأليف الموسيقي الناضج) مبدأً من مبادئهم، ولنضرب مثلًا يوضح ما نقول، إذا كان استخدام السلف للأسطورة قد وهب شعرهم بعدًا أو أبعادًا زمنية لا شك فيها، فإن الأساطير قد أصبحت على مدى الزمن صورًا ثابتة، لقد أصبحت صورة «بروميثيوس» مثلًا صورة محددة لا تتغير للإنسان الذي يتحدى الأقدار التي تعصف بإنسانيته (ممثلة في زيوس رب الأرباب) ويتحمل الآلام في سبيل هذا، فهكذا صوره «إيسخولوس»، وهكذا صوره «شلي»، وقس على هذا شتى صور الأساطير اليونانية والرومانية والمصرية وغيرها، ومعنى هذا أنهم يرون أن قدرة الأسطورة على الإيحاء أصبحت محدودة؛ لأنها جمدت معرفيًّا، ومن ثَم اقتربت من الكليشهات؛ ولذلك كان عليهم أن يكسروا هذا الجمود بأن يخلطوا بين الأزمنة، أي أن يضعوا شخصياتٍ معاصرة بين الأساطير القديمة حتى تهبها دلالاتٍ جديدة، وأن يدرجوا الشخصيات الأسطورية في عدة مواقف حديثة مع المحدثين حتى يُخرجوا المعاني التي يرونها كامنةً فيها، والشاعر الحديث يضطر اضطرارًا إلى المزج والتكرار حين يفعل هذا، حتى تأتي كل صورةٍ فتغير ما سبقها، ثم تتغير هي نفسها حين يأتي بعدها ما يغيرها، هكذا يفعل «إليوت» في قصيدة الأرض القاحلة، حين يقدم عرافةً حديثة في صورة مصرية قديمة هي «سيزوستريس»، ثم يقابل بين هذه الصورة وصورة الفتاة البريئة المخدوعة، ثم يضيف صورةً أخرى تغير من دلالتهما معًا حين يقدم لنا «كليوباترا»، وقد تجمدت في مظاهر الترف والبذخ الذي أغدقه عليها المجتمع الصناعي، ثم يعيد تقديم المرأة وقد التهبت مشاعرها حينًا، وماتت حينًا آخر، على مدى القصيدة كلها، في عمليةٍ ديناميكية تتسم بالتغير والتحول، بحيث نرى الماضي طورًا في حسرةٍ وطورًا في إعجاب، من خلال بشاعة الحياة التي يصورها الشاعر في أرضه القاحلة، وهكذا يفعل «تد هيوز» بأسطورة بروميثيوس، وهكذا يفعل «عزرا باوند» في الأناشيد.

ولا شك أن من أهم سمات الشعر التصويري الحديث ما يمكن أن يبدو مشابهًا للتغريب، أو كسر الإيهام الذي أتى به مسرح «بريشت»، فالفنانون المحدثون يريدون من القارئ ألا يندمج اندماجًا كاملًا في القصيدة، بحيث ينسى أنه يقرأ قصيدة، وهم لذلك ما يفتئون يصدمونه بعباراتٍ لا معنى لها — ربما كانت أجنبية، أو غير نحوية، أو خارجة عن السياق — بحيث يتوقف القارئ ويتساءل: ما هذا؟ ومثلما يفعل الرسام الحديث في لوحاته، نجد الشاعر الحديث حريصًا على ألا يلقي القارئ نظرةً على العمل ويقول: ما أجمله! ثم يمضي في سبيله، إنهم يريدون منه أن ينظر إليه مرات ومرات، بحيث يرى فيه في كل مرة شيئًا جديدًا، وبحيث يتولى هو إقامة المعاني التي يراها، ومعنى هذا أنهم يطالبون المتذوق بأن يكون واعيًا بأنه يتطلع إلى عملٍ فني يمثل لونًا من التحدي الصارخ لحياته النمطية (ولا شك أن حياتنا نمطية شئنا أم أبينا)، فهم يقولون له: تعال واعمل فكرك فيما ترى! ومن هذه الزاوية يأتي جانبٌ مهم من جوانب الاستعارة، هو جانب التنافر! لقد قامت الاستعارة منذ فجر التاريخ على التشابه؛ ولذلك فالمشبه والمشبه به (تصريحًا أو تضمينًا) يتوافقان في شيءٍ ما، هو ما اصطلحنا على تسميته «الجامع»، أما المودرنية فهي تولي اهتمامًا أكبر لما يمكن أن نسميه «الفارق»، أي لما ينبغي أن يفصل بين المشبه والمشبه به، ولكنه في القصيدة يجمع بينهما، ومن ثَم فإن هدف الشاعر هنا ليس الجمع بين عنصرَين يتفقان بوضوحٍ في شيء، بل الجمع بين عنصرين أو أكثر لإبراز تشابه أو لإبراز تنافر — وهذا هو الأهم — يحفز على التفكير، ومعنى هذا أيضًا أن الشاعر لا يريد القارئ أن يندمج شعوريًّا في قصيدته، بحيث ينسى التفكير أو ينسى أن عليه أن يفكر؛ ولهذا قارنت بين هذا الجانب من التصويرية وبين مسرح «بريشت».

وفي إطار المودرنية الكبير تبرز مدرسة التصويريين في قالبٍ غريب حقًّا، فهي مدرسة تجمع بين هذه الخصائص جميعًا، وتضيف إليها عنصرًا يمكن أن نسميه «أولوية البناء»، أو الأهمية القصوى للصورة العامة للعمل من حيث هو مكون من لبناتٍ تشكل نظامًا خاصًّا، أعني نظامًا داخليًّا ينقله الشاعر بعد تأملٍ طويل للموضوع (بالمعنى الذي شرحناه سابقًا لهذا المصطلح)، ومن هذا المنطلق يتضح مدى الخطأ الذي وقعنا فيه في العالم العربي عندما خيل إلينا أن التصويرية مدرسة تدعو إلى تصوير الأشياء والتوقف عند ذلك، والخطأ يرجع — دون شك — إلى أننا اهتممنا بالنقد النظري دون النقد التطبيقي، واهتممنا بالمبادئ والأسس دون أن نقرأ الشعر، ونحن معذورون في هذا؛ لأن من يقرأ منا القصائد الحديثة ويفاجأ بأنه لا يفهم ما فيها، على الفور سوف يلقي بها جانبًا وينصرف عنها؛ لأننا لم نعتد المصطلح الشعري الذي تتوسل به، ولم نعتد أن نكون مطالبين بأن نُعمل الفكر في الشعر أو الرسم أو الموسيقى؛ ولذلك فلقد بدأت بتقديم نموذجين من هذا اللون من الشعر، وسأنتهي بتقديم نموذج مطول منه.

ويجمل بنا الآن أن نوجز أهم المبادئ التي دعت إليها هذه المدرسة، سواء أكانت قد حققتها في الشعر نفسه أم لا، المبدأ الأول: هو أن على الشاعر أن يعالج أشياء محددة — معالجةً دقيقة — سواء كانت هذه الأشياء ذاتية أو موضوعية، والمبدأ الثاني: هو أن يقتصد في استخدام الألفاظ حتى يخرج الشعر صلبًا كالفولاذ (وهو التعبير الذي عاد إلى استخدامه كيث ساجار في كتابه فن تد هيوز، ١٩٧٨م، ص١٤٧)، والثالث: هو أن يأتي الشاعر بالإيقاع الشعري من داخل الألفاظ، لا من البحور المعروفة، والرابع: هو تأكيد الجانب الحسي للشعر، بحيث لا ينفصل الفكر عن المشاعر، وبحيث تحول القصيدة دون «الانزلاق إلى عمليةٍ تجريدية».

وقد ازدهرت هذه المدرسة على صفحات مجلة شعر التي كان يرأسها «عزرا باوند»، من خلال القصائد والمقالات النقدية، حتى توج جهودها ت. س. إليوت بشعره الذي تخطاها، والذي أصبح يمثل مدرسةً قائمة برأسها.

ولكن، مَن «عزرا باوند»، الذي نقدم له اليوم قطعةً من الأناشيد، ومقالًا نقديًّا عن القطعة؟

وُلد «عزرا باوند» في أمريكا في ١٨٨٥م، وتلقى تعليمه الأول في نيويورك (ليسانس في الفلسفة)، ثم حصل على الماجستير من جامعة بنسلفانيا في عام ١٩٠٦م، وقضى عامًا يدرس للدكتوراه، لكنه انقطع عنها وسافر إلى أوروبا بعد إجادته عدة لغاتٍ أوروبية، وتخصصه في الأدب الإنجليزي، وقد كان منذ صباه شغوفًا بالتجريب (يقول أحد نُقاده إنه كان يسبق عصره بعشرين سنةً على الأقل)، فبدأ بكتابة شعر لم يستسغه الناس في أمريكا، فاستقر آخر الأمر في أوروبا، متنقلًا بين إيطاليا وإنجلترا وفرنسا، وقد نشر أول ديوان له في عام ١٩٠٨م في مدينة البندقية بإيطاليا، ثم رحل إلى لندن في العام نفسه، وانضم إلى الجماعة الأدبية التي التفت حول «وليم بطلر ييتس»، وسرعان ما أظهر نبوغًا غير عادي؛ إذ لم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين حين أعلن الثورة على كتاب العصر الفكتوري (مثل روبرت براوننج، الذي أثر فيه تأثيرًا واضحًا في بداية حياته)، وعلى مدرسة «إخوان ما قبل روفائيل»، وقد سبقت الإشارة إليها، وأعانته معرفته باللغات الأوروبية على استيعاب روح العصر، روح الفنون التشكيلية الحديثة، روح المودرنية، وفي عام ١٩١٠م — بعد أن كان قد نشر ديوانين آخرين في العام السابق هما شخصيات وأفراح — أعلن رفضه النهائي للرومانسية وتبنِّيه مذهب التصويرية، كان هذا المذهب قد بدأ يتخذ صورته المتبلورة في كتابات الفيلسوف «ت. إ. هيوم» ومحاضراته، وقد انضم إلى هذه المدرسة الجديدة عددٌ من الشعراء، أهمهم «هيلدا دوليتل» وزوجها «ريتشارد أولدنجتون»، وشاعرةٌ أمريكية من بوسطن هي «إيمي لويل»، وشاعرٌ أمريكي هو جون جولد فلتشر من «أركانصو»، وقبل هؤلاء جميعًا — بطبيعة الحال — ت. س. إليوت، وكان الحافز الأول لدى باوند في تبنيه هذه المدرسة هو إعجابه باللغة الصينية واللغة اليابانية، وكان دائمًا يقول إن جمال اللغة الصينية يرجع إلى أنها لا تفصل بين الفعل والاسم، وتخرج لنا الصورة متضمنة المعنى، وقد انتهى من ذلك إلى ما ينبغي أن يكون رائدنا في الصورة، وهو الوضوح والتحديد، وأن تخاطب الفكر والحس معًا.

ولكن باوند سرعان ما عاف هذا المذهب؛ لأنه لم يجد فيه المجال الكافي للإبداع، فهو في صورته تلك (والحق يقال) محدود، ولا يكاد يرتوي على الإطلاق من نبع المودرنية الزاخر، ومن ثَم بدأت علاقته في لندن بالشاعر الأمريكي ت. س. إليوت تزداد وثوقًا، ومن خلال هذه العلاقة خرجت التيارات المتعددة التي سبقت الإشارة إليها، والتي تعد تصويريةً ناضجة وإن لم يسمِّها أصحابها كذلك، كذلك أرسيت قواعد جديدة للشعر، تعتمد على الوزن والتركيب والبناء، إلى آخر ما ذكرنا آنفًا، وكان من ثمارها مجموعة الأناشيد التي بدأها باوند في لندن في عام ١٩١٨م، ثم استمر في كتابتها في إيطاليا ونشرها في أجزاء متفرقة فيما بين عامي ١٩١٩م و١٩٦٠م، وعلى الرغم من إعجاب كبار النقاد والأدباء بهذه الأناشيد (مثل «فورد مادوكس فورد» و«وندام لويس» و«ألن تيت»، و«ويليام كارلوس ويليامز») لم تحظَ بالقبول من الجمهور وسائر النقاد، ويشترك كاتب هذه السطور مع الكثيرين من نُقاد العصر الحديث في الاعتقاد بصعوبتها البالغة، وبإغراقها في التغريب، حتى إن عملية التذوق بأي مستوًى من المستويات تتوقف إزاءها تمامًا، ومعنى هذا أن جرعة المودرنية تزداد حين يستخدم باوند اللغة لا لإيصال المعنى ولكن لإخراج الأصوات فحسب، وهو لكي يضمن هذا يستخدم لغاتٍ أجنبية — بعضها مفهوم وبعضها غير مفهوم — وعباراتٍ مقطعة مثلما في النموذج المترجم من النشيد رقم ٧٤ من أناشيد بيزا، التي نال عليها جائزة بولينجن في عام ١٩٤٩م، فالحقيقة هي أن أي جزءٍ منه يكفي لتقديم المذاق الخاص بهذا اللون من الشعر التكعيبي، وربما كان المقال المرفق معينًا في إيضاح ما يريد الشعر أن يقوله، إذا كان يريد أن يقول شيئًا.

وفي عام ١٩٢٤م استقر باوند في إيطاليا ومكث فيها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، والمعروف أنه كان من المعجبين بموسوليني، وأنه كان يهاجم أمريكا في الإذاعة إبان الحرب، وبخاصة سيطرة رجال المال اليهود على المصارف؛ ولهذا ألقت السلطات الأمريكية القبض عليه في ١٩٤٥م، ووضعته في معسكرٍ حربي لمدة ستة شهور قضاها في ترجمة الشعر الصيني، وكتابة الشعر أيضًا، ثم قُدم للمحاكمة، ولكن المسئولين أدخلوه مستشفى في واشنطن بأمريكا للعلاج، قضى به نحوًا من ١٢ سنة، وعندما أُفرج عنه (لأنه مجنون ولا يصلح للمحاكمة)، عاد إلى إيطاليا في ١٩٥٨م وظل بها حتى توفي عام ١٩٧٢م.

أما ما يدهش له القارئ والدارس حقًّا فهو السرعة التي كان باوند يتحول بها من مذهبٍ إلى مذهب، وغزارة الإنتاج التي لم يشهد لها العالم مثيلًا، وصحوة الذهن التي لم تفارقه حتى وهو في الثمانينيات من عمره، وتمكنه المذهل من اللغات الأوروبية، فكان يؤلف بعدة لغات، وينشر بهذه اللغات دون تردد، ويُقبل أهل كل لغة على قراءة مؤلفاته أيضًا دون تردد! ومشكلة المترجم لأعماله اليوم هي تعذر الإلمام بالإشارات والاقتباسات الواردة في شعره، والمأخوذة من أعمالٍ أوروبية مكتوبة بلغاتٍ لا يجيدها إجادته للإنجليزية والفرنسية مثلًا، وإلى حدٍّ ما الإيطالية، فإلى جانب ذلك تجد الألمانية واللاتينية والصينية واليونانية بل والعبرية والعربية! فلنقرأ إذن هذا الجزء من النشيد ٧٤:

المأساة الكبرى للحلم في أكتاف الفلاح المنحنية،
«مانيس»! كان «مانيس» ذا وجهٍ لوحته الشمس وبدن مكتنز،
وهكذا «بن» و«لاكارا» في ميلانو،
عُلق من أقدامه في ميلانو،
آن للدود أن يأكل لحم العجل الميت
«ديوجونوس»، ولكن ذلك الذي صُلب مرتين
أين تجده في ثنايا التاريخ؟
ولكن قل هذا للحيوان الأليف: دقةٌ مدوية لا شكوى باكية،
بدقةٍ مدوية لا بشكوى باكية
تبنى مدينة «ديوس»، حيث الشرفات بلون النجم.
العيون الرقيقة هادئة لا تنظر بازدراء،
والمطر كذلك جزءٌ من الحركة،
ما ترحل عنه ليس السبيل الأمثل،
وشجرة الزيتون التي اكتست في الريح لونًا أبيض،
واغتسلت في «كيانج» و«هان»،
أي بياض يمكن أن تضيف إلى هذا البياض؟
وأي صراحة؟
«الدورة الكبرى تأتي بالنجوم إلى شاطئنا»،
أنت يا من مررت بالأعمدة وابتعدت عن هرقل
حينما سقط الشيطان في ولاية كارولينا الشمالية،
إذا كان الهواء الرقيق يفسح مكانًا لريح السموم،
أوديسيوس،
اسم أسرتي،
والريح أيضًا جزءٌ من الحركة،
والأخت القمر،
اتق الله واخشَ غباء العامة،
ولكن التعريف الدقيق
الذي يقدم هكذا «سيجيسموندو»،
وهكذا «دوكيو»، وهكذا «زوان بلين» أو عبر نهر «التيبر» مع
العروس،
رعاية المسيح لنا مجسدة في الفسيفساء حتى زماننا، عبادة
الأباطرة،
ولكن الهمجي ذا الأنف السيال الذي يجهل تاريخ «تانج»
لن يخدع المرء،
ولا أموال «شارلي سنج» المقترضة من مجهول،
ومعنى هذا أننا نفترض أن «شارلي» لديه بعض الأموال،
وفي الهند انخفض سعر الصرف إلى ١٨ لكل مائة،
ولكن قمل القرض المحلي قد مون من العاملين بالمصارف
المستوردة،
وهكذا كانت الفائدة الإجمالية المعتصرة من عرق الفلاحين
الهنود
ترتفع مثل ارتفاع مجد «تشيرشيل»،
مثلما وعندما عاد إلى تغطية الرصيد بالذهب المتعفن،
كما حدث في عام ١٩٢٥م تقريبًا، آه إنجلترا، يا بلادي،
حرية الرأي دون حرية الرأي المذاع صفر،
ولم تتبقَّ إلا نقطة واحدة لستالين،
وما حاجتك لهذا؟ أي ما حاجتك للسيطرة على وسائل
الإنتاج؟
المال يدل على العمل الذي انتهيت من أدائه داخل نظام ما وهو
يخضع للمقاييس والحاجة،
«لم أقم بعملٍ يدوي لا لزوم له»،
هكذا يقول كتاب القسيس الكاثوليكي الذي يستخدمه في عمله
(استعدادًا للاعتراف)،
صوتٌ يصرخ في حشرجةٍ مثل القبرة على زنزانات الإعدام،
فالنزعة العسكرية تتجه إلى الغرب،
لا جديد في الصورة،
والدستور في خطر،
وذلك الوضع ليس بجديدٍ كل الجدة هو الآخر،
«من الياقوت الأزرق لأن هذا الحجر يهب النعاس»،
لا كلمات نخلص لها،
ولا أفعال تتحلى بالحزم والعزم،
ولكن العدل وقلبه مثل قلب الطير يقطع الأخشاب،
ويسيطر على الأرض،
ووجد «راوس» أنهم يتكلمون عن «إلياس»،
وهم يقصون حكايات «أوليس»،
«أنا لا أحد، اسمي لا أحد»،
ولكن «وانجينا» هو، فلنقل إنه «وانجين»،
أو الرجل ذو العلم
الذي أزال والده فمه،
لأنه صنع من الأشياء ما زاد عن الحد،
فتكدست بها حقائب رجل الغابة،
انظر الرحلة التي قام بها تلاميذ فروبينيوس حوالي عام ١٩٣٨
إلى أستراليا،
إذ تكلم «وانجين»، وهكذا خلق من سبق ذكره،
وأدى إلى التكدس
آفة انتقال الإنسان،
وهكذا أزيل فمه،
وسترى أنه غير موجود في صوره،
في مبدأ الكلمة
الروح القدس أو الكلمة الكاملة: الإخلاص،
من زنزانات الموت التي يبصرها جبل «تايشان» في «بيزا»،
مثل «فوجي ياما» في «جاردون»،
عندما قفز القط وسار على القضيب العلوي للسور،
وكان الماء ما يزال على الضفة الغربية
يتدفق نحو فيلا «كاتوللو»،
في أشكالٍ مصغرة متعددة،
وفي سكونها باقية بعد انتهاء الحروب،
«المرأة» قال «نيكوليتي»،
«المرأة»،
«المرأة»!
«لماذا ينبغي أن أستمر؟»
«إذا وقعت — قالت «بيانكا كابللو» —
فلن أقع على ركبتي»،
وإذا قضى المرء يومًا في القراءة فيمكنه أن يضع المفتاح في يده،
آلة العود في أيدي «جسير»، «هو وفاسا»،
جاء جرو في لون الأسد ومعه البراغيث،
وطير عليه علامات بيضاء، يخطو
تحت القوى الست،
رقد هناك «باراباس» ولصان رقدا بجانبه،
تركيبة طفولية في «باراباس»،
ينقصها «همنجواي»، ينقصها «أنثيل» المتفجر حيوية،
واسمه «توماس ويلسون»،
ولم يتحدث المستر ك. بأي سخافات، شهر كامل دون
سخافات:
«إذا لم نكن بُكمًا ما كنا لنقف هنا»،
وعصابة «لين»،
الفراشات والنعناع وعصافير «ليزبيا»
الأبكم ذو الطبل الغبي والرايات
والحرف المرسوم الذي يدل على الحظائر الحارسة،
وفي «ليموج» كان البائع الشاب
ينحني في أدبٍ فرنسي «لا … هذا مستحيل.»
لقد نسيت أي مدينة من المدن،
ولكن الكهوف أقل سحرًا بالنسبة للمستكشف الغر،
من «الأوروك» المرسوم على الإعلانات
سوف نرى تلك الطرق القديمة مرةً ثانية، سؤال
محتمل،
ولكن لا شيء يبدو أقل احتمالًا،
مدام «بوجول»،
وكانت رائحة النعناع تفوح أغطية الخيمة،
وخاصةً بعد المطر،
وثور أبيض على الطريق الموصل إلى «بيزا»،
كأنما في مواجهة البرج،
خراف سوداء في حقل التدريب وفي الأيام المطيرة سحاب
في الجبال كأنما هي الحظائر الحارسة،
آزرتني سحلية،
والطيور البرية ترفض أكل الخبز الأبيض،
من جبل تايشان حتى غروب الشمس،
من هجر «كارارا» إلى البرج،
واليوم تم افتتاح الهواء
«للكوانون» من شتى المسرات،
«لينوس»، «كليتوس»، «كليمنت»،
وصلواتهم،
الجعران الأكبر ينحني عند المذبح،
والضوء الأخضر يسطع في درع الجعران،
حرث الحقل المقدس وفك خيوط دود القز مبكرًا،
في توتر،
في نور النور تكمن الفضيلة،
«الكل نور» يقول «أريجينا سكوتس»،
كأنما يتحدث عن «شون» على جبل «تايشان»،
وفي بهو الأسلاف،
كأنما من بداية العجائب،
الروح القدس الذي كان موجودًا في «ياو»، الدقة
في «شون» الرحيم،
في «يو» هادي الأمواه،
أربعة عماليق في الأركان الأربعة،
وثلاثة شبان لدى الباب،
وحفروا حفرةً حولي،
كي لا تنخر الرطوبة في عظامي،
لإنقاذ صهيون بالعدل،
يقول أشياء ليس لأهميته لنا الملك داود،
أول الحقراء،
النور المتوتر الطاهر،
وحبل الشمس الذي لا تشوبه شائبة،
«الكل نور» يقول الأيرلندي إلى الملك «كارولوس»،
كل شيء،
«كل الأشياء الموجودة هي من النور»،
ولقد أخرجوه من القبر،
وهو يقول عن نفسه إنه يبحث عن المانويين،
«الألبيجواز»، مشكلةٌ تاريخية،
والأسطول في «سالاميس» الذي بني بالأموال التي أقرضتها الدولة.
ليس لترفع مستوى المعيشة داخل البلاد،
ولكن لتزيد من أرباح المرابين في الخارج،
قال لينين،
ومبيعات المدافع تؤدي إلى المزيد من مبيعات المدافع،
وهي لا تكدس أسواق المدافع،
ولا تصل إلى درجة الإشباع،
«بيزا» في العام ٢٣ من بداية الجهود المبذولة تحت أنظار البرج،
وقد شنق «تل» بالأمس،
لارتكابه القتل والاغتصاب وما إلى ذلك، إلى جانب «شولكيس»،
إلى جانب الأساطير ظن أنه كان كبش «زيوس» أو غيره،
على عيوبٍ مذكورة في الكتاب المقدس؟
ما أسفار الكتاب المقدس؟
قل أسماءها، لا تقدم إلى هذا الهراء.
رجلٌ غربت عليه الشمس
قال إن النعجة نظرت نظرةً حانية،
وحورية «هوجورومي» جاءت إليَّ،
مثل هالة ملائكية،
في يومٍ ما كانت السحب على شاطئ «تايشان»،
أو في بهاء الغروب،
والرفيق يبارك دون هدف،
دموعٌ في بركة الأمطار عند المساء،
الكل نور،
والدراما برمتها دراما ذاتية،
فالحجر يعرف الشكل الذي يهبه النحات له،
الحجر يعرف الشكل،
أما في جزيرة «فيثرا» أو «إزوتا» أو في مريم البتول،
المعجزات،
حيث انتهى النحات الروماني من وضع الأسس،
رجلٌ غربت عليه الشمس،
ولن يموت الماس عند انهيار التربة،
ولو كان قد انتزع من الجوهرة التي ركب فيها،
ينبغي أن يدمر أولًا قبل أن يدمره الآخرون،
بنيت المدينة أربع مرات، «هو فاسا»،
«جاسير» «هو فاسا» خائنٌ لإيطاليا.
والآن في الذهن الذي لا يدمر «جاسير» «هو فاسا»،
والعماليق الأربعة في الأركان الأربعة،
والبوابات الأربعة في منتصف الجدران «هو فاسا»،
وشرفة بلون النجوم،
شاحبة مثل سحاب السحر، القمر،
هزيلة مثل شعر «ديميتر»،
«هو فاسا» وفي أثناء الرقص تجدد الحياة،
قبرتين تغنيان أنغامًا متقابلة
عند الغروب
تهز الوجدان،
القلعة إلى اليسار
تظهر من خلال سروالين.

إحياء الصور

النشيد ٧٤ للشاعر عزرا باوند والفنون البصرية٥٩

(يقول هيوكينر في كتابه «عصر عزرا باوند» إن شعر باوند … «هو أطول تطبيق في أي من الفنون للمبادئ التي تقترب من التكعيبية.»)

كان عزرا باوند يحيط في صباه بالنظرية التكعيبية، كما يدل على ذلك كتابه «جوديه – برزسكا»، الذي نستشف منه أن الشاعر كان يلم إلمامًا تامًّا بطبيعة الثورة الفنية التي أحدثها الرسامون في عصره، وكان يدرك أن التجديدات الفنية التي أتت بها التكعيبية تفصح عن ثورة، لا في الأداء فحسب، بل في المبادئ النظرية نفسها.

فالتكعيبية التي استحدثها «بيكاسو» و«براك»، والدرامية (أو الآلية المستقبلية) التي تنتمي إليها لوحات «لويس» و«جوديه»، تشكلان انفصالًا عن التقاليد الفنية بحيث يتعذر وصفها بالانطباعية الجديدة، وذلك — في الحقيقة — لأن هذه اللوحات تعتمد على أشكالٍ وهياكل فنية جديدة كل الجدة.

يقول باوند: «إن تنظيم الأشكال الفنية يتطلب نشاطًا أكثر إيجابيةً وإبداعية من محاكاة الضوء الساقط على كومةٍ من القش.» أصبح المحدثون يحاكون عملية الإدراك الحسي نفسها، وبهذا يعيدون تعريفها، فاللوحة التكعيبية لا تصور شيئًا ثابتًا في الواقع المحسوس، بل «عملية» إدراك هذا الشيء، وهي تقابل بين عنصر المحاكاة وعنصر التجريد، فتعبر عن التفاعل الديناميكي بين المعطيات البصرية والذهن التجريدي، وكذلك كان باوند على إحاطةٍ تامة بالتحول المعرفي الذي حدث في عهده إذ يقول:

«ثمة نظرتان متناقضتان إلى الإنسان: أولاهما أن تعده الغاية التي تتجه إليها المدركات الحسية، أي أنه لعبة في أيدي الظروف، أو أنه المادة التشكيلية التي تتلقى الانطباعات، وثانيتهما أن تعده قوةً سائلةً مضادة للظروف، أي أنه قوة فهم وتجريد، وليس مجرد طاقة على الملاحظة وعكس الانطباعات.»

وتمشِّيًا مع اتجاه الفنون التشكيلية في ذلك العصر، كان باوند يدرك الحاجة إلى اتخاذ أسلوب فني لا يعتمد على المحاكاة، فهو يقول في الكتاب نفسه:

«ينبغي على الرسام أن يعتمد على العنصر الإبداعي، لا عنصر المحاكاة أو التمثيل، في عمله. وينطبق هذا القول نفسه على كتابة الشعر، فينبغي على الشاعر أن يستخدم الصورة؛ لأنه يراها ويحسها، وليس لأنه يستطيع أن يتوسل بها إلى تعضيد عقيدة ما أو نظام أخلاقي أو اقتصادي.»

والواضح أن باوند لم يكن يلتزم بهذه المبادئ دائمًا، كما لم يكن قادرًا على تطبيقها دائمًا على شعره، و«مارجوري بيرلوف» محقة في قولها إن باوند لم يستطِع تطبيق نظرياته النقدية في شعره، حتى شرع في كتابه «أناشيد مالاتستا»، ولو أن تلك النظريات قد تأثرت تأثيرًا عميقًا بالنظريات الجمالية للرسامين التكعيبيين.

وهكذا نجد أن باوند — في أوائل كتاباته النثرية — يستعير الاصطلاحات من الرسامين لاستخدامها في «توصيف» شعره، فكان يطلق على «الصور الشعرية» اصطلاح «اللون الأولي» للفن الذي يمارسه، بغية تأكيد قيمته التمثيلية (أي التصويرية الواقعية)، ولما كان يقول باستقلال «الموضوع الفني» (أي ما نسميه بالعمل الفني في أيامنا هذه) ذهب إلى أن عناصره ينبغي أن يكون لها قيمة في ذاتها، وهكذا انتقد باوند ما كان يعده «القيمة الإحالية» للرمز، أي القيمة التي تتمثل في إحالة القارئ إلى معنًى ضمني أو مقصود، وكان يميل إلى رفض الرموز؛ لأنه كان يحس أنها تتولى الأولوية لما «تمثله» لا لما «تقدمه»، ومن ثَم فهي تنسب قيمته إلى منطقة ما خارج نطاق التجربة المباشرة.

وكان التعريف الخاص الذي وضعه باوند للصورة الشعرية بمثابة إعادة تعريف للغة المجاز، وفقًا للأهداف التي كان يرمي إليها، وهي إخراج فن يعتمد التقديم لا التمثيل منهجًا، فإذا كانت قصيدة «وليامز» «الربيع وكل شيء» قد نجحت في استخدام أسلوب «تقديمي» بالاستغناء عن لغة المجاز، فإن باوند يحاول «إلغاء التجسيد» من المجاز، بحيث يقدم من خلاله علاقات جديدة تقوم على الكناية، وهو يورد هذا النموذج للتدليل على ما يقول:

«إن شجرة الصنوبر التي يغشاها الضباب على التل البعيد، تشبه قطعةً مكسورة من درعٍ ياباني.»

«وجمال الدرع — إذا كان جميلًا على الإطلاق — لا يرجع إلى أي تشابهٍ بينه وبين الصنوبر وسط الضباب.»

«وأيًّا كان الأمر فإن الجمال — إذا كان مقصورًا على الشكل — هو نتيجة للعلاقة بين «مسطحين».

سر جمال الشجرة والدرع يرجع إلى أن سطحيهما ينطبقان بعض الشيء كلٌّ على صاحبه.»

وهكذا فإن باوند «يرفض تعريف شيء ما من خلال شيءٍ آخر»، ويؤكد كل ما يفرق بين المشبه والمشبه به، بحيث افتقر مجازه الشعري إلى العمق، واعتمد على التوتر الدائم بين «المسطحات» المختلفة المتداخلة، كما أن استخدام باوند لكلمة الشكل بوصفها مصطلحًا نقديًّا، يحول دون التفرقة بين شكل المجاز الشعري وشكل القصيدة بوصفها بصفةٍ عامة، ففي الحالتين نرى أن «الجمال نتيجة العلاقة بين المسطحات»، وذلك — كما يقول باوند — «لأن العلاقات أقرب إلى الحقيقة، وأهم من الأشياء التي نقيم بينها هذه العلاقات.»

وثَم عاملٌ آخر وراء رفض باوند للرمزية، ألا وهو تعريفه الصورة الرمزية بأنها ساكنة أو ثابتة، وذلك في علاقةٍ ما بمعنًى سابق عليها، في حين نجد أن علم المعرفة الذي يستند إلى الظواهر، يتطلب منا أن نتصور واقعًا متغيرًا ديناميكيًّا، لا يمكن التعبير عنه إلا بالفن المتغير الديناميكي، وهكذا فإن باوند يعرف الصورة بأنها بؤرة تغير ونشاط، وجميع المصطلحات التي يستخدمها لوصف الصورة تؤكد طبيعتها الديناميكية، فهو يقول مثلًا إن لها «دلالة متغيرة»، وإنها «تركيبٌ ذهني وعاطفي معًا»، وإنها «دوامة» للطاقات المتحركة.

ويناقش باوند في كتابه «ألف باء القراءة» تعريفه الأول للتصويرية، ليبين أن الجمهور قد أساء فهمه إذ يقول:

«ثَم جماعة ينشدون التبسيط، فهم يقبلون على أقرب المعاني وأيسرها، ظانين أن الصورة هي الصورة الثابتة وحسب، فإذا لم يستطع المرء أن يدرك أن مجال التصويرية — أو «الفانوبيا» (أي صنع الصور) — يتضمن أيضًا الصورة المتغيرة، كان عليه أن يلجأ إلى تقسيمٍ لا داعي له في الواقع بين الصورة الثابتة والفعل أو العمل.»

وقد استقى باوند اهتمامه بالإمكانات الديناميكية للصورة من الأساليب الفنية للدوامية والتكعيبية، فهذه الأساليب تعتمد على التقابل بين عناصر متميزة ومنفصلة، في إطار علاقات ديناميكية متغيرة، وقد قال «جوديه» في معرض حديثه عن فنه: «هذه أشكال صور محددة، ينظمها إطار عام دائم الحركة.» وكذلك فإن العناصر الثابتة في اللوحة التكعيبية ينظمها «إطارٌ عام دائم الحركة»، حيث نرى المسطحات والخطوط تتشابك وتتفاعل لتخرج «تنظيمًا … للسطوح» يتسم بالتوتر الديناميكي، وقد كان هذا التأكيد للخصائص الديناميكية للفن من وراء اهتمام باوند باللغة الصينية؛ «لاعتمادها الكبير على الأفعال»، وعلى الحرف التصويري (الإيديو جرام) الذي «لا يفصل شكلًا بين الشيء والفعل»، وقد زاد هذا من إعجابه بلوحات «لويس»، وهو يفسر لنا إعجابه بلوحة «جوديه» المسماة «رأس هيراطيقية» إذ وصفها قبل أن ينتهي منها الرسام بأسبوعين بأنها «حركة» لا «سكون»، يقول باوند: «إن الإنسان الكامل لا بد أن يهتم بالأشياء النامية المتغيرة أكثر من اهتمامه بالأشياء الميتة أو المحتضرة أو الثابتة.»

ومن ثَم فقد كان اهتمام باوند ينصب أساسًا على التركيبات السطحية التي تجسد الحركة والنشاط والتغير والتحول، وكان يقارن بين الطاقة الكامنة في الشعر والطاقة الكهربائية قائلًا: «إذا تقابلت ثلاث كلمات أو أربع تقابلًا دقيقًا أصبحت قادرةً على إشعاع … طاقة كبرى.» ومثلما نرى في لوحةٍ تعتمد على «القص واللصق» تنبع الطاقة الديناميكية للفن من «العلاقات فيما بين» العناصر، ومن التقابل بين التفاصيل البصرية واللغوية المتمايزة، بل التي تتسم أحيانًا بالتناقض فيما بينها.

يقول باوند في معرض إشارته إلى فناني مذهب الدوامية: «لقد أيقظوا إحساسي بالشكل.» ولا شك أن شعر باوند يفصح عن تأثير هؤلاء الفنانين على مستوى الشكل والبناء، وهكذا فإن أسلوب النشيد رقم ٧٤ وبناءه يحققان الأهداف الشعرية التي حددها باوند قبل كتابته بثلاثين عامًا، استجابةً للفنون البصرية، فالنشيد شبيه بلوحةٍ تكعيبية «تركيبية»، ولكنه يبين أيضًا إلى أي مدًى ذهب باوند في تجاوزه للتقاليد الجمالية الحديثة.

وعندما انتهى باوند من كتابة أناشيد بيزا اضطر إلى كتابة رسالة إلى الرقيب دفاعًا عنها؛ إذ كان الرقيب يتوجس خيفةً — شأنه شأن كثير من القراء — من أن تكون القصائد شفرةً سرية ذات رسالة خبيئة، ولكن الشعر لا يتضمن أية معانٍ خبيئة في الحقيقة، بل لا يتضمن «عمقًا» فكريًّا يتطلب الكشف عنه، وإذا كان النشيد رقم ٧٤ يقدم إلينا ألوانًا منوعة من الثيمات والموضوعات، فليس منها فكرة واحدة «تنظم» النشيد بصفةٍ عامة، وليس موضوع أهم من التفاصيل الدقيقة نفسها، وعلاقاتها المتغيرة، ولما كان باوند يقدم حشودًا من «الحقائق» والشذرات المتناثرة والحروف المرسومة والعبارات، فإن القارئ الذي ينشد معاني أعمق منها سيجد أن المعاني تتغير بسرعةٍ تقترب من سرعة تغير الصور نفسها.

وباختصار، هل نبحث عن عمقٍ أكبر أو أن هذا هو العمق؟ وثيمات الأناشيد تشبه العناصر التمثيلية للفن التكعيبي في أنها تخضع للتكوينات السطحية المتغيرة، ومن ثَم فإن النقلات الفجائية لمنطق الحديث، والفجوات المتقطعة، والمساحات الخالية على الصفحة المكتوبة، تضطر القارئ إلى الوعي بأسلوب حركة اللغة، والوعي بالربط والفصل بين الصور، حين تذوب فكرةٌ في فكرة، ثم تنقطع تمامًا.

وفي حين تتعرض القصيدة للتغير الدائم، نجد أن ثمة عاملًا يوحد بينها، ألا وهو الشاعر، الذي يبصر ويتذكر ويجمع الحقائق المتباينة من وعيه «لقد سطع الضوء، فالدراما ذاتية تمامًا …»

أي إن القصيدة تعرض الحياة الواعية للشاعر في حالة تغير دائم «درامي»، ويقول فورست ريد (الابن) إن القصيدة هنا «رحلة كبرى» ترسم أبياتها خريطةً تمثل عمليات التفكير المتغيرة للشاعر: «الدورة الكبرى تأتي بالنجوم إلى شواطئنا.» ورسم الخريطة مهم، ليس لأنه يتبع خطةً محددة، أو حقيقة كبرى، أو ثيمة غلابة مهيمنة ولكن لأنه يمثل سجلًا صادقًا أصيلًا للتجربة الفعلية، فالخريطة هنا تسجل اكتشافات باوند في عملية كتابة الشعر، ويقول باوند في كتابه «جوديه – برزسكا» (ص٤٠):

«ربما كان كل عملٍ عظيم عملًا «تجريبيًّا» وبعض التجارب تنتهي «بالاكتشاف»، ولكنها تجارب أولًا وأخيرًا.»

ويدور النشيد حول إدراك أشكال جميلة وإبداعها واكتشافها في التجربة المباشرة للشاعر، وذلك في إطار الفيض المتقطع للشعر، وهو فيضٌ أحيانًا يبعث على الأسى:

ليست الفردوس مصطنعة،
ولكنها على ما يبدو متقطعة،
فهي لا توجد إلا في شذراتٍ غير متوقعة، وسجق ممتاز.

ويشترك النشيد ٧٤ مع سائر الأناشيد الأخيرة في التمزق الشديد، ومثلما نرى في اللوحات التكعيبية يدخل مسطحٌ في مسطحٍ آخر بحدٍّ قاطع كالسيف، وترى الأبيات تضرب يمنةً ويسرة مترددة بين التأملات التجريدية والانطباعات الحسية المباشرة والذكريات المستدعاة من حياة باوند نفسه ومن قراءاته، ويقع التمزق المكاني الزمني مع كل «إحالة» (إلى شيءٍ خارج القصيدة)، ومع كل انتقالٍ مفاجئ إلى لغةٍ أجنبية.

وتحقيقًا لغاية باوند من كتابة فن «تقديم» (لا محاكاة) فإنه يهيل التفصيلات بعضها فوق بعض، ويقدمها دون تعليق أو شرح، وهو يقدم الحقائق الصريحة جنبًا إلى جنب دون روابط (مثل حروف العطف)، حتى تشكل «فيلقًا من الأشياء المحددة» «مستر كواكنوبس أو كواكنوبش» – «خيلاء السيدة تشيتندن» – «محل موكان» – «نفق الشارع رقم ٤٢»، إن أسماء الأشخاص والمطاعم وسعر الخوخ ومشاهد أمريكا وأصواتها، تأتي إلى الذاكرة في صورة شذراتٍ ممزقة:

هكذا تعمل الذاكرة؛ إذ تعود التفصيلات إلى الذهن في صورٍ مختلطة ممزقة مضطربة.

والنشيد يقدم حشدًا من الحقائق والارتباطات التي تبدو ممزقة، ومثلما يثب ذهن باوند من شيءٍ إلى آخر، يتواثب الشعر في القصيدة، وهي وثباتٌ في الزمان والمكان لا يقدر عليها إلا الذهن:

أسد تور فالسن وطير باولو،
ومنها إلى قصر الحمراء، وساحة الأُسود،
وبهاء الملكة لنداراجا.

إن باوند يستخدم أسلوب «التركيب الفوقي» (أي وضع الصورة فوق الصورة)، أو «التطعيم الحضاري» (بمعنى وضع صورة حضارية فوق صورة)، بحيث يقيم علاقةً ما بين الصور المتنافرة يجامع الشبه بين خصائصها المشتركة، مثل اللون أو الصوت أو الموضوع، وهكذا فإن النشيد لا تنتظمه ثيمة واحدة متجانسة، بل عدة «وحدات نمطية» من التفصيلات التي يتصل بعضها ببعض، فمثلًا نجد أن الإله الوثني الذي يُسمَّى «وانجينا» في أستراليا يوضع في مواجهة «أوديسيوس» ثم في مواجهة «وان جن» (المثقف) الصيني، كما أن مجموعة الصور برمتها — أو ما يسميه باوند بالوحدات النمطية — تعتمد على العلاقة بين الأصوات اللفظية، على أساس أن إخراج هذه الأصوات جزءٌ من التراث الشفاهي، ودلالة الصور ترجع إلى الشاعر نفسه، الذي يظل حبيسًا — من ناحيةٍ ما — لأنه يتفوه بأكثر مما ينبغي، وتقول «كريستين بروك روز» إن شبكة الصور شبكة سطحية فحسب، ولا يقدم باوند من خلالها أي ثيمات عميقة، كما أنه «لا يحاول إقامة الحجة أو أن يثبت أي شيء، بل يريد فحسب أن يقدم حقائق».

وهذه الوحدات النمطية نفسها تتعرض للتغير الديناميكي الدائم، فأسلوب «التطعيم الحضاري» الذي يتبعه باوند يمكنه من وضع «أكتابان» جنبًا إلى جنب مع «واجادو»، بوصفهما صورتين من الصور المرتبطة بالمدينة المثالية، وبالماضي الذي يموت ويحيا، ويشترك هذا النمط مع الصور في الحركة مع «وضد» صور مستقاة من الأساطير والدين، ترتبط جميعًا بالبعث والإحياء والخلود، وباوند يقيم هذه الوحدات من شذراتٍ موزعة في أرجاء النشيد، بحيث تكتسب كل صورة دلالةً جديدة، كلما قوبل بينها وبين غيرها، فمثلًا نرى أن ثيمة التجدد والإحياء تتخذ مكانًا ثانويًّا بالنسبة للعلاقات التي تستطيع الصور توليدها في القصيدة.

وإلى جانب ذلك نرى أن ما تقوله القصيدة عن إمكان التجدد والإحياء تتناقض تناقضًا مباشرًا مع شكل القصيدة نفسها؛ إذ إن التمزق الذي تتسم به يوحي بأنه من المحال إعادة بناء الماضي:

أعيد بناء المدينة أربع مرات، «هو فاسا»،
جاسير «هو فاسا»، خائنٌ لإيطاليا،
أنا لا أستسلم ولا أسلم الإمبراطورية ولا المعابد،
في صيغة الجمع،
ولا الدستور ولا مدينة «ديوسي» …

فالقصيدة توحي بأن «إعادة البناء» تعني الحفاظ على شذرات الماضي واستخدامها في صنع تشكيلاتٍ جديدة، ويتناول باوند الشذرات التاريخية كأنها «قطعٌ من الماس» انتزعت من الحلي التي ركبت فيها، ثم يدرجها في الفسيفساء التي يصنعها «بطريقة القص واللصق»، إن «التفصيلات المضيئة» الصريحة المستقاة من الماضي تقدم إلينا في هيكلٍ جديد يعبر عن عصر الشاعر، ويشكل أنماطًا سطحية دائمة التغير، كأنها لوحةٌ تكعيبية.

وإلى جانب هذا نرى أن التجميع السريع للتفصيلات المتباينة يحدث تغيراتٍ جذرية في «نغمة» القصيدة أيضًا، فمثلًا يضع باوند في فقرة الرثاء صورًا لا رابط بينها، حتى تناسب موضوعًا مماثلًا تتناوله الفقرة التي تبدأ بالعبارة «هؤلاء الرفاق …»، ولكن الفقرة بصفةٍ عامة تعتمد في تأثيرها على إقامة أنماط إيقاعية ونغمية ثم كسرها، فالبيت الذي يتكون من ثلاث تفعيلات يتلوه بيت من أربع تفعيلات، ثم بيت من الشعر الحر (أي غير الموزون بالأوزان التقليدية)، وكذلك فإن باوند يقيم نغمةً مأسوية حين يقتبس بيتًا من قصيدة «الملاح»، وهو «السادة يعودون إلى الأرض»، ولكنه يكسر هذه النغمة حين يلقي بفكاهةٍ حركية:

وكان «جيم» المهرج يغني:

«بلارني، أدخلني القلعة يا حبيبي،
فإنك قد أصبحت الآن حجرًا.»

أو حين يسخر من مؤلف الأحياء والأموات:

وقد توفي «أمير رايفز»، نهاية هذا الفصل.

انظر مجلة تايم، عدد ٢٥ يونيو.

أو حين يقدم قطعةً من «بايرون».

أو «جبسون» الذي يحب الجواهر السوداء.

و«موري» التي تكتب روايات تاريخية.

و«نيوبولت» الذي بدا عليه أنه استحم مرتين.

وفي بداية النشيد نشهد تغيرًا يدق إدراكه في النغمة الشعرية، فهو يبدأ بالمأساة التي يشترك فيها الشاعر مع أبناء جيله جميعًا، ثم يتبع ذلك حشدٌ من الأسماء، أسماء الشهداء السياسيين والدينيين: موسوليني، مانس، ديوجينيس، ديونيسيوس «المسيح» وآخر ثلاثة في القائمة يحولون بؤرة الأفكار من صور الموت إلى صور التجدد والحياة، كما أن البيت الذي يقتبسه من قصيدة ت. س. إليوت «الرجال الجوف»، وإشارته إلى المدينة المثالية، يدلان على التحول عن «مأساة الحلم» إلى إمكان البعث وإعادة البناء.

وكثيرًا ما نجد أن انعدام الترابط لا يجعلنا نحس بالتغير الجذري في النغمة الشعرية، ففي الفقرة التالية يقيم باوند «تركيبًا فوقيًّا» من عدة عناصر متباينة:

وحورية «هاجورومو» جاءتني
مثل هالة على رأس ملاك،
يومًا ما كانت السحب على شاطئ «تايشان»،
أو في بهاء الغروب،
والرفيق المبارك لا هدف له،
دموعٌ في بركة الأمطار عند المساء.

إن الأبيات تقفز من الأرواح التي تبعث بالتسرية والعزاء في المسرح الياباني، ومن الملائكة التي صورها فنانو عصر النهضة، إلى بهاء الطبيعة، وعلى الرغم من وجود حرف العطف «الواو» تقدم إلينا فجأةً صورة للمعاناة الإنسانية واليأس، كذلك فإن عدم استخدام باوند للضمائر يجعل الشعر غامضًا كل الغموض، من الذي يبكي في بركة الأمطار، الرفيق أم الشاعر نفسه؟

وهكذا نرى على أحد المستويات أن التغيرات المستمرة في النغمة، توحي بالتذبذب في الحالة النفسية للشاعر نفسه، إن الحالة تتغير من بيتٍ إلى بيت، مع تأرجح باوند بين الثبات الروحي واليأس، ويحيط به في الوقت نفسه حوريات وعبيد:

رجلٌ غربت عليه الشمس،
وهبت الريح عليه مثل الحوريات في وهج الشمس،
ولا يعرف الوحدة مطلقًا
بين العبيد الذين يتعلمون الرق …
وفي إخلاصٍ وتواضع ينشد الصفح «اغفر لي حتى يغفر لي الجميع».
«كوانون» هذا الصخر يبعث على الرقاد،
لأن هذا الصخر يهب الرقاد،
فهو يستكين ولا يتحرك.

أما الشاعر فهو ينشد السكينة، وينشد السلام في عماء هذا العالم برغم عدم استكانة ذهنه، وأحيانًا نرى ومضاتٍ بصيرة نافذة:

خيط ضوء مشدودٌ نقي،
حبل الشمس الذي لا تشوبه شائبة.

أو نرى صورةً للجمال في لحظة سكينة «العيون الرقية الهادئة التي لا تلقي نظرة احتقار»، ولكن هذه شذرات متقطعة وسط حشد من الصور والانطباعات التي تتزاحم على ذهن باوند في «النفوس الحية العظيمة القادمة من الخيمة التي يحكمها «تايشان»».

وتتغير نغمة النشيد، لا لأنها تعكس التغير في مواقف باوند وانطباعاته فحسب، بل أيضًا لأن الزاوية التي يبصر منها مادته تتغير باستمرار، فالنشيد عبارة عن تركيبٍ غير متجانس من ذكريات باوند وأحاسيسه، ولكنه يتضمن أيضًا تركيبات من الأصوات القادمة من عدة أزمنة وأماكن «صاح الحارس خذ هؤلاء الجنوالات جميعًا …»، والشذرات التي سمعها «سناج» في السجن تحت عيون قوات الأمن، تأتي إلينا بكل الطاقة التي تفجرها العبارات العامية («كام لكمية كده، شوف باقول إيه واعمل إيه»)، هذه اللغة الدارجة، والأغاني والشتائم، تحتل مكانًا لا ينكر في النشيد بما في ذلك اللهجة المحلية التي يتكلم بها المستر إدواردز «في العنبر رقم ٤، حيث يرقد في طيبةٍ وخير»، أما الأصوات الحاضرة فترن في الآذان كأنها «ومضات» من الصوت، في مقابل الأصوات الآتية من الماضي الذي يتذكره باوند أو يتخيله: «هذه رومانسية — نعم نعم — بالتأكيد …»، ويقدم باوند أنماط التحدث في الحياة الواقعية بتغيير حروف بعض الكلمات، واللجوء إلى الاختصارات، واختراع كلمات جديدة، بحيث توحي العبارات المبتورة والجمل الاعتراضية بأنها مكتوبة بطريقة الاختزال.

وللدلالة على التمزق المكاني والزماني في شتى أجزاء النشيد، يكفي أن نعرف أن كثيرًا من العبارات تخرج من سياقها التاريخي، وتندرج في سياق القصيدة الجديد، وأحيانًا نرى صوتًا يجاور صوتًا آخر، آتيًا من مكانٍ وزمان يختلفان عنه كل الاختلاف، وهكذا نجد أن كلمات «حكمدار» جاردون تذوب في كلمات دوقة من القرن السادس عشر، في حين تتعرض كلماتها مع صوت الشاعر نفسه:

قال نيكوليتي «المرأة»،
«المرأة»،
«المرأة»!
«لماذا ينبغي أن أستمر؟»
«إذا سقطت — قالت «بيانكا كابللو» —
فلن أقع على ركبتي»،
فإذا قضى الإنسان يومًا واحدًا في القراءة،
استطاع أن يحصل على المفتاح.

إن كلمات بيانكا ذات «دلالة متغيرة»، وقبل كل شيء تعود أهميتها إلى أنها شذرة مقتطعة من زمنٍ مختلف، وضعت في هذا السياق في القصيدة، ولكن «بيانكا كابيللو» هي أيضًا «المرأة»، ومن ثَم فهي أيضًا إحدى النساء المثاليات في عين باوند، أضف إلى هذه أن كلماتها تشير بصورةٍ حادة إلى موقف باوند، حينما كان — كما يقول — «غارقًا في سجن الجيش»، الصوت صوتها لا شك، ولكنه يتداخل مع صوت باوند بصورةٍ ما، فكأنما باوند نفسه يقول: «لماذا ينبغي أن أستمر؟ — إذا سقطت — فلن أقع على ركبتي»، وثَم علاقة بين بيانكا والشاعر على مستوًى آخر، فلقد ماتت مسمومة، وباوند يصور نفسه في صورة من وقع ضحية العقاقير المخدرة الساحرة «كيركي»، وأنه بذلك أحد سجنائها.

وهكذا فإن التفصيلات الثابتة الصريحة التي يضعها الشاعر جنبًا إلى جنب في ثنايا النشيد، تكتسب ديناميكيةً من علاقاتها المتغيرة، وتبين الصورة التالية كيف تنجح «حقيقتان» — كلٌّ منهما كتابة — في الإيحاء بالحركة بل مرور الزمن.

سحابٌ فوق الجبل
جبلٌ فوق السحاب

إذا نظرنا إلى كلٍّ منهما على انفرادٍ وجدناهما ثابتتين ولا شك، أما إذا نظرنا إليهما معًا وجدنا أن السحاب يتحرك أو أنه قد تحرك بالفعل، وشبيه بهذا ما نراه في «الوحدات النمطية» التي تتحرك على الدوام، بحيث يقدم كل تقابلٍ بين الصور نمطًا جديدًا من أنماط العلاقات، وهكذا يشبه باوند سجنه بحظيرة الخنازير في جزيرة الساحرة «كيركي»، وبسفينةٍ على ظهرها العبيد، ثم بسجن المسيح، وبعد ذلك تتغير شبكة العلاقات تغييرًا كاملًا:

كيركي، صه!
ولكن سم زعاف يجري
في كل عروق الإمبراطورية،
وما دام في أعلاها، فلا بد،
أن يجري أسفل، فيسري فيها جميعًا.

ويستعين باوند بعباراتٍ من هوميروس (ملحمة الأوديسا، ١٠–٢١٣) ومن «وبستر» (دوقة مالفي)، بحيث تتوسع دلالات الصور فلا تقتصر على وضعه الحالي، بل تعبيرًا أيضًا عن نظرياته الاقتصادية، فالربا سمٌّ زعاف.

والقارئ يسعده — مثلما يسعد الشاعر — أن يلحظ التغيرات التي تمر بها الصورة الواحدة، فالتفصيلات لا ترتبط أبدًا بأشياء ذات دلالة «نهائية» أو ثابتة، بحيث يتم الربط بينها وإحكام العلاقات:

وحينما وهبت فراشة خضراء جديدة يوم الأحد،
زمردية — بل أفتح لونًا من الزمرد —
فقدت مروحتها اليمنى،
وجدت هذه الخيمة قد مدت لي و«تيثونوس»،
الذي يأكل قلب الأعناب.
ففي سياق النشيد بصفةٍ عامة لا تكتسب صورة المروحة اليمنى — أي الجناح الأيمن — للفراشة أي دلالة خاصة، ولا أهمية لتشبيه الحشرة «النطاط أو الفراشة» بمن ذكره في النص «تيثونوس»، ولكن الإشارات الأسطورية إلى التحولات الطبيعية (أو مسخ الكائنات المستمر)، ترجعنا إلى الفراشة الخاصة بالشاعر، وتحولاتها داخل القصيدة نفسها، والصور تتخذ شكل الكتابة دون أن يسود مشبه به على مشبه، أو العكس، كما أن الصور لا يشرح بعضها البعض، بل تزيد وتضيف إلى بعضها البعض، والنتيجة أن باوند يصف الشيء من عدة زوايا، أي من منظورٍ متغير، فهو يقدم إلينا بوصفه حيوانًا «النطاط» ومادةً معدنية وآلة «مروحة الطائرة»، وشخصًا أسطوريًّا «تيثونوس وديونيسيوس، الذي يأكل قلب الأعناب»، وبوصفه أيضًا صوتًا مجردًا، كما يوحي اللفظ بالإنجليزية وهو Katydid.

وأخيرًا فكما نفعل إزاء اللوحات التكعيبية، إذا كان لنا أن نستخلص أي معنًى من حشود التفصيلات التي يقدمها هذا النشيد، فينبغي علينا نحن القراء أن نقيم العلاقات اللازمة بينها، فالقصيدة زاخرة بالفجوات النحوية، وعلى القارئ أن يملأها، خذ هذا المثال «وما الحراس، عن اﻟ …»، وأحيانًا يقدم باوند المعلومات اللازمة في موضعٍ آخر من النشيد (رأي الحراس في القادة)، وأحيانًا يترجم العبارات المكتوبة بلغاتٍ أجنبية لفائدة القارئ في النص نفسه أو يقدم شروحًا وهوامش داخل النص (مثل «مترياردي، وزنًا أو كيلًا»)، ولكن الفجوات اللغوية والمنطقية تسود القصيدة، بحيث لا بد أن يشارك القارئ مشاركةً إيجابية في قراءة النشيد ٧٤؛ إذ بدون المعلومات المستقاة من المصادر الخارجية تضيع العلاقات بين الصور (وانجينا، وان جن)، والحقيقة أن الشعر يريد من القارئ أن يرجع إلى المصادر التي اعتمد عليها الشاعر، لا لأنها تفسر لنا النص، ولكن لأنها تزيد من معرفتنا بأنواع الأنماط والعلاقات التي يقيمها باوند.

ولكن استخدام باوند لهذه المصادر يفرق بين أسلوبه والأسلوب التكعيبي، فإذا كان بناء النشيد رقم ٧٤ يتمشى مع النظرية التكعيبية، فإن باوند يجعل هذه المصادر نفسها الموضوع الذي يتناوله بطريقةٍ تختلف كل الاختلاف عن طرائف التكعيبية، وينبغي أن نمعن النظر فيما يقوله «هيوكنر» في هذا الصدد:

«إن بيكاسو ينزع إلى تحطيم النموذج الذي يحاكيه، كأنما ليقول لنا «هذا هو ما ينتهي إليه في لوحتي»، أما باوند فهو يعيد بناء النماذج بحيث يظهر احترامه لها، وبحيث تظل كاملة، فلا يمكن لغيرها أن يحل محلها، وربما كان هذا معناه أن بيكاسو أقلع عن التكعيبية، في حين كان شعر باوند — بدءًا من قصيدة لوسترا حتى آخر الأناشيد — أطول تطبيق في أي فن من الفنون للمبادئ التي تقترب من التكعيبية.»

يقول «كنر» في موضعٍ آخر إن الحركة البدائية في الفن (أي تبنِّي أشكال فنون الإنسان الأول)، كانت القوة المحورية في تطور التكعيبية؛ إذ وضع بيكاسو مبادئ الفن الأفريقي وملامحه في مقابل الفن الأوروبي أساسًا؛ لأن التقاليد الأوروبية قد غدت تقاليد بصرية «بأكثر مما ينبغي»، أي تعتمد أكثر مما ينبغي على المحاكاة، ويصف «ماكس كوزلوف» النماذج التي وضعها بيكاسو نصب عينيه قائلًا:

«لا بد لنا إذا أردنا فهم التكعيبية أن نتذكر أن بيكاسو فنانٌ يرى أنماط ترابط واتصال بين الفنون التي تنتمي إلى ثقافات وعصور تختلف اختلافًا بينًا، إنه فنانٌ قادر على إيجاد اللحظة الحاضرة، عندما تنجح لغة الشكل التي يطمح إليها في العثور على اشتقاقاتٍ متبادلة في فن الرومانسك الذي ازدهر في قطالونيا، أو فنون وسط إيطاليا (أتروريا القديمة) وشبه جزيرة أيبيريا القديمة، وأرخيل سيكلاريس (اليونان)، أو فنون بابل وآشور وغرب أفريقيا، فهو يقبل فنون ما قبل التاريخ، والفنون القديمة والبدائية والساذجة ويحييها …»

ومع أن هجوم باوند على الرمزية لم يكن يتسم بروح التمرد والثورة التي اتسم بها هجوم بيكاسو على تقاليد الفن الغربي، فقد كانت جهوده لتوسيع قاعدة التأثير التاريخي على الفنون المعاصرة، تتمشى تمامًا مع التيارات السائدة في العقد الأول من هذا القرن (وكان دائمًا ما يدعو إلى كتابة «أدبٍ عالمي»).

كذلك مهد التكعيبيون الطريق لاستيعاب عناصر من الفنون الأخرى في فنهم، فالتركيبات التكعيبية (القص واللصق) يمكن أن تتضمن قطعةً من نوتةٍ موسيقية (براك وبيكاسو)، أو قصيدة لأحد المعاصرين (جريس وريفردي)، ولا شك أن إدراج شذرات من أعمال الفنانين الذين يستخدمون وسائط فنية مختلفة (سمعية أو بصرية أو لغوية … إلخ)، يمثل عنصرًا مهمًّا من عناصر الفن التكعيبي.

واختلاف باوند عن التكعيبيين اختلافٌ في الدرجة والأسلوب الفني فحسب، فقد تجاوز باوند الأسلوب البدائي الذي اتبعه بيكاسو (والذي كان يستخدمه على مستوى البناء والشكل فحسب)، بل تجاوز أسلوب «وديه»، الذي يعتمد على التأثيرات التاريخية المنوعة، وأصبح يدخل في موضوعاته الفنية عناصر من ثقافاتٍ شديدة التباين؛ ولذلك نرى أن نطاق موضوعاته ومصادره أكثر تعقيدًا وتنوعًا من نطاق أي من معاصريه، كما يبدو شعره مناقضًا كل المناقضة للتكوينات التكعيبية البسيطة نسبيًّا، أي التي تعتمد على الأشياء المستقاة من الحياة اليومية، إن شعر باوند «حافلٌ بصور التاريخ»، فهو يتضمن مصادر تاريخية منوعة، يجعلها موضوعه الذي يتخذ في بنائه هيكلًا حديثًا، ومن ثَم يتسم فنه بالتعارض الزمني بين الموضوعات، أضف إلى هذا أن باوند يطوع أحد المبادئ الأساسية التكعيبية حتى يخرج فنًّا لا ينشد فحسب تجسيد النشاط الإبداعي، بل يدور أيضًا حول أنماط هذا النشاط، وقد طور باوند كثيرًا من الأساليب الفنية التي استخدمها الشعراء والرسامون في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ ولذلك فمعالجته لموضوعاته تشترك مع معالجة معاصريه من الرسامين اشتراكًا أكبر مما نشهده في بيكاسو، وإذا كان باوند لم يؤثر في الحقيقة على الفنانين المعاصرين فهو — على الأقل — قد أرهص بمناهجهم الفنية.

انظر مثلًا لوحة «بير سيمون» التي رسمها «روبرت راوشنبرج»! إنها حلقةٌ في سلسلةٍ تتضمن شذرات من لوحة «روبنز» المسماة «فينوس نتزين»، إن المصطلحات المستخدمة في وصف أسلوب باوند تنطبق على هذه اللوحة، إذ يستخدم «راوشنبرج» أسلوب وضع الصور بعضها فوق بعض على القماش، وعلى الرغم من أن للصورة عمقًا ينبع من المحاكاة، فإنه عمقٌ يضيع في الخصائص السطحية للعمل بصفةٍ عامة، والتركيبات التي يلجأ إليها «راوشنبرغ» تعتمد على الأسلوب «الفوقي»، أي على وضع اللمحات الحضارية بعضها فوق بعض، بحيث تخلق توترًا بين الأزمنة التي تنتمي إليها كل منها، وبحيث تكتسب المرأة التي تصورها اللوحة «دلالات متغيرة»، فعلى أحد المستويات نرى أنها فينوس، ولكن الفاكهة الحمراء توحي بأنها صورةٌ للمرأة باعتبارها طعامًا شهيًّا، وإلى جانب ذلك فإنها توحي بأسطورةٍ أخرى لأنها تشبه التفاحة، وهكذا تصبح المرأة في اللوحة فينوس وحواء معًا، ولكنها أيضًا المرأة المعاصرة التي تغسل الأطباق (وهي موجودة في أسفل اللوحة إلى اليسار)، والتي تتولى الطبخ وتقديم الأكل (انظر كوب اللبن!)، ومشهد الشارع في المدينة يضيف بعدًا آخر إلى هذه المرأة ذات الوجوه المتعددة، فالتقابلات تتيح عدة طرق لفهمها، وتدخل في هذا النطاق عددًا من الأساطير، وفي الوقت نفسه فإن جميع التفسيرات ثانوية بالقياس إلى الأهمية الكبرى التي تكتسبها أنماط الألوان وملمسها الذي تبرزه الفرشاة، وأسلوب «راو شنبرج» الذي يوحي بالتصوير الفوتوغرافي على لوحٍ من حرير!

أضف إلى هذا أن القطعة المأخوذة من «روبنز» لا تقتصر دلالتها على «معنى المرأة» بصفةٍ عامة، بل تتعدى ذلك إلى ما تدل اللوحة نفسها، فأولًا نرى أن المرأة توحي بأن «لوحات راو شنبرج تعكس البيئة الحضرية المعاصرة»، وثانيًا فإن فينوس التي يصورها الرسام دائمًا من الخلف — وفينوس بعدُ تعني الجمال — تحتاج إلى مرآة — أي مرآة الفن — حتى تستطيع أن تظهر لعيوننا، وهكذا فإن المرأة ترمز للانعكاس الذاتي الذي تصوره اللوحة، فاللوحة تتناول فن الرسم بقدر ما تتناول الحياة، وأخيرًا فإن لوحة «راو شنبرج» تؤكد قيمة لوحة روبنز حتى ولو كانت «تحطمها»؛ لأن لوحة روبنز قد أصبحت مسطحة، وتقطعت، وأصبحت تقتصر على لونين، و«راو شنبرج» يستخدمها في لوحاته ليقابل بينها في سخريةٍ فكرية وبين عربات الترام ولوريات الجيش والبعوض ومظلات الهبوط من الطائرة، ومع ذلك فبرغم التفاوت الزمني والسخرية، برغم «التحطيم» والتكسير، فإن «راو شنبرج» لا يتعدى على معنى لوحة روبنز.

وإذا عدنا إلى باوند وجدنا أنه هو كذلك يقر بفضل أسلافه بما يشبه المفارقة، أي إنه يكرمهم «تكريمًا غير كريم»، وفي النشيد ٧٤ نجده يلهو ويلعب بما ينظر إليه نظرة القداسة الكاملة، فهو يمزق الأعمال التي يعدها روائع خالدة، ويقلبها رأسًا على عقب، ويعيد صياغة بعضها، محاكيًا إياها، ساخرًا منها، بل يستخدمها بوصفها قطعًا من أزمنةٍ متفاوتة، ركبت تركيبًا جديدًا، ففي بداية النشيد يستخدم باوند سطرًا من رواية «جيمس جويس» المسماة أوليس (عولس)، وهو: «إن الحركات التي تحدث الثورات في العالم تولد من الأحلام والرؤى في قلب الفلاح على سفح التل.» كما يعيد كتابة الأبيات الختامية لقصيدة إليوت «الرجال الجوف»، ويلهو بأسماء المؤلفين وعناوين كتبهم:

مات أمير رايفز …
والمستر جيمس يحمي نفسه مع السيدة هو كسبي،
كأنما هو إناءٌ يحمي نفسه بعصًا يتكئ عليها …

وهو يستعير العناوين ويستخدمها للتعبير عن «حقائقه» (ريمارك: «ليس في الصديري أي جديد.» وبودلير: «ليست الفردوس مصطنعة.»)، وهو يمعن في سخريته فيقتبس أبياتًا من شعر الآخرين ويستخدمها في أغراض مختلفة تمامًا، فعبارة إليوت: «حتى أنتهي من أغنيتي» تصبح لافتةً على «مصرف توماس» في الصورة التي يرسمها باوند للأرض التي تخربت اقتصاديًّا، وهو يقتبس أبياتًا للشاعرة «سافو» بعد أن يجعلها تتلعثم في النطق، ويشيرا إلى امرأة رسمها «مانيه» (في لوحة «بار» في «الفوليه بيرجيه»).

وعلى الرغم من أنه يبقي على شعرها الأحمر، فإنه يجعلها ترتدي ثوبًا من الدريكول أو اللانفيل، ترى هل كان من المحتمل أن يضيف باوند شاربًا إلى لوحة «الموناليزا» مثلما فعل «ديشام» عام ١٩١٩م؟ «لا، فالمحتمل أنه كان سيجعلها تتزين بموضات كريستيان ديور.»

لا شك أن باوند يكرم أسلافه، ولكنه يكرمهم بأسلوبه الخاص، وشعره يفصح لنا عن اعتقاده الراسخ بأن الفن تكريم، ويبدعه المبدعون «لعبادة الأباطرة» و«باسم إله الفن»، وعمل الفنان هو بناء معابد لآلهة الفن «فالخمائل تحتاج إلى معبد كما يقول»، سواء كان الإله هو «ديونيسيوس»، أو «أفرودايتي»، أو «زرادشت»، أو «أثينا»، أو «ياو» أو ربات الفنون نفسها.

إذن لماذا يسود هذا التوتر وهذه المفارقة بين التوقير والسخرية؟ ولماذا تظهر الصور التي يحييها صورًا ميتة؟ ربما لأن باوند يحول القيمة من موضوع التوقير إلى عملية التوقير نفسها، بحيث يصبح الآلهة التقليديون هم الأشكال ومظاهر الكيان الروحي، وهم يتبادلون أماكن بعضهم البعض في دورة لا تنتهي:

إن «يو» لا يبني أية آمال على «يهوه» …
«زرادشت» أصبح عتيقًا باليًا،
إلى «جوبيتر» وإلى «هيرميز» حيث يعيش الكبير،
لا أثر له إلا في الهواء.

و«لا أثر له إلا في الهواء» لأن روح الآلهة ما زالت باقية، حتى حين تصبح بعض أشكالها الخاصة عتيقةً بالية ممزقة مشوهة أو حتى محطمة، وكذلك فربما بقيت «الروح» في الذهن — حسبما يقول باوند — لأن الذهن هو مكانها الوحيد، وهكذا فإن آخر صورة لأفرودايتي في النشيد تخرج إلى السطح من خلال «التغني بالذهن البشري»، وإعادة بناء «واجادو» يجري «في الذهن الذي لا يمكن تدميره»، وحتى الأشكال الجميلة في اللوحات المرسومة تحقق الخلود («بالرسم الخالد»)؛ لأن قماش اللوحة («الأرض المستوية») هو الذهن نفسه، وهكذا فإن إدراك الفن (أي إبداعه) لا يعني تقييم أحد المنتجات بل المشاركة في نشاط ما.

(٣) ثبت المراجع

أولًا: الحداثة والمودرنية

  • Jacques Barzun, Classic, Romantic and Modern, London 1962.
  • M. Bradbury & J. Mcfarlane., Modernism 1890–1930, London, 1976.
  • Joseph Chiari, The Aesthetics of Modernism, London, 1970.
  • Cyril Connolly, The Modern Movement: One Hundred Key Books From England, France and America 1880–1950, London, 1965.
  • Richard Ellman & Charles Feidelson JR (eds.), The Modern Tradition: Backgrounds of Modern Literature, N. Y. & London, 1965.
  • Graham Hough, Image and Experience, London, 1960.
  • Irving Howe (ed.), The Idea of the Modern in Literature and the Arts, New York, 1967.
  • Louis Kampf, On Modernism: Prospects For Literature and Freedom, Boston, Mass. 1967.
  • Harold Rosenberg, The Tradition of the New, London, 1962.
  • Wylie Sypher, Loss of the Self in Modern Art and Literature, New York, 1962.
  • …, From Rococo to Cubism in Art and Literature, N. Y., 1960.
  • Lionel Trilling, Beyond Culture, London, 1960.
  • Edmund Wilson, Axel’s Castle A Study in the Imaginative Literature of 1870–1930, N. Y., 1931.

ثانيًا، التصويرية

  • Stanley R. Coffman, Imagism: A Chapter in the History of Modern Poetry, Norman, Oklahoma, 1951.
  • Lillian Feder, Ancient Myth in Modern Poetry, Princeton, 1972.
  • J. B. Harmer, Victory in Limbo: Imagism 1907–1917, London, 1975.
  • Glenn Hughes, Imagism and Imagists: A Study in Modern Poetry, Stanford, 1931.
  • Peter Jones (ed.), Imagist Poetry, Harmondsworth, 1972.
  • Hugh Kenner, The Pound Era, London, 1972.
  • Monroe K. Spears, Dionysius and the City: Modernism in Twentieth Century Poetry, N. Y. & London, 1967.
  • A. Kingsley Weatherhead, The Edge of the Image, Seattle, 1967.
  • William C. Wees, Vorticism and the English Avant-grade, Manchester, 1972.

أما كتب الشعر فقد أشرت إليها في مواضعها من النص.

١  يقول إيان جاك في كتابه English Literature (١٨١٥–١٨٣٢م) إن تعبير الشاعر الخالص pure poet الذي يُطلق على شلي يتضمن مفارقةً لما كان لهذا الشاعر من عقلٍ علمي ونزعات سياسية واضحة، ص٧٧.
٢  يعرض سيسيل داي لويس لهذا التطور في مقاله شلي ودرايدن ومستر إليوت في كتاب English Romantic Poets ص٢٤٧ وما بعدها.
٣  خير مثال على هذا هو دراسة ديتشز عن شلي في: A Critical History of English Literature, Part IV.
٤  انظر: David Gwilyn James, “The Romantic Inheritance” in M. Arnold and the Decline of English Romanticism, Oxford, 1961.
٥  انظر: Brinton, C. The Political Ideas of the English Romanticists (Ann Arbor, University of Michigan Press, 1961)- passim.
٦  انظر عرض نظرة القرن الثامن عشر للإنسان والمدينة ومساواة العقل والطبيعة في Paul Hazard, European Thought in the Eighteenth Century, pp. 307–332 (English translation, Penguin, 1954).
٧  انظر: Basil Wiltey, The Eighteenth Century Background, (Paperback, 1961).
الفصل الثالث؛ انظر أيضًا لنفس الكاتب ص١٠ Nineteenth Century Studies (Penguin, 1964).
٨  انظر مقال للبروفسور هاردنج في: Pelican History of English Literature from Blake to Byron.
٩  انظر: I. Babbitt, Rousseau and Romanticism, (Meridian edition, 1966), p. 209.
١٠  برز هذا الاتجاه في شعر الجيل الأول من الرومانسيين وخاصة وليم وردزورث.
انظر: A. Beatty, W. Wordsworth: His Doctrine and Art in their Historical Relations, (University of Wisconsin Press, 1960) p. 22 et seq.
١١  انظر بابيت، نفس المرجع السابق، انظر أيضًا الفصول الخاصة بوليم بليك في:
Peter Conventy, The Images of Childhod; William Walsh, The Use of Imagination.
١٢  اتضح هذ الاتجاه أولًا في شعر وليم وردزورث ومن سبقه ممن تناولوا الأطفال في شعرهم، انظر Coveny (نفس المرجع)، فأصبح الطفل في الشعر إنسانًا يتمتع بطاقةٍ روحية هائلة اقتربت به من المثالية، وقد استتبع تصوير وردزورث للأطفال بهذه الصورة هجوم كولريدج عليه في كتابه «حياةٌ أدبية».
١٣  F. L. Lucas, The Decline and Fall of the Romantric Ideal.
نفس المرجع السابق في معرض الحديث عن وليم بليك.
١٤  انظر: David Perkins, The Quest for Permanence: the Symbolism of W. Wordsworth, Shelley and Keats, (Cambridge, Harvard University Press, 1959).
١٥  Edward Bostetter, The Romantic Ventriloquists, (Seattle, University of Washington Press, 1962).
١٦  انظر نفس المرجع و C. M. Bowra, Romantic Imagination.
وبازل ويلي في كتابه عن القرن الثامن عشر.
١٧  انظر معالجة فكرة الصورة الذهنية في C. C. Clarke, Romantic Paradox, 1962، وتحليل بازلي ويلي لنظرية الخيال عند كولريدج من حيث محاولة إخراج المعنى أو إضفائه، بحيث يتم الاندماج بين الذات والموضوع Coalescence of subject and object، وذلك في تحليله للفرق بين fancy باعتباره القوة الذهنية التي تأتي بالتشبيه و imagination باعتباره القوة التي تولد الاستعارات، في كتابه دراسات في القرن التاسع عشر الفصل الأول.
١٨  انظر تفصيل القول في هذا الموضوع في كتاب E. Auerbach, Mimesis.
١٩  انظر مقال روجر شاروك «ثورة وردزورث على الأدب»، Roger Sharrock, Wordsworth’s Revolt Against Liltrature, in Wordsworth’s Theory and Art, ed. A. W. Thomson, Edinbrugh, 1969, p. 66.
٢٠  انظر: David Perkins, Wordsworth and the Poetry of Sincerity, 1964.
٢١  انظر تفصيل هذا في: Enid Harner, The Metres of English Poetry, ch. I.
٢٢  انظر: Karl Krober, Romantic Narrative Art, (The University of Wisconsin Press, 1966).
٢٣  انظر: Pierce, F. E, “Hellenic Currents in English Nineteenth–Century Poetry”, JEGP, XVT, 103–135. (1917).
٢٤  نشرت بعد وفاة مؤلفها عام ١٨٥٠م.
٢٥  انظر: Dowden, Edward, The French Revolution and English Literature, London, 1897.
٢٦  انظر: Brooke, S. S., Naturalism in English Poetry, London, (1902), “Wordsworth: Shelley Byron”.
٢٧  انظر: Richard Rice, Wordsworth’s Mind, Indiana University Press, I (XI), No. 7, Bloomington, (1930), p. 23.
٢٨  انظر: Graham, Walter, “Wordsworth and Shelley”, N & Q Jan. 30, 1915, pp. 83-84.
٢٩  انظر: Pottle, F. A. “Shelly and Wordsworth”, TLS, June 20, 1936, p. 523.
٣٠  انظر مقارنة شلي بوردزورث في Leavis, F. R. Revaluation, 1936.
٣١  الذي حدث هو أن مجموعةً من العمال والعاملات في مصنعٍ ما في مدينة مانشستر عقدوا اجتماعًا في الهواء الطلق، وقد رفعوا شعاراتٍ ثورية مثل: «نريد حق الانتخاب للجميع»، و«نريد البرلمان عن طريق انتخابات تعقد كل سنة»، و«نطالب بإلغاء قوانين القمع الجائر»، أي أنهم كانوا يطالبون بإصلاح النظام البرلماني، فانقض عليهم الجنود من قدماء المحاربين الذين كانوا قد اشتركوا في معركة واترلو — ضد نابليون — وانهالوا عليهم رميًا بالرصاص فوقع منهم ضحايا كثيرة.
٣٢  نشر وليام جودوين كتابه المسمى «بحث في العدالة السياسية» عام ١٧٩٣م، وعلى الفور اختطفته أيدي الثوار الشباب الذين كانوا قد انبهروا بالثورة الفرنسية، وكانوا يبحثون عن نظريةٍ صلبة يستطيعون الاعتماد عليها في تفكيرهم وفي أدبهم الجديد، وكان سحر الكتاب ينبع من بساطته بل من سذاجة نظريته الأساسية، ألا وهي أن جميع مشاكل العالم يمكن أن تحل إذا لجأ الإنسان إلى استخدام العقل، ويمكن تلخيص ما يقوله جودوين بأن الإنسان يستطيع أن يصل إلى الكمال، أي أن يرتفع بمستواه الخلقي حتى يصل إلى حالةٍ يبتعد فيها بالطبيعة عن الشر، فلا يفعل سوى الخير، وهذا ممكن في رأي جودوين عن طريق التحكم في البيئة البشرية؛ لأنها أقدر على تشكيل الإنسان من الوراثة، وهكذا فإنه إذا تم إلغاء النظم والأوضاع التي تكونت على مر التاريخ دون استناد إلى العقل، فسوف يصل الإنسان إلى حالةٍ من السلام والسعادة والعدالة، دون حاجة إلى الحكومات والتمييز الطبقي، وكان إيمان جودوين بالعدالة باعتبارها مثلًا أعلى يشكل ركنًا ركينًا في فلسفته السياسية، فالعادل لا يبغي لنفسه ما لا يستحقه، ولا يحرم غيره من حريةٍ يتمتع هو بها، والعدالة تعني المساواة وتعني الحرية بمفهومها الواسع الشامل، ومن ثَم فقد دعا إلى حرية ممارسة الحب وحارب الأفكار التي تدعو إلى تقييده.
أما الخلاف الأوحد بينه وبين شلي فقد كان تجاهل جودوين لسلطةٍ أو قوةٍ أو «إمبراطورية» للشاعر … وهذا هو ما جعل شلي يختلف معه بل ويرفضه في النهاية، مثلما رفضه وردزورث من قبل.
٣٣  انظر: Piper, H. W., The Active University: Pantheism and the Concept of Imagination in the English Romantics. London, 1962, pp. 165–170.
٣٤  النشيد الرابع، الأبيات ١٣٩–١٤٦.
٣٥  النشيد السادس، الأبيات ١٧١–١٧٣.
٣٦  انظر حاشية شلي على البيت ١٣ من النشيد السابع الذي يقول فيه «ليس هناك إله»، فهذه الحاشية تقول: «إن هذا النفي ينطبق على مفهوم الإله الخالق (التقليدي)، أما افتراض وجود روح سائدة متغلغلة في الكون وخالدة معه فما زال ثابتًا لا يتزعزع.»
٣٧  النشيد الثالث، الأبيات ٢٢٦–٢٤٠.
٣٨  انظر: N. L. White, Shelley, London, 1947, i. pp. 279, 368.
٣٩  انظر مقال I. J. Kapstein, The Meaning of Shelley’s “Mount Blanc”, in PMLA, 1947.
والتي يحلل فيها تحول شلي من مذهب الحتمية المادية الأولى إلى المثالية وحرية الإرادة (أي من الجبر إلى الاختيار) قائلًا إن القصيدة تمثل مرحلة توتر بين المذهبين.
٤٠  انظر: E. I. Grigg and P. Mueschke, “Wordsworth and the Prototype of the Poet in Alastor” in PMLA (1934).
٤١  انظر الحاشية السابقة.
٤٢  انظر مقدمة شلي لهذه القصيدة.
٤٣  انظر دافيد ديتشز، نفس المرجع السابق، ص٩٠٨.
٤٤  الأبيات من ٥٠–٦٦.
٤٥  ١٨٨-١٨٩.
٤٦  ٢٠٠–٢٠٢.
٤٧  ٢٠٩–٢١١.
٤٨  ٢٥٧–٢٦٣.
٤٩  ٣٠٤-٣٠٥.
٥٠  ٣٣٩.
٥١  ٤١٥–٤١٧.
٥٢  ٦٦١.
٥٣  ٦٩٩-٧٠٠.
٥٤  انظر: R. H. Fogle, The Imagery of Keats and Shelley: A Comparative Study, pp. 128-129.
٥٥  النبات الحساس، النشيد الأول، الأبيات ٢٥–٢٨.
٥٦  الأبيات ٥٣٧–٥٣٩.
٥٧  انظر Fogle نفس المرجع السابق ص١٢٣-١٢٤.
٥٨  الأبيات من ١٤٩–١٦٤.
٥٩  Jessica Prinz Pecorino. Resurgent Icons: Pound’s First Pisan Canto and the Visual Arts, Journal of Modern Literature, Vol. Nine, Number 2, May 1982, pp. 159–174.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥