كلمة بين يدي رحلتي لتتبع الآثار العربية في الأقطار الغربية
ليس بعجيب أن يكون مثلي مغرمًا بالأندلس وآثار العرب فيها، وفيما جاورها من الأصقاع الأوربية، فإن كل عربي صميم حقيق بأن يبحث عن آثار قومه، ويتعلم مناقب أجداده، ويتدارس معالي هممهم مع إخوانه، ويترك من ذلك تراثًا خالدًا لأعقابه، ولعمري إن آثار العرب في الأندلس هي غرة شادخة وهمة شامخة في تاريخ الأمة العربية، بل نقول ولا نخشى مغالطًا إنها من أنفس ما أثَّره العرب، بل من أنفس ما أثره البشر في الأرض. فلا غرو أن يعجب بها العربي، وينقب عنها، ويشد الرحال إليها ويأخذ العبرة اللازمة منها، فليست هي الآية الناطقة والبينة القاطعة على مجدنا الماضي، وعلى ما قدرنا أن نعمله في سالف الحقب فحسب، بل هي الحجة الملزمة والآية المعجزة المفحمة على جدارتنا بالاستقلال التام، وكفايتنا إذا ملكنا الاستقلال أن نحسن الاضطلاع بالأحكام، وهي أيضًا للدلالة على أننا نقدر أن نعمل في الأعصر المستأنفة ما عملناه في الأعصر السالفة إذا تركنا الأجانب وشأننا.
كنت إذن منذ ريعان شبابي وغضاضة إهابي مولعًا بحضارة الأندلس العربية وآثارها، مشغوفًا بتاريخها وأخبارها حتى أني منذ أربع وثلاثين سنة وهي مدة يصح أن تسمى دهرًا نقلت من الإفرنسية إلى العربية رواية الكاتب الأشهر شاتوبريان المسماة بـ«آخر بني سراج»، وذيلت تلك الرواية المترجمة بتاريخ للأندلس استخلصته من الكتب العربية والأوربية، وأجلت معظم قداح البحث فيه عن سقوط مملكة غرناطة، وجلاء العرب الأخير عن تلك الجزيرة؛ لأن هذه الحقبة من ذلك التاريخ كادت تكون في عصرنا مجهولة، وقد صادف ظهور هذا الكتاب مبدأ النهضة العربية فكان له في النواحي رنة نواح، وسال له من المآقي مدمع سفّاح، وتجددت تذكارات أشجان، وبلغ التأثير من قلوب جميع الذين قرأوه أنهم كانوا يتلونه المرة بعد المرة شفاء لما في صدورهم، أشبه بالثكلى التي لا يشفي ما بها سوى ذرفُ دموعها، ولطم خدودها وتلمس آثار مفقودها، وكانت بازدياد النهضة العربية تزداد الرغبة في هذا المقام وتشرئب إلى الأندلس الأعناق، وتتحلَّب على ذكراها الشفاه، فأعدت من سنين قلائل طبع الرواية المذكورة «آخر بني سراج» مع ذيلها، وأضفت إليهما تاريخًا قديمًا عن سقوط غرناطة عثرت عليه في مدينة مونيخ عاصمة بافاريا يسمى «أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر» لمؤلف لم يذكر اسمه فيه، لكنه يترجح كثيرًا مما لحظنا من كلامه أنه كان ممن حضر الوقائع بنفسه أو ممن عاصر أهلها؛ لأنه يسرد أخبارها سرد من شاهدها بالعيان، أو من روى عمن شاهدها، وأظن المقري عند ما كتب «نفح الطيب» كان مطلعًا على ذلك الكتاب؛ لأني رأيت في كتاب «أخبار العصر» هذا جملًا كثيرة رأيتها في النفح بحروفها، نعم أعدت طبع كتابي ذاك عن الأندلس مضمومًا إليه هذا الكتاب الذي عثرت عليه في مونيخ غُفْلًا من اسم مؤلفه ومعه أربعة مراسيم سلطانية من السلطان أبي الحسن علي بن الأحمر والد أبي عبد الله آخر ملوك العرب بالأندلس الذي سلم غرناطة إلى الملك فرديناند والملكة إيزابلا، وكان طبعي لهذه الكتب منذ ثمان سنوات بمطبعة المنار الشهيرة بمصر.
ولكن كل هذا لم ينقع غلتي ولم يشفِ ما بي من أمر الأندلس، وبقيت بعد معرفتها بالقلم متشوقًا إلى مشاهدتها بالعيان والتجوال فيها بالقدم، استزادة من معرفة أخبارها واقتصاص آثارها، ووفاء بواجب ازديارها، وما زلتُ أحدِّث نفسي برحلة أقوم بها في تلك الديار التي ترك لنا عنها آباؤنا أجمل تذكار، وتعوقني العوائق عنها، وتعترضني الأشغال من دونها، وأنا أخشى أن توافيني المنية قبل تحقيق هذه الأمنية إلى أن يسر الله هذه الرحلة منذ ثلاث سنوات، والأمور مثل النفوس مرهونة بالآجال، وكنت موطنًا النفس على السفر إلى الأندلس في ربيع سنة ١٣٤٨ وفق سنة ١٩٣٠ فجدت شئون وطرأت طوارئ اقتضت أن نراجع جمعية الأمم في جنيف مراجعات مستمرة قضت عليَّ بأن لا أفارق جنيف في تلك الآونة، بحيث إنه أقبل الصيف يسحب من ذيله، وجاء الحر هاجمًا برجله وخيله، فأخذ بعض الإخوان يشيرون عليَّ بتأخير الرحلة إلى الشتاء التالي أو إلى الربيع الذي وراءه ذهابًا إلى أن السياحة في إسبانية لا تلائم في أيام القيظ لا سيما القطعة الأندلسية التي أنا قاصدها، فلم يكن ذلك ليغير من نيتي ولا ليرخي من مشدود طيتي؛ لأني لم أبرح في هذه المسألة منذ ثلاثين سنة أمني بها النفس، وكلما حدا سائق بدا عائق، ونحن نعتمد على التأخير والتسويف ونعلل النفس بشتاء وصيف وربيع وخريف، وقد عرفنا أكثر البلاد الأوربية ولم تبقَ مدينة فيها إلا دخلناها، وربما بدل المرة الواحدة مرارًا، وقتلنا أحوالها درسًا واختبارًا، ولم يبقَ من أوربة ما لم نعرفه سوى الأصقاع الإسكندنافية في الشمال والبلاد الإسبانية في الجنوب، فأما الأولى فإنه يجوز لمثلنا أن يعرفها كما أنه يجوز له أن لا يعرفها إذا عاقته العوائق عن معرفتها، ولكن الأندلس التي نحِنّ إليها منذ نعومة الأظفار ونقرأ عنها بل نؤلف الأسفار، فإنه لا يجوز لمثلنا أن يتأخر عن السفر إليها، ونحن لا نزال أنضاء أسفار بين الأقطار، وعليه انتهزنا هذه الفرصة، واغتنمنا من وقتنا هذه الخلسة قاصدين إلى الأندلس عن طريق فرنسة التي حصلنها على رخصة المرور بها أيامًا معدودات، وذلك أنه لما كان الغرض الأصلي من الرحلة اقتراء آثار العرب كيف حلّوا، وأنّى ارتحلوا من هذه الديار الغربية كان لا بد لنا أولًا من زيارة فرنسة التي كانت للعرب فيها جولة، بل كانت لهم في جنوبيها دولة وصولة، وطالما عصفت ريحهم ببلاد الإفرنجة بعد أن عصفت ببلاد القوط والجلالقة والباشكنس وغيرهم من أمم الغرب التي خفضوا دعائمها ونقضوا مرائرها، وكادوا يلحقون بأولها آخرها، وها أنا ذا أحدث عن سياحتي:
(١) الكلام على طلوزة وقرقشونة
رأيت مناسبًا ابتداء الكلام على فرنسة العربية قبل الانتقال إلى إسبانية العربية، وذلك بناء على كوني بدأت رحلتي من فرنسة، ولما كان غرضي من هذه الرحلة هو استقصاء آثار العرب وأخبارهم أينما كانوا وحلوا من القارة الأوربية توخيت أن لا أخرج عن هذا الصدد إلا نادرًا مما يقتضيه سياق البحث، فلو كنت زرت الأندلس مبتدئًا من المكان الذي دخل منه العرب، أي: من الجنوب لكان الترتيب يقضي عليَّ بأن أبدأ بجبل طارق، فالجزيرة الخضراء فشريش فأشبيلية فقرطبة فطليطلة وهلم جرّا نحو الشمال، وأن أنتهي بأربونة فقرقشونة ونيم وأفينيون إلى جبال الألب بين إيطالية وفرنسة وسويسرة، وهكذا كان ينبغي أن أفعل لو كنت حرًّا أن أسكن في هذه الأيام وطني سورية، فكان السفر منها إلى الأندلس على الطريق الذي سلكه أجدادنا عند فتحهم تلك الديار، وهي طريق المغرب، ولكن الغربة التي تطوحنا بها بسبب نضالنا عن استقلال وطننا قضت علينا بأن نسكن أوربة، وأن نقصد الأندلس من شماليها لا من جنوبيها، أى: من حيث نحن مقيمون الآن، ومن حيث انتهى العرب في فتوحاتهم الأوربية لا من حيث ابتدأوا بها، ولما كان المقصود هو كما قلنا من استقراء آثار السلف وتأثر خطواتهم، حيث دلَّ عليها التاريخ، وأثبتها الأثر من قارة أوربة بدون تقيد بمكان معين وبدون التزام، ما شاهدناه من هذه الأماكن بالعين بل باطراد الكلام على جيل من الغولوا ولا نعلمما شاهدناه إلى ما لم نشاهده مما جاوره ودخل تحت حكمه، أى: جميع ما قيل إن أقدام العرب وطئته من هذه البلدان في حملتهم الأولى على الغرب، لم يكن لنا بد من أن نتناول طلوزة وقرقشونة وأربونة ونيم وأفينيون وليون، وليست هذه فقط بل جميع البلاد التي احتلوها من جنوبي فرنسة، وما صاقب ذلك من شمالي إيطالية، وما ناوح ذلك من جبال الألب العالية الواقعة اليوم بين هذه الممالك الثلاث: فرنسة وإيطالية وسويسرة، إلى حدود بحيرة كونستاتزة من ألمانية.
فكان هذا الكتاب وإن استقل باسم «تاريخ غزوات العرب في فرنسة وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط» هو في الحقيقة جزءًا من رحلتي الأندلسية التي نحن بسبيلها؛ لأنها هي خاتمة مطاف العرب في أوربة، وفاتحة ما أفاضوا إليه من الممالك بعد فتحهم للأندلس، وإذا لحظت أني قد بدأت بالرحلة وبتاريخ حملة العرب على أوربة من هذه الجهة كان لك أن تقول: إني جعلت أولًا ما كان ينبغي أن يكون آخرًا، فإن هذا الجزء هو الآخر باعتبار فتوحات العرب، ولكن قضت الأقدار بأن يكون هو الأول باعتبار ترتيب سياحتي التي بدأت فيها من الشمال إلى الجنوب، فرأيت أنا أولًا ما فتحوه هم أخيرًا، ورأيت آخرًا ما احتلوه هم أولًا.
وبالجملة فموضوع هذا الكتاب هو أيام العرب، في فرنسة وفي شمالي إيطالية وقلب سويسرة، وهو أول تأليف عربي مستقل في هذا الموضوع.
طلوزة Toulouse
وقد كانت غارة العرب على طلوزة في أيام إمارة السمح بن مالك الخولاني على الأندلس، وذلك لمضي إحدى عشرة سنة على دخول العرب إلى إسبانية كما سيأتي عند الكلام على غارات العرب في جنوب فرنسة.