الفصل الثالث

في المسرح الشعري

(١) بين الشعر والمسرح

مقدمة (الغربان)١

هذه هي المسرحية الأولى التي أكتبها نظمًا، ولا أقول شعرًا فما أنا بشاعر، وإن كنت أعيش في الشعر ليلي ونهاري! وكثيرًا ما عجبت لنفسي لمَ لا أحترفُ كتابة الشعر مثل الكثيرين الذين يجيدون النظم ويعرفون متعة إيقاع اللفظ المنغوم؟ ولمَ لم أحترفه وقد بدأت حياتي الأدبية ناظمًا دءوبًا — أقول الشعر حينًا وأخفق أحيانًا — حتى تخطيت فجر الشباب؟ ربما لم يكن تصدير مسرحيةٍ كهذه المكان المناسب للإجابة على هذا السؤال، ولكنه على كل حالٍ مجال التعريف بنوع المسرحية، وما دامت قد كُتِبَت بالنظم، وربما كان فيها شعر، فلا بد أن أوضح بإيجازٍ تصوري للجوامع والفوارق بين كتابة المسرح الذي اخترته وكتابة الشعر الذي هجرته، لعله يجد اقترانًا لم يكن يراه فيما بينهما، ولعله يعيد النظر في التقسيمات الشكلية للأنواع الأدبية.

من أشهر النظريات الأدبية أن أحد الفوارق المهمة بين الشعر والمسرح يتصل بنظرة الفنان إلى الوجود: فالفنان الذي يرى الحياة في إطار اصطراع عناصر ما تفتأ تصطرع — تجتمع لتفترق وتفترق لتجتمع — يميل إلى المسرح، والفنان الذي تتميز رؤيته في جوهرها بالاستعارة، أي برؤية الأشياء والأحياء من خلال بعضها البعض، يميل إلى الشعر، أما الاصطراع فيعني رؤية النوازع الحيوية في الكون في حالة حركة دائمة، فكل موجود له إرادة وتفرد، وهو يحيا أيًّا كان موقعه على سلم الموجودات، بفضل هذه الإرادة وهذا التفرد! وتتفاوت طبيعة هذه الموجودات لا بسبب كيانها المادي، ولكن لتفاوت حظها من هذه النوازع (وأرجو ألا يفهم القارئ أن المعنى بالإرادة هنا هو ما يعنيه بها شوبنهاور، أو أن المعنى بالنوازع هو ما يعنيه برجسون بالدوافع الحيوية، رغم استخدام هذه المصطلحات الفلسفية، فما من سبيلٍ إلى إيضاح الفكرة دون المصطلح)، وأما الاستعارة فتعني تخطي الظواهر التي تحجب عن أبصارنا رؤية حقائق الحياة التي تدب في كل الموجودات، فالشاعر يرى طاقات البشر في الشجر، ويرى في الإنسان النماء والانتماء، ويرى في العمق ارتفاعًا وفي السمو عمقًا، ويلتقي في خياله من ينتجع الكلأ ومن يركب البحر، فهو يقهر الظاهر بحثًا عن الباطن، فإن رأى الباطن اختلفت صورة الظاهر! الاستعارة إذن — أو ما كان القدماء يسمونه المجاز — مذهبٌ في الرؤية لا يقرن الشيء بما يشبهه بل بما لا يبدو أنه يشبهه، وقد تنبع القصيدة من لحظةٍ مكثفة من لحظات الرؤى الاستعارية، وقد لا تتضمن استعارةً بلاغية (أي لفظية) واحدة، وقد تتضمن كلمةً واحدة تفصح عن هذه الرؤية أو اللحظة، فإذا بسائر ألوان المجاز في القصيدة تدور في فلكها وتعمل على تعميقها.

ومن هنا جاءت صعوبة الشعر وطول سلمه، فإذا كان في ظاهره تجربة لفظية فهو في باطنه تجربة في الرؤية والشعور! ونحن نعيش حياتنا بهذه التجارب التي ما تزال تتغير ألوانها وضروبها، وربما وقف القارئ عند بيتٍ من الشعر، فأعجبه لدقة التصوير أو لبراعة الصياغة، وربما ذكره في يومه ونسيه في غده، ولكن أنى له أن ينسى رؤيا «اقتنصها» الشاعر من أعماق وجدانه، فأوضحت له ما كان يريد أن يعرف عن نفسه وعن وجوده! ولا أبالغ إذن إذا قلت إن في الاستعارة جانبًا معرفيًّا يرقى بها إلى مصاف الفكر الخاص، وإنها عندما يبدعها شاعرٌ أصيل (وما الشاعر الأصيل إلا قناص رؤًى)، تضيء لنا ما أظلم في جوانب النفس والعقل.

إننا نذكر أبيات بشار الرقيقة، مثلما نذكر أبيات المتنبي البارعة، أو أبيات امرئ القيس الجزلة، أو أبيات المعري الهادئة، فنطرب لهذا ولذاك ولكن الذي يبقى في النفس هو رؤاهم الفريدة — وربما تنبع من كلمةٍ تضفي على القصيدة كما قلت معنًى استعاريًّا بالغ العمق — انظر قول بشار:

جاءت إليَّ تَسُومُني
بُردَ الشبابِ وقد طَوَيتُه

ربما ركزنا في دراستنا لهذا البيت على الظاهر، أي على براعة الشاعر في رسم صورة انطواء الشباب وتشبيه العمر بالبردة، فإذا تعمقناها وجدنا حزنًا في ثناياه فرح خافت، لا يعرفه إلا من تخطى سن الشباب، فالطي هنا يتضمن عنصرًا قدَريًّا، ويوحي بالحتم الذي يعرفه من يعرف الآية: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ، ويعرف ما وراءها أيضًا: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، أي إن الصورة التي قد توحي في ظاهرها بمراودة الفتاة الرجل عن نفسه (وصورة يوسف الصديق قائمة أبدًا في الأذهان) تحمل في «طياتها» سرًّا آخر أكبر وأعمق، فالطي يورث إحساسًا بمجرى الحياة أي وعيًا بالزمن، وهو الزمن الذي نشكوه ثم نشتاقه، ونسفكه ثم نبكيه! إنه العمر الذي لا نعرف معناه إلا عندما يغيب عنا، وهذه هي المفارقة التي «يقتنصها» الشاعر هنا، وتجسدها صورة البردة ما بين بسطها وطيها، فمجيء الحسناء يبسط البردة في الحقيقة؛ لأنه يعيد إلى الشاعر وعيه بوجوده في الزمن!

عند المفارقة يلتقي المسرح بالشعر، فاصطراع الإرادات وتقابل النوازع يؤدي إلى اشتباك الأضداد وتلاقي الأشياء على اختلافها، وهذه هي رؤى الشاعر الأصيل! أو قل إن هذا لونٌ من الشاعرية الأصيلة التي تغيب عنا في خضم الألوان الأخرى، فنحن نذكر قول شوقي في افتتاح همزيته عن كبار الحوادث في وادي النيل:

هَمَّتِ الفُلْكُ واحتواها الماءُ
وحَداها بِمَن تُقِلُّ الرَّجَاءُ!

ونحن نعجب به للبراعة البيانية الواضحة، مثلما نعجب بقول شيكسبير:

إن كان لديَّ سفائنُ تركبُ مَتنَ البَحر،
لتَعلَّق قَلبي بالأملِ السابحِ في قَلبِ الماء!

أي إن قوة الاستعارة هنا تتضمن رؤيةً لا تتطلب إجهاد النفس أو العقل في المعاناة الشعورية، ولكنها تخرج في قالبٍ يعتمد على الحيل البلاغية التقليدية؛ إذ نجد في شوقي لون الشعر الذي حفلت به دواوين القدماء، وهو الذي يقترب من شكل الحكمة أو المثل السائر أو الإبجرام «وقد يُشفى العضالُ من العضال»، ونجده في شيكسبير «في السعي متعة تفوق متعة الظفر!»، كما نجد ألوانًا أخرى هنا وهناك، من الموجز المحكم إلى ذلك اللون الذي تنبسط فيه الصورة، حتى لتحاكي الصور الملحمية التي اشتهر بها القدماء (وتميز بها ملتون)، وهاك صورة أخرى من شيكسبير:

انظر إلى السفينة التي تَزيَّنَت عشية الإقلاع،
تشتاق للريح اللَّعُوب للأحْضانِ والعناق،
تنسابُ من مرفئِها خفاقة الشِّراع،
تختالُ مثل يافعٍ يمضي به الرَّجاء!
وانظر إليها عندما تعود مثل ضالٍّ عاقْ،
قُلُوعُها مُمزَّقة،
ضُلوعُها محطَّمة …
نحيفة … مثقوبة … أذلَّتها المَشاق!

(جميع أبيات شيكسبير من مسرحية تاجر البندقية، ترجمة المؤلف.)

ولا أظن أن ثمة ما يدعو إلى إيراد النماذج التي تمثل شتى ألوان الصور التي تحفل بها ضروب الشعر الأخرى، فالذي يعنيني هنا هو تأكيد القوة العاتية التي يكتسبها الشعر عندما يستند إلى رؤًى أصيلة، ولا أظن أن القارئ الملم بتراثنا الشعري سوف يجد صعوبةً في العثور عليها، فهي تمتد عبر القرن حتى لتفيض بها دواوين شعرائنا المحدثين، وهي الرؤى التي تتضمن في باطنها ذلك الاصطراع بين النوازع، الذي يسمونه الصراع الدرامي لأنه يميز كل عملٍ درامي.

إن قصيدة «سقوط الوهم» مثلًا لفاروق شوشة تحمل رؤيا أصيلة؛ إذ تجمع بين هذه النوازع المصطرعة التي تنتهي إلى ذروة ما أحسب إلا أنها درامية بكل معنى الكلمة، فالقصيدة منسوجة في قسمها الأول من التضاد العنيف بين صور النور والظلام، التي تنبع من أعماق إحساس الشاعر بما يمثله الوهم! إنها مفارقةٌ أصيلة لأنها تقدم ما يمكن أن نطلق عليه الأمل المحال، أو الرجاء اليائس! ففي وجدان الشاعر يتمثل الوهم في صورٍ غريبة شائهة، مثل الصور التي رسمها ملتون للعماء، للموت والخطيئة حين يواجهان إبليس (ولفظ السقوط يوحي دون شك بإبليس!)، فهو ظل وهو كابوس وهو منجل وهو جبل وهو تيه! لكنه قبل كل ذلك قدر لا نجاء منه، وهذه هي الصورة الأساسية التي تلقي بظلالها على القصيدة كلها:

هل آن سقوطك يا ظل الوهم الشائه،
تتمدد خلف عيون الليل المنطفئة،
تقعي خلف الأبواب وملء رؤانا المهترئة،
وتطل على الأنفاس ثقيل الوطأة والسيماء،
كاللعنة أبدًا لا ترحل،
كالقدر الجاثم … كالمنجل!

إن صورة الظل «المتمدد خلف عيون الليل المنطفئة» لا تخرج إلا من إحساسٍ أصيل بكيان ذلك الشيطان الذي لا شكل له، والذي ربما اتخذ عددًا من الأشكال، ولكنه يثبت وجوده وكيانه في فِعله (والدراما بعدُ فِعل)، وهو دائمًا ما يختبئ لأنه لا يقبل النور ولا يقبله النور! فإذا انتهى الشاعر من «اقتناص» هذه الرؤية وجدنا أن الأسئلة البليغة (أي الإنكارية)، التي تتوالى في الجزء الثاني من القصيدة تؤكد لنا لحظة الحيرة — ولحظة الأمل المحال أو الرجاء اليائس — وهي لحظة المفارقة الدرامية التي تطلعنا على ما لم نكن ندريه، فإذا نحن نسأل نفس الأسئلة، ونحار نفس الحيرة!

والغريب أننا كلما أنعمنا النظر في صور «سقوط الوهم»، ازددنا يقينًا بأنه لن يسقط، فهو ساقطٌ بمعنى أنه مذمومٌ مدحور — أي مدانٌ مثل إبليس — ولكنه قائمٌ وذو تأثير وله أتباعه، أيضًا مثل إبليس! أما المفارقة الدرامية هنا فمردها إلى الموقف الدرامي الأصيل الذي تتضمنه صورة إبليس بين البشر؛ فهم يعرفون أنه الشر ويمدون أيديهم إليه! وأسئلة الشاعر في الجزء الثاني من القصيدة بسيطة في ظاهرها بالغة الرمزية في دلالاتها؛ فالبراءة التي ينشد العودة إليها هي — في تراث الأدب العالمي — مرحلة ما قبل الشر! أي المرحلة التي يُفترض أن الإنسان عاشها قبل «تعامله» مع إبليس! وهي مرحلة محالة لأن الإنسان منذ هبط إلى الأرض وهو يرافق الشر ويعيش معه: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ! وكذلك القراءة! فالقراءة سلاحٌ لدحر الوهم، والعودة للقراءة عودة لمرحلة البراءة في الظاهر، ولكنها في الواقع وسيلة لقهر الوهم بسلاح الحقيقة، الذي يمكن أن يصل إليه المرء من خلال التجربة وبعد سنوات النضج، كما يقول وردزورث! ومن هنا نجد أن الاصطراع قائمٌ في الأسئلة التي تبدو يسيرةً مباشرة، والتي تخدعنا بهذا اليسر أيما خداع!

وذكر الاصطراع معناه إثبات خصيصة أولى من خصائص الدراما، وإذا كانت هذه الخصيصة بارزة في كل شعرٍ عظيم، فالدراما الأصيلة — لا شك — تتسم أيضًا بخصائص الشعر الصادق، حين يتسع مدلول الحدث ليصبح نوعًا من المجاز المجسد، أي مجاز الفعل والحركة، مجاز الموقف والصراع، لا مجاز اللحظة والتأمل! فصورة الحاكم بأمر الله التي يرسمها سمير سرحان في «ست الملك»، صورة استعارية لكل إنسانٍ يواجه ببراءةٍ عالم التجربة، ويخرج بطهره ونقائه من عالمٍ خاص — عالم الفكر والتأمل — إلى عالمٍ مادي عام — عالم الفعل والحركة! والمسرحية ليست منظومة، بل مكتوبة بنثرٍ يجمع بين الفصحى والعامية، ومع ذلك فإن مجاز الفعل فيها يرقى بها إلى مستوى الشعر الرفيع، ونرى في لحظة النهاية — لحظة إقبال البطل على الموت راضيًا — تجسيدًا ليأس الرجاء والأمل المحال!

إن الشاعر الذي يصل إلى لحظة الإدراك الشعري في رؤياه للوهم، يتحول هنا إلى شخصيةٍ درامية لا تستطيع أن تدرك الفارق بين عالم البراءة الذي تعيش فيه وعالم الواقع — عالم التجربة — الذي يغص بالأبالسة! وهل يمثل «الدرزي»، تلك الشخصية التي بالغ سمير سرحان في رسمها لإضفاء بعد أسطوري «استعاري» عليها، إلا الشيطان في ذلك العالم الذي تحكمه قوانين التجربة (أي إدراك وجود الشر وقبوله)، ولا مكان فيه للحالمين الأبرياء مثل الحاكم بأمر الله؟ إن تأملات الحاكم تضعه على مستوًى استعاري يقترب به من الرؤية الشاعرة التي أبدعها فاروق شوشة، فكلاهما يتساءل نفس الأسئلة اليسيرة في مظهرها المحالة في مخبرها!

إن للشعر ضروبًا منوعة، وأحدها هو الدراما ذات الدلالات الاستعارية، وللدراما ضروبٌ منوعة أحدها هو الشعر ذو الرؤى القائمة على اصطراع النوازع! والفيصل إذن ليس الشكل ولكنه جوهر الرؤية الذي قد ينساب هادئًا:

خفف الوطء ما أظن أديم اﻟ
أرض إلا من هذه الأجسادِ

ولكنه على هدوئه يصعقك بحقيقةٍ تعرفها حق المعرفة! فآدم من أديم الأرض (واسم آدم مشتقٌّ من الأدم)، وأديم الأرض يبتلع أبناء آدم، ولكن الصورة قاهرة هنا بسبب استخدام أبي العلاء لصورة ابن آدم الذي يسير على أجساد بني آدم! وقد تكون الصورة زاعقةً صارخة، مثل قول عمر أبي ريشة يصف الثري العربي الذي ينفق أمواله على الملذات الحسية، مطلعها:

صاحَ يا هند فرف الطيـ
ـبُ واشتعل الكأس وضج المضجع
منتهى دنياه نهد شرِشٌ
وفمٌ عذبٌ وجيدٌ أتلعُ
بدويٌّ أورق الصخر له
وجرى بالسلسبيل البلقعُُ!

ثم ينهيها بسخريةٍ لاذعة:

هكذا تُقتحم القدس على
غاصبيها هكذا تسترجعُ

ولكنها في كل حال تتضمن المفارقة التي تمثل ذلك الاصطراع الذي تحدثت عنه، وهل يجهل أحد المشهد الختامي في مسرحية «الخال فانيا» (لأنطون تشيكوف)، حين تعزي سونيا خالها في موقفٍ يجمع بين أخص خصائص الدراما وهي التورية الساخرة، وأخص خصائص الشعر وهو الصورة الحية متعددة الظلال والألوان؟

ولقد تخطى المسرح الحديث ما كان الكلاسيكيون يحتفلون به أيما احتفال، ألا وهو التقسيم الصارم للأنواع الأدبية، وليس بأهونها شأنًا الفصل بين أنواع الشعر! فالشعر الدرامي هو دراما شعرية، والمسرح الذي يزخر بالدلالة الاستعارية يأخذ من الشعر الكثير، بل كثيرًا ما وجدنا بعض السمات التي ارتبطت بألوانٍ أخرى من الشعر (الغنائي والقصصي والملحمي) تتسرب إلى المسرح، فبعض كُتاب المسرح ينسجون مشاهد ترقى في رفاهتها وإحكامها إلى مستوى الشعر الرمزي العميق، وإن كانت مكتوبةً بالنثر، وبعضهم يستمدون من خصائص الملحمة ما يضفي على شخصياتهم أبعادًا أسطورية تجعلها استعارية الدلالة، وبعضهم يجعل حواره رقيقًا متناغمًا كأنه قصيدةٌ غنائية رقيقة ناعمة!

لقد أصبح الشعر الحديث يلتقي مع المسرح الحديث في كل ثنية، على اختلاف الوسيلة اللغوية بعد أن كانا يجتمعان في الماضي على الوسيلة والنظرة والتحقيق! وإذا كنا نلجأ في مسرحنا إلى النظم، (وقد ذكرت في كتابٍ لي بعض أسباب إحياء المسرح الشعري لدَينا)، فإنما ينبع ذلك من إدراكنا أن الشاعرية لا بد لها أحيانًا من النغم الدفاق! ولذلك فإن أقصى ما أستطيع أن أحكم به على المسرحية التي أقدمها اليوم للقارئ هو أنها مكتوبة بالنظم، وأما الشعر فربما كان موجودًا في بعض الشخصيات أو المشاهد، وربما لم يكن موجودًا … فالناقد المحايد هو وحده القادر على إصدار مثل هذا الحكم!

أما عن فكرة المسرحية — إذا كان لكل مسرحيةٍ فكرة — فقد نبعت من تأمل بعض شخصياتي التي وجدتها فيمن أعرفهم من المصريين، أي إنها ابنة هذا الزمان لا ابنة التاريخ! وربما يكون في هذا جوهر ما أريد أن أقوله (أو ما يمكن أن أقوله) عن الفكرة أو الدلالة! فسوف يلاحظ القارئ إشاراتٍ إلى المقريزي، في غضون النص نفسه، فالمقريزي هو مصدري الأول ولا شك، ولكنني انتفعت أيما انتفاع بابن إياس، وكان كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور» أكثر من مرشدٍ وهادٍ في هذه الصحراء التي أضرب فيها، صحراء التاريخ الممتدة بلا نهاية! وإذا كنت أرجو أن يكون في المسرحية بعض شعر، فإنما أرجو أن يكون ذلك في الرؤية العامة لا في الأداة والوسيلة، فالرؤية لا تقوم على تاريخ الملوك، ويعلم الله كم أجهدت نفسي في قراءة التاريخ «الرسمي»، تاريخ الحكم والملوك (أو ما يُسمَّى بالتاريخ السياسي)، فما عثرت على ضالتي ولا رويت غلتي، وقد كانت المسرحية قد اتخذت شكلًا يختلف كل الاختلاف، عندما بدأت العمل الجاد فيها في صيف ١٩٨٤م بقراءة تاريخ المستنصر، وهو ما عثرت عليه بشق النفس في بطون كتب التاريخ التي تعالج الفترة العامة التي عاش فيها؛ إذ كنت أحاول اتباع الخيط الذي ألقاه الدكتور عبد الرحمن زكي، عن الشدة الكبرى أو العظمى في عصر المستنصر، ويبدو أنها فترةٌ ما زالت محوطةً بالألغاز والأسرار!

كان شكل المسرحية الأول يتناول المجاعة لا على مستوى الدولة ولكن على مستوى الناس، وكان مصدري الأول هو كتابات المؤرخين، وهي غير متوازنة، فالمؤرخون يؤرخون للدولة لا للناس! ومن ثَم وجدتُني في آخر ذلك الصيف أبتعد عن تصوري الأول تمامًا — وهو دراسة المجاعة كما صورها المقريزي — والاعتماد على بعض الفقرات التي استوقفتني في بعض الكتب؛ لكي أصحح بعض مفهوماتي عن تاريخنا القديم، وفي خضم اهتمامي بالمجاعة برزت قصة «مايسة» الفتاة التي يبهرها السلطان وتحلم بالعيش في القصور، فلا تستطيع أن تقاوم إغراء الزواج من الوالي، لتفاجأ بأنها جارية من جواري القصر، وبأن الحريم من حولها من مقتنيات الحاكم! برزت «مايسة» (أو مائسة) وشُغِلْت بها أيما انشغال، فهي نموذج معاصر وإن كانت الأموال قد حلت في هذا العصر محل الجاه والسلطان! وقد برزت مايسة لتزاحم الأبطال الأصليين — أهل القرية التي تبعد قليلًا عن القاهرة — ثم كانت لحظة اكتمال قصتها ذات مساء في روما، وقد كنت أقص طرفًا من أحداث المسرحية لصديقٍ عزيز، هو الأستاذ إسماعيل أبو زيد الذي تخصص في الفلسفة لا في التاريخ! وكانت تلك بداية المسرحية في الحقيقة، فهذا ما تفعله المجاعة بالناس، وهذا هو ما يفعله حكام الناس بالناس! إن مايسة مصرية مثل كثيراتٍ ممن أعرف، وهي تعيش في عصرٍ يختلف عن عصرنا، لكنه يلقي بظلالٍ كئيبة موحشة عليه؛ ولذلك فإن مايسة القديمة تعيش في كثيراتٍ من بنات القرن العشرين، أولئك اللاتي يبعن أحلامهن عندما تبرق بوارق الغنى في أفق الفاقة والضيق، ولا يكتشفن إلا بعد سنوات الذل والهوان، ذلك السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً!

ووسط انشغالي بقصة مايسة، توقفت عند الفقرة التالية من كتاب المقريزي «إغاثة الأمة بكشف الغمة»:

«ثم وقع غلاءٌ في خلافة المستنصر … في سنة أربع وأربعين وأربعمائة … وكان في كل سوقٍ من أسواق مصر، على أرباب كل صنعة من الصنائع عريف يتولى أمرهم … والأخباز بمصر في أزمنة المَساغب متى بردت لم يرجع منها شيء لكثرة ما يغش بها … وكان لعريف الخبازين دكان يبيع الخبز بها، ومحاذيها دكانٌ آخر لصعلوكٍ يبيع الخبز بها أيضًا … وسعره يومئذٍ أربعة أرطال بدرهم وثُمن، فرأى الصعلوك أن خبزه قد كاد يبرد فأشفق من كساده، فنادى عليه أربعة أرطال بدرهم، ليرغب الناس فيه، فانثال الناس عليه حتى بيع كله لتسامحه، وبقي خبز العريف كاسدًا، فحنق العريف لذلك، ووكل به عونين من الحسبة أغرماه عشرة دراهم، فلما مر قاضي القضاة أبو محمد اليازوري إلى الجامع استغاث به، فأحضر المحتسب وأنكر عليه ما فعل بالرجل، فذكر المحتسب أن العادة جارية باستخدام عرفاء في الأسواق على أرباب البضائع، ويقبل قولهم فيما يذكرونه، فحضر عريف الخبازين بسوق كذا واستدعى عونين من الحسبة، فوقع الظن أنه أنكر شيئًا اقتضى ذلك، فأحضر الوزير الخباز وأنكر عليه ما فعله وأمر بصرفه عن العرافة، ودفع إلى الصعلوك ثلاثين رباعيًّا من الذهب، فكاد عقله يختلط من الفرح، ثم عاد الصعلوك إلى حانوته، فإذا عجنته قد خبزت فنادى عليها خمسة أرطال بدرهم، فمال الزبون إليه، وخاف مَن سواه من الخبازين بردِّ أخبازهم فباعوا كبيعه، فنادى ستة أرطال بدرهم، فأدتهم الضرورة إلى اتباعه، فلما رأى أتباعهم له قصد نكاية العريف وغيظه بما يرخص من سعر الخبز، فأقبل يزيد رطلًا رطلًا والخبازون يتبعونه في بيعه خوفًا من البوار حتى بلغ النداء عشرة أرطال بدرهم، وانتشر ذلك في البلد جميعه، وتسامع الناس به، فتسارعوا إليه، فلم يخرج قاضي القضاة من الجامع إلا والخبز في جميع البلدة عشرة أرطال بدرهم … فلما رجع اليازوري إلى القاهرة وداره بها، مثل بحضرة السلطان وعرفه ما من الله به في يومه من إرخاص السعر وتوفر الناس على الدعاء له وأن الله جَلَّت قدرته فعل ذلك وحل أسعارهم بحسن نيته في عبيده ورعيته، وأن ذلك بغير موجب ولا فاعل له، بل بلطفه تعالى …»

وقد أوردتها هنا كاملةً حتى أُعفي القارئ من تعليقاتٍ وتفسيراتٍ لن تصل إلى بلاغة هذه الواقعة غير الفريدة في تاريخ مصر! فالواضح أن سبب انفراج الأزمة كما نقول اليوم لم يكن بالغموض الذي صوره الوزير (الذي يشار إليه أيضًا باسم قاضي القضاة لأنه كان قد ولي القضاء أيضًا)، ولا هو يعود إلى حسن نية الخليفة (وبغير موجب ولا فاعل له)!

وتؤيدها قصةٌ أخرى أوردها من المقريزي أيضًا:

«… عَظُم الأمر وكَظَّ الناس الجوع فاجتمعوا بين القصرين، واستغاثوا بالحاكم (بأمر الله) في أن ينظر لهم، وسألوه ألا يهمل أمرهم، فركب حماره وخرج من باب البحر، ووقف وقال: «أنا ماضٍ إلى جامع راشدة، فأقسم بالله لئن عدت فوجدت في الطريق موضعًا يطؤه حماري مكشوفًا من الغلة لأضربنَّ رقبة كل من يقال لي إن عنده شيئًا منها ولأحرقنَّ داره وأنهبنَّ ماله.» ثم توجه وتأخر إلى آخر النهار فما بقي أحدٌ من أهل مصر والقاهرة وعنده غلة حتى حملها من بيته ومنزله وشونها في الطرقات، وبلغت أجرة الحمار في حمل النقلة الواحدة دينارًا، فامتلأت عيون الناس وشبعت نفوسهم، وأمر الحاكم بما يُحتاج إليه في كل يومٍ ففرضه على أرباب الغلات بالنسيئة وخَيَّرهم في أن يبيعوا بالسعر الذي يقرره بما فيه الفائدة المُحتملة لهم، وبين أن يمتنعوا فيختم على غلاتهم ولا يمكنهم من بيع شيء منها إلا حين دخول الغلة الجديدة، فاستجابوا لقوله وأطاعوا أمره، وانحلَّ السعر وارتفع الضرر ولله عاقبة الأمور.»

ولا شك أن القارئ سوف يستهويه «الموقف» الذي يصوره المقريزي، وربما يعجب لأنني لم أنتفع به في مسرحيتي! لكنه «إذا كان من كُتاب المسرح» سوف يتبين على الفور أنني انتفعت به بصورةٍ غير مباشرة إذ بنيت على أساسه الحادثة الأساسية — وهي حادثة اختفاء القمح — مع ما فيها من المفارقة التي طالما شعرت بوجودها في تاريخنا الطويل: أي وجود الشيء وعدم وجوده! وكم أشفقت على مؤرخينا وأنا أخوض في خضم أحداث السنين في كتاب «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» لابن تغري بردي الأتابكي، فالإشارات مقتضبة إن لم تكن غامضة، وكتابات المؤرخين مُحيرة! وكم تمنيت على الله أن تُعاد كتابة هذا التاريخ من وجهة نظر شاملة نرى فيها الناس مثلما نرى الحاكم؛ إذ لا يكاد المرء يحس بوجود البشر وسط هذا العباب الطامي من المماليك والأتراك والوزراء والأجناد والأعيان من الأجانب، وأجد من المُتعذر تصديق ما تُوحي به الكتب ويؤكده الدكتور حسن إبراهيم حسن من «أن المصريين لم يعارضوا في تحويل طاعتهم من خليفةٍ عباسي إلى خليفةٍ علوي لأنهم كانوا يدركون الإدراك كله أن انتقال السلطة من عباسي إلى فاطمي أو من سني إلى شيعي ليس من شأنه أن يُحدث أي تغيير في حالتهم السياسية لأنهم سيخضعون في كلتا الحالتين لسلطان هذا الحاكم أو ذاك» (تاريخ الدولة الفاطمية، ص١٤٦-١٤٧). ويكفي للتدليل على ذلك ما تعج به كتب القدماء من إشاراتٍ غير مباشرة إلى مواقف «المعارضة» أو التأييد من جانب «العامة» وما يقوله هو في نفس الكتاب عن «إثارة سخط الأهلين»، وعن الاضطرابات والفتن؛ «إذ كان لا يزال هناك كثيرون يناوئون سياسة الفاطميين» (ص٣٤٩). وهو يقع في نفس خطأ المؤرخين الذين ينقل عنهم حين يورد الأحداث منفصلةً دون رابط بما كان يجري على مستوى الناس (أو ما نسميه الشعب اليوم)، فحادث تمرد رضوان بن الولخشي والي الغربية مذكورٌ في سياق غضب الناس على ازدياد سلطة الأرمن ولكنه محصورٌ في المصطلح القديم، فربما كان الأمراء هم الذين طلبوا العون حقًّا من رضوان بن الولخشي، ولكن الشعب هو الذي وقع به الضرُّ فاضطر الأمراء إلى طلب العون من والي الغربية، وهو يشير صراحةً إلى تذمر الناس بعد مصادرة أموالهم في عباراتٍ مقتضبة مثل «على الرغم مما أظهره الناس من سخطٍ عليه» (ص١٧٧)، أو «إلى درجةٍ أقلقت بالهم»، وما إلى ذلك، وهل يعقل أن يجمع رضوان «ثلاثين ألف رجل» فيسير بهم إلى القاهرة لقتال بهرام الأرمني إلا إذا كان الرجال مستعدين لقتاله؟ إن مؤرخي اليوم يتكلمون عن حروب الأمس بمفهوم الجيش العصري حيث تحارب الأسلحة الحديثة بعضها بعضًا، وينتصر بعضها على البعض! وحيث يُجند الشباب ويُرسلون إلى ميدان القتال شاءوا أم أبوا وآمنوا بالقضية أم كفروا! ولكن الحرب في تلك الأيام كانت تدور بين الرجال وبين العزائم والهمم! ولا أتصور أن تستطيع فئةٌ قليلة أن تغلب فئةً كثيرة إلا بالهمة العالية والعزم الوطيد («بإذن الله» يتلوها في الآية ذكر الصبر، وهذا هو ما أعنيه)، فالسيف يقارع السيف والوجه يبصر الوجه، وما الالتحام إلا التقاء اللحم باللحم! إن المصريين الذين يستطيعون أن يتصدوا لجيش الخليفة الفاطمي بعد أن ألقى الله في قلبه الرعب رجالٌ يؤمنون بقضيةٍ ويدافعون عن مبدأ، ويكفي أن تقرأ وصف ابن القلانسي في كتابه ذيل تاريخ دمشق (طبعة بيروت ١٩٠٨م) للقتال بين أفتكين والحسن القرمطي من ناحية والعزيز وجوهر الصقلي من ناحيةٍ أخرى لتدرك مدى الطابع الإنساني بل والشخصي الذي كان يميز معارك تلك الأيام (ص ١٨ وما بعدها)، وانظر أيضًا المقريزي «المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، الجزء الثاني، بولاق ١٢٨٠ﻫ»، لتجد مزيدًا من التفصيلات عن سير المعركة، وإني لأعجب للكتاب والأدباء (وليس كتاب المسرح فقط) كيف لم يتناولوا هذه الأحداث في أعمالٍ أدبية! (تمامًا مثلما تعجب طه حسين في «ألوان» عندما تعرض للقرامطة).

ودون أن أطيل على القارئ أقرر أن ما يسجله المؤرخون حيٌّ وقائمٌ بيننا، وأنني أراه في قلب المصري الصميم، وأنني عشته في صباي في بلدتي التي تقع في قلب الريف، فرأيت فيه وفيها مدخلًا لحقائق التاريخ! وأقرر أيضًا أنني لا أتمسك بذكرى ضاعت وانمحت عن الريف المصري، أي أنني لا أتعلق بماضٍ غرب عن الوجود واختفى، ولكنني أجد في أعماق الناس، ما كانوا عليه وما أصبحوا فيه حقائق تشير إلى الواقع الذي أحاول «الإمساك به» في مسرحيتي! إن المصري (الفلاح وساكن المدينة على حدٍّ سواء) لم يغِب لحظةً واحدة عن التاريخ بل إنه يصنع التاريخ ويحركه! إنه (صابرًا وثائرًا) القوة التي تكمن داخل هذا البلد! ومن هذه الرؤية نسجت الخيوط التي تستلهم التاريخ ولا تسجله.

وإذا كان لا بد من كلمةٍ ختامية عن الشكل، فيكفي أن أقول إنني تعمدت ألا أتقيد بشكلٍ دون غيره، أي إنني لم أضع لنفسي حدودًا خارجية لا أتعداها بل تركت شخصياتي تعيش كما يحلو لها، مما اقتضى عدة أشياء أذكرها الآن بعين الناقد لا بعين المؤلف، أهمها أن المسرحية خرجت في صورتها الأولى أقرب إلى المسرح التجريبي الذي يعتمد على الراوي واللقطات المستمدة من أعماق التاريخ الذي لم يُكتب، في زمنٍ غير محدد، وإن كنت أحيانًا أحدده من خلال الأحداث، فخرجت المسرحية قصيرةً سريعة لاهثة، أقرب إلى قصيدةٍ حوارية منها إلى مسرحيةٍ شعرية! ولكنني كنت فرحًا بها لأنني استطعت أن أكسر الرتابة التي يمليها النظم التقليدي والبحور المركبة، واستطعت أن أحقق غايتي، وهي الإيحاء بأن هذا النظم طبيعي أي يحتمل أن يقوله الناس (وأبطالي من الناس) أساسًا عن طريق تغيير البحر مراتٍ كثيرة (ولو أنني لم أسمح للحظةٍ نفسية أن تخرج بأكثر من إيقاع؛ ولذلك فالتغيير يتبع الحالات النفسية ويعتمد على تغيير المتحدث)، وأيضًا بالزحاف الكثير، ومن هذه الأشياء أيضًا تجنب ما ارتبط في الأذهان من علاقةٍ محتومة بين الشعر والبلاغة التقليدية، فلم أحاول التزييف للتزيين، ولم ألجأ عامدًا (حسبما أعلم) إلى فرض المصطلح الشعري التقليدي على الناس الذين أعرف كيف يتكلمون ويفكرون.

وقد نشرت المسرحية في صورتها الأولى في مجلة إبداع (عدد يناير ١٩٨٦م) وأثارت ردود فعل مختلفة أهمها ما أثاره الأستاذ محمود الحديني — الفنان القدير — من أن التوازن مفقودٌ فيها بين السرد والحركة، أي إن ثمة حاجةً إلى استبدال الحركة الدرامية المألوفة بما يقوله الراوي حتى تتجسد على المسرح دون عناء، وما ذكره أستاذنا الدكتور عبد القادر القط من أنني لم أستغل وسيلة «الشعر» في إخراج شعر «بالمعنى المفهوم» وأن المسرحية «كلها حوار».

أما وجهة النظر الأخيرة فأعتقد أنني توليت الإجابة عنها في الجزء الأول من هذه المقدمة، وأما وجهة النظر الأولى فقد أخذت بها وأعدت قراءة المسرحية بعينٍ جديدة (بعد أن انقضى عام كامل تقريبًا على كتابتها)، ووجدت أن الأستاذ الحديني مُحق! ودهشت لنفسي وأنا أندمج ثانيًا في حياة مايسة وزهير وسمراء، ووجدت عددًا من أهل بلدتي يلتحقون بهم، شخصيات أعرفها حق المعرفة مثل مقرور وطابوني، ووجدتني أعود للكتابة من جديد بحماسٍ بالغ، وفي فترةٍ قصيرة اتضحت أبعادٌ جديدة للشخصيات والأحداث دون أن أغير من مفهومي الأول للحدث الدرامي و«الاستعارة» الكامنة فيه، وهكذا أضفت مشاهد جديدة وأعددتها في صورتها الحالية للتمثيل على المسرح.

وأخيرًا، فأرجو أن أكون قد قدمت مسرحيةً منظومة بها قدر من الشاعرية (حسب المفهوم الذي حددته) بلغة أهل هذا العصر، لأهل هذا العصر، وإن لم تكن عن أهل هذا العصر!

(٢) الصورة الفنية في المسرح الشعري

يقول ت. س. إليوت٢ إن كان للدراما أن تكون دراما شعرية حقًّا … فينبغي أن نتوقع من شاعرٍ مسرحي مثل شيكسبير أن يكتب أجمل شعره في أعمق المواقف الدرامية … وهذا هو الحال تمامًا، أي إن العوامل التي تجعل الشعر شعرًا رائعًا هي نفس العوامل التي تجعله دراميًّا عميقًا، وهكذا لا تجد من يشير إلى أن بعض المسرحيات أكثر شاعريةً من سواها، وإلى أن البعض الآخر أعمق من الناحية الدرامية، فالمسرحية بالغة العمق والشاعرية في الوقت ذاته، وليس هذا ثمرة التقاء لونين من ألوان النشاط الفني الخلاق، بل ثمرة لنفس النشاط الذي ينتج الشعر والدراما في الوقت ذاته.

وبهذا التوحيد بين النشاط الذي ينتج الشعر والنشاط الذي ينتج الدراما يشير إليوت إلى مبدأ هام: هو وحدة الحدس الفني، والوسيلة التي ينتقل عن طريقها هذا الحدس، فالشعر في المسرح ليس مجرد لغة أو وسيلة لغوية يطوعها الشاعر لمقتضيات مسرحيته من شخصياتٍ ومواقف … إلخ، وإنما ينبع الشعر أساسًا من «التصور الدرامي» الذي يتعهده الفنان حتى يتضح ويتبلور في صورته النهائية، وإذن فليس من المحتوم أن يكون الشعر المسرحي شاملًا للخصائص التي نعهدها في الشعر الغنائي أو القصصي مثلًا، وإنما المحتوم حقًّا هو أن يكون جوهر الدراما الشعرية شعرًا، أي شعر النفوس الحساسة، القادرة على بلورة أحاسيسها، وشعر المواقف التي تلتقي فيها المشاعر المتجانسة أو المتناقضة، وشعر الإيحاء النابع من رمزٍ خاص، وكل هذا يحتم أن تكون وسيلة الحدس الشعري لغةً شعرية.

وإليوت — بصفته شاعرًا وكاتبًا للمسرح الشعري — يؤكد في مقالٍ سابق على هذا٣ ضرورة إيجاد معنًى جديد لكلمة «بلاغة»، فيؤكد تلك الوحدة بين الحدس الفني والوسيلة قائلًا: «إن كلمة بلاغة، إحدى الكلمات التي يجب على النقد أن يحللها ثم يعيد تحديد معناها.» ويقول إننا يجب أن نتجنب المعنى الذي توحي به من أنها وسيلة من وسائل التعبير، وأن نحاول أن نجد بلاغة مادة أيضًا، أي بلاغة فكرة أو شخصية أو موقف … إلخ، فهذه هي البلاغة الصائبة؛ لأنها تنبع وترتبط بما تعبر عنه، وحين يعود إليوت للحديث عن الشعر والدراما٤ يعود لتأكيد نفس فكرته فيقول إن النظارة لا ينبغي أن يشعروا بالوسيلة اللغوية التي تكتب بها المسرحية — شعرًا كانت أم نثرًا — لأن الوسيلة جزءٌ لا يتجزأ من الحدث الدرامي والمواقف بين الشخصيات وأحاسيسهم، ومن ثَم نجد أن دراستنا للمسرح الشعري ليست دراسةً ذات شقين كما يبدو لأول وهلة، فهي ليست دراسة للدراما أولًا، ثم للشعر ثانيًا أو العكس، وإنما هي دراسة للدراما الشعرية بصفتها «دراما شعرية»، أي نوعٌ أدبي مستقل لا تنفصل فيه الدراما بكل خصائصها عن الشعر بكل خصائصه.

دور الشعر في التراجيديا

وقبل أن نناقش دور الصور الفنية في هذا الشعر الدرامي مثلما ناقشه الكثيرون في الشعر الغنائي أو القصصي، يحسن أن نلقي بالضوء أولًا على طبيعة المسرح الشعري كما تبدو لنا في روائع المسرح الكلاسيكي، سواء عند اليونان والرومان، أو في الآداب الحديثة، وبخاصة عند شيكسبير. وأمام هذا المشهد العريض الغاص بالمشكلات يحسن أيضًا أن نقصر بحثنا على فنٍّ مسرحي واحد هو فن التراجيديا، وهنا نبدأ بالتساؤل عن دور الشعر في التراجيديا … ما العلاقة بينهما باعتبارهما فنَّين مستقلَّين؟ وما العلاقة الجديدة إذا كانا فنًّا واحدًا هو التراجيديا الشعرية؟ هل هناك خصائص شعرية مثلًا في الشخصيات التراجيدية أو في المواقف والأحداث التراجيدية التي تستتبع أن تكتب التراجيديا شعرًا؟ وإذا كان هذا صحيحًا فما هو الدور الجديد الذي تلعبه الصور الفنية في الشعر الدرامي، والذي لا بد أن يختلف عن دورها في الشعر الغنائي مثلًا؟

تقول إديث هاملتون٥ إن ساحة التراجيديا تنتمي جميعها إلى الشعراء «فهم وحدهم الذين يستطيعون … أن يصوغوا من أنغام الحياة المتنافرة لحنًا واحدًا متميزًا، ولا يستطيع كتابة التراجيديا سوى شاعر، فما التراجيديا سوى ألم حولته كيمياء الشعراء إلى سموٍّ خالص.» وتعرض إديث هاملتون للعلاقة بين التراجيديا والشعر مؤكدةً أن أشخاص التراجيديا يتسمون أساسًا بأنهم ذوو نفوس شاعرة، وأنهم قادرون على تحمل الألم، وعلى المعاناة بصورةٍ أعمق من معاناة أي شخص عادي، فتقول: «إن التراجيديا ملكة متوجة، لا يدخل مملكتها إلا من ينتمون إلى الطبقة الراقية الحقيقية الوحيدة، طبقة ذوي النفوس الشاعرة، فإن الشخصية التراجيدية ذات نفس قادرة على الإحساس بعمقٍ وشمول، فإذا توفرت هذه النفس كانت أي كارثة تصيبها كارثة تراجيدية، ولو أنك زلزلت الأرض وألقيت الجبال في قاع البحر ثم لم تقدم سوى النفوس الضحلة أو التافهة لما خلقت تراجيديا على الإطلاق … بل إن الموت نفسه ليس موضوعًا تراجيديًّا … سواء كان موت من يتمتعون بالجمال أو بالشباب، أو كانوا عشاقًا أو معشوقين … فهو لا يصبح موضوعًا تراجيديًّا إلا إذا واجهته نفس تحسه وتعانيه، مثلما أحسه «ماكبث» وعاناه، ومثلما أحسه الملك «لير» أمام موت ابنته كورديليا … إن تصارع قانون الإله مع قوانين البشر ليس مصدر التراجيديا في مسرحية «أنتيجوني»، وإنما تكمن التراجيديا هنا في شخص «أنتيجوني» نفسها، في عظمتها وشدة ألمها، وكذلك نرى أن تردد هاملت في قتل عمه ليس تراجيديا، ولكن مصدر التراجيديا هو قدرة هاملت على الإحساس، ومهما غيرت أحداث المسرحية، أو رميت بهاملت في قبضة أي كارثةٍ أخرى لظل كما هو؛ شخصية تراجيدية … إن التراجيديا هي معاناة نفس قادرة على المعاناة البالغة؛ هذه هي التراجيديا ولا شيء سواها.» وإذا سلمنا بصحة هذا المفهوم الحديث أي إن شعر التراجيديا ينبع من طبيعة الشخصية التراجيدية، فيجب أن نذكر أيضًا رأي البروفسور كليفورد ليتش من أن مصدر الشعر في التراجيديا هو طبيعة «الرؤيا التراجيدية» التي تخلق مواقف بالغة التوتر، نتيجة للصراع الناشئ بين إرادة الإنسان وكبريائه وبين إرادة الآلهة أو القدر الذي يفرض إرادته هو الآخر، فإن هذا الصراع المتكافئ الذي يحتم التوتر إما في الشخصية أو الموقف يحتم أيضًا أن تكون وسيلة التعبير شعرًا؛ لأنه كما يقول إليوت: «لا يكون الشعر شعرًا إلا حين يصل الموقف الدرامي إلى حدٍّ من العمق والتركيز يصبح معه الشعر الوسيلة اللغوية الوحيدة للتعبير الطبيعي، فهو في هذه الحالة اللغة الوحيدة التي يمكن بها التعبير عن العواطف.»٦ وإذن فإن ليتش ينتهي من مقاله قائلًا:٧ «لم تتخلَّ التراجيديا منذ نشأتها عن ثوبها الحق الذي اعتدنا أن نراها ترتديه؛ وهو الشعر، فإن اتزان عنصري الكبرياء والرعب، ينشأ عن تعارض قوًى متكافئة مصرة على الانتصار، ومن ثَم نرى أن التراجيديا تتسم بتوترٍ شديد … وإذن فلكي يستجيب ذهن المتفرج لهذه الرؤيا الخاصة المتوترة الخيوط … ينبغي أن تكون اللغة محكمة الصنع والبناء، ومن ثَم يجب أن تكتب التراجيديا شعرًا.»

مفهوم الصورة الفنية

ولكن ماذا عن أمر الصورة الفنية في هذا الشعر الدرامي، أو الدراما الشعرية؟ إن لفظة «صورة» تعني أحد أمرين؛ أولهما هو الذاكر الواعي لمدرك حسي سابق، كله أو بعضه في غياب المنبه الأصلي للحاسة المثارة، أي استرجاع منظر رآه الإنسان أو صوت سمعه … بعد أن يبتعد عنه ويزول أثره المباشر على الحواس، وقد يكون التذكر شاملًا للمنظر أو الصوت أو قاصرًا على جزءٍ أو أجزاء منه.

وثانيهما هو مفهومها في الفن الذي إما أن يخصصها فيعدها مرادفةً للتعبير المجازي أو الاستعاري، أو أن يعممها ويتوسع في نطاق دلالتها فيعني بها التعبير عن تجربةٍ حسية نقلت بطريق البصر أو السمع أو الشم أو اللمس أو الذوق، أي إن بعض هذه الحواس أو كلها مجتمعةً تدرك عناصر التجربة الخارجية فينقلها الذهن إلى الشعر بطريقةٍ من شأنها أن تثير في صدقٍ حيوية الإحساس الأصلي، وفي ظل هذا المفهوم قد تكون الصورة الواحدة تسجيلًا لإحساسٍ مفرد.

وإذا اعتبرنا «التصوير الفني» مرادفًا للتعبير المجازي أو الاستعاري كانت الصورة الفنية تعني أي شكلٍ من أشكال التشبيه أو الكناية أو الاستعارة بأنواعها.

ويلتقي كل النقاد الذين تعرضوا للصورة الفنية في الشعر عند هذا المفهوم الأخير، فكتاب س. داي. لويس «الصورة الشعرية» يتناولها على هذا الأساس، وكذلك يتناولها غيره ممن تعرضوا للموضوع،٨ والحقيقة أن تناولها على هذا الأساس في الدراما الشعرية أمرٌ بالغ الحساسية؛ إذ إنه يعتمد على أن الشخصية الدرامية لا بد أن تتوفر لها صفات خاصة حتى تستطيع أن تخلق هذه الاستعارات أو تتحدث بلغة المجاز التي لا يعرفها في الفن سوى الشعراء أو من ينحو نحو الشعر في سائر الفنون الأدبية، ولو تصورنا أننا نستطيع — في ضوء مفهوم الشخصية التراجيدية ذات النفس الحساسة الشاعرة — أن نجد أشخاصًا قادرين على التعبير بالصور، فأي مواقف تستتبع التعبير بالصور، وأي أحداثٍ خاصة … بل وأي فكرةٍ أو موضوع؟

إن أبرز من تناول هذا الموضوع وهم الدكتورة كارولين سبيرجون، في كتابها «الصورة الفنية في مسرح شيكسبير ودلالاتها»، والدكتور و. ﻫ. كليمين في كتابه «تطور الصور الفنية عند شيكسبير»، والدكتور كلينث بروكس في مقاله «الطفل العاري وعباءة الرجولة» الذي نشره في كتابه «إناءٌ محكم الصنع»، إن هؤلاء قد تناولوا الموضوع (بالنسبة لشيكسبير) من معظم أطرافه، وأعتقد أن الجوانب التي لم يطرقوها واكتفوا بالتلميح إليها لا تزال في حاجةٍ إلى الدرس الكثير.

الصورة الفنية ورسم الشخصية

أما بالنسبة لدور الصور الفنية في خلق الشخصية، ودور الشخصية في تحديد لون الصورة الفنية مصدرًا وشكلًا ودلالة، وعلاقة هذا كله بالجو العام للمسرحية وباقي الشخصيات والأحداث، فإن أصدق مثل على ذلك مسرحية «الملك لير»، ففي هذه المسرحية نجد محورين يدور حولهما الحدث، وبناء الشخصيات … أما الأول فهو محور الملك «لير» نفسه و«المهرج» و«إدجار» و«كنت»، فهؤلاء هم وحدهم الذين يعرفون التصوير في حديثهم، والذين تستطيع مخيلاتهم أن تخلق الصور الفنية، مع تفاوتها عند كل منهم بطبيعة الحال، والمحور التالي يضم «أدموند» و«جونريل» و«ريجان» و«كورنوول»، فهؤلاء لا يستطيعون أن يعملوا عقولهم في خلق صور أو حتى في التصور الخلاق لأي شيء، فهم واقعيون جامدون لا يعرفون إلا ما يقع في نطاق تجربتهم الفعلية المباشرة.

يقول الدكتور كليمين٩ إن الحدث في مسرحية «الملك لير» يعتمد على الصور الفنية، وتعتمد هي عليه إلى درجةٍ مذهلة، حتى إن الحدث ليستمد بقاءه وكيانه من طبيعة الصور وأشكال صياغتها وعلاقتها بأشخاص المسرحية. ولكي نفهم ما يعني بذلك يجب أن ندرس وظيفة الصور هنا عند المحور الأول من الشخصيات، وكيف تختلف عن وظيفتها لدى المحور الثاني، وكيف يؤثر ذلك في بناء الحدث وطبيعته، وبخاصة في خلق شخصية الملك لير.

كانت الصور الفنية في المسرحيات السابقة على «الملك لير»، تستخدم إما للتمثيل، أو باعتبارها «لقطات» استعارية تنصهر في تيار الفكرة، فتعبر عن لحظات التركيز الدرامي أو توضح المواقف المعقدة، أما في هذه المسرحيات، فنحن نلاحظ أن الصور تبدو مستقلةً بعضها عن البعض وعن الحدث الخارجي، فكأنما خلقت لذاتها، فالملك يدفع إلينا بصورةٍ بعد أخرى، كأنما هي رؤًى مباشرة مستقلة، ثم هو — إلى ذلك — يعتمد اعتمادًا يكاد يكون كاملًا، على الصور الفنية في تعبيره.

ويتضح لنا سبب ذلك إذا اقتفينا تطور الملك لير منذ المشاهد الأولى للمسرحية، فنحن نراه أول الأمر ملكًا يباشر سلطانه، ولا يزال من ثَم عضوًا في مجتمعه، يتخذ القرارات ويعطي الأوامر ويضع الخطط ويخاطب الشخصيات الأخرى التي تشترك معه في المشهد (بناته و«كنت» و«فرانس» إلخ) ومع ذلك، فإننا لا نخطئ في هذا المشهد البذور التي تشير لنا إلى فقدان «لير» للعلاقة الطبيعية بمجتمعه وبيئته، فالحوار الذي يجريه مع بناته ليس في الواقع حوارًا حقيقيًّا، إنه حوارٌ قائم على «الإرادة المتبادلة»، «والتفاهم المتبادل»، أي إن الملك لير يقرر مقدمًا الإجابات التي يريد أن يتلقاها، ويفشل في أن يكيف نفسه حسب الشخص الذي يحادثه؛ ولهذا لا يستطيع أن يفهم ابنته كورديليا على الإطلاق؛ إذ إنه لا يتجشم عناء فهم ما تريد أن تقوله، ولا يحاول النظر في احتمال دلالة كلماتها على معانٍ مختلفة، لأنه كان يتوقع إجابةً أخرى، ونتيجةً لذلك نراه ينبذ أقرب الناس إليه وأحبهم إلى قلبه في الحقيقة.

ويزداد فقدان الملك لير للعلاقة أو الصلة بالعالم الخارجي شيئًا فشيئًا، ولا تعود الكلمات بالنسبة إليه وسيلةً للاتصال بالآخرين، بل وسيلة للتعبير عما يجول بنفسه هو، وإذن فإن كل ما يقوله — ولو كان موجهًا إلى الآخرين — يتخذ شكل المونولوج، ويفقد صلته شيئًا فشيئًا بالحوار الدرامي، على الرغم من أن «لير» ليس من طبيعته أن يتوسل بالمونولوج في حديثه على الإطلاق.١٠
ومن هنا ينشأ ثراء حديثه بالصور، بينما تعبر الصور أيضًا عن خطوات ابتعاده عن العالم الخارجي، وعلى حين نشهد في المسرحيات الأخرى أن المونولوج هو أشد الأشكال الحوارية ثراء بالصور،١١ نجد أن الملك لير ذو مونولوجات خاصة به، على ابتعادها عن الشكل التقليدي للمونولوج، إنه يتطلع إلى باطن ذاته فحسب، فلا يستطيع أن يرى الناس أو ما يجري من حوله، ولطالما رأينا الجنون يدفع المرء إلى الانفراد بذاته، والحديث إلى نفسه لا إلى الآخرين، وإذا لم يتحدث المجنون إلى نفسه خلق شخصًا في خياله حتى يحادثه ويجاذبه تأملاته، ونحن نرى «لير» يتحدث إلى أشخاصٍ لا وجود لهم، وإلى عناصر الطبيعة التي تصحبه، وإلى الطبيعة بعامةٍ أحيانًا، بل إلى السماء وقواها … لقد نبذه البشر، وإذن فليتحول إلى غير البشر، وإلى القوى غير البشرية أو الخرافية، وهنا نجد أن الصور الفنية هي العامل الأساسي الذي يربط لير بعالمه الجديد؛ إذ إن إحدى وظائفها هنا هي إيقاظ تلك القوى الطبيعية، وتمهيد الطريق لها حتى تلعب دورها في المسرحية.
وإذا نظرنا إلى مجموعة الشخصيات المقابلة للملك لير وأصحابه، وجدنا أنهم نادرًا ما يستخدمون صورةً فنية واحدة، وأن لغة هؤلاء تختلف اختلافًا جذريًّا عن لغة لير، فعلى العكس منه لا نجد بينهم ذلك الشكل الخاص من «الحوار المونولوجي»، فهم يتحدثون في تعقل، ويتناقشون بطريقةٍ منطقية واعية، إن لديهم أهدافًا يبغون تحقيقها، ومن ثَم فكل ما يقولونه موجه هذه الوجهة، ولغتهم لا تفصح لنا عن مكنونات نفوسهم في شكل «الرؤى الخيالية»، وإنما تفصح فحسب، عن أهدافهم ومواقفهم، والوسيلة التي يحاولون بها تنفيذ هذه الأهداف، كما أن لغتهم لا تكاد تختلف على مدى تطور المسرحية، بينما تختلف لغة «لير» وأصحابه من موقفٍ لآخر. إن «جونريل» و«ريجان» و«إدموند» قد شغلوا أنفسهم بالحساب والتدبير،١٢ فوسمهم البرود والافتقار إلى الخيال، ومن ثَم الافتقار إلى الصور «الخلاقة»، ولا علاقة لهم بالطبيعة أو بقوى العناصر الطبيعية، إن دنياهم دنيا عقل وتعقل؛ ولذلك لا تخرج أحاديثهم عن النطاق الضيق لخططهم بينما تتعدى لغة لير هذه الحدود، ولا تعترف بها على الإطلاق.

تعتبر الفصول الوسطى الثلاثة، أغنى فصول المسرحية بالصور الفنية، فهنا تقل أهمية الحدث الخارجي، بل يتراجع هذا الحدث إلى خلفية المسرحية ولا نعود نهتم كثيرًا بخطط «ريجان» و«جونريل»، أو بما ينتوي «إدموند» أن يدبر من خطط، بل ينصبُّ اهتمامنا أساسًا على أحاسيس الملك لير نفسه. لقد تحولت الدراما الخارجية هنا إلى دراما داخلية، وتحولت الحوادث إلى مجرد إطارٍ يهيئ الظروف للتجربة النفسية الداخلية العميقة حتى تعيش حياتها الحقيقية.

ويقول الدكتور كليمين إن شيكسبير لم يعالج الحدث الخارجي بنفس الدقة والعناية اللتين عالج بهما معظم حبكات مسرحياته (من ناحية البناء)، ويقول برادلي١٣ إن الحبكة تضم بعض المتناقضات ولا تتم بصورةٍ واضحة، وهذا يذكرنا بقول جيته — شاعر الألمانية الكبير — إن الحدث في الملك لير غاصٌّ بالمستحيلات، بل وغير معقول.

ولكننا لا نورد هذه الأقوال للحط من شأن الحدث أو التقليل من أهميته، بل لنبرز أن الحدث الحقيقي، أو الدراما الحقيقية في المسرحية، هي الدراما الداخلية لا الخارجية، فاهتمامنا مركز على معاناة لير وأحاسيسه، وعلى الرؤى التي تنثال على بصيرته وخاطراته الدفينة، فالجنون الذي يمر به لا يجعل لعينَي جسده قدرةً عادية على البصر بالأشياء الظاهرة، بينما يجعل لعين بصيرته قدرةً خارقة على النفاذ إلى جوهر أحاسيسه في علاقاته الجديدة بالعالم الخارجي الذي كان يظن أنه يعرفه، لقد انتفى عمل عينيه الجسديتَين، وبدأ عمل عينيه الخفيَّتين، فارتد بصيرًا، وهذه المفارقة يجسدها جلوستر في قوله: «كنت أتخبط عندما كنت بصيرًا.» أي إنه لم يعرف الإبصار إلا عندما كُف بصره، ومن الطبيعي إذن أن لير — وقد انتهى إلى هذا — لا بد أن يجد في «الصور الفنية» الوسيلة الوحيدة القادرة على تجسيد تجربته الداخلية …

لم يعد لير حقًّا يصف ما يقع في نطاق حواسه، ولم يعد يحادث الناس بالصورة المألوفة للحديث، لم يعد له سوى الرؤى، وهل هناك أشد ملاءمةً لهذه الرؤى من الصور الخيالية الخلاقة؟

إن لير يتحدث عن الحيوانات والأمراض والعذاب والجنة والجحيم، والطبيعة وروحها وآلهتها … إلخ، ويصنع من هذا جميعه خليطًا عجيبًا لا صلة له بالحوادث العادية للمسرحية، وإذا تذكرنا قوله:

إنك تخطئ إذ تنتزعني من القبر،
فأنت روحٌ هائمة في جنات النعيم،
أما أنا، فمشدودٌ إلى عجلةٍ من نار،
وإن دموعي لتكوي خدي كأنها رصاصٌ مصهور.

استطعنا أن نعرف أي عالم هذا الذي يصوره «لير».

الصورة الفنية والحدث

إذا ذكرنا تعليقات «كولريدج» و«سوينبرن» على «عمومية الحدث» أو عالميته، أي خروجه عن النطاق المحدود للشخصيات وفعالهم، وجدنا أن الصور الفنية تلعب دورًا أساسيًّا في تأكيد هذا العنصر من عناصر المسرحية، يقول برادلي: «إن ثمة إحساسًا يتملكنا ونحن نشهد الملك لير بأن هذا الحدث عامٌّ كوني، وأن الصراع لا يقتصر على أشخاصٍ بعينهم، وإنما يرمز لصراع قوى الخير والشر في العالم، أي أن حوادث البشر في المسرحية تتصل اتصالًا وثيقًا بأحداث العالم الكبير من حولهم، وأن معاناة «لير» الشخصية تخفي معاناة العالم كله من ورائها، وأن انقطاع الصلة بين لير وبناته يعكس انهيار كل الحدود الثابتة في الكون.

ومهما كان من أمر هذا الرأي، فإن الصور الفنية في المسرحية تعبر عن شمولٍ لا شك فيه يميز الحدث، ويرمز إلى أن الأحداث البشرية المحدودة مرتبطة بأحداثٍ كونية جبارة، فإن قوى الطبيعة، وظواهر الكون الكبير، ليست متعلقةً بحوادث البشر، بل ذات وجود مستقل وقوة ذاتية هائلة تقتحم بها حياة هؤلاء الأشخاص ونفوسهم، فتشاركهم فيها، وتلعب بهم وعن طريقهم دورًا كبيرًا في المسرحية. إن عالَم الطبيعة بقواه وعناصره وحيوانه ونباته وكل ما فيه ليس هنا «جوًّا» أو «خلفية» للمسرحية، بل عالمٌ خاص قائمٌ بذاته، يفرض وجوده حين ينهار عالم البشر ويتحطم؛ إذ إن الفتاتَين تطردان أباهما، ويضطهد الأب ابنه، ويحطم الجنون النظام البشري … لقد تمزقت الأواصر المتينة التي يربطها الدم، وتحطمت قوانين المجتمع البشري، وإذن فإن القوى غير البشرية مثل قوى السماء، والبرق، والرعد، والأمطار والريح، والحيوان والنبات تدخل إلى المسرح في تنوعٍ ثري، ولا يستطيع أحدٌ أن يتجاهل العلاقة المتبادلة بين هذه جميعًا وبين الإنسان في بناء المسرحية، فالفصل الأول لا يشتمل إلا على صورٍ محدودة مستمدة من الطبيعة، وفي الفصل الثاني تبدأ هذه الصور في النمو والازدياد، ثم تصل إلى الذروة في الفصلين الثالث والرابع حين يصاب «لير» بالجنون، ويتخلى عنه الجميع تقريبًا.

الصورة المتكررة

وتلعب الصور الفنية دورًا هامًّا في خلق جو خاص للمسرحية، يسهم في تحديد مسير الأحداث، ويلقي بالضوء على الجوانب الخفية في الشخصيات، وهذا الجو تخلقه الصور المتكررة التي تعاود الظهور بين حينٍ وآخر، فتبعث بإشعاعاتها في جوانب المسرحية وتكاد تعطيها طعمًا خاصًّا.

وقد تعني الصور المتكررة إعادة التعبير عن فكرةٍ أو مشهد في صورٍ مختلفة، فكأننا نشهد لحنًا يتكرر في أشكالٍ مختلفة، مؤكدًا خيطًا من خيوط الحدث أو الشخصية، فنحن نجد في روميو وجولييت مثلًا أن الصورة السائدة هي صورة الضوء في مشهد الشرفة الشهير، وفي مشاهد الفجر والغروب، وفي غيرها من المشاهد الحساسة في المسرحية، بينما نجد في هاملت صورة تحلق في المسرحية كلها — وهي صورة المرض — وبخاصة صورة مرض خفي يصيب جسدًا صحيحًا فيحطمه … وهذه الصور تحمل دلالاتٍ رمزية تعني الكثير إذا حاولنا إدراك كل ما توحي به المسرحية الشيكسبيرية، فنحن نستطيع أن نسميها صورًا ثانوية تحتويها الصور الأصلية، ونستطيع أن نضعها في مكانها في الإطار العام للمسرحية، ولكننا لا نستطيع أن نتغاضى عنها مطلقًا، ويجب أن نوليها من التفسير ما تستحقه.

ويمثل لهذا الجو الذي تخلقه الصور — سائدةً كانت أم ثانوية — صور الموسيقى المتكررة في معظم أجزاء «تاجر البندقية»، إن هذا الجو لا تخلقه «الصور الفنية» بمعناها «المحدد دائمًا»، ولكنها مع ذلك توحي به وتعمقه، فنجد أن الموقفين المشحونين بالعواطف والحب الرومانسي المحلق، تصحبهما الموسيقى وتمهد لهما، بل وتقدم كلًّا منهما، فنكاد نحس عذوبة ألحانها مترددة خافقة فيهما، كأنما يرجعان صداها أو كأنما ترجع هي صداهما.

لورنزو : … صديقي استيفانو … أرجوك أن تخبر من بالمنزل أن سيدتك حضرت،
وأحضر لنا هنا من ينفث الموسيقى في الهواء من حولنا.

(يخرج استيفانو.)

ما أرق ضوء القمر النائم على هذه الربوة!
فلنجلس هنا … ولندع أنغام الموسيقى تتسرب إلى آذاننا،
فالليل والهدوء الناعم يلائمان اللمسات المتوافقة الحلوة …
اجلسي يا جيسيكا … انظري … إن سقف السماء مطعمٌ بنقوش
براقة من الذهب … وكل نجم — مهما صغر — يغنِّي في مسيره كأنه
ملاكٌ يترنم إلى الأبد بتراتيله إلى الحوريات ذوات العيون المتألقة …
إن هذه الأنغام المتوافقة تتردد في الأرواح الخالدة …
ولكننا لا نسمعها، لأن أجسامنا ابنة الطين تكسوها كساءً كثيفًا
وهي إلى زوالٍ واحد …
(يدخل العازفون)
تعالوا هنا … وأنشدونا لحنًا يوقظ ديانا من سباتها …
اعزفوا أعذب اللمسات حتى تتغلغل إلى آذان سيدتي …
فتعود بها الموسيقى إلى فطرتها …

(تعزف الموسيقى.)

جيسيكا : لا أشعر بالمرح أبدًا حين أسمع الموسيقى العذبة …
لورنزو :
ذلك لأن روحك شديدة اليقظة …
انظري إلى قطيعٍ برِّي طليق،
أو بعض الخيول الصغيرة الجامحة …
حين تتواثب في جنون، وتصهل، وتحمحم بصوتٍ عالٍ …
كما تدفع بها دماؤها الفائرة …
فإذا سمعت صوت نفير يدوِّي،
أو إن حمل النسيم لحنًا مس آذانها،
فسوف ترينها وقد وقفت جميعًا فجأة،
وتحولت عيونها الوحشية إلى نظراتٍ خفيضة رقيقة،
بفعل قوى الموسيقى العذبة،
وهكذا قال الشاعر إن «أورفيوس» المغني كان يجذب إليه الأشجار،
والأحجار والأنهار …
فما من شيءٍ جامد بارد، أو غاضب ملتهب إلا حولته الموسيقى
في الحال إلى طبيعةٍ أخرى،
إن من لا يحمل الموسيقى بين جوانحه،
أو مَن لا يهتز لتوافق الأصوات العذبة،
قادرٌ على ارتكاب الخيانة والمؤامرات والسلب والنهب؛
إذ إن جيَشان نفسه خامدٌ كالليل،
وعواطفه مظلمة ظلام القبور،
ويجب ألا نثق بأمثال هؤلاء … اسمعي الموسيقى …

في هذا المشهد الذي لا يتعدى أربعين بيتًا، نجد إشارات إلى الموسيقى تزيد عما نجد في أي مسرحيةٍ أخرى، وعلى الرغم من أن المشهد لا يحوي إلا تشبيهين فقط مستمدين من الموسيقى، إلا أن الموسيقى تسود المشهد كله، وتخلق سلسلةً من الصور، الموسيقى هي الفكرة الرئيسية فيها.

وهذا الجو الذي يسود هذا المشهد ليس مجرد «جوٍّ فني» عادي، مثل أي جوٍّ آخر يغلف مشهدًا في أي عملٍ فني آخر، ولكن هذا الجو يعكس لنا خيطًا أساسيًّا من خيوط المسرحية، وهو خيط «التوافق»، أي اتساق عناصر الشخصية وتكاملها وانسجامها، فالشخص الذي «يحمل الموسيقى بين جوانحه» هو الإنسان السوي الذي يستطيع أن يحس الرحمة، وأن يحب، وأن يتعاطف، وأن يحيا حياته في وفاقٍ مع مجتمعه ومع الطبيعة من حوله، بعد أن حقق التوافق الأساسي مع نفسه، فالموسيقى — في حد ذاتها — كأصواتٍ وألحان تسمع ويستمتع بها، ليست المحور الذي يدور عليه ذلك «الخيط الفني»، وإنما ما ترمز له من توافقٍ في نفس الإنسان، وما يستدل عليه من سموٍّ في متذوقها …

وهكذا نرى أن الموسيقى — مشحونةً بدلالاتها الرمزية — تتردد في مواضع أخرى كثيرة في المسرحية، فقبل أن يقدم «باسانيو» على اختيار «الصندوق» الخاص به، تأمر «بورشا» بعزف الموسيقى، وتقول إنه لو خسر فسوف «تخبو الموسيقى» مرددةً أملها الخابي، ولو فاز فسوف تعزف الموسيقى:

كأنها صوت نفير مجلجل حين يتوج ملك جديد
وينحني أمامه رعاياه المخلصون، أو كأنما هي تلك الأنغام
العذبة
التي تنساب عندما يتنفس الفجر وتتسرب إلى آذان العروس
الحالم وتدعوه للزواج.
وتقول الدكتورة «كارولين سبيرجون» إن ثمة مدًى معينًا تدور في نطاقه معظم الصور الجارية في مسرحيةٍ ما، وتعلق على ذلك قائلةً:١٤ «يبدو أن الموضوع الذي يعالجه الكاتب يثير في خياله أثناء الكتابة مشهدًا معينًا أو رمزًا ما يفتأ يعود إليه، ويتردد على ذهنه في شكل تشبيه أو استعارة في طول المسرحية وعرضها، كما يبدو أنه كان يدرك وجود هذه الصورة الأصيلة في ذهنه، ولكن من المؤكد أن الصور التي تثيرها هذه الصورة الأصلية تنبع من الشخصية والموقف بصورةٍ طبيعية وتلقائية إلى درجةٍ لا تحس معها أن شيكسبير كان يدرك كيف تكشف هذه الصورة المتكررة عن رؤياه الرمزية في إتقانٍ بالغ.»

خلق صورة البطل التراجيدي

وثمة وظيفة أخرى للصور الفنية في المسرحية، وهي خلق صورة البطل التراجيدي من الخارج أولًا، أي على لسان الشخصيات الأخرى، ثم من الداخل أي عن طريق إحساسه الشخصي، وهذه الصور تبني معًا — مثلًا — مفهومًا لشخصية «ماكبث» قد يعتبر جديدًا بعض الشيء.

فإن ثمة فكرة تتكرر على الدوام في المسرحية، وهي أن درجات المجد والشرف التي حازها ماكبث لا تناسبه ولا تسعده، كأنها ثوبٌ فضفاض لا يناسب مقاييس جسده، أو كأنه ثوبٌ لشخصٍ آخر أضخم منه، ويعبِّر ماكبث أولًا عن هذه الفكرة في بداية المسرحية؛ إذ بعد أن تظهر الساحرات لأول مرة وتدلي بنبوءاتها، يصل رسولٌ من الملك ويحييه باعتباره «أمير كاودر»، ويجيب ماكبث في سرعة:

إن أمير كاودر لا يزال حيًّا،
فلم تلبسني أثوابًا مستعارة؟

وبعد لحظاتٍ قليلة، حينما تسكره أحلام طموحه وقد تحققت نبوءتان من نبوءات الساحرات الثلاث، يرقبه «بانكو» ويتمتم:

لقد أتته أمجادٌ جديدة،
مثل الأثواب الغريبة التي لا توافق
أجسادنا إلا بالاستعمال الكثير.

وحينما يستضيف «ماكبث» في قصره الملك «دنكان»، ويذهب الملك للنوم آمنًا مطمئنًا، تنتصر طبيعة الخير في نفس «ماكبث» للحظات، فيراجع أحلام طموحه، ويثور على الفكرة التي تراوده (من قتل دنكان)، قائلًا إن نتائجها غير مؤكدة، كما أن هذه الفعلة الشائنة لا يجب أن تصدر عن قريبٍ للملك، ومضيف له في قلعته، ودنكان رجلٌ عظيم وفضائله تشفع له.

ويظل ماكبث كارهًا للفعلة الشائنة حتى بعد أن تلحقه زوجته، ولكنه يقدم ثلاثة أسبابٍ مختلفة إليها، فهو يعرف أن الأسباب الأخرى لن تقنعها بالعدول عن الجريمة، فيقول إن الملك كرمه أخيرًا وأسبغ عليه مجدًا وشرفًا بالغًا، وإن الشعب يحبه هو ويحترمه، وإذن فإن عليه أن يحصد ثمرة كل هذا معًا، وألا يفسد كل شيء باغتياله للملك.

وهنا نجده يعبر عن موقفه باستخدامه صورة مستعارة من الملابس أيضًا فيقول:

لقد اشتريت أفكارًا ذهبية من جميع طبقات الشعب، ويجب أن أرتديها الآن وهي قشيبة زاهية،
لا أن أخلعها بهذه السرعة.

وتجيب زوجته على ذلك دون أن تتأثر على الإطلاق:

أكان الأمل سكرانًا؟
ذلك الذي ارتديته بنفسك؟

وبعد مقتل «دنكان» حينما يقول «روس» إنه ذاهبٌ إلى بلدة «سكون»، حيث يتم تتويج ماكبث، يستخدم «ماكدف» نفس التشبيه قائلًا:

نعم، من المحتمل أن ترى الدنيا تسير على خير وجه هناك.
وداعًا! خشية أن تلائمنا أثوابنا القديمة خيرًا من الجديدة.

وفي النهاية، حينما يصل الطاغية إلى خليج «دنستيان» وتتقدم القوات الإنجليزية في طريقها للموقعة، نجد أن قواد الجيش الإسكتلندي من اللوردات لا يتخلون عن نفس الصورة عنه، فإن «كيتنس» يراه في صورة رجل يحاول عبثًا إحكام ربط رداء ضخم حول جسده، بحزامٍ صغير جدًّا:

إنه لا يستطيع إحكام ربط قضيته الفاشلة بحزام القانون …

بينما يلخص «أنجوس»، في صورةٍ مشابهة، جوهر أفكارهما جميعًا منذ أن تولى ماكبث حكم البلاد قائلًا:

إنه يشعر الآن بأن لقبه يتدلى حوله فضفاضًا، كأنه رداء عملاق سرقه قزم وارتداه.

إن المشهد الذي نتخيله جميعًا لرجلٍ صغير الحجم حقير الشأن، تعوق سيره وتحط من قدره أثواب ضخمة لا تناسبه، يجب أن يقابله الرأي الذي يؤكده بعض النقاد وخاصةً كولريدج وبرادلي من أن ماكبث في عظمته وعلو شأنه يضارع شخصية إبليس (أو الشيطان) الذي صوره ملتون في فردوسه المفقود، ولا يكاد يختلف ناقد اليوم حول عظمة «ماكبث»، شجاعته، طبيعته الحساسة الملتهبة العاطفة، طموحه لا تحده حدود وإلا لما كانت تراجيديا على الإطلاق، ولكن هذه الصورة تشتبك مع صورة الثوب الفضفاض اشتباكًا جوهريًّا؛ إذ إن الأخيرة تمثل الخطأ التراجيدي، الذي يؤدي بنفسه البطل أول الأمر حين يضع صاحبه في غير موضعه، ثم يودي بحياته الشخصية أخيرًا، إن البطل — عن طريق الطموح الذي يزداد عن حده المشروع — يلبس ثوبًا غير ثوبه … وهذا هو ما يشعرنا بأن «ماكبث» قد قضي عليه، أو لا بد مقضي عليه …

ويذهب أحد النقاد المحدثين١٥ في تفسيره لهذه الصورة، إلى أنها مسئولة عن الصراع الدائم الدائر في نفس «ماكبث» بين طبيعته الخيرة، والثوب الذي ارتدته ظلمًا فهي تريد أن تخلعه عن نفسه، ويفسر في ضوء هذه الصورة أيضًا، تردد ماكبث في التعبير عن جريمته مباشرة، وإشارته إليها دائمًا بالضمير «هي»، أو «الشيء» أو «الفعلة»، كأنما يخشى أن يواجه الثوب الذي ارتداه، بالاختباء فيه طول الوقت.

(٣) شيكسبير وتراث الرومانس

رغم الصفات «الكلاسيكية» التي يتسم بها مسرح شيكسبير، والتي تتصل ببعض الموضوعات التي طرقها، والتي استمدها من تراث المسرح اليوناني والروماني (أي المسرح الكلاسيكي)، وبالبناء العام للتراجيديا لديه والذي يعتمد أيضًا على هذا التراث، فإن شيكسبير في جوهره عبقرية رومانسية بالمعنى الحديث لهذه الكلمة أي المعنى الذي يجعلها تتصل بالنظرة الجديدة إلى الفرد، النظرة التي أتى بها عصر النهضة، وجعل الإنسان في بؤرة الصورة كائنًا ذا إرادة يتحكم بها في مسار حياته، ويتحدى بها أقداره التي قد تتمثل في النوازع النفسية التي تُولد معه، وكائنًا ذا نفس بالغة التنوع والتعقيد، يستطيع المتأمل أن يرى فيها مادةً لا نهائية لخلق الصراع في التراجيديا، وإحداث التوافق والتضاد في الكوميديا.

وإذا كان النقاد قد اهتموا قديمًا بالملامح الرومانسية في شيكسبير، التي تتمثل في عدم تقيده بالقواعد الكلاسيكية في بناء المسرحية وبناء الشخصية … إلخ، فإن الدارسين المحدثين قد بدءوا في إلقاء الضوء على جانبٍ جديد من جوانب هذه الرومانسية، وهو المفهوم الخاص للعلاقة بين الرجل والمرأة الذي يستمده الشاعر من تراث الرومانس (أو تراث الرومانسات)، الذي ساد أوروبا في العصور الوسطى، ثم استمر في عصر النهضة في الشعر الغنائي والقصصي، وأخيرًا تسرب إلى الدراما عن طريق مسرح شيكسبير بصفةٍ خاصة، فما هو هذا التراث؟

ينبغي أولًا أن نفرق بين مفهوم الرومانس ومفهوم الرومانتيكية، وهما الكلمتان اللتان اختلطتا في العربية اختلاطًا كبيرًا نتيجةً لترجمة كلمة «رومانتيك» الإنجليزية برومانتيكي أحيانًا، ورومانسي أحيانًا أخرى، ولكن الكلمة الأصلية، اسم، رومانس (والتي اهتدى البعض إلى كتابتها رومانسة، والجمع رومانسات) لا تتصل بكلمة رومانتيكي إلا بصلةٍ اشتقاقية، فهي تعني في الأصل قصص الحب والمغامرات والفروسية التي وردت إلى إنجلترا من فرنسا في عصر النهضة، وكانت تتسم بالعواطف المبالغ فيها والإغراق في الخيال إلى حد الشطط والابتعاد التام عن عالم الواقع، بينما تُطلق الصفة منها، أي رومانتيكي، كما هو معروف على الحركة الأدبية التي بلغت أوجَها في أوائل القرن التاسع عشر، وحققت في الشعر بصفةٍ خاصة ضروب التحرر والجيشان العاطفي والثورة على تقاليد المجتمع المتزمت القديم (نظمه السياسية الفاسدة) التي تقترن بأسماء وردزورث، وشلي وبايرون مثلًا، ولكن الكلمتين تشتركان في دلالةٍ معينة تتصل بنظرةٍ جديدة إلى الإنسان وطاقاته اللامحدودة، ومن ثَم فإنه من المنطقي أن يحمل تراث الرومانس البذور التي أنبتت ذلك المحصول الوافر من الشعر والقصة في القرن التاسع عشر، ويجمل بنا أن نلقي نظرةً سريعة على بعض خصائص هذا التراث:

خصائص الرومانسة

كان تراث الرومانسات في جوهره تراث حب ومغامرة، وقد ثبت أن أهم مقوماته التي وصلت إلينا نحن أبناء القرن العشرين، هو موقفه من فكرة الحب (ومفهوم ممارسة الحب الذي نتج بالضرورة عنها)، والذي يمكن إدراكه بوضوحٍ إذا نحن ألقينا نظرةً على موقف التراث الكلاسيكي من نفس الموضوع …

كان الحب نادرًا ما يرتفع (كما يقول ك. س. لويس في كتابه قصة الحب الرمزية) عن مستوى العلاقة الحسية الممتعة والهناء المنزلي، إلا إذا عالجه الشعراء باعتباره جنونًا تراجيديًّا، أي إن تصوير الحب في الأدب كان يعكس الاتجاه السائد في الحضارة اليونانية والرومانية، وهو تقبُّل العلاقة بين الرجل والمرأة على أنها من الأمور البشرية الطبيعية، والتي لا داعي لإخراجها عن هذا الإطار الطبيعي الواقعي بتحميلها معانٍ رمزية أو روحية متطرفة، بينما أصبح الحب في الرومانسات تجربةً سامية رفيعة عظيمة الشأن، بل وربما كانت أهم تجربة إنسانية على الإطلاق؛ إذ إنها يمكن أن تغير من طبيعة المحب نفسيًّا بل وروحيًّا، ومن ثَم فإنها جديرة بأن يكرس لها وجوده نفسه.

وقد اختلف النقاد في تفسير هذا التغيير اختلافًا بينًّا، التفسير الأول الذي درجنا على تقبله يقول بأن العامل الأساسي وراء هذا التغيير كان عامل الدين أو بالأحرى الأسس الميتافيزيقية للدين؛ إذ أصبح الإنسان مُطالبًا بأن ينظر إلى أية علاقة نظرةً تتخطى الحدود المادية أو الجسدية، بل حدود العالم المرئي بحيث تنفذ إلى ما وراء المادة والطبيعة من حياةٍ للروح أسمى وأخلد، وقد تطلب ذلك أن يجور الفرد على حياة الجسد في سبيل حياة الروح، ويعاني ويحتمل الحرمان الذي يتيح للنفس أن تتخفف من قيود الجسد وتتذوق متعة حياة الروح.

ومن ثَم فقد نشأت في هذا الإطار فكرة الحرمان في الحب باعتباره عذابًا لازمًا لتطهير النفس، كما نشأت أيضًا ونمت مبادئ الإخلاص والتفاني المرتبطة بالإيمان الصادق، وأصبح الحب عاطفةً ذات قداسة؛ لأنه يعبر عن وشائج غامضة لا يمكن تفسيرها تفسيرًا طبيعيًّا أو واقعيًّا فقط، أي إنه إذا كان من الطبيعي أن يقع الرجال في غرام النساء، فما الذي يفسر وقوع شخص معين في غرام امرأةٍ بعينها، وتشهد الأراجيز التي وصلتنا من تلك الفترة على انشغال الكتاب بهذا الموضوع، باعتباره لغزًا جديرًا بالتأمل ودليلًا على وجود قوة خفية تتحكم في هذه العلاقة، انظر مثلًا الأرجوزة التالية:

وعندما راح النهار،
ولاح في الأفق المساء،
رأت الأميرة فارسًا شهمًا غريبًا
واقفًا بجوارها،
من أين جئت؟ تساءلت،
ولأي بيتٍ تنتسب؟
وأجابها صوت الغريب:
إني عبرت البحر هذا اليوم
فوق ذُرى العباب،
وتعيش أمي في بلادٍ من جزر،
بل إنها ملكة،
مكانتها علية،
ولقد قضت بالسحر أن نتلاقى،
فأعيش في حبٍّ معك،
وأموت في حبٍّ معك.

وكلمة السحر التي تعني أكثر من مجرد التعويذات السحرية التقليدية، تُلقي الضوء على مفهوم هذه العبارة التي تستعصي على التفسير المنطقي، والتي بدأت في تلك العصور السحيقة تمثل تيارًا مناقضًا لتقاليد الزواج، التي ورثتها العصور الوسطى ثم ورثها عصر النهضة من الإمبراطوريات القديمة؛ إذ كان الزواج وهو العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة لا يخضع حقًّا لما يريده رجلٌ بعينه أو امرأة بعينها، بل يخضع لعوامل التحالف الدنيوي، أي لاعتباراتٍ اجتماعية فيما بين الأسر الإقطاعية، أو لاعتباراتٍ اقتصادية أو مالية على مستوى عامة الشعب لا تخلو من جوانب اجتماعية وأسرية أيضًا، وهكذا فإن هذا التيار المعارض كان يحاول التغيير بإرساء القيم الإنسانية المجردة التي وجدها الشعراء في تقاليد الفروسية من شهامةٍ وتفانٍ وصدق وإخلاص وإيمانٍ وأخوة وأمانة، وحفظ للعهد وصلة للرحم إلى آخره، وهي مبادئ إنسانية مُطلقة تجسدت في التراث الشعبي، واستطاع الكُتاب من خلالها أن يخلقوا تقاليد فنيةً ثورية داخل النظام الإقطاعي نفسه، كما ذهب إلى ذلك «دارسي» في كتابه عقل الحب وقلبه، الذي يدافع فيه عن هذه النظرة التي تختلف عما ذهب إليه شارلتون في كتابه عن الكوميديا الشكسبييرية.

أما التفسير الثاني فهو أن تغير صورة العلاقة بين الرجل والمرأة، كانت له جذورٌ اجتماعية عميقة وجدت في الوجدان الشعبي، وتمثَّلت في المعاناة التي لقيها الفرد في ظل نظام الإقطاع، وترجمت إلى مواجهةٍ مع المستحيل في إطار الحب العذري، أي ترجمت إلى مواقف حبٍّ مستحيلة التحقيق، ومن ثَم فكان لا بد لكل عاطفة حب من هذا اللون أن تكون يائسة، كأن تكون صورة حب لسيدة بعيدة المنال (متزوجة مثلًا أو تنتمي لطبقةٍ اجتماعية أعلى من طبقة المحب إلخ …)، ولم يظهر هذا التيار في الأدب المكتوب إلا مع ظهور اللغات القومية في أوروبا، وبالذات منذ القرن الرابع عشر، فبدأ منذ عصر شوسر في إنجلترا يسير جنبًا إلى جنب مع التيار الكلاسيكي القديم، فكانا يلتقيان ويفترقان في كل موقفٍ حتى حل القرن السادس عشر، وكتب الشاعر الإنجليزي سبنسر قصيدته البالغة الطول «ملكة الجان».

المقابلة بين الجسد والروح

ربما كان أهم ما أتى به سبنسر هو خلق المقابلة أو التناقض بين الحب باعتباره تحقيقًا ماديًّا أو جسديًّا لعاطفةٍ بشرية أصيلة، وبين التحقيق الروحي لهذه العاطفة، أي تحقيق اللقاء على مستوًى نفسي يتيح للفرد تأمل علاقة أوسع وأشمل وهي علاقته بالكون من حوله، لم يكن سبنسر يرى في الحب خروجًا أو انحرافًا أو بديلًا للمشاعر الدينية، ولكنه رأى فيه طاقةً على الإحياء النفسي والمعنوي، وهكذا فقد جعل في عاطفة الحب قدرًا من المعاناة، حتى ولو كتب لهذه العاطفة أن تتحقق، أي إنه جعل في كل تجربة الحب لونًا من الصراع يمثل التقابل بين المادة والروح، بحيث يتطلب التضحية بقدرٍ من السعادة المادية في مقابل الثراء الروحي الموعود، بل إنه كان يرى في قدرة الإنسان على الحب قدرةً على الإيمان، كما يقول دي روجمونت في كتابه «العاطفة والمجتمع»، فهو بهذا يصبح عاطفةً سامية ترى في التوافق رمزًا أكبر من مجرد الحاجة لإنجاب الأطفال، فهو رمزٌ للتوافق الذهني مع الكون، كما أن في الحرمان رمزًا أكبر من مجرد الحرمان من تحقيق النزعة البشرية الأصيلة، فهو صراعٌ نحو التحقق، وهكذا انتقل هذا النشاط من دائرة العلاقة بين جسدين إلى دائرة العلاقة بين كائنين تلتهب في أعماقهما نيران مقدسة لم تشعلها فينوس أو كوبيد، وإنما أوقدها أولَ الأمر إله السماء الواحد، فهو يقول في «ملكة الجان»:

أقدس نار ملتهبة،
تتأجج في صدر الأحياء،
كانت جذوتها الأولى علوية،
بين الأفلاك الخالدة الشماء،
ومصابيح سماء الكون،
ثم انسكبت في الإنسان فأسماها الحب؛
ليست تلك إذن
ما يشعل إحساسًا فظًّا في عقلٍ فظ،
أو يذكي الشهوات الدنيا،
لكن تلك الروح العذبة،
إذ تعشق كل جمال حق،
وترى في الحب فضيلة،
تلهم أشرف أفعال الإنسان،
بل طيب الذكر على مر الأزمان.
(الكتاب ٣، النشيد ٣، فقرة ١)

هذا اللون من الحب هو المدخل الصحيح إذن إلى تراث الرومانس، وهو حب يختلف، كما رأينا، عن المفهوم الكلاسيكي للعلاقة بين الرجل والمرأة؛ لأنه يجعل من الإنسان مسرحًا لانطلاق وتصارع العديد من العواطف، ويعلي من شأن المحب ويخلق له صورةً مثالية في التفكير والسلوك، فالإحساس يجعل منه بطلًا يضارع أبطال الآداب القديمة، وما القصص التي تحفل بها أركاديا التي كتبها سيدني فيما بين عام ١٥٨٠م و١٥٨٥م إلا دليل صارخ على شيوع هذه الصورة التي تأثر بها شيكسبير، كما يؤكد تليارد في كتابه أخر مسرحيات شيكسبير، كما لا شك في أنه استقى منها بعض مادة مسرحية «السيدان من فيرونا»، وأسماء بعض الشخصيات في قصة الشتاء والحبكة الثانوية للملك لير …

أما أهم صفات المحب الرومانسي الجديد فهو أنه ينبغي أن يقع في الحب من أول نظرة، وأن يتقبل هذا الحب باعتباره قدرًا لا سبيل للفكاك منه، بل أن يخلص في حبه هذا ويتوحد فيه، وأن يخضع لإرادة حبيبته (مهما كانت) مدى الحياة، وأن يتبع في سلوكه قواعد الذوق والمجاملة، وأن يقوم بالمهام الشاقة لإثبات جدارته بحبها، وأن يرفع صورة هذه الحبيبة إلى مستوى المثالية في الجمال، والتمنع النابع من العفة والتعالي من الطهر والنقاء، مما يثير في نفس المحب حزنًا شاعريًّا رقيقًا يقترب في حقيقته من الفرح؛ لأنه يؤكد مثالية الحبيبة ويجعل من أمل الاقتران بها أملًا في الحياة عامرًا بالنقاء والسمو، بل أملًا في النقاء نفسه.

كوميديا الحب الشيكسبيرية

وقد اتسمت كل قصص الحب التي حفل بها القرن السادس عشر بهذه المقومات الأساسية للعلاقة بين المحبين، وكان من الطبيعي أن يتأثر بها شيكسبير، لكن الجديد في مسرحه هو الإصرار على أن يجعل من مغامرة الحب (أو المغامرة العاطفية) مغامرةً نفسية تماثل إعادة الخلق، فتلهب الخيال وتشعل الحساسية وترفع اللثام عن «شعر الحياة»، وتصل بشتى فضائل الإنسان إلى قمة الإزهار والثمر.

ونستطيع أن نجد خير مثال على هذا المفهوم في الحديث الطويل، الذي يلقي به بيرون في مسرحية «خاب سعي العشاق» ليناجز به فرسان الغرام، والذي يقول فيه:

أما الحب الذي تلهمنا إياه أول ما تلهم عيون الغيد،
فإنه لا يبقى سجينًا في العقل وحده،
بل يسري في كينونتنا المتحركة،
سريان الفكر السريع في كل قوةٍ من قوانا،
فتضاعف به كل قوة، وتزكو به وظائف الملكات،
وللعاشق عين إذا تفرست في النسر سقط كفيفًا،
وبالحب يقوى في الأذن سمعها،
فللعاشق أذنٌ تتبين أخفت الأصوات
التي تعجز عن سماعها أذن اللص الذي يرتاب في أي صوت،
أذن تجاوز في حساسيتها قرون القواقع ذات المحار،
وللعاشق لسان أعذب مذاقًا من خمر باخوس،
وللعاشق قلبٌ جسور كأنه هرقل يقاتل التنين،
ولا ينقطع عن تسلق الأشجار في الجزائر السعيدة،
أجل العاشق ماكر كأبي الهول،
مترنمٌ عذب الأغاني، قيثارة أبولو
أوتارها من شعره،
وإذا نطق الحب تسبح الآلهة جميعًا،
فتغفو السماء على إيقاع النشيد،
فبالحب يقوى في العين إبصارها،
وما رأينا شاعرًا اجترأ على أن يمسك بقلمه لينظم القريض
حتى امتزج مداده بزفرات الغرام …
(الفصل ٤، المشهد ٣، الأبيات من ٣٢٧–٣٤٧)
(من ترجمة الدكتور لويس عوض)

وتتعدد هذه الصور في مسرحية «السيدان من فيرونا» على لسان فالنتاين، وفي مسرحية الليلة الثانية عشرة على ألسنة العشاق المتيمين، وأخيرًا في روميو وجولييت، وقد اتخذت من بدايتها إلى نهايتها الصورة الشيكسبيرية المتميزة، وهي الصورة التي رغم نزولها بالحب من السماء إلى الأرض، أي من عالم الحرمان القديم إلى عالم التحقيق والتوافق عن طريق الزواج، ما زالت تحتفظ بكل العناصر التي ورثها شيكسبير من عالم الرومانس، فروميو منذ البداية يعاني من تمنع حبيبته الأولى، ويصفه لنا المؤلف وقد حبس نفسه عن نور النهار وهام على وجهه حزينًا لا يرغب في الحديث إلى أي أحد، يذهب إلى حفلةٍ تنكرية فيرى جولييت لأول مرة ويقع في غرامها من أول نظرة، وفجأةً نرى هذا الإحساس الثاني قد انتقل إلينا في صور دينية، في أول حوار بين روميو وجولييت:

روميو : إذا كانت يدي الحقيرة قد مست تلك الكعبة المقدسة ودنستها وهذا إثمٌ رقيق فإن شفتي وهما تحجان إلى هذه الكعبة قد علتهما حمرة الخجل وهما على استعدادٍ لإزالة اللمسة الخشنة بقبلةٍ ناعمة.
جولييت : أيها الحاج الكريم، إنك تظلم يدك كثيرًا، فلم أرَ منها إلا الإخلاص في العبادة والطهر والصفاء، فإن أيدي الحجاج تلمس أيدي القديسات، وفي تلامس الراحتين قبلة حج مقدسة.
روميو : أليس للقديسات شفاه مثل شفاه الحجاج؟
جولييت : نعم أيها الحجاج: شفاه لا عمل لها إلا الصلاة.
روميو : إذن أيتها القديسة العزيزة: فلتؤدِّ الشفاه عمل الأيدي! إن شفاهي تصلِّي الآن فاستجيبي لصلاتها وإلا ضاع إيماني ويئست.
جولييت : ولكن القديسات لا تتحرك، حتى لو استجابت لدعوات المصلين.
روميو : إذن لا تتحركي حتى أنال ثواب صلاتي، فسوف تمسح شفتاك الخطيئة عن شفتي.

(يقبلها.)

جولييت : إذن فقد انتقلت تلك الخطيئة إلى شفتي.
روميو : مِن شفتي أنا؟! ما أعذب الإثم الذي تدعين إليه! رُدي إليَّ خطيئتي …
(الفصل ١، المشهد ٤، الأبيات ٨٥–١١٢)        

ولكن الصور الدينية كما نرى تشبه وسائل لقاء على أكثر من مستوًى، أهمها جميعًا مستوى الغموض الذي يجعل من هذه العاطفة لغزًا، روميو يجهل اسم حبيبته وهي تجهل اسمه وهما يقعان في الحب، كأنما ساقتهما الأقدار إليه، وهما يندفعان في هذه العاطفة الجامحة دون نظر إلى العواقب، فيتحول غرامها إلى رمزٍ يمتد في طول المسرحية وعرضها، رمز حافل بالدلالة القدرية الأساسية التي ألمح إليها البرولوج في تقديمه للمسرحية، ورغم أن النهاية فاجعة فالثيمات التي ينسج منها شيكسبير مسرحيته، هي نفسها التي يتوسل بها في الكوميديات الأولى (التي ألمحنا إلى بعضٍ منها)، فالقدر الذي قضى بالمأساة قضى أيضًا بالتوافق والتحقيق في الحب، وهو ما يحدث في نهاية كل ملهاة.

ولكن إخلاص شيكسبير لهذا اللون من الحب الرومانسي لم يكن كاملًا حتى في ملهاواته، فهو يقدم لنا الصورة الأخرى التي تبين أن هذه اللمسة القدرية في العلاقة البشرية، يمكن أن تكون مدعاةً للسخرية، وذلك في مسرحيةٍ كتبها بعد روميو وجولييت مباشرة، وهي حلم ليلة صيف، فهو يجعل هذه القوة القدرية مصدرًا لعبث الجان، بحيث تتحول قلوب العشاق عن الفتاة بمجرد إسقاط قطرة من رحيق زهرة مسحورة في عيونهم، وبحيث نرى طاقة الحب اللامحدودة، وقد أصبحت ألعوبةً في يد جني صغير هو باك (أو روبن جودفلو) يعشق اللهو، ويقول لملك الجن «أوبرون»: «سيدي ما أحمق هؤلاء البشر!» بل إن شيكسبير يلجأ إلى حيلةٍ بارعة يجعل فيها ملكة الجن نفسها تيتانيا تقع في حب أول من تقع عليه عيناها عندما تستيقظ من النوم، وهو بوطوم أحد هواة التمثيل الذي ركب له الجني رأس حمار: «الحب إذن أعمى!» يصيح الجني الصغير، وهو لا قانون له ومن ثَم فهو يصلح للهو واللعب، وفي نهاية المسرحية عندما تزول آثار السحر، ويعود جميع العشاق من الغابة إلى حفل زفاف الدوق، تبدو كل ألاعيب الجان ضروبًا من خيال الشعراء الذين يتغنون للحب، وعندما يستمع إلى ما حدث من غرائب أثناء الليل، نجد تعليق شيكسبير في الحوار التالي:

هيبوليتا : أسمعت يا ثيسيوس الحبيب هذه الغرائب التي يرويها العشاق.
ثيسيوس : أغرب من أن تُصدق، فما كنت لأصدق هذه الخرافات القديمة وألاعيب الجان، إن للعشاق والمجانين عقولًا تغلي وتفور، ولهم خيال قوي خلاق، بل إن الخيال هو كيانٌ مجنون والعاشق والشاعر جميعًا، فالمجنون يستطيع أن يبصر الشياطين التي لا تسعها رقعة الجحيم الشاسعة، والعاشق مثل المجنون يرى جمال هيلين في جبهة إحدى الغجريات، أما عين الشاعر التي تدور في فلكٍ من الجنون الرقيق، فهي تهبط من السماء إلي الأرض ثم تصعد من الأرض إلى السماء في لمحٍ خاطف، ومثلما يجسد الخيال صور المجهول والعدم، يشكلها قلم الشاعر ويخلق من العدم أشياء ملموسة ويمنحها أسماء.
(الفصل ٥، المشهد ١، الأبيات ١–١٧)        

وفي ضوء هذا الحديث نرى مسرحيةً قصيرة يقدمها بعض الممثلين الهواة من عمال أثينا، مسرحية يفترضون أنها مأساة ولكنها تثير الضحكات؛ لأنها تسخر من فكرة الموت في سبيل الحب، وهي الفكرة التي تقوم عليها مسرحية روميو وجولييت، وعندما يضحك الدوق وجميع الحاضرين في حفل زفافه على هذه المسرحية، وينعم كل عاشق بحبيبته، يتقدم رئيس جوقة الجان إلى الجمهور في المسرح، فيعتذر عن كل ألاعيب السخرية من الحب ومن كل ما مر من مقالب، فهو، هذا الجني الصغير، لا يسعده شيء مثل السخرية من هؤلاء البشر، الذين يبالغون في كل شيءٍ وخاصةً في عاطفةٍ لا يفهمونها.

وإذا كنا قد حاولنا إلقاء بعض الضوء في هذا المقال على التراث الرومانسي، الذي كان له تأثيرٌ كبير على شيكسبير، فينبغي أن نذكر أن شيكسبير قد طور من الصور التقليدية التي شاعت في هذا التراث، وخاصةً في إطار جدليته الدرامية، بحيث كان دائمًا يقدم الفكرة ونقيضها، أو المبدأ الذي يؤمن به ثم ما يظهر عيوبه ومثالبه، حتى يجعله مدعاةً للسخرية؛ ولهذا تملكت الحيرة كثيرًا من النقاد للموقف الذي كان يتخذه من الحب في مسرحياته الكلاسيكية (مثل ترويلوس وكريسيدا)، وبالغ بعضهم في الهجوم عليها إلى الحد الذي جعلهم ينكرونها عليهم، ولكن الواقع أن الصورة لدى شيكسبير لا تكتمل دون وجهها الآخر، ولو بدا غريبًا وغير مألوف …

(٤) المشهد الافتتاحي عند شيكسبير

كتب البروفسر لوكاس، في كتابه عن التراجيديا وكتاب الشعر لأرسطو، يقول إن أرسطو خلف للعصور الوسطى تركةً مقدسة، لم يستطع كتاب المسرح أو نُقاده أن يتخلصوا من سيطرتها عليهم، ولقد نشط النقاد في عصر النهضة في تفسير نصوص أرسطو والإضافة إليها، وكان أهم ما يدور حوله النقاش مفهوم الوحدات الثلاث من زمانٍ ومكانٍ وحدث (مع أن أرسطو لم يقل إلا بوحدتي الزمان والحدث)، وتقسيم المسرحية إلى فصول، وطبيعة أشخاص التراجيدية وموضوعاتها، ولون الشعر الذي تُكتب به التراجيديا، والهدف منها، ودور الجوقة في المسرحية.

السرد

وإذا كان النقاد القدامى قد تعرضوا في إفاضةٍ وإسهاب لكل هذه الموضوعات، فمن المحتمل أنهم لم يوفوا السرد المسرحي حقه من الدراسة؛ إذ عاد هذا الموضوع إلى بساط البحث في العصر الأوغسطي الإنجليزي، وأثيرت حوله مناقشات بالغة الحدة، وخاصة بين كتاب الكلاسيكية الجديدة في فرنسا وإنجلترا … ولم تكن عودة الموضوع مبعثها أرسطو وحده الآن، بل شاعر الإنجليزية الأكبر وليم شيكسبير …

ويتضح لنا هذا حين نتأمل المشاهد الافتتاحية في مسرحيات شيكسبير واختلافها الجوهري عن مثيلاتها في المسرح اليوناني والروماني … فقد كانت التراجيديات اليونانية تقوم على قصةٍ معروفة شائعة بين الناس، أو أسطورةٍ قديمة يعالجها شعراء الملاحم مثل «هوميروس» و«فيرجيليوس»، ومن ثَم لم يكن كُتاب المسرح اليوناني يهتمون بعرض القصة، كما حدثت بتسلسلها الواقعي الطبيعي، أي لم يكونوا يقدمون القصة من بدايتها إلى نهايتها، مُعتمدين على حضورية الحدث أمام النظارة، فهذا يكسر قاعدة وحدة الزمن الأرسطية، وإنما كانوا يتوسلون بالسرد إما على أفواه الكورس، أو على أفواه ممثلي المشهد الأول، أو كما يسميهم «جون درايدن» ممثلو الافتتاحية أو المدخل …

وكان السرد يتناول غالبًا ما حدث قبل بداية المسرحية، أي القصة التي حدثت قبل هذا اليوم الواحد الذي نشهد فيه الحدث … ويقول «جون درايدن»:

«تشهد للقدماء معظم مسرحياتهم أنهم كانوا يراعون وحدة الزمن هذه مراعاةً صادقة … انظر إلى مآسيهم تجد أنهم يقدمون منذ اللحظة الأولى للمسرحية أهم جانب من جوانب الحدث، وآخر أجزائه، بينما تُسرد الحوادث السابقة عنه على أفواه الممثلين، وبهذا يضع النظارة، إذا جاز هذا التعبير، حيث تصير خاتمة السباق، ويوفر عليهم الانتظار المرهق حين يبدأ عرضه من أول المضمار … وهكذا لا يجشمك عناء مشاهدته في أولى مراحل السباق، بل تراه حين يشرف على المرمى، ويقترب منك تمامًا عند خط النهاية.»

وحين كسر شيكسبير قاعدة وحدة الزمن، لم يعد بحاجةٍ إلى السرد الطويل لما حدث قبل المسرحية، إلا في حدودٍ بالغة الضيق، وأصبحت الحوادث عنده مزامنةً لحدث المسرحية نفسه، ومن ثَم اختلف عنده دور المشهد الافتتاحي، بل إنه اختلف عنده في كل مسرحيةٍ حسب تطوره من مسرحياته الأولى إلى تراجيدياته العظيمة في النهاية … وكثيرًا ما أكد شيكسبير أن هذا المشهد يحدد جو المسرحية كلها، ويعزف اللحن الأساسي الذي يتكرر أثناء أحداث المسرحية حتى نهايتها، ولكن هذا القول لا ينطبق على كل مسرحيات الشاعر العظيم … إذ إن المشهد الافتتاحي عنده قد تعرض دائمًا للتغيير، فأحيانًا نجده يخلق لنا جوًّا خاصًّا من الخرافة، يمهد لحدث المسرحية ويصب فيه، وأحيانًا نجده يستخدم «البرولوج» الذي يصف مكان الأحداث وزمنها، ويعلق على موضوع المسرحية بصفةٍ مبدئية، وأحيانًا نجده يعالج موضوعه مباشرةً منذ أول لحظة، عارضًا خطوط الصراع العامة، أو إحدى الشخصيات الرئيسية في المسرحية، وأحيانًا ما يقدم فكاهاتٍ لفظية تعتمد على التورية واللعب بالألفاظ وحسب.

الخرافة والواقع

ولقد تعرض النقاد كثيرًا لوظيفة الأحداث الخرافية في مسرح شيكسبير، وأوجدوا لها ألف تعليلٍ نفسي وفني واجتماعي، ولكن الملاحظة أن ولوع شيكسبير بإظهار تلك القوى في المشاهد الافتتاحية يرتبط دائمًا بمفهومه عن الشخصية التراجيدية، ذلك المفهوم الذي لا يصور البطل إنسانًا عاديًّا يعيش حياته على الأرض فحسب، وإنما ينتمي بصورةٍ ما إلى دنيا العظمة الخالدة التي تكشف حجاب الفناء الأرضي أمام بصيرته، وتربطه بدنيا الأرواح التي لا تعرف الفناء أو النهاية … والبطل أيضًا ذو قدرة خارقة على التصور والشفافية النفسية التي يستطيع بها أن يرى ما لا يراه الغير، وأن يتخيل أشباح الموتى وأن يخاطبهم ويسمع أحاديثهم … ومن ثَم رأينا بروتس يحادث شبح يوليوس قيصر، ويعاني من حديثه أشد ألوان العذاب، ووجدنا ريتشارد الثالث يرى أشباح من قتلهم يطوفون بخيمته واحدًا بعد الآخر، يسخرون منه ويؤكدون انتقامهم الرهيب … ووجدنا هاملت يحادث شبح والده، وماكبث يرى بانكو وهكذا …

والمشهد الافتتاحي في ماكبث يقع في مكانٍ منعزل عن العمران، لا يسكنه أو يرتاده أحد، ونسمع عند البداية هزيم رعد ونرى لمح البرق وتغلف ضجة العاصفة بداية المشهد، ثم تظهر الساحرات الثلاث، وهي مخلوقات غير أرضية، لها أجساد النساء وثيابهن، ولها ذقون الرجال وعنقهم، وهي ذات قدرة على التنبؤ والبصر بالمستقبل ولا تعيش حياة الآدميين، بل تحلق في الهواء، وتغوص في الأرض وتظهر وتختفي دون حدودٍ أو قيود …

الساحرة ١ : متى نلتقي ثانيةً نحن الثلاث … في الرعد أم في البرق أم في المطر؟
الساحرة ٢ : حين تنجلي جلبة المعركة فيخسر فريق وينتصر فريق …
الساحرة ٣ : وذلك قبل غروب الشمس …
الساحرة ١ : في أي مكان؟
الساحرة ٢ : فوق الربوة …
الساحرة ٣ : حيث نلقى ماكبث …
الساحرة ١ : إنني قادمة يا جرامالكين!
الجميع : إن بادوك تنادي علينا، هيا …
الخير شر والشر خير …

فلنحلق في الضباب والهواء القذر (تختفي الساحرات).

والساحرات، هكذا تشيع جوًّا من الخرافة بما تقوله من كلامٍ غريب، وما تلفظ به من كلماتٍ غامضة ترتبط بمهنة السحر التي يمارسنها والتي تربط الجان بالبشر، ولكنها كذلك تقول كلامًا واقعيًّا يرتبط بحدث المسرحية الرئيسي … فهي تعرف أخبار المعركة، وتتنبأ بأنها ستنتهي قبل غروب الشمس، وأنَّ ماكبث سيعود في طريقٍ جبلي فيمر بربوةٍ تستطيع الساحرات أن تقابله هناك … ولكن ماذا من أمر غضبة الطبيعة والرعد والبرق والمطر؟ وماذا من أمر الكائنات المسحورة التي يتصلن بها مثل جرامالكين، وبادوك؟ … وماذا من أمر الخير والشر اللذين اختلطا فلم يتمايزا؟ وأخيرًا ماذا من أمر الضباب والهواء القذر؟ …

إن هذه الساحرات لا تخلق جوًّا مسرحيًّا بالمعنى المفهوم لهذه الكلمة، ولكنها تلقي الضوء على خطٍّ درامي في شخصية ماكبث، أساسًا، وبعض الخطوط الأخرى في سائر الشخصيات … أما الخط الأول فهو التأرجح بين المجد والخداع، أو السمو الذي يهوي بصاحبه للحضيض، أو بالأحرى ما يظن به الخير وهو شر، وهذا هو ما يرسمه تأرجح الساحرات بين الخرافة والواقع، وعدم انتمائها كليةً إلى دنيا الجان، أو دنيا البشر … وهذا الخط نفسه هو الذي يصور المفارقة في شخصية ماكبث، تلك التي لا تتأرجح فحسب بين الوهم، وهم المجد والعظمة السياسية، وبين الحقيقة، حقيقة الشجاعة والذكاء والخير في نفسه، بل تمتزج في كل خطوةٍ يخطوها بين هذين الطرفين، فهو في الوقت نفسه يصعد ويهبط، ويكسر ويخسر … والتعبير بالإنجليزية عن خسران المعركة والفوز بها يدل على هذه المفارقة من أول لحظة، فالساحرة الثانية تقول حرفيًّا: «عندما تُخسر المعركة وتُكسب.» أي إن المكسب والخسران يحدثان في نفس الوقت، مما يوحي بأن انتصار ماكبث في المعركة ليس انتصارًا خالصًا، وإنما هو خسران لشيءٍ لا نعلمه الآن، ولا نعلمه إلا حين نلقى ماكبث نفسه …

أما قدرة الساحرات على التنبؤ فهي تؤكد المفارقة أيضًا وتنميها، فالساحرات تدلي بنبوءات إلى ماكبث، جميلة في ظاهرها، بشعة في باطنها … فحينما تقول إنه لن يقتل على يد من ولدته امرأة، تخدعه في الحقيقة ولا تصدقه، فهو يتصور أنه ما من إنسانٍ لم تلده امرأة، بينما يقتله «ماكدف» الذي أنجبته أمه بعمليةٍ قيصرية، وإذن فالنبوءة هنا معكوسة الدلالة، تؤكد البريق الظاهر أمام عين ماكبث، وتخفي الهلاك الرابض في ثناياها … وهي إذن تمزج نزعات ماكبث، وتجسد الصراع في نفسه، بما تلقيه إليه من ألفاظٍ خادعة … وهذا هو الذي يلوح من اتفاق الساحرات على اللقاء مع ماكبث في أول مشهد …

البرولوج

وفي مسرحية «ترويلوس وكريسيدا» يستخدم شيكسبير «البرولوج» أي الشخص الذي يقدم مكان المسرحية وزمنها، ويسرد طرفًا من الحوادث السابقة على المسرحية، فهو يطرق في هذه المسرحية قصةً من الأساطير اليونانية التي عالجها هوميروس وعالجها في الإنجليزية تشوسر، ويريد أن يحدد الصورة الجديدة لهذه القصة … والبرولوج في المسرح الإليزابيثي ينتهي دوره بوجهٍ عام بمجرد الانتهاء من إلقاء خطابه، ولم يكن يعاود الظهور على المسرح إطلاقًا في سائر مشاهد المسرحية، وقد يعود فحسب بصفته «إبيلوج» ليلقي بأبيات النهاية …

البرولوج : في طروادة يقع المشهد …

إذ إن أُمراء اليونان المتعالين: ثارت دماؤهم الملكية فأقلعوا بسفنهم من جزر اليونان إلى ميناء أثينا محملةً برسل الحرب الضروس وعدتها …

ثم إلى ساحل إفريجيا، وقد وكدوا الأيمان على غزو طروادة، فهناك — داخل أسوارها المنيعة — تعيش هيلين، زوجة الملك مينلاوس، بعد أن خطفها باريس الفاجر واتخذها خليلًة له، وهذا هو أصل الخلاف.

وبعد أن يصف البرولوج السفن والأبواب الستة لمدينة طروادة، ومزاليجها المحكمة، وسهول الدردنيل وأبناء طروادة … إلخ، يقول:

«وقد أتيت هنا … أنا «البرولوج» المسلح، لا لأقوم مقام قلم الكاتب أو صوت الممثل، وإنما لأقول ما يناسب موضوعنا هذا وحسب … فسأخبركم أيها النظارة العدول أن مسرحيتنا لا تبدأ حيث بدأت مناوشات الحرب بين الطرفين، بل تتخطى تلك المرحلة الأولى، وتبدأ من الوسط، ثم تمضي بالقصة إلى النهاية.»

ثم يطلب من النظارة أن يحكموا على المسرحية حكمًا عادلًا، وعلى الفور يخرج ويدخل ترويلوس نفسه وهو بطل المسرحية ومعه «بنداروس» عم كريسيدا، فيعرضان الموقف الأساسي للمسرحية، الذي تتفرع عنه باقي المواقف والأحداث …

الكورس الجديد

وإذا كان السرد في المسرح اليوناني يتم على أفواه أعضاء الكورس أو شخصيات المقدمة، فإن شيكسبير في مسرحياته التاريخية، يستخدم كورسًا جديدًا، لا يرتدي ثياب الكورس الكلاسيكي، بل يتجسد في شخصياتٍ ثانوية يدور عملها في نطاق عمل الشخصيات الرئيسية، وتتصل بها عن قرب، ومن ثَم تستطيع أن تقدمها إلى الجمهور قبل أن تبدأ الحوادث، أو في المشهد الافتتاحي … ونحن نلاحظ أن شيكسبير لا يعمد إلى السرد وحده مطلقًا، فهو حتى حين يسرد قصة حب بين عاشقَين، يقدم إلينا العاشقين في الحال بعد ذلك، كأنما ليكمل الصورة التي خلقها في السرد أولًا … ونلاحظ أيضًا أن هذا الكورس الجديد ليس محايدًا، ولكنه يشترك في الحدث عن طريق رؤيته الخاصة، ومن ثَم يقدم إلينا زاويةً جديدة ننظر منها إليه …

ففي مسرحية «أنطونيو وكليوباترا» نرى في المشهد الافتتاحي «فيلو» و«ديمتريوس» وهما من أصدقاء «أنطونيو»، يتحادثان حول هوة الغرام التي يتردى فيها أنطونيو مع كليوباترا، وينعي «فيلو» على أنطونيو تركه العمل في الجيش والزعامة السياسية، وتحوله إلى أحمق تلعب به أهواء غانية! ويقول إنه أصبح نسماتٍ باردةً تطفئ من لظى شهوة الغجرية، كليوباترا! وإن أحد أعمدة العالم الثلاثة قد تهاوى وسقط! ثم يدخل على الفور أنطونيو وكليوباترا، وقد وصلت الرسل من روما، إلى أنطونيو، فنرى ذلك الهجوم الذي شنه فيلو على أنطونيو يتوازن في كفةٍ مع التهاب عاطفة «أنطونيو»، والصورة السامية التي يفهم في إطارها الحب …

كليوباترا : إذا كنت تحبني حقًّا … فقل لي إلى أي حد؟
أنطونيو : إن الحب الذي يعرف الحدود فقيرٌ هزيل.
كليوباترا : سأقول لك إلى أي مدًى يمكن أن يصل غرامنا …
أنطونيو : إذن عليك أن تبحثي عن سماءٍ جديدة وأرضٍ جديدة!

وحينما تقول كليوباترا إنه يتلقى الأوامر من روما، وإن الرسل قد وصلت إليه من زوجته ومن أوكتافيوس، وإن عليه أن يصغى لما يقوله أهل روما، ينفجر أنطونيو قائلًا:

أنطونيو : فلتذُب روما في نهر التيبر، وليهوِ صرح الإمبراطورية الشامخ! إن هنا مكاني، ما الممالك إلا طين، والأرض بروثها تطعم الحيوان مثلما تطعم الإنسان، إن شرف الحياة وسموها فيما نفعله الآن …

(يحتضنها.)

وحينما ينصرف أنطونيو وكليوباترا يختتم «فيلو» و«ديمتريوس» المشهد، بصفتهما أعضاء في الكورس الجديد! فهما يعلقان على العلاقة بين أوكتافيوس، وأنطونيو وعن احتقار أنطونيو لزميله في حكم الإمبراطورية، وعن فقدان أنطونيو نفسه حينما يكون مع كليوباترا، وهكذا نرى أن الكورس دائمًا يتدخل هنا ليقدم لنا صورة المشهد من زاويةٍ أخرى غير زاوية الأشخاص أنفسهم، فالكورس يعلق أحيانًا وأحيانًا يسرد، وهو دائمًا ليس وحيدًا، بل مرتبط أساسًا بالأحداث الدرامية المزامنة له.

(٥) الوزير العاشق

«المسرح الشعري» تعبيرٌ حديث، فالأصل في المسرح أن يُكتب شعرًا، وتراث أوروبا المسرحي تراثٌ شعري، والقدماء يسمون المسرح «الشعر المسرحي»، ولا يكاد ديوان شاعر يخلو من المسرح على اختلاف مذاهبهم الفنية، حتى الرومانسيين الإنجليز من وردزورث وكولريدج إلى كيتس وشلي وبايرون! ولكن الحاجة قد نشأت إلى هذا التعبير مع نشأة المسرح النثري في القرن التاسع عشر، فكان لا بد من التمييز بين النوعين، ولو أن الاتجاه النقدي الحديث هو المزج لا التمييز (انظر مقالة ت. س. إليوت «الشعر والدراما») باعتبار أن هذين النوعين يلتقيان هنا التقاءً معينًا، ويخرجان نوعًا أدبيًّا خاصًّا يجمع بين أهم خصائص الشعر وهي قوة الصورة المركزة (وبخاصة الاستعارة) وقوة الإيقاع اللفظي، وبين خصائص المسرح المعروفة، أي إن النظرة الحديثة تنزع إلى التوحيد لا الفصل، ولو أن هذه النظرة نقديةٌ صرفة، أي إنها من وضع النقاد الذين درسوا التراث وخرجوا بها منه لا من وضع كتاب المسرح الشعري أنفسهم، فالمسرحيات الشعرية التي كتبها إليوت وفراي في القرن العشرين مثلًا لا تعتبر نماذج صادقةً لهذه النظرية؛ لأن الاتجاه الواقعي الذي تميز به تطور مسرح إليوت خلق هوةً بين الشعر والدراما في مسرحياته الأخيرة، وكانت النتيجة أنه توقف عن الكتابة بل وتوقف المسرح الشعري في أوروبا بصفةٍ عامة، باستثناء الشعراء الذين أبدعوا أنماطًا جديدةً من الشعر المسرحي مثل بريخت في ألمانيا (أطلق عليها المسرح الملحمي تميزًا لها عن المسرح الدرامي) ومن حاكاه من المحدثين، على قلَّتهم.

والغريب أن يزدهر المسرح الشعري في الأدب العربي بعد انحسار المسرح الشعري الأوروبي، أي إن هذه نزعة كلاسيكية لا شك فيها، بل إن ظهور أدب المسرح في اللغة العربية نفسها مرتبطٌ بحركة الإحياء على يد شوقي، وهي حركة كلاسيكية في طابعها العام، وإن لم تخلُ من عناصر رومانسية (انظر مقدمتي للترجمة الإنجليزية لمسرحية محاكمة رجل مجهول للدكتور عز الدين إسماعيل، الهيئة العامة للكتاب، ١٩٨٥م)، وكذلك كان عبد الرحمن الشرقاوي رائد المسرح الشعري الحديث يلتزم بالشكل الكلاسيكي، رغم استخدامه الشعر الحديث، أي الشعر الجديد الذي يُسمَّى أحيانًا بالشعر المرسل، ومن بعده صلاح عبد الصبور الذي استحدث الكثير في مسرحه وبخاصة محاولته الاستفادة من تقاليد مسرح العبث في مسرحية مسافر ليل (انظر تذييل الشاعر لها في الأعمال الكاملة)، ثم محمد إبراهيم أبو سنة وأحمد سويلم اللذان استلهما التاريخ، ووفاء وجدي التي حاولت التجديد في الشكل المسرحي باستخدام «المتتابعة» الشعرية القائمة على الأسطورة، وغيرهم.

وقد مر عقدٌ كامل لم يشهد فيه المسرح الشعري نشاطًا يذكر، ثم فوجئ الجمهور في خريف ١٩٨٤م، مع بداية الموسم المسرحي بعرضٍ ناجح أعاد الأضواء وأعاد الأمل! كان عرض الوزير العاشق — مسرحية فاروق جويدة الأولى — مفاجأةً، فالمسرح المصري (وأنا أقصد مسرح الدولة) ما زال أسير البيروقراطية ومشكلات الموظفين وقلة دُور العرض وتضاؤل الميزانية وهروب الممثلين، ولكن الجمهور ما زال يحمل الأمل ويحفز على العمل!

أقول أضاءت أنوار المسرح، وتدفق الجمهور والتهبت الأيدي بالتصفيق، وارتفع الستار في مسرح السلام عن الوزير العاشق بعد أيامٍ من هبوطها في مسرح الطليعة على عملٍ شعري آخر هو مأساة الحلاج لصلاح عبد الصبور، ومع نغمات الأبيات الدرامية صفق الناس أيضًا لعملاقَين من عمالقة المسرح المصري هما سميحة أيوب وعبد الله غيث اللذان عادا بعد غيابٍ ليؤكدا تجديد الأمل! فما هي هذه المسرحية؟ وكيف اتفقت الآراء على جودتها وإطرائها (باستثناء صوت أو صوتين؟) إنها مسرحيةٌ شعرية؛ ولذلك ظن البعض أنه ينبغي أن تندرج في إطار المسرح الكلاسيكي بقواعده الصارمة، ولكن فاروق جويدة انتهج لنفسه نهجًا خاصًّا جعلها تتحرر كثيرًا من قواعد الكلاسيكية، وتنتفع بكل ما أتى به المسرح الحديث من وسائل فنية؛ إذ استعان ببعض ملامح المسرح السياسي المعاصر، والأغنية الخاطفة والموسيقى والتشكيلات الجمالية المرتبطة بالمسرح الملحمي الحديث (انظر مقال د. نهاد صليحة عن المسرحية في مجلة الإذاعة، ٨ ديسمبر ١٩٨٤م)، هي إذن لونٌ درامي جديد ينبغي ألا ندرجه مسرعين في بابٍ من أبواب المسرح دون سواه، فهي تجمع عناصر من هذا ومن ذاك، وتتوسل بمستوياتٍ متعددة أهمها مستوى الإسقاط السياسي الصريح على الواقع العربي الراهن، ثم المستوى الكلاسيكي الذي يبرز لنا الأبطال في صورٍ تراجيدية لا يسعنا إلا قبولها واحترامها، ثم مستوًى آخر لا يقل أهميةً هو الغوص في أمراض العصر عن طريق اللغة الشاعرة، أي محاولة فهم التهرؤ السياسي الحالي من خلال تحليل النفوس تحليلًا شاعريًّا دراميًّا في نفس الوقت.

ورغم تعدد المستويات فإن التيمة الأساسية للمسرحية هي تيمة الخيانة، خيانة الفرد لأحلامه، وخيانة الفرد للمجموع، ومن ثَم خيانة القائد للناس، والجديد إذن هو قدرة الشاعر على تطوير هذه التيمة من مستوًى إلى مستوى، بحيث يتباعد صوت الفرد عن صوت المجموع تدريجيًّا مع تباعد فعل القائد عن قيمه، ومع هذا التباعد بين الصوتَين يصبح من المحال على القائد أن يدرك ما يريده الناس، فتقع خيانةٌ أكبر هي خيانة الحاكم للشعب! أي إن مستويات الخيانة لا تقتصر على شخصيةٍ دون سواها، بل إن هذه التيمة تخرج لنا في أبعادٍ متشابكة لا تعفي حتى ابن زيدون، البطل الملحمي والمأسوي في الوقت نفسه، من آثامها والوقوع فيها، بل لا تعفي ولَّادة، الحبيبة الرقيقة سليلة المُلك وابنة الحسب والنسب، من مسئوليتها.

والتفسير الجديد لهذه الفترة التي تصورها المسرحية (فترة سقوط الأندلس العربية) يجعل المسرحية تختلف عن المعالجات السابقة، ويجعل التيمات المتفرعة عن الخيانة تيمات لا زمنية، فهي يمكن أن تحدث في كل وقت (مثلما تحدث الآن)، وهي لذلك تأريخ لا تاريخي، أي تأريخ لا يصور التاريخ بل يجسد رؤيةً لمعنًى من معاني التاريخ؛ ولذلك فإن الشاعر هنا لا يكترث كثيرًا لتداخل الفترات التاريخية التي يصورها (فهو لا يكتب تاريخًا)، بل يزاوج بين الحدث الدرامي الذي يراه، وهو خيانة الإنسان لذاته بخيانته للمجموع، وبين انهيار الدولة الأندلسية، بحيث يشكلان في النهاية حدثًا واحدًا، إنها رؤيةٌ معاصرة لما حدث، فنحن نعرف ما حدث، ولكننا نريد أن نستشف معناه، وفاروق جويدة يرى في حاضرنا خير مفتاح لهذا السر … إنه الانفصال بين الرؤية الفردية التي تجعل الفرد سجين نفسه، وبين الرؤية التي ينبغي أن يراها، وهي صورة الناس! وهذا في رأيه خيانة، لأن الحاكم ليس فردًا بل هو صوت المجموع، فإذا لم يذكر إلا فرديته ضاع كيانه الحق وضاعت معه الدولة.

ولنقترب الآن من هذه المسرحية لنطل على جوانبها الفنية: إن ابن زيدون شاعر وله من يتغنى بشعره، وهو رجل كلمة يستطيع أن يجعل من القول سلاحًا يبطش؛ لأنه ينير البصائر ويستثير الهمم، إنه رمز الفنان الذي يكتسب أبعاد المشرِّع حين يقرض الشعر، فهو مبدعٌ مفكر، وينطبق عليه تعريف الشاعر الرومانسي الإنجليزي شلي: «إن الشعراء يضعون شرائع الإنسان دون أن يعترف بهم.» أي إنه قادرٌ ببصيرته ورؤاه النافذة على الوصول إلى حقائق الحياة التي لا يصل إليها من يتوسل بالعقل وحده، ثم هو قادرٌ على صياغة هذه الرؤى صياغةً تجعلها تنفذ إلى أعماق وجدان الناس وفكرهم، فهو بهذا قائدٌ لا وجود له دون الناس، منهم يستمد مادته ويعطيهم ثمار قلبه وعقله.

وهذا التصوير لابن زيدون يهبنا بطلًا تراجيديًّا من نوعٍ جديد، فالبطل الفنان حديث العهد بالمسرح عمومًا (كما صوره برنارد شو في بيجماليون وكانديدا)، أقول من نوعٍ جديد؛ لأنه يعيش حياة عصره لا حياة برج عاجي، لأن ابن زيدون الذي تُصوره المسرحية رجلٌ تشغله قضية الأرض والوطن، قضية الدولة العربية الإسلامية التي يتهددها الغزاة، وهو يحاول إيصال رؤاه إلى الحكام علَّهم يلتفتون، وعندما يضيق صدره بهم لا يجد ملجأً إلا الكلمة، أي إنه يعود للشعر رغم الجدلية في حديثه مع ولَّادة حبيبته عن دور السيف ودور القلم، وهو بطلٌ من نوعٍ جديد أيضًا بسبب طبيعة الصراع الذي يحتدم داخل نفسه ويجعله يختار منصب الوزارة؛ آملًا بها أن يحقق ما لم يحققه بشعره.

إن اختياره الوزارة خيانة لجانبٍ من جوانب الشخصية التي يراها لذاته، ولكنه في الوقت نفسه تحقيقٌ لجانبٍ آخر لا يقل خطورةً، وهو جانب الفعل الذي يجعله يصر على استعادة ملك ولادة ابنة آخر خلفاء الدولة الأندلسية قبل تفتتها وسيادة ملوك الطوائف! وهذه المفارقة في معنى الوزارة تهب ابن زيدون بعدًا واقعيًّا مع إبقائها على الحركة في نطاق الخطأ التراجيدي، فالبطل هنا نموذج يحدث أثره على المستوى الرمزي؛ إنه يقبل الوزارة وهو مفعم النفس بالأحلام عن وحدة المسلمين، وعن قدرتهم على أن يهبُّوا صفًّا واحدًا في مواجهة الغزاة من الأفرنج، أي إنه سيندفع وراء صورة شعرية تكذبها الوقائع، فملوك الطوائف مسوخٌ شائهة، وهم لا يكترثون للقيم ولا للأحلام، بل ولا يستطيعون أن يروا لأبعد من أنوفهم؛ إذ يجهلون أن بقاءهم ذاته مرتبطٌ باتحادهم وتخلِّيهم عن أنانيتهم …

ومن هنا نرى أن الفعل الذي أقدم عليه ابن زيدون مبني على عدم إدراكٍ للواقع وهذا هو الخطأ الذي يقع فيه … وهو بهذا يمثل بطلًا تراجيديًّا كلاسيكيًّا مقابلًا لصورة ولادة، التي ترفض التخلي عن مبادئها وترفض اللجوء إلى السيف فيهزمها السيف! إنهما صورتان متقابلتان يجسدان فيما بينهما احتدام الصراع الذي أودى بدولة الأندلس …

ولكن هذا الصراع يحدث أثره أيضًا على المستوى الشعري، أي على مستوى الصور الرمزية التي تزخر بها المسرحية، وهي ليست صورًا عابرة مثل تشبيهات الشعر الغنائي واستعاراته، بل هي صور «مهيمنة» كما يقول النقاد؛ إذ تنتظم في ثناياها شتى الصور الشعرية المألوفة، ومنها مثلًا صورة الزمن الذي يكشر عن أنيابه ممثلًا في ربيع وزبانيته، فالسلطة الزمنية التي تحكم قبضتها على الناس تخنق الفكر والإحساس، وهي تبرز لنا في صورٍ متعددة، منها صور الصراع على السلطة، وصور الانحباس في الذات، وصور التمزق، وصور الاستعانة بأساليب القهر والبطش في كبت الأفكار وإخراس الألسنة … إن الزمن عند فاروق جويدة يتجسد في مشاهد السجن التي تلقي بظلالها على قرطبة بأسرها؛ إن ولادة تحس بأنها سجينة الماضي وأبو حيان (الراوي) يعرف أن سجن ابن زيدون مجرد حدث عابر في بلدٍ يعتمد حكامه على قوة السجون:

ولادة :
قضبان عمري قصة،
أيام عز في ثرى جاه عقيم،
والجاه ضاع،
قد جندوا حراس بيتي …
أبو حيان : ماذا؟
ولادة (ساخرةً) :
الكلب يومًا حاولوا أن يخدعوه،
يجندوه،
الكلب يرفض أن يجند في «المباحث».
أبو حيان :
وصلَت بنا الأحوال أن نحيا بهذا الخوف؟
سجنٌ كبير في شوارع قرطبة؟
الله يرحمنا ويرحم قرطبة!
ولادة :
الآن يا حيان أسمعُ كل يومٍ همس أقدام تدور أمام بيتي،
خلف جدراني،
على الطرقات حولي،
هذا زمان الخوف يا حيان!

وينقل أبو حيان هذا الإحساس في العديد من الصور التي تتراوح بين الشاعرية والواقعية الرمزية، فهو يحكي قصة «الرازي» (الواقعية الرمزية) قائلًا:

أخذوه عند الفجر،
ربطوه من قدميه،
سحلوه خلف الخيل ليلًا،
والناس تسأل: هل ترى
قد مات مشنوقًا … غريقًا،
أم تفحم في حريق؟

ثم ينتقل من هذه الصورة المفردة إلى صورة قرطبة بأسرها، مرتفعًا بالرمز إلى مصاف الشعر العظيم:

ومضى الزمان …
وسجين قرطبة يلملم جرحه،
والليل يعبث في شوارع قرطبة،
واليأس والدجل الرخيص …
لكن شعر أبي الوليد
يطوف في كل البيوت،
على المزارع … في حقول القمح،
في الطرقات يقرؤه الصغار،
والظلم يأكل كل ضوء في شوارع قرطبة،
وروائح الغدر اللئيم
تدور سرًّا في سراديب الملوك!

إن هذه الصور الشعرية التي يوظفها المؤلف دراميًّا تمثل امتزاج المسرح بالشعر، بحيث تنسحب دلالات الصورة على الموقف، وبحيث يهب الموقف الصورة عمقها، فالزمان في أول بيت يتضمن المعنى الرمزي الذي ألمحنا إليه (إلى جانب دلالته العادية)، وذلك للتركيب الذي يستخدمه الشاعر؛ فهو أيضًا الليل الذي يعبث (أي يعربد ويعيث فسادًا) في الشارع، وهو اليأس والدجل الرخيص وهو الظلم الذي يأكل النور، وهو «روائح» الغدر اللئيم! فإذا بالسجين في قرطبة يصبح سجينًا لها لا فيها وحسب! إن ابن زيدون أصبح سجين الوطن الذي يحلم بإنقاذه وهو في نفس الوقت روحٌ طليقة، حين يتحول إلى شعرٍ يطوف في البيوت (لا بها)، أي إنه النور الذي لا يمكن لليل الزمان أن يطفئه، وعلى مستوى هذه المفارقة الشعرية ينتصر ابن زيدون رغم هزيمته الواقعية!

وخذ مثلًا آخر للصورة الشعرية التي تُثري البناء الدرامي: إن ابن زيدون حين يقول غزلًا في ولادة لا يقف به عند حد الغزل، ولكنه يضع في ثناياه بذور الصراع الدرامي، إنه يشبهها «بالصبح الذي لا يغيب، وبالرجاء الذي لا يخيب»، إنها أملٌ في عينيه، وهو الأمل الذي يتكشف لنا حين يفصح لها عن خطته مع «ابن الزير» لتوحيد كلمة العرب:

لمَ لا نعيد المُلك للبيت القديم،
ويجيء جيش كي يحرر قرطبة،
ويعيد حكمك في ربوع الأندلس؟
وستشهد الأيام عرسًا
لن يراه الناس يومًا في شوارع قرطبة،
عرس المليكة والوزير أبي الوليد!

إنها إذن ليست صبحًا لا يغيب ولا رجاء لا يخيب، بل هي تمثل حلم رجل برجماطيقي، أو قل «خطة عمل» تغير من مفهومنا لقصة الغرام التاريخية، وتجعل من موقف ابن زيدون إنسانًا يخطئ، قد يحلم وقد تشرف مقاصده ولكنه يخطئ، حين يتصور أن مثل هؤلاء الحكام يمكن أن يتحدوا، أي إنه يخطئ في تقديره لمعنى الزمان كما يصوره الشاعر! وهنا تكمن طاقة التراجيديا في الشخصية، لأننا على المستوى الواقعي نعرف أنه من المحال تحقيق ما يصبو إليه، إذا استمر في محاولاته لجمع شمل من يعرف أنهم سفهاء وبُلهاء، وإذا ظل يحاول أن يحكم «من فوق» أي من منصة الملك ومن مقعد المليك، الخطأ إذن ليس قبوله السيف، ولكن في مفهومه لمعنى السيف! إنه يخطأ الخطأ التراجيدي الذي يودي به في النهاية؛ لأنه لم يتأمل قول ولادة:

إن كنت تحلم بالحياة وبالرخاء لشعبنا!
فلديك هذا الشعب!
دعنا من الخلفاء والأمراء والبلهاء من حكامنا!
اذهب لشعبك إن أردت الملك،
فالشعب في يده القرار!

وتتكرر هذه التيمة عبر المسرحية في عدة صور، أحيانًا على لسان ربيع (في صورٍ مناقضة بطبيعة الحال) وأحيانًا على أفواه الملوك الذين لا يرون أن الشعب في يده أي شيء، وأحيانًا على لسان ابن زيدون نفسه، فهو حتى اللحظات الأخيرة لا يدري خطأه، وهذا يعمق المأساة إلى أبعد الحدود!

ومثلما يتحد الشعر والدراما في إخراج الصراع الكلاسيكي والحديث معًا، تتحد عناصر العرض المسرحي لتقدم مسرحيةً تنتمي لمسرح الثمانينيات حقًّا، فموسيقى منير الوسيمي تلعب دور ضابط الإيقاع الذي يحد التيمات والتنويعات عليها، والأغاني الخاطفة تلعب دور الراوي أو المعلق الكلاسيكي، بحيث تلفت انتباه المتفرج إلى معنًى ما أو صورة ما، أو فكرة يمكن أن تولد من المعنى أو الفكرة، إن فهمي الخولي مخرجٌ خلاق، وهو يضع يده على عصب النص حين يقرر أن يخرجه بروح المسرح الملحمي (رغم كلاسيكيته)، ونجاحه في إعادة عبد الله غيث وسميحة أيوب إلى المسرح، لا يقل شأنًا عن نجاحه في استخدام الحركات والتشكيلات البصرية الموحية، بحيث بدا المسرح كله ترجمةً للصور الشعرية الدرامية في آنٍ واحد: كان الجنود بحرابهم يمثلون «قوى الضعف» لدى الحكام، فالضعيف هو من يستعين بالحراب لقهر الناس؛ ولذلك كان المشهد الختامي بالغ التأثير؛ إذ إن روح شعر ابن زيدون هي التي تنتصر وهي التي تلقي بالحراب خارج المسرح، وتلهب خشبة المسرح والجمهور بأغنية الختام!

والحق إن الإطار الذي وضعت فيه الموسيقى كان ملائمًا لروح الإخراج، فجاءت تعتمد على الإيقاع أكثر من اللحن السيال، وكذلك كان ديكور أشرف نعيم، مُركبًا ولكنه يسيرٌ مريح للعين، زاخر بالألوان الفاقعة التي هي أوضح ملامح انهيار الطاقة النفسية للحكام، ولا بد من ذكر البراعة التي يبديها حسين الشربيني في أدائه لدور ربيع، فهو منفرٌ شرير خفيف الظل! وهو يجمع بين هذا وذاك مستعينًا بحركة يديه بعباءته السوداء، إلى جانب رنة السخرية التي أصبح يتقنها إتقانًا بالغًا، ولا شك أن سائر من اشتركوا في العرض قد ارتفعوا إلى مستواه، مثل مدحت مرسي وإيمان حمدي وعلى حسنين (في دور الملك).

وربما ينبغي أن نتوقف عند محمد الشويحي الذي يثبت يومًا بعد يوم قدرته الفائقة على الأداء الكوميدي، فهو موهبة فذة لا يمكن نكرانها ونتوقع منه الكثير.

إن عرض الوزير العاشق نسمة أمل للمسرح المصري، وبعد كل ما قيل عما «يقوله» هذا العرض عن واقعنا العربي أو الإسلامي، ينبغي أن نؤكد أن قيمة العمل لا ترجع إلى ما يقوله، بل إلى ما يفعله داخل المسرح وداخل المسرحية، إنه يعيد النبض إلى الدراما الشعرية، ويوقظ فينا الإحساس بالحاجة إلى المزيد منها، ويعلن عن مولد كاتب مسرحي ينبغي أن نرحب به ونطالبه بالمزيد.

(٦) الخديوي

ما زالت فترة حكم الخديوي إسماعيل (إسماعيل باشا حفيد محمد علي ١٨٦٣–١٨٧٩م)، مثار خلاف ونقاش حاد حتى بين المتخصصين في التاريخ الحديث، ومن غير المحتمل أن يكتب لهذا الخلاف أن يُحسم في القريب العاجل، حتى ولو توافرت الوثائق التاريخية المبثوثة في مراكز البحوث الأوروبية والمصرية، والتي تعتبر عسيرة المنال أمام كثيرٍ من الدارسين، مهما بلغ حماسهم وحدبهم على استكناه الحقيقة، ولقد صدرت في العقود الثلاثة الأخيرة وحدها كتب ومقالات يصعب تحديد اتجاه عام لها، فكلٌّ منها يحاول أن يكون منصفًا وكل منها يعكس وجهة نظر محددة ومذهبًا بعينه من مذاهب قراءة التاريخ، ويكفي أن نقابل بين دفاع الدكتور لويس عوض عنه في تاريخه للفكر المعاصر (وما أورده من أدلةٍ على أن الديون كانت التركة التي خلفها سعيد باشا لإسماعيل)، وبين الهجوم الضاري على إسماعيل من جمهور المؤرخين المصريين، الذين اتبعوا عبد الرحمن الرافعي و«الحقائق» التي أوردها ذلك الرجل العظيم.

وأنا أضع كلمة «الحقائق» بين أقواسٍ صغيرة؛ لأن «الحقائق» التي يتناولها دارس التاريخ تختلف اختلافًا بينًا، عن الحقائق التي يتناولها أو يكتشفها المشتغل بالعلوم الطبيعية؛ فحقائق العلم الطبيعي مطلقة، وهي مفردة، ولا تخضع للسياق أو لما أمكن أن يكسبها معاني جديدة، بل هي قادرة، على العكس من ذلك، أن توجد السياق الملائم لفهم سواها من حقائق العلوم الإنسانية وأهمها وأشقها التاريخ، فالحكم بنفي شخص أو إبعاده، أو حتى بقتله، قد يمثل حقيقةً من حقائق التاريخ المادي، أي قد يمثل حادثةً صحيحة، أو خبرًا صحيحًا يسهل التثبت من وقوعه بالبرهان المادي، ولكن تفسير هذه الحقيقة قد يختلف اختلافًا كبيرًا طبقًا للسياق الذي وقعت فيه، حتى ليتراوح الحكم عليها وتحديد معناها من أقصى الإدانة إلى أقصى الاستحسان والإكبار!

ولا يقتصر جهد التفسير على تحديد السياق، بل هو يعتمد أيضًا على ما شاعت تسميته بأنساق القيم، وهي مجموعة أو مجموعات المبادئ والأحكام الخلقية التي تستقر في مجتمعٍ من المجتمعات، أو تظل كامنةً تحت مظاهر السلوك والأفعال التي يقوم بها الأفراد داخل المجتمع دون الإفصاح عنها، ودون أن تتخذ صورًا لفظية أو مادية محددة، وهي تُعرف لدى علماء الفكر الحديث بالافتراضات المسبقة، أي ما يفترض الكاتب وجوده دون مناقشة، فيقيم على أساسه حواره مع الأحداث ومع القراء، فأنساق القيم التي استند إليها ابن خلدون في كتابة تاريخه تختلف عن أنساق القيم التي استند إليها كل من سبقوه من كُتاب التاريخ — مثل الطبري — ومن جاءوا بعده من كُتاب الغرب؛ ولذلك نجد ذلك التفاوت المذهل في تفسير الأحداث وفي تقبل إمكانية حدوثها ورصد معناها فيما بين المؤرخين، وهذا الذي يمكنه أن يساعدنا على تفهُّم تمجيد الجبرتي للمماليك، رغم ما يورده من «حقائق» مخزية عن حكمهم، وعلى تفهم موقف ابن إياس من أحداث عصره، بل لن نبالغ إذا قلنا إن هذه الافتراضات المسبقة كانت تحدد في نظر الكاتب «حقيقة» الحادثة، إلى الحد الذي قد يورد معه «حقائق» غير حقيقية إذا قيست بمقاييس أخرى.

والأديب الذي يتناول التاريخ إنما يتناول الإنسان في الواقع، فهو لا يكترث كثيرًا لمعايير الصدق أو الكذب المألوفة، بل ينصب اهتمامه على المعنى؛ ولذلك فقد يضفي معاني عصره التي أصبحت تمثل الافتراضات المسبقة على رؤيته للتاريخ، أي إنه يفعل عامدًا ما يفعله المؤرخ غير عامد! ولا يقول أحد إن المؤرخ يختلف عن الأديب في التزامه الموضوعية المطلقة وتنزهه عن الهوى، فليست هذه الموضوعية إلا نظرة تمليها أنساق قيم العصر وافتراضاته المسبقة عن الإنسان والحياة، وما تنزهه عن الهوى إلا انصياع لتيار الأفكار السائدة في زمانه، والاستناد إليها كإطارٍ يحدد رؤيته للأحداث الواقعية، وإن لم يكن على وعيٍ كامل بذلك.

ولقد مررت بتجربة قراءة التاريخ المصري والعربي عدة مرات، عندما كتبت «الغربان» (الطليعة ١٩٨٨م) و«جاسوس في قصر السلطان» (القومي ١٩٩٢م)، ثم عدت إلى التاريخ من جديد في الأعوام الثلاثة الأخيرة وأنا أكتب «الدرويش والغازية» (التي ما زالت تتعدل وتتبدل)، وخلال مشاركتي الدكتور سمير سرحان (المولع بالتاريخ العربي والإسلامي) في كتابة «رحلة التنوير» (القومي ١٩٩١م) و«علي مبارك» (التي لم تُعرض بعد)، وأثناء استغراقي في المسرحية الأخيرة مع الدكتور سرحان، توقفنا طويلًا عند شخصية الخديوي إسماعيل، وحرنا ما نفعل به! وقد اقتضت الظروف أن أسافر إلى أوروبا أثناء استغراقنا في كتابة النص المسرحي، وأنْ أفاجأ عند العودة باهتمامٍ غير مسبوق برواد التنوير بصفةٍ عامة، وبصدور سلسلة من الكتب التي تقدم ثمار قرائحهم في فجر النهضة العربية المصرية، وبانتقال مسرحية الخديوي التي كتبها الشاعر فاروق جويدة ولم ينشرها بعد إلى قطاع الفنون الشعبية والاستعراضية.

إذن فقد قرر الشاعر أن يقدم لنا صورةً شعرية للخديوي، ولم يكن في ذلك ما يريح الباحث الذي يضنيه تضارب الأفكار، ولكن فيه قطعًا ما يبهج الخيال الشعري والصور المرتبطة، شئنا أم أبَينا، بفجر النهضة الذي شغل بالنا، وما فتئ يشغل بالنا حتى هذه اللحظة! وتساءلت: هل حاول الشاعر أن يرى في حيرة الخديوي بين الانتماء السياسي للدولة العثمانية المتداعية وبين الانتماء الوطني لمصر مصدرًا لصراعٍ درامي يرفعه إلى مصاف الأبطال التراجيديين؟ وهل حاول الشاعر أن يرى في التردد المهلك بين الحلم المهيمن (حلم التحديث وإعادة أمجاد الحضارة التي قد تتطلب دفع ثمن غالٍ)، وبين الواقع الكئيب الذي فرضته ظروف تاريخية لا قبل له بها مصدرًا لصراعٍ شعري من اللون الذي اتسمت به الدراما الشعرية عبر عصورها، أم حاول الشاعر إعداد مزيج عصري من الرؤى الشعرية لتلك الحقبة، بحيث تنصب انصبابًا على واقعنا فتكسبه معاني جديدة، وتزيد من فهمنا أو من تعميق إدراكنا له؟

ثارت بذهني هذه التساؤلات بعد أن انتهينا أنا وزميلي من كتابة النص، الذي تحاشينا فيه التطرق إلى شخصية الخديوي إسماعيل، إلا في حدود علاقته بعلي مبارك، وعندما سمعت أن محمد الموجي نفسه هو الذي وضع الألحان للمسرحية، وأن وليد عوني هو الذي صمم الرقصات، وأن نيفين علوبة تغني على المسرح (من ألحان الموجي)، وكل ذلك بقيادة المايسترو جلال الشرقاوي، أصبحت أعد الأيام شوقًا لرؤية هذا العرض الغنائي الكبير! ولم يقدَّر لي أن أشهد كثيرًا من التجارب المسرحية (بسبب سفري مرةً ثانية)، ولكنني ظللت أتردد على العرض بعد افتتاحه بصفةٍ شبه يومية، لأرى لمسات التعديل اليومية التي وصلت به إلى أقصى ما يمكن تحقيقه من إجادة، بعد نحو أسبوعين من ليلة الافتتاح.

وقد أتاحت لي هذه الفترة الزمنية أن أتخطى كثيرًا من العقبات التي يصادفها النقاد الذين يتسرعون في أحكامهم، سواء كان ذلك للضرورات الصحفية أو لانشغالهم بسواه، فطرحت من جديد تساؤلاتي ووجدت أن فاروق جويدة يجيب بالإيجاب عليها جميعًا، وفي نفس الوقت! أي إن العمل المسرحي الذي نشاهده، والذي يجتذب الجمهور كل ليلة، عرض غنائي راقص تفيض جنباته بالموسيقى الشرقية، وتتنوع فيه الأصوات البشرية، والتشكيلات البصرية، والحركة الدفاقة، وفي باطن ذلك كله صورٌ شعرية منسوجة دون تعقيد أو تركيب، مما لا يحتمله المسرح لتاريخٍ لم يصبح تاريخًا، بل أصبح واقعًا معاصرًا تعيشه الجماهير كل يوم! فنحن نرى في الخديوي شخصيةً تاريخية وشخصية معاصرة معًا، ونرى في مشاكله مشاكل الماضي والحاضر، ونسمع صوت الشعب الذي تجاهله المؤرخون، أي إنه شخصية حقيقية وشخصية رمزية في نفس الوقت!

وتمثل عبارة «في نفس الوقت» المدخل الحقيقي في رأيي إلى هذه المسرحية، أي إن الحكم عليها يقتضي منا أن نأخذ في حسباننا ذلك الطموح الجارف، الذي حدا بجلال الشرقاوي أن يجمع بين الدراما الكلاسيكية (بتأكيده على انسياق البطل وراء حلمه حتى يتسبب في سقوطه) وبين العمل الموسيقي الذي لا يتطلب إلا لوحات تمثل لقطات من الشعر المجسدة في الحركة والشكل واللون، وبين الدلالات المعاصرة الموجهة لأبناء هذا الزمان! ومعنى ذلك ببساطةٍ أننا لا نواجه مسرحيةً واحدة، مهما كانت عناصر انتماءاتها الكلاسيكية أو التجريبية أو الغنائية أو الشعرية، ولكننا نواجه عرضًا مسرحيًّا واحدًا يتضمن عدة شرائح مسرحية، تنتمي شريحةٌ واحدة منها فقط للدراما الكلاسيكية! كيف استطاع جلال الشرقاوي إذن أن يحقق هذا المزج (الذي يستعصي على الكثيرين من مخرجي الدراما) بمؤازرةٍ سخية من عبد الغفار عودة، رئيس القطاع والمخرج النابه؟ إن مفتاح ذلك يكمن، شأنه شأن أي قائد للأوركسترا، في التوزيع، أي اختيار العازفين؛ لأن التوزيع الموسيقي على الآلات هنا يقوم به المؤلف! فلديه قمة في الأداء المسرحي: سميحة أيوب، ومحمود يس، وأشرف عبد الغفور، ومدحت مرسي وفاروق الدمرداش، وزهور تونع في هذا الحقل أصغرهن عبير التي يزداد عبيرها انتشارًا كل ليلة، ومي، ومنال عفيفي، ومن جعلتها أخيرًا لأقول لها كم كنت أتمنى أن أسمعها تغني أكثر وأكثر … نيفين علوبة! ولديه قمة في الأداء التشكيلي والحركي، محمود مبروك ووليد عوني، وفوق الجميع أستاذ في الموسيقى أحمل له منذ الصبا كل الإعجاب، وما زلت أعتبر أنه، كما يقول عبد الوهاب، أبو الألحان الذي أنطق أوتار العود الأرضي بأنغام القبس العلوي: محمد الموجي!

هذه التركيبة إذن هي السر! وعندما أشهد الجماهير التي تملأ ساحة البالون على سعته، وأتطلع بعينين فاحصتين وأذنين مرهفتين إلى ما تقوله الجماهير ليلةً بعد ليلة، أقول في نفسي لقد حققنا حلم المسرح الاستعراضي الحقيقي، وهو المسرح الذي أصبح السمة السائدة في مسارح أوروبا وأمريكا، وهو التحدي الموجَّه إلى العمل المسرحي في أشق صوره بسبب تكاتف الجهود المطلوبة، وتنوع الفنون المستثمرة والطاقات المبذولة.

١  قُدمت مسرحية الغربان على المسرح عام ١٩٨٨م، وهذه هي مقدمة طبعتها الثانية (في صورتها المعدلة) عام ١٩٨٧م.
٢  مقالات مختارة، ص٥٢.
٣  مقالات مختارة، ص٣٨.
٤  عن الشعر والشعراء، مقال الشعر والدراما، ص٧٢.
٥  الطريق اليوناني إلى حضارة الغرب، فصل: فكرة التراجيديا.
٦  عن الشعر والشعراء، مقال الشعر والدراما ص٧٤.
٧  تراجيديا شيكسبير، فصل: معاني التراجيديا.
٨  انظر كتاب «نظرية الأدب» رينيه ولك وأوستن ولرن … فهو يورد عرضًا عامًّا للكتب التي تناولت التصوير.
٩  تطور الصور الفنية عند شيكسبير، ص١٣٣.
١٠  من الملاحظ أن «لير» على الرغم من حديثه النفسي أو «أحاديثه النفسية»، لا يقدم أي حديثٍ منفرد على المسرح، حتى حينما يجن ويخرج إلى العاصفة، يكون بصحبته المهرج.
١١  يزدحم المونولوج الشيكسبيري عادةً بالصور؛ لأن الشخصية لا تفصح فيه عن مشاعرها العابرة فحسب، بل عن لحظة انفعالٍ خاصة يلتقي فيها أكثر من طرفٍ من أطراف الصراع، وهذا الالتقاء هو الذي يُحتم اللجوء إلى التصوير.
فالبطل في هذه اللحظة المُركزة يشهد «رؤيا خاصة» لا بد أن يحاول التعبير عنها حتى يكتشفها ويكشف عنها فينتهي التوتر، وهو في سبيل ذلك يحاول الاقتراب منها متوسلًا بشتى الصور … ولا يهمنا بالطبع نجاحه في ذلك أو فشله.
١٢  يورد الدكتور كليمين تعليقًا للدكتور «شميتز» حول كثرة ورود الاصطلاحات التجارية والكمية، واستعمال المقارنات الحسابية في لغة الأختين مثل «إفراغ»، «الباقي»، «الحاجة»، «الافتقار»، «التجزئة»، «الجائزة»، «الاستعمال»، «العمل»، «آمن وكامل» … «إنفاق الدخل وإضاعته» … إلخ.
١٣  التراجيديا الشيكسبيرية، ص٢٦٢.
١٤  كلينث بروكس في كتابه إناءٌ محكم الصنع.
١٥  كليث بروكس في كتابه إناءٌ مُحكم الصنع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥