الفصل الرابع

أنواع الكوميديا الحديثة

(١) كوميديا الشخصية

كان من نتيجة «النجاح الجماهيري» لبعض عروض المسرح التجاري أن اختلط مفهوم الكوميديا لدى الكثيرين (بل ومفهوم المسرح والفن الدرامي نفسه)؛ إذ بدأ الاعتقاد يسود، بكل أسفٍ، بأن الكوميديا هي التسلية عن طريق الإضحاك بأي وسيلةٍ ممكنة، وعن طريق الاسكتشات الموسيقية الراقصة والغنائية التي تدخل جميعًا في إطار المنوعات، ولا تتصل إلا بلونٍ واحد فقط من ألوان هذا الفن وهو ليس قطعًا بأرقاها، ألا وهو لون الهزلية الغنائية، بل لقد بلغ هذا المفهوم حدًّا من الشيوع والتغلغل داخل أبناء الحركة المسرحية نفسها، جعل النجاح يقاس بعدد الضحكات التي تثيرها كلمات أو حركات مسرحية بعينها لدى الجمهور! ولذلك فقد وجد الكثيرون صعوبةً في فهم ما قالته مجلة المسرح في عددها الأول من أن مسرح سعد الدين وهبة، يقدم «كوميديا الموقف القائم على الشخصية»، وطالب البعض صراحةً بتفصيل القول في هذا «النوع»، الذي ظن لفيفٌ من القراء أنه ينطبق بداهةً على كل كوميديا، ولا يكاد يحتاج إلى التمييز بينه وبين أي «نوعٍ» آخر!

والحق أن الكوميديا، مثل أي فن درامي، لا بد أن تنبع من موقف، ومعنى الموقف وجود قوًى متصارعة تخلق ما اصطُلح على تسميته بالتعقيد، ولكن الكوميديا تختلف عن التراجيديا في أنها تعتمد على إمكانية حل هذا التعقيد، بإحلال نوع من التوافق بين هذه القوى يعيد المياه إلى مجاريها، ويعلن انتصار الحياة بانتصار الإنسان على نوازع الصراع والتصارع، فالكوميديا، كما قال ناقدٌ كبير «احتفال بالحياة» … أي احتفال بقدرة الإنسان على الاستمرار، ومن ثَم فهي احتفالٌ بالإنسان نفسه وقدرته على تخطي الصراعات، وطاقته على العطاء الذي من شأنه أن يحدث التوفيق في النهاية، التي عادةً ما توصف بأنها نهاية سعيدة.

وإذا نظرنا من هذه الزاوية إلى تراث الكوميديا في الدراما العالمية، استطعنا أن نفهم سبب ميل معظم الكوميديات إلى تناول الأخطاء التي يمكن علاجها، أي تلك العيوب والنقائص في نفس الإنسان وفي المجتمع (أي في العلاقات البشرية) التي يمكن التغلب عليها، وقد تتمثل هذه في أخطاء البنية الاجتماعية بسبب أخطاء في الأفكار أو المفاهيم المتعارف عليها أو المتوارثة أو بسبب أخطاء في نوازع النفس البشرية لا ترتبط بمجتمعٍ أو بزمانٍ ومكانٍ معين.

الظاهر والباطن

ولهذا دأبت الكوميديا على السخرية من المظاهر الاجتماعية والبشرية، مما جعلها تقترن بإثارة الضحكات على هذه المظاهر الخاطئة، سواء في السلوك أو الطباع أو العلاقات التي تحكم بناء المجتمع، بل إنها لطول اقترانها بالسخرية من العيوب الظاهرة قد دفعت البعض إلى الاعتقاد بأن الكوميديا تختص بالظاهر بينما تتناول التراجيديا الجوهر والباطن، وهو اعتقادٌ غير صحيح لأن السخرية من الظواهر تتضمن سخريةً من كل ما يؤدي إلى هذه الظواهر أي بواطن الشخصية، وكل ما يكمن في نفس الإنسان من تناقضات.

وفي هذا الإطار يمكننا التفريق بين نوعين من الكوميديا سادا عبر العصور، وتفاوتت قيمتهما الفنية بتفاوت تركيزهما على الظاهر والباطن، أما الأول فهو الذي يتناول صور البناء (أو التركيبات) الاجتماعية التي انقضى عهدها، وبدت نقائصها وأوجه القصور فيها، فأصبحت مثار سخرية المتنورين وقادة الرأي، سواء لما تقتضيه من ألوان السلوك البشري التي لم تعد مقبولةً أو لما تفترضه من أفكارٍ عفا عليها الزمن وأصبحت ممجوجة (مثل نظام الزواج عن طريق الخاطبة المأجورة، أو قواعد السلوك الأرستقراطية البالية، أو نظم العمل في دواوين الحكومة، وما تشتمل عليه من مفارقاتٍ في علاقات الرؤساء بالمرءوسين، أو الادعاء بغية اكتساب الاحترام وما إلى ذلك).

أما النوع الثاني فيركز على النقائص البشرية التي قد تتولد عن هذه «التركيبات» الاجتماعية أو تتسبب فيها حقًّا وصدقًا!

وقد شهد تاريخ الكوميديا في العالم، وفي مصر بطبيعة الحال، ألوانًا متباينة من هذا النوع، كانت تميل في بدايتها إلى التبسيط الشديد في مفهوم الشخصية الإنسانية، فانحصرت في كوميديا الطبائع وكوميديا الأنماط، وبينما كانت كوميديا الطبائع تركز على خصيصةٍ معينة في شخصية وتبالغ في تصويرها بحيث تقترن كل شخصية بطبعٍ معين (مثل البخل الشديد، أو البلاهة أو الاستغراق في الملذات الحسية، أو الميل إلى العزلة أو الخوف أو النفاق … إلخ)، كانت كوميديا الأنماط تقدم شخصياتٍ نمطية تحددت ملامحها سلفًا، بحيث يستطيع الجمهور أن يتعرف عليها بمجرد دخولها إلى المسرح (مثل شخصية الأب الغني الماكر البخيل، أو ابنته الخادعة له، أو المرابي الذي يتظاهر بالتقوى، أو العاشق العجوز أو مدعي العلم والثقافة … إلخ)، وهكذا لم يكن الكاتب في حاجةٍ إلى الإفاضة في تحليل وتصوير هذه الشخصيات لأنها معروفةٌ سلفًا؛ ولأنها لا تمثل الإنسان الكامل بل نزعةً واحدة فيه، ومن ثَم وجدنا الحبكات التي استخدمها الكتاب في هذا الصدد محدودةً بهذه الأنماط، وكما قال درايدن الكاتب المسرحي والناقد الإنجليزي الأشهر: كان يكفي الرومان أن يجمعوا بعض الشخصيات النمطية معًا، حتى تتكون لديهم مسرحيةٌ كوميدية!

كوميديا الحب

ولا يعني هذا التقسيم الخارجي لنوع الكوميديا أنهما لا يتقابلان أو يتداخلان، بل على العكس فإن الكوميديا التي تسخر من البناء الاجتماعي أو «التركيبة» الاجتماعية، قديمةً كانت أم جديدة، تتناول أيضًا شخصياتٍ نمطية، وقد يستخدم كاتبٌ ما شخصيات نمطية في إطارٍ اجتماعي يجعله مثار سخريته، وهدفًا لضربات معوله النقدي، وفي كل هذا كانت الكوميديا تتطلب إقصاء البعد الشعوري الذي نسميه أحيانًا بالتعاطف أو الاندماج الذي تهدف إليه التراجيديا، بمعنى أن كل هذه الكوميديات كانت تحافظ على المسافة بين المتفرج والممثل، أي تؤكد على الاختلاف بينهما، ولا تسمح للمتفرج أن يوحد في خياله بين نفسه ومن يراه على خشبة المسرح، ولم يتغير هذا الواضح إلا في عصر النهضة، حين نشأ ما اصطلح على تسميته بكوميديا الحب (والتي تطورت إلى الكوميديا الخلقية على أيدي جولد سميث وشريدان، ثم انتهت إلى نوعٍ جديد تمامًا على أيدي وايلد وبرناردشو)، وفي البداية كان الحب هو المحور الذي دارت حوله الحبكات، مما استلزم إدخال عناصر أخرى من عناصر الشخصية، ابتعد بها عن النمطية وكوميديا الطباع، وهي العناصر التي تمثل الجوانب الأخرى للشخصية، أي العناصر التي تكتمل بها صورة الفرد، بحيث أصبح من الصعب على المرء أن يقول إن هذه الشخصية فكاهية وحسب، أو إن هذا الموقف تديره أنماط البخل والنفاق وحسب … إلخ، أي إن التبسيط في رسم الشخصية، والمبالغة التي كان التصوير الفكاهي يقتضيها، قد انتهت ليحل محلها نوعٌ هام من التعقيد، نتيجةً للبعد الشعوري للكوميديا (أي إمكانية التعاطف بين الجمهور والشخصيات التي يسخر منها)، ونتيجةً لانتقال التناقض من الظاهر (من مظاهر السلوك والعلاقات) إلى الباطن، أي إلى التناقض الكامن في أعماق الشخصية البشرية نفسها.

التناقض الداخلي

والذي نعنيه بهذا هو أنه بينما كان كاتب الكوميديا القديمة يركز على المبالغة في التصوير، بحيث تختل الأشياء (مثلما يفعل رسام الكاريكاتير)، فيبرز التناقض أمامنا في الحركة والحديث، بدأ الكاتب يهتم بتصارع الوعي مع نزعات النفس، أو تصارع نزعات النفس بعضها مع البعض، أو التصارع فيما بين تيارات الوعي نفسها، بحيث تختل «النسب» النفسية للإنسان، وتنبع المفارقات التي دائمًا ما اتسمت بها الدراما عبر العصور … ومعنى هذا أن الموقف الذي تنبع منه الكوميديا، والذي نراه مجسدًا على المسرح في الحركة والكلمة، هو في جوهره موقف تنازع وتناقض داخلي، إما في كل شخصية على حدة، أو فيما بين الشخصيات بعضها والبعض، أي في المجال الذي تلتقي فيه النفوس … كلها أو بعضها.

وقد اهتم الكتاب والنقاد بهذا اللون من الكوميديا؛ لأنهم رأوا فيه ما يلائم ازدياد وعي الإنسان بذاته، بمشاعره وأفكاره وموقفه من المجتمع والوجود نفسه، وما يتمشى مع اكتشافه لمناطق في كيانه لم يكن يحلم بوجودها من قبل، وما يعكس إدراكه الدقيق لما يدف بين جوانحه من نزعاتٍ متضاربة لم يكن يعرف لها تفسيرًا، ومن ثَم فقد اتجهت الكوميديا الحديثة نحو المفارقات الداخلية التي أصبحت مادةً صالحة للكوميديا، مثلما هي مادة صالحة للتراجيديا، والفارق هو أن التوفيق بينها في الكوميديا يؤدي إلى نهايةٍ سعيدة تؤكد طاقة الإنسان وانتصار إنسانياته، وإذا هي اشتملت على خطأٍ قاتل (ما يُسمَّى بالخطأ التراجيدي)، فإنها تنتهي بهزيمةٍ مؤقتة لفردٍ أو أفراد، تهيئ للإنسان أن يخرج بقدرةٍ أكبر على مجالدتها والانتصار عليها.

(٢) كوميديا التورية الساخرة

درجنا على اعتبار التورية نوعًا من التلاعب بالألفاظ كما تُسمَّى في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، أي أن يستخدم اللفظ المفرد في موضعٍ بحيث يدل على معناه الأصلي وعلى معنًى آخر ينبع من السياق، ويعتمد على معرفة المستمع له، ولكن ثمة لونًا آخر من التورية يقترب من المفارقة، ويرتبط بالدراما لارتباطه بالموقف والشخصية، ويبتعد إلى حدٍّ كبير عن دلالة الكلمات المفردة، فبينما يستطيع كاتب القصة أو المقال أو الشاعر، أن يعتمد على قدرة المفردات على الإيحاء بمعانٍ أخرى تختلف عن المعاني الظاهرة لها، نرى أن الكاتب المسرحي يعتمد على قدرة الموقف الدرامي على خلق هذه المعاني، حتى لأبسط الكلمات ذات الدلالات المحددة.

ويمكننا بصفةٍ عامة تقسيم التورية اللفظية غير الدرامية إلى أربعة أنواعٍ: فأولها استخدام الكلمة لتدل على أكثر من معنًى، مباشرة، كقول أحدهم لعازف العود: «أنت عودك حلو.» أو كقول حافظ إبراهيم لرجلٍ كان قد وعده بإهداء ساعة ثم أخذ يماطله: «إن الساعة آتية.» وهكذا، وثانيها استخدام الكلمة بمعناها الاشتقاقي بدلًا من معناها الاصطلاحي أو إلى جانبه، كقولك: «ده شاعر ده؟ ده شاعر بمغص!» أو: «ما قدرش يكتب أي كُتب … راح كاتب كتابه!» وثالثها الاستخدام الحرفي (أو الحقيقي) للكلمات أو العبارات ذات الدلالة المجازية، كقولهم إن فلانًا «يسهر» على رعاية آخر، أو قول أحدهم: «ضربته كي أضرب لكم مثلًا.» ورابعها وأكثرها شيوعًا هو إقامة توازيات بين المعنى المجازي أو الاصطلاحي والمعاني الأخرى، كمن يقول لمأمور المركز: «إن مركزك لا يسمح بهذا.» أو قول حافظ إبراهيم عندما رأى ساعة جيبٍ ضخمة: «دي موش ساعة … دي سنة.» ومثل المداعبات الأدبية التي عرفها الظرفاء والشعراء في الجيل الماضي، فحينما كتب حافظ إبراهيم يداعب أحمد شوقي قائلًا:

يقولون إن الشوق نار ولوعة
فما بالُ شوقي اليوم أصبح باردًا

رد عليه شوقي قائلًا: «حافظ على الحذاء!» وعندما مر عبد الله فكري على الشيخ السمني، وهو جالسٌ في الشمس قال له: «حذارِ أن تسيح يا سمني.» فرد عليه السمني قائلًا: «إنني أقدح فكري.» وهكذا مما يقتضي اللماحية وسرعة البديهة التي شاعت في حوار دراما عصر عودة الملكية في إنجلترا، ودراما آخر القرن التاسع عشر، والتي تشيع في مصر على كافة المستويات، والتي تكاد تكثر في نطاق الإشارات الجنسية، أي العبارات التي يمكن تفسيرها تفسيرًا خارجًا، والتي تبدو في أشد صورها وضوحًا في فن «القافية» الشعبية، بل وما يمكن أن نسميه أيضًا بفن «الردح».

القافية والردح

ولا تزال مسرحياتنا الفكاهية تعتمد، بكل أسف، اعتمادًا كبيرًا على هذا اللون من التورية اللفظية، وبالذات ما أسميته بفن القافية وفن «الردح»، ليس احترامًا له ولكن اعترافًا بمكانته الأدبية، والتي لا يخلو منها كبار الكتاب (حتى شيكسبير نفسه)، والتي تنتشر في فن الموال الشعبي، وتبعث البهجة بين جميع فئات الشعب مهما بلغت درجة ثقافتهم.

ولكن هذا الفن ليس دراميًّا أي إنه لا يمكن أن يندرج في فن المسرح، من حيث إن المسرح له مقتضياته التي تحتم عدم اعتماد المسرحية على أشواطٍ متتالية من القافية أو «الردح» مهما بلغت درجة إمتاعها، فإن النماذج التي أبدعها حسين الفار وسلطان الجزار مثلًا في برنامج «ساعة لقلبك» الإذاعي القديم، لا يمكن اعتبارها أعمالًا درامية، فهي حقًّا نماذج متطورة للقافية التي تنشأ من افتراض اسم أو عمل معين، ثم التلاعب بهذا الاسم أو العمل تلاعبًا يعتمد على سرعة البديهة واللماحية، وأذكر شوطًا من هذه القافية قُدم في نفس ذلك البرنامج، بين الثنائي رشاد ومنصور حين يصل بعض الضيوف:

الضيف : الأستاذ منصور موجود؟
رشاد : مين عايزُه؟
الضيف : الأستاذ جرجير.
رشاد : يومنا أخضر ونادي … ودي تبقى مين؟ الآنسة فجلة؟
تفضلي يا آنسة … انتي راسك ناشفة ليه؟
الضيف : قل له بس جرجير … هو عارف اني جاي بربطة المعلم …
رشاد : ماقدرش يا جرجير … انت لونك مخطوف خالص …
… ودبلان كده ومصفر … أعصر لك لمون؟

وهكذا يظل الاثنان يتلاعبان بالألفاظ بالإشارة إلى النبات المعروف دون أن يخلق هذا موقفًا دراميًّا من أي نوع، وهو عادة ما يحدث الآن في مسرحياتنا الفكاهية؛ إذ تظل الشخصيات تتبادل القافية، وكلما أسرفت فيها كان هذا دليلًا على لماحية الحوار ونزعته الكوميدية!

التورية والمفارقة

ولكن التورية الدرامية شيءٌ مختلف تمامًا عن هذا اللون من التورية؛ إذ إنها تعتمد على التناقض بين الظاهر والباطن أو بين المعلوم والمجهول، أي إننا نرى ثمة من يعرف شيئًا يجهله آخر، وهكذا فهي تقترب من المفارقة التي تعتمد عليها الأعمال الدرامية الناضجة، والحقيقة إن أمامنا مشكلةً في ترجمة الكلمة الأجنبية التي تستخدم للدلالة على المفارقة (أي التناقض)، والكلمة التي تدل على التورية اللفظية التي لا علاقة لها بالدراما، والكلمة الثالثة (موضوع هذا الحديث) وهي التي تدل على التورية الدرامية الساخرة، أي الكلمة التي تجمع بين عنصر المفارقة وعنصر التورية وعنصر السخرية الذي رجع في منشئه إلى سخرية القدر الذي ارتبط عبر العصور بالدراما، ولكن كيف تبرز أو تستثمر هذه التورية الساخرة في المسرح؟ وهل هي قاصرة على الكوميديا لارتباطها بالسخرية؟ أم إن لها علاقة وثيقة بالتراجيديا أيضًا بسبب عنصر القدر الذي يتصل بإرادة الإنسان والإرادة الأخرى، أي الإرادة التي هي عادة أكبر منه وأقوى؟

تبرز التورية الساخرة دراميًّا في موقفٍ يتضمن شيئًا تعرفه إحدى الشخصيات وتجهله شخصيةٌ أخرى، أو يكون معروفًا لدَينا بينما يجهله طرفا الموقف الدرامي أو هو معروفٌ لديهما ومجهول لطرفٍ ثالث وهكذا، وهكذا يكون هذا في أبسط حالاته متصلًا بما يحدث أمامنا على المسرح، أي على الحركة المسرحية المباشرة، بينما يكون في أدق وأرقى حالاته متصلًا بالحركة النفسية والذهنية للشخصيات، وهو في الحالتَين يرمي إلى توليد توتر يمكن أن يُستثمر في الكوميديا أو في التراجيديا، إما للسخرية من جهل الإنسان وعجزه عن إدراك آليات الحركة البشرية والطبيعية في هذا الكون أو في مجتمعٍ ما، وإما لإبراز المتناقضات التي يمكن أن تودي بسعادة الإنسان لجهله بهذه المتناقضات، ولأوهامه التي غالبًا ما يعتز بها ويعيش لها.

ولننظر إذن إلى أبسط صور التورية الساخرة على المسرح، لنتصور مشهدًا بسيطًا: دخل لص إلى منزل أحد الأثرياء ليسرق المجوهرات التي تضعها زوجة الثري في خزانة، يمكن للمؤلف بدايةً أن يجعل الزوج يربت بيده على الخزانة، ويقول وهو متجهٌ إلى غرفة النوم: «الحمد لله أنني أخرجت الجواهر من هذه الخزانة ووضعتها في غرفة النوم.» ثم يخرج، وحين يأتي اللص ومعه عدته نراه واثقًا من أن السكان قد رحلوا، فهو يقول: «كويس إن النهارده الخميس والجماعة في السينما.» هذا هو الموقف في أبسط حالاته، فنحن نرى أن جهود اللص سوف تصطدم بعائقَين: الأول وجود أصحاب المنزل، والثاني عدم وجود الجواهر في الخزانة، وهذه التورية الساخرة المبدئية يمكن أن تتطور، حين يكتشف اللص أنه قد نسي مفتاحًا هامًّا، فيخرج من المسرح لإحضاره بينما تدخل الزوجة لتقول: «الحمد لله أنني أعدت الجواهر من غرفة النوم إلى الخزانة فهنا أكثر أمنًا.» ثم تتجه إلى المطبخ مثلًا لإحضار كوب من اللبن بينما يعود اللص، وعندما يحس بوجود حركةٍ ما يختبئ تحت أريكة مثلًا، فنراه نحن ولا يراه أحد الزوجَين، فإذا وجد ثلاثتهم على المسرح أصبحت كل كلمةٍ تقال ذات معانٍ متعددة؛ لأن كلًّا منهم سوف يفهمها بصورةٍ مختلفة.

ورغم شيوع هذا النوع البسيط من التورية الساخرة في كوميديات موليير (مقالب سكابان مثلًا) وشيكسبير (حلم ليلة صيف مثلًا)، فإنه نادرًا ما يكون بهذه البساطة، إذ إنه يعتمد في جوهره على توريةٍ نفسية أو داخل الشخصية نفسها، وذلك بأن يجعل المؤلف من التناقض بين الظاهر والباطن إطارًا مجسدًا يعكس التناقض النفسي بينهما أو في داخل الشخصية الواحدة، فكثيرًا ما يكون إخفاء بعض المعلومات عن شخصيةٍ ما وإطلاع الشخصية الأخرى عليها، أو إطلاع الجمهور عليها، وسيلةً لكشف الخواء الذي يسود تلك الشخصية، أو التناقض بين تصوراتها للواقع والواقع نفسه، فالذي يحدث لشخصية «فولسطاف» مثلًا في مسرحية شيكسبير «زوجات وندسور المرحات»، من اختباءٍ خلف الستارة ودخوله بعد ذلك سلة «الغسيل»، وحضور الزوج الغيور وشكه في الأمر، ثم تنكره بعد ذلك ومقابلته لفولسطاف … كل هذا يعكس التناقضات التي تعج بها الشخصية التي أصبحت من كلاسيكيات الأدب العالمي.

الستائر المسرحية

أما في التراجيديا فإن التورية الدرامية تهيئ للكاتب أن يعكس تناقضات معرفة الشخصية وجهلها، في مواقف تقترب في المسرح الحديث من مواقف قوة القدر في المسرح الكلاسيكي، وخير نموذج لهذا ما نراه في مسرحية «عطيل» لشيكسبير، حين ينصب «ياجو» شباكه وفخاخه للبطل في مشاهد تلو مشاهد من التورية، بل إن حدث المسرحية كله يعتمد على التناقض بين ما نعرفه نحن عن ديدمونة وما يتصوره عطيل زوجها عنها، بل وما نعرفه عن عطيل وما يعرفه هو عن نفسه، وحينما يجسد شيكسبير هذا الموقف في كلمات عطيل قبل قتل ديدمونة، نجد أن الموقف هو الذي يعطي لكلماته قدرتها على التورية الدرامية، أي إن الكلمات البسيطة «فلأطفئ النور أولًا … ثم أطفئ هذا النور.» أي نور حياة ديدمونة، تعني في الحقيقة أن عطيل يعني ما لم يكن يتصور أنه يعنيه! فهو يطفئ نور حياته أيضًا ونور حب لم يكن يعرف مداه، ونور حياة حافلة لم يستطع أن ينفذ إلى أقطار ذاته التي تسودها ظلمات الشك وانعدم الثقة.

وكان درايدن يطلق على الحيل المسرحية التي اقتضتها التورية الدرامية في عصره «الستائر المسرحية»، بمعنى أن ثمة ستائر تقوم فيها بين الممثلين بعضهم والبعض، نفسيًّا وجسديًّا، تمكن بعضهم من معرفة ما لا يعرفه الآخرون وتمكن النظارة دائمًا من الاطلاع على خبايا صدورهم، وسواء كان الكاتب يقبل مذهب درايدن أم يرفضه، وسواء كان ينزع إلى الكوميديا أم يميل إلى التراجيديا، فإنه دائمًا يلجأ إلى التورية الساخرة باعتبارها وسيلةً درامية فعالة، من أحمد شوقي الذي يبدأ مسرحية «مصرع كليوباترا» بنشيدٍ على ألسنة الجمهور الذي يتغنى بالهزيمة وهو يتصورها نصرًا:

يومنا في أكتيوما
ذكره في الأرض سار
اسألوا أسطول روما
هل أذقناه الدمار

إلى الأقنعة المسرحية التي استخدمها جلال الشرقاوي في مسرحية «الجوكر»، والتي تمثل الاستخدام الحركي للتورية الساخرة في الكوميديا الخالصة، بل إن التورية الدرامية قد استخدمت في الأدب الحديث في فنون غير المسرحية لدى القصة القصيرة، مثل القصاص الإنجليزي الحديث «ساكي» والقصاص العظيم ﻫ. أ. بيتس، بل وفي أدبنا العربي محمود تيمور (في مرحلة انسلاخه عن تقاليد موباسان)، ونجيب محفوظ في عددٍ كبير من قصصه القصيرة.

لم تعُد التورية فنًّا لغويًّا يعتمد على التلاعب بالألفاظ، وإنما أصبحت وسيلةً درامية فعالة تعين الكتاب على إثراء أعمالهم عن طريق التوتر الذي تهيئه، والذي مكنهم من ارتياد قمم جديدة في فنونهم المختلفة.

(٣) كوميديا الكاريكاتير

رغم أن المسرح الحديث قد تخطى مرحلة التقسيم «الخارجي» للأنواع المسرحية بالمعنى القديم، أي إلى كوميديا وتراجيديا أو حتى إلى تراجيكوميدي، ورغم أن المسرح المعاصر قد شهد من التيارات الفنية والفكرية، ما جعله يعترف بأنواعٍ مسرحية جديدة، يصعب تصنيفها أو إدراجها في هذا الباب أو ذاك، مثل المسرحية الاجتماعية (أو مسرحية المشكلة الواقعية) والمسرحية العبثية والمسرحية الفكرية الخالصة أو الغنائية والراقصة … إلخ، فإننا ما زلنا نواجه روح المأساة أو روح الملهاة في هذه وتلك جميعًا … حتى لو استعصى التصنيف والتبويب وفقًا للقواعد الكلاسيكية.

ويذهب جمهور النقاد إلى أن تراث مسرح العبث كان له أكبر الفضل في هدم الحاجز الذي كان يفصل بين الأنواع القديمة لسببٍ لم يغِب عن فطنة القدماء، وإن كان لم يتضح إلا في عصرنا هذا، ألا وهو التغير الثوري في النظرة إلى الشخصية الإنسانية، بحيث لم تعد بناءً ثابتًا متجانسًا على الدوام مهما كانت عناصر الثبات فيها، وهو التغير الذي أتى به علم النفس الحديث، ثم التغير الذي طرأ على مفهوم الذهن ومن ثَم على مفهوم المنطق أو علم التفكير، بحيث لم تعد اللغة وسيلة اتصال ثابتة المعاني والوحدات، بل أصبحت وسيلة من الوسائل التي قد تحول دون التوصيل، وهو التغير الذي أتت به الفلسفة اللغوية على أيدي برتراند راسل وفنجشتاين وجلبرت رايل، وثالثًا ذلك التغير الذي أصاب فكرة أو مفهوم الإنسان الفرد في القرن العشرين، نتيجةً لتطور فكرة الدولة الحديثة وتوسلها بأجهزة إعلامٍ تخاطب السواد الأعظم، بحيث تنحو نحو التعميم والتبسيط والتنميط، أي إنها تتكئ على العناصر المشتركة، وهي الأدنى والأبسط، وتبتعد عن الاختلافات الفردية بحيث لم تعد تتيح للذهن أن يمارس طاقاته الخلاقة، وللفرد أن يطلق العنان لخياله المبدع.

ولقد تضافرت هذه العوامل جميعًا لتجعل من مسرح العبث البوتقة التي انصهرت فيها عناصر الأنواع الأدبية، لتخرج نوعًا يستجيب لعصرنا الذي أصبح ديدنه التساؤل والمناقشة بدلًا من التقبل والنقل والتسليم، فإذا بكُتاب مسرح العبث يطرحون القضية بعد القضية، ويثيرون التساؤلات الجادة من خلال المواقف (غير المعقولة)، سواء منها ما يحاول هدم فكرة الثبات والجمود (في الشخصية، أو في قوانين المنطق واللغة، أو حياة الإنسان الفرد)، أو ما يحاول التركيز على استحالة النظرة إلى حياة الإنسان في القرن العشرين نظرةً جادة، بعد أن تغيرت طبيعة العلاقات فيما بين الأفراد من ناحيةٍ وبين الفرد وبين النظم أو المؤسسات الاجتماعية من حوله من ناحيةٍ أخرى، لتصبح علاقات تتفاوت نسب أجزاء بعضها إلى البعض، إلى حد التشوه الذي يثير الضحك والسخرية، بقدر ما يدفع على التفكير والتأمل الجاد العميق، وهكذا انتقل فن السخرية في مسرح العبث إلى مرحلة الكاريكاتير اللفظي ليعكس حياة الكاريكاتير الإنساني في مبالغات الصورة والفكرة والحركة، بحيث نشأ لدَينا بعد ما يقرب من ربع قرن لونٌ من فن الكاريكاتير المسرحي، يجمع بين العديد من العناصر الدرامية التقليدية، وينفرد بما يتسم به من روح هجوم ساخرة، تتوسل باللقطات القصيرة اللاذعة اللاسعة في تركيزها وحدَّتها.

والكاريكاتير، في مجال الفنون التشكيلية، حديث النشأة إذ نشأ مع الصحافة، وربما لم نستطع أن نرصد جذورًا له أبعد من صحائف المواويل الشعبية، التي سادت أوروبا في القرن السادس عشر، وكانت تصور في أول أمرها غرائب الطبيعة وغرائب الحياة الاجتماعية، ثم تطورت على مدى قرنين لتصبح وسيلةً للنقد الاجتماعي والسياسي، بحيث رأينا في القرن الثامن عشر، في إنجلترا مثلًا، أرباب هذا الفن، يزاوجون بين الأشعار التي تبالغ في تصوير جَور النظم الاجتماعية، وبين الصور التي تقرب فكرة هذا الجَور إلى القارئ، مثل تصوير أحد الأغنياء وهو يلتهم الفقراء، أو تصوير أسنانه وقد طالت وأصبحت مثل آلةٍ حادة قاطعة، أو تصوير بعض زبانية النظم السياسية التي حطمتها الثورة الفرنسية في صورة ذئاب أو كلاب، واستمر فن الكاريكاتير مُرتبطًا بالشعر والتعليق الاجتماعي والسياسي (ربما حتى يومنا هذا)، ثم انتقل إلى بعض الأنواع الكوميدية خارج نطاق مسرح العبث، بحيث أصبح يمثل تيارًا متميزًا وإن لم يكن مستقلًّا كل الاستقلال، وربما كان أهم ما أتى به التيار هو اطلاعنا على أن فن الكاريكاتير الأدبي أسبق من كاريكاتير الفنون التشكيلية؛ إذ بدأنا نرى في التراث العالمي جذورًا له وملامح محدودة، ترتفع به عن دوره في السخرية (أو الهجاء، كما عرفه العرب)، وتقترب به من أرقى الفنون البشرية المعاصرة.

معنى الكاريكاتير

ويكمن جوهر الكاريكاتير، كما يقول الفيلسوف هنري برجسون، في قدرة الفنان على رؤية النزعة الكامنة في النفس وإخراجها إلى السطح، فهو فنٌّ لا يتوسل بالمبالغة لمجرد المبالغة في إحدى قسمات الوجه أو الجسم مثلًا، ولكنه يدرك معنى إحدى القسمات فيخرجه إلى السطح عن طريق التكبير، أي إنه لا يعارض الطبيعة بل يتبع خطوطها، فيكبر بعضها ويصغر البعض الآخر، بحيث يحطم التوافق الظاهري بين الملامح ويبرز الخلل الكامن، أي إنه يلقي الضوء على «التشويه الذي تميل إليه الطبيعة في ملامح الإنسان»، ويقول برجسون:

«ينحصر فن رسام الكاريكاتير في استشفاف هذا الميل، الذي ربما لا يظهر جليًّا على السطح، ومن ثَم في إخراجه إلى حيز الوجود المرئي بتكبيره أمامنا، إنه يجعل تغيرات معينة ترتسم على وجوه نماذجه، بحيث تعبر عن أعمق ميول هذه النماذج، ومعنى ذلك أنه يكتشف تحت التوافق السطحي للأشكال جمودًا وتحجرًا، إنه يكتشف اختلالًا وتشويهًا لا يزيد عن كونه محتملًا، ولكنه يأتي به إلى السطح فكأنما أخرج الشيطان من داخله.»

وبرجسون يحاول هنا إدراج فن الكاريكاتير في إطار نظريته العامة عن الكوميديا والضحك، وذلك بالتأكيد على التحجر والجمود الذي يمكن استشفافه في النفس، ولا يستطيع إلا رسام الكاريكاتير أن يضع يده عليه.

ولكننا نرى اليوم أن اكتشاف أو تكشف العنصر الآلي في الإنسان ليس وحده ما يدفع على الضحك، بل بدأنا نرى أن هذا التضخيم قد يكون دليلًا على تعقيدٍ في النفس البشرية يدل دلالةً واضحة، كما يقول «وايلي سايفر»، على وجود تلك القوى الخفية في النفس البشرية والكامنة في اللاوعي، وربما كان فرويد حقًّا (كما يقول سايفر) هو العالم الوحيد الذي قال بأن النكتة، مثل الأحلام، تنبع من اللاوعي وبأنها وسيلة لإطلاق هذه القوى أو الدوافع اللاواعية، وهكذا فإن ثمة علاقةً مباشرة بين الرسم الانطباعي حتى عند فان جوخ، أو في تماثيل مايكل أنجلو الناقصة وبين الكاريكاتير؛ إذ إننا نستطيع أن نرصد «خط استمرار» بين التشويهات التي يلجأ إليها رسَّامو الكاريكاتير وأساتذة فن «التصوير المفزع والفظيع» (الجروتسك) في تماثيل العصور الوسطى والأشكال الحجرية البارزة المخيفة المنحوتة في الأبنية الضخمة وبين فن الكاريكاتير الحديث بدلالاته النفسية العميقة.

وإذا كانت هذه الدلالات تشير حقًّا إلى اختلال النظرة قدر ما تشير إلى اختلالٍ في الواقع، أي إذا كانت تعكس وتجسد أحلام العصابيين أو أحلام المجانين بقدر ما تعكس وتجسد واقعًا اختلت نسب أجزائه في الحقيقة، فإن فنان الكاريكاتير يؤدي دورًا مزدوجًا؛ إذ إنه يبرز الخلل من الناحيتين الذاتية والموضوعية معًا بحيث يبرز الأحلام الباطنة في صورٍ مختلة ظاهرة، ويجسد الخلل الظاهر في صورةٍ نفسية ممزقة، وهكذا فإننا كثيرًا ما رأينا الكُتاب يعكسون صورة العصر في بعض الشخصيات التي تطغى عليها خصيصة من الخصائص، أو يجسدون الأحلام الشائهة في صورٍ من الواقع تختل نسبها كما يحدث في بعض أنواع مسرح العبث.

ومن هذا المدخل يمكننا أن نرى ثلاثة أنواع رئيسية لكوميديا الكاريكاتير، أولها كاريكاتير الشخصية وثانيها كاريكاتير الموقف وثالثها وأهمها كاريكاتير الفكرة.

كاريكاتير الشخصية

مثلما يركز الرسام على أحد ملامح الشخصية يلجأ الكاتب إلى تكبير خصيصة من الخصائص النفسية، حتى يجعلها تطغى على سائر السمات التي تهبها التوازن والاستواء، فكأنما هو يقدم إلينا «حالة تضخم مرضي» لعنصرٍ نفسي قد ينعكس في السلوك أو في الأفكار أو في المشاعر أو في العلاقات القائمة على هذه جميعًا، ومن ثم فنحن نواجه في كاريكاتير الشخصية اهتزاز النسب بين عناصر الشخصية، نتيجةً لتكبير خصيصة نفسية بعينها وتضخيمها أكثر مما ينبغي.

وقد عرف الأدب العالمي هذا اللون من التصوير الكاريكاتوري في شتى عصوره، وحتى في فجر المسرح اليوناني كانت بعض الأقنعة تمثل الخصائص المهنية أو الصفات النفسية الغلابة التي تطورت منذ عصر الرموز (عصر الآلهة الوثنية بما ترمز له من صفات النفس البشرية كالغضب والانتقام والحب والبغض … إلخ)، ثم كانت الأنماط التي تمخضت عنها دراما العصور الوسطى بأنواعها من مسرحيات الأسرار ومسرحيات الأخلاق، كانت هذه الأنماط تمثل أيضًا تصويرًا كاريكاتوريًّا تجريديًّا، ثم كانت كوميديا «الطباع أو الأمزجة» في عصر النهضة التي بلغت ذروتها في دراما القرن السادس عشر في إنجلترا على أيدي بن جونسون وغيره من معاصري شيكسبير، وقد اشتهرت هذه الشخصيات وذاعت وأصبحت كل شخصية علمًا على الخصيصة النفسية التي تضخمت إلى الحد الذي أصبحنا نذكرها به خارج نطاق الموقف الدرامي أو المسرحية، أو حتى بعيدًا عن الإنسان الذي اقترنت به أول الأمر، وهذا لا يقتصر بطبيعة الحال على أدب المسرح بل ينسحب على التصوير الفني الكاريكاتوري في الأنواع الأدبية الأخرى مثل الرواية والشعر الغنائي والقصصي والهجاء … إلخ، فكلنا يذكر بعض شخصيات ديكنز وبعض شخصيات مولير مثلما نذكر الشخصيات التي أبدعها الجاحظ في البخلاء والبيهقي في المحاسن والأضداد، بل إن الأدب العربي ليحفل بهذا اللون من التصوير الكاريكاتوري، ويكفي أن نذكر شخصية جحا أو شخصية هبنَّقة (رمز الحمق) أو أشعب الطفيلي (بل إن طفيل بن زلال الكوفي نفسه من ابتداع الكُتَّاب إلى حدٍّ كبير)، ولا شك أن عشرات الشخصيات التي تطالعنا في كتب الأخبار والسير (مثل الأغاني) من كذابين ومتنبِّئين وماجنين … إلخ، تعتمد على الأدباء العرب الذين كانوا يخافون من الجهر بحقيقة تأليفهم وتضخيمهم لهذه الشخصيات، حتى لا يشك القراء في سائر رواياتهم وأخبارهم وقصصهم، وهل منا من يشك في أن قصة «قضاء يوم السبت مع الشيطان» التي يرويها أبو الفرج الأصفهاني قصة من نسج الخيال، وهي أن إبراهيم الموصلي أو إسحق الموصلي أو غيرهما من المغنين قد قضى يوم لهو وشراب وغناء مع زائرٍ عبقري، أفليس تصوير هذا الزائر على أنه الشيطان تصويرًا كاريكاتوريًّا؟ وما أشبه التصوير الكاريكاتوري الذي يبدعه الجاحظ لابن عبد الوهاب في رسالة التربيع والتدوير بتصوير شيكسبير لشخصية فولسطاف في عددٍ من مسرحياته آخرها «زوجتان مرحتان من ضاحية وندسور»، وشتان إذن بين ابتداع شخصية وهمية مثل عيسى بن هشام لدى بديع الزمان الهمذاني، وبين محاولة الالتزام بالصدق التاريخي في كثيرٍ من كتب السير والأخبار! إن شخصية عيسى بن هشام من نسج الخيال وتستطيع أن تقدم أقاصيص خياليةً كاريكاتورية يمكننا أن نقبلها ونضحك عليها ومنها ومعها، كما يمكننا أن نقبل ما تحتويه بعض المقامات من غرائب (انظر المقامة البشرية لبديع الزمان) قبولنا للغرائب التي تحكيها مواويل القرن السادس عشر في إنجلترا (جرد أحدهم سيفه وانقض على الأسد ففلق هامته بضربةٍ واحدة! أو كتب على الملك الظالم أن يعمل معداويًّا وما يزال حتى هذه اللحظة — كما يقول الأخوان جريم — يضرب مجدافيه في الماء! أو ظل الشره يشرب حتى جف ماء الأرض جميعًا! وهكذا)، وأبرز نماذج كاريكاتير الشخصية هي نماذج كوميديا الطباع التي تفوق فيها بن جونسون، لنأخذ أمثلةً من مسرحيةٍ شهيرة هي مسرحية فولبوني أو الثعلب، إننا نجد هنا نماذج متعددة لشخصياتٍ كاريكاتورية اختار لها المؤلف أسماء الطيور والحيوانات، واسمع ما يقوله فولبوني في المشهد الافتتاحي للمسرحية مخاطبًا خادمه موسكا:

فولبوني : أقول عِم صباحًا أيها النهار … ثم أنشد النضار! افتح الباب على المحراب يا موسكا لأشهد طليعة القديس.

(موسكا يرفع غطاء الصندوق.)

مرحى بروح العالمين وروحي،
إن فرحتي برؤيتك
تفوق فرحة الوجود
ولهفة الأرض على إشراق الشمس في برج الحمل،
بل إن نور الشمس لا يرقى لنورك.
انظر إليه بين سائر الكنوز
كأنه النيران في الليل البهيم،
أو مثل نور الفجر أول الزمان
عند خلق الأرض من سدم العماء!
توهج الذهب،
فأفلت الظلام ساربًا في باطن الثرى،
يا شمس روح فاقت الشمس سنا!
يا درة الفلك
دعني أقبلك،
دعني أصلي لك
يا كنزي المقدس … في غرفتي المباركة،
ما أصدق الحكيم حين قال:
«أزهى عصور الشعر عصر الذهب.»
يا أحسن الأشياء كلها،
يا فرحةً تفوق ألوان الفرح
في قلب طفل أو أب أو صاحب،
وكل حلم يقظة في أرضنا!
قالوا إلهة الجمال من ذهب،
لها عشرون ألفًا من فوارس الهوى!
هذي حدود محاسنك،
هذي حدود غرامنا بك،
قديسنا الحبيب:
أنت الإله الصامت البليغ،
فالصمت من ذهب،
وعقدة اللسان لا يحلها سوى الذهب!
أنت لا تفعل شيئًا
لكنك الدافع للأفعال،
يا ثمن الأرواح
يا من تجعل نيران جهنم صنو الجنة،
أنت الفضيلة والذيوع في مدارج الشرف،
من يحمل الذهب
يفوز بالشرف،
ويعرف الشجاعة
ولذة الأمان
وحكمة الزمان!

هذه المبالغات التي تتوالى لا تكشف فحسب عن نزعةٍ شاذة في نفس فولبوني، ولكنها تجسد هذه النزعة بصورةٍ كاريكاتورية، بحيث يبرز الذهب كأنه عاطفة غير أرضية، متخذًا صورة المشاعر الروحية التي تقترب من الإحساس بالدين، فمنذ اللحظة الأولى نرى تشبيه الذهب بالقديس وتشبيه الصندوق بالمحراب، ثم تتوالى التشبيهات بالروح والحياة والنار والنور والقداسة والفن (الشعر) والفرحة والحلم والجمال والصمت والكلام ودوافع الأفعال والفضيلة والذيوع والشرف والشجاعة والأمان والحكمة! إن هذه المبالغات مضحكة حقًّا ولكنها ليست نمطية، أي إنها لا تمثل نمطًا ثابتًا متكررًا، ولكنها كاريكاتورية لاعتمادها على اختلال النسب والعلاقات والقيم، والفارق بين الكاريكاتير والتصوير النمطي بالغ الأهمية؛ لأن فولبوني ليس نمطًا بشريًّا ولكنه تجسيد لميلٍ طبيعي في البشر، يوجد في كل إنسانٍ بدرجاتٍ متفاوتة من العمق، ولكنه زاد في يد شاعر الكاريكاتير عن الحد فأصبح مُضحكًا، أي إنه ليس مضحكًا لأنه منافٍ للطبيعة ولكنه مضحك؛ لأن النزعة الطبيعية فيه زادت عن الحد فأخلَّت بالاتزان النفسي له!

كاريكاتير الموقف

وتتوسل الكوميديا بلونٍ آخر من الكاريكاتير يعتمد على تغير العلاقات بين المقومات النفسية لعددٍ من الشخصيات، حتى ولو كانت تحتفظ بالأحجام الطبيعية لهذه المقومات، أي إن المبالغة تصيب علاقةً ما على حساب سائر العلاقات، ومن ثَم يكون الخلل المحتوم في «التركيبة» الاجتماعية التي لا تقوم إلا على علاقاتٍ سوية أي متوازنة، والفارق بين هذا اللون من الكاريكاتير وبين كاريكاتير الشخصية كبير جدًّا؛ لأن العلاقة التي تتشوه لا تتصل بجوهر المشاعر البشرية، ولكن بأشكال السلوك في مجتمعٍ بعينه وزمانٍ بعينه حسبما تحدد التقاليد وحسبما يقضي العرف السائد، فعلاقة الهيمنة والسيطرة بين الرئيس والمرءوس في أي عملٍ حكومي لا تتصل بمشاعر بشرية أصيلة ولكنها تنبع من التقاليد التي تقضي بالطاعة والملق خوفًا من العقاب أو طمعًا في الثواب، وطالما كانت هذه العلاقة مقدمةً بالنسب المألوفة في مجتمعٍ ما، فلن تثير أي دهشة أو تقترب من عالم التناقض الكوميدي، أما إذا قدم لنا مؤلف ما هذه العلاقة وقد أصبحت علاقة تبعية آلية، تجعل المرءوس يقول إنه يحب نفس ألوان الطعام التي يحبها رئيسه، ويتكلم نفس اللغة التي يتكلمها ويرتدي نفس أنواع الملابس … إلخ، فإننا نرى صورةً كاريكاتورية لعلاقةٍ خرجت عن طورها، فأصبحت تدعو للسخرية والرثاء معًا …

ولنأخذ نموذجًا من مسرحيةٍ حديثة هي «مسافر ليل» للشاعر صلاح عبد الصبور، فنحن نجد هذه العلاقة التي تقوم على الحيطة والحذر في معاملة الأغراب أو الرؤساء، الذين قد يكونون حقًّا ذوي سلطان ونفوذ وقد لا يكونون، وقد تحولت إلى علاقةٍ كاريكاتورية ساخرة بين راكب قطار الليل وبين عامل التذاكر الذي يزعم أنه الإسكندر الأكبر … فالموقف يقوم على أشخاصٍ لا مبالغة في خصائصهم النفسية بداية، ولكنهم يتحولون في ضوء العلاقة الكاريكاتيرية إلى نماذج نضحك منها ونرثى لها، خاصةً عندما يكف عامل التذاكر عن زعمه بأنه الإسكندر الأكبر، ويؤكد أنه ما زال عامل التذاكر في نهاية المشهد:

الراوي :
قال الراكب في نفسه:
ما يدريني فلعل الرجل هو الإسكندر،
ولعل الموتى العظماء
ما زالوا أحياء،
وعلى كلٍّ فالأيام غريبة،
والأوفق أن نلتزم الحيطة،
ولعلي إن لنت له أن يتركني في حالي،
(قال الراكب في نفسه)
فلأتذلل له.
الراكب :
ماذا تبغي مني يا مولاي؟
عفوًا، مثلك لا يبغي من مثلي شيئًا …
أعني … بمَ يشملني عطفك؟
بم تكرمني؟
هل تجعلني سرجًا لجوادك؟
عامل التذاكر : ضاقت نفسي بركوب الخيل الآن.
الراكب : هل تجعلني فرشة نعلك؟
عامل التذاكر :
يندر أن أمشي، يؤلمني اللمباجو،
أتمدد أحيانًا في الشمس وآخذ حمام بخار كل صباح.
الراكب :
فلتجعلني فحَّامًا في حمامك،
اعهد لي بمناشفك الوردية،
اجعلني حامل خفَّيك الذهبيَّين،
لكن لا تقتلني … أرجوك.
عامل التذاكر :
لمَ تصرخ يا سيد؟
هل تحلم؟
لمَ تجمد كالفأر المذعور؟
لأظن بأنك لم تركب قاطرةً من قبل؟
أوه، لم يشحب وجهك حين أمد إليك يدي؟
أولا تعرفني؟
الراكب : أأنت الإسكندر؟
عامل التذاكر :
ليس اسمي الإسكندر،
اسمي زهوان.
الراكب : بمَ تأمر يا مولاي اﻟ… زهوان؟
عامل التذاكر :
مذعورٌ … وغبي!
أولا تدرك من ثوبي ما أطلب؟
أطلب تذكرتك …
هذا عملي …

هذه العلاقة إذن علاقة اختلفت النسب فيها عن النسب الاجتماعية المعهودة، فخرجت بصورةٍ كاريكاتورية ربما تطلبت أداءً كاريكاتوريًّا، أي يتسم بالمبالغة في الحركة والإيماءة ونبرات الصوت، وربما كان هذا ما جعل صلاح عبد الصبور يقول في تذييله إنه يتصور إخراج هذه المسرحية في إطار الهزلية التي تنزع إلى المبالغات الكاريكاتورية تمثيلًا وإخراجًا.

كاريكاتير الفكرة

ويتصل هذا اللون اتصالًا وثيقًا بنوعٍ آخر هو كاريكاتير الفكرة، أي المبالغة في هذه الفكرة أو تلك حتى تتضح بلاهتها أو المبالغة في تصغير أفكار أخرى بجوارها لإبراز التناقض الشديد بينهما، وقد يتخذ هذا اللون، بل غالبًا ما يتخذ، صورة الفانتازيا أي صورة الموقف الخيالي الذي يتطور وفقًا للمنطق المقبول للأشياء، وقد شاع هذا في مسرح العبث في الهجوم على تقاليد المسرح الكلاسيكي، كما شاع في معظم ألوان المسرح التجريبي الحديثة.

ولنأخذ مثلًا من مسرحيتين نُشرتا في مجلة المسرح (العددين الأول والثاني)، الأولى هي «الأستاذ» تأليف سعد الدين وهبة، والثانية هي «الساعة الناطقة» تأليف توم ستوبارد، الأولى تتخذ إطارًا اجتماعيًّا وسياسيًّا واسعًا فتقدم صورةً كاريكاتورية لعدم المبالاة من جانب الشعب إزاء بطش الحكام أي فقدان القدرة على السمع أولًا ثم فقدان الآذان أنفسها! والحقيقة أن هذه الصورة الاستعارية تتطور في عدة اتجاهاتٍ كاريكاتورية، ليس فقط على المستوى العام، بل أيضًا على مستوى المعنى ومستوى الفكرة، بحيث يستخدم المؤلف وسيلةً من وسائل مسرح العبث في تقليب الأمر على وجوهه التي تشتط في البعد عن الواقعية وتدخل مجال اللامعقول الذي هو في الحقيقة «كاريكاتير فكري»، فاتهام الناس ظلمًا في قضايا سياسية والحكم بإدانتهم ظلمًا يتخذ هنا صورةً تتضخم فيها الأبعاد حتى تصل إلى موقفٍ يتحول فيها مفهوم القضية السياسية إلى عبثٍ مؤلم، فهو فكِه من ناحية ويدعو للرثاء من ناحيةٍ أخرى، وهذا هو السلاح الذي يستخدمه رسام الكاريكاتير في النقد السياسي:

(يدخل خمسة رجال، يدفعهم الوزير أمام المنصة ويقف إلى جوارهم.)

الملكة : تهمتهم إيه؟
الوزير : التآمر على نظام الحكم في المدينة، والتحريض على اغتيال الحكام، والمحكمة العليا حاكمتهم وأصدرت عليهم الحكم بالإعدام … والمطلوب اعتماد الحكم للتنفيذ.
الملكة : إيه هي الجرائم اللي ارتكبوها؟
القاضي : الجماعة دول مضى عليهم دلوقت أكثر من شهرين ساكتين … ما بيتكلموش.
الملكة : وفيها إيه دي؟
القاضي : لما فاتت المدة الطويلة دي شكينا في المسألة … قبضنا عليهم ووضعناهم تحت المراقبة … وبرضه ما اتكلموش …
الملكة (بضيق) : وبعدين؟
القاضي : حلْم جلالتك شوية …
الملكة : اتفضل.
القاضي : أحلناهم للطبيب وكشف عليهم لقى لكل واحد لسان في حنكه.
الملكة : هو مفروض ما يبقاش فيه لسان في حنك الإنسان كمان؟
القاضي : لأ … خُفنا أحسن تكون ألسنتهم اختفت والا حاجة … نبقى احنا ظالمين …
الملكة : وبعدين؟
القاضي : الطبيب قرر أنهم يقدروا يتكلموا لو أرادوا الكلام … استعملنا معاهم كل الوسائل المحزنة والمفرحة والمؤلمة والغير مؤلمة مافيش فايدة … ضربناهم مافيش فايدة … كويناهم بالنار مافيش فايدة برضه … قلنا لا بد يكون في الأمر سر … واجتمعنا وحضر الوزير الأفخم وأثناء بحث الأمر عرفنا السر الرهيب الذي يخفيه هؤلاء المجرمون …
الملكة : إيه هو؟
القاضي : حلم جلالتك … حضرة الوزير وأنا قلنا لبعض: الناس دول مش عايزين يتكلموا ليه في مدينة ماحدش فيها بيسمع حاجة إلا الحكام … سألنا نفسنا … هم خايفين يتكلموا ليه ما دام الناس ما بتسمعش … يبقى لازم هما خايفين من الحكام عشان الحكام بس هم اللي بيسمعوا … ولما وصلنا لحد كده سألنا نفسنا إيه هي الحاجة اللي الناس تخاف تتكلم فيها قدام الحكام …

هذه إذن آراء أو أقوال لا تنتمي إلى شخصٍ معين مهما اختلَّت في الدوافع والمشاعر كما يحدث في كاريكاتير الشخصية، كما أنها لا تنتمي إلى موقفٍ مبني على التناقض الصارخ الذي يخلق علاقةً شاذة بين نزعتين أو فكرتين أو يخلق علاقاتٍ ذات نسب مختلفة (بالتصغير والتكبير)، ولكنها تنتمي إلى إطارٍ كاريكاتيري، كما قلنا، يعتمد على التطرف في تصوير الفكرة حتى يصل بها إلى حد البله، وهو نفس ما يحدث في مسرحية الساعة الناطقة، حين نرى جلاديس وقد تحولت إلى آلةٍ لضبط الوقت نتيجةً للاهتمام (اللامعقول) بالتوقيت ورصد الساعات والدقائق بل والثواني، في عالمٍ أصبح يهدر الزمن أكثر من إهداره أي شيءٍ آخر، وهذه هي الفكرة التي يصل بها توم ستوبارد إلى حد التطرف حين يواجه بين إحساس جلاديس بالزمن حقًّا، بمعنى الديمومة والخلود، وإحساسها به باعتباره دقات ساعة لا معنى لها! إن رصد الوقت أصبح تقطيعًا له وفتكًا به:

جلاديس :
الفكرة بدأت تهرب،
أو تغدو فكرًا آخر،
أو قل بدأت تتكشَّف لي،
إذ يعتقدون بأنهم اخترعوا الزمن لصالحهم،
لإراحتهم،
ولذلك فتكوا بالزمن،
فتقطع في أيديهم دقَّات أو تكَّات،
ستون دقيقة،
اثنا عشر وثنتا عشرة،
عشرون وأربع ساعات،
حتى يعرف حائز قصب السبق،
من حطم أرقام الألعاب الأولمبية،
ومتى نتوقف عن تقديم الأطباق لروَّاد المطعم
في بهو الفندق،
ومتى تبدأ أيام الموسم،
أو لا تقبل أموال رهان الخيل،
ومتى نأوي للنوم،
أو نترك المحطة،
ونجدد طلب العضوية
حين يحين الموعد ويفوت،
بل حين يضيع الموعد ويفوت الوقت،
حتى نعرف أين مكاننا،
وكم لبثنا،
بل زعموا ذلك أمرًا هامًّا،
حتى نعرف ماذا بقي من العمر،
وهل يهم ذلك؟
فيعرفون أننا عرفنا
أنهم قد عرفوا
أننا نعرف … أنهم يعرفون!

وتصل اللقطة الكاريكاتيرية إلى ذروتها في المشهد الأخير، عندما يدخل فرانك على اللورد، رئيس المصلحة، مطالبًا بزوجته:

فرانك : هل أنت الرئيس الأعلى؟
اللورد : بالتأكيد …
فرانك : ماذا فعلتَ بزوجتي جلاديس؟!
مورتيمر : كيف تجرؤ على اتهام رجلٍ فاضل مثل اللورد؟
اللورد : أرجوك يا مستر مورتيمر … دعهُ يتكلم …
فرانك : إنها الساعة الناطقة …
اللورد : ماذا تعني؟! و – ق – ت؟
نعم … إنها جلاديس …

(مستغرقًا في الضحك) يا صديقي العزيز … لا يوجد أحد اسمه جلاديس … ولا يمكن أن نولي زوجتك مسئولية الزمن … إنها آلة … كنت أتصور أن الجميع يعرفون ذلك.

آلة؟

تصور أنها زوجته! (ضحكات من الجميع) تصور أنها زوجته!

ولا يعني تقسيمنا الكاريكاتير الكوميدي إلى هذه الأنواع الرئيسية أنها منفصلة، أو أنها الأنواع الوحيدة التي يمكن رصدها في هذا المجال، فالواقع أن مستويات الكاريكاتير الكوميدي لا نهاية لها، من مستوى التحليل العميق الذي يتخذ أبعادًا تراجيدية في دوستويفسكي وفي كافكا، إلى مستوى الهزل الواضح في اللعب بالشخصية والموقف والفكرة جميعًا، مثلما نرى في حلم ليلة صيف وغيرها من كوميديات شيكسبير، إلى مستوى الكاريكاتير الفكري الصارخ عند بيكيت ويونسكو … إذ إن أي تطرف في تصوير نزعة أو علاقة أو فكرة يلقي بنا في عالم الكاريكاتير الدرامي الرحب.

(٤) الكوميديا الجادة أو المأساوية

اعتدنا أن ننظر إلى الكوميديا باعتبارها فنًّا أقل قدرًا من التراجيديا، وذلك لارتباط الكوميديا بالهزل وارتباط التراجيديا بالجد … والجد قطعًا أرفع شأنًا من الهزل! ولكن هذا المفهوم جد خاطئ؛ لأن فن الكوميديا ليس هزلًا وإن أثار الضحكات، وليست كل الملهاوات، حتى ما اقترب منها من الهزل، بهازلة! ومصدر الاختلاط والبلبلة يعود في نظري إلى فكرة الضحك (وما يرتبط بها من اعتباره روح الهزل) واحترام البكاء وما يرتبط به من نزعة الجد والرزانة، بل والأهوال العظام، ولكن الضحك والبكاء في الحقيقة وجهان لعملةٍ واحدة، بل إنهما يمثلان نشاطًا فنيًّا يرتكز على أساسٍ نفسي مشترك، ألا وهو «تفريغ التوتر» بمعنى أن انفجار الإنسان بالضحك أو بالبكاء، لا بد أن تستبقه حالة من التوتر النفسي تصل إلى ذروتها بأن ينخرط المرء في «نوبة» بكاء، كأنما هذه النوبة صمام في مرجل يغلي ولا بد أن ينطلق منه البخار حتى لا ينفجر! ولذلك أحيانًا ما يؤدي الفرح الشديد إلى البكاء وتؤدي الصدمة العصبية إلى ضحكٍ مرير رهيب، أو انفعال يختلط فيه الضحك والبكاء!

مفهوم الكوميديا

ولكن هذا أحد مصادر البلبلة فحسب، أما المصدر الثاني وهو الأهم فيتصل باختلاط مفهوم الكوميديا نفسها علينا بل وعلى غيرنا من الشعوب التي استقدمت هذا الفن من أوروبا بتقاليده المحددة و«نصوصه» التي لم تلقَ نفس الاهتمام الذي توليه للتراجيديا، فليست الكوميديا على الإطلاق مسرحيةً تثير الضحكات (ولو كانت تثير الضحكات بالفعل)، وليست التراجيديا مسرحية تبعث على البكاء (ولو أبكتنا)؛ إذ إن الكوميديا تعتمد في جوهرها على إمكانية التوفيق بين العناصر المتضاربة والمتناقضة لحياة الإنسان؛ ولذلك فهي دائمًا ما تبقي على الأمل والتصالح والهناء مهما حدث من تصارعٍ وتنازع بين القوى التي تشترك في الحدث الدرامي، أي إنها تؤكد نزوع الإنسان إلى التقارب وتخطِّيه الصعاب، ونشدانه الدائب للتوافق من أجل الحياة، إنها كما قال ناقدٌ كبير «احتفالٌ بالحياة»، احتفال بقدرة الإنسان على الاستمرار في الحياة، على البقاء رغم ما يعترض حياته من عقبات، ومن ثَم فهي احتفال بالإنسان نفسه، بقدرته على العطاء وتخطي كل ما من شأنه أن يجلب له الشقاء! وهي أيضًا إذن احتفال بالسعادة وإعراب عن فرحة الحياة (وهذا منشأ الدراما نفسها في الحقيقة) وانتصار على قوى الدمار والموت!

ولما كان هذا جوهر الكوميديا فلقد كان من الطبيعي أن تنزع الكوميديا إلى إشاعة جو الفرح وأن تنتهي نهايةً سعيدة، وأن تتخللها البسمات بل الضحكات بل وأن تشيع الفرح والضحك والابتسام في كل شيء! ومن الطبيعي أيضًا ألا تمس الكوميديا مناطق معينة من التجربة الإنسانية تتسم باستحالة التوافق وانعدم التصالح (أي تدمير إمكانية الاستمرار)، وأن تركز على كل ما من شأنه أن يتيح التوافق ويسمح بعودة المياه إلى مجاريها، ومن ثَم كان تركيز الكوميديا دائمًا على أخطاء الإنسان التي يمكن إصلاحها، وتلك العيوب أو النقائص في النفس البشرية وفي المجتمع التي يمكن للبشر أن يعالجوها ويتخطوها، والتي تتمثل عادةً في أخطاء التركيب أو البناء الاجتماعي والعلاقات البشرية التي تشوبها أخطاءٌ يمكن تلافيها، سواء كانت هذه ترجع إلى أخطاءٍ في الأفكار والمفاهيم أم إلى أخطاءٍ تقليدية توارثها المجتمع عن الأسلاف أم إلى أخطاءٍ فيما تواضع عليه المجتمع في فترةٍ زمنية معينة، أم إلى أخطاءٍ أعمق من هذا أي «أخطاء» في النوازع البشرية نفسها!

السخرية والنقد الاجتماعي

وربما كان هذا السبب الذي جعل بعض النقاد يتصورون أن الكوميديا مقصورة على السخرية من مظاهر الحياة الاجتماعية دون النفاذ إلى باطن الإنسان، وأنها لتركيزها على كل ما يمكن تغييره لا تتصل بالجوهر، بل تتناول المظهر فحسب! ولكن هذا الرأي قاصرٌ (بطبيعة الحال)؛ لأن الكوميديا في هجومها على الظاهر إنما «تعري» الباطن، وتكشف ما يكمن خلفه وما يؤدي إليه (بل وكل ما يمكن أن تؤدي إليه)، وهي لا تختلف هنا عن سائر ألوان الفن الجاد إلا في النشاط الذهني الذي يستطيع الفنان به أن يعيد صوغ وتركيب العلاقات القائمة، وإبراز الأخطاء بتكبيرها والمبالغة فيها، وذلك حتى تتغير النسب التي تتحكم في العلاقات فيما بين الشخصيات وبين الشخصيات وبيئتها، وبين المتفرج وما يعرفه عن الإنسان داخل هذه الشخصيات … أي إن الفنان هنا يفعل ما يفعله رسام الكاريكاتير حين يضخم أنفًا أو فمًا، أو حين يتصور منزلًا معوجًّا حتى يقرب إلى الناظر الفكرة الخيالية التي تغير من النسب القائمة، فتولد التوتر وما يتلوه من انفراج عن طريق الضحك!

فالكوميديا إذن تعتمد على النشاط الذهني أكثر مما تعتمد المشاعر، وهي تسعى دائمًا إلى تأكيد المسافة بين المتفرج وبين ما يرى على خشبة المسرح، بحيث لا يميل في أي لحظةٍ إلى الاندماج الشعوري فيما يراه، وبحيث تتأكد له «غيرية الغير» أي اختلاف هؤلاء الأشخاص عنه وعدم تطابقهم مع حياته، وبحيث يستطيع أن يسعد بتصور أن هذا لا يحدث له هو ولا يمكن أن يحدث … فالمتفرج الذي يشهد غنيًّا بخيلًا يعد الدراهم بحرصٍ شديد، ويكتفي من الطعام بكسرة خبز وذرات من الملح، لا يمكنه أن يوحد في خياله بينه وبين هذا البخيل (حتى ولو كان بخيلًا هو نفسه!)، ولكنه سوف يهنأ بتصور أن هذا شخص مختلف عنه تمامًا، وبأنه لا يمكن أن ينحدر إلى مثل هذا البخل في حياته! وينطبق هذا على سائر ألوان الكوميديا سواء تلك التي تسخر من «تركيبة» اجتماعية معينة أم أشخاص إلخ … فنحن قد نقطب الجبين حين نشهد لصًّا غبيًّا يحاول كسر خزانة حديدية بمطرقة، مُحدثًا أصواتًا مزعجة يتيقظ لها صاحب البيت، ولكننا سوف نضحك حقًّا حين لا يتبين صاحب البيت أن هذا الطرق معناه وجود لص في المنزل، أو عندما يدخل صاحب المنزل فيرى اللص فلا ينزعج أي منهما … بل ونضحك أكثر إذا طلب اللص من صاحب المنزل، في براءة، أن «يناوله الشاكوش»! وتزيد السخرية إذا رد صاحب المنزل «أنهي شاكوش؟»، أي إن ضحكنا يقوم على أن ثمة مسافةً تفصلنا عن هؤلاء وأنهم يختلفون تمام الاختلاف عنا، بحيث يستحيل أن نتوحد شعوريًّا معهم، أو أن نتعاطف حقًّا مع ما يفعلونه.

البُعد الشعوري للكوميديا

ولكن هذه التفرقة الكلاسيكية بين الكوميديا والتراجيديا لم تكن في يومٍ ما تفرقةً مطلقة أو تامة، إذ إن كُتاب الكوميديا طالما نزعوا إلى المزج بين عناصر المسرح «الجاد» أي المثقل شعوريًّا والكوميديات المرحة التي تتصل بالظاهر والفكاهة والنقد والسخرية … إلخ.

فطالما وجدنا في الكوميديات التي وصلتنا عبر العصور أشخاصًا ليسوا «أقل منا» أو أدنى ذهنًا أو إحساسًا، وطالما وجدنا مواقف يتفاوت فيها التركيز، وتتحول فيها بؤرة الصورة من المبالغات الفكاهية إلى المشاعر الجادة، بل إن نوعًا من الكوميديا قد نشأ على أيدي كُتاب العصر الإليزابيثي يعتمد على أبعادٍ شعورية لا يمكن للكوميديا بمفهومها القديم أن تتقبلها، فنحن نرى في مسرحيات شيكسبير ميلًا كبيرًا إلى مزج الكوميديا بالتراجيديا، وبخاصة فيما يُسمَّى «بالكوميديا الرومانسية» أي كوميديا الحب، ولكن حتى في الكوميديات الأخرى ولنقل في تاجر البندقية، نجد أن شيكسبير يعمد إلى تحليل الشخصيات وإبراز أعماقها ومعالجتها معالجةً تدفعنا إلى التعاطف معها، بحيث يتأكد ذلك البعد الشعوري الذي يجتهد كاتب الكوميديا التقليدية لإقصائه من مسرحه.

وهكذا فقد نشأت إلى جانب الكوميديا التقليدية أنواعٌ أخرى من الكوميديا، تعتمد على المادة الشعورية وتتوسل بحيَل الكوميديا التقليدية مثل المفارقة والتناقض … إلخ، لإبراز إمكانية التصالح والهناء، رغم بلاهات الإنسان التي تحرمه من الاستمتاع بحياته على الأرض، وسادت أنماطٌ من الكوميديا تختلط فيها هذه العناصر جميعًا، بحيث نشأ ما كان درايدن يسميه «بالمسرح المختلط» أو التراجيكوميدي!

التراجيكوميدي

ولكن التراجيكوميدي ليست مأساةً لاهية أو ملهاةً مبكية … إنها أعمق من ذلك بكثيرٍ فهي محاولة الإنسان لرؤية حياته على مستويَين متزامنَين مترابطَين، مستوى الانفعال الجاد الصارم ومستوى الهزل الساخر، بحيث يكون قطبا الصراع هذَين المستويَين، وبحيث نستطيع أحيانًا أن نطل على باطن الشخصيات وننفعل بآلامها ومشاعرها الجادة، ثم نعود إلى المستوى الأول، مستوى تناقضاتها الظاهرية وما يسود سلوكها ومواقفها من مفارقاتٍ تدعونا إلى إدراك البعد بيننا وبينها، أي تبين المسافة الشاسعة التي تفصلها عنها …

ولا يعني ميلاد هذا اللون الجديد من الفن المسرحي انتفاء الملهاة النقية أو المأساة الكاملة، ولكنه يعني أن نظرة الإنسان الحديث أصبحت تتطلب رؤية الألوان المتعددة، والظلال الرمادية فيما بين الأبيض والأسود، وقد كان ميلاد هذا المسرح الجديد مبشرًا بميلادٍ آخر لنظرةٍ إنسانية جديدة، على أيدي رواد المسرح الواقعي ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا.

وربما كان أنصع مثلٍ على التقاء الكوميديا والتراجيديا والتحول من هذه إلى تلك، هو ما فعله تشيكوف بمسرحية «شيطان الغابة» التي أعاد كتابتها لتصبح «الخال فانيا»! ماذا حدث إذن وما الذي فعله تشيكوف حقًّا؟

شيطان الغابة

في ١٨ أكتوبر عام ١٨٨٨م أرسل أنطون تشيكوف خطابًا إلى أ. س. سوفورين، يشكره فيه على بداية الفصل الأول من مسرحية شيطان الغابة، التي كانا قد اتفقا على كتابتها معًا، ويذكِّره فيه بالخطة التي اتفقا أن تسير المسرحية عليها، ويتحدث فيه عن الشخصيات بالتفصيل، ويحدد له معالم الكوميديا التي اعتزم أن يكتبها بعد كتابته ﻟ «الخطوبة» و«الدب» اللتَين لاقتا نجاحًا كبيرًا، ولكنه كان، كما يذكر أخوه في ترجمته لحياته، يريد أن يكتب شيئًا أكثر جديةً من الهزليات.

وفي هذا الخطاب يرسم تخطيطًا لبعض الشخصيات الرئيسية في شيطان الغابة، وهي شخصيات استمرت في الخال فانيا مثل سير برياكوف وابنته سونيا، وأستروف وفونتيسكي، فيتصور أن سير برياكوف «وصل إلى مركزه بجهوده الشخصية، لا شيء مشين في ماضيه على الإطلاق، يعاني من النقرس والروماتيزم والأرق وطنين في أذنه، ورث ضيعته عن زوجته، تفكيره علمي واقعي، لا يطيق المتصوفين أو الحالمين أو السذج أو الشعراء أو المتعصبين، لا يؤمن بالله وينظر إلى العالم كله نظرةً عملية محضة، العمل، العمل، كل ما عدا ذلك هراء وترهات.»

ويتصور أن سونيا «نالت حظًّا وافرًا من التعليم، ذات قدرة على التفكير، سئمت بطرسبرج والريف أيضًا، لم تقع في الحب مطلقًا، كسولة تحب التفلسف، تستلقي على الأريكة لتقرأ كتابًا ما … تريد أن تتزوج لمجرد إدخال تغيير ما على مجرى حياتها ولكيلا تظل عانسًا آخر الأمر، تقول إنها لن تستطيع أن تحب شخصًا هامًّا، يسعدها لو تزوجت بوشكين أو إديسون مثلًا! ولكنها مستعدة للزواج من شخصٍ عادي مهذب لمجرد قتل الملل، ومع ذلك فسوف تحترم زوجها وتحب أطفالها، حينما قابلت شيطان الغابة واستمعت إليه استسلمت لعاطفتها كليةً، إلى أقصى حدود الاستسلام … إلى حد النوبات الهستيرية، نوبات الضحك الأبله الذي لا معنى له، أن البارود الذي بللته مستنقعات بطرسبرج تجففه الشمس لينفجر بقوةٍ عنيفة.» ويتصور أن أستروف «سيدٌ مهذب في الثلاثين إلى الثالثة والثلاثين، شيطان الغابة، شاعر، رسام مناظر طبيعية، يتأثر بجمال الطبيعة إلى حدٍّ بعيد، كان قد زرع في طفولته شجرةً صغيرة، وحينما اخضرت أوراقها وبدأت تتمايل مع النسيم، حينما بدأ يسمع حفيفها وبدأت تلقي بظلها الصغير أحس بنفسه يملؤها الفخر، لقد أعان الله على خلق شجرة جديدة! وهكذا ازدادت الأرض شجرةً أخرى، وكانت هذه بداية نزعته الخلاقة الخاصة، إنه يجسد فكرته لا على قماش الرسم أو الورق، وإنما في الأرض ذاتها، ليس في الطلاء الميت، وإنما في الكائنات الحية، الشجرة جميلة ولكن ليس هذا كل شيء، إن لها حقًّا خاصًّا في أن تحيا، إنها ضرورة كالماء أو الشمس أو النجوم، لا يمكن تصور الحياة على الأرض دون أشجار، فالغابات تلطِّف الجو، والجو يؤثر في شخصية الإنسان … إلخ، لا يمكن أن تقوم حضارةٌ أو سعادة إذا وقعت الغابات تحت ضربات الفئوس، إذا كان الجو شرسًا فظًّا وأصبح الناس غليظي الطبع أفظاظًا، سيكون المستقبل رهيبًا، وسونيا لا تعجب به من أجل أفكاره هذه الغريبة عليها، وإنما تعجب بموهبته وعاطفته المتَّقدة وأفق تفكيره المتسع … يعجبها أن محيط تفكيره يشمل روسيا طولًا وعرضًا، ويعبر المستقبل متوغلًا فيه عشرة قرون.»

ويتصور أن فوينتسكي (فانيا) «يدير ضيعة سيربرياكوف بعد أن فقد ضيعته هو منذ وقتٍ طويل، يأسف لأنه لم يختلس، لم يكن يتوقع أن يكون أقاربه في بطرسبرج على هذه الدرجة من الجحود لفضائله، يعتقد أن الناس لا تفهمه ولا يريدون أن يفهموه … يشرب المياه المعدنية ويتذمر بينه وبين نفسه، سلوكه يتسم بالاحترام الشديد، يؤكد أنه لا يخاف من الجنرالات، يصيح في حديثه.» وقبل أن ينتهي تشيكوف من الخطاب، قسَّم العمل بينه وبين زميله سوفورين، وذكره بأنه «يريد أن يجعل سير برياكوف يشعر بأنه محاطٌ بجماعةٍ من البُلهاء.» وبأنهما يجب أن يبيِّنا «كيف تؤثر شياطين الغابة على النساء.»

ولكن مشروع كتابة المسرحية بالاشتراك مع سوفورين لم يرَ النور، وانتهى تشيكوف إلى كتابتها بنفسه، فبعد أن توقف المشروع ألقى تشيكوف بالتخطيط العام للمسرحية في درج مكتبه، حتى طلب إليه المخرج «سولوفزوف» أن يكتب له مسرحيةً وبأي ثمنٍ وبأي شكلٍ تُعرض في عيد الميلاد، وكُتبت المسرحية في الوقت المحدد، ولكنها لم تلقَ النجاح الذي تستحقه بسبب سوء إخراج سولوفزوف، الذي لم يكن لديه في الفرقة أبطالٌ فقامت بالبطولة النسائية سيدة ضخمة الجثة (بحيث لم يستطع البطل أن يعانقها لتقبيلها)، ولم يستطع سولوفزوف أن يصور مشهد حريق الغابة، مما أغضب تشيكوف فألقاها في مكتبه حوالي عشر سنوات، وفي عام ١٨٩٨م أعاد كتابتها وبناءها وأعطاها عنوانًا مختلفًا وهو «الخال فانيا».

عند مقارنة «شيطان الغابة» ﺑ «الخال فانيا» نواجه عدة أسئلة جوهرية سنحاول الإجابة عليها هنا، لماذا تخلى تشيكوف عن الكوميديا القديمة في شيطان الغابة، وأحالها مأساةً تختلف اختلافًا جذريًّا عن الأولى، ما أثر النضج الفني على تكنيك المسرحية الجديدة؟ كيف تحولت الخطوط الأساسية التي بُنيت عليها المسرحية الأولى، وتطورت في «الخال فانيا»؟ والسؤال الأول يلزمنا ببحث مفهوم الكوميديا عند تشيكوف، إنه يقول عن شيطان الغابة: «إنني أقدِّم في هذه الكوميديا شخصيات لطيفة، سامية النفس، نحسُّ بشبه تعاطف معها والنهاية سعيدة.» فكيف يصدق هذا على شيطان الغابة؟

في الفصل الأول نرى زلتوخين وأخته جولي في ضيعتهما يتوقعان وصول الأستاذ سيربرياكوف وزوجته إلينا، ثم يأتي أورلفسكي وابنه فيودور وفوينتسكي ثم ديادن والضيوف، وتبدأ مشاهد مرحة تلقي بالضوء على هذه الشخصيات اللطيفة بالفعل، حتى يبدأ فوينتسكي حديثه الجاد عن سيربرياكوف وإلينا، ويكشف لنا عن شخصيته هو، حبه لزوجة البروفسور، حقده عليه وعلى شخصيته المسيطرة، غيرته منه ثم السنين التي قضاها يعمل دون مقابل وهكذا، ويسير الحديث بصورةٍ عادية دون أن نفقد روح المرح، وديادن يتدخل في الحديث دائمًا بلمحاتٍ مرحة لا تسمح بالتوتر، وتنتزع الضحكات لا البسمات فحسب، فحينما يتحدثون عن خيانة إلينا لزوجها يتدخل ديادن:

ديادن : ولكن أرجوكم أن تسمحوا لي جميعًا بأن تنظروا بعين الاعتبار يا أصدقائي الأعزاء إلى التحولات التي انتابت قدري! ليس سرًّا، وليس مغلفًا في ظلام الغموض أن زوجتي، في اليوم التالي لزفافنا، هربت مع عشيقها بحجة أن مظهري غير جذاب.

وهذا التعليق المقتضب من فوينتسكي ليس مجرد نكتة، فهو يكشف بالفعل عن موقفه تجاه مسألة الخيانة وفلسفة الإخلاص لزوجٍ لا تحبه زوجته، ولكن بناء هاتين الجملتين من شأنه ألا يجعلنا نندمج في فلسفته الخلقية، وإنما أن نبتسم في سعادةٍ ونحن نرقب ما يحدث؛ إذ سرعان ما يتوالى وصول الشخصيات في جوٍّ من البهجة غير العادية، والفتيات لا يزلن يُثرن النكات، وسرعان ما نجد أخطر الموضوعات تعالج هذه المعالجة الخفيفة … إذ إن زلتوخين يؤكد أن إلينا تخون زوجها مع فوينتسكي بينما يعارض فيودور ذلك بشدةٍ، ويؤكد أنه هو الذي سيفوز بها آخر الأمر! وعندما يصل البروفيسير وزوجته، وتجتمع شخصيات متضاربة الميول والنزعات مما يهيئ الفرصة للصدام ومن ثَم للتوتر (الذي يسود بداية الخال فانيا)، نجد أن تشيكوف يستغل هذه المتناقضات في إثارة البسمات، مستعينًا ﺑ «ديادن» الذي يفرض روحه المرحة على الجميع …

وديادن في حديثه لا يلهو، وإنما هو جادٌّ كل الجد، أو هو يتصور ذلك … ولا يسع الجميع إلا الابتسام، فهو غريبٌ عن هؤلاء جميعًا، ولا يستطيع أن يدرك المشاكل النفسية والنزعات المتضاربة التي تتردد في صدور هؤلاء، إنه سعيدٌ على الدوام، وسعادته نابعة من ذاته هو، وهو لا يحاول أن ينفذ إلى دخائل من يحدثهم، وينفر من كل ما يعكر عليه صفو سعادته، يتحدث دون طلب، وفي أشد الأوقات حرجًا بلغته الطنانة الملتوية طوال المسرحية.

وهنا لا بد أن نقارن دور ديادن في شيطان الغابة بدور «تليجين» في الخال فانيا، إن تليجين هو نفس الشخص، ولكنه ليس في ضخامة ديادن وشدة مرحه، إنه سعيدٌ دون شك، وله نفس المميزات النفسية التي يتمتع بها ديادن، ولكنه، إذا جاز هذا التعبير، مغلفٌ في إطار الجو الخانق الذي يسيطر على الخال فانيا، وهو مرتبطٌ بالجيتار الذي يعزفه، ويلتصق به التصاقًا يوحد بينهما وينقله إلى دنيا الرمز، فهو في الخال فانيا ليس شخصيةً كبيرة تضفي من روحها على المجتمعين، وإنما هو لحنٌ شارد لا ينتمي إليهم، ويمر بهم مرًّا خفيفًا كأنما ليناقض هذا الجو، ليؤكد اللحن الحبيس في نفس «إلينا» التي تعزف البيانو بمهارةٍ هي الأخرى، إن تليجين بما يضفيه عليه الرمز اللحني، يخلق جوًّا شاعريًّا خاصًّا به يعبر عن السلام الدائم الخالي من الصراع، فهو وحده الذي استطاع التوفيق بينه وبين نفسه، فخلا من المتناقضات، وانتقل من العالم الذي خلقه تشيكوف في هذه المسرحية إلى عالمٍ علوي تطمع سونيا وخالها أن يجدا السعادة فيه …

وحينما يصل خروشوف (أستروف في الخال فانيا) في وسط هذا الفصل من شيطان الغابة، لا يستطيع وهو بطل المسرحية أن يفرض خيط تفكيره على الجميع، فهو لا يزال يعيش في أفكاره الخاصة عن النزعات الخلاقة وزراعة الأشجار، ويعلل انطواءه وفشله بأن الناس لا تستطيع الخلق، وإنما يكمن في داخلها شيطان تخريب، وهو في شيطان الغابة يفشل في أن يحوز إعجاب سونيا رغم تدلهه في حبها، فهي لا تفهمه وتهاجم عواطفه الديمقراطية الاشتراكية، بينما نلمح الموضوع الذي طرقه تشيكوف بطريقة «المباشرة» في الخال فانيا، يعالج هنا بأشد السبل خفةً وفكاهة … الخيانة! إن فوينتسكي يحب «إلينا» زوجة البروفيسور وأستروف يهيم بها … وهما يواجهانها بهذا في الخال فانيا، ويطلبان منها كلٌّ بطريقته أن تستسلم لعواطفها، وأن تتخلى عن إخلاصها المزيف لزوجها … أما هنا، فتشيكوف يضرب على الوتر عن طريق شخصيةٍ أخرى.

خروشوف : إنك عاشقٌ بطبيعة الحال؟
فيودور : ولهذا، يا شيطان الغابة، سوف نتناول كأسًا (يشرب) أيها السادة إياكم وعشق المتزوجات! أقسم لكم إنه من الأفضل ألف مرة أن يصاب الإنسان في كتفه ورجله مثل خادمكم المطيع، عن أن يحب زوجة، إنها مصيبةٌ كبيرة!
سونيا : أهو حبٌّ يائس؟
فيودور : يائس؟! لا شيء يائس في هذا العالم، حبٌّ يائس تعس … أوه … أخ! كل هذا هراء! ما على المرء إلا أن يصمم، إذا صممت أن تصيب بندقيتي الهدف فسوف أصيبه! إذا صممت على أن تحبني امرأة فسوف تحبني، بهذه البساطة يا سونيا ويا سيدي العجوز! إذا اخترت امرأةً ما فالأسهل عليها أن تقفز إلى القمر من أن تفر مني.

وهذا الحديث يصب بطريقةٍ غير مباشرة في أزمنة «إلينا» … إننا هنا نعيش نفس المشكلة التي نعيشها في «الخال فانيا»، ولكن ليس في جوها القاتم، إننا نضحك من هذا الشاب المتهور، الذي يجيد الحديث بينما يفشل فشلًا ذريعًا في إقناع جولي بقبوله … والحقيقة إن نفس الموضوعات الرئيسية تقريبًا قد استمرت في المسرحيتين، إلا أننا في شيطان الغابة نجد أعمق الأزمات النفسية قد عرضت في أخف المواقف المرحة، حتى إننا لنبتسم ونحن نتابع أزمات الأشخاص واحدةً بعد الأخرى.

ولنا أن نتساءل هنا: هل يمكن معالجة نفس الموضوع … نفس الشخصيات … نفس الأحداث … في كوميديا تمامًا مثلما تعالج في مأساة؟ ما الذي جعل تشيكوف يعدل عن ذلك الجو المرح ويستبدل به القتامة والصرامة؟ والحقيقة إن مسرح تشيكوف لا يمكن أن تنفصل فيه الكوميديا بنقاءٍ شديد عن المأساة، فكل هؤلاء الأشخاص، مهما أثاروا الضحكات، يحملون في نفوسهم بذور المأساة، إن كلًّا منهم منحصرٌ في ذاته متناقضٌ تناقضًا أساسيًّا مع نوازعه التي لا يفهمها … إنهم يتحدثون ويضحكون، ولكن هناك في داخل كلٍّ منهم شيئًا يرهص بالطريق المظلم، الذي سيطبق عليهم عاجلًا أو أجلًا، فيودور لا يعمل ويدَّعي أنه مهتمٌّ بحياة العقارب، ويحس بالملل الشديد، والده يفتخر به ولكنه يخشى عليه شيخوخة عاطلة باردة مثل شيخوخته، فوينتسكي يضحك حقًّا ويناقش خروشوف ولكنه يخفي تألمه الشديد لحياته التي يعتبرها قد ضاعت، وحبه اليائس لإلينا وحقده على البروفيسير، والبروفيسير، يضحك على نكات ديادن ولكنه يشعر بالاختناق لأنه يحس، كما قال تشيكوف، بأنه محاطٌ بجماعةٍ من البلهاء، وسونيا تطمح في الزواج والحب، ولكنها لا تعرف ذاتها ولا تكاد تدري كيف تتصرف، تهاجم خروشوف لميوله الديمقراطية الاشتراكية مع أنها دون وعيٍ تعجب به إعجابًا شديدًا.

وهذا التناقض، كلٌّ مع ذاته، وكلٌّ مع الآخر يمكن أن يخلق كوميديا، ويمكن أن يخلق مأساة، ولكن الكوميديا في أي حالاتها هنا لا بد أن تكون حاملةً لجراثيم مأساة، إن كل شخصية من هذه الشخصيات تقف منفردةً في أزمتها وأفكارها، كلٌّ له رغبات وآمال … وكلهم لا يستطيع تحقيقها أو التنفيس عنها، إننا لا نكاد نضحك حتى تنحسر الضحكات ونواجه الأزمة مع إلينا: ما الذي أصاب هذا المنزل؟ (محدثةً فوينتسكي) والدتك تكره كل شيء عدا كتيباتها والأستاذ، والأستاذ مملٌّ مضجر لا يثق بي ويخاف منك، سونيا غاضبة من أبيها ولا تحدثني، وأنت تكره زوجي وتحتقر أمك، وأنا مضجرة وقلقة مضطربة، شعرت اليوم عشرين مرةً أنني على وشك البكاء، في كلمةٍ واحدة: إنها حربٌ من الجميع ضد الجميع، ما سبب هذه الحرب؟ ما هدفها؟

وفوينتسكي يكره فلسفتها يريد فحسب أن يسمع صوتها ويجالسها … وتحاول هي أن تبحث عن سر هذه العاطفة: «أنت يا جورج متعلمٌ ومثقفٌ ويبدو أنك تستطيع أن تفهم أن العالم لا يفنى بسبب القتلة واللصوص، وإنما بسبب الكراهية الخفية، والعداوة التي يكنها الناس الطيبون لأنفسهم، من كل هذه المنازعات التافهة، التي لا يراها من يعتبر هذا المنزل كعبةً للمثقفين، ساعدني على مصالحة الجميع! لا أستطيع ذلك وحدي.» تقول هي ذلك، بينما فوينتسكي ثمل، غارقٌ في أزمته الشخصية … لا يفهم ما تعني … ولا يرى بأسًا في السكر إذ إن الخمر تعطيه وهمًا بأنه يعيش، كما يقول!

إن تلك المصالحة … ذلك التصافي هو ما كان ينشده تشيكوف في نهايته السعيدة، ولكنه تبين حينما عاد إلى المسرحية أن المصالحة مستحيلة، التوافق بين هؤلاء القوم لا يمكن الوصول إليه، ومن ثَم لا يمكن نجاح الكوميديا، فماذا فعل؟ لقد أخرج بواطن الأزمات إلى الخارج ووضعها وجهًا لوجه … لقد أحس أن هؤلاء جميعًا لا يمكن أن يلتقوا … وأن هرب فوينتسكي عن طريق الانتحار أمرٌ غير طبيعي … فجعله يستمر إلى النهاية، ويشهد مزيدًا من الآلام، ويرى سلوانًا في أن تشاركه سونيا هذه الآمال المحطمة، وذلك التعذيب الذي لا نهاية له … وحسب.

بواطن الشخصيات

وحينما خرجت بواطن الشخصيات من «شيطان الغابة» وجدنا عالمًا غريبًا لا مكان فيه للفكاهة أو الدعابة … أن كل «باطن» ملتهب مشحون … وهو في صدامه لا يتوانى عن الالتحام والعنف … غير أن هناك ما هو أقوى من العنف: الملل! الموضوع الرهيب الذي يقبض بشدة على الشخصيات، ويكبت فيها أحاسيس الحياة، بل إن الملل أحيانًا يجعل سونيا تضحك، كما دفع ضابطًا إلى قتل صديقه.

يقول فيودور لفوينتسكي: «إنك لم تذُق الملل الحقيقي أبدًا يا صديقي العزيز، عندما كنت متطوعًا في الصرب مررت بتجربة الملل الحقيقي! حار، خانق، قذر …»، ثم يذكر كيف جلس قبالة أحد رؤسائه: «جلسنا في جنونٍ نحدق في عيون البعض … يحدق في وجهي … أحدق في وجهه … يحدق في وجهي … أحدق في وجهه … يحدق فيَّ … أحدق فيه … ونظل نحدق دون أن نعرف لمَ نفعل ذلك … وتمر ساعة … ثم ساعة أخرى … ولا نزال نحدق في عيون البعض … وفجأةً يقفز ويستل سيفه ويهب في وجهي … إيه … ماذا حدث؟ وسحبت سيفي على الفور طبعًا خشية أن يقتلني … وبدأنا، شك شاك، شك شاك، ولم نفترق إلا بصعوبةٍ بالغة، ونجوت بطبيعة الحال، ولكن كابتن كاشكينازي لا يزال له ندبة غائرة في جبهته، أترى كيف يمكن أن يكون الإنسان ملولًا إلى حد الاستماتة؟»

هذا هو الملل الذي يحاول الجميع أن يقتلوه … البعض يحاول بالعمل … ويفشل، البعض يحاول بأن يغير حياته … ويفشل … لماذا؟ لأن الملل ينبع من الداخل؛ لأن هؤلاء الأشخاص ملوا ذواتهم … إن فوينتسكي مثلًا يكره نفسه، يندم على أنه لم يختلس … يندم على حياته التي ضاعت ولم يتمتع فيها بشيء.

وأستروف أيضًا يعرف أنه أبله إذ جعل الحياة تبتلعه كل هذا الابتلاع، ولا تدع له فرصةً يحقق فيها ذاته، وإلينا تندم في نفسها على زواجها من الأستاذ المريض المسن، وعدم إطاعة نداء شبابها وجمالها، وسونيا يائسة من حب من يعتبرها لا شيء … وتتمنى لو كانت جميلة … وتكره قبحها وتنشد السلوان في أي شيء … وهكذا … هذا هو منبع الملل، لقد صوره تشيكوف في «شيطان الغابة» عن طريق وصف، أو تصوير فني لغوي، لحادثةٍ أثناء الحرب، فكيف يصوره هنا في الخال فانيا؟!

فوينتسكي : … آه لو تعرفون، يعذبني الأرق كلما فكرت في غبائي وحمقي، وأُجن غضبًا كلما تذكرت أنني أضعت الوقت، وكان يمكن أن أتمتع بكل ما يحرمني منه سني الآن.
سونيا : خالي فانيا … هذا حديثٌ ممل.
ماريا (لابنها) : يبدو أنك تهاجم مبادئك السابقة، هذه المبادئ ليست مسئولةً عن تعاستك، أنت المسئول الوحيد، أنت تنسى أن المبادئ وحدها لا تُجدي، مجرد كلمات ميتة، كان لا بد أن تعمل.
فوينتسكي : أعمل؟ لا يمكن أن يتحول الجميع إلى آلاتٍ كاتبة مثل أستاذك الفاضل.
ماريا : ماذا تعني؟
سونيا (متوسلة) : جدتي، خالي فانيا … أتوسل إليكما …
فوينتسكي : سأسكت … أسكت وأعتذر … أنا آسف.
إلينا : ما أروع الجو اليوم، ليس حارًّا …

(فترة صمت.)

فوينتسكي : جوٌّ رائع، يناسب من يريد شنق نفسه.

(تليجين يضبط أوتار الجيتار، مارينا أمام المنزل وتدعو الدجاج إليها.)

ماريا : لك لك لك …
سونيا : دادة … ماذا يريد الفلاحون؟
ماريا : نفس الموضوع … الأرض البور طبعًا … لك لك لك …
سونيا : ماذا تنادين؟
ماريا : الدجاجة السمراء … اختفت مع كتاكيتها … أخاف أن تخطفها الغربان.

(تخرج.)

(تليجين يعزف رقصة البولكا، يصغي الجميع في صمتٍ، يدخل عامل.)

إن هذا المشهد يضم فانيا، إلينا، والدة فانيا، سونيا، ماريا، عمَّ يتحدثون؟ يناقشون شيئًا ما … هل يفعلون شيئًا ما؟ الحقيقة أن تشيكوف هنا يبتعد عن تكنيك شيطان الغابة كل الابتعاد، ففي شيطان الغابة يلتزم واقعيته التزامًا يكاد يكون حرفيًّا … فالأشخاص يدخلون ويخرجون في حريةٍ وانطلاق ويتحدثون ويتعانقون كثيرًا ويثرثرون كثيرًا وهكذا … ولكننا نحس هنا لمسة النضج الفني الثابتة، تلك اللمسة التي لا تجعل المشهد واقعيًّا بالمعنى العريض، وإنما موحيًا فحسب بجو الواقع … إنه يمثل جو «الخال فانيا» كلها …

ماريا تريد أن تتحدث، وابنها يرد عليها، في صدرهما آلاف الأشياء، ولكن سونيا تتوسل إليهما أن يصمتا … أن يكبتا هذه الأشياء، لماذا؟! هل سيتحقق الهدوء والسلام إذا صمتا … كلا مطلقًا … على العكس، إن فترة الصمت ليست صمتًا، وإنما هدنة يستعد فيها الطرفان للقتال ونعيش نحن صمتهما في تأمل … الصمت ليس صمتًا، وإنما هو برهة تتيح لك أن تخضع لإيحاءات الكلمات التي نطقا بها … ثم إذا بك داخل منطقة إيحاءاتٍ جديدة … بهذا التتابع: ضياع حديث ممل – المبادئ والعمل – صمتًا – (فترة صمت) – الجو بديع – (فترة صمت) – يناسب الشنق – جيتار – الدجاج – الأرض البور – الكتاكيت والغربان – رقصة البولكا.

إن هذه الخيوط لا يمكن أن تمثل مشهدًا طبيعيًا بالمعنى المفهوم للواقعية مثلًا، فالحوار عند تشيكوف بلغ مرحلةً من النضج تعلو به على هذا المستوى، وتدخل به في نطاقٍ آخر، إن هذه الخيوط تمثل مركبًا غاية في التعقيد، فليست لحنًا منفردًا أو خيطًا فكريًّا أو عاطفيًّا واحدًا، تلقيه إحدى الشخصيات فتلقفه الأخرى وهكذا، وإنما هي عدة خيوط لا يكاد يجمع بينها تسلسل منطقي أو غير منطقي.

فالحديث عن المبادئ لا يؤدي إلى الحديث عن الجو … ثم فترة الصمت … أو فترتا الصمت، لماذا؟ لأنه ليس هناك موضوع يمكن أن يجمع هؤلاء القوم، وإنما نحن نواجه مركبًا من جملٍ متشابكة يربطها شيءٌ واحد، دلالتها النفسية، إن هؤلاء القوم يربطهم الملل … حينما تريد إلينا أن تكسر الصمت والملل تعلق على الجو، وحينما يريد فوينتسكي أن يتحاشى الحديث في موضوعٍ يجرفه، يسخر من قولها ويصمت، ثم يعود الفلاحون للحديث في نفس الموضوع … الأرض البور!

والحقيقة التي يمكن أن تطالعنا هنا هي أن هذه الأشياء المختارة من الواقع لا تؤدي على الإطلاق دورًا واقعيًّا، وإنما تصور في تجمعها جوًّا عامًّا قصد منه الإيحاء لا النقل، ويكفي أن يجتمع في مكانٍ واحد خمسة أشخاص تربطهم صلة القرابة، فلا يجدون ما يتحدثون فيه، وإن بدأ أحدهم الحديث أسكته الآخرون، فينتهون من حيث بدءوا … إلى الأرض البور! أليست الأرض البور هنا تتخطى دلالتها الواقعية لتوحي بذلك الجو؟ ألا يوحي خوف مارينا على الكتاكيت من الغربان بشيءٍ أكثر من مجرد ما يعني واقعيًّا؟ ثم، لماذا فترات الصمت وضبط أوتار الجيتار؟ ولماذا في النهاية يصغي الجميع إلى الموسيقى في صمت؟ لماذا الصمت؟ وهل هو صمت حقيقي؟

التصوير الواقعي والإيحاء

وتشيكوف يحقق هذا الإيحاء في «الخال فانيا»، ليس عن طريق التصوير الواقعي مثل شيطان الغابة، وإنما عن طريق بناء حوار يعكس الجو الذي يريد خلقه ويوحي به، فمثلًا نحن نلاحظ هنا «الحوار المختنق» إذا جاز هذا التعبير، الذي يعكس الجو الخانق، فهو يهتم بفترات الصمت الكثيرة، كأنما أصبح الصمت نفسه إحدى الشخصيات، وكأنما يتدخل ليوقف الحديث العادي، ليكتم الأحاسيس العادية، ثم نرى فيه أيضًا جملًا بدأها الأشخاص ولم يكملوها … أبدًا … فكأنما خرجت من صدورهم.

يلينا : لقد مللت كل هذا، ألا تسكت؟
سيربرياكوف : يبدو أن الجميع يضيعون شبابهم في مللٍ بسببي … وأنا الوحيد الذي يستمتع بالحياة … نعم … نعم بالطبع.
يلينا : أرجوك اسكت … إنك تضجرني …
سيربرياكوف : أنا أضجر الجميع …
يلينا (باكية) : لم أعد أحتمل … ماذا تريد مني؟
سيربرياكوف : لا شيء.
يلينا : طيب … اسكت … أتوسل إليك.

وهذا اللون من الحوار مرتبطٌ أساسًا بما يريد تشيكوف إبرازه في هذا الجو: روح الملل … تلك التي تدفع الأشخاص إلى اعتراض بعضهم البعض ومنعهم من الكلام، ثم يلجأ إلى حوارٍ مركب في بعض الأحيان، يبدو لك فيه أن هناك شخصيات كثيرة تتحدث عن شيءٍ ما، بينما يتحدث كل واحد عن نفسه، أو هو غائب عن الجميع، وهنا نجد أن ما يقوله الأشخاص لا يمكن تفسيره، في تفرده أو على المستوى الواقعي، ولكن المشهد في مجموعه بكل جزئيات الحوار فيه، يخلق الجو النفسي العام الذي تعيشه الشخصيات، بقدر ما يجعل الحوار يتعدى دلالاته اللفظية المحددة إلى إثارة دلالة أكثر ثراءً وأعمق إيحاءً:

فوينتسكي : آه لو عرفت كم أقاسي كلما رأيتك قريبةً مني في بيتٍ واحد، كلما فكرت في أن حياةً أخرى تضيع … حياتك، ماذا تنتظرين؟ أي فكرة سخيفة تمنعك، افهمي أرجوك …
يلينا : إيفان بتروفتش … أنت ثمِل …
فوينتسكي : ربما، ربما …
يلينا : أين الطبيب؟
فوينتسكي : الخمر توهمني أني أعيش على الأقل … لا تمنعيني يا هلين.
يلينا : لم تكن تشرب إطلاقًا … ولم تكن كثير الكلام هكذا … هيا اذهب لتنام، أنت تضايقني.
فوينتسكي (يقبِّل يديها بشدة) : أيتها العزيزة … أيتها المرأة الرائعة.
يلينا : دعني دعني … هذا شيءٌ كريه (تخرج).

في هذا المشهد الصغير أيضًا نلمح وراء دلالته الواقعية تلك الألفاظ الرامزة … التي تخرج إلى المستوى العام: ربما – كل شيء محتمل – لماذا؟ – وهكذا … إن فوينتسكي يتحدث عن ذاته، ويلينا تسأله عن الطبيب: أستروف: حبيبها! ومع ذلك فهما يتحدثان معًا! … يتحدثان في موضوعٍ معين! كلا … إن كل جملةٍ يقولها فوينتسكي أو تقولها إلينا لا تصب في المجرى الضيق للموضوع الذي يتحدثان فيه، بل إن كل كلمةٍ ترد بها عليه أو يرد بها عليها تكشف عن الهوة السحيقة التي تفصل بينهما … وتبين أن حديثهما ليس اجتماعًا وإنما افتراق …

عندما أعاد تشيكوف كتابة المسرحية، حذف من شيطان الغابة أربع شخصيات كانت من عوامل إضفاء المرح في الكوميديا القديمة، ورأى أن انتحار فوينتسكي كان وسيلةً استطاع بها باقي الشخصيات أن يلتقوا ثانيًا بعد مرورهم بأزماتهم وتوترهم، ولكن على المستوى السطحي المرح!

وهكذا حين أعاد كتابة المسرحية وأسماها «الخال فانيا» لم يطِق أن يدع فوينتسكي ينتحر؛ لأن هذا «البطل» لا بد أن يستمر إلى النهاية، وأن يعاني الأزمة إلى ثمالتها، لا بد أن يشهد تحطيم آماله منغمسًا في تحطيم آمال الباقين، وأن يحاول والغصة في حلقه أن ينشد سلوانًا في العمل، وفي حنان سونيا ابنة أخته المسكينة التي تحطمت آمالها هي الأخرى، ومن ثَم فقد اختلفت شخصية سونيا كل الاختلاف تقريبًا، لم تعد كما وصفها في خطابه (الذي اقتطفته في أول المقال) فتاةً تريد أن تتزوج وحسب، مثقفة مغرورة، إلخ، وإنما أصبحت فتاةً ناعمة حساسة متفتحة للحياة، يرتبط في ذهنها العمل الخلاق في زراعة الغابات بالحب والتآلف والتمازج بجوهر الإنسان في بيئتها … ولكنها بطبيعة الحال لم تكن تدري أن حبها لأستروف مكتوبٌ عليه الفشل من البداية للنهاية، فأستروف نفسه فاشل يعيش في تبريراتٍ لواقعه أو في أوهام واقعه، ولا يستطيع أن يصل إلى الواقع الحقيقي، وهكذا لا يستيطع أن ينفذ إلى قلب إحساس سونيا … فيقع الفراق المحتوم آخر الأمر …

وأستروف نفسه لم يعد شيطان غابةٍ مبالغ فيه … يدخل في شاعرية أو في حماس ويحاول إقناع الناس بوجهة نظره، وإنما أصبح مثل الآخرين، ملولًا فاشلًا يترك نفسه للحياة تفعل به ما تشاء.

وهنا أيضًا نرى تشيكوف قد طور استخدامه للمونولوج … لم يعد المونولوج كما كان في شيطان الغابة حديثًا طويلًا تناقشه الشخصيات الحاضرة أو ترفضه … وإنما أصبح إسقاطًا نفسيًّا بالمعنى العريض لهذه الكلمة … بل إنه أصبح حركةً مسرحية حية … إن فوينتسكي بعد رحيل إلينا يحدِّث نفسه، ويسرح في أحلامه … بل ويفعل أشياء تصورها له هذه الأحلام، فإذا انتهى من المونولوج وجدناه يعود خطوةً خطوة إلى حيث بدأ … إلى الدنيا التي لا يعيش فيها ولا يستطيع أن «يفعل» شيئًا إزاءها.

وأستروف في الفصل الأول يستخدم أيضًا هذا «المونولوج الدائري» يبدأ حديثه عن الغابات … ويقول لفوينتسكي: ربما كنت رجلًا شاذًّا بالفعل … ثم يستمر انفعاله بالغابات وحماسه لها حتى إذا كاد يدخل في دنيا الوهمية، يحضر العامل ويعلن موعد عودته إلى دنيا تحطيم الآمال فيقول فانيا: ربما كنت شاذًّا بالفعل … ويعود إلى حيث بدأ …

لقد أصبح المونولوج رحلةً نفسية داخل صدور الشخصيات لا عقولها، والشخصيات تعود دائمًا من الرحلة مرهقةً بعد حركةٍ وأحداث عاشتها أثناء المونولوج؛ ولذلك نرى أنه يستحيل على سيربرياكوف مثلًا أن يقول مونولوجًا … لأنه لا يعرف هذه الرحلات الغامضة داخل النفوس البشرية … إنه واقعي … عملي … فما حاجته إلى الأوهام؟

أما سونيا … فكم تعيش في الأوهام وكم تتهاوى بها — هي والكثير من أبطالنا — على الأرض الجامدة.

وحتى آخر لحظةٍ في المسرحية الجديدة، بعد أن نكون قد عشنا حياتنا مراتٍ ومرات داخل النفوس وخارجها، نستطيع فحسب أن نعرف معنى التسامي الصوفي الذي تنقلنا إليه سونيا بمنولوجاتها مع فانيا … لقد فضَّل الاثنان أن يعيشا في وهمهما الكبير بالحياة، حتى ينتقلا بالفعل إلى وراء أسوار القبور نشدانًا للراحة الحقيقية.

(٥) الهزلية بين الكوميديا والمهزلة

إن روح الهزلية في رأيي هي التوتر الشديد الذي يشبه توتر التراجيديا المحكمة … أي الحدث الذي نرى فيه الشخصيات على حافة الهاوية من لحظةٍ لأخرى، بل إنهم أحيانًا ما يتدلون في الهاوية، ثم يعودون للحياة بأقوى مما كانوا.

بريان ركس، ١٩٧١م

في العيد الخامس والعشرين لميلاد «مسرح الضحك» في بريطانيا، وهو المسرح الذي وضع أساسه وطوره «بريان ركس» وأصبح من التقاليد الثابتة في لندن سواء عرضت مسرحياته في مسرح «جاريك» أو «هوايتهول»، أصدر مجموعة من نُقاد المسرح دراسةً جادة وممتعة عن طبيعة «الهزلية»، وما يفرق بينها وبين الكوميديا وما يربط بينها وبين فنون المسرح الأخرى.

اهتمت الدوائر الأدبية والفنية بهذا الكتاب أساسًا بسبب دعوى «بريان ركس» أن الهزلية فنٌّ راقٍ يضارع الفنون الجادة، أو تلك التي درجنا على اعتبارها جادة، ومن ثَم أعلى مكانًا من تلك التي تقوم على الهزل، وما يقترن به من «الميل إلى استدرار الضحك»، ولا يخفي بريان ركس حماسه لمسرحٍ عمره ربع قرن أرسى تقاليده ثم ازدهر في الخمسينيات (ربما كرد فعل مباشر لمعاناة سنوات الحرب)، ثم ما لبث أن تطور فاجتذب عددًا كبيرًا من المؤلفين والمخرجين، كما قدم أعدادًا كبيرة من الممثلين الذين تزخر بهم مسارح بريطانيا الأخرى اليوم، وربما كان سبب الإثارة أن «بريان ركس» يثبت بالفعل إمكانية النظر إلى الهزلية باعتبارها مسرحًا جادًّا، وأنه يقدم بعض الحجج التي تصعب معارضتها، على أن ثمة علاقةً وثيقة تتصل بطبيعة الفن المسرحي نفسه بين المسرح الهازل (أو مسرح الضحك) والمسرح الجاد (أو المسرح الباكي) كما يسميه.

الكوميديا الهزلية

ويتفق النقاد الذين يتعرضون في هذا الكتاب لعديدٍ من مسرحيات الخمسينيات والستينيات، على أننا بحاجةٍ إلى التمييز بين الكوميديا والهزلية على أسسٍ تختلف عما توارثناه، وأن نقلع عن الفصل الخارجي التعسفي بينهما، بل أن نعتبرهما صورتَين من صور المسرح تشتركان مع سائر صوره في المادة الإنسانية، وتختلفان في وسيلة معالجة هذه المادة، ومن ثَم يقوم ناقد صحيفة «التايمز»، وهو إيرفنج واردل، بالدفاع عن الكوميديا على أسسٍ جديدة يستطرد منها إلى تبيان علاقة الهزلية بها.

تقوم الكوميديا، حسب التعريف الجديد، لا على أساس أن أشخاصها أقل في المكانة أو من حيث «الشحنة» البشرية من أشخاص التراجيديا، ولكن على أساس أن الصراع المتولد فيها مرتبطٌ بأوضاعٍ معينة يمكن تغييرها عن طريق التفهم واستخدام العقل، ومن ثَم يمكن حله والتوصل إلى التآلف والتوافق، أي إن الكوميديا لا تقوم على أساس صراع نابع من نزعة بشرية جانحة يستحيل التحكم فيها (سواء كانت هذه عاطفة بناءةً أو مدمرة) ولكن على أساس صراع ينبع من إساءة فهم الإنسان لنوازعه وطبيعته، ومن ثَم من التناقض بين ما يريده حقًّا وما يفعله، أو ما يقوله ويتصور أنه يريده وبين ما يريده حقًّا، أو بين ما يقوله وما يفعله، مما يهز شبكة العلاقات البشرية ويعرضها للخطر في لحظةٍ من اللحظات، ومن ثَم فإن الكوميديا تفترض وجود معايير ثابتة لأفكار ومشاعر الإنسان، ومن ثَم أنماط سلوكه في مجتمعٍ له حدوده وقيمه ومبادئه الحية المجسمة.

ونحن نضحك في الكوميديا، حسب التعريف الجديد، ليس على أناسٍ أحط منا بالضرورة، أو حتى على من يمكن أن نعتبرهم أحط منا فكرًا أو شعورًا أو مقامًا، ولكن على أناسٍ لا يستطيعون لسببٍ ما التوفيق بين نزعاتهم وسائر أنماط سلوكهم، فوقعوا في تناقضاتٍ ربما اشتركنا نحن فيها، ولكننا تحكمنا فيها وأخضعناها للمنطق الاجتماعي، ولو لم نخضعها للمنطق الإنساني، وفي ضوء هذا التعريف يمكننا أن نجد في الكوميديا شخصياتٍ مثلنا إن لم تكن أعلى منا، غير أنها لم تستطع أن تقيم الضوابط اللازمة؛ لأنها أساءت الفهم ووقعت في التناقضات.

ولقد درجنا على اعتبار الهزلية صورةً من صور الكوميديا، تتحول فيها المواقف المتناقضة من المستوى النفسي الداخلي إلى المستوى الحركي الخارجي، بمعنى أن يكون لونها السائد حركيًّا ظاهريًّا مبالغًا فيه، بدلًا من أن يقوم مثلًا على قوة المفارقة في الموقف أو الشخصية أو اللغة، ولا يحاول التعريف الجديد أن ينفي ذلك بطبيعة الحال، ولكنه يفصله على النحو التالي:

  • أولًا: يمكن للحركة الجسدية أن تتمشى مع الحركة النفسية فهي إما تترجمها أو تؤكدها أو تفسرها أو تعلق عليها، وهذا هو الشائع في الهزليات التي يزخر بها التراث، فإذا كانت الكوميديا تقدم شخصًا يحلم بأن يصبح راقص باليه (بينما هو لا يصلح حتى للرقص)، فإن الهزلية تقدمه وهو يرقص الباليه فعلًا … ومن ثَم تجسد المفارقة أمامنا.
  • ثانيًا: يمكن للحركة المسرحية أن تتناقض مع الحركة النفسية، أي أن تمثل تيارًا ينافي الحركة النفسية، ومن ثَم يولد الإحساس بأن ما تراه يدل على خطأٍ ما في «التركيب النفسي، السلوكي» للشخصيات، وهو خطأ يباعد بينها وبين عالم الواقع مثلما يباعد بيننا وبينها، فإذا صورت الكوميديا شخصًا يعاني في أعماقه من الإحساس بالعظمة، فضخمت وبالغت في تصوير هذه النزعة، فإن الهزلية يمكن أن تصوره رغم هذا الإحساس إنسانًا يصدر في سلوكه عن إحساسٍ بالنقص، وينحو نحو الخنوع والاستكانة، ومن ثَم تولد مفارقات متتالية على المسرح تباعد بيننا وبين إمكانية «الجد».
  • ثالثًا: يمكن للهزلية أن تقترب من مسرح العبث في أن تقوم بكسر المنطق التقليدي في عالم المسرحية الخاص، بحيث نعيش في إطارٍ من العلاقات البشرية التي اختلَّت، فأصبحت تمثل نسيجًا متباينًا غريب الوشائج من المعقول واللامعقول، غير أنه ينحو في النهاية نحو انتصار المعقول وعودة الصورة الطبيعية إلى العالم.

ولا يعني هذا التقسيم بطبيعة الحال الانفصال الخارجي بين هذه الاتجاهات الرئيسية للهزلية؛ إذ يمكن أن نجد في مسرحيةٍ هزلية واحدة مزيجًا من الأنماط الثلاثة، ولكنه يعني أن الهزلية الجديدة قد اكتسبت مكانةً مختلفة في عالم المسرح وأصبح لها دور جديد يختلف عما درجنا عليه في مسرحيات آخر القرن وما بين الحربين، ومن ثَم أصبح لها معنًى خاص يبرز وجودها المستقل وازدهارها بين الألوان الأدبية والفنية التي نطلق عليها اسم المسرح.

أما الهزلية التي شهدها المسرح المصري في السنوات الأخيرة، والتي تسعى للإضحاك وحسب، ولو كان ذلك عن طريق حيل غير مسرحية، مثل الفكاهات والقفشات اللفظية و«القافية»، أو تهريج السيرك و«النمر» التي يقدمها المهرجون المحترفون في عروض المنوعات (ويشمل ذلك الأغاني الخفيفة والرقصات)، فالواضح أنها لا تنتمي إلى هذا اللون المسرحي، لا حسب التعريف القديم أو التعريف الجديد، بل إنه يمكن اعتبارها أقرب إلى المهازل منها إلى الهزليات.

(٦) كوميديات تشيكوف القصيرة

لعلنا نذكر مقالة الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون عن الضحك والكوميديا، ولعلنا نذكر تعريفه الذائع للضحك الذي يقول فيه:

«إن أهم ما يجب أن يلفت نظرنا في عنصر إثارة الضحك، هو أن هذا العنصر يجب أن يكون «إنسانيًّا»، أي أنه لا يضحكنا سوى الإنسان، فنحن قد نرى منظرًا طبيعيًّا جميلًا فاتنًا خلابًا أو منظرًا قبيحًا تافهًا، ولكننا لا نرى منظرًا مضحكًا، حقًّا … قد يضحك بعضنا على حيوانٍ أو جماد، ولكن سبب الضحك هنا هو ما نلمسه في هذا أو ذاك من لمسةٍ إنسانية تعبر عن موقفٍ أو تعبيرٍ بشري.»

ولعلنا نذكر أيضًا كيف يستمر في تحديد عناصر الكوميديا من كوميديا اللفظ التي تعتمد على المهارة الذهنية في تجانس الألفاظ شكلًا وافتراقها معنًى، وما ينتج عن هذا التقابل من تناقضٍ مضحك، ومن كوميديا الحركة التي تعتمد على الآلية وانعدام التناسب، أي على تصورٍ أساسي للإنسان في صورة آلة لا إحساس لها بالطبع، أي في صورة جماد أو «شيء»، وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من «رؤى» جديدة غريبة، تضحكنا لجدتها ومباغتتها منطقنا العادي وسير حياتنا المألوف، ومن كوميديا الشخصية التي تعتمد على كشف النقائص والعيوب وتجسيدها والمبالغة فيها ومقابلتها بعضها بالبعض، مثل الجمود وعمى البصيرة والغرور والحمق إلخ، فلا شك أن تجسيد هذه الصفات في شخصياتٍ أو في «طباع» كما كان يسميها بن جونسون، والتي كانت تقوم على فكرة «الأمزجة» القديمة، التي نشأت في اليونان وتطورت في العصور الوسطى، وتبلورت صورتها في عصر الملهاة الإليزابيثية،١ أقول إن تجسيد هذه الصفات في شخصياتٍ يبعدها عن صورة الإنسان الطبيعي ويحولها إلى مجردات، تلتقي وتفترق فتثير الضحك لغرابتها والمبالغة في تصويرها، ثم كوميديا الموقف التي تعتمد على المفارقة والتناقض وجمع الأضداد، أو للتوفيق بينها، والمفاجأة أو اختلاط الفهم بين الظاهر والباطن … إلخ.

لا شك أننا نذكر هذا التحليل البرجسوني للكوميديا! ونذكر أن من شروط الضحك، نفسيًّا وبيولوجيًّا، انعدام الإثارة العاطفية وانفصاله شعوريًّا عن مسرح الأحداث.

إذ إن اندماج المرء في حالاتٍ نفسية صاخبة يُحدث توترًا ينشأ عنه موقفٌ جاد لا يسمح بالضحك، فإن كل أنواع الكوميديا السابقة تفترض الصفاء النفسي والهدوء التام، حتى يعمل الذهن ويتفاعل مع الصور والتصورات الغريبة المفاجئة، التي تباغته وتنتزع منه السرور والضحك، ويشبِّه برجسون حالة المتفرج للكوميديا بغديرٍ صافٍ هادئ، تلقى فيه الأحجار فتنداح دوائر الضحك المنبسطة، لكنك إن ألقيت الحجر في خضمٍّ طامي العباب، لغاص في القاع وابتلعه الثبج الهائج، وكذلك يجب ألا يلقى بحجرٍ جديد إلا بعد أن تزول دوائر الحجر الأول، أي بعد أن يعود الهدوء والصفاء إلى النفس.

تشيكوف والكوميديا

والآن أليس لنا أن نتساءل ما موقف تشيكوف من هذه الأنواع الكوميدية؟ هل تستعصي كوميديا تشيكوف على التصنيف والتبويب؟

ولنتساءل أولًا: أي حيلٍ كان يلجأ إليها تشيكوف لاستدرار الضحك؟ وهل كان يرمي أولًا إلى استدرار الضحك؟

من الشائع عن تشيكوف أنه كان يمزج التراجيديا بالكوميديا، وأكثر شيوعًا من هذا تصويره لباطن الإنسان لا ظاهره، واتكاؤه على الأحاسيس الدقيقة الدفينة، وخلقه لشخصياتٍ لا أشخاص،٢ واحتفاله بالشعور أكثر من احتفاله بالفكرة، ومن هنا تبرز مشكلة التعرف على طبيعة الكوميديا التشيكوفية، فإن كاتبًا مثل هذا من شأنه أن يهتم قطعًا بالكوميديا اللفظية، أو بالتلاعب في شكل الكلمات بقصد الإضحاك، ولن يهتم قطعًا بكوميديا الحركة الجسدية التي تعتمد على آلية الإنسان أو انعدام التناسب كما قلنا من قبل، وهو أيضًا لن يأبه لكوميديا «الطباع» التي تبالغ في تصوير نزعةٍ غلابة تسود شخصًا وتلون تصرفاته جميعًا (مثلما نشهد في شخصيات «البخيل» و«المريض بالوهم» أو شخصيات «المتعالم» أو «العاشق» … إلخ في الأدبَين الفرنسي والإنجليزي) … والاهتمام بالعناصر الأقرب إلى تياره الفني العام، وهو التحليل والتصوير لمتناقضات النفس البشرية وأغوارها السحيقة.

والحقيقة أن كوميديا الموقف كما عالجها تشيكوف لم تتبع سبلها المألوفة في الآداب الأوروبية السابقة عليه، وإنما توسلت بلمساتٍ جديدة تنبع من رؤى تشيكوف الخاصة لعالمه وللإنسان، ولا تجعل الضحك هدفًا في ذاته وحسب، ولا تقف عند تصوير الظاهر أو الوقوف عند السطح وعدم إثارة العواطف تهيئةً للضحك.

ولكن كوميديا الموقف عند تشيكوف نقلت الموقف من خارج الشخصيات إلى داخلها، فلم يعد التناقض بين مجموعةٍ من الشخصيات فحسب، ولم يعد اختلاط الفهم أمرًا يقوم بين أشخاصٍ عدة، ولم تعد المفارقات مقصورةً على تكوين الموقف الخارجي، ولم يعد ازدواج التفسير وجمع الأضداد إلخ أمرًا مقصورًا على المواقف بين الشخصيات التي يجمعها موقف ما، بسيطًا كان أم مركبًا، وإما أصبحت هذه الأمور جميعًا تتم داخل الشخصية الإنسانية، فالتناقض واختلاط الفهم والمفارقات وازدواج التفسير إلخ يجري لديه بين عناصر الشخصية الواحدة، أي في نفس الإنسان المفرد.

ومن ثَم لم يعد بعدُ بد من إثارة الأحاسيس التي نألفها في التراجيديا والدراما الجادة، فما دُمنا دخلنا إلى النفس البشرية، لم يعد ثمة مهرب من الانفعال والتعاطف، ومن هنا كانت الكوميديا التشيكوفية تحمل في طياتها بذور التراجيديا دون أن تكون «تراجيكوميدي»، فهي قبل كل شيء كوميديا الإنسان.

كوميديا الإنسان

كان الشكل الجديد الذي ابتدعه تشيكوف للكوميديا يقوم إذن على رؤيته الخاصة، التي لا يمكن أن تقدم صورةً جانبية أو مسطحة لأحد أبطال كوميدياته، والنتيجة أنها حتى في أشد لحظات الضحك تهزنا بكل أبعادها، وكذلك مهما بلغت حدة انفعالنا لا نستطيع أن نتمالك أنفسنا من السخرية من هؤلاء الناس الذين يحملون بذور التناقض في داخلهم، ويجسِّمون في إحساسهم كل المفارقات وهكذا.

هل يمكن أن يتخذ التناقض في ذات الإنسان صورة صراع جاد قد يؤدي إلى تراجيديا؟ وهل يكمن الفرق فحسب في الطريقة التي ينتهي بها هذا الصراع، أي أن يؤدي التناقض الكوميدي إلى وفاقٍ أي نهاية سعيدة، بينما يؤدي الصراع التراجيدي إلى افتراقٍ وتحطم أي إلى نهايةٍ تعسة؟

إن تشيكوف يجيب في مسرحياته بمنتهى الوضوح على هذه الأسئلة … ويؤكد لنا أن التناقض في عناصر الشخصية الواحدة، أو بين عددٍ من الشخصيات قد يكون كوميديا وقد يكون تراجيديا … أولًا حسب حدة هذا التناقض وثانيًا حسب النهاية التي ينتهي إليها … فمثلما فعل السيرجون سكلنج (١٦٠٩–١٦٤٢م) حين كتب مسرحية «أجلورا» ووضع لها نموذجَين للفصل الثالث، الأول يجعلها مأساةً والثاني يحيلها ملهاة، ومثلما فعل معاصره السير روبرت هاورد في مسرحيته العذراء النارية، أعاد تشيكوف كتابة مسرحيته الكوميدية «شيطان الغابة» بعد عشر سنوات من كتابتها وأسماها «الخال فانيا»، فجعلها بذلك مأساة.

إن اعتبار التناقض والمفارقة لونين من ألوان الصراع يزيل عند تشيكوف الحد بين الكوميديا والتراجيديا، يضع في كل لونٍ منهما، مهما بلغ من نقائه، بذورًا من صاحبه الآخر.

الخطوبة

وحينما بدأ تشيكوف حياته الفنية لم تكن رؤيته للتناقض قد اتخذت صورة الصراع الحاد، بل كان، شأن الشباب، ساخرًا يؤمن بإمكانية حل مشكلات الإنسان التي لم تكن تتعدى صورة المشكلات في نظره، وكان يؤمن بإمكان الوصول إلى وفاقٍ بين الإنسان ونفسه وبينه وبين مجتمعه، وإمكان إصلاح الخطأ وإحلال التوافق محل الشقاق في شتى نواحي المجتمع الروسي في عصره … لم يكن تشيكوف قد أحس حقيقةً بعمق المأساة التي يعيشها أبناء جيله في ظل ظلم النظم الإقطاعية والاستغلالية، وشتى ألوان العسف والطغيان الفكري والمعنوي والبيروقراطي … ولذلك كان ينزع إلى السخرية التي تقوم على إمكان الإصلاح … ولكنه حين عمل بالطب جادًّا وطاف بالقرى ولمس حياة الناس عن كثب، وعاش مشاعرهم وانفعالاتهم تغيرت رؤيته أشد التغير … ولم يعد يرى في الإصلاح علاجًا بل أصبح ينشد التغيير الجذري … أي أصبح يؤمن باستحالة التوفيق … وحتمية القضاء على كل المتناقضات التي اكتسبت في عينيه صور الصراع الحاد، الذي يستحيل حله إلا بإزالته واقتلاع جذوره …

ولعل هذه الرؤية التي بدأ بها حياته الفنية هي السبب في كتابة الكوميديا في مطلع حياته والتحول عنها بلا رجعة في مرحلة النضج الأخيرة … ولكن تشيكوف، بكل حساسيته، كان حتى في كوميدياته يشعر ببذور الرؤية التي اكتملت في آخر كتاباته، ولنأخذ مثلًا ناصعًا على هذا من مسرحيته القصيرة «الخطوبة».

إن التناقض الذي نشهده هنا في شخصيتي «لوموف» الخاطب الشاب، و«ناتاشا» خطيبته ليس ظاهريًّا على الإطلاق، رغم مشاجراتهما حول امتياز كلاب الصيد التي يملكانها، وإنما يكمن التناقض أساسًا في شخصية كلٍّ منهما؛ إذ إن عائلة لوموف تناصب عائلة خطيبته العداء … ووالد الفتاة يضمر كل شر لخاطب ابنته، ولوموف يدرك هذا ويعلم أنه ليس مقدمًا على تجربةٍ يسيرة … فهو لن يخطب ود أقارب، أحبَّاء بل أعداء … أولًا بحكم التنازع على الأملاك … وثانيًا بحكم التنافس الذي يسوده جو الجيران من أصحاب الأملاك … وهو يدرك أيضًا أنه لن يخطب ود فتاته المثالية التي يحلم بها، أو أي فتاةٍ مثالية على الإطلاق … وهو لا يحبها بالصورة المألوفة للحب كما نعرفه ويعرفه … ولكنه مع ذلك مضطرٌّ إلى الزواج … منطقيًّا واجتماعيًّا … فهو يقول:

«إنني أرتجف كأنني داخل إلى قاعة الامتحان … إن أهم ما في الأمر أن تتخذ قرارًا حاسمًا … أما إذا أطلت التفكير وجعلت تتكلم وتتردد في انتظار الزوجة المثالية أو الحب الحقيقي المخلص … فلن تتزوج أبدًا … ناتاشا مدبرة منزل ممتازة … متعلمة وليست قبيحة … وهل أريد أكثر من هذا؟ … نعم … يجب ألا أظل عزبًا … فأولًا لقد تخطيت الخامسة والثلاثين … وهو سنٌّ حرج … وثانيًا يجب أن تنتظم حياتي وتستقر.»

وإذن فنحن ندرك منذ أول الأمر أن هذا الخاطب يريد الزواج وحسب … وناتاشا تصلح في رأيه لهذا الهدف … فلا مانع من خطبتها … ونحن ندرك من حديثه عن أمراضه الوهمية … (فهو يتحدث دائمًا عن مرض القلب الذي يعاني لوموف منه)؛ أنه مدلل وحياته يضجرها الفراغ ويكاد يحطمها … ومن هنا ينشأ التناقض في شخصيته؛ إذ إنه كما يريد الزواج ويسعى إليه بكل إصرارٍ يريد إرضاء ذاته وإسعاد نفسه والإبقاء على التدلل الذي نشأ فيه … وهو لهذا غير مستعد لأن يتنازل لخطيبته عن أي شيء … فكرةً كانت أم موقفًا أم شيئًا ماديًّا … إن موقفه الداخلي، باعتباره خاطبًا، يقوم على هذين النقيضين: إنه يريد ناتاشا وهو في الحقيقة يريد نفسه!

أما خطيبته ناتاشا فهي تعكس الوجه الآخر لهذا التناقض … فهي تريد الزواج حقًّا … ولكنها غير مستعدة للتنازل عن رأيها في كلب الصيد الذي تملكه، ولو كان ذلك على حساب الزيجة التي تحلم بها … وهي لا تتنازل عن رأيها أبدًا … وآخر كلماتها له تؤكد موقفها الذي سبق لها إعلانه، وتؤكد التناقض الذي تواجه به العالم في لحظة خطبتها … وهي لحظة حرجة في حياة أي فتاة.

ولو كان التناقض ظاهريًّا لأمكن حله في نهاية المسرحية، ولكنه يستمر حتى النهاية، ويتم الزفاف رغم كل شيء ورغم الخلاف والتناقض، مما يبشر لنا بحياةٍ زوجية فريدة ليست مبنيةً على الاتفاق بل على الاختلاف!

الجلف

أما التناقض الذي ينتهي بتكشف أي باتضاح حقيقة العناصر الخبيثة في باطن الشخصية، فيجسده تشيكوف في شخصيتَي «جريجوري سميرنوف» الجلف، و«بوبوفا» الأرملة الحزينة! إن الصورة التي ترسمها بوبوفا لنفسها هي الصورة التي ترسمها كل أرملة لنفسها، وهي تقنع نفسها بأنها لا تزال مخلصةً لزوجها الراحل رغم خياناته المتكررة لها وتعذيبه إياها، ورغم كل ما أبداه نحوها من جفاءٍ وبغض، والحقيقة التي تحسها، وتحاول إنكارها هي إعجابها بجمالها وشبابها وغيظها من زوجها الراحل، بل وأكاد أقول مقتها له، وهي دون أن تدري تنتظر المحب الذي يبدلها جفاءه ودًّا وهجره حنانًا، وهي تضع العطور والمساحيق وترسم لنفسها، لاشعوريًّا، صورة الأرملة المخلصة التي يمر تحت شبَّاكها الفتيان ويتناقلون أخبارها، ويتردد اسمها في المدينة محوطةً بهالةٍ من الغموض الباعث على الإعجاب والفتنة بل والسحر!

أما «سميرنوف» الذي يقدم نفسه في صورة الريفي الغليظ الطباع، الذي لا يزال يحمل سمات ضابط المدفعية المتقاعد من جدٍّ وعنف وصرامة، فهو في الحقيقة رقيقٌ وادع حالم سريع التأثر والتقلب والعناد كالأطفال … وهو لا يعرف هذا معرفةً منطقية … وإنما يحسه لاشعوريًّا ويحاول نفيه وتأكيد العكس لذاته … ويكرر لنفسه دائمًا أنه قوي الشكيمة لا يتأثر بالنساء (تلك الكائنات الشاعرية الهشة)، وهو في إنكاره لحقيقة ذاته يخلق ذلك التناقض المضحك بين ما يقوله وما هو عليه في الواقع، فهو يتحدى «بوبوفا» ويطلب منها أن تبارزه بالمسدسات شأنها شأن الرجال الذين يوجهون إهانات إليه، ومع ذلك فبمجرد أن توافق «بوبوفا» على مبارزته وتقبل تحديه، حتى يجد نفسه أمام حقيقة شعوره لأول مرة … إن «بوبوفا» هي المرأة التي استطاعت بصلابتها المصطنعة ودلالها الأنثوي الذي اتخذ صورة الجد، أن تصدم خيال «سميرنوف» وتجعله يواجه حقيقته لأول مرة، فيتحقق التكشف له ولها آخر الأمر … وبتحقق التكشف، يتم التوافق، وتنتهي المسرحية نهايةً تجمع بين حقيقتيهما …

اليوبيل

والموقف الذي يضم متناقضات النفس والأشخاص معًا ويقابل الظاهر والباطن في كل شخصيةٍ على حدة، وفي الشخصيات كلها في افتراقها والتقائها، هو الموقف الذي تجسده مسرحية اليوبيل … ففي المسرحية لا نجد التناقض في شخصيةٍ واحدة فحسب، هي شخصية «شييوشين» ولكننا نجده بين الشخصيات بعضها والبعض أيضًا، فهناك تناقض بينه وبين زوجته، وبين هيرين وزوجته (التي لا تظهر على المسرح)، وبين الموقف الذي يضم الجميع وبين العجوز «مرشوتكينا»، التي تهبط عليهم يوم احتفالهم باليوبيل، وهبوط القدر أو هبوط الحقيقة التي يهرب منها «شييوشين»، ألا وهي حقيقة فشله مع الناس ومع زوجته ومع هيرين الذي يمسك دفاتر البنك وهكذا …

ويقوم الموقف أساسًا على المفارقة، واليوبيل الذي هو يوم احتفال ينتهي بمأساة، وكل ما أُعد من أجل الاحتفال يتحطم، ولا يظل يرن من بقايا الخطبة التي يلقيها مندوب المساهمين في البنك، إلا: «في هذه الظروف من الأفضل تأجيل الموضوع … من الأفضل تأجيل الموضوع …» فالتأجيل هنا هو إعدام لحظة الاحتفال … الذي لم يكشف إلا عن مأساةٍ يعيشها هؤلاء جميعًا … هيرين وشييوشين وزوجتاهما … والبنك والمساهمون والموقف كله …

إن القدر الذي يرسل العجوز «مرشوتكينا» ليس قدرًا طائشًا يخبط خبط عشواء، وليس إرسالها من قبيل المصادفة … ولكنها مبعوث قدرٍ واع، بل وأكثر من هذا، قدر شاعر يجسد ضمائر وحقائق هذه الشخصيات … إن كل ما في هذه الشخصيات من خبايا وبواطن مجسدة في هذه السيدة … ليس في تكوين شخصيتها فحسب … بل في الموقف الذي تتخذه منهم أيضًا …

إنها لم تأتِ لتطلب مالًا فحسب، بل لم تأتِ لتطلب شيئًا بعينه، ولكنها، على المستوى الرمزي، أتت لتنبش بواطن الشخصيات وتزيح الغطاء عن ظواهرها … فإذا حاول «شييوشين» أن يجيبها إلى طلبها، أن يزيحها عن طريقه، أن يهرب من القدر الذي أرسلها له يوم الاحتفال، رفضت هي أي حل … وحتى بعد أن تأخذ المال تجد ذريعةً أخرى للمكوث معه … حتى تحيل كل شيءٍ إلى مأساة.

والمسرحية إذن ليست كوميديا بأي معنًى من المعاني إلا إذا ضحكنا من بداية التناقض وتشابك أطرافه وحسب … أما التناقض كما يتبلور آخر الأمر، فهو يتحول إلى صراعٍ مأسوي حقيقي … لا مكان فيه لقهقهات تسرية أو سلوان.

(٧) كوميديا الفانتازيا

هل مسرحية «الأستاذ» للأستاذ سعد الدين وهبة مسرحية فكرية؟ ربما كان الرقيب قد توجس شرًّا من بعض أفكارها التي لا يمكن أن تثير التفكير، بمعنى أنها أفكار تتولد من الموقف الدرامي بصورةٍ غير مباشرة، ولكنها بالقطع ليست مسرحيةً فكرية خالصة مثل بعض مسرحيات برنارد شو أو توفيق الحكيم، ذلك لأن سعد الدين وهبة لا يستطيع حتى في أعمق لحظاته الفكرية أن يتخلى عن معالجته الدرامية التي تتوسل بالتجسيد والتصوير الحي، ولذلك فنحن نجد أنفسنا أمام مسرحيةٍ من نوع الفانتازيا تتوسل بالموقف غير المحتمل (وإن كان ممكنًا)، مما يميزها عن ألوان الخيال الفني الأخرى التي يغلب عليها طابع الممكن والمحتمل في الوقت نفسه، ويمكننا بصفةٍ عامة أن نقسم فن الفانتازيا إلى قسمين، القسم الأول يعتمد على الاستعارة الدرامية أي التي يجسد فيها الفنان نظرة جديدة أو فكرة لا معقولة، ويطورها من الداخل بحيث نتابعها وقد نحينا تمامًا عنصر التكذيب أو التصديق، أي إن الحدث نفسه يصبح استعارةً شاملة نعرف مقدمًا أنها كذلك ونقبلها، على أن هذا الأساس، مثل قصة «المسخ» (أو «التحول») التي كتبها فرانز كافكا، والتي يتحول فيها أحد صغار الموظفين إلى صرصور (أو حشرة كبيرة)، أو مثل مسرحية الخرتيت ليوجين يونسكو التي يتحول فيها البشر إلى خراتيت، أما القسم الثاني فهو الذي يقترب من الرمزية الشاملة أو الحدث الرمزي، بحيث تبتعد الشخصيات والأفكار والأحداث عن الطبيعة والواقعية في تصرفاتها وكلامها وتتحول إلى أفكارٍ مبالغ فيها، وتستمد حيويتها الفنية من تناقضها بعضها مع البعض وما تؤدي إليه من تطارحٍ فكري، وقد تنوعت مستويات هذا النوع على مر العصور؛ إذ نجده في كتابٍ قديم مثل أريستوفان وكتاب عصر النهضة، مثل بن جونسون، والمحدثين من أمثال جان بول سارتر، بل إن العرب قد عرفت هذا النوع من الفانتازيا في فن القصة والشعر، ومنه ما يأتي على ألسنة الطيور والحيوانات وما تعج به قصص الأطفال، وقد تناول الكاتب المسرحي البريطاني روبرت بولت هذا النوع في الستينيات في مسرحيته الشهيرة تأديب البارون كيليجرو، والتي كانت أصلًا تستهدف جمهور الأطفال ثم تحولت إلى مسرحيةٍ رمزية، اجتذبت جماهير الكبار قبل الصغار.

وربما كانت مسرحية «الأستاذ» تنتمي إلى النوعين معًا أو تميل إلى نوعٍ منهما في بعض أجزائها أكثر مما تميل إلى النوع الآخر، ولكن الأهم من ذلك هي أنها تعتمد على تطوير تيماتها المتعددة من الداخل، بحيث لا تسمح للمتفرج أن يتساءل عن مدى خيالية الحدث أو مدى واقعيته، خاصةً ونحن نشهد مسرح سعد الدين وهبة الذي نبغ في مدرسته الواقعية المتميزة، أي أنها لا تتطلب منا إلا أن نقبل الفروض الأولية وهي فروض، مثل فروض الفن بصفةٍ عامة، لا تخضع للمنطق التقليدي.

الإرادة الإنسانية والتواصل

أما الموقف الأساسي الذي يهب هذا العمل جدته حقًّا، فيقوم على نظرةٍ جديدة للإرادة السياسية باعتبارها إرادةً إنسانية أولًا وأخيرًا، وباعتبارها مرتبطةً باكتمال كيان الفرد نفسيًّا وذهنيًّا، وهو ما لا يتأتى إلا بقدرته على التواصل، إذن بدون ذلك لا يمكن أن ينتمي إلى عالم الإنسان بل إلى عالم الأحياء نفسه.

أما الخيوط التي ينسج منها سعد الدين وهبة هذا العمل المحكم، فهي ترتبط بالقطبين اللذين يولدان هذا التواصل أي الكلام والسمع، أو الإرسال والاستقبال بلغة العلم الحديث، ومن ثَم تتفرع عن التيمة الرئيسية عدة تيمات تتصل واحدة منها بالحقيقة والوهم، وتتصل أخرى بالأمن والخوف، ويتصل غيرها بالقوة والضعف والثورة والاستكانة، والحرية والعبودية، والحب والحقد، والتصارع والتوافق … إلخ، بل إننا نستطيع أن نجد في المسرحية تنويعات لا نهائية تنبع جميعًا من تيمة التواصل، باعتبارها المحقق للإرادة الإنسانية.

ولكن كيف يتجسد ذلك في الصراع الدرامي؟ إن هذه المدينة الخيالية التي بعد بها الزمن حتى أصبحت لا زمنية، أي مجردة، تصحو ذات يوم وقد أصيب أهلها بالصمم … أما القلائل الذين كانوا خارجها في ليلة الكارثة، فقد عادوا ليجدوا أن حكامها قد هربوا أو اختفوا بصورةٍ ما، ومن ثَم وجدوا أنفسهم، رغم مهنهم التي لا تؤهلهم للحكم، في موقف القادر على السيطرة على الجميع بفضل قدرتهم على السمع فحسب، وهكذا فهم يتولون زمام الأمور بالفعل.

وهذه هي الاستعارة المبدئية في المسرحية، أي الاستعارة التي يترجم إليها المؤلف العجز النفسي لأهل المدينة، أي عجز إرادتهم الإنسانية ومن ثَم إرادتهم السياسية، فالصمم هو المقابل الفني، على مستوى الاستعارة، لعجزهم عن التواصل.

– الناس كان حالها بيسير من سيئٍ إلى أسوأ … كان فيه إهمال وكان فيه تفكك وكان فيه تراخي … كنت تبص للبلد تلاقيها ألف بلد في بعض … كل واحد هو نفسه وبس … هو حاكم نفسه وقائد نفسه ومعلم نفسه.

أي إن انغلاق كل فرد في ذاته معناه استحالة التواصل بينه وبين سواه، وهذا يعني التفكك والإهمال والتراخي النابع من اللامبالاة … وإلى جانب هذا الإيحاء الواضح بالرمز الشعري في المسرحية، يقدم لنا المؤلف إيحاءاتٍ أخرى حتى يضمن عدم هبوط الرمز إلى المستوى الواقعي، فيقدم لنا في البداية الاحتمالات التالية:

«قالوا إن سبب غضب الآلهة علينا هو أن المدينة عاصية ومبتعدة عن طريق الآلهة، وقالوا إن زلزالًا هز المدينة وأفقد الناس سمعهم، وقالوا إن رعدًا عظيمًا دوَّى في الليلة دي؛ وكل واحد سمعه أصيب بالصمم … قالوا حاجات كثيرة … إنما الحقيقة إيه ماحدش عارف …»

وهذه احتمالات رمزية كلها بطبيعة الحال، فالزلزال نفسي والرعد رعد نفسي وذهني معًا، والغضب في هذا السياق أيضًا نفسي لأنه مرتبطٌ بما فعله أهل المدينة، وبمجرى حياتهم المفككة التي تفتقر أصلًا إلى التواصل، ولذلك فإن المؤلف يعود إلى هذا الإيحاء في آخر المسرحية مرةً ثانية في حوارٍ بين الملكة والأستاذ يقول فيه الأستاذ: إن الناس فقدت حاسة السمع لأنها لم تستمع إلى الرسل التي أرسلها الآلهة إلى المدينة، ولا يمكن تغيير الوضع إلا إذا غيرت الناس ما بأنفسها.

أي إن المؤلف لا يفترض الصمم لمجرد تأمل هذا الفرض الخيالي، ولكنه يترجم واقعًا بشريًّا إلى صورةٍ استعارية، ثم يسير بها في طريق التطور الدرامي حتى نرى أقبح ما يمكن أن يصل إليه حال الإنسان، حين يفقد القدرة على التواصل على عدة مستويات، أما المستوى الأول فهو المستوى الفردي؛ إذ نرى زوجًا وزوجة يتحادثان حديثًا يفترض أنه إعرابٌ عن مشاعر الحب، بينما لا يخرج من قلوبهما إلا الكراهية، ورغم أن هذا مشهدٌ قائم على المفارقة الصارخة بين الظاهر والباطن، إلا أنه متفرعٌ عن تيمة انعدام التواصل وتحطيم أقدس العلاقات البشرية نتيجةً لهذا، أما المستوى الثاني فهو المستوى الاجتماعي، وفيه نرى انهيار الفنون التي تقوم على التوصيل، سواءٌ منها الموسيقى أو الشعر أو الغناء أو المسرح … إلخ، وغلبة فن واحد هو الرقص الغرائزي الذي يسود عالم الحيوان، كما نرى انهيار العدالة إذ تتم المحاكمات بالقرعة … إلخ، وأما المستوى الثالث وهو أعلاها جميعًا فهو المستوى السياسي، حيث نرى المهزلة التي تجري في هذه المدينة الظالمة، والتي يرقى بها المؤلف إلى مستوى المأساة، حين يؤكد انعدام التواصل بين الحاكم والمحكوم:

«سامع؟ أمدحهم يهتفوا أشتمهم يهتفوا … أشيل عنهم الضرايب يهتفوا أضاعف الضرايب يهتفوا … أقول انتصرنا يهتفوا … أقول انهزمنا برضه يهتفوا …»

وربما كانت هذه لحظة من أشد اللحظات تركيزًا في المسرحية بصفةٍ عامة، ليس لما بها من إسقاطاتٍ مباشرة على العلاقة التي تقوم بين أي حاكمٍ فقد الصلة والتواصل مع المحكومين، ولكن لأنها تعكس أيضًا، في الناحية المقابلة لهذا، قدرة الناس على التصدي السلبي للحاكم، أي عن طريق اللامبالاة وما يمكن أن يجره ذلك عليهم من ويلات … فكأن الناس هنا تمثل البطل الذي يتحمل مصيره نتيجةً لخطأ ارتكبه ولا يدري كيف يصلحه، وهذا لا شك جديد في الفن الدرامي إذ إننا غالبًا ما رأينا الحاكم في دور البطل، ونادرًا ما رأينا المحكوم في هذا الدور.

ولكن سعد الدين وهبة لا يكتفي أبدًا بوجهٍ واحد فقط من وجهَي العملة … فهو يقدم لنا، عن طريق تحمل الناس لنتيجة خطئهم، صورةً أخرى لانقطاع سبل التواصل … فالملكة التي كانت راقصةً قبل حلول الكارثة، ومن ثَم كانت فردًا من أفراد الشعب أي لم ترث المُلْك عن أجدادها، تدرك المصيبة التي حلت بهم، وهي ترى أن المصيبة ذات فروع تمتد إلى جهاز الحكم نفسه، حين ينصب الوزير نفسه دكتاتورًا:

الوزير : الناس دول زي الأطفال … لازم حد أكبر يرعى مصالحهم.
الملكة : وإيش عرفك انت بمصالحهم؟
الوزير : هو انا موش واحد منهم؟
الملكة : لأ … من أول ما بقيت وزير ما بقتش واحد منهم … السلطة بتلون كل حاجة بلون جديد … اللي انت بتشوفه أبيض يمكن هم بيشوفوه أسود.

وهكذا، في إطار الحدث الخيالي للمسرحية تستدعي الملكة أستاذًا من العصر الحديث، وتعود به القهقرى في الزمن حتى يتولى علاج هذا المرض الغريب، ومن خلال محاولات الأستاذ تطل علينا صور أخرى للاستعارة الدرامية، فنرى حال المملكة بعد الصمم.

«بعدما شفت كلمة الحب بقت خنجر حامي … بعد كلمة السلام مابقت حداية بتصيب الواحد في رأسه … بعد ما كل شيء جميل بقى جيفه … موش ممكن حد يقبل الحياة دي إلا الوحوش.»

ولكن الأستاذ لا يستطيع أن يفعل بكل علمه إلا أن يقلب لنا الآية، بحيث يُشفى من الصمم ويأتي بالبكم، فنرى صورةً أخرى لأناسٍ يستطيعون أن يسمعوا ولكنهم لا يستطيعون أن يسمعوا أحدًا؛ لأن أحدًا لا يتكلم! وبينما تتصاعد الأزمة وتتطور شخصية الملك حقًّا، حتى تصبح الشخصية الرئيسية التي تحتضن أحزان الناس وتكافح من أجل خلاصهم … يبدأ العلاج الذي بدأ الأستاذ في إجرائه على البعض في المعمل؛ إذ نرى فريقًا يسمعون ولا يتكلمون وفريقًا يتكلمون ولا يسمعون، ومن احتكاك هذين القطبين يتفجر وعيٌ جديد هو وعي بالمأساة، وعند الأستاذ سعد الدين وهبة يصبح الوعي هو الطريق الوحيد للخلاص … والوعي في إطار رؤيته الثورية يمثل طاقة الغضب … قدرة الإنسان على الإرادة الإنسانية … إذ إن ما فشل في علاجه بالعقاقير يفلح الوعي في علاجه، (طاقة الغضب ممكن تحرك الجبال).

والمسرحية إذن تشتمل على تساؤلاتٍ عن طبيعة العلاقة الصحية التي تقوم بين البشر في كل زمانٍ ومكانٍ وعلى كل المستويات، على أساس التواصل … وهي إذن لا تمثل هجومًا على أيٍّ منهم بعينه في الحكم أو في المجتمع أو في حياة الفرد، ولكنها تتناول هذه الحياة بكل جوانبها في إطار التواصل، والملكة تلخص هذا كله في لحظة ثورة:

«ما أقدرش أحكم ناس ما بيفرقوش بين الحب والكره … ما بيفرقوش بين الانتصار والهزيمة … ناس تحولوا إلى كائنات بترقص وتهتف وبس، إيه فايدة الصراحة إذا كان الإنسان عارف إنها رايحة في الهوا … لازم يكون هناك خوف من الصراحة.»

ونحن لا نعجب بطبيعة الحال إذا كانت هذه المسرحية وغيرها من المسرحيات الجادة، ملهاوات كانت أم مأساوات، قد مُنعت في عصرٍ كان البعض يخشى فيه التواصل … ولكن المنع أو التصريح بالعرض لا ينفي ما يجسده النص من موقفٍ درامي، يرقى به إلى مصاف المسرحيات الإنسانية التي عرفها العالم عبر تاريخه الطويل، وليست قيمة التواصل بكل مستوياتها إلا محورًا يدير حوله المؤلف أفكاره «المتطارحة»، وأمله في أن يسمع الناس حقًّا ما يقال … وأن يتكلموا!

١  أي إن الإنسان يتكون جسمه من أربعة عناصر، شأنه شأن الكون، خلق من الماء والنار والتراب والهواء، هي في الإنسان الدم والصفراء والسوداء والبلغم، وكان يسميها العرب في العصور الوسطى «أخلاط البدن»، كما يقول ابن المقفع وإخوان الصفا، وكانت سيطرة أحد هذه الأخلاط على البدن تحدد مزاج الشخص وطبيعته في رأيهم … فنرى شخصًا دموي المزاج أو الطبع وآخر صفراويًّا وهلم جرًّا.
٢  ونعني بالشخصية هنا مجموعة الخصائص النفسية الحية التي تتشكل عن طريق الحدث، أي خصائص النفس التي تتفاعل مع بيئاتها الطبيعية والإنسانية، وترتد إلى ذاتها أو إلى ماضيها منقبةً باحثة، أو تتطلع إلى حاضرٍ لا مستقبل أمامه أو مستقبل يصب في حاضرها ويساهم في تكوين مشاعرها الحاضرة، إلى سائر ما هو معروف عن تشيكوف في قصصه ومسرحه على السواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥