مذاهب المسرح الحديث
(١) المسرح الملحمي … هل هو ملحمي؟
أعتزم أن أطرح في هذه الدراسة عددًا من الأسئلة، التي تزداد أهميتها بازدياد الهوة التي تفصل بين التيار الواقعي كما عرفته، وكما نعرفه في مصر وبين سائر التيارات التي تعرَّض لها المسرح باعتبارها تياراتٍ مخالفة للواقعية.
ومن ثَم فلا بد أولًا قبل أن نناقش معنى المسرح الملحمي بعد بريخت، أن نضع خطوطًا رئيسية للتمييز بين المسرح بفنونه المختلفة وبين أدب المسرح، لأن هذا التمييز يمكن أن يهيئ الخلفية المناسبة لمناقشة القضايا المطروحة أمامنا.
أما المسرح فهو أي عرضٍ يقدمه فنانٌ أو عدد من الفنانين قد يتكون من اثنين وقد يتكون من الآلاف، ولكنه على أي حالٍ موجود بجسده وإحساسه (وعقله أحيانًا) أمام المؤدي الذي يقول كلامًا أو يمثل دورًا (أي يتقمص شخصيةً ما) أو يغني شعرًا أو يرقص ويغني ويمثل في الوقت نفسه، بحيث يستجيب المتفرج له وينفعل بما يرى ويسمع، بحيث تصل في نهاية العرض إلى لحظة إشباعٍ شعوري أو ذهني (أو شعوري وذهني معًا) للمتفرج (أو المؤلف أيضًا)، نستطيع أن نحكم معها بأن العرض قد انتهى، أي أن تجربةً فنية ما قد اكتملت، بمعنى أن المتفرج قد ازداد ثراءً نفسيًّا، سواء كان ذلك الثراء هو المتعة الخالصة التي تنبع من الألحان التي سمعها ورؤية حركات الراقصين وتشكيلاتهم، أم تأمل الشخصية الإنسانية المتمثلة في الأدوار التي يتقمصها المؤدي، والتفاعل مع الأفكار التي استجاب لها على مدى العرض المسرحي طال أم قصر، وهذا التعريف فضفاض لا شك؛ إذ إن كثيرًا من الفنون التي نفرد لها اليوم أسماءً متخصصة (كالباليه والموسيقى والهزلية، إلخ) يمكن أن تنطوي تحته، كما أن كثيرًا من مظاهر حياتنا يمكن أن يقال إنها تشتمل على قدرٍ معين من فن المسرح، وهذا لا شك صحيحٌ أيضًا، فالبائع الذي يحاول جذب انتباه عملائه لبضائعه في السوق، بأن يقف أمامهم ليتغنى ببضائعه ويدخل في حوارٍ خيالي معها وأحيانًا مع العميل، ويحكي قصصًا قصيرة أو فكاهات يلجأ إلى فنٍّ من فنون المسرح، والمحاضر الذي «يلعب دوره» بإتقانٍ في قاعة الدرس، فيسخر ويمتدح ويهجو ويهمس ويسير ويقف حتى يستحوذ على أسماع طلبته، فيقدم لهم المعلومات بصورةٍ مبسطة وجيدة أيضًا يتوسل بأحد فنون المسرح، والخطيب الذي يحاول إقناع سامعيه بوجهة نظره، فيوجه إليهم الكلام باعتبارهم حشدًا واحدًا، ثم يحول بصره إلى خارج القاعة كأنما يخشى حضور أحد يخشاه حتى يحول انتباه سامعيه، ثم يخاطب واحدًا منهم بعينه ليذكره بحادثٍ له … وهكذا، أيضًا يستعين بفن المسرح، وقس على ذلك كل من يقف هذا الموقف في حياتنا اليومية.
أما أدب المسرح، أو الدراما، فهو ذلك الفن الذي نشأ في صورة شعرٍ مكتوب كان يؤدى على المسرح، وكان يستعين بالفنون المسرحية التي ألمحنا إليها حتى رسخت تقاليده، وأصبح يكتب نثرًا وشعرًا، ويقترب بتصوير الشخصية الإنسانية في صراعها مع القوى الخارجية والداخلية، وانتهاء هذا الصراع إما بالهزيمة في المأساة أو التصالح في الملهاة، ومن ثَم نشأت القواعد التي استنبطها الدارسون مما وصلهم من هذه النصوص الدرامية المكتوبة، والتي تطورت منذ عهد أرسطو إلى عصر بيكيت ويونسكو، دون أن تفقد صلتها بالمسرح، أي بوجودها على خشبة المسرح في نطاق فنونه ونطاق المؤدي والجمهور.
بريخت والمسرح الواقعي
وعلى مدى العصور الطويلة التي تطور فيها أدب المسرح، نشأ نوعٌ من التباعد بين أدب المسرح وفنون المسرح المختلفة، ولا أدل على ذلك من النصوص الدرامية التي كتبها أصحابها لا للتمثيل ولكن للقراءة، بل إن هذه النصوص قد وجدت لها سوقًا رائجة في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، إلى الحد الذي رأينا فيه جميع الشعراء الرومانسيين الإنجليز ودون استثناء، يكتبون للمسرح دون أن تمثل لهم مسرحية واحدة، وكثيرًا ما رأينا النقاد يفردون لهذه النصوص فصولًا في كتبهم باعتبارها أدبًا رفيعًا، حتى ولو لم تكن تصلح للمسرح، ويذكر التاريخ حادثًا طريفًا هو محاولة الشاعر الإنجليزي الكبير وليم وردزورث عرض مسرحيته «سكان الحدود» على مسرح كوفنت جاردن اللندني الشهير، وقيام مديره الكاتب المسرحي شريدان برفضها لعدم صلاحيتها للعرض، وما تلا ذلك من مراسلاتٍ حول صلاحية الأعمال الدرامية الشعرية للمسرح، وإبان القرن التاسع عشر نشأ من داخل المسرح تيار الواقعية، الذي كان استجابةً طبيعية لتطور العلم والعلوم الطبيعية، وازدهار الفلسفات الواقعية التي هبطت بالفن من السماء إلى الأرض كما يقولون، وأثمرت عددًا من الكُتَّاب الأوروبيين ابتعدوا في أعمالهم عن الموضوعات التاريخية وعن تصوير الأبطال والعظماء، وركزوا على الواقع والإنسان العادي، فانتشر المسرح الواقعي على أيدي إبسن وتشيكوف وغيرهم، واجتهد جهابذة المخرجين مثل ساكس ماينتجن وستلافسلافسكي وجرانفيل باركر وراينهارت وغيرهم في تأكيد المذهب الواقعي إخراجًا وتمثيلًا حتى تدعَّم وترسَّخ، وحتى ورث القرن العشرون تراثًا حيًّا نابضًا ارتبطت فيه الواقعية بأدب المسرح، وأصبح مفهوم المسرح نفسه مماثلًا للأدب القديم في احتفاله بالشخصية الإنسانية، الشخصية التي أبدعها القرن التاسع عشر في شتى ألوان الأدب، من روايةٍ وشعر وقصة قصيرة، فكنت ترى تشيكوف القصاص في مسرحياته، وترى شخصيات موباسان في مسرحيات أوسكار وايلد، وشخصيات ديكنز في مسرحيات برنارد شو وهكذا، أي إن النظرة إلى الشخصية الإنسانية باعتبارها كائنًا مستقلًّا له سماته المميزة والمنفردة، قد سادت الأدب بشتى صوره، وانعكست آثارها على المسرح إخراجًا وتمثيلًا، وما دراسات جرانفيل باركر إلا دليلٌ ساطع على ما حدث في تلك الفترة، ولكن الأدب الواقعي الذي كان قد استمد جذوره، وهذه من المفارقات العجيبة، من بدايات الرومانسية ومن واقعية وردزورث ولام على سبيل المثال، كان يحمل في طياته جذور نهايته؛ إذ شهدت ألمانيا بالذات حركات تجديد تعبيرية، انعكست في أعمال خارج ألمانيا، مثل مسرحيات فيديكند ومثل أعمال مايكوفسكي الساخرة، وفي المسرح الروسي وبالذات أعمال مايرهولد وبايرون، والمسرح السياسي الذي أنشأه بسكاتور، وهكذا وجدنا مناخًا يعج بالواقعية وينذر بنهايتها، ليس لقصورها ولكن لوصولها درجة الإشباع، وكان هذا هو المناخ الذي ثار عليه بريخت.
ثورة بريخت
كانت ثورة بريخت في حقيقة الأمر ثورةً على الواقعية، باعتبارها الحركة التي فصلت أدب المسرح أو الدراما عن فن المسرح، وكانت إلى حدٍّ ما جزءًا من الثورة التي بدأها التعبيريون الألمان، ولكنها كانت في جوهرها ثورةً على النظرة التقليدية إلى الشخصية الإنسانية، باعتبارها كلًّا لا يتجزأ وباعتبارها كائنًا كاملًا لا سبيل إلى تغييره أو التأثير فيه، ومن ثَم كان يدعو إلى إعادة النظر في هذا المفهوم الذي أدى إلى الفصل بين الدراما والمسرح، وكثيرًا ما يغيب عنا هذا لأننا نركز على أعماله النقدية وكتاباته، ونهتم بما يقوله أكثر من اهتمامنا بما يفعله، وقد تنبه هو نفسه في أواخر أيامه إلى هذا الخطأ، فكتب في عام ١٩٥٣م أي قبل وفاته بثلاث سنوات يقول:
«التفسيرات التي أقدمها لمسرحي بل وكثير من الأحكام التي بنيت على هذه التفسيرات، لا تتناول نصوص المسرحيات التي كتبتها قدر ما تتناول المسرح الذي يتخيل النقاد أنني كتبته حين يقرءون دراساتي النظرية، والواقع أن نظرياتي أبسط وأشد سذاجةً مما يتصور الكثيرون … ولكن هذه السذاجة لا تتضح للقارئ بسبب التعقيد الذي اتسمَت به كتاباتي النقدية» (مقالات في المسرح، ص٢٨٥ من النص الإنجليزي).
وربما نختلف مع بريخت في مدى السذاجة التي يتصور أن نظرياته تتسم بها، ولكنها في الحقيقة غير معقدة، مهما بلغ عمقها، ونستطيع إيضاح ذلك إذا قارنَّا بين ما كان يفعله وبين الموقف الحالي للمسرح العربي، لقد استوردنا هذا الفن إلى مصر وإلى العالم العربي في الوقت الذي كانت فيه الواقعية قد بلغت أوجَها في أوروبا وأمريكا، فدرجنا على اعتبار الدراما تصويرًا واقعيًّا للحياة مهما اشتط الكاتب في رؤاه وأفكاره وخيالاته، فالممثل الذي يقف أمامنا على المسرح يمثل شخصيةً حقيقية لها أبعادها الثابتة، ومقوماتها النفسية التي لا يمكن لأحدٍ تغييرها، والمتفرج يريد أن يقتنع بهذا، بل إنه يقيس جودة الأداء بمدى إقناع الممثل في الدور الذي يؤديه، وقد اشتد هذا التيار واكتسب مزيدًا من القوة والرسوخ بعد ازدهار تيار السينما الواقعية، ثم سيادة التليفزيون وهيمنة المسلسلات الواقعية، لقد ارتبط فن المسرح بالواقعية لدَينا، بحيث أصبح المُخرج يطلب من المؤلف أن يأخذ جانب الأدب المسرحي، ولو على حساب فنون العرض المسرحي، أي إنه أصبح يقيس العمل المسرحي بمدى مطابقته للقواعد التي استنبطت من أدب المسرح، فأصبحت هي ديدن الكاتب في عصر الواقعية، وهكذا كان الحال تمامًا في عصر بريخت، إذ إنه قد صدمه في صباه أن يرى ذلك الانفصال الكبير، بين أدب المسرح الذي تقدمه الكلاسيكيات الرفيعة (سواء في المسارح الراقية أو في غيرها) وبين الكوميديات التي تقترب من الهزليات، والتي تنتمي لفنون المسرح المختلفة رغم انحطاط مستواها الأدبي، كانت معركته الأساسية ضد الواقعية، هذا صحيح، ولا يختلف أحدٌ مع مارتن أسلن في هذه الدعوى، ولكن الخلاف هو أن بريخت لم يكن يحارب الواقعية من حيث هي واقعية، ولكن من حيث هي دعوة إلى تثبيت أنماطٍ بعينها، اتفق السلف على أنها واقع الشخصية الإنسانية، ومن ثَم درجْنا نحن على تقبُّلها دون مناقشة ودون الرجوع إلى ذواتنا، وواقعنا الاجتماعي الذي لا يمكن لنا أن نفهم ذواتنا، حسبما يقول، إلا في إطاره الحق، فهو حينما ثار على المسرح الأرسطي (أي المسرح كما حدد أرسطو ملامحه) كان يثور على معنى الدراما التي وصلتنا منذ عهد أرسطو، أكثر مما كان يثور على المبادئ النقدية التي وضعها أرسطو، أما هذا المعنى فيمكن استخلاصه من مسرحيات بريخت، وليس من كتاباته النقدية أو كتابات نُقاده، ويمكن إيجازه فيما يلي: إن أدب المسرح على مر العصور كان يركز على الإنسان في ظروفٍ معينة ما زالت تتكرر، ويتكرر معها نمط استجابة هذا الإنسان لهذه الظروف، فثمة أحداث تتكرر في كل مسرحيةٍ من المسرحيات الكلاسيكية (مهما بلغت درجة واقعيتها من حيث الكتابة أو الإخراج والتمثيل)، وثمة استجابة تتكرر من جانب الشخصيات لهذه الأحداث، وثمة انفعالات ما فتئ المتفرج يواجهها في كل مسرحيةٍ، كأنما كتب على إنسان القرن العشرين، الذي يعيش في ظروفٍ بالغة الاختلاف عن ظروف بلاد اليونان أو إنجلترا القديمة، أن يعاني نفس الانفعال وأن يسلك نفس السلوك، وهذا المفهوم (الذي يشبهه بعض النقاد بمفهوم القدر) ما هو في الحقيقة إلا الفكرة القديمة التي بُنيت عليها جميع الأعمال الكلاسيكية، والقائلة بأن الإنسان كائنٌ ثابت لا يتغير ولا يتبدل مهما كانت الظروف والأحوال، والأعمال الدرامية التي شهدها بريخت في عصره تحاكي الواقع في تفاصيلها دون أن تغير جوهر هذا الإنسان، استنادًا إلى هذه الفكرة الكلاسيكية، وهذا هو جوهر ما رفضه بريخت.
الشخصية وتغيير الواقع
واستنادًا إلى مبادئه الاشتراكية التي هيمنت على فكره، أراد بريخت أن يغير الواقع عن طريق تغيير أنماط السلوك التي لا يمكن أن تتغير إلا إذا تغيرت أنماط الانفعال والفكر البشري، وكان هذا يستلزم في رأي بريخت نقض الفكرة الكلاسيكية عن ثبات الإنسان وثبات الشخصية الإنسانية، بحيث يصبح الإنسان قابلًا للتغير، ومن ثَم قادرًا على التغيير؛ ولذلك فهو دائمًا أبدًا ما يعود إلى هذه الفكرة في مسرحيةٍ تلو مسرحية، مؤكدًا أن مفهوم الإنسان نفسه لا بد أن يختلف؛ لأن الظروف الاجتماعية قد اختلفت، وأن فكر الإنسان ومشاعره وانفعالاته لا بد أن تختلف؛ لأن الظروف الاجتماعية قد اختلفت حتى تتمشى مع هذه الظروف أو تغيرها، وهكذا فهو كما قال أحد نُقاده يريد أن يجعل الأوضاع القائمة هي البطل، وهي التي يمكن أن تتطور وتتغير لأنها من صنع الإنسان، أو كما قال هو في بداية حياته المسرحية (١٩٣١م):
«اليوم وقد أصبح من اللازم اعتبار الشخصية الإنسانية حصيلةً للأوضاع الاجتماعية القائمة، نرى أن الشكل الملحمي هو الشكل الأوحد الذي يستطيع أن ينظم جميع العمليات الاجتماعية، وهي التي تشكل في الدراما المادة التي تمثل العالم خير تمثيل.»
ولم تكن وسيلة بريخت في ذلك أن يخلق شخصيات غريبة تختلف في انفعالاتها عن سائر البشر؛ لأن هذا يؤدي إلى الفشل دون شك، ولكنه حاول أن يتدخل في العملية المسرحية نفسها، بأن يعيد العلاقة الحيوية بين المتفرج والجمهور حتى تعود العلاقة القديمة بين أدب المسرح وفنون العرض المسرحي، وذلك عن طريق العودة إلى فنون المسرح القديمة (والمعاصرة خارج العالم الغربي) مثل تقاليد العصر الإليزابيثي في بريطانيا، حين كان الجمهور يتفاعل مع خشبة المسرح وينزل الممثلون إلى الصالة ليتحدثوا مع المتفرجين، ومثل استخدام الجوقة (الكورس) في المأساة اليونانية، واستخدام المهرجين وفناني الأفراح والموالد، والعروض الشعبية في بافاريا مثلًا، إلى جانب تقاليد العروض المسرحية الصينية واليابانية والهندية، وقد كان هدفه من ذلك أن يكسر أو يتحاشى الاندماج العاطفي أو النفسي بين المتفرج والممثل، وبطبيعة الحال، بين الممثل وبين الشخصية التي يؤديها، إذ على المتفرج أن يتذكر دائمًا أن ما يحدث أمامه الآن ليس حادثًا حقيقيًّا، أو أنه يحدث الآن ويجب عليه أن يتعاطف معه، بل ربما لم يحدث على الإطلاق، بل ربما يستحيل حدوثه، أو أنه ليس بحادثٍ أبدًا، وعلى أي حالٍ فضمانًا للانفصال الشعوري بين المتفرج والممثل، أو ما يُسمَّى بوجود الحائط الرابع، ومعنى الحائط الرابع: الحائط الوهمي الذي يكمل الأبعاد الثلاثة لخشبة المسرح، بحيث تصبح الأحداث التي تجري فوق المسرح أحداثًا مستقلة، تدور في عالمٍ منفصل عن الصالة، ويكون المتفرج بمثابة من يسترق النظر ويختلس السمع إلى الممثلين، أقول ضمانًا للانفصال الشعوري بين المتفرج والممثل، ينبغي على المخرج في رأي بريخت أن يتوسل بفنون المسرح الشامل من رقصٍ وموسيقى وغناءٍ إلخ، حتى لا يشرك المتفرج في العرض ويحول دون توهم واقعية الشخصية والحدث.
ولكن بريخت يقع في الخطأ الأكبر حين يقول إن الوسيلة الوحيدة لتفادي الاندماج أو التقمص، هو كسر الإيهام «بأن ما يحدث على المسرح حقيقي … بتذكير المتفرج بأن ما يحدث على المسرح الآن لا يحدث الآن حقًّا، بل حدث في الماضي في زمانٍ محدد ومكانٍ محدد.» ويستمر قائلًا: «على النظَّارة أن يستريحوا في أماكنهم ويسترخوا ويتأملوا الدروس التي يمكن أن يتعلموها مما حدث في الماضي السحيق تمامًا، مثل النظارة الذين سمعوا أناشيد الشعراء الذين تغنوا بفعال الأبطال في منازل ملوك اليونان وعظماء الساكسون، بينما كان الضيوف ينهمكون في الأكل والشرب.» ومن هنا جاء تعبير «الملحمي»، أي إن المسرح الملحمي يحاول أن يكون مسرحًا تاريخيًّا، بمعنى أنه يذكِّر النظارة دائمًا أنه يقدم إليهم أخبارًا عما حدث في الماضي؛ ولذلك فهو يختلف عن قاعة المحاضرات وحلبة السيرك، في أنه يقدم صورًا حية للأحداث التاريخية أو الخيالية بين البشر» (نفس المرجع، ص١١٠ من النص الإنجليزي).
ومصدر الخطأ واضحٌ وهو الزج بتعبير الملحمية في هذا السياق، حقيقةً إن من حق كل فنانٍ أن يصوغ لنفسه أي تعبير يراه، لكن تعبير المسرح الملحمي تعبيرٌ غير موفق، فالتشابه بين ما يفعله بريخت وبين الملحمية غير قائم على الإطلاق.
فينبغي أن نذكر أن الملحمة في أبسط وصف لها قصة شعرية أو قصيدة قصصية تعالج ما اصطُلح على تسميته بالموضوع البطولي، أي منجزات الأبطال الذين يمثلون أمةً من الأمم، كافحت في سبيل بلورة شخصيتها وخاضت حروبًا في سبيل إعلاء القيم التي قامت عليها دولتها، ومن هنا جاء تعبير الملحمة بالعربية أي التلاحم (أو اشتباك اللحم باللحم في حومة الوغى)؛ ولذلك فالملحمة تتميز بتعدد الحبكات والقصص التي تدور في فلك الحرب، وتمثل كل منها إحدى القيم وترتكز على المفهوم الكلاسيكي للشخصية الإنسانية الذي ثار عليه بريخت نفسه، بل إننا في الملحمة نرى تجسيدًا لكل الانفعالات والمواقف والأحداث التي تتميز بها الدراما الإغريقية والتي رفضها بريخت، إلى جانب تلك المناحي الشكلية التي لا يستطيع بريخت بسبب عقيدته الماركسية أن يقبلها، مثل استخدام النبوءة والتنبؤ واستخدام الخوارق والمعجزات، وزيارة العالم السفلي (عالم ما بعد الموت)، والإتيان بالأرواح والقيم المتصلة بالأديان القديمة (مثل امتياز الملوك النبلاء إلخ).
وإذا كان ثم ما جذب بريخت إلى الملحمة فهو تركيبها الفضفاض، الذي يتيح للشاعر أن يقدم فيها الأحاديث المطولة والخطب التي تتراوح في نبراتها بين العامية والفصحى (مثل قصص كانتربري وهي ليست ملحمية على أية حال)، ولكن كل ملحمة تعتمد على موضوعٍ يزعم السمو والرفعة، ويرنو إلى تمجيد قيم قديمة لا إلى استحداث قيم جديدة أو تغيير الواقع، كما كان يريد بريخت.
وإذا تخطينا الملاحم الكلاسيكية (الإلياذة والأوديسة – هوميروس، والإنيادة – فيرجيل، والفرساليا – لو كان، وقلقامش – البابلية) إلى الملاحم الحديثة، أي التي ولدت في العصور الحديثة قبيل عصر النهضة وما تلاها، وجدنا نقيض ما كان بريخت يعنيه ويرمي إليه، إذ إن الكوميديا الإلهية مثلًا ملحمة تخرج إلينا «الفرد التاريخي»، كما يسميه أورباخ في كتابه «دانتي شاعر هذه الدنيا»، أي الإنسان الذي يتفرد ويبرز بخصائصه الذاتية، ليس لاختلافه عن سائر البشر ولكن لأنه يمثل عقلًا فذًّا، استطاع أن يعيد لتراث البشرية عمقه التاريخي وجماع قيمه التي تتناقلها الإنسانية عبر العصور، إما في صور أساطير أو رموز دينية أو عقائد ثابتة، وهكذا كانت الفردوس المفقود لشاعر الإنجليزية الكبير جون ملتون، ملحمة تسجل للبشرية قيمًا توارثتها عبر العصور ولم يعد عليها خلاف، ويبرز فيها إبليس شخصية تقترب من البطل التراجيدي في اعتداده بنفسه، وغروره وخيلائه وكبريائه الشديد ورفضه الخضوع للخالق جل وعلا، بل وفي سقطته التي تحاكي السقطة المأساوية التي احتلت مكان الصدارة في تحليل فن الدراما، رغم اختلافها الظاهر (من ناحية البناء والنظم والصوريل واللغة) عن الملاحم القديمة، ما تزال تقدم لنا الشخصية البشرية في الإطار الكلاسيكي الذي يرى في عقل الفرد ونفسه أكبر وأرحب مجال لصراع الإنسان مع قوى الكون من حوله، سواء قوى الطبيعة أو قوى المجتمع.
الملحمة … لماذا؟
لماذا أطلق بريخت صفة الملحمية على مسرحه، وهل يعقل أنه لم يكن يدري معناها؟ أعتقد أن هذا خطأٌ لا يتحمل بريخت وحده مسئوليته، بل تقع المسئولية أولًا وأخيرًا على عاتق النقاد الذين انجرفوا وراءه، واستخدموا الكلمة دونما تحفظ أو حرج على مسرح بريخت المتميز، وأعتقد أننا لا نحتاج إلى إطالة الوقوف أمام مسرحه، لندرك أنه لم يكتب عملًا واحدًا يمكن اعتباره ملحميًّا بالمعنى المفهوم، وأنا على ثقةٍ من أن القارئ العربي ملمٌّ بمعظم أو أهم أو أشهر أعمال بريخت، ومع ذلك فلننظر إلى بعض هذه الأعمال منذ أن أعلن بريخت فكرة الملحمة وحتى أنشأ فكرة البرلينر انسامبل، يمكننا بصفةٍ عامة أن ننحي جانبًا بعض أعماله المبكرة التي كانت ثوريةً بالمعنى السلبي، أي إنها كانت تعبيرًا عن الرفض أكثر منها تجسيدًا لمذهبٍ جديد، كمسرحية «بال» (١٩١٨م) على سبيل المثال، فالشخصية الرئيسية (أو الوحيدة حقًّا) في هذه المسرحية التي تتكون من اثنين وعشرين مشهدًا هي شخصية باك نفسه، الذي يمثل شخصية الشاعر الرافض لكل شيء، والذي لا يهمه في الدنيا إلا إشباع غرائزه والجري وراء النساء أولًا، ثم رفض ذلك كله والاشتغال بشتى الأعمال التي لا يربطها رابطٌ، فهو يُلقي المونولوجات في كاباريه ويدير الأراجيح في الأسواق والأفراح، وينشد أناشيده في الحانات والبارات حيث يصادق أحد الملحنين، وعندما يكتشف أن هذا الصديق على علاقةٍ غرامية بإحدى العاملات في ذلك البار تثور ثائرته ويقتله، ثم يفر من البوليس إلى غابات الشمال حيث يموت مع قاطعي الأشجار، الرفض هنا إذن هو التيمة الرئيسية حيث يبدو تأثير بوخنر بوضوحٍ، وإلى حدٍّ ما تأثير فيديكند، ومع ذلك فإن الناقد مارتن إسلن يقول إن المسرحية مكتوبةٌ بلغةٍ جميلة حافلة بالصور والموسيقى (التي لا تظهر في الترجمة الإنجليزية)، ومن ثَم تعلن قبول بريخت للعالم وما فيه، والواضح أن هذا رأيٌ يصعب قبوله لأن «بال»، (واسم الشخصية هو المرادف الألماني للكلمة العبرانية «بعل» التي تعني «السيد»)، يسود الحياة برفضها وبالذات برفض أشكال الفن المعترف بها، إذ إن المسرحية تبدأ بموالٍ كورالي اسمه «أنشودة السيد بال»، يعلن فيه المؤلف سخريته من كل شيءٍ وعدم قبوله لأي شيء! والواضح أن هذه المسرحية وما تلاها حتى عام ١٩٣٠م، وأخص بالذكر طبول في الليل (١٩١٨م) التي يسخر فيها بريخت من فكرة البطولة ويختار له بطلًا يعرف أنه دنيء، ويرضى بهذا القدر احتقارًا له، والقيم الدنيا والمجتمع تمثل المرحلة الأولى التي استطاع بريخت عن طريقها تحديد طريقه.
أما الطريق الذي اتضح له منذ عام ١٩٣٠م فيبدأ بمسرحية القاعدة والاستثناء، وهنا نجد بريخت لأول مرة يتكلم بصوته المتميز، الذي لا يمكن أن يخطئه أحد، إنه يبني المسرحية على فكرةٍ بسيطة يقولها القاضي قرب النهاية، وهي أن القاعدة التي ينبغي أن نقبلها شئنا أم أبينا هي القسوة والظلم بين البشر، أما الرحمة والتعاطف فهو الاستثناء، كما قال الشاعر العربي:
وهو يتوسل في سبيل إظهار هذه الفكرة بتركيباتٍ مسرحية تقليدية مثل الحوار الممتع بين الشخصيتين الرئيسيتين والفكاهة إلخ، أي إنه يسخر المسرح لتقديم فكرة معينة، ولا يمكن أن نتصور مهما اشتط بنا الخيال أن هذه ملحمة بأي شكلٍ من الأشكال! فإذا نظرنا إلى مسرحياته التالية رأينا أنها محاولات جادة لتحديد أفكاره، بدلًا من أن تكون عروضًا ناضجة لهذه الأفكار، وبالذات المسرحيات التي يهاجم فيها هتلر، مثل في غابات المدن، وأصحاب الرؤى المستديرة، والخوف والبؤس في الرايخ الثالث، والمسرحيات التي يهاجم فيها قيم المجتمع التجاري والنفاق وابتذال حياة الجنس الرخيص، مثل نور الظلام والكبائر السبع، وهكذا حتى وصل إلى اقتباسه الأشهر لمسرحية الكاتب الإنجليزي جون جاي المسماة أوبرا الشحاذ والتي أسماها أوبرا الثلاثة بنسات، وهي المسرحية التي حققت له أكبر نجاح شهده في أي وقتٍ من أوقات حياته، أولًا بسبب الموسيقى والألحان التي وضعها له الموسيقي الكبير كورت فايل، وثانيًا بسبب المواويل و«الطقاطيق» التي استوحاها من شاعر المواويل الإنجليزي رديارد كبلنج، وثالثًا بسبب الحبكة التقليدية التي أخذها من جون جاي.
وقد عاد بريخت في هذه المسرحية إلى تقاليد المسرح الشامل، وحقق ما يمكننا أن نسميه بحق التزاوج السعيد بين أدب المسرح وفنون المسرح، وهو ما كان يرمي إليه على مدى سنوات من عمله المسرحي، واستطاع بها أن يخرج على عالم ما بعد الحرب بعرضٍ مسرحي يجمع إلى جانب الشعر الشعبي موسيقى أخَّاذة، وإخراجًا خلاقًا يعتمد على التشكيلات التي تتفاوت من مشهدٍ إلى مشهد، كان إخراج جون تاينان، الذي أخرجها في الستينيات حين رأيتها في لندن، يحافظ حقًّا على إخراج بريخت، ولم يضف إلا الرقصات الإيقاعية البسيطة التي ألهمت إخراج أوليفر توست وغيرها من الكوميديا الموسيقية فيما بعد، والغريب أن إقبال الجمهور على شراء أسطوانات هذه المسرحية قد استمر سنوات حتى بعد انتهاء العرض، وكان الجميع ينظرون على غلاف الأسطوانة ليروا إن كان التوزيع الموسيقي للنسخة الإنجليزية هو التوزيع الأصلي للنسخة الألمانية!
فإذا نظرنا إلى المسرحيات التالية وجدنا أنها تعتمد على الشخصية اعتمادًا كبيرًا إن لم نقل اعتمادًا أساسيًّا، ولا يكاد يبين فيها المذهب الملحمي أو محاولة بريخت تخطي الفرد إلى الأوضاع الاجتماعية، خذ مسرحية الرحلة الجوية للندبرج، التي تظهر فيها جوقة لتقوم بدور لندبرج، كأنما لتلغي وجود هذا الفرد الذي يلعب بطولة المسرحية! ولكن وسواء كان لندبرج عددًا من الناس أو شخصًا واحدًا على المسرح، فهو البطل الذي يعالج بريخت قصته، وكيف استطاع في طائرته أن يعبر وحده المحيط الأطلسي، وما تعرض له من مخاطر ومن أهوال، ولكن بريخت، إيمانًا منه بمذهبٍ لا يستطيع أن يكسوه لحمًا وعظمًا، يملأ المسرحية بإشاراتٍ إلى أن هذا الإنسان يمثل الإرادة البشرية، وطاقة الذهن البشري على مجالدة قوى الطبيعة البدائية، أي التي تعتمد على البطش والعنف فحسب (مثلما كان إبليس يقول عن الله سبحانه في الفردوس المفقود)، وهكذا فبعد انتصار لندبرج وعبوره المحيط يقول بريخت إن هذا يؤذن بزوال فكرة الله من السماء، وببداية عصر جديد تنتصر فيه قوى العقلانية والتنور!
إن بريخت لا يستطيع، حتى وهو يحارب فكرة الفرد ويتردد قبل استعمال لفظ أنا أو «أنت» أو «هو» (مفضلًا لفظ الجماعة)، إلا أن يخصص مسرحيتين من مسرحيات تلك الفترة للفرد، الفرد الذي يقول نعم والفرد الذي يقول لا، وعنوان المسرحيتين هو هذا تمامًا! ففي الأولى يقبل الغلام أن يقتل وفي الثانية يرفض، فيجبر الفريق الذي ذهب يبحث عن دواءٍ يقهر به الوباء على العودة من حيث أتى لإنقاذ حياته، وهو بهذا يعلن قبول المدرس الذي يرأس الفريق للعادات المتوارثة وانصياعه للتقاليد، ويبرر بريخت هذا التحول بأن يجعله يقول إن على المرء أن يفكر من جديد في كل موقفٍ جديد يجابهه! أي إن بريخت بعد أن يبني المسرحية على صراع الإرادتين، إرادة الرفض وإرادة القبول، يستخلص أمام النظارة درسًا ينهي به المسرحية، بناءً على مناقشةٍ طويلة مملة بين الغلام والمدرس، ليثبت أنه لا يريد إشراك النظارة في الانفعالات الوجدانية للأشخاص، وأنه يبني مسرحيته بناءً عقلانيًّا يتطور حسب مقتضيات الحجة والإقناع المنطقي!
ولكن أين هذا من الملحمة والملحمية؟ الحق أنه يصعب علينا في هذه الدراسة الموجزة أن نلم بسائر أعمال بريخت، التي جسد فيها منهجه في الكتابة والإخراج جميعًا … إذ إنه حتى في أشهر مسرحياته، وخاصةً تلك التي مُثلت في مصر، جاليليو، أو التي لم تمثل، مثل الأم شجاعة وأبناؤها، نجده يرتكز على نفس مفهوم الشخصية القديم، فيقدم لنا بشرًا من لحمٍ ودم، ولم يستطع بكل ما أوتي من حيلٍ مسرحية استطاعت حقًّا أن تعيد الحياة إلى دراما ما بين الحربين، أن يغير من الصورة الكلاسيكية للإنسان!
إن جاليليو شخصية مسرحية تقترب من البطل التراجيدي، ومحاولات بريخت للهبوط به إلى مستوى الفكر المجرد أو العلم الجاف، لا تستطيع أن تنسينا ذلك الموقف الدرامي (التقليدي)، الذي نرى فيه جاليليو وهو يواجه أساطين الكنيسة الذين يصورهم بريخت تصويرًا محكمًا، كأنما هم أبالسة وآلهة للشر حقًّا وصدقًا!
إن رائعة بريخت لا تدين للمسرح الملحمي بأي شيءٍ، فهي إحدى الكلاسيكيات التي يفخر بها المسرح القديم والمسرح الحديث معًا … وما نقوله عن جاليليو يمكن أن نقوله عن الأم شجاعة وأبناؤها التي لم يستطع بريخت، رغم إعادة كتابتها عدة مرات، أن يحول دون تعاطف الجمهور مع هذه الشخصية المحورية.
كان بريخت يطمح في أن ينفر منها إلى الجمهور، وأن يدينها وأن يدمغها بالوصولية والانتهازية، ولكن الجمهور في عام ١٩٣٩م كان شأنه شأن الجمهور في كل زمانٍ ومكان: لم يستطع إلا أن يشارك تلك المرأة، التي راح أبناؤها ضحية الحرب، أحزانها وأفراحها، وحتى إذا نفر منها فهو ينفعل بها وعليها إن لم يكن لها! وهكذا لم يسقط الحائط الرابع الذي أراد بريخت أن يزيله إلى الأبد!
مسرح بريخت والملحمة
ولكن مسرح بريخت لم يمت رغم أن مسرحياته لم تعد تدرج في ربرتورات معظم المسارح العالمية؛ وذلك لأنه أقام الرابط الذي كان يسعى إليه بين أدب المسرح وفنون المسرح، أي بين الدراما والمسرح! وهذا هو إنجازه الرائع حقًّا، وإذا كنا نرى معظم الممثلين يدخلون حاملين قطع الديكور أو ينزلون إلى الصالة، فهذا يرجع إلى حدٍّ كبير إلى جهود بريخت، وإذا كنا نرى بعض المخرجين يعيدون إخراج الكلاسيكيات، مع تذكير المتفرج في كل لحظةٍ أنه «يتفرج» على مسرحية وليس على قطعةٍ من الحياة (مثلما حدث لمسرحية جولد سميث «تمسكنت حتى تمكنت» عام ١٩٧٢م في لندن)، فالفضل يعود إلى بريخت، وإذا كنا نلمح في بعض الكتاب اتجاهات تعبيرية واضحة تتجلى في تنميط الشخصية أو الهروب من الشخصية بمفهومها الكبير، فهذا هو ثمرة جهد بريخت، كل ما نريد أن نقوله هو أن بريخت أخطأ حين قال إن مسرحه ملحمي، وحين وضع ذلك الجدول الشهير الذي يحفظه طلابنا عن ظهر قلب، والذي يفرق فيه بين المسرح الدرامي كما يسميه وبين المسرح الملحمي، وليتنا بعد زمنٍ طال أم قصر أن نعيد النظر فيما بين أيدينا من أدب المسرح وفنون المسرح، فنعيد التزاوج بينها مثلما يقول بريخت، فلا يعقل أن يظل الكتاب يبدعون نصوصهم وينشرونها على القراء، بينما تظل هناك فرق للعروض المسرحية التي لا نصيب لها من الدراما إلا الاسم، ليتنا، في كلمة، لا نخاف الدراما في المسرح، ولا نخشى فنون المسرح عند إخراج أدب المسرح.
(٢) الاستعارة الدرامية
لعلنا نذكر جميعًا احتفال أرسطو بالاستعارة، واعتباره إياها أداةً فنية فعالة، لازمة للشعر بعامة، ولازمة للدراما الشعرية بخاصة، واحتفال النقاد قديمًا وحديثًا بهذه الوسيلة الفنية التي لا غنى عنها في الشعر، والتي لا ينكر تأثيرها في سائر الفنون الأدبية أيضًا، وتعني الاستعارة في أبسط صورها أن يستعير الفنان صورة شيء ما أو خصيصة من خصائصه ثم يضفيها على شيءٍ آخر، لإحساسه بأن هذين الشيئين يشتركان في تلك الصورة أو الخصيصة؛ أو لأن رؤيته الجديدة ما عادت تفصل بين جوهر المشبه والمشبه به، فوحدت بينهما في بصر الفنان وأصبحا شيئًا واحدًا.
ولم تقتصر الاستعارة على اللغة مطلقًا، وإن كانت اللغة هي وسيلة نقل الاستعارات، فقد جسد خيال القدماء آلهتهم في صورٍ عديدة استعاروها من حياة الإنس والحيوان والنبات والنجوم والكواكب، بل وظواهرها الطبيعية والجامدة، فوجدنا عند المصريين القدماء هذا التجسيد في زهورٍ وحيواناتٍ أليفة ووحشية، ووجدنا الاستعارة عند اليونان والرومان وأساطيرهم البالغة التحرر، في تجسيدها للرؤى الرمزية التي فسرت لهم قوى الطبيعة وآلهتهم، وأبطالهم القوميين، وخلقت في الأدب الكلاسيكي صورًا استعارية سادت التراث الأدبي حتى يومنا هذا.
الميتامورفوسيس
ومن إحدى صور الاستعارة التي حفل بها التاريخ الأدبي في العالم، صورة الميتامورفوسيس، أو صور تحول صور الكائن الحي من نوعٍ محدد إلى نوعٍ آخر، وقد استعار القدماء هذه الصورة مما يحدث في الواقع في الطبيعة مثل تحول دودة القز مثلًا إلى فراشة، أو مثل تحول بعض الحشرات في نموها بعدة أطوار من دودةٍ إلى حورية إلى فراشة إلى بيضة إلى دودةٍ أخرى وهكذا … وقد لجأ اليونان إلى هذا جميعًا لتصوير رؤاهم للحياة وعالم الكائنات الحية، فسمعنا عن «بروكني» التي تحولت إلى طائر، و«كادموس» الذي تحول أفعى … إلخ (وقد نص هوراس على ألا يتم هذا التحول على المسرح أمام النظارة)، ورأينا الشاعر الروماني العظيم «أوفيد» يضع كتابًا ضخمًا من اثني عشر ألف بيت من الشعر، يجمع فيه كل صور التحول التي يذكرها عن اليونان والرومان، ويصرفها وفق خياله الخصب، ويُسمَّى الكتاب «الميتامورفوسيس»، وقد ترجمه الدكتور ثروت عكاشة وأسماه: «مسخ الكائنات».
ولم يكن الخيال اليوناني والروماني الذي مارس تصوير هذا التحول عاطلًا عن الدلالات الرمزية والنفسية له، فلقد كان بهذا يلجأ إلى الاستعارة الشعرية وينتفع بها في صورٍ صلبة مجسدة، كأن يلجأ إلى تلك الخصائص التي يتسم بها كائنٌ من الكائنات، إلى درجة تحوله في نظره إلى كائنٍ آخر، فيجسم هذه الخصائص في الكائن الأول ويبالغ فيها حتى تحول إلى كائنٍ آخر، أما قضية التصديق والتكذيب فلم يعد لها وجود، بعد أن شاعت ظاهرة الميتامورفوسيس في التراث الأدبي، وأصبح الخيال يتقبلها دون لجاجٍ كثير، بل دون مساءلة عن مدى احتمال وقوعها إطلاقًا.
كافكا والميتامورفوسيس
ومن إحدى صور التحول هذه التي لا غنًى عن التعرض لها، ونحن نناقش مسرحية الخرتيت للكاتب المعاصر يوجين يونسكو، تلك القصة التي كتبها فرانز كافكا بالألمانية في مطلع هذا القرن (وسمح بنشرها في حياته بينما أوصى عند وفاته بإعدام كل قصصه التي لم تنشر والتي صنعت له مجده الأدبي)، وسماها «التحول» أو المسخ أو الميتامورفوسيس، وصور فيها شابًّا يتحول، أو يكتشف عند استيقاظه من النوم أنه تحول إلى حشرةٍ كبيرة! وهو يبدأ القصة بهذه المفاجأة، ثم يصور لنا من عينيه، كل ما يدور في محيط أسرته وعمله الخارجي إزاء هذا التحول، وينحو «كافكا» منحى «الطبيعية» المتطرفة في تصوير هذه الحادثة غير المعقولة، أي إنه يبالغ في التصوير الواقعي لكل شيءٍ في حياة «جريجور»، الذي سجن بعد تحوله في غرفته، وفي حياة كل أفراد أسرته ودنيا عمله الخارجي، إلى الحد الذي يصبح معه كل شيء معقولًا في النهاية، وتتزن الكفة التي فقدت اتزانها أول الأمر، فبعد أن كنا نرى منزلًا يعيش فيه هو وأمه وأخته ووالدهم حياةً تجعلهم أقرب إلى الحشرات منهم إلى الآدميين، نجدنا أمام أسرة اكتسبت آدميتها من معاناة تجربة تحول ابنها الوحيد إلى حشرةٍ ووفاته طبعًا، في النهاية، إنها صورة الخلاص على كل حال، فالابن كان حشرةً في كل شيء إلا في مظهره، يعمل بائعًا جوالًا يطوف الأرض والمحلات التجارية ويعرض العينات سعيًا وراء رزقه، ولا يجد في مكتب الشركة التي يعمل بها إلا كل امتهانٍ وإنكار لجهده، ولا تجد فيه أسرته إلا أملًا خادعًا يوحي بمستقبلٍ، بينما هو يظلم بوهم هذا الأمل مستقبلهم، ولقد حدث منذ أن تحول أن بدأ «جريجور» يرى الحقيقة لأول مرة، ويدرك طبيعة الحياة الحشرية التي يعيشها مجتمعه، وقد كانت هذه الحقيقة صدمةً للجميع أشد من صدمة التحول ذاته، مما دفع الناس في هذا المجتمع إلى محاولة مواجهة الحقيقة، ومن ثَم مواجهة الحياة، وهكذا نرى في نهاية القصة أفراد الأسرة الثلاثة وقد عادوا إلى العمل بعد توقفهم، وعادوا إلى الحياة بالطريقة الصحيحة، وبدءوا يخرجون من أحجارهم العفنة في المنزل، ويستنشقون هواء الصحة والحرية … يوم وفاة الحشرة «جريجور»!
الخرتيت والتحول
وهذه الاستعارة الحية في قصة «كافكا» نجد الوجه الآخر لها، الوجه المكمل لها في «الخرتيت»، فلقد تحول الفرد عند كافكا، ونجا به المجتمع، ولقد نظر الإنسان الذي فقد إنسانيته في عمله وأسرته، فرأى حقيقته الحشرية، ولقد رفض المجتمع أن يتقبل ذلك حتى النهاية، ثم اضطر إلى ذلك عن طريق الحدس الذي جسده التحول، فأفاق واكتسب إنسانيته، أما هنا في الخرتيت، فنرى العكس على طول الخط.
إن يونسكو يقدم لنا في الفصل الأول قطاعًا معينًا من حياة قرية أو بلدةٍ إقليمية فرنسية صغيرة، في صبيحة أحد الآحاد، حيث يلتقي على مقهًى متواضع، وحول هذا المبنى مجموعة من الناس تضم الخطوط الثلاثة الأولى التي تشكل أول تيارات المسرحية، يضم الخط الأول تحليلًا لطرفَي نقيض إنسان مجتمع هذا العصر كما يراه يونسكو، مصورًا على مستويَين: المستوى الواقعي، وهو يضم الطرفين «جان» و«بيرنجيه»، والمستوى التجريدي وهو يضم نظيرَيهما: المنطقي والعجوز.
إن أول طرف هو الفرد الذي بالغ في رسم خطوط حياته، وبالغ في التحكم في كل ما يفعل، فوضع منهجًا محددًا لكل شيء، فأصبحت الدنيا بالنسبة له طريقًا واضح المعالم جامد القسمات، لم يعد ثمة مجال لاختلافٍ في البرنامج اليومي الذي يضعه لنفسه، فهو في «كلاسيكيته» معتدل في كل شيء، في نظر نفسه، بينما هو في الحقيقة متطرفٌ إلى أقصى الحدود، في ملبسه ومشربه وعمله، بل في ادعائه السيطرة الكاملة على مجرى شعوره، بحيث إنه لم يعد يعترف باللاشعور، ويزعم أنه يعتمد اعتمادًا مطلقًا على العقل الظاهر، وينكر أن الإنسان كائنٌ مركب بالغ التعقيد، لا يمكن حبسه في أنماط السلوك الصارمة … ومن ثَم فقد أنكر أيضًا حاجة الفرد إلى التنفيس عن النوازع الحيوية التي يكبتها الخضوع المطلق لسيطرة مواضعات السلوك الاجتماعي على دقائق حياته جميعًا … وهو بهذا يحول الطاقة البشرية، التي تضم حيوانية وحرية لا مراء فيها، إلى مراجل حبيسة تغلي في باطنه، ولا يبين لها أثر إلا في لحظات انفجاره القليلة، وضيق صدره الذي ينبئ عنها فحسب ولا يطلق لها العنان … ومن ثَم فقد أصبح مثل كرة امتلأت بشحناتٍ زاد ضغطها على الجدار عن طوق احتماله، وأصبح ينذر بالانفجار بين لحظةٍ وأخرى … لقد وصل «جان» إلى «اللحظة البشرية الحرجة» من طول الكبت والتحكم والتعقل.
ويلتقي مع «جان» على المستوى التجريدي «المنطقي» … فالمنطقي هو نفسه «جان» ولكنه مجرد … أي يعيش بلغة الحساب والمنطق الزائف، وكل ما يقوله المنطقي ينصب على حديث «جان» مع «بيرنجيه» … فهما يتكلمان نفس اللغة، والفرق الوحيد أن «جان» منتزعٌ من الدنيا الواقعية، والمنطقي من عالم الأرقام والافتراضات المعلقة؛ ولذلك فإن المنطقي في كل أقواله يلقي الضوء على حديث «جان»، ويفسر ما يقوله بطريقةٍ ساخرة، والموقف الذي يتخذه من العجوز يماثل الموقف الذي يتخذه «جان» من «بيرنجيه» تمامًا.
وظيفة الحوار المتداخل
ومن هنا تنبع أهمية الحوار المتداخل، إن الحوار بين كل من الطرفين يدور في حلقاتٍ تشبه العجلات الدائرة، التي تلتقي عند موضعٍ ما ثم تفترق لتعود فتلتقي … وفي لحظات الالتقاء نرى «جان» يردد نفس كلمات العجوز … ثم يبتعدان ثانيةً ثم يعودان إلى الالتقاء …
والعجوز الذي ينخدع بحديث المنطقي يتصور أنه قد تقدم في المنطق وعلم الحساب … إلخ، ويعتقد أن الوقت قد فاته لأنه كان موظفًا لم يستطع الانتفاع بهذا العلم الفريد، يقابل «بيرنجيه» الشخصية المحورية في هذه المسرحية، إن بيرنجيه إنسانٌ قد تطرف في البعد عن طريق التعقيل والمنطقة الصارمة لكل شيءٍ في الحياة، وأصبح لكثرة ما أهمل في اتباع طرق السلوك المألوفة، ولكثرة ما نفس عن مشاعره الحيوية، بل والحيوانية مشربًا ومأكلًا وتعلقًا بالجنس الآخر (شأن العجوز)، ولكثرة ما ابتعد عن إعمال ذهنه بالصورة المعتادة اجتماعيًّا في كل من يعن له وما يمر به من أحداث، أصبح يتمتع بقدرٍ كبير من الحيوانية ليبتعد به عن خطر الانفجار، أي عن اللحظة الحرجة التي يؤدي إليها الكبت والمنطق، ومن ثَم أصبحت لديه «حصانة» ضد التحول أي إنه لطول تردده وعدم اتخاذه أي قرار، وعدم قدرته على التفكير المتزن أو اتباع قواعد الناس في النظر إلى الأشياء، لم يعد ينتمي إلى هذا المجتمع، ولم يعد يحس بالروابط التي تشده إليهم تلك الانبثاقات الشعورية المفاجئة، التي تجسد دوافعه الحيوية والتي تؤكد تنفيسه عن بعض ما يحس به.
وإلى جانب هذا الخط الأول الذي نرى فيه شخصيتين متطرفتين يعالجهما المؤلف على المستويين السالفين (جان – المنطقي – بيرنجيه – العجوز)، نرى خطأً آخر يتخذ نفس السمة … فنرى ربة المنزل التي تبالغ في الاهتمام بالتفاهات، من طعامٍ وشراب وقطة، إلى زوجة البقال التي تهتم بالعملاء والمال والحالة التجارية لحانوت زوجها … واللمسة التي تربط هاتين إلى «جان»، والمنطقي هي القطة … قطة المنطقي … إنها رمز المنطق الذي جعل حياة الإنسان أقرب في ضآلتها وحذرها وجبنها إلى حياة القطة: «دي كانت واحد مننا» … «كانت بتكلمنا وكنا بنفهم كلامها»، والمنطقي يقيم بحثه وأمثلة قياسه «النموذجي» على القطط … «نرجع للقطط بتاعتنا»، وهل أدل على ذلك من أنه يكشف في ضوء منطقه أن «سقراط كان قطة»، ويقابل هاتين امرأتان عاملتان، هما عاملة المقهى، وموظفة المكتب: ديزي … إنهما لا تكثران من الاهتمام بالتفاهات الصغيرة، ولا يشدهما إلا انفجارات الشعور وتعيشان الحياة العادية المألوفة، التي لا تتقيد كثيرًا بالفكر والمنطق الزائف.
منطق الطبيعة
وفي هذا الجو يدوي نداء الطبيعة … إذ يمر خرتيتٌ بقوته الضارية وعنفوانه في طريق البلدة، إنه حدثٌ غير مألوف … ولكن الحيوان نفسه عادي، إنه ابن الطبيعة، وهنا نجد الزلزلة التي تهز كيان الناس، وتزلزل أولًا وأكثر من الجميع، كيان «جان» … بينما لا يسمع «بيرنجيه» في نداء الطبيعة هذا شيئًا غريبًا؛ لأنه لم يفكر في هذا، ولم يحاول أن يتخذ موقفًا إزاءه، كأنما هو ليس غريبًا عليه، لقد دوى النداء في البلدة … ولكن ترى ماذا فعل الخرتيت؟ لقد قتل القطة … لقد قتل منطق الطبيعة الحية القوية منطق الإنسان المنظم المنسق …
ولكن هل قتل منطق الإنسان حقًّا؟ لا، ولكن ذلك المنطق الزائف قد تحجَّر ولم يعد منطقًا … لقد جعلت الحضارة من حياة الإنسان خطوطًا مرسومة وأرقامًا لا حياة فيها … وهل هناك أقرب إلى الطبيعة من الحيوان؟ ولقد فعل الحيوان فعله … فاهتمت السيدات بدفن القطة، وأعددن لها موكبًا جنائزيًّا مهيبًا يتفق ووفاة المنطق الزائف، ويعلن الفصل الأول بذلك بداية حياة جديدة لمنطق الطبيعة الذي يسود في الفصلين الثاني والثالث.
الرأي العام والطرفان
والخط الثالث الذي يتقاطع مع خطَّي الفصل الأول هو خط رأي الناس … بسطاءهم ومثقفيهم، فهم بين طرفَين: طرفٌ يقبل الواقع ثم يختلف على التفاصيل، وطرفٌ يفكر في الواقع ولا يجري له اعتبارًا، بينما يوجه اهتمامه كله إلى التفاصيل، يستطيع المنطقي أن يضلل الرأي العام بأن يلعب بالتفاصيل إلى أقصى حد، وأن يدفع الناس إلى الانقسام حول جنسية الخرتيت، وحول عدد القرون في رأسه …
ومن هنا تبدأ «الثنائية» المضللة في الاتساع في الفصل الثاني … (فلقد شهدنا أولًا بذور التقسيم الثنائي في تصوير الطرفين البشريين المتناقضين)، وتدخل بنا هذه الثنائية إلى حياة العمل في مكتب «النشر» … أما لماذا كان هذا المكتب دار نشر فهو ما يفسره خط (الرأي العام) في الفصل الأول … أي إن نفس الثنائية قائمة … ولكنها اتخذت هنا صورة أوراق وتقارير … فها هو المكتب يعد تقريرًا لجمعية منع المسكرات «لنشره» على «الناس»، وتقريرًا عن تجارة «النبيذ» لنفس الغرض … والمطبعة في الانتظار! أي إن آذان الناس التي أصبحت عقولًا لم تعد تفرق بين منع النبيذ وتقديم النبيذ! (شأن القرار الذي اتخذه بيرنجيه بالامتناع عن شرب الخمر، بينما يمسك الكأس في يديه …)
وهنا في المكتب تكتمل لنا صورة السلم الذي حدد يونسكو درجاته منذ الفصل الأول … سلم التصديق والتكذيب … أي رؤية الموجود وغير الموجود … وذلك في شخصية «بوتار» على التحديد …
إن بوتار نموذجٌ حي صادق للعمل المكتبي الحكومي … إنه هو نفسه جماع فلسفة المكتب القائمة على الشك والخوف، وعدم الاعتراف بالظاهرة ومحاولة تفسيرها استنادًا إلى وجود عوامل شر كامنة، أو خيانة دفينة، أو تآمر بين بعض الناس للعمل على تحطيمه هو شخصيًّا، وحتى حين لا يجد مبررًا لهذا ينسب التفسير إلى أحد زملائه، أو يلجأ إلى الخطوات القانونية مثل اللجوء إلى النقابة، وهكذا … إنه لا يؤمن إطلاقًا بوجود ظاهرة دون سر يكتنفها … ولذلك فهو يريد أن يكشف هذا السر وأن يغوص في أعماقه، وهذا بطبيعة الحال دون أن يتخذ أي خطوةٍ إيجابية فهو موظف … وهو ينفذ ما يأمره به رئيسه … «إنت المدير واللي تأمر به ماشي» … وهو بعد أربع وعشرين ساعة من تحول رئيسه في الفصل الثالث إلى خرتيت، لا يطيق أن يظل في العالم دون نظام مكتبي (إذ ينهار النظام بانهيار الرمز)، فيتحول هو أيضًا متبعًا نفس المثل، وتكون آخر كلماته وهو بشر: «إحنا لازم نمشي مع الزمن …»
إن حلقة موظفي المكتب من «بابيون»، ورئيس المكتب الذي لا يرى في تحول «بيف» إلى خرتيت أكثر من أنه قد فقد موظفًا، ولا بد من إيجاد موظف آخر ليحل محله، والذي لا يفكر في هذه الحالة إلا في العواقب التي تترتب على هذا التحول؛ أي صرف مبلغ التأمين إذا كان «بيف» قد أمن على حياته، أو في حق زوجته في الطلاق منه … وفي حقه هو في فصله من عمله، أو في إحلال سلَّم حجري محل السلَّم الخشبي الذي كسره الخرتيت، وفي مغازلة السكرتيرة وإصدار الأوامر إلى المرءوسين وهلم جرًّا، من بابيون هذا، إلى دودار (رجل القانون الذي يدرس الظاهرة ويلاحظ الوقائع إلى آخره) إلى بوتار الذي سبق الحديث عنه، إلى ديزي السكرتيرة وبيرنجيه الموظفين في المكتب … هذه الحلقة … تتعرض لأول تجربة مذهلة في واقعيتها وصدمتها، فهم يواجهون جميعًا حادثة تحول أحد زملائهم الموظفين إلى خرتيت …
لم يعد نداء الطبيعة سرًّا إذن … لقد فعل فعله وحطم (أو أنقذ) أحدهم … لقد أصبح الجميع يواجهون الموقف مواجهةً صريحة … ولم يعد هناك مجال لتصديق الظاهرة أو تكذيبها، ومن ثَم فقد بدأت الشرارة في الانطلاق … وكل ما بقي أمامنا هو انتقال النار من عود حطب إلى لوح خشب … إلى بناءٍ اجتماعي روتيني شامخ، وهل وقوع السلم الخشبي، واستدعاء فرقة المطافئ إلا دليل على تلك الصورة المقبلة؟
انفجار جان
لم يخرج «جان» عصر ذلك اليوم، وظل نائمًا في السرير، بينما انفجرت في داخله مراجل الحيوية أو الحيوانية التي طال كبته لها وتحكمه فيها … وبدأت تعمل في عقله الباطن عملها (رغم إنكاره لها) … وبدأ عقله الظاهر يهتز أمام المنطق الصارم، الذي قصر فكره على الاقتناع بما يمليه … أي إنه بدأ لأول مرةٍ يرى للحقيقة أكثر من وجه … وبدأ يهتز كيانه كله أمام جميع القيم التي كان يتصور أنها قيمٌ إنسانية عليا … لقد بدأ يتساءل لأول مرةٍ عن مدى صدق ما تمسَّك به … أي إنه بدأ لأول مرة يفقد اتزانه … ذلك الاتزان الذي اتكأ عليه يونسكو في أكثر من عبارةٍ يفسر فيها التحول …
ولقد أحس بتلك الرغبة الجامحة في داخله والشعور الدافق الذي يهيب به أن يكسر أصفاد الروتين الاجتماعي … إلى أقصى طرفٍ وتطرف … (إذ إن فقد الاتزان يجعل من تطرفه انقلابًا إلى تطرفٍ آخر) … وربما كان يحس كما يقول دودار، بمللٍ من هذا كله، من حياته الجامدة المرسومة، وربما أحس بشوقٍ إلى حياة الفطرة الطبيعية … إلى الحقول والخلاء … إلى النسيم القوي الذي يقتلع الأشجار ويهب على الجبال فيهيل كثبان الرمال … لم يعد يشتاق إلى النسيم العليل! كلا … بل القوي العنيف … وربما كان يتوق إلى الريف الأصيل «الغيطان المفتوحة للسماء» … وربما آن للطبيعة التي حبست في قمقم روتينه وسلوكه الاجتماعي، أن تنطلق كالمارد «وتأكل كل حاجة في سكتها»!
لم يعد الخرتيت في نظر «جان» كائنًا خرافيًّا بشعًا … وإنما ابنًا حقيقيًّا للطبيعة «وإيه طبيعي أكثر من الخراتيت» … أي إنه أصبح صورةً للطبيعة التي افتقدها في العادة التي كادت تصبح طبيعةً ثانيةً له … وهو لهذا لا يتردد مطلقًا، إنما ينطلق دونما حدود.
بيرنجيه ومأساة الانتماء
إن بيرنجيه، كما سبق أن قلنا، لم يعرف الانتماء إلى مجتمعه ونظمه وأشكال سلوكه المألوفة مطلقًا … وهو ينبذ حياة الفكر الجامد، ويكاد يرى أنه هو نفسه غير موجود (يقول له جان: فكر وأنت موجود) … وهو لا يكترث للواقع ويرى أن الحياة حلم (يساعده على ذلك إدمانه للشراب) … وهو لا يضع نفسه في الصورة الاجتماعية (المحترمة)، لأنه لم يحاول التكيف، فهو طفلٌ صغير … يلقنه جان مبادئ الانتماء، وتعده ديزي بتعليمه «حابقى شاطر وأذاكر» … ومكافأةً له ستصحبه ديزي من يده «ونخرج نمشي على شط السين» … «ونروح جناين لوكسمبرج» … وهو يطيع نزواته الطفولية، فيصفع حبيبته ثم يعتذر لها في الحال … أي إنه — باختصار — لا يعرف الضبط الاجتماعي، أو التكيف مع الناس.
ولا يقتصر عدم انتمائه على كسره لقواعد السلوك وأنماط التفكير المألوفة … إنه يعني أيضًا عدم ارتباطه شعوريًّا بالناس من حوله … (رغم الشوق الدفين في داخله إلى المثل الاجتماعي الكامل … المجسد في جان) … إنه برغم حبه لدودار، يعترف بسروره لتحوله؛ لأن وجوده كان عقبةً في سبيل وصوله إلى حبيبته ديزي … ويعلق على ذلك قائلًا إن السعادة آلة أنانية … وفي هذه الكلمة «أنانية»، وفي العبارة التي ينتهي إليها مونولوجه الطويل «الإنسان اللي يتمسك بفرديته دائمًا ينتهي نهاية وحشة …» بل وفي كل خطوات مونولوجه الذي يبحث فيه عن ذاته ويتساءل عن حقيقة كيانه وسط المجتمع، تكمن بذور مأساته … إنه لم يعرف الانتماء مطلقًا … ويعتقد أن ذاته هي «مركز الكون»، وأن كل ما يحدث أمامه فحسب «مش كان حقه يمسك نفسه شوية قدامي … مش عيب يعمل كده مع أقرب صديق له …» إنه مسجونٌ داخل ذاته ولم يحاول مطلقًا أن ينظر إلى الأمر نظرةً موضوعية مثل نظرة دودار …
إن دودار يحاول أن يدرس الموضوع دراسةً موضوعية خارجية، ولا يجرؤ على إصدار حكم دون بحث الأمر من جميع نواحيه … بل يعترف بأننا لا نستطيع البت في الشر أو الخير دون تجربة شخصية … وهو ينتهي إلى تفضيل الأسرة العالمية الشاملة على الأسرة المنزلية الصغيرة؛ ولذلك فهو يتحلى عن ديزي وينطلق حسب قانون انتمائه إلى زملائه في العمل … وفي اللهو … وفي «الحلوة والمرة» …
إن المسرحية في الفصل الأخير تتحول إلى قضية انتماءٍ محضة … وهنا نجد لمسة التحول تكتسب معنًى جديدًا.
لم تعد المشكلة أن الناس تحولوا إلى خراتيت أو أي حيوانٍ آخر … وإنما أصبحت في حياة الناس … في آرائهم أو مشاربهم أو أمزجتهم وأهوائهم، أو أي جانبٍ آخر من جوانب حياتهم … إن تيار الرأي العام هنا يجرف كل شيء في سبيله … الدنيا كلها تتغير … سواء إلى خيرٍ أو شر … (وبرنجيه يرى في الخراتيت جمالًا غريبًا … في غنائهم … وفي صورهم … وفي كل ما يتعلق بهم)، ولكنه هو لا يريد أن يتغير، إنه في هذه اللحظة فحسب يصل إلى التكشف الكلاسيكي، الذي يجسد له مأساة الانتماء، أو بالأحرى عدم انتمائه فينهار … ويصل في انهياره إلى مصافِّ الأبطال التراجيديين …
(٣) الثورة على العبث
في عام ١٩٧٦م طاف فرناندو أرابال، الكاتب المسرحي الفرنسي الذي ارتبط اسمه بمسرح العبث في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، بعدة عواصم ليشهد إخراج بعض مسرحياته (العبثية) غير حافل بما يمكن أن تثيره الاختلافات المحتومة في التفسير وفي الرؤية، بل وفي معناها الأساسي نفسه، نتيجة أولًا لاختلاف المدارس المسرحية من بلدٍ إلى بلد، وثانيًا لاختلاف اللغة التي كانت تقدم بها مسرحياته المترجمة، وذلك لأنه كان يعتقد أن مسرح العبث قد قضى تمامًا أو كاد على «الفروق المحلية» كما يسميها، ووضع أساسًا صلبًا للنظرة أو التناول المسرحي عن طريق التوسل بالحركة، أي حركة الجسم على المسرح، والتي أصبحت تمثل لغةً عالمية تستطيع أن تقوم بدور التوصيل والتواصل الخلاق، الذي كان يعهد به إلى الكلمة في تراث الإنسانية المسرحي.
كان أرابال متفائلًا وسعيدًا لأنه كان قبل قيامه بهذه الرحلة، قد اشترك في عدة ندواتٍ حول ما يُسمَّى بالتحول في اللغة المسرحية، والنهضة التي تفرد بها ذلك الفن في آخر الستينيات؛ إذ كتب يقول:
«في أواخر الستينيات كثر الحديث عن أن المسرح قد اكتشف جسم الإنسان، وقد اشتركت في عدة ندوات حول هذا الموضوع، ماذا كان يقصد بهذا؟ كان يقصد به أن وسيلة التوصيل الرئيسية، والتي كانت في مسرح العبث هي الكلمة أو النص المكتوب، قد اضطرت إلى التخلي عن مكانها لشكلٍ آخر من أشكال التعبير، وهو الصورة أي الحركة وإلى حد كبير أيضًا جسم الإنسان نفسه، وقد اهتم دارسو هذا المسرح بكل ما قدمه «المسرح الحي» وجروتفسكي ومسرحياتي أنا شخصيًّا.»
وهكذا فقد كان التحول الداخلي في مسرح العبث يبتعد به عن لغة يونسكو الغريبة، وعن رؤى بيكيت السوداء، ويقترب به مما أسماه جان لوي بارو أولًا «بالمسرح الكامل»، ثم أعيدت تسميته «بالمسرح الشامل»، ثم أعيدت تسميته مرةً أخرى بمسرح الحركة أو مسرح جسم الإنسان، كان هذا إذن هو سر تفاؤل أرابال بإخراج مسرحياته في تلك العواصم، التي تختلف فيما بينها اختلافات جوهرية في اللغة والرؤية والمفهوم، كما ساعده على هذا التفاؤل قدرة الحركة على تعرية مناطق في النفس البشرية، لا تستطيع اللغة أن تصل إليها، والمناطق التي يسميها علماء النفس بالجزء الغارق تحت الماء من جبل الجليد الطافي، إذ لا يمكن للغة التي تمر قبل خروجها إلى النور بمصفاة العقل والمنطق، أن تصل إلى ما يكمن داخل البشر من انفعالاتٍ قضي عليها أن تظل حبيسة، أو أن تظل غارقةً هي الأخرى في غياهب الجهل والخوف الذي يمليه نظام المجتمع، أو أي نظامٍ بشري يقوم على المنطق السوي.
مسرح التشنجات
ويرجع أرابال هذا اللجوء إلى الحركة وبالذات إلى الحركة العنيفة على المسرح وإلى التعرية الجسدية، إلى التمزق الذي أصاب أوروبا في فترة الازدهار في أوائل الستينيات، والذي ولده التناقض بين الانتعاش الاقتصادي الذي جاء مع نهاية الحرب وبين استمرار الحرب (الحروب المحدودة في الشرق الأقصى، في كوريا ثم فيتنام)، ولهذا فإن عروض الانفعال أو الانفعالات غير المنطقية، والتي يسميها بالتشنجات، لاقت نجاحًا كبيرًا ابتداءً بمسرحية «نحن أو الولايات المتحدة»، مرورًا بمسرح «الأحداث التلقائية» الذي قدمه الأمريكيان جاك سميث وفاكارو، ثم إخراج مسرحية «الجنة الآن» بأسلوب المسرح الحي، وانتهاءً بإخراج فكتور جارثيا لمسرحية أرابال نفسه التي كان عنوانها «مقبرة السيارات»، وبعبارةٍ أخرى فإن ما كان يحدث في المجتمع وعلى مستوى العالم، كان يستعصي على التعبير اللفظي، ومن ثَم كان لا بد من تقديمه في صور مجسدة، أي في صورة أجساد تصور المعاناة والألم والعذاب الذي كانت تتعرض له النفوس.
العودة إلى الكلمة
وعاد أرابال من رحلته تلك ليكتب (في عام ١٩٧٧م) مقالًا أثار عاصفةً من النقاش حول ما أسماه «بالمسرح الجديد»؛ إذ اكتشف في أثناء تلك الرحلة أن ثمة عودة «فجأة» إلى الكلمة أي عودة إلى «المعنى»، إلى ما تقوله الألفاظ وما يمكن للمسرح أن يبني منها حتى في نطاق تقاليد مسرح العبث، ويقول أرابال:
«لك أن تتصور دهشتي البالغة في طوكيو حين سمعت قبل دخولي المسرح، المخرج والممثل الياباني تيرامايا الذي طالما قدم عروضًا حركية يسودها التشنج، سمعته فجأة يسترجع طفولته في مسرحية «استغماية الريف» بنبراتٍ شاعرية، بل وتتخلل تلك المسرحية عدة قصائد، وقبل عرض مسرحيتي الأخيرة في نيويورك اقترح علي فاكارو أن أكتب مسرحيةً كبيرة حول السلام، أما بوب ويلسون فبعد أن كتب مسرحيته الصامتة «النظرة الصماء»، يكتب اليوم أوبرا ناطقة! وبيتر بروك أيضًا … قدم لنا عملًا شيكسبيريًّا يفيض رقةً وعذوبة، هو «تيمون الأثيني»، ويمكن أن نعدد الأمثلة من كل حدبٍ وصوب، إن الذين كانوا أئمة مسرح الحركة والعري والصمت والسخرية قد تحولوا فأنتجوا مسرح خيال تفجرت فيه الكلمة المنطوقة بعذوبتها وغنائيتها لتخلق حياةً جديدة.»
ويتساءل أرابال عما إذا كان الممثل «الحديث» الذي اعتاد الحركة وتدرب على «بهلوانيات» المسرح، ما زال قادرًا على «إلقاء» النص الدرامي الإلقاء الفعال: والمشكلة تشبه مشكلة الرسامين الذين اعتادوا الرسم التجريدي سنوات وسنوات، حتى لم يعودوا قادرين على رسم ذراع أو أصبع! والمشكلة أكبر وأضخم بالنسبة للمخرج الذي اعتاد طوال هذه السنوات ألا يكترث للمعنى ولتصوير الانفعال الصوتي مكتفيًا بتصويره حركيًّا … أما المؤلف فإنه مضطرٌّ إلى إعادة النظر في الإطار المنطقي لمسرحيته؛ إذ لم يعد ثمة مكان للعبث في مسرحٍ عادت إليه الكلمة!
ويبدو أن أرابال قد أغضبته الملاحظة التي أبداها ناقدٌ إنجليزي على مقاله من أن هذه العودة إلى الكلمة، أو «نهضة الكلمة»، تتم في وقتٍ تشتد فيه الأزمة الاقتصادية فتطحن الجميع! يبدو أنه قد أغضبته هذه الملاحظة لأنه يرد عليها ردًّا حاسمًا قائلًا:
«أجل إننا لهذا السبب نفسه لا نستطيع تجاهل مصدر كل نشاطٍ خلاق ومصدر كل طاقة … في البدء كانت الكلمة!»
ويبدو أيضًا أن المعركة لم تنته بعد بين الكلمة والحركة! هذا إذا كانتا لا تستطيعان أن تتعايشا أو تتوافقا في مسرحٍ يُسمي نفسه بمسرح العبث، فهل اختفى مسرح العبث حقًّا؟ ألم يعد له اليوم وجود بين التيارات المسرحية المعاصرة، وخاصةً بعد أن انحسر المسرح الملحمي وازدهر المسرح الشامل والمسرح الوثائقي، وبعد أن أصبحت بعض أشكال المسرح التجريبي أو الطليعي أشكالًا مستقرةً إلى الحد الذي نزع عنها صفة الطليعية؟
خطأ النقد
لم يختفِ هذا المسرح أو ينحسر تياره كما تصور البعض، ولكن الذي تعرض لزلزلةٍ كبرى حقًّا هو التيار النقدي، الذي أصر على تناول مسرحيات رواد هذا المسرح (بيكيت ويونسكو وآداموف وجينيه مثلًا) في إطار «المعنى» أو «المضمون»؛ إذ وصفه النقاد بأنه «عبثي»، أي إنه يقول بصراحةٍ إن الحياة عبثٌ وإنها لا معنى لها، أي إن هذه المسرحيات سلبية تهدم المعنى أو المعاني التي درج البشر على تناولها في المسرح، وأنها من ثَم تمثل صرخة احتجاج ليس على المسرح فقط (مما يقرنها باللامسرح) بل على الحياة نفسها.
وقد شجع هذا التيار النقدي توقف كبار كتاب المسرح الراسخين، ممن أبدعوا مسرحياتٍ تقليدية البناء في الثلاثينيات، والأربعينيات بل والخمسينيات، كما شجعه احتفال المخرجين والممثلين بالحرية الجديدة التي تتيحها نصوص تخرج عن المألوف في كل شيء، ومن ثَم تمكنهم من تخطي الحاجز المنطقي (الواقعي أو الطبيعي)، الذي ساد المسرح منذ نشأة الواقعية الأوروبية في القرن التاسع عشر؛ إذ وجد رجال المسرح في هذه النصوص (العبثية) فرصةً للانطلاق وللإبداع لا يتيحها أي نص تقليدي.
وخير ممثل لهذا التيار النقدي هو مارتن إسلن، الذي أصدر كتابه عن مسرح العبث في أوج ازدهار هذا المسرح، وزعم في مقدمته أنه كتاب لن يطويه نسيان، وركز على أن مسرح العبث يرتكز على موقفٍ محدد جوهره هو:
«إن الأفكار اليقينية والافتراضية والأساسية الثابتة التي سادت العصور السالفة قد طُرحت ظهريًّا، إنها قد تعرضت للاختبار فثبت هزالها، بل إنها قد نبذت بعد أن ثبت أنها أوهامٌ رخيصة وطفولية، ولقد ظل تدهور الإيمان الديني غير ظاهرٍ حتى نهاية الحرب العالمية؛ إذ حجبته أستار الأديان البديلة مثل الإيمان بقيم التقدم والقومية ومختلف الخرافات الشمولية، ثم جاءت الحرب فحطمت كل ذلك، وما إن حل عام ١٩٤٢م حتى وجدنا ألبير كامي يتساءل بهدوءٍ قاتلًا: إذا كانت الحياة قد فقدت معناها حقًّا، فلماذا لا ينشد الإنسان الهرب عن طريق الانتحار؟»
وقد نحا هذا النحو كل ما تعرض لمسرح العبث، بل إن كلمة «العبث»، أو «العبثية»، لتنقل المعنى النقدي خيرًا من كلمة اللامعقول، فمثلما صور ألبير كامي (في أسطورة سيزيف) ضياع الإنسان أي أن محاولاته لإسباغ معنًى على حياته ستذهب عبثًا، قال يوجين يونسكو في مقاله عن كافكا (١٩٥٧م):
«إن العبث هو ما ليس له هدف، فالإنسان يضيع عندما تتقطع جذوره الدينية والميتافيزيقية والروحية، وتصبح كل أفعاله لا معنى لها، ولا جدوى لها، وتذهب عبثًا.»
العبث هنا لا يعني اللهو واللعب، أو العبث بالمقدسات والموروث، ولكنه يعني افتقار الحياة إلى المعنى أي الإنسان قد خلق عبثًا، وهذا فيما يبدو هو المعنى الذي رمى إليه من ترجمة الكلمة الفرنسية أول الأمر، أما كلمة لا معقول التي آثر الكثيرون استخدامها فيما بعد، فليست إذن الخروج عن المعقول أو المنطق لا يمثل السمة الرئيسية لهذا المسرح، وهو إلى جانب ذلك سمة من سمات ألوانٍ مسرحية بل وأدبية كثيرة؛ ولذلك وجدنا أحد أعلام المسرح العربي المعاصر وهو الشاعر صلاح عبد الصبور يرفض الكلمتين؛ ويحاول اشتقاق معنًى جديد لكلمة اللامعقول تقترب من معنى اللامنطقي، فهو يقول:
«لقد ظلمت كلمة اللامعقول حين ألقاها بعض نُقاد المسرح الحديث كثيرًا، إنه ليس مسرحًا لامعقولًا بمعنى أنه مجافٍ للعقل، ولكن بمعنى أنه مجافٍ للقوالب العقلية المسماة بالمنطق، ومن هنا فهو يخضع للعقل العام، وحتى كلمة العبث تبدو كلمةً مخيبة للثقة، من يستطيع أن يعبث في هذا العصر الذي نعيش فيه حتى لو كان ذا نفسٍ عابثة؟» (تذييل لمسرحية مسافر ليل).
الاختلاف الشكلي
ويبدو أن النقاد لم يوفَّقوا في تحديدهم للشكل الذي يتميز به مسرح العبث؛ لأن كُتاب هذا المسرح يحاولون الهروب من الشكل الكلاسيكي وعماده الشخصية، والفعل الإرادي الذي يشكل أساس الحدث والحبكة المحكمة، ويعتمدون على وجود ما يرمز للشخصية ثم يهدمون ما درجنا عليه في التراث المسرحي، أولًا: بإلغاء التطور للحدث والشخصية، وثانيًا: بالخروج بالحوار من منطق التفكير بحيث لا تصبح اللغة أداة توصيل أو تواصل، بل مجرد أداة تعبير ورمز وإيحاء، وثالثًا: باللجوء إلى حيلٍ مسرحية تشتت انتباه القارئ حتى لا يتوقع الانتقال الطبيعي من توترٍ إلى توترٍ حتى النهاية، ومع ذلك فإن النقاد قد أجمعوا على أن هذا المسرح فيه جدة جدير أن يُحتفل بها، وأنه يمثل ظاهرةً جديرة بالوقوف لديها، وهذا ما يحفزنا إلى النظر إليه من زاويةٍ جديدة.
فمنذ أن كتب صمويل بيكيت مسرحية «في انتظار جودو» وحتى نشر دورنمات مسرحية «الشهاب»، يمتد خط تطور واضح مرورًا بيونسكو وتوفيق الحكيم وصلاح عبد الصبور، وهو خط تطور من الفن المسرحي الخالص إلى فن الشعر وبالذات فن الاستعارة، فإذا نظرنا إلى مسرح العبث ليس على اعتباره امتدادًا للتراث المسرحي العالمي، ولكن باعتباره رافدًا للمسرح الشعري، أي المسرح الذي يعتمد في جوهره على الاستعارة الدرامية، وجدنا أنه يبدأ بدايةً عنيفة على أيدي بيكيت وينتهي نهايةً هادئة على أيدي يونسكو وعبد الصبور: أما البداية العنيفة فهي تصوير اللقطة الاستعارية تصويرًا دراميًّا، أي نقلها من عالم اللغة إلى عالم الفعل؛ فعندما يقول الشاعر: «وألقي الإنسان في قمامة الزمان»، يحولها الكاتب المسرحي إلى صورةٍ مجسدة، مثلما يفعل بيكيت في مسرحية لعبة النهاية حين يجعل أبوين يعيشان في صندوق قمامة، وعندما يقول الشاعر «تدور بي دوارة الملال» يحولها الكاتب المسرحي إلى صورةٍ مجسدة لإنسان يدور ويدور في كرسي قعيد لا يزوره أحد، وإن زاره أحدٌ لا يحادثه مثلما يفعل بيكيت في مسرحيةٍ أخرى، وهكذا، فإن هذه الفكرة التي تبدو لا معقولة أو عبثية هي في جوهرها صورة استعارية، بل إن بيكيت قد سبق كثيرًا من الشعراء المعاصرين الذين تحدثوا عن الانتظار المرير عبثًا، حين حولوه إلى حدثٍ يقع بين شخصين تنشأ بينهما علاقةٌ من نوعٍ ما، ودون أن تتطور دون أن يفضي انتظارهما إلى شيء، بل إننا رأينا كتابًا لا ينتمون حسب التصنيف النقدي إلى مدرسة العبث، يستثمرون هذا اللون من الاستعارة مثل مارجريت دورا في مسرحية «أيام فوق الأشجار»، بينما تحولت نفس الفكرة، فكرة الزمن الذي يذهب فلا يجيء أو الزمن الذي يتحول إلى ترابٍ يدفن الفرد، حيًّا إلى استعارةٍ مجسدة في مسرحية «الأيام السعيدة» لصمويل بيكيت، حيث نرى البطلة وقد دفنت حتى منتصف جسدها في التراب، ونرى التراب وهو ينهال عليها ويرتفع حتى يصل إلى رأسها عند نهاية المسرحية.
هذه هي البدايات العنيفة، أي البدايات التي حاول الكتاب عن طريقها زلزلة منطق الواقع الحرفي بإدخال لغة الاستعارة المجسدة، بحيث تصبح استعارةً درامية من نوعٍ جديد، تصيب المتفرج بصدمة الوعي المفاجئ وتدفعه إلى رؤية الواقع من زاويةٍ جديدة.
تطور الاستعارة الدرامية
ولكن هذه البدايات سريعًا ما فقدت طرافتها، فبدأ الكتاب يلجئون إلى تطويرها من الداخل في إطار الشكل التقليدي، حتى يتحقق قدرٌ من التجاوب مع المتفرج، وقد بدأ هذا التطوير على يد يونسكو نفسه حين انتقل من مرحلة الصدمة، مرحلة «المغنية الصلعاء»، وهي المسرحية التي أحال فيها صعوبة التواصل في عالم ما بعد الحرب، إلى استعارةٍ مغرقة في غربتها تستند إلى تمزق أوصال اللغة واستحالة إيجاد نسيج من الكلمات قادر على نقل المعاني التي ارتبكت وتبلبلت في أذهان أبناء أوروبا، حين انتقل من هذه المرحلة الخرتيت، وهي المسرحية التي صور فيها مسخ البشر في عالم الحضارة الحديثة، تصويرًا يعتمد على استعارةٍ كبرى تقوم على المفارقة، كما حدث ذلك التطور أيضًا في مسرحية صلاح عبد الصبور مسافر ليل التي تتوسل بمنهج مشابه في التصور.
إننا نجد في هاتين المسرحيتين نموذجًا حيًّا للاستعارة الدرامية التي توسل بفكرة التحول أو المسخ، أو الميتامورفوسيس، كما ألمح إلى ذلك الدكتور سمير سرحان في مقدمته للنص الإنجليزي لمسافر ليل، وليس الميتامورفوسيس من قبيل العبث على الإطلاق، ربما كان غير معقول شأنه شأن كل استعارةٍ شعرية، ولكنه في الحقيقة قديم قدم الأدب نفسه؛ إذ شغل به الأدباء منذ كتب أوفيد مسخ الكائنات (التي ترجمها للدكتور ثروت عكاشة إلى العربية)، وحتى كتب فرانز كافكا القصة التي تحمل نفس الاسم بالألمانية في مطلع هذا القرن، وكافكا يصور شابًّا يكتشف عند استيقاظه في الصباح أنه قد تحول إلى حشرةٍ كبيرة من خلال استعارةٍ درامية، وهي أنه بينما يتحول هو إلى حشرةٍ نجد أن أفراد أسرته الذين يعيشون حياةً أقرب إلى حياة الحشرات منها حياة البشر، قد تحولوا في النهاية إلى آدميين نتيجة لهذه التجربة.
ولكن الميتامورفوسيس الذي يصوره كافكا يتضمن بذورًا استعارية من لونٍ آخر هي بذور الضحية والفداء، أي الخلاص الذي يتأتى عن طريق الموت؛ ولهذا فإن يونسكو ينتهج نهجًا آخر، إنه يقلب الموقف في مسرحية الخرتيت حين يوسع من نطاق الاستعارة حتى تشمل مجتمعًا بأسره، يرمز لإنسان العصر بشخصية «جان» ولإنسان الغاب بشخصية بيرنجيه، ثم الصدام مع منطق الطبيعة حتى النهاية.
أما «جان» فهو يبالغ في التحكم في رسم حياته كما ذكرنا في دراسةٍ سابقة في هذا الكتاب، وفي ضبط نوازعه حتى الباطن منها، بل هو ينكر أن لديه حاجةً للتنفيس عن طاقاته الحيوية، ويخضعها جميعًا لمواضعات السلوك الاجتماعي، وهو في كل هذا الكبت يصل إلى «اللحظة البشرية الحرجة» التي تنذر بالانفجار، ولا يحدث ذلك إلا عندما يمر خرتيت في شوارع البلدة، خرتيتٌ يرمز للنوازع الخبيئة في نفس جان، وقد أخرجها يونسكو إلى حيز الوجود المجسم، فهو حيوانٌ ذو قوة ضارية وبأس شديد، وهو في الوقت نفسه ينتمي إلى الطبيعة الحية الصريحة التي لا تعرف الكبت ولا المواراة، إنه ابن الطبيعة وحسب! وبينما يسمع جان بأذن عقله الباطن نداء الطبيعة، نجد أن نقيضه بيرنجيه لا يفطن إليه؛ وذلك لأن بيرنجيه لم يعترف بشتى المواصفات الحضارية التي نشأ في كنفها جان، إن بيرنجيه ما زال يعيش في عصر الحرية السحيق؛ ولذلك فهو الشخص الوحيد الذي ينجو من بين أبناء البلدة ولا يتحول إلى خرتيت!
وفي مسافر ليل يتحول عامل التذاكر إلى عدة شخصيات تلتقي عند فكرة التسلط وفكرة التاريخ، فهو استعارةٌ مجسدة للإنسان الذي يستدعيه الفرد من ذاكرته ليدق أعناق البسطاء، وهو يتحول لأن الراكب يتيح له هذه الفرصة فهو تحول إلى حدٍّ كبير من نسج خيال الراكب، بل إن الراكب نفسه يتحول أثناء الحدث إلى رمز استعاري للفرد العادي الذي يسلم قياده لمن لا يعرفه ولا يد له في اختياره، وهكذا كان لا بد من وجود راوٍ ينسج خيوط هذه الاستعارة كأنه الشاعر نفسه الذي يجعل من الموقف اللامعقول أو العبثي موقفًا جادًّا بل بالغ الجد.
وهكذا فإن مسرح العبث لم يكن يرمي إلى تصوير «عبثية» الحياة إلا في مراحله الأولى، أما ما نراه اليوم في نماذجه التي بلغت درجةً كبيرة من النضج، فتدل على اتجاه الكتاب إلى تقديم الاستعارة الدرامية التي أثرت تراثنا المسرحي، وفتحت آفاقًا جديدة أمام المؤلفين والمخرجين والممثلين جميعًا.
(٤) المسرح النفسي
المسرح النفسي (الدراما السيكولوجية) تيارٌ حديث في المسرح الغربي، وهو تيارٌ لم تكتمل صورته بعد، بل إنه، كما يقول «جون راسل تيلور» في كتابه الموجة الجديدة (١٩٧٩م)، ما زال في مرحلة التشكيل، وما زالت ملامحه تمر بمرحلة التبلور التي لا بد منها قبل أن يفرض نفسه على متذوقي المسرح ودارسيه، بوصفه تيارًا أساسيًّا يقف إلى جانب تيار العبث أو الملحمية … إلخ، وربما كانت تسمية «المسرح النفسي» تسميةً غير دقيقة؛ لأن كل عمل مسرحي، بل كل عمل أدبي أو فني، يعتمد على «الحركة النفسية» في المقام الأول، ولكن التسمية لازمة للتفريق بينه وبين سائر الأعمال المسرحية التي تنتمي إلى الدراما الكلاسيكية بمفهوماتها المتعارف عليها، من صراعٍ وتطور وحدث ونهاية محتومة، وأهم من ذلك كله التصور الثابت أو الصورة الثابتة للشخصية، وهذه هي نقطة الانطلاق التي لا بد منها للتعريف بهذا اللون المسرحي الجديد.
بدأ وعي النقاد والكتاب بالتغيير الذي أحدثه علم النفس الحديث في الأدب في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وقد حدد هذا الوعي كتاب الفيلسوف الإنجليزي الحديث «س. أ. م. جود» وعنوانه «دليلٌ إلى الفكر المعاصر»، فهو يخصص فصلًا كاملًا في آخر الكتاب للحديث عن غزو علم النفس للأدب، مُركزًا على الفرق بين مفهوم الشخصية عند كبار كتاب الواقعية في القرن التاسع عشر، ومفهوم الشخصية لدى الروائيين في بداية القرن العشرين، الذين تأثروا بمفهوم «برجسون» عن تيار الشعور أو تيار الوعي، وهو يحدد ذلك بقوله إن المفهوم القديم كان يعتمد على «الثبات»، أي على أن للشخصية الإنسانية ملامح ثابتة ومحددة، وأن القارئ يستطيع أن يتنبأ بما سوف تقوله أو تفعله بمجرد أن يراها أو يقرأ عنها (مهما كانت درجة تطور هذه الشخصية في أعطاف الرواية أو المسرحية)، فالشخصيات التي خلقها كبار كتاب المسرح قديمًا، ثم كبار كتاب الرواية في القرن التاسع عشر، شخصيات تكاد، لثباتها ووضوح ملامحها، أن تقف خارج حدود العمل الأدبي، بل لقد اتجه بعض النقاد إلى مناقشة هذه الشخصيات وتحليلها كأنما هي نماذج بشرية حقيقية لها وجودها «التاريخي»، مثلما فعل «أ. س. برادلي»، الذي يناقش في كتابه «التراجيديا الشيكسبيرية» كلًّا من الشخصيات الرئيسية (بل الثانوية كذلك) في التراجيديات الأربع الكبيرة (ماكبث وهاملت وعطيل والملك لير)، بوصفها «شخوصًا» مستقلة، وربما احتجنا هنا إلى الوقوف لحظةً عند تعريف «الشخصية الفنية»، أي الشخصية التي يصورها الأدب للتفريق بينها وبين «الشخصية النفسية»، أي الشخصية التي توجد في الحياة الحقيقية من حولنا: إن الأدب يصور ملامح مميزة أو معالم نفسية أو خلقية أو فكرية، يجمعها جميعًا تحت اسمٍ محدد، يصير علمًا على هذه الشخصية، فالأديب يفترض أن البشر يشتركون في صفاتٍ أخرى، هي التي تتطلب التخصيص وتدعوه للاتكاء عليها، وليس معنى ذلك أننا لن نجد من بين البشر، من يشترك مع «هاملت» مثلًا في استغراقه الفكري أو نزوعه إلى التأمل، ومن ثم للتردد، وعدم اتخاذ قراره بالسرعة والحسم المطلوبين، ولكننا نميز بينه وبين الإنسان العادي، في نظره، أي الإنسان الذي خلق ليعيش لا ليفكر (كما يقول نوفاليس)، وسواء كانت الشخصية متطورة في العمل الأدبي (أي تنمو وتتغير استجابة للموقف أو الحدث الدرامي الذي تشترك في صنعه)، أو كانت نمطية (بمعنى تصويرها لجانبٍ ثابت من جوانب النفس البشرية لا تتطور في العمل الأدبي)، فإنها في الحالتين لا تمثل إلا جانبًا (أو عدة جوانب متجانسة أو متكاملة) من الشخصية الإنسانية التي توجد في الحياة الحقيقية؛ ولذلك فإن محاولات الكتاب الواقعيين في القرن التاسع إضفاء صفاتٍ أخرى على هذه الصفات «المميزة» بغية الاقتراب من الواقع، كانت تمثل في الحقيقة محاولة للتقريب بين الصفات المميزة والصفات العامة التي يشترك فيها سائر البشر؛ وذلك حتى تتيح للقارئ أو المشاهد أن يدرك إمكانية وجود التناقضات فيها وإمكانية وجود هذه الشخصيات من حوله ومن ثَم إمكانية وجوده هو نفسه في المواقف الدرامية التي يضع الكاتب فيها هذه الشخصيات، أما في بداية القرن العشرين فإن الكتاب قد ازداد وعيهم بمدى «التصنع» في هذا التصوير للشخصية الإنسانية، أو مدى ما يفرضه الفنان من قيودٍ فنية تجعل كل صورة للإنسان في الأدب صورةً زائفة إلى حدٍّ ما، وذلك، كما يقول «س. أ. م. جود» في نفس الكتاب: «نتيجة لمكتشفات علم النفس الحديث والدراسات الفلسفية التي تبين أنه ليس كيانًا مستقلًّا، وأن الحركة الباطنة له تؤكد أنه يتغير على الدوام، وأن محاولات «تثبيت» الشخصية في الأدب تعين الفنان على تحقيق أهدافه فحسب وأهمها التركيز والبلورة.» ولكنها تخرج لنا شخصياتٍ يصعب تصديقها والتعاطف معها.
وقد انعكست هذه البدايات لتغير مفهوم الشخصية في كتابات رواد الرواية النفسية، رواية تيار الشعر، «جيمس جويس» و«فيرجينيا وولف»، كما انعكست في شعر رواد الشعر الحديث، «ت. س. إليوت» و«عزرا باوند»، بمعنى أن الشخصية في كتاباتهم لا تتمتع بأي قدرٍ من الثبات، بل هي تتغير على الدوام، وتصويرها يعتمد على ما يدور في داخل الذهن وفي داخل القلب، ومن ثَم فإن أشعار إليوت مثلًا تفترض الحركة الدائبة في الفكر والإحساس، وتبتعد كل البعد عن الصور الثابتة التي كانت تخرج لنا من شعر أساطين القرن التاسع عشر، مثل «تنيسون» و«ماثيو أرنولد»، ومن قبلهم شعراء الحركة الرومانسية بطبيعة الحال.
ومع هذه البدايات في فترة ما قبل الحرب الأولى، شاعت مفهومات جديدة أتى بها علم النفس الحديث، منذ بدأ «فرويد» يتحدث عن العقل الباطن أو اللاشعور، بحيث شغل الناس في أوروبا وأمريكا إلى حدٍّ ما في فترة ما بين الحربين بالمفهومات الجديدة، التي أخذت تزاحم المفهومات القديمة للنفس والعقل إلخ، وقد ساعد على انتشار هذه المفهومات الجديدة اتساع نطاق العلم الطبيعي والإدراك الجديد لعملية الإبداع الأدبي، وهو الإدراك الذي شجع الاتجاه الجديد في النقد، والذي يصر على تخليص العمل الأدبي من السمات النفسية لمبدعيه، أي إنه يتمثل في محاولة النظر إلى العمل الأدبي لا بوصفه وثيقةً نفسية للكاتب، بل وثيقة للحالات النفسية لدى الشخصيات التي أبدعها في داخل العمل المستقل، والتي تتغير من عملٍ إلى آخر بل من لحظةٍ إلى أخرى في داخل العمل نفسه.
ولكن هذه المفهومات لم تجد سبيلها إلى المسرح بالسهولة المتوقعة، نتيجةً لانشغال الناس بالهزات الاجتماعية العنيفة التي صاحبت نشوب الحرب العالمية الثانية، والتي زلزلت أركان الأفكار المتوارثة من عصور الاستعمار وبناء الإمبراطوريات في القرون الخوالي؛ ولذلك فقد كان الاتجاه الجديد في فترة ما بعد الحرب اتجاهًا فكريًّا واجتماعيًّا بالدرجة الأولى، أخذ أحيانًا صورة المسرح التقليدي، وأحيانًا صورة المسرح الملحمي وأحيانًا أخرى صورة المسرح العبثي، ولكنه لم يقترب أبدًا من المسرح النفسي إلا في أواخر الستينيات ثم في السبعينيات، وليس معنى هذا أن التركيز على القضايا الاجتماعية أو الفكرية قد تضاءل أو تأثر بأي حالٍ من الأحوال، ولكن هذه القضايا بدأت تتخذ صور حالاتٍ نفسية مصوغة في قالبٍ جديد من الاضطرابات العاطفية أو الوجدانية والذهنية التي تتخذ صور الأمراض المعروفة أحيانًا، وصور التهور النفسي الذي يصعب التعرف عليه إلا على أيدي علماء النفس المتخصصين أحيانًا أخرى، وهذا هو الذي يشيع في مسرح «هارولد بنتر» و«دافيد ستوري» على وجه الخصوص.
ويختلف المسرح النفسي عن المسرح التقليدي في أنه ينقل الحدث إلى باطن الشخصيات، كما يختلف عنه اختلافًا أكبر في أنه يجعل هذا الباطن عليلًا أو، إذا استخدمنا التعبير القديم، غير السوي، ولكن كيف يمكن للدراما أن تتشكل من هذه المادة الجديدة أو غير المألوفة، ولكن عدم إدراكنا في الماضي لمعناها جعلنا نضعها في إطارٍ أعم، أشمل وأبعد إلى حدٍّ كبير من الإطار النفسي المحدد، ويكفي أن نذكر بعض روايات وقصص «دوستويفسكي» و«سترندبرج» و«سيرفانتيس»، بل ولا بد أن نشير أيضًا إلى بعض ملامح الاضطرابات النفسية، التي يمكن رصدها في أعمالٍ عالمية لا توحي بها للوهلة الأولى، بما في ذلك أبطال شيكسبير الذين ذكرناهم، وقريبًا رأينا الممثلة البريطانية «جانيت سوزمان» تقوم بدور «أوفيليا»، ورأينا بيتر هول المخرج البريطاني النابه يدافع عن هذا المفهوم دفاعًا لا يمكن دحضه (مجلة المسرحيات والممثلون البريطانية، عدد يونيو ١٩٦٦م)، ولكن الإطار الدرامي لهذه الشخصيات المعتلة هو الذي يختلف اختلافًا بينًّا، وهذا هو ما أرجو أن يكشف عنه تحليل مسرحية البيت ﻟ «دافيد ستوري» ومسرحية «العزلة» أو «الأرض الحرام» ﻟ «هارولد بنتر»، وقد نشرت المسرحيتان بالعربية في كتابٍ مستقل عنوانه: ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي المعاصر (مكتبة الأنجلو، ١٩٨٠م).
وأول مظاهر البناء الدرامي الجديد في المسرح النفسي هو انتفاء وجود حدث بالمعنى التقليدي فماذا يعني ذلك؟ الحدث بالمعنى التقليدي هو حدوث شيء أو وقوع فعل على المسرح، على مراحل متتابعة ومنطقية، أي مراحل تسير في تطور خطي (نسبة إلى الخط المستقيم) صعودًا نحو ذروة معينة، وهذه الذروة في المأساة تتلوها الفاجعة، وفي الملهاة يتلوها التصالح والفرح بعودة المياه إلى مجاريها، وبالتوافق والهناء، وهذا الحدث أو الفعل ينبع بصورةٍ حتمية من تكوين الشخصية كما يكشف عنها في الوقت نفسه، بحيث تصبح ذروة الحدث هي أيضًا ذروة الكشف، أما في المسرح النفسي فإن الحدث الباطن لا يسير في إطار خطي نحو الذروة، ولكنه يدور في أنصاف دوائر تتكون كلٌّ منها من لحظة تقابل بين إحساسٍ وإحساس، أو بين فكرةٍ وفكرة، بحيث لا نتقدم مع الحدث زمنيًّا، أي إننا لا نسير نحو نقطةٍ زمنية محددة، بل ندور مع المشاعر والأفكار لنعود إلى نقطة البداية، ثم نسير ثانيًا في دورةٍ جديدة لنعود مرةً ثانيةً إلى نقطة البداية وهكذا، وهذه الدوائر، أو أنصاف الدوائر، تتخذ عادةً صورة الحركة المجهضة، إذ إن كل محاولةٍ من جانب الشخصيات للتوصل إلى نقطة اتصال أو تواصل، يمكن معها إنشاء علاقة من نوعٍ ما، يبدأ معها حدثٌ من نوعٍ ما، تواجه بالإجهاض، ولنر كيف يستخدم دافيد ستوري في هذا النمط من الحوار الدائري موضوعاتٍ متكررة، مثل الإشارة إلى السحاب والزوجة في بداية مسرحية البيت، فعندما يرتفع الستار نرى أمامنا على المسرح رجلين هما هاري وجاك، وهما يعانيان من مرضٍ نفسي غير محدد، أو على الأقل لا يفصح عنه المؤلف، ويبدو أنهما يعرفان أحدهما الآخر، إذ ينادي كلٌّ منهما صاحبه، ومن ثَم يبدأ الحوار الذي نعرف منه أن جاك كان يعمل (قبل هذا المرض)، بتوزيع الأغذية المعلبة في محلٍّ للبيع بالجملة، وأن هاري كان يعمل مهندس تدفئة، ونعرف أيضًا أنهما من أسرٍ مشتتة وحسب، ويستمر الحوار بينهما على مستوًى خارجي، أي إنه يدور حول موضوعاتٍ عامة، فإذا اقترب من الحياة الشخصية توقف نهائيًّا، وانتقل فجأةً وفي سرعةٍ إلى موضوعٍ آخر، حتى ينتهي المشهد الأول دون حدوث أي شيء بالمعنى المفهوم، ولكن هذا نفسه هو بمنزلة الحدث؛ لأنه يفصح عن عجز الذهن الواعي لأيٍّ منهما على الخوض في المأساة الشخصية الخاصة به، وهكذا فنحن نجد هذه الدورات أو الحلقات الحوارية التي تتكرر في المسرحية:
أ
ب
وليس هاري فقط هو الذي يشير إلى السحب، فالواضح أن المؤلف يمزج بين الحياة النفسية لكلٍّ منهما بصورةٍ معقدة:
ﺟ
د
ونحن لا نفهم بطبيعة الحال مدلول هذه العبارات، حتى نصل إلى نهاية المشهد الأول، فندرك أن الإشارة إلى الزوجة لا أساس لها من الصحة، وأن معظم مثل هذه الإشارات إما كاذبة أو أنها تمثل محاولات للهرب من الموضوعات الحساسة التي لا يمكن لأيٍّ منهما أن يشير إليها صراحة؛ ولذلك فنحن لا ندرك أن زوجة هاري قد هجرته إلا في نهاية المشهد الأول، وبعد حلقاتٍ حوارية تمثل موتيفات متكررة، ويمكننا أن نرصد الدائرة الكبيرة لهذه الموضوعات العامة، وأن نحدد من تكرار هذه الموتيفات أهميتها النفسية لكلٍّ من الشخصين، إذا تأملنا تتابع موضوعات الحوار التالية: حالة الجو، الزوجة، نزلاء المصحة، الأقرباء، الريف، الزوجة، الجيش، الأقرباء، الحرب، الزوج، الزهور، نزلاء المصحة، المدرسة، العمل بالدين، الرقص، المدرسة، الأسماء، الأقرباء، المشي، الحرب، الأقرباء، المناطق الاستوائية، الجزر البريطانية، الزوجة، النقود، الأقرباء، حادثة سيارة، الأقرباء، الوقوع في البحر، الصيد والبحر، تقاليد البحر الإنجليزية، الكفر، الفتيات، الرياضة، التواصل، نزلاء المصحة، الزواج، الأقرباء، الحياة العائلية، الأطفال، الأقرباء، آدم وحواء، الجنة، الأقرباء، تقاليد الرجولة، رمز العصا والشارب، الأقرباء، الحرب، الغرق، الأقرباء، نزلاء المصحة، الأقرباء، التبشير، النزلاء، الأقرباء، اللعب السحرية، الحرب، الأقرباء، الحرب، الأسرة، العمل، الأقرباء، مأساة الانفصال عن الزوجة.
والواضح أن تكرار الإشارة المباشرة إلى الأقرباء، وهم يشملون بعض درجات القرابة دون غيرها، تكرار متعمد؛ ولذلك فعندما يقدم إلينا المؤلف الإشارة المباشرة إلى الانفصال عن الزوجة، ندهش للصيغة المباشرة التي تكتسبها هذه الإشارة خصوصًا حين تكون الانطباعات العامة عن انشغال هاري وجاك بالزوجة والحياة العائلية قد اكتملت، وأكدت لنا تأكيدًا سلبيًّا مدى أهمية هذه التيمة في حياة كلٍّ من هاري وجاك:
ﻫ
ويبدأ المشهد الثاني بالتقاط هذا الخيط، فيقدم إلينا امرأتين هما مارجوري وكاثلين، وهما تعانيان من أمراضٍ مماثلة، ولكنهما تختلفان عن الرجلين في أنهما تفرطان في الحديث المباشر الصريح، ومن ثَم فهما تمثلان الوجه المقابل للحديث المقتضب الملتوي الذي شهدناه في المشهد الأول، ونحن نفهم من حوارهما أن كلتيهما مشغولة بالرجال بطريقتها الخاصة، والمؤلف يصورهما تصويرًا هو أقرب إلى التصوير المألوف في الدراما التقليدية، فيهبهما أبعادًا محددة واضحة، ويرصد مأساة كلٍّ منهما على مراحل تتخللها إشارات واضحة إلى الموضوع الذي يشغلهما، ألا وهو الجنس الآخر، وبعد أن يلتقي الأربعة (حين يدخل هاري وجاك إلى المسرح)، يتخذ الحديث بينهما طابعًا مزدوجًا، فالإشارات الملتوية الرمزية من جانب هاري وجاك، تقابلها إشارات واضحة من جانب المرأتين:
و
والانشغال الدائم بكل ما يتصل بالجسد (ومن ثم بالجنس) واضحٌ في حديث كاثلين، التي تفسر أي تعليق على أنه إشارة جنسية، في حين تتجه أفكار مارجوري دائمًا إلى تصوير صاحبتها في صورة من لا تهتم إلا بالرجال، وهي تلح طوال الوقت على هذه التيمة، ومارجوري تبرز لنا من خلال الحوار في صورة امرأة متوافقة مع إخفاقها! وما أدى إليه من تمزقٍ في نفسيتها، فهي لا تشكو ولا تتذمر (على العكس من كاثلين)، ولكنها تعترف بأن الإخفاق له متعته، وهي ما تفتأ تردد عبارات تنم عن ذلك، فكأنما تستسلم لليأس وتجد فيه لذةً نادرة، وهي تعترف أيضًا بأنها ما تفتأ تنتقل من مصحةٍ نفسية إلى أخرى لأسبابٍ لا يدركها إلا الأطباء؛ ولذلك فإنها أقرب الشخصيات إلى عالم الأسوياء؛ ولذلك أيضًا فإن تعليقاتها تكتسي مرارةً ودلالاتٍ ساخرة يفتقر إليها حديث الباقين، وحين يلتقي الأربعة في هذا الجزء من الفصل الأول تكون مارجوري هي المصدر الموثوق به للمعلومات:
ز
وهكذا، فعندما ينتهي المشهد الثاني تتضح لنا أبعاد حالة نفسية عامة، تبرز دراميًّا إلى السطح دون حدث تقليدي، ودون صراع بالمعنى المفهوم؛ إذ إن الأربعة يشتركون في صنعها، ويسهمون في تكوينها، إننا أمام تهرؤ نفسي يتخذ صورتين متكاملتين: أولاهما صورة الذهن العاجز عن مواجهة المشكلات النفسية الأساسية، الذي يهرب لهذا السبب من مواجهتها، فتتقطع به السبل، ويفقد صلاته الحيوية بما حوله، وهو ما يترجمه دافيد ستوري، دراميًّا، إلى حوارٍ ممزق، يتناول المشكلات ولا يفصح عن المرض النفسي إلا إفصاحًا غير مباشر، وذلك عن طريق التيمات المتكررة في المشهد الأول، والصورة الثانية هي صورة الذهن الذي واجه هذه المشكلات وهزم أمامها، وأيقن أنه لا مهرب له من العلة التي يئن تحت نيرها، مهما اختلف إلى المصحات النفسية؛ ولذلك فقد قصر اهتمامه على من هم حوله في محيطه المباشر، وانطلق يتحدث أحاديث مطولة غير مترابطة، وهي الصورة التي يقدمها المؤلف في المشهد الثاني.
وعندما تلتقي الصورتان في الفصل الثاني ينشأ الصراع الدرامي من محاولة كلٍّ منهما، عبثًا، السيطرة على الجو العام، وقد تتاح لنا الفرصة لإدراك بعض مظاهر الأمراض النفسية التي تعاني منها هذه الشخصيات، ولكن المؤلف يتعمد عدم الإشارة إليها إشارةً واضحة.
فمثلًا تقول كاثلين: «صاحبك جابوه هنا علشان كان بيجري ورا البنات الصغيرين.» ويكاد هاري يعترف بأن هذا صحيح، ولكن الموضوع يتغير سريعًا، كما أن كاثلين تعترف بأنها انفصلت عن زوجها، وبأنها حاولت الانتحار، أما مارجوري فنحن نعلم أنها أصيبت بانهيارٍ عندما فقدت عملها في أحد المحال التجارية، وأنها تنتقل من مصحةٍ إلى مصحة دون أملٍ في الشفاء، وإنها مرت بتجربة «الغرفة المبطنة» في المصحة، وهي تواجه الواقع دون خوف، وتواجه جاك بمشكلته وهي أنه يطارد الفتيات في الطريق العام، ثم تعترف بأنها لا تريد أن تترك المصحة على الإطلاق.
والنهاية في المسرحية غريبة مثل كل شيء فيها، فنحن لا نصل إلى ذروةٍ بالمعنى المفهوم؛ لأنه ليس ثمة حدث بالمعنى التقليدي، ولكننا نظل ندور في هذه الدوائر كأننا نتطلع إلى نفوس الشخصيات من خلال ستارٍ من الضباب، ما يفتأ يكشف عن لمحات، ويحفل بصورٍ متقطعة تتجمع لتكون الصورة النهائية، التي يصفها المؤلف بأنها صورة «عادية»، أي إن المؤلف لا يهتم بالشاذ أو الغريب اهتمامه بالملامح العادية للنفس البشرية، وقد قال تعليقًا على الأمراض النفسية التي يعالجها هنا:
«ليست هذه الأمراض خاصة بمرضى المصحة، فهي أمراض نعاني منها جميعًا وإن كنا لا ندرك أننا مرضى، وأن بداخل كلٍّ منا بذور هذه الأمراض، ولكننا قد تعلمنا أن نحيا بها، أي أن نتقبلها ولا نلتفت إليها، بل إن من يلتفت إليها قد تشتد حالته ويضطر في النهاية إلى اللجوء إلى الطبيب، وربما دخول المصحة أيضًا.»
ولهذا فإن المأساة هنا لا بد أن تتخذ طابعًا فريدًا، فهي مأساة مقدمة في قالبٍ خفيف تسوده السخرية من الأوضاع الاجتماعية في بريطانيا اليوم، ولا تغيب فيه روح الفكاهة عن الحوار مطلقًا، ولا شك في أن كُتَّاب المسرح النفسي قد استفادوا من تجارب مسرح العبث في إخراجهم لهذه الصيغة المسرحية الجديدة.
•••
أما «هارولد بنتر» فإنه يتبع منهجًا مختلفًا في مسرحيته العزلة (أو الأرض الحرام)؛ لأنه يعتمد على مفهوماتٍ محددة أتى بها علم النفس الحديث، تمتد جذورها إلى «فرويد»، وأهم هذه المفهومات مفهوم تكامل الشخصية، وعملية التفرد، عند «يونج»، ومفهوم علاقة الذهن الواعي بالعالم الخارجي وبالأذهان الواعية الأخرى، على أساس سيطرة أحدهما على الآخر بما يشبه علاقة السيد بالخادم أو الحر بالعبد، التي صورها الفيلسوف «هيجل» ومع تطور الرؤية الدرامية لهارولد بنتر من مسرحياته الأولى (التي كانت تشتمل على عددٍ كبير من الشخصيات)، إلى مسرحياته الأخيرة التي يتضاءل فيها العدد إلى أربع شخصيات أو خمس، ازداد اهتمامه ازديادًا واضحًا باستخدام المادة النفسية في إخراج نوع من الصراع الداخلي، بحيث يتجسد خارجيًّا في شخصياتٍ مستقلة، تمثل كلٌّ منها جانبًا من جوانب النفس الواحدة، وتمثل في تصارعها تلك الحركة الداخلية التي يحس بها الفرد، ولا يستطيع إدراك مدى ديناميكيتها إلا عن طريق الدرس العلمي والتحليل، وفي مسرحية العزلة يقدم لنا الكاتب بطلَين هما «هيرست» و«سبونر» بحيث يكونان معًا نفسًا واحدة، أي إنهما يمثلان نزعتَين أو جانبين نفسيين، أولهما يرفض التغيير مع مقدم الكهولة، فيظل حبيس الشباب الغارب، تعسًا يعاني من سطوة الزمن الذي لا يرحم، والثاني يقبل التغيير ويتصالح مع الزمن فيغدو فقيرًا محطمًا برغم سعادته البادية، ولاستحالة التوفيق بين هذين الجانبين يظل البطل في المسرحية ممزقًا وضحية للصراع المحتوم داخله.
ولكن المسرحية لا تبدأ بهذا الصراع مباشرة، بل تبدأ بتقابل هادئ بين حالةٍ من حالات الوعي الواضحة وحالةٍ من حالات اللاوعي، والمؤلف يجعل «هيرست» البطل المحوري، فهو صاحب المنزل، وهو ثري، وله أتباع، ولكنه يعيش في حالة وعي ظاهري، أي إنه لا يحيا أي لحظةٍ من لحظات اللاوعي وينكره الإنكار كله، وهو يحبس نفسه في داخل هذا الإطار الظاهري، شاغلًا نفسه بما يدور حوله، في حين تتحرك في أعماقه مشاعر وأفكار لا تنتمي إلى الحاضر مطلقًا، بل هي من الماضي تحيا بالماضي وللماضي، أي إنه شخصيةٌ معقدة نتيجةً لهذا الازدواج في حياته الشعورية ولإنكاره إياه.
وبداية الحدث هنا تختلف عن الدراما التقليدية في أنه يواجه شخصيةً تمثل اللاوعي الذي ينكره، بل هو «يصادف» شخصيةً تمثل حياته الحاضرة بتفاهتها وفراغها، تلك هي شخصية «سبونر» الذي يلقاه على ربوة هامستيد في أثناء تجواله وحيدًا، ومن خلال هذه الشخصية المطابقة له نفسيًّا وجسديًّا … إلخ، يبدأ المؤلف في إماطة اللثام عن الجانب الواعي في حياة هيرست، أي إن كل تكشف لأبعاد شخصية سبونر هو كشف لأبعاد الحياة الواعية السطحية لهيرست (وبعد ذلك، كما سنرى في الفصل الثاني، تؤدي هذه المواجهة إلى خروج اللاوعي من أعمق أعماق هيرست).
ويصور المؤلف هذه المواجهة تصويرًا دراميًّا بأن يجعل سبونر يتحدث طوال الوقت كأنه وحده الذي نراه، في حين يقتصر حديث هيرست على ترديد أصداء ما يقوله، وهنا نفهم على الفور أننا أمام جانبٍ واحد من جوانب الشخصية، وهو جانب وعيها بعزلتها، وبعدم اهتمام الناس بها، وبإحساسها الصادق بأن هذه اللامبالاة هي مصدر قوتها الحقيقية:
هذا الموقف هو موقف هيرست الحاضر، وهو لا يعيه، أي أنه الموقف الذي يتخذه في حياته الواقعية دون أن يدري به؛ إذ إنه في أعمق أعماقه ينشد اهتمام الناس، ويحاول إقامة علاقة ما معهم، ومواجهته الآن بهذا الموقف تجعله ينكره ويسرف في شرب الخمر، ونحن نعرف أن هيرست كان يتجول فوق ربوة هامستيد حين «صادف» سبونر، أي حين التقى بالجانب الآخر من شخصيته، فماذا كان يفعل هناك وحده؟ الإجابة يقدمها إلينا سبونر على لسانه هو نفسه:
ومعنى هذا واضحٌ، فالعزلة التي يفرضها عالم الحاضر على هيرست تجعله يسترق النظر إلى الحياة من حوله، وكله أمل في أن يعاود الارتباط بهذه الحياة، وهو ليس استراق النظر إلى العشاق الذين يتجولون على الربوة، ولكنه، قطعًا، استراق النظر إلى الناس وحسب، وسبونر يوضح ذلك توضيحًا قاطعًا حين يؤكد ضرورة الإبقاء على المسافة كاملةً بين النفس المنعزلة وما يدور حولها:
وعندما يبدأ هيرست في إدراك دلالة هذا الحديث يجد نفسه منساقًا، برغم أنفه، إلى الوعي بما كان ينكره، ويجد أن هذه المواجهة لن تؤدي إلا إلى قلقلةٍ أو بلبلةٍ ربما لم يستطع تحملها، فيزداد إقباله على شرب الخمر، وذلك في منتصف الفصل الأول، فيقع مغشيًّا عليه أو يغيب عن الوعي حقًّا وصدقًا! وحتى هذا الانسحاب الواضح يتحول دراميًّا إلى حركةٍ رمزية على المسرح؛ إذ يحاول هيرست الهجوم على سبونر ويرميه بالكأس فلا تصيبه، ويتحدث سبونر عن «لهجة العداء» في حديث هيرست، ويحاول أن يطلعه على ما يفكر فيه فيكشف له أخيرًا وفي صراحةٍ عن وحدته، وكيف يعيش في الماضي (على مستوى الحقيقة النفسية)، في حين ينكر الحاضر الذي يعيشه يوميًّا دون أن يتوافق معه، ومعنى هذا أننا نصل هنا إلى جوهر الصراع بين العقل الواعي واللاوعي، الذي يقابل فكرة التكامل عند «يونج»، ونحن نعرف أن «يونج» يعني بالتكامل مبدأ التصالح بين هذا وذاك، وبحيث يقبل الذهن الواعي متناقضات اللاوعي، وبخاصةٍ في مرحلة التغيير، أي الانتقال من مرحلة الشباب إلى الكهولة، أو من أي مرحلةٍ من مراحل العمر، تتسم بنشاطٍ وإنتاج وحرية وانطلاقٍ إلى مرحلةٍ أخرى يقل فيها نشاطه، وتتقلص فيها حريته وقدرته على الإنتاج الخلاق، ومن ثَم تقل فيها قدرته على الاستمرار في نمط الحياة الذي كان قد اعتاده طوال سنوات وسنوات، والذي كان يمثل لديه قمة تحقيق الذات، وإنكار هذا التحول في شخصية هيرست هو الذي يمنعه من تحقيق التكامل … وتشرح فريدا فوردام، تلميذة يونج، ما يقوله أستاذها قائلة:
«إن مشكلة الجزء الثاني من العمر هي أن نجد معنًى جديدًا للحياة … وربما كان من الغريب أن نعثر على هذا المعنى، وهذا الهدف في ذلك الجانب من الشخصية الذي نتجاهله دائمًا … ذلك الجانب الأدنى والمتخلف (إن صح هذا التعبير)، ومع ذلك فإن الكثيرين لا يستطيعون مواجهة هذه الإمكانية، بل يفضلون أن يتمسكوا بقيم الشباب، بل إنهم ليمارسونها بصورةٍ مبالغ فيها … ومن ثَم فلا يمكنهم إدراك معنى التفرد.»
وفي الجزء الباقي من الفصل الأول نجد صورةً مقابلة لهذه الصورة في شخصيتين أخريين، هما بريجز وفوستر، تقابلان شخصيتَي هيرست وسبونر، وتحققان التكامل فيما بينهما؛ لأنهما تمثلان مرحلة الشباب الغاربة، إنهما كذلك شخصٌ واحد، فلسنا نعرف عنهما أي شيء وأحيانًا يقول أحدهما إنه يعمل في هذا المنزل، وأحيانًا يقول إنه ابن هيرست، وأحيانًا يقول إنه لا يعمل على الإطلاق، وكل ما نعرف عنهما هو أنهما يمثلان جانبين متكاملين من جوانب نفسٍ شابة واعية نشيطة، وبعد تأكيد هذه اللقطة يعود هيرست بعد فترة نومٍ قصيرة ليتولى هو الحديث.
وهنا يحول المؤلف بؤرة الصورة إلى هيرست، فنراه وقد تخلص من كابوس سبونر فعاد إلى أعماقه الحقيقية، أعماق الرجل الذي يحيا في الماضي ولا يود أن يتركه، والماضي هنا يتخذ صورة الأحلام والرموز:
(ينظر إلى سبونر.)
من هذا؟ صديق لكما؟ ألا تعرفونني به؟(ينظر إلى سبونر.)
من هذا الرجل؟ هل أعرفه؟(بريجز يعطيه الزجاجة.)
إنني أجلس هنا إلى الأبد.عمَّ كنت أتحدث؟ الظلال، الأضواء من خلال أوراق الأشجار، القفز والتواثب بين الأشجار … العشاق الصغار، شلال صغيرة، كان حلمي البحيرة، من كان يغرق في حلمي؟
كانت تعمي البصر، أذكرها، لقد نسيتها، أقسم بكل مقدس، توقفت الأضواء واشتد لذع البرد، هناك فجوة في داخلي لا أستطيع أن أملأها، هناك نهرٌ يفيض من خلالي، لا أستطيع أن أوقفه، إنهم يطمسونني، من الذي يفعل ذلك؟ إنني أختنق، إنها وسادة، وسادة معطرة تضغط على وجهي، إن أحدهم يحاول قتلي.
إنني أجلس في هذه الغرفة وأراكم جميعًا، هل أنا نائم؟ لا يوجد ماء، لا أحد يغرق نعم نعم، هيا هيا، صفروا، تكلموا، إنكم تسخرون مني يا أولاد اللئام، ظلالٌ تعمي البصر، ثم شلال.
وعند هذه الذروة يصل المؤلف إلى نهاية الفصل الأول، بعد أن جعل المواجهة صريحةً ومحتومة بين الماضي والحاضر، الماضي الكامن الخبيء الدفين في اللاوعي، وقد خرج الآن إلى المسرح، والحاضر الظاهر الذي يعاني من العزلة واللامبالاة، والذي لا يكتسب معناه إلا من وجود ممثله سبونر على المسرح أيضًا، ولكن الفصل الثاني يقدم إلينا تغييرًا شاملًا لمفهوم الصراع بعد هذه المواجهة؛ إذ يصبح الوعي واللاوعي نوعين من الحالات الشعورية، أو نوعين من الوعي، يمكن تسمية الأول بالوعي القائم، والثاني بالوعي الدخيل، أو الوعي الغاصب وهذه الفكرة تعد تطويرًا للفكرة الأصلية، برغم أنها مستمدةٌ من مصدرٍ مختلف كل الاختلاف وهو «هيجل»، ويذهب بعض شراح هيجل إلى أنه يصور الصراع بين الذهن الواعي والعالم الخارجي، تصويرًا جدليًّا في كتابه «ظاهريات العقل»، بمعنى أن للمؤثرات الخارجية، سواءٌ منها الطبيعي أو البشري أو الفكري، قدرة على غزو الذهن الواعي والاستيلاء عليه في مرحلة النمو، وأن الذهن عندما يتعرض لهذه القوة الغازية يكتسب طاقةً على هزيمتها (حتى يحتفظ باستقلاله وصحته)، وذلك بأن يستوعبها ويتمثلها، أي يمتصها امتصاصًا كاملًا، ولكنه حين يبدو له أنه قد انتصر عليها، يكون في الحقيقة قد أتاح لها أن تحتله، أي أن تعيش في داخله، وأن تكون لها حياتها الحافلة التي يمكن أن تتنازع السيطرة عليه مع حياته الواعية نفسها؛ ولهذا فإن سبونر يصبح في الفصل الثاني رمزًا للحاضر الذي يمثل هذه المؤثرات، التي تحاول أن تشد هيرست من عالم الماضي القائم في اللاوعي إلى عالم الحاضر الواعي السوي.
ومثلما يتناوب الوعيان السيادة في ذهن الإنسان، كما يقول «إيفان سول»، أحد شُراح هيجل، نرى أن الفصل الثاني يدور حول عودة هيرست إلى امتلاك زمام الموقف من خلال قدرته على التحكم الكامل في الحياة الشعورية المشتركة، وذلك عن طريق إحياء الماضي إحياءً نابضًا ومتوهجًا؛ إذ يتحول الصراع هنا بين «المعنى» الكامل في ذكريات الإنسان التي تشكل تيار وعيه الحاضر، وبين «اللامعنى» الذي يقدمه الحاضر، أي إن القضية تتحول من اهتمامٍ بالزمن إلى معنى الزمن، وعندما يبين هيرست لقرينه النفسي سبونر أنه يسيطر تمامًا على الزمن القائم في أعماقه، يثبت أنه سيد الموقف:
لقد حدث التغير إذن بانتصار هيرست، ولكنه تغير يعيد الموقف في المسرحية إلى بدايته، فالوعي القائم ينتصر على الوعي الدخيل، ونعود إلى الموقف الأصلي قبل خروج الحاضر إلى السطح، إن هيرست موقنٌ الآن باستحالة التغيير، ونفسه الواعية ليس لديها ما تعيش عليه سوى قيم الشباب، وحين يواجه هذه اللحظات الحية في حاضره يزداد يقينًا بأنه سجين الماضي، وبأن العزلة هي قدره الذي لا منجاة له منه، والمؤلف في الحقيقة يجعله يواجه عزلته، قدره ومصيره الجديد، بشجاعةٍ ترفعه إلى مصاف البطولات الدرامية، إنه يحاول أولًا أن ينكر الحلم الذي رآه ورأى فيه إنسانًا يغرق، ثم هو ينكر إمكانية الخروج من المأزق الذي وضع نفسه فيه؛ لأنه لا يستطيع تغيير موضوع الحديث!
نعم … صحيح … إنني أسير نحو بحيرة … يتبعني شخصٌ ما من خلال الأشجار، غبت عن نظره بسهولة … أرى جثةً في الماء … تطفو على السطح … أنفعل … أنظر وأتأمل فأرى أنني كنت مخطئًا … لا شيء في الماء … أقول في نفسي رأيت جسدًا يغرق ولكنني كنت مخطئًا، فلا شيء هناك.
(صمت.)
(إظلامٌ بطيء.)
وهذه النهاية المحتومة ترتفع بصراع هيرست مع الزمن إلى مستوى الصراع المأسوي، فهو يتبين الآن أن لا أمل له على الإطلاق في التخلص من عزلته، وأنه برغم جموده قادرٌ على تخطي الزمن، إن الماضي لديه وعيٌ حي، وهو يجد في حياة هذا الوعي بديلًا عن كل ما قدمه الحاضر، ممثلًا في سبونر، من مغريات الحركة والنشاط، ولكنه في الوقت نفسه يموت موتًا بطيئًا؛ لأن استمرار الحياة في هذه العزلة أشد إيلامًا، فهو عذاب الوعي الدائم.
إنه النوع الوحيد من الموت الذي نقبله على مسرح اليوم، وربما كانت هاتان المسرحيتان تمثلان النموذج الصارخ للمسرح النفسي؛ ولذلك كان لا بد من التعرض لهما ببعض التفصيل، ومع ذلك فإن الكثير من الكتاب يجدون في هذا اللون من الكتابة مجالًا جديدًا للغوص في النفس البشرية، ولكن دون اللجوء إلى مثل هذا الغموض والتعقيد، أما إذا كان هذا اللون من المسرح قادرًا على اتخاذ مكانه وسط التيارات الكلاسيكية الثابتة، فهذا ما سوف يجيب عنه مسرح الثمانينيات.
(٥) المسرح الأفريقي
باستثناء «وول سوينكا» الكاتب النيجيري اللامع الذي حصل على جائزة نوبل في الآداب، لا يكاد القارئ العربي يعرف أحدًا من كتاب أفريقيا المسرحيين، وإن كان الاهتمام بشعر أفريقيا وقصصها قد ازداد، عندما «اكتشف» العالم عبقرية «سوينكا» الفذة في المسرح والشعر جميعًا.
وقد أتيح لي على مدى عشر سنواتٍ كاملة أن أشهد مسرحيات أفريقية قدمتها فرقٌ مختلفة، تمثل تيارات في المسرح الأفريقي في إطار ما كان يُسمَّى بمهرجان المسرح العالمي، وهو المهرجان الذي أقامته فرقة شيكسبير الملكية في مسرح الأولدويتش في لندن خلال شهور الصيف عام ١٩٦٥م إلى ١٩٧٥م، وقد كتبت عن بعض المسرحيات التي شاهدتها آنذاك في مجلة المسرح الأولى ومجلة الجديد، محاولًا إبراز الخصائص التي تميز بها مسرح البلدان الأفريقية حديثة الاستقلال وحديثة العهد بالمسرح الأوروبي، أي بالشكل المسرحي المعروف الذي أصبح عالميًّا بعد الطفرة التي أحدثتها وسائل الإعلام في ربط أجزاء العالم بعضها بالبعض، والتقريب بين شتى مدارس المسرح واتجاهاته، أيًّا كانت درجة الخصوصية والتميز في كل شكلٍ محلي تقليدي، يستمد مادته من تراثٍ قومي محدد.
وكانت مسرحية الطريق للكاتب «سوينكا» من المسرحيات التي بهرتني وكتبت عنها، وكذلك مسرحية أخرى مقتبسة عن مسرحية ماكبث لشيكسبير، تميزت بالتفسير الأفريقي للأسطورة القديمة التي بنى عليها شيكسبير مسرحيته، وتغلغلت بصورةٍ ما في تراث أفريقيا الحديث الذي تميز في الستينيات (عند التحرر) بالاضطرابات السياسية الهائلة وألوان الصراع على الحكم، وتضارب المذاهب السياسية والعقائدية رغم اشتراكها في مناهضة الاستعمار للرجل الأبيض، كان الإعداد المسرحي لمسرحية ماكبث يعتمد على الحركة الجسدية الدائبة التي جعلها المخرج بديلًا عن الشعر، وعن التأملات الفردية التي تفيض من مونولوجات الشخصيات المحورية في شيكسبير، وهي حركة تعتمد على التشكيلات الجماعية والرقصات القبلية على أنغام الطبول، بحيث كانت التجربة أقرب ما تكون إلى المسرح الشامل الحديث، الذي يستخدم الفنون السمعية والبصرية بدلًا من الاتكاء على الكلمة.
وفي تلك الآونة نشب خلافٌ (لا أظنه غريبًا عنا) حول مفهوم المسرح الأفريقي، وضرورة احتفاظه بشخصيةٍ مستقلة تميزه عن المسرح الأوروبي، وكان من أكبر دعاة هذه الدعوة نُقاد إنجليز ومخرج مسرحي لامع هو «جون تاينان»؛ إذ كتب في ١٩٧٢م يقول:
«إننا نريد أن نرى كيف يحس الأفارقة بالواقع، وكيف يترجمون واقعهم الحالي إلى لغة المسرح … ولكننا نريد أيضًا أن نرى كيف تختلف لغة مسرحهم عن لغات المسرح المتعددة في أوروبا …
فالمسرح الهندي القديم غارقٌ إلى أذنيه في الديانات الهندية المتعددة ولا يمكن فصله، حتى في صورته الحديثة، عن الطقوس والشعائر السائدة اليوم … أما المسرح الأفريقي فهو يتصل بحياة الناس اليوم وبالأمس، ولن نستطيع أن نفهم هذه الحياة إلا إذا فهمنا لغة المسرح الأفريقي الخاصة …»
ولكن هذا الرأي أثار معارضةً تستند إلى حجةٍ بسيطة وهي: لماذا تختلف لغة المسرح استنادًا إلى اختلاف الواقع؟ و: ألا يمكن أن نعبر عن الواقع المختلف باللغة الإنسانية المشتركة؟ وكان رائد هذا الرأي مخرجًا من جزيرة «أنتيجا» اسمه «جوزيف كنج»، و«أنتيجا» هي إحدى جزر الهند الغربية التي أقامت مهرجانًا لفنونها الشعبية في مسرح «سكالا» بلندن في صيف ١٩٦٥م؛ إذ قال:
«إن الرجل الأبيض لا ينتظر أن يشاهد إلا الرقص والغناء القبلي في مسرحنا … إنه يصر على أننا لا نستطيع أن نتكلم لغته المسرحية.
ولكنه لن يفهمنا إلا إذا تكلمنا لغته المسرحية مهما كان واقعنا مختلفًا عن واقعه … فلنقدم الرقصات والأغاني … ولكن ينبغي أيضًا أن نقدم المسرح الحديث كما يعرفه العالم في الستينيات …»
ولم يحسم الخلاف في ذلك العقد الحافل، عقد الاستقلال، لكنه أثر في مسار الكتابة الأفريقية تأثيرًا واضحًا؛ إذ برز تياران رئيسيان أولهما يركز على استخدام التراث الأفريقي، بهدف «تأكيد الحضارة الأفريقية العريقة خاصةً في البلدان التي قسمها المستعمرون إلى دويلاتٍ، وهي في الحقيقة ذات هوية مشتركة» (كما يقول بوب ليشواي في معرض حديثه عن مسرحه). والثاني يطالب بتطوير أشكال المسرح الأفريقي القديمة حتى يمكن تقديمها للعالم باللغة التي يفهمها.
وبينما كان التركيز في الستينيات وبداية السبعينيات على غرب أفريقيا، حيث برز تيار «الكُتاب السود» أو الأفارقة الذين أجادوا اللغات الأوروبية واستخدموها في الإبداع الأدبي وبالذات الفرنسية والإنجليزية، نشط منذ أواسط السبعينيات في شرق أفريقيا تيارٌ يختلف بعض الشيء في محاولته الدائبة للمزج بين الواقع الأفريقي الجديد، واقع ما بعد الاستقلال، وبين الأشكال المسرحية الحديثة، وأنشئت في تلك الآونة دور نشر كثيرة عُنيت بتقديم الكُتاب الجدد، وأكثرهم ما زال يكتب الأدب والنقد حتى الآن، وأهمها دار نشر شرق أفريقيا، ومقرها في نيروبي، كينيا، ويشترك هؤلاء الكتاب في عدائهم لتراث الرجل الأبيض الذي يرونه شرًّا عليهم؛ إذ يتمثل في عددٍ من المفاهيم المدمرة والمتهرئة معًا وأهمها امتياز الرجل الأبيض، والتنمية الرأسمالية، والاستعمار، وقد أوردتها بهذا الترتيب تبعًا لأهمية كلٍّ منها في المرحلة الأخيرة، إذ إن هؤلاء الكتاب (ولا يستثنى من ذلك روائيو نيجيريا وغرب أفريقيا بصفةٍ عامة)، يرون أن الشر الأكبر هو ما زرعه الرجل الأبيض من كراهيةٍ للون في نفس الرجل الأسود … وهم يبنون على هذه الفكرة كل ما يتصل بتراث الرجل الأبيض من شرورٍ تتجلى في الاستغلال الذي تقتضيه النظم الرأسمالية البالية، وفي النزوع إلى السيطرة والهيمنة أي إلى تغليب منطق القوة في العلاقات الإنسانية، وأهم مظاهره هو الاستعمار بطبيعة الحال.
وقد عارض بعض كتاب شرق أفريقيا، استنادًا إلى هذا المفهوم، التيار الأساسي الذي سار فيه النقد الأدبي الأوروبي لتراث أفريقيا؛ لأنه في رأيهم يعتمد على التفرقة بين ما يرونه ذا قيمة كبرى (أي أدب الرجل الأبيض)، وما يرون أنه جذابٌ وجديرٌ بالدراسة لغرابته وطرافته (أي تراث أفريقيا السوداء)، فمثلًا خرج علينا أحد كتابهم المتميزين (وله عدة مسرحيات منشورة) وهو جون روجاندا، بمقالٍ مسهب في الملحق الأدبي لصحيفة التايمز اللندنية، يهاجم فيه كتاب «مسرح أفريقيا السوداء» لمؤلفه أنطوني جراهام هوايت (١٩٧٤م)، برغم امتيازه ودقته العلمية المتناهية بسبب إصراره على التفرقة بين مسرح الرجل الأبيض ومسرح الرجل الأسود، وقد عجبت لهذا الهجوم فالفروق واضحة، والمؤلف لا يصدر أحكامًا قيمةً وإنما يرصد الاختلاف فحسب، ولكن ربما كان السبب الحقيقي للهجوم هو اقتصار الكتاب على دراسة المسرح النيجيري (وغرب أفريقيا بصفةٍ عامة)، وبالتحديد على مسرح وول سوينكا و. ج. ب-كلارك.
وعلى أي حال فإن أواخر السبعينيات قد شهدت تطورًا، ما أحسبه إلا تطورًا طبيعيًّا للمسرح الأفريقي؛ إذ اهتم المؤلفون على اختلافهم بمشاكل تختلف اختلافًا بينًّا عن المشاكل التي تعالج في مسرح ما قبل الاستقلال، وسوف أضرب المثل هنا ببعض المسرحيات المنشورة بعد صدور ذلك الكتاب، وأهمها مسرحية غضب الأسلاف (تأليف بوب ليشواي)، وماميا الأسود (تأليف جون روجاندا) وولدي من أجل حريتي (تأليف كينيث واطيني)، والسيول (تأليف جون روجاندا) (١٩٧٩م) ومسرحيتا الأعزب المتزوج وخيانة في المدينة لفرانسيس إمبوجا، وهذه المسرحيات المنوعة تشترك في شيءٍ واحد، وهو التأكيد على أن الاستقلال لم يضع نهايةً لمشاكل القارة، ولكنه بمثابة بداية لعهدٍ جديد من المشاكل، فكل مسرحيةٍ حتى ولو لم تكن «سياسية» بالمعنى الضيق لهذا الاصطلاح تتعرض من زاويةٍ ما لمشاكل عهد الاستقلال، وإذا شئنا تحديد هذه المشاكل بصفةٍ عامة قلنا إن على قمَّتها في نظر هؤلاء الكتاب مشكلة الحكم، تليها مشكلةٌ تتصل بطبيعة الشخصية الأفريقية، وتليها مشاكل التنمية أي التطوير واستعمال أطر غير عربية، أو كما يحلو لهؤلاء الكتاب أن يسموها «غير شمالية».
أما مشكلة الحكم، وهي المحور الرئيسي لمسرحية خيانة في المدينة، فتتصل بالنظم العسكرية التي جاءت إلى الحكم مباشرة في أعقاب حروب الاستقلال، وكانت جزءًا طبيعيًّا من عملية الاستقلال نفسها، فأدباء المسرح في شرق أفريقيا يُبدون أشد القلق إزاء استمرار هذه النظم، حتى بعد تثبيت دعائم الاستقلال وانتفاء الحاجة إلى وجود «الدبابات في الشارع»، وهم يشعرون بأن وجود العسكريين على قمة السلطة، يمثل لونًا من استمرار الاحتلال أو «الاحتلال المستمر»، فالحكم العسكري يقتضي تأجيل الديمقراطية حتى تغيب أخطار الوجود الأجنبي؛ ولذلك يفضل الأمن على الكفاءة، ويخلق المجال للفساد السياسي، وهو العدو اللدود الذي تنبغي محاربته دون هوادة، المشكلة الثانية هي تأكيد اختلاف أبناء القارة الأفريقية عن شعوب الشمال، ومحاولة تأصيل جذورهم الحضارية في القارة، وكما يقول «روجاندا»:
«لقد أنسانا الاستعمار حضارتنا القديمة … إننا لسنا عالةً على حضارة الآلة الحديثة، وليست حضارة الآلة الحديثة هي الحضارة الوحيدة … وليقل من يعارضني كم كتابًا كُتب عن حضارات أفريقيا القديمة؟ لقد أراد الرجل الأبيض أن ينسينا أن لنا حضاراتٍ عريقة وشخصية تنبع من هذه الحضارات.»
وباختصار، فإن كُتاب المسرح الأفريقي واعون كل الوعي بضرورة الالتحام الثقافي مع أبناء أفريقيا نشدانًا للجذور الحضارية الأصلية وتأكيدًا لها، بعد أن كاد الاستعمار أن يقنعهم أنه جاء ليقدم إليهم «الحضارة»، أما المشكلة الثالثة وأنا أركز هنا على الخطوط العامة العريضة فحسب، فهي وسيلة التنمية والازدهار بأساليب أفريقية أي بأساليب متحررة من استغلال الرأسمالية، وشرور النظم الأوروبية القائمة على هيمنة الدولة على شتى مناحي الإنتاج والعمل، وما تزال هذه القضية مثارًا للجدل العنيف خارج المسرح، أما في المسرح فهي تتخذ صور السخرية من محاكاة الأفارقة للغرب، وقد كانت إطارًا لأكثر من كوميديا أفريقية.
(٦) مسرح الطقوس والشعوذة
طالعتنا أخيرًا صحيفة المسرح البريطانية بمقالٍ موجز يتساءل فيه أحد النقاد قائلًا:
«إلى أي حدٍّ كان «الانتحار الجماعي لطائفة معبد الشعب» عملًا دراميًّا؟ لا أحد ينكر أنه كان عملًا مسرحيًّا بمعنى أن العناصر المسرحية التقليدية وبخاصة الطقوس والتقمص والعلنية والتجسيد والإبهار كانت موجودةً جميعًا، ولكن هل كان ذلك، إلى حدٍّ ما أيضًا، دراما؟»
والتفرقة هنا بين المسرح والدراما غير جديدة على دارسي الأدب والمتخصصين في الدراما، فالمسرح وكل ما ورثته البشرية من تقاليده موجودة في حياتنا اليومية، بل ويصعب تصور أي حياةٍ بشرية مهما بلغ «تقدم» المجتمع دون عناصره السالفة الذكر، أما الدراما فتنصرف بصورةٍ أخص إلى فن الدراما، أي ذلك الفن الأدبي الذي ارتبط في أول أمره بالمسرح، ثم تطور حتى شمل مجالاتٍ أوسع وأعم، مع احتفاظه إلى حدٍّ كبير بالمقومات الأساسية المعروفة مثل الصراع والتطور والحبكة، وتكشُّف الشخصية إلى آخره.
ومن اليسير، حتى على غير المتخصص، أن يدرك ذلك الفارق إذا تأمل الحياة اليومية لأي مجموعةٍ من البشر، ما زالت تحتفظ بعلاقاتها البشرية المباشرة، فالبائع الذي يحاول في سوق القرية أن يستحوذ على انتباه واهتمام سامعيه بغية ترويج سلعة معينة (من شربة الحاج محمود إلى الراديو كاسيت) يقوم بعملٍ مسرحي، بل إنه قد يؤدي دورًا مسرحيًّا حقيقيًّا إذا «تسلطن» وتقمص دورًا يتطلب منه أن يقول أشياء معينة قد يؤمن بها وقد لا يؤمن، كما أنه قد يندمج في دوره فيضيف إليه أشياء «صادقة» نابعةً من حياته الواقعية أو الشعورية، وذلك في مناسبات «طقسية» أو مرتبطة بمواعيد شعائر معينة (مثل السوق أو بعد صلاة الجمعة)، وقس على ذلك أي فردٍ يتصل عمله بالجمهور، إذ قد يجد نفسه في موقفٍ يقتضي منه أن يلعب دورًا خاصًّا يختلف عن الدور أو القناع الاجتماعي الذي يستخدمه كل فرد، بل إن الجمهور قد يشترك معه في «العمل المسرحي»، إما بمجرد التجاوب أو بالاشتراك الفعلي في «العرض المسرحي» بأن يتبادل معه الكلمات أو الانفعالات، ويكفي أن نذكر التفاعل بين المعلم أو الخطيب وبين سامعيه، أو حتى رئيس كناسي البلدية الذي رأيته في أوج الانفعال وهو يشرح لمرءوسيه من الكناسين واجباتهم ويتبادل معهم حوارًا مشحونًا بعناصر المسرح.
والدراما موجودة أيضًا، بطبيعة الحال، في حياتنا اليومية، ولكن على مستوًى يختلف تمامًا عن هذا، إذ يمكن أن نشهدها على صورة «نص غير مكتوب» أثناء تفاعل مجموعة مترابطة من البشر أي مجموعة علاقات إنسانية قوية، ولا حاجة بنا إلى أن نشتط في ضرب الأمثلة … فكلنا يعرف كيف يتحول الحديث حتى في المنزل بين أفراد الأسرة (وليس بالضرورة بين النساء فقط أو بين الزوج وزوجته)، إلى حوارٍ درامي يفصح عن تياراتٍ خفية تتحكم فيها القوى والنوازع في النفوس، بحيث يتبلور في صراعٍ يسير في اتجاه أزمةٍ معينة وتعقيد معين، بل قد يؤدي إلى ذروةٍ قد تنتهي بملهاةٍ وقد تنتهي بما يشبه المأساة!
ولقد تأثر المجتمع في عصرنا هذا بالدراما التي انتشرت في أجهزة الإعلام تأثرًا كبيرًا، لم يتسنَّ لأحدٍ أن يدرسه الدراسة التي يستحقها بعد، ومع ذلك فلا تخفى علينا اللحظة المسرحية التي تمر أو تومض أثناء أداء ذلك «النص غير المكتوب»، مثل لحظات الانفجار الشعوري التي تشهدها كل أسرة، وتلك المونولوجات التي يؤلفها ويخرجها ويمثلها صاحبها لكي يحدث تأثيرًا معينًا في سامعيه خارج نطاق دوره الاجتماعي المرسوم، بل إن هذه اللحظات قد تتكرر إلى أن تتخذ الشكل النمطي الذي يعرفه دارسو الدراما، وما زلنا نرى في مجتمعنا «أنماط» الابن الثائر «المراهق» الذي يثور على سلطة والده، ويلقي مونولوجه المألوف والزوجة المظلومة أو الزوج المقهور إلى آخره، دون أن يمثل هذا جزءًا هامًّا من الدراما الحقيقية لحياتهم جميعًا.
ولكن ثمة تفرقة أخرى بين المسرح والدراما تعتمد على العناصر المشتركة أكثر من اعتمادها على الاختلاف، إذ ينبغي أن نفرق بين المسرح والدراما على أساس استخدامهما المشترك لعنصر «الرمز» و«التمثيل»، بمعنى أن المشاعر الكبرى أو المعاني التي لا يستطيع ذهن الفرد استيعابها في صورتها الأصلية، تتعرض للضغط في صورةٍ صغيرة والرمز لها إما بالحركة أو بالكلمة أو بالفعل الرمزي، وهذا هو ما ذهب إليه البروفسور ريموند وليامز في محاضرته الافتتاحية التي ألقاها عند تعيينه أستاذًا للدراما بجامعة كيمبريدج، قائلًا إن عالمنا الذي يصغر يومًا بعد يومٍ نتيجةً لتغلغل أجهزة الإعلام فيه وربطها المتواصل لأجزائه، ما يفتأ يحتاج إلى الاستعانة بالصور «المضغوطة» أو الرموز، التي تتيح للفرد أن يطل على العالم الخارجي بصراعاته وتياراته من نافذةٍ صغيرة «كالتلفزيون» مثلًا أو «الصحيفة اليومية»، أي أن يرتبط بدراما الحياة الخارجية عن طريق حشدٍ كبير من الصور والرموز، دون أن يفقد صلته بعالم المسرح الحي بطقوسه وعلانيته وأدواره وإبهاره، أي إنه بينما تخلق الدراما للفرد في هذا العالم «رموزًا مضغوطة» يحتاج إليها في حياته اليومية حتى يستوعب المشاعر والمعاني الكبرى، ويهيئ له المسرح أن يطلق هذه الرموز للعمل في النطاق الأولي لها، وهو نطاق الطقوس والعلانية والإبهار، وهكذا فإن المسرح والدراما يشتركان في استخدام عنصر «التمثيل»، ويختلفان في توظيف هذا العنصر؛ إذ تسير الدراما به نحو اكتساب أو بلورة الوعي، بينما يخرج المسرح به نحو الحركة والكلمة والفعل الرمزي … أي نحو التعبير عنه وتجسيده.
هل كان «الانتحار الجماعي لطائفة معبد الشعب» عملًا دراميًّا إذن؟ وإذا كان مسرحيًّا بالمعنى الذي سبق تحديده فما دور المسرح الحديث بألوانه المتعددة، وخاصةً تلك التي تدعو للعودة إلى جذوره الطقسية في هذه الكارثة؟
فلننظر أولًا إلى المحاولات المبكرة التي جرت في بريطانيا، بلد المسرح الأولى، للعودة إلى مسرح الطقوس، والمحاولات الأكثر جرأةً لإلغاء الوهم المسرحي تمامًا، وإشراك المتفرجين فيما يدور أمامهم بجعلهم «أعضاء» في العرض المسرحي، وقد أدت المحاولات الأولى التي جرت في بداية هذا القرن (١٩١٠–١٩١٤م) إلى خلق نوعٍ من المسرح، ازدهر مع الجمعيات السرية شبه الدينية المتطرفة، والتي استغلت تيار العودة إلى الدين وركبت موجته، في محاولة للنفاذ إلى الجمهور العريض بدعوى تقديم تجارب روحية توصل المشتركين إلى جوهر وعي الإنسان، ونوع آخر يعمل على تحطيم دعائم المسرح التقليدي بإشراك النظارة في كل ما يدور في المسرح (ولا أقول على خشبة المسرح إذ أصبحت هذه الخشبة العدو الأول)، ومن ثَم فهو يختلف عن بريخت بعدم الاكتفاء بإزالة الحائط الرابع، والإصرار على إزالة الخشبة المسرحية نفسها بخلق مواقف يضطر فيها المتفرج إلى الاشتراك عمليًّا بالقول والفعل في العرض المسرحي دون إعدادٍ سابق.
أما الأول فربما كانت جذوره ترجع إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، عندما قام آليستر كرولي بإنشاء «مسرح الطقوس الدرامية»، الذي كان يهدف إلى إثارة جو خاص يهيئ للحاضرين (من قائمين بالعرض ومتفرجين) أن يصلوا إلى حالةٍ من الانغماس فيما يحدث، والإحساس بوجود كائن غريب يسيطر عليهم جميعًا ويوجه خطواتهم، كائن شبه وثني لأنه يتوسل بالأساطير البدائية القديمة وآلهة اليونان والرومان ويعتمد على السحر والشعوذة، وأهم من هذا كله فهو كائنٌ نفسي أو حالة نفسية، يصل إليها الموجودون جميعًا عن طريق الطقوس التي يجرونها في جوٍّ من السرية والإثارة والرعب.
ولننظر الآن إلى جوهر هذا المسرح: إنه ينبثق من كل ما يفرق المسرح عن الدراما، أي يعتمد على الاختلاف بين العرض المسرحي باعتباره عرضًا تفاعليًّا بين «مؤدين» و«نظارة»، وبين الدراما باعتبارها فنًّا متكاملًا ومستقلًّا، ولهذا فهو أولًا يحل الطقوس محل النص المكتوب، ثم يركز في الشعر والحركة والموسيقى على خطٍّ رمزي لمأساة الإنسان أو ملهاته على الأرض، تلك التي يحاول فيها أن يجد حلًّا للغز، فيستعين بكل القوى والطاقات (الممثلة في الآلهة الوثنية والكواكب والأساطير … إلخ)، ولكنه يفشل في هذا جميعًا وينتهي إلى أن الحل يكمن في داخل نفسه، وأنه حقًّا ليس في حاجةٍ إلى آلهةٍ على الإطلاق، وأن القانون الأوحد الذي يمكن أن يوصله إلى الحقيقة هو قانون الفوضى أو «افعل ما يحلو لك!»
والتناقض الذي يتسم به مسرح الطقوس الذي أرساه كرولي، هو أن قانون الفوضى أو الحرية المطلقة قانونٌ نظري، لا علاقة له بما كان يفعله في العروض التي وضعت الحرب العالمية الأولى نهايةً لها، إذ إنها كانت تهدف جميعًا إلى خلق حالة من الاستعداد الذهني والنفسي لدى الجمهور، ينتفي معها أي احتمال للحرية الفردية؛ إذ يصبح الجميع أسرى لما يقوله الوسيط الروحي الذي يستخدمه عالمنا هذا منذ مئات السنين بل منذ أيام الأساطير اليونانية الأولى.
ولا يشترك في العرض على المسرح إلا ثلاثة أشخاص: هم كرولي نفسه الذي يقرأ أشعاره الغريبة بمصاحبة عزف على الكمان تقوم به «ليلى وارل»، بينما يقوم فكتور نويبرج بدور الراقص والوسيط الروحي معًا، وأهم ما في العرض هو الجو الخاص الذي يشبه جو حفلات تحضير الأرواح، الظلام والبخور والتفاف المتفرجين حول المسرح الذي لا يرتفع عن الأرض، وارتدائهم أزياءً خاصةً بكل حفلةٍ، حتى يسود جو من التوحيد في مظهر «الأخوة الروحية» كما يسميها، ومن ثَم فهو مدين بجذوره إلى تحضير الأرواح وحفلات «السحر الأسود» التي سادت أوروبا في العصور الوسطى، وفيه يشرب الموجودون جميعًا شرابًا من عصير الفواكه ممزوجًا بالكحول وبعض المورفين أو الهيروين، بحيث يضمن أن يهيئ لدى الحاضرين الاستعداد لتقبل كل ما يحدث وكل ما يقال، عن طريق تعطيل النشاط الذهني الواعي، وبحيث لا يستطيعون التمييز بين حدود الحقيقة وحدود الوهم.
وربما كان من الصعب تسجيل أو تلخيص حبكات تلك المسرحيات الطقسية الخالصة، ولكن لا بأس من تقديم لمحة عن نوع المسرح الذي كانت تقدمه من خلال الطقوس، مكتفين بمسرحية طقوس «اليوسيس» نفسها، فهي تتكون (إذا جاز لنا أن نسميها مسرحية) من سبع حفلاتٍ على مدى سبعة أسابيع، تبدأ في التاسعة مساءً وتستمر إلى الحادية عشرة تقريبًا، وقد تطول أو تقصر حسب مقتضيات «الاندماج»، ولكل حفلٍ عنوان إذ إنه يختص بأحد الكواكب، وهي على التوالي: زحل، والمشترى، والمريخ، والشمس، والزهرة، وعطارد، والقمر، وفي الحفل الأول يرينا المؤلف أنه يحاول أن:
«ينفذ إلى ما وراء الدين السماوي، إلى الأصل، إلى فكرة الإنسان الأولى عن الوجود كما أحس بها، علاقته الفطرية بالكون، بالكائنات الروحية التي تمثلها حركة الكواكب، وتأثيرها على الإنسان وأوامرها للإنسان.»
وبمعنى آخر فإن الحفل الأول يهدف إلى إقرار مبدأ الأوامر التي تأتي من «كائناتٍ روحية» تمثلها الكواكب، ومن ثَم فهو مخصصٌ لإقامة علاقة من نوعٍ ما بين الحاضرين (أو المشتركين)، وبين عالم السحر الذي يدعو إليه؛ ولهذا فإن احتفالات زحل لا تركز حول الأسطورة الأصلية التي يستمدها من أقاصيص اليونان (قبل أيام ديونيسيوس، والاحتفالات التي أدت إلى إنشاء المسرح)، بل تركز حول تلك المحاولة اليائسة من جانب الإنسان لحل لغز الكون، وحتمية اعتماده على الشعوذة والسحر …
والفصول الستة التالية تمثل محاولة الإنسان للاتصال بالآلهة؛ إذ يختص كل كوكب بفكرةٍ معينة، فزحل يرمز للشيخوخة، ولا يعطي الإنسان سوى كلمة واحدة إجابةً على تساؤله وهي «اليأس»، وكذلك فإن المشترى الذي يرمز إلى الكرامة والحكمة، يتضح أنه عاجزٌ جنسيًّا ونفسيًّا، والمريخ (الذي يرمز إلى القوة الجسدية والبطش) يتضح أنه أبله، وكذلك الباقون، وفجأةً في آخر العروض الطقسية هذه يهبط رب الأرباب (بان)، فيعطي للإنسان السر وهو الغرض والمنطق الأساسي، فيوجهه نحو حياة الروح الحرة أي التي لا تتقيد بمقتضيات المجتمع، بل تنصاع فقط لأوامر الروح التي لا يعرفها إلا كرولي نفسه!
وأهم ما يعنينا في هذه العروض جميعًا والتي أصبحت تاريخًا يُروى، هي أنها تعود اليوم إلى الحياة بعد نصف قرن، أي في السبعينيات! فكأنما ضاق الإنسان حقًّا بكل الحلول التي قدمها إليه التقدم والعلم … بل والتبحر في شتى مناهج الدين (على اختلافها)، فأراد أن يرجع إلى عالم البدائية المطلق، أراد أن يعود إلى حيث وجد نفسه أول الأمر، محاطًا بألغازٍ وأسرار لا يستطيع أن يعرفها ولا ينبغي له أن يعرفها، وهكذا وجدنا في هذا العقد عشرات من العروض في مختلف البلدان الأوروبية (وفي أمريكا بصفةٍ خاصة)، تحاول المزج بين السحر والشعوذة والطقوس البدائية من جانب، وبين معطيات الدين السماوي من جانبٍ آخر، ولن يتسع المجال للدخول في تفاصيل هذه العروض، ولكن يكفي أن نذكر واحدًا أو اثنين، وليكن ذلك الذي احتفل به في واشنطن نفسها عام ١٩٧٤م، واستمر شهورًا بين دهشة المتفرجين الذين دائمًا ما يشتركون في العرض، والذي قوبل باعتراضٍ من جانب النقاد في بريطانيا بصفةٍ خاصة، وهو عرض (ولا أقول مسرحية) «أجو أجورا»، الذي تؤديه فرقة مركز التراث الأفريقي بواشنطن.
وأذكر أنه عندما زارت هذه الفرقة لندن في أوائل ١٩٧٥م قابلها النقاد بعاصفةٍ من النقد اللاذع والسخرية الشديدة؛ إذ لم يستطع منظمو مهرجان المسرح العالمي أن يقبلوا أن العرض مسرحٌ بالمعنى المفهوم أولًا؛ لإيذائه حساسيات المتفرجين باعتماده على إسالة الدماء الحقيقية على المسرح (دماء الدجاج)، وبإصداره الصرخات البدائية، التي كانت تهدف حقًّا إلى إثارة الرعب في القلوب ولمحاولة العودة بالدين إلى الشعوذة والطقوس البدائية، أي باتخاذه تيارًا مضادًّا لكل الحركات الدينية التي سادت أوروبا منذ عصر النهضة.
أما العرض الآخر الذي يهمنا في هذا المقام فهو الذي تؤديه فرقة «الطير والقذارة» التي يرأسها أحد اللاتينيين، الذين يزعمون أن الحل الوحيد أمام المسرح هو تحطيم المنطق التقليدي، والعودة إلى المبادئ التي أرساها أرتو والتي تدعو إلى تخطي حدود العقل الواعي بكل السبل الممكنة، بحيث يحل السحر والشعوذة محل التفكير المنطقي، وهو دوس سانتوس الذي يفعل ما فعله كرولي لإضفاء جو من الواقعية على «العرض المسرحي»، وذلك بأن يشتبك مع الحاضرين في حوارٍ حول حياتهم، زاعمًا أنه على اتصالٍ بأرواح الأجداد والأسلاف القدماء مهما كانت أديانهم، بحيث يستطيع المتفرج أن يندمج تمامًا في كل ما يدور حتى يصل إلى درجة الإيمان:
«الإيمان بما يراه على المسرح وما يتصور أنه يراه على المسرح، إذ يتحول المسرح في هذه الحالة إلى قاعةٍ دينية للهداية، أي إلى الإلهام الخفي الذي لا علاقة له بالحبكة والقصة وما إلى ذلك.»
ويستمر سانتوس، في سياقٍ آخر، قائلًا:
«ينبغي على المتفرج أن يشترك في العروض بأن يطيع ما يحدث أمامه، ما يتلقاه من أوامر، وما يوحى إليه به … ينبغي أن يكون المتفرج عضوًا مشتركًا عاملًا في العرض، وليس منفصلًا عنه بأي صورةٍ من الصور.»
وهكذا انتشرت عروض دوس سانتوس في ولايات كثيرة، وتكونت جمعيات سرية تشجع هذه العروض مثل «إخوان الدم البارد»، وتدفع لها الأموال بسخاء، وربما كان أهمها، على الأقل، ذاك الذي أذكر مشاهد منه على التلفزيون البريطاني، وهو عرض «تصويب الأخطاء» الذي يُنحي باللائمة على الإنسان؛ لأنه ضل الطريق أي طريق السحر واعتمد على النظام، ذلك الشيء الذي لا يوجد حقًّا في أي مكانٍ في عالمنا أو أي عالم.
أما في بريطانيا اليوم فإن أهم فرقة تساير هذا التيار هي فرقة بيب سيمونز، التي قدمت آخر عرض لها في هذا الصدد عام ١٩٧٧م، وهو عرض مسرحي لا علاقة له بالدراما، بل يعتمد على إثارة الخوف والرعب ومشاعر التقزز الشديد لدى النظارة، ويستغل القصة الشهيرة لإدجار ألان بو بعنوان قناع الموت الأحمر، في إدخال النظارة إلى قاعة المسرح نفسها وإثارتهم إلى الدرجة التي ينتفي معها أي إحساس لديهم بأن هذا عرضٌ مسرحي، بل ويتصورون حقًّا أنهم جزءٌ لا يتجزأ من خدعةٍ أو مؤامرةٍ مسرحية.
وهذا هو النوع الثاني الذي يمثل انتهاكًا صارخًا لكل تقاليد الدراما التي عرفناها، ويطالب بأن يكون المسرح مكانًا ومجالًا أوحد لممارسة الطقوس، وأية طقوس تلك؟ إن قناع الموت الأحمر قصة شهيرة أخرجت للسينما، كما اقتبسها الكثيرون في أعمالٍ درامية متعددة … أما فرقة بيب سيمونز فإنها تجعل منها أسطورةً لقضاء الإنسان المحتوم، وللمصير الأسود الذي لا مفر منه، مصير الفناء! أي إنها تعارض أبسط المبادئ التي يرسيها الإيمان الديني، وتبتعد بالمسرح الطقسي تمامًا عما كان يريده كرولي … وهكذا فإن كل عروضها، وهي كثيرة ومنوعة، تركز على أن سر الكون لا يستطيع أحد اكتناهه، وأقصى ما يستطيع البشر أن يتوصلوا إليه هو «الرمز الأول»، أي النمط الفطري الذي صاحب نشأة الإنسان وتطوره، ولا بد له من معايشته إن خيرًا أو شرًّا … فهي تدعو للعودة لا إلى الدين عن طريق السحر، ولكن إلى السحر عن طريق الكفر بكل ما جناه الإنسان، وأحسه على مدى القرون الطويلة التي عاشها على الأرض …
وحينما أشار إلى هذه العروض ناقد صحيفة المسرح البريطانية في مجال عرضه لانتحار أفراد طائفة معبد الشعب، اكتفى بأن استخدم كلمة «قناع»، بدلًا من قناع الموت الأحمر، أثناء محاولة بناء علاقة بين الإيمان الذي يبدو أن أفراد الطائفة يتحلون به، وبين القناع المسرحي الذي وضعوه، قناع الدين! لا أحد يدري بطبيعة الحال حتى الآن ماذا كان دور الجماعات السرية التي تنفق بسخاءٍ على هذه العروض في عملية الانتحار الجماعي تلك، ولكن انتشار عروض فرقة بيب سيمونز والإقبال الذي تلقاه في أوروبا نذير خطر لا شك فيه، خطر على البشرية نفسها قبل أن يكون خطرًا على المسرح.
(٧) من الشعر إلى النثر
مثلما ترتبط نشأة المسرح الأمريكي باسم «يوجين أونيل»، فإن المسرح المعاصر يرتبط باسمين لا يمكن تجاهلهما وهما «آرثر ميلر» و«تنيسي وليامز»، ولقد أراحنا ميلر عناء البحث في حياته، فوضع كتابًا بعنوان «صبيٌّ نشأ في بروكلين»، وملأه بأقاصيص ممتعة عن أيام صباه، مغلفة بحنينه الشديد إلى تلك الأيام، مع ما فيها من قسوة، ولكن الكتاب مع ذلك لا يقدم الحقائق الكافية عن نشأة هذا الكاتب، وبلورة مذهبه الفني كما يراه هو؛ ولذلك فنحن نرجع إلى كتاباته المتناثرة، إما في الصحافة أو في مقدمات مسرحياته، حتى نُكَوِّن فكرةً واضحة عن هذا المذهب.
أما عن نشأته، فقد ولد في مدينة نيويورك في ١٧ أكتوبر عام ١٩١٥م، وحينما أثرت الأزمة الاقتصادية على عمل جده الذي كان يملك مصنعًا ضخمًا، اضطر ميلر الصغير إلى العمل الجاد، فكان يستيقظ كل يوم في الرابعة والنصف صباحًا، لتوصيل الخبز إلى مخبز المنطقة قبل أن يذهب المدرسة، ولا يبدو أن المدرسة قد تركت في نفسه أثرًا في قوة الآثار التي خلفتها ذكريات عمله في توصيل الخبز، وهو يقص علينا في كتابه المشار إليه حادثة انقلاب دراجته وبعثرة الأرغفة، مما أربكه وجعله يخطئ في جمعها ثانيًا فيضعها في حقيبة المدرسة، ويوصل الكتب إلى المخبز! وذكريات تلك الأيام لا تحمل أي انطباعٍ حي عن المدرسة، فيقول إنه لم يكن يشغل نفسه على الإطلاق بالتفكير أو الدرس، وإنما كان همه الأول هو الاستباق إلى ملعب كرة القدم هو ورفاقه، وقد أثرت الأزمة الاقتصادية أيضًا على والده، الذي كان يعمل بمصنع معاطف السيدات، فذهبت بكل شيء … وهكذا نشتمُّ في أيام صباه الأولى في بروكلين نفس الجو، الذي رسمه حول عائلة «لومان» في مسرحية «موت قومسيونجي».
وحين يتخرج ميلر في المدرسة الثانوية عام ١٩٣٢م، لا يستطيع إكمال دراسته الجامعية لضيق ذات اليد، فيضطر للبحث عن عملٍ، حتى يحصل على مصاريف الدراسة، ويلتحق بجامعة ميشيجان، ويقول ميلر، فيما بعد، إن التحاقه بتلك الجامعة لم يكن مبعثه الرغبة في الحصول على درجةٍ جامعية، بقدر ما كان رغبته في الفوز بإحدى الجوائز التشجيعية التي تمنحها الجامعة لمن يتمتعون بمواهب فنية.
وكان فوز ميلر بأول جائزةٍ مسرحية في الجامعة مفاجأةً له؛ إذ يقول إنه حينما فاز بهذه الجائزة لم يكن قد شاهد إلا مسرحيتين اثنتين، لا يذكر منهما شيئًا، ولم يكن قد قرأ إلا عن ثلاث مسرحيات أخرى، بل الطريف أنه سأل أحد أصدقائه كم يستغرق الفصل الواحد، أو كم ينبغي له أن يستغرق؟ ثم اعتمد على إجابة هذه الصديق، أيًّا كانت، لينهي المسرحية التي حققت له الفوز.
وحينما قدمه «جون تشابمان» بعد ذلك في مجموعة «أفضل المسرحيات لعامي ٤٨-٤٩»، وكانت المسرحية هي «موت قومسيونجي»، تحدث عن شخصية ميلر، قائلًا إنه شخصٌ يستطيع أن يقوم بعمل كل شيء بيديه … إذ عمل فترةً ما سائقًا لعربة نقل، ثم جرسونًا ثم عاملًا في مصنع، وربما توحي لنا هذه الحقائق بمظهرٍ هام من مظاهر فن ميلر، وهو احتفاله بالتجربة المباشرة الذاتية، إن الشخص الذي يجرب هذه الأعمال اليدوية ويعاشر العاملين بها، ثم يبدأ حياته الفنية، أيًّا كان الفن الذي يمارسه، لا بد أن يترك آثارًا واضحة لها في فنه الخاص.
وليس لنا في هذا المجال أن نناقش أثر حياة الكاتب في فنه، ولكن يجدر بنا على أي حالٍ أن نستمع إلى رأيٍ يعبر فيه عن مفهومه عن فن المسرح:
«إن معالجتي للكتابة المسرحية والدراما نفسها معالجة «عضوية»، ولكي نوضح هذا وضوحًا ساطعًا ينبغي أن نفصل الدراما عن ذلك الشيء الذي نُسمِّيه الأدب في العصر الحديث، يجب ألا ننظر إلى الدراما بصفةٍ أساسية وأولية من وجهة النظر الأدبية، لمجرد أنها تستخدم الكلمات، وإيقاع الألفاظ والصور الشعرية، قد تكون هذه أشد أجزائها التصاقًا بالذاكرة، هذا صحيح، ولكنها لا تلزم للدراما لزومًا …»
وهذا يفسر لنا إلى حدٍّ كبير اهتمام «ميلر» بالإرشادات المسرحية التي تغص بها مسرحياته، ويفسر لنا أيضًا إهماله، دون شك، للغة باعتبارها فنًّا أدبيًّا وإخضاعها إخضاعًا تابعًا للأجواء الدرامية التي يضعها نصب عينيه، ويوليها اهتمامه الأول، إن اللغة عند «ميلر» لم تعد سوى «عنصر» من العناصر التي يتوسل بها في خلق جوه وشخصياته وحدثه … إلخ، وتصوره للمسرحية لا يرتبط بالنص المطبوع، بل بالمسرحية الحية بأضوائها وتشكيلاتها ومستويات إخراجها على المسرح، ولعل هذا يفسر لنا أيضًا تحوله من شكل الشعر الذي كان يقوله بعض أشخاص مسرحية «مشهد من الجسر» في صورتها الأولى، وهي مسرحية من فصلٍ واحد، إلى النثر، وحذفه لمعظم خصائص الشعر من تحليقٍ للخيال، وصور شعرية ورؤًى مجسدة … إلخ، إلى النثر الذي ارتبط بجو الواقع الذي يتمسك به، في صورةٍ خاصة، في هذه المسرحية.
لم يشر ميلر الذي أعاد كتابة المسرحية إلى تغييرٍ لا شك أنه هام، وهو ترك الشعر الذي كان يسود المسرحية، وإبداله نثرًا عاديًّا، وكثيرًا ما نجد أن الصورة النثرية الجديدة لا تختلف في كليتها عن الصورة الشعرية الأولى، فمثلًا نجد أن أحاديث «رودولفو» الطويلة التي يبدأ بها الفصل الثاني كانت كلها شعرًا (وكانت كاترين ترد عليه نثرًا)، ومع ذلك فالشعر القديم لا يكاد يختلف في حرفٍ عن النثر الجديد، أما فيما عدا ذلك فقد تغير كل ما في المسرحية، ومن أهم هذه التغييرات نمط الحديث «المونولوج» الذي يبدأ به ألفيري المسرحية: فبعد أن يصف عمله بالمحاماة وينتهي إلى التحدث عن الفقراء ومتاعبهم … إلخ، يستمر قائلًا:
وهذا «المونولوج» أكثر ابتعادًا عن شخصية المحامي، ونغماته أشد هدوءًا من نغمات المونولوج النثري، فإن «ألفيري» في المسرحية الأولى متفرجٌ بعيد عن مجرى الحوادث منفصلٌ عنها، أما في المسرحية الحالية، فألفيري نفسه مهاجرٌ إيطالي، وإذن هو ينتمي إلى هذا المجتمع من المهاجرين، ويهيئ له ذلك أن يرسم الصورة التي يرسمها لنفسه من أنه «محام آخر، يرتدي ثيابًا مختلفة تمامًا» ويستمع إلى نفس الشكاوى في صقلية القديمة …
أما إشارة «ألفيري» في المسرحية الحالية إلى «آل كابوني» على أنه «أعظم أهل قرطاجنة على الإطلاق»، فإنها توحي بجو الواقع أكثر مما يوحي المونولوج الشعري الأول، إن «ألفيري» في المسرحية الجديدة «شخص حقيقي»، صحيحٌ أنه يحلم في بعض الأحيان، وصحيحٌ أنه الوحيد الذي يستخدم صور الشعر حتى في أحاديثه النثرية، وصحيحٌ أنه ذو مشاعر فياضة حتى في صلابة موقفه من «إيدي»، وتكراره لبعض الجمل التي توحي لنا بجو «الكورس اليوناني»، الذي يقص فقرات من القصة ويعلق على ما يحدث ويكاد يتنبأ ببعض الأحداث (كأنما يرمز لأحكام القدر)، إلا أن «ألفيري» في المسرحية الجديدة آدمي لا شك في هذا … فهو ابن هذا المجتمع، وهو يدافع عن قضية الحب بين «رودولفو» و«كاترين»، ويعارض «إيدي» معارضةً شديدة في موقفه منها، ويتجاهل عواطفه إلى حدٍّ كبير ويحاول أن يشرح له الموقف من وجهة نظر مواطنه الإيطالي المستوطن أمريكا، واستخدام النثر إذن أمرٌ جوهري لربط هذه الشخصية الواقعية إلى حدٍّ ما بواقعها.
ولكن ألا يحمل «ألفيري» في حديثه وشخصه بذور المعلق الكورسي؟ ألا يحكم على الأحداث ويقدم لها ويعلق عليها من وجهة نظر تعتبر إلى حدٍّ ما محايدةً وعامة، وإلى حدٍّ أكبر منفصلةً عن حدود الزمن والمكان، ومن ثَم أقرب إلى القدرية بوجهٍ عام؟ إذا كان هذا صحيحًا، ولعله كان يتمشى مع تصور ميلر الأساسي للشخصية، فلمَ لم يبقَ ميلر على المونولوجات الشعرية التي كان يقولها في المسرحية الأولى؟ إن الشعر في هذه المونولوجات يحرر «ألفيري» من انتمائه إلى المجتمع، ومن ثَم يفتح لنا نافذةً حرة ننظر منها في موضوعيته إلى هذا المجتمع من علٍ، ومن ثم يتيح لنا أن نخرج بانطباعاتٍ مختلفة عن المسرحية، طالما أن هذا «الشاعر» ينظر إليها من زاويةٍ مختلفة أيضًا … إن هذا «المشهد العلوي» يميز مونولوجات ألفيري الأولى، مثلًا:
إن المحامي «ألفيري» في المسرحية الأولى ذو خيالٍ خصب، يربط فيه حاضر هؤلاء المهاجرين القادمين عبر البحار إلى شواطئ أمريكا، بماضيهم العريق، ويخلق لهم الجو الذي ارتبط في خيال ميلر بالمدينة اليونانية القديمة، «بوليس» بكل تقاليدها وعادات أهلها وصراعاتهم التي جسدتها تراجيديات اليونان القديمة، إن البعد المكاني، وركوب البحر، وتكوين لون من «المستعمرة» الغريبة في عالمٍ حديث، هذا البعد المكاني يرتبط في خياله بالبعد الزمني، فكأنما ينقلها إلى ذلك العالم المندثر، بكل جلاله وغموضه الذي كساه الزمن أثوابه الشاحبة.
وعلينا إذن، ونحن نناقش دور «ألفيري» في هذه المسرحية، ألا نغفل أيًّا من هذه الاحتمالات، فالشعر في «ألفيري» ليس «شكلًا لغويًّا عاليًا»، يمكن أن «يحمله الكاتب دلالات غنية» فحسب، ولكنه الوسيلة الوحيدة التي تؤكد الصورة التي خلقها ميلر في ذهنه أولًا عن طبيعة هذا المجتمع المنفصل عن بقية العالم، إن هذه الأسرة (إدي وزوجته بياتريس وابنة أختها كاترين)، ليست أسرةً إيطالية عادية، أو أمريكية خالصة، كما أن جميع أبطال المسرحية (ماركو، رودولفو … إلخ) لا يمثلون أي الجنسيتَين فحسب، ولكنهم يكونون بلدًا جديدة، بلدًا ليست حديثةً بأي معنًى من معاني الكلمة، وإنما هي بلدة ذات قوانين خاصة، تنتمي، بصورةٍ ما، إلى العالم القديم، عالم اليونان الذي كان يشغل خيال ميلر دون شكٍّ، يقول ميلر: إن المسرحيات اليونانية الكلاسيكية قد نجحت لأن:
«المواطن اليوناني في ذلك الوقت كان يرى أنه لا ينتمي إلى «أمة» أو «دولة» بل إلى «بوليس» أي مدينة، وكانت هذه البوليسات وحدات صغيرة، نشأت، فيما يبدو، من نظامٍ قبلي بدائي، كان أفراده يعرفون بعضهم البعض اسمًا وكيانًا، لقلة عددهم، نسبيًّا، ولصغر مساحة بلدهم، وكان أهم ما شغل الدراما اليونانية هو القانون الأزلي، القانون المطلق، وكان «البناء الكبير» لمجتمعهم، إذا جاز هذا التعبير، تعبيرًا عن عقيدةٍ أساسية عند الناس، الذين لم يكونوا يتصورون بعدُ، لحسن الحظ، أن الفرد يستطيع أن ينجح في حياته الشخصية ويزدهر حاله مدةً طويلة، إلا إذا رغد العيش في مدينته «بوليس».»
وإذا سلمنا بصحة محاولة «ميلر» لكتابة تراجيديا يونانية، كما يقول هو في مقدمته، وكما يوافقه في ذلك كثيرٌ من النقاد، فلا بد لنا أن ننظر في دور ألفيري ليس بصفته شخصيةً مسرحية أو برولوج إليزابيثي، ولكن على أنه مزيجٌ من كورس يوناني، وصوت قدر كلاسي، ومن ثَم يكون الشعر أقرب إلى طبيعته، أو على الأقل، لونٌ ما من الحديث أقرب إلى الشعر منه إلى النثر، وإذن، فهل لنا أن نفضل شعر المسرحية الأولى على نثر المسرحية الحالية؟
وإذا انتقلنا إلى مفهوم التراجيديا الذي بنى عليه «ميلر» مسرحيته الحديثة، كان علينا أن نتوقف قليلًا ونطرح السؤال الخطير الذي ما يفتأ يتردد حتى الآن وهو: هل يمكن خلق تراجيديا حديثة لا تعتمد على عظمة الشخصية التراجيدية، وتتكون أشخاصها من العامة الذين لا يتسمون بقدرةٍ خاصة على التعبير، وليس لهم من الامتياز الشخصي ما يعمق من وقع مأساتهم على نفوسنا؟ إن هذا السؤال قد طرح أكثر من مرةٍ وبخاصةٍ عندما يتعرض النقاد للتراجيديات الحديثة التي تعالج مشاكل ومآسي الرجل العادي، أما بالنسبة «لميلر»، فنجد أن الأساس الوحيد الذي يمكن أن يبني عليه مفهوم تراجيدياه، هو الارتداد إلى العواطف البدائية التي لم يصبها التعقد الحديث، أي إلى أشد العواطف بداءة، ومن ثَم أكثرها اقترابًا من الإنسان في فطرته، وأقدرها على التجاوب مع الناس في أي زمانٍ ومكان، و«آرثر ميلر» في هذه المسرحية يعتمد على مفهومٍ يقترب من هذا كثيرًا، فيجسد لنا مأساة «إدي» في محاولته تحقيق ذاته عن طريق الانتماء إلى مجتمعٍ يحترمه ويقدره، ويحفظ له «اسمه».
وإذن فقد أبدل «ميلر» عظمة الشخصية التراجيدية بعظمة «الانتماء إلى مجتمع»، وهو يسمي هذا الانتماء «عاطفة بدائية لم تفارق الإنسان منذ نشأته الأولى» ويؤكد هذه الملاحظة بفكرته عن المدينة اليونانية: «البوليس»، وخطؤه التراجيدي ينبع من خيانته لهذا الانتماء، هذه الخيانة التي تفقده «احترامه» و«اسمه»، ومن ثَم يتحتم موته بعد أن مات نفسيًّا.
ولكن المشكلة التي يعرض لها «ميلر» لا تقف عند حد الإخلاص لمجتمعٍ أو بيئة أو مدينة، إنها، كما يعبر «ميلر» في مقاله عن «الأسرة في الدراما الحديثة»، مشكلة بناء «جسر» يصل بين الإخلاص للمجتمع الصغير وهو الأسرة، بمفهومها الضيق، والإخلاص للمجتمع الكبير وهو العالم بأشد مفاهيمه اتساعًا، فالصراع إذن في شخصية «إدي» لا يكمن في محاولته الانتماء إلى مجتمعه «القبلي» الذي لا يضم سوى العاملين بالبحر من «إيطاليين-أمريكيين»، وإنما يكمن في محاولته التوفيق بين ولائه لهذا المجتمع، وولائه للمجتمع الضيق (زوجته وابنة أختها)، ومن هنا نجد أن قطبَي الصراع الخارجيَّين لا يتمثلان في مجرد اختطاف كاترين من بين يديه، بعد أن كبرت وأينعت وحفلت بكل ما يرمز إلى شبابه المنصرم، إن هذه القصة العاطفية بقطبيها كاترين-بياتريس من ناحية، وماركو-رودولفو من ناحيةٍ أخرى، ترمز لطرفي الصراع في نفسه، ولاؤه أولًا لزوجته وابنة أختها التي يحبها (إما كابنته أو كحبيبة)، وهو الولاء للمنزل الذي يحقق ذاته الضيقة، ويحصره في فرديته القادرة على الحب والانفعال بل والانعزال، وولاؤه ثانيًا لماركو ورودولفو اللذين يُمثلان إحساسه بولائه لمدينته ومجتمعه الجديد، الذي لا بد أن يضعه في اختبارٍ يمتحن فيه صدق ولائه له.
ومن ثَم يبدأ هذا الصراع أولًا حينما يتغلب ولاؤه لمجتمعه، فيستضيف ماركو ورودولفو (ليس فحسب لأنهما قريبا زوجته، ولكن لأنهما أبناء دمه الذي لا يستطيع أن يعصي إيحاءه)، ثم يشتبك خيط هذا الولاء مع خيط ولائه لزوجته (بالمعنى الضيق لهذه الكلمة)؛ إذ إنه يبدأ في التأرجح بين هذين العنصرين فيهجر زوجته في الفراش، (وهو لا يهجرها فحسب بعد أن يصل هذان القريبان، وإنما يكون قد هجرها من ثلاثة شهور؛ بينما لم يصل الرجلان إلا من أسبوعين)، وهذا الهجر هو المعول الأول الذي يصدع ولاءه لبيته بعد أن تصدع هذا البيت نفسه، حين أباح «إدي» لنفسه أن يحيط «كاترين» بحبٍّ أناني غريب، يفصم كيان «إدي» النفسي رويدًا رويدًا، وحينما يتبين «إدي»، في لحظات انفجاره بين أيدي «ألفيري» المحامي، أن ولاءه لمجتمعه الكبير أصبح في موقفٍ حرج دقيق، يتوتر إحساسه أشد التوتر، ويفضل أن يكبت مشاعره نحو «كاترين»، وأن يحاول التغلب على هذه المشاعر، على خيانة ضيفيه اللذين يرمزان إلى هذا المجتمع الكبير.
والخطأ التراجيدي ينشأ أيضًا من التناقض الذي لا يحسه «إدي» وهو يدمر كيانه النفسي، فهو يدَّعي الولاء ولا يدرك معناه، وهو لا يجسر على إبلاغ الشرطة عن مكان «الغواصتين» (أي المهاجرين المتسللين دون تصريح قانوني)، بينما كل جوارحه تناديه أن يفتك بهما، وحينما يعمى آخر الأمر عن طبيعة ولائه الذي يمنعه … يندفع نحو قدره كالمجنون، ويتصل بالشرطة ليدمر الإحساس الوحيد الذي يبقيه على قيد الحياة، وهو إحساسه بالانتماء إلى مدينته «اليونانية».
أما واقعية «ميلر» التي لا شك فيها هنا، فهي تساعد على خلق جو هذا المجتمع «البيتي» الصغير، الذي يعرف فيه الأشخاص بعضهم البعض، ويتبادلون حوارًا عاديًّا يتناول أبسط الأشياء وأكثرها عادية، فيخلقون هذا الجو من الألفة بينهم، إنهم يمارسون نفس العمل، ويعرفون بعضهم البعض معرفةً دقيقة لا تحكمها قوانين الدولة أو أحكام الشرطة، ومما يساعد هنا على خلق هذا الجو من الألفة والمودة، خضوعهم جميعًا لنفس الظروف من الاختباء عن عيون رقباء الشرطة، ومن ثَم إحساسهم بضرورة التواد والتراحم حتى يستمروا في العيش.
وهذه الواقعية التي يبسط بها «ميلر» مسرحيته، واقعية لا تهتم بالفرد خارج نطاق هذا المجتمع، فالمجتمع نفسه فرد، وكل جزء فيه (أي كل فرد) يتحدث نفس اللغة، ويكاد يتوسل بالإشارة دون اللغة، لاشتراكه مع بقية الأجزاء في بناء الفرد الكبير، ومن ثم لم يهتم «ميلر» بتخصيص الحوار حسب طبيعة الشخصيات، كلهم يتحدث نفس اللغة، لأن فيهم جميعًا نفس الروح، إن واقعية «ميلر» تضع الشخصيات على حافة الحياة، مثلما تضعهم على حافة البحر، إنهم يريدون أن يعيشوا وحسب، إنهم لا يستطيعون أن يجدوا عملًا في إيطاليا، ماركو قد خلف وراءه زوجةً وثلاثة أطفال أحدهم مريضٌ بالسل، ورودولفو يربط حبه لكاترين بالعمل الذي لا يجده إلا في أمريكا، ومن ثَم يرتبط تحقيق حبه بتحقيق حياته.
والتفاصيل التي يسردها ميلر في ثنايا مسرحيته لا تخص فردًا بعينه وإنما تخص المجموع، فإذا كان هؤلاء العاملون بالبحر يفرغون شحنة بنٍّ من إحدى السفن، انتشرت رائحة البن فدخلت جميع المنازل وأفاحت رائحةً ذكية تشعر الجميع بوحدة إحساسهم، و«كاترين» لا ترى في تبادل الإشارات والضحك من النافذة مع «مايك» شيئًا معيبًا، فهو ابن أسرتها أيًّا كان نسبه الحقيقي، وهكذا نرى أن كل شخصيةٍ لا تنفرد بحوارٍ خاصٍّ ينفرد بدوره بتفصيلاته الخاصة به، وإنما يشتبك الحوار بتفصيلاته الكثيرة المتناثرة في خلق هذا الجو الواقعي.
أما «مستويات الإخراج» التي يعمد إليها ميلر، وتقديم أكثر من مشهد على المسرح في نفس الوقت، فهو يزيد هذه الفكرة الأساسية تأكيدًا، أي إن البيت والشارع والبلدة وشاطئ البحر شيءٌ واحد، وهم جميعًا شيء واحد لأنه يوجد في نفوسهم، بل إن مكتب المحامي نفسه يدخل هذا الإطار، لأنه في الحقيقة غير موجود، وهو رمز لقوة القانون الذي لا يعترفون به، وأحكام الشرطة التي يهربون منها، أو هو، إذا عدنا إلى مفهومه الرمزي، صوت القدر الذي يربطهم بالفكرة الأصيلة للمدينة اليونانية، التي شغلت ذهن ميلر وهو يكتب هذه المسرحية.
(٨) التركيب والتحليل
إن ثمة مفهومًا للمسرح، يعتبر المسرحية «قضية» تشبه قضايا المحاكم، ويقول إن متعة المتفرج تنبع من متابعته لسير القضية، وتقصيه لتطورات الحكم فيها، ويفترض هذا المفهوم انتهاء وقوع الحدث قبل بداية العرض، واقتصار ما يجري على خشبة المسرح على «التحقيق» في ذاك الذي حدث، و«تحليله» تمشيًا مع الوحدات الثلاث الكلاسيكية، وحدة الحدث (أي أن تنظر قضية واحدة فحسب، ولا تتعدد الحبكات) ووحدة الزمن (أي أن يقتصر الزمن الذي تنظر فيه القضية على يومٍ واحد)، وإذا أردنا، وحدة المكان أي «وحدة قاعة المحكمة» وحسب.
إن هذا المفهوم لا يتضمن «التركيب» كما نفهمه في الفنون الحديثة كالموسيقى وسائر الفنون التشكيلية، فالمسرح الإغريقي لمحافظته على الوحدات، لم يكن يتعدى حبكةً أساسية واحدة أو يستغرق زمنًا طويلًا في الحدوث، إذ إن كل ما حدث سابق على رفع الستار، وما علينا هنا إلا أن نغوص في حياة ذلك الإنسان الذي يقف أمامنا على المسرح أو في أعماق العلاقة البشرية التي تربطه بمجموعة من الناس، أو في أصول موقف وهو يرجع به إلى بذوره الأولى حتى يتسنى الكشف أو التكشف الذي يلقي الضوء على كل ما أمامنا، فنراه من زاويةٍ جديدة، وتتضح الصورة محققةً وعيًا أنضج وإدراكًا أعمق.
التحليل الاسترجاعي
ولكي ندرك معنى التحليل، لا بد لنا من تناول مثلٍ صارخ على هذا التحليل الاسترجاعي وهو نمط الرواية البوليسية، فأفضل الروايات البوليسية كما تقول «أجاثا كريستي» وسواها من كبار ممارسي هذا الفن وأربابه، هي الرواية التي «تقع الجريمة فيها قبل بداية الفصل الأول، ويكون «طهوها» قد نضج تمامًا قبل تسلم الشرطي للرسالة التي تقف به عند طرف الخيط الأول الذي يشده إلى داخل القضية.» وهي الرواية التي تعود بالقارئ، كما تقول، القهقرى في حياة هؤلاء الناس «على طول الخيوط التي طرحت في البداية … بحيث يؤدي خيطٌ إلى خيطٍ آخر … وبحيث يظل المجهول معلقًا يجذب القارئ ويربطه إليه … وبحيث لا يفتر حماس القارئ وأمله في معرفة الحقيقة.»
ولقد كتبت أجاثا كريستي مسرحيات بوليسية نجحت جماهيريًّا وتجاريًّا إلى حدٍّ كبير، وكانت وسائل نجاحها الجماهيري مركزةً في هاتين الركيزتين: الخيوط التي تعود بالقارئ إلى الماضي، والمجهول المعلق الذي يربط القارئ إليه ويلوح له بالأمل في معرفة الحقيقة، أما العودة إلى الماضي فسوف تفاجئنا بأحداثٍ وحقائق كنا نجهلها، وأما المجهول فمرتبطٌ بسرٍّ أساسي من أسرار الخلق الفني على اختلاف صوره، وبكل ثمار العقل البشري في عهد أساطيره وأديانه وتفكيره الميتافيزيقي الحديث.
وهكذا رأينا المسرح عبر التاريخ يقيم حبكاته على هاتين الدعامتين اللتين تهيئهما له وسائل التحليل الاسترجاعي، إن الحبكة التي تتوسل بهاتين الدعامتين سوف تضمن للكاتب قارئًا أو مشاهدًا مرتبطًا بسير المسرحية ومأخوذًا بما يتكشف عنه ماضي الشخصيات، ومتسائلًا عن المجهول الذي ما يفتأ يلوح له ويفلت منه، ولا يطمئن فؤاده وتقر عينه إلا عند إسدال الستار الأخير، حيث يعرف كل شيء، وتحل أمام عينيه كل الألغاز التي نثر بعضها أولًا وقاد بعضها البعض في خلال سير المسرحية.
ولكن المسرح ليس مجرد قصة بوليسية، وهو لذلك لا يكتفي باستخدام فنون الاسترجاع والتحليل تلك لإزالة الإبهام وإيجاد الحل، بل لإلقاء الأضواء من مختلف الزوايا على الماضي بالنسبة للحياة الشعورية للشخصيات، فإن نبش الماضي بهذا التجريد سوف يخرج من بواطن الشخصيات عوامل دفينة أسهمت في بنائها، وسوف يسترجع حوادث هامة ذات دلالة بالنسبة «للقضية» المتطورة على المسرح أمامنا، بل وسوف يعثر على اللبنات التي تقوم عليها علاقات الأفراد في المجتمع الذي نشهده، محدودًا كان أم واسع النطاق، كل ذلك في نطاق الحدث الواحد الذي ينصب الضوء كله عليه ولا ينتقل إلى سواه.
ولا يكاد لون من ألوان المسرح التي نعرفها يخلو من وسائل التحليل الاسترجاعي لأسبابٍ عدة، أهمها التركيز الزمني والمكاني الذي تحده خشبة المسرح، ولكن الاختلاف قائمٌ عميق بين درجات هذا الاسترجاع، والدور الذي يلعبه في بناء المسرحية، فهناك مسرحيات يلعب الاسترجاع فيها الدور الأول، وتقتصر أهمية الحدث الحاضر أمامنا على ربط الماضي بما نشهد، وهناك مسرحيات تكاد تتجاهل الماضي ولا تعرض لنا إلا ما يحدث الآن أمامنا.
وحينما كسر شيكسبير وحدات المسرح، وأعلى من شأن حضورية الحدث، وأصبح كل ما يحدث داخل نطاق المسرحية يتم أمامنا على المسرح، لم يعد ثمة ضرورة للتحليل الاسترجاعي إلا في القليل النادر، كما أباح لنفسه أن يزاوج بين حدثين أو أكثر على المسرح، فكسر وحدة الحدث، مثلما نرى في «ترويلوس وكريسيدا» و«صاعًا بصاع» و«الليلة الثانية عشرة» و«حلم ليلة صيف» وغيرها.
فبدأنا نرى لأول مرة بذور المسرح التركيبي، الذي يعتمد على تعدد التيمات الدرامية، وتنويعها على أشكالٍ مختلفة.
التكرار بالتنويع
والموقف المسرحي في المسرح التركيبي لا يعتمد على الامتداد الزمني أي الامتداد الرأسي للمسرح، شأن الرواية، بل على الامتداد العرضي أو الأفقي، الذي يزامن بين الأحداث ويعتمد على التقابل والتضاد والمفارقة، وهذه هي العمد الثلاثة التي بنيت عليها كثيرٌ من المسرحيات الحديثة، ليس في مسرح العبث فحسب، بل في مسرحياتٍ أمريكية وفرنسية عديدة، تأثر كثيرٌ منها بفن الانطباعات المتنقلة عند تشيكوف، وبالأبعاد الفنية الحديثة لفنون الموسيقى والفنون التشكيلية على اختلافها.
لقد أصبحنا نواجه أناسًا بسطاء عاديين يزخرون بالمتناقضات، وتزخر تيارات أحساسيهم بلحظاتٍ نفسية متقلبة (وخاصةً بعد رسوخ تقاليد المسرح الطبيعي والواقعي)، وأصبحنا نواجه على المسرح أناسًا مثلنا، لا يرقى واحدٌ منهم إلى مصاف السوبر مان أو البطل العملاق أو نصف الإله، وإنما يشترك مع غيره في عاديته وبساطته، ويختلف معه في اللحظات النفسية التي يجرفها شعوره وهو يحيا حياته العادية، ومن هنا كان استخدام هذه اللحظات في تركيب الانطباعات المتنقلة على المسرح وفي خلق المواقف المتقابلة، ومن هنا أيضًا لم يكن تيار الزمن الرأسي لازمًا، وإنما أصبح المهم هو تيار هذه اللحظات ودقة تركيبها لخلق المواقف المسرحية المركبة.
إننا في هذا المسرح التركيبي الحديث لا نواجه شخصيةً بشخصية، أي بناءً كاملًا راسخ الجذور ببناءٍ آخر! وإنما لحظة نفسية ذات شحنة عاطفية خاصة بلحظةٍ أخرى، وقد تكون هذه من لحظات الماضي، وقد تكون من لحظات المستقبل، وقد تكون حاضرةً حية، ولكنها جميعًا تلتقي دن اعتبار للسياق الزمني التقليدي فتشكل الإطار الانطباعي العام.
إطار التركيب
وقد يكون هذا الإطار كبيرًا يشمل نسيجًا ضخمًا حيًّا من شخصياتٍ ومواقف متعددة متنوعة، وهنا نجد أن التركيب يتخذ عناصره من تياراتٍ كاملة عريضة تلتقي وتفترق، أي تسير متوازيةً أحيانًا ومتعارضة أحيانًا أخرى، أو تظل في اشتباكٍ وافتراقٍ حسب النمط العام الذي تسير فيه المسرحية حتى تلتقي اللقاء النهائي.
وقد يكون الإطار أدق من هذا، فنجد أن نسيجه يتكون من خطوط أحاسيس معينة، تؤدي بها تيارات اللحظات النفسية للشخصيات إلى نُقط التقاءٍ متتالية، كل نقطةٍ تضيف انطباعًا جديدًا إلى سابقتها، حتى يتكون لدَينا عن طريق المفارقة بين هذه اللحظات، وعن طريق تراكمها انطباعٌ ناضج أخير، هو الذي نخرج به من المسرحية آخر الأمر.
ولقد قدم المسرح المصري في الموسم الماضي (١٩٦٤م) مسرحيتين تركيبيتين رائعتين لا تعتمد الأولى على التحليل إلا في القليل النادر، وتتوسل في بنائها الأساسي بتيارات اللحظات النفسية، وتقيم نسيجها كله على التقاء هذه اللحظات في حياة أناسٍ عديدين يعيشون في ظل ظروفٍ متماثلة، وتمضي بهم هذه التيارات إلى نفس نقاط الالتقاء، وهي مسرحية «كوبري الناموس» للأستاذ سعد الدين وهبة، أما الأخرى فهي تتوسل بالتحليل أيضًا إلى جانب التركيب، ولكنها تنتمي إلى النوع الأول الذي يكبر في الإطار، وينتظم تلك التيارات العريضة الكاملة من المواقف والشخصيات، وهي مسرحية «رحلة خارج السور» للدكتور رشاد رشدي.
خيوط كوبري الناموس
وإذا اعتبرنا التيمات خيوطًا، يمكن أن تمتد بصورةٍ رأسية أي من أول المسرحية إلى آخرها، مثل تيمة الانتظار التي تزيد حدةً شيئًا فشيئًا إلى النهاية، فهي تمتد أيضًا بصورةٍ أفقية أي عبر الشخصيات جميعًا … بحيث لا نجد شخصيةً يخلو نسيجها من هذا الخيط أو ذاك، مع تفاوت أهميته بطبيعة الحال، وإذا كانت تيمة الانتظار تشكل الخيط الأساسي في بناء شخصية الدرويش مثلًا، فهي تشكل خيطًا ثانويًّا في شخصية خضرة … ولا يكاد يخلو موقف من مواقف المسرحية من تأكيد إحساسنا بهذه القيمة، حتى في مواقف اليأس التام أو المواقف التي لا تُوحي بانتظار شيءٍ، مثل موقف خميس من خضرة وأمله اليائس في الزواج منها، فهو ينتظر فحسب … وليس أمامه سوى الانتظار.
وهذه التيمات معانٍ عامة، أو مشاعر عريضة، غالبًا ما نجردها من العمل أثناء عملية التحليل، وهي تيمات لا يخلو فنٌّ منها لأنها تيمات الإنسان … وتيمات نفسه الخالدة … ولكن بعضها يسود بعض الأعمال الفنية فيغلب عليها نغمٌ خاص وإيقاعٌ نابع من طبيعة التيمات السائدة، فلا شك أن إحدى التيمات الجوهرية في «كوبري الناموس» هي تيمة «الضياع» … تلك التيمة الأساسية التي تشكل جوهر شخصية «سامي» ذلك الطالب الذي تطيش طلقاته إذ تصيب أبرياء … أي يضيع جهده وتطيش غاياته … وهو حتى حينما يلجأ إلى هذه الوسيلة، نراه مدفوعًا بيأسه من العثور على الطريق السليم للكفاح … فالطلقة بطبيعتها تعبيرٌ عن الضياع، حتى ولو لم تضع أو تطش … وسامي يلقي به الضياع عند الكوبري … حيث رفاقه الضائعون … وهنا نجد أن التيمة تكرر ذاتها مع التنويع، شأن الموسيقى الحديثة، فنلتقي بصورةٍ أخرى لنفس التيمة مجسدةً في الأم التي ضاع ابنها أثناء محاولته القضاء على إحساسه بالضياع … إن صورة ما ضاع في الماضي تلتقي بصورة ما يضيع في المستقبل، وعند التقاء طرفي الخيط تكتمل دائرة الضياع الصغيرة، فقط لكي تلتقي بدائرة ضياع أخرى … ضياع جهد الخادمة بين المدينة والقرية … لقد حاولت بالفعل أن تنتصر لشرفها وكرامتها بأن تعود للقرية حيث أهلها وحيث النجاة من الفساد الموشك، ولكن القرية تصدها وترمي بها ثانية، بصورةٍ قدرية مؤلمة، إلى هوة المحتوم … فتلتقي في يأسها وضياعها بحلقة الضياع الأولى وتشتبك الحلقتان أمامنا، فقط لتشتبك بهما حلقة ثالثة … هي حلقة اللص … اللص البائس الذي يفعل ما تأباه نفسه … ويجد يده تفعل ما ينكره عقله، فيتعلق أيضًا في دائرة الضياع الغريبة، ولا يجد انتماءه إلا إلى هذه الحلقات المتشابكة، التي تتسع في تشابكها حتى تكون حلقة الضياع الكبيرة التي تدور فيها معظم الشخصيات.
والضياع، تلك التيمة الكبيرة، تتفرغ وتنفصل معالمها إلى تيماتٍ صغيرة، تُعتبر تنويعاتٍ لها، إما لأنها نتائج لها لأنها جزئيات منها، كالهروب مثلًا … الذي يجسده النفاج «الفشار»، الذي يهرب من عقم حياته الواقعية الحقيقية، إلى خيالاتٍ وأساطير … خلقها ذهنه البالغ النشاط، الذي لم يستطع أن يحقق له أي رجاء يصبو إليه … فشطح به في دنيا من البراري يخرج له فيها أسدٌ يضع يده في عنقه فيعتصره … إلخ، وهكذا يهرب من هذه الدنيا، ويخلق لمن حوله مجالات يهربون فيها هم أيضًا … ويدفعون له ثمن ذلك لفافات تبغ وطعام … إلخ.
والشذوذ أيضًا صورة من صور الهروب … في استغراق هذه الملاذ التي لا تقتصر على زوجتين وإنما تتعداهما إلى الشذوذ … فعالم الجنس أمامه بديل لهذا العالم، يستطيع أن يحقق فيه ذاته، بعد أن فشل في تحقيقها في عالم النهار وعن طريق العمل المثمر الصائب … لقد وجد أرض أحلام يهرب إليها وهي لا تقل غرابةً وإغراقًا في الخيال عن عالم النفاج … فهو سعيدٌ بانتصاراته بل وبالمعجزات التي يهيئ له ذهنه المريض أنه يصنعها … وهذا الهارب يلتقي بهاربٍ آخر عند الكوبري …
هاربٌ إلى العالم الآخر، هاربٌ إلى القدر وانتظار اليوم الآخر … إنه الدرويش … ذلك الذي انتهت به خطى حياته إلى هذا المكان … فرفض أن يسير خطوةً أخرى … وطفق يجسد أو يخلق لنفسه، عالمًا من البركات والمعجزات والتأملات الصوفية، تهرب به من هذه الأرض إلى عالم الجنة بحورها وولدانها وأرائكها، أي إلى النعيم الذي لم يستطع أن يعيشه في الدنيا، فتوقف عن الحياة وأخذ يحلم به في الآخرة.
ولكن الدرويش رغم أنه يسير الخطى التي كُتبت عليه، لا يزال ينتظر شيئًا ما ولا يزال يراوده أملٌ غريب … أملٌ في أن يصل إليه شخص ما … فيغير نظام حياته بطريقةٍ ما … وقد يفتح له باب حياة أخرى وهكذا …
هذا الأمل الخافت … تجسده خضرة … امرأة الكوبرى … التي تبحث عن الأمل الجديد … بعد أن ملَّت الانتظار وأصبحت دنيا الضياع قاتلةً لها … وبعد أن تيقنت أن لا حياة لها إذا استمرت حلقات الضياع في التتابع واستمر الظلام في التكثيف … فهي بؤرة تلتقي عند مشاعر الشخصيات … وتتفرع منها الأحاسيس الجديدة.
تقابل اللحظات النفسية
ولكن سعد الدين وهبة لا يرمي بهذه التيمات بأي صورة أو كيفما اتفق، وليس جوهر المسرحية هو احتواؤها على هذه التيمات وحسب، بل البناء الدقيق البارع الذي يقابل بين اللحظات النفسية المتشابهة والمتباينة لهذه الشخصيات في إطار التيمات الكبير.
ولأوضح ما أعنيه هنا … إن عمل الكاتب المسرحي، حين الخلق، يختلف عن عمل العالم أساسًا لأنه لا يتبع المنهج العلمي، وليس باحثًا يدرس الموضوع دراسة معملية ثم ينتهي إلى فروض تفسير الظواهر فتصبح من ثم نظريات، وبعدها تؤدي إلى نتائج وحلول مقترحة لعلاج ما يراه … فالفنان يبدأ من أي شيء … يبدأ من انفعاله بموقفٍ ما أو بشخصيةٍ معينة مثلًا … أو بفكرةٍ أو صورة ملحَّة لا تتركه وإنما تعاود ظهورها له حينًا بعد حين … وهو إذن لا يبدأ من حيث يبدأ سواه أو من حيث بدأ هو نفسه من قبل … ولكنه، مهما كان موضع البداية لديه، يسير في خط تأمله الموضوعي المجسد حسب حسه الفني الذي يهديه، وحسب نضج ذوقه الجمالي الذي يحدد ويتحكم في صورة الهيكل الفني للعمل آخر الأمر.
وهكذا نرى أن الفنان ليس معالجًا للتيمات من حيث هي معانٍ كبيرة مجردة، أو أحاسيس عريضة، كما سبق، ولكنه معالج للمجسدات الموضوعية التي توحي آخر الأمر بهذه التيمات، وهو من ثَم لا يضع شخصيةً على المسرح قائلًا إنها تمثل الضياع أو الخير أو الشر … إلخ، ولكنه حسبما توجهه حاسته الفنية، يشعر بالإنسان داخل هذه الشخصيات ويتبع لحظاتها النفسية المتباينة، ويحس نبض الضياع داخلها، فيتكئ عليه ويبرزه مقابلًا بينه وبين نبض الضياع داخل الشخصيات الأخرى.
وهكذا نرى في «كوبري الناموس»، لحظات نفسية تتقابل، داخل الشخصيات وفي مواقف تحتم إبراز هذه اللحظات … أي إننا لا نشهد معرضًا لشخصياتٍ منفصلة كل منها يحس بالضياع وحسب، ولكننا نحس نبض الضياع في هذا الإنسان الكبير الذي تمثله هذه التيمات، التي أصبحت جوانب ثرية باللحظات النفسية للإنسان الذي يعيش في ظل هذه الظروف الاجتماعية الجائرة، وفي ذلك المكان المتأرجح بين النور والظلام، وبين حضارة الإنسان في المدينة وبداوته في القرية … المكان الذي يهرب الناس من نفوسهم إليه، وهو في ذاته يؤكد فرارهم من الحياة، أي منطقة كوبري الناموس …
وسعد الدين وهبة لا يقابل بين اللحظات المتشابهة فحسب، بل المتباينة أيضًا، وربما كان هذا أهم وأصعب، فليس من المحتم أن نرى كل لحظةٍ تقابلها لحظة مشابهة، ولكننا نرى لحظة يأس تقابلها لحظة أمل فتبرزها، ولحظة حزن تقابلها لحظة ضياع فتعمقها، ولحظة هروب تقابلها لحظة شذوذ فتعكسها في صورةٍ أخرى وهكذا.
ومن ثَم نرى أن الانطباع الأخير الذي يريد لنا الكاتب أن نخرج به، ليس حصيلة لهذه الانطباعات الصغيرة المتتالية، أي إن تراكم هذه الانطباعات لا يصل بنا إلى نتيجةٍ شعورية نهائية، ولكن حركة التقابل والتضاد والتشابه والمفارقة ذاتها، هي صورة الحركة المسرحية التي تعيش فيها الانطباعات الحية، والتي لا تفارق نفوسنا بعد مشاهدة المسرحية … فالكاتب لا يريدنا أن ننتهي إلى فكرةٍ عامة أو إحساسٍ موحد، وإنما يريد لنا، هكذا، أن نخرج بجميع هذه اللحظات النفسية الحية، والتي تفقد حياتها إن جُردت عن الأشخاص أو عن بناء المسرحية الدقيق.
حلقات رحلة خارج السور
أما إطار التركيب في رحلةٍ خارج السور فهو إطار الحلقات الكبيرة الدائرية، التي تفضي كل حلقة منها إلى حلقةٍ أوسع، بينما تضيق الحلقات في الحقيقة أثناء اتساعها؛ لأنها تكشف عن مزيدٍ من الانهيار النفسي والاجتماعي في كل مرة.
وكل حلقةٍ من الحلقات لا تكتمل إلا عند نهاية المسرحية، أي إن الكاتب لا يقدم لنا حلقةً كاملة أول الأمر، أو حتى جزءًا من هذه الحلقة ثم يكملها، ولكنه يقدم شريحةً من الحلقة ليقابل به شريحةً من حلقةٍ أخرى، ثم شريحة من حلقةٍ ثالثة حتى تضيق في اتساعها آخر الأمر، وتتجانس عند نزول الستار الأخير.
وبينما نرى في كوبري الناموس حلقات لحظات نفسية دقيقة، نرى هنا حلقات أحداث وشخصيات كبيرة، تعتمد أحيانًا على التحليل في سبيل التركيب النهائي، وترجع إلى الماضي لتكمل حلقةً ناقصة، وتنبسط إلى الشارع ومحل العمل والبلدة، كأنها دوائر تنداح عند إلقاء حجر في الماء … وهي إلى ذلك ليست حلقات عرضية أو أفقية فحسب، ولكنها طولية ورأسية أيضًا، أي إنها لا تنتظم الحياة الحاضرة للشخصيات القائمة أمامنا، بكل تباينها ومفارقاتها فقط، ولكنها تدور عبر الزمن لتأخذ شريحةً من الماضي، وتمضي بها إلى المستقبل، فتكمل حلقة جيل أو «دور» أسرة، من أمٍّ وابنتها، أو عجوز وصبي، أو موظف قديم وآخر حديث … وهكذا
إن أول حلقة يدور فيها فريد، هي حلقة حبه لمحاسن … ولكننا لا نشهد أولًا هذه الحلقة كاملة، وإنما نشهد شريحةً واحدة مستعرضة، يدور فيها فريد وأمامه شبح إنسان لا نراه أبدًا على المسرح، لأنه قد يكون موجودًا وقد يكون غير موجود، وهو شبح إسماعيل … صديق محاسن الثري، إن فريد لا يراه … ولا أحد ممن نراهم على المسرح يعرفه، ونحن بطبيعة الحال لا نعرفه ولكننا نعرف ماذا يعني إسماعيل في هذه الشريحة الأولى … إنه الجانب الخفي من شخصية محاسن الذي يظهر هنا في هذه الصورة جانب «المجهول» الذي يبرز وسط ضباب الأحاسيس ليحارب فريد … المجهول الأبله … الذي لا مبرر له … أو فلنقل المجهول القدري … إذ إن محاسن تجهل ماذا على وجه الدقة يجذبها إلى إسماعيل، وتجهل طبيعة موقفها منه، وموقفه منها، وتجهل طبيعة سلوكها وحقيقته … وبالتالي فهي تجهل طبيعة مشاعرها ونفسها عامةً … إن المجهول فيها يقف في الجانب الآخر من شخصيتها ليجابه فريد، ومن ثَم نرى الشريحة الأولى وقد تكونت من فريد، ومحاسن، والمجهول!
وهذا القوس الأول في الدائرة، إذا جاز هذا التعبير، يلتقي بقوسٍ آخر أطرافه: فريد، الكوبري، اللجنة الثنائية، فاللجنة الثنائية تمثل جانب المجهول من قضية الكوبري، فالمهندسان الكبيران يتبعان نفس موقف محاسن من فريد وإسماعيل، إنهما مؤمنان بكل الحقائق التي يذكرها فريد، وكذلك محاسن، وهما متفقان معه من الناحية الهندسية المحضة على كل ما ذكره في تقريره … ولكنهما لسببٍ مجهول لهما ولفريد، وربما لنا، يناقضان ذواتهما، ويترددان بين هذا وذاك … ولا يستطيعان الموافقة على أن العوامات فاسدة دون أن يقرِنا ذلك بأنها تصلح، شأن محاسن حين تؤكد حبها لفريد، ومع ذلك لا تملك إلا أن تخرج مع إسماعيل!
ودقة تركيب هذين القوسين المماثلين تنبع من تشابه موقف محاسن والمهندسَين، فإن محاسن لا تفعل ما تفعله مع فريد لأنها فاسدة، ولكنها تفعل ذلك ببراءةٍ وسذاجة … وهكذا يفعل المهندسان ما يفعلانه … إنهما ليسا فاسدين ولا يتناولان رشوةً أو أي شيء، ولكنهما لسببٍ مجهول، يتخذان هذا الموقف … فخيانة محاسن ليست خيانةً تقليدية بالمعنى المألوف … أي ليست خيانة مجرم فاسد، وكذلك خيانة المهندسين لقضية الكوبري ولصالح البلدة وأمنها!
وإزاء هذين القوسين الأفقيَّين، يمتد قوسان رأسيان، أي عبر الزمان من الماضي إلى الحاضر، حيث نرى في القوس الأول: عم كامل (الذي كان كامل بك عبد الجليل المحامي الشهير) وشهيرة (زوجته) وأبو العيون، إن هذا القوس الماضي يماثل قوس فريد ومحاسن وإسماعيل، ولكنه قد وقع فيه التصادم المحتوم وانطلقت الشرارة التي أودت بشهيرة، وأطفأت بصر أبي العيون ووضعت كامل عبد الجليل في طرف قوسٍ آخر يماثل: فريد، الكوبري، اللجنة الثنائية، وهو قوس: كامل عبد الجليل، موت شهيرة، المجتمع، فلقد وقع في هذا القوس الآخر أيضًا الصدام المحتوم، وكانت الشرارة التي انطلقت منه هي التي هبطت بكامل، المحامي الكبير، إلى هوة الانطواء والموت النفسي واليأس التام وانعدام الثقة في ذاته، وفي المجتمع وفي كل من حوله، إلا ربما في أبي العيون، وهذه مفارقة؛ إذ إنه الطرف الآخر، أو المجهول، وسيظل مجهولًا لديه، الذي تسبب عن غير عمد في وضع أقدام كامل على طرف الهوة التي سقط فيها دون أملٍ في الإنقاذ …
وهذه الأقواس الأربعة لا تشكل وحدها الدوائر المتداخلة التي تصنع هيكل المسرحية … وإنما تشتبك معها أقواس تعارضها وتكمل النصف الآخر للدائرة، فهناك مثلًا قوس: سعيد، كريمة، حامد.
إن سعيد لا يواجه مجهولات، ولا تحيره أي ألغازٍ مثل تلك التي تحير فريدًا أو تلك التي حيرت كامل عبد الجليل من قبل، إنه يعرف طبيعة المجتمع الساذج، رغم أنه لا ينتمي إليه انتماءً كاملًا … بل إننا نستطيع أن نقول إنه ينجح لأنه لا ينتمي هذا الانتماء الكامل إلى المجتمع … فهذا يجعله لا يدهش لشيءٍ ولا ينفعل بشيء … ويسخر من سذاجة والده ومن براءة زوجته وهكذا … إنه يستطيع لهذا السبب أن يحكم على كل شيء أحكامًا موضوعيةً قاطعة … ورغم أنه لا يحاول إصلاح نفسه أو إصلاح من حوله، أي أنه جمد جمودًا عاطفيًّا مطلقًا، فهو يلتقي مع فريد في فهمه الأخير لطبيعة النظام الاجتماعي الذي يعيشان في ظله، إنه ليس شهابًا … أي ليس فرسًا جامحًا يريد الانطلاق وتحقيق ذاته فيما يرى فيه الخير لنفسه ولمجتمعه … وإنما هو ثعلبٌ يفكر ويفترس … لأنه يعلم أن إطلاق الأحاسيس هنا مدمرٌ فهي تودي بصاحبها إذا انطلقت.
وسندس السائس، لم يستطع أن يتحمل ما أصاب زاكية … التي ماتت بالنسبة إليه، أو ما أصاب شهاب، الحصان الذي كان يحبه ويصادقه كأنما هو بشرٌ (آكل من لحمه أزاي … دا كان صاحبي!) ولذلك انطفأ حبه لزاكية، واحترامه للنظام القائم في هذه الأسرة … فسعد بالدور الرمزي الذي يمثله مع أبي العيون …
إن هذا القوس الذي يضم هؤلاء الثلاثة يلتقي بقوس: كامل، شهيرة، أبو العيون، على الأقل عند طرفه الأخير أبو العيون، ولكنه يلتقي به كذلك في إلقاء الضوء على الجانب الميت من هذه الأسرة، فيخلق معاني زاخرة للكفاح الذي يبذله فريد، وأمامه قدر الموت لو استسلم، ويوصله لمحاسن وكريمة وحامد.
وأمام هذه الأقواس والحلقات تتحرك جميع الشخصيات في نطاق الهيكل الكبير، وتتداخل الحبكات حتى تكتمل الدوائر آخر المسرحية، وهكذا نرى أن فهم أي شريحة من أي دائرةٍ لا يكتمل إلا بإدراك معنى الشريحة المقابلة، بل والشرائح المماثلة أو الموازية أو المعارضة لها … فالحبكات ليست مستقلة … ولا يمكن أن ينفصل حدثٌ من هذه الأحداث بنفسه ويستقل … حتى تلك المشاهد التي تبدو في الظاهر مستقلةً مثل مشهد مجلس المهندسين.
إن فريدًا حين يخرج من أول دائرة، دائرة المنزل، إلى الدائرة الأوسع، دائرة العمل، يجد أن نفس المنطق يواجهه … منطق الإنسان الذي يفعل الشر دون أن يدري، دون أن يدرك أنه شرٌّ كأنما هو قدرٌ في داخله أو عامل وراثي متأصل … فهو يرى في مجلس المهندسين محاسن مجسدة … إن كل مهندس محاسن أخرى، فهم يحبون ولا يحبون في الوقت نفسه … ويخطئون في الوقت ذاته (شأن محاسن إزاء فريد وإسماعيل)، ومن ثَم يجد فريد أن حلقة التناقض الغريبة قد اتسعت وأصبح عليه أن ينشد حلًّا لهذا في مجتمع البلدة … أولئك الناس البسطاء الذين لم تفسدهم قواعد الروتين الحكومي المضحكة!
وفي الحلقة الأوسع، حلقة أهل البلدة الريفية، يجد أن هذا المنطق المتناقض قد انعكس أيضًا في حياتهم … فهم لا يفهمون الحكومة … ويحاولون أن يوفقوا بين الأضداد (فسدانة ومش فسدانة)، ولكنهم يفشلون ويتخبطون، إذ كيف يستقيم منطق الناس إذا كان منطق المسئولين قائمًا على التناقض؟
وسعيد يبدأ من حيث ينتهي فريد … ولكنه يبدأ باليأس، حيث انتهى فريد، آخر المسرحية، بالأمل … وبداية سعيد فيها نهايته النفسية، بينما نهاية فريد وطرده من العمل فيها بدايته … ولذلك نرى أن موقف سعيد يزداد جمودًا ومرارةً كلما تقدم سير الحدث … فهو لا يتردد في النهاية في مصارحة الجميع بحقيقة ما يفعل … وإبراز خيانته لزوجته دونما نازع من ضميرٍ أو قلق وإبراز خيانته للمجتمع بنفس الصورة … بينما نرى فريدًا يزداد نضجًا ورزانة … وفي الوقت نفسه يزداد فهمه للمجتمع … ويتحول اندفاعه العاطفي الذي بدأ به إلى اندفاعٍ مدروس وتأمل وتروٍّ قائم على حقائق التجربة التي مر بها.
وموقف سعيد هذا، يجعل من القوس الذي يقف على طرفه قوس هروبٍ وكبت، هروب لكريمة من هذا العالم إلى عالم الرؤى والأحلام، وكبت لأحاسيس حامد إزاءها وإزاء أحلامه في الفن ودنيا الأدب التي يتطلع إليها … أي أن طرفَي القوس الآخرَين يقابلان أيضًا طرفَي قوس فريد: محاسن وإسماعيل، اللذان لا يعرفان الهروب أو الكبت، بل يفعلان كل شيء في صراحةٍ ووضوح وعمد يحير فريدًا ويدفع به في طريق النضج …
وإذا كان هذا القوس يتكون من أشخاصٍ لا يشتركون في أقواس الحدث الأولى، فإن ثمة أقواسًا أخرى تتخذ بعض أطرافها من هؤلاء … مثل: أبو العيون، زاكية، سندس، إن أبا العيون حيث انتهى به حبه لشهيرة يعيش حياة موت لا نبض فيها ولا إحساس، إلا ما تدفع به ذكريات الماضي إلى خياله … فهو هنا هاربٌ مما حوله إلى ما كان، يعيش بين النوم واليقظة في غياب ذهن (يأكل الحلاوة = الحشيش) أو في ملاذ جسد محطم (مع زاكية) أو في لهوٍ رمزي (مع سندس) … وموته هذا لا يوقظه منه إلا ذكرى شهيرة، وذكرى اليوم المشهود الذي ذهب فيه بصره في محاولة إنقاذها من الانتحار … هذه اللحظات التي يفيق فيها هي اللحظات التي تعود فيها زاكية إلى حالتها الطبيعية، فتعود ممزقةً ضائعة محطمة … إنها هربت منذ موت طفلتها إلى عالم الجنون الرحب، الذي لا منطق له، ومن ثَم لا عذاب فيه … إن عقلها الصغير لم يستطع تقبُّل الموت فاختل اتزانه، وهرب بها إلى طفولتها الأولى … فكأنما سكنت جسد الطفلة الميتة وبعثت فيها الحياة …
وعند وصول فريد إلى هذه الحلقة المتسعة، يكون الخناق قد ضاق عليه، وفي الوقت نفسه، يكون قد وصل إلى نضجٍ فريد … نضج من عاش التجربة بكل تفاصيلها وأبعادها، فاكتسب حافزًا جديدًا على الكفاح ومواصلة العمل، وهنا أيضًا تكون جميع خطوط الدوائر قد اكتملت، فبرز المعنى الكبير، أو التيمة الأساسية التي ظلت تتشكل طول الوقت … حتى بلغت ذروتها عند الستار الأخير.
وبراعة التركيب هنا تنبع من مقابلة المواقف وضبط الزمن الذي يحدد لقاء قوسٍ بآخر … ومقابلة شريحة بشريحة … فاستعان المؤلف بحيلة الحوار المتداخل أحيانًا … بحيث تلتقي كلمات لأناسٍ لا تصب في مجرى حديث الغير، ومع ذلك تلقي ضوءًا عليها، وتخلق لها معاني جديدة … واستعان أيضًا بحيل جمع أكثر من طرفٍ في أكثر من قوسٍ معًا، حتى يُمكِّن المشاهد من مقابلة هذا بذاك والخروج بمعنًى آخر … لا يقوم على مجرد الموازنة، بل على حقيقة اجتماعها معًا في بيتٍ واحد أو طريقة تفكير أو إحساسٍ مشترك.
والمسرح التركيبي بصفةٍ عامة لا يحتاج من المشاهد إلى مجرد متابعة للحبكة … بل إلى إعمال الذهن ومعاودة التأمل والربط … وهو لهذا لا يرمي إلى عرض «حكاية» وحسب، بل إلى خلق حياة كبيرة، بكل تركيباتها وتعقيداتها، فيثري كل حكاية بالحكايات الأخرى، ويجعل معاني كل موقف تتعدد وتستقي دلالات من المواقف الأخرى، وهذا (شأن الموسيقى الكلاسيكية) يتطلب المشاهد المتمرس، ذا الذهن الإيجابي النشط، الذي لا يكتفي بالتلقي، وإنما يشارك في التأمل والمتابعة.