مبدأ غارات العرب على فرنسة وما اعتمدنا عليه من الروايات عنها
قال المسيو رينو في مقدمة كتابه:
جاء وقت كانت فيه فرنسة عرضة لغارات شعب أجنبي كان قد استولى على إسبانية وبلدان أخرى مجاورة لها، وجاء بدين جديد ولسان جديد وأوضاع جديدة، فأصبحت المسألة مسألة هل فرنسة وسائر ممالك أوربة التي لما تخضع لهذا الشعب الجديد تقدر أن تحتفظ بأعز ما يحتفظ به الإنسان من دين ووطن وأوضاع أم لا؟
وكان الناس يتساءلون عن كنه هذه الوقائع التي ترتب عليها احتلال ذلك الشعب لقسم من بلادنا ومن آية جهة وقعت، وأية أحوال أحاطت بها، وهل كان المغيرون كلهم من العرب، أم كانوا من أمم شتى؟ وما كانت نتائج هذه الغارات المتكررة كثيرًا؟ وهل بقي في البلاد منها آثار أم لا؟
إذن حكاية العرب لوقائع غارات العرب على فرنسة كانت متأخرة عن زمن حدوثها في القرن التاسع المسيحي، كما أن منها ما لم يتعرض العرب للبحث عنه أصلًا.
وقد كان مما يفيد في هذا الباب المسكوكات التي كان يضربها الفاتحون، إلا أن العرب في إسبانية وفرنسة لم يكونوا إلى القرن العاشر يعرفون سوى مسكوكات قرطبة، فأما مسكوكات ما قبل هذا التاريخ فلم يكن فيها شيء سوى آيات قرآنية، ولم يكن فيها ذكر ملك ولا أمير.
فمن أجل هذا كان من الصعب جدًّا معرفة أخبار العرب في الأدوار الأولى من استيلاهم على إسبانية، وأصعب منه معرفة أخبار استيلائهم على ما استولوا عليه من فرنسة.
وفي كتاب فوستينو بوربون هذا شواهد عربية محرفة إلا أنه عنده بصر بالنقد، وإنك لتجد في كلامه على جيوش العرب الفاتحين واختلاف أصولها الذي أدى إلى تنازعها تدقيقات لا يعرفها كوند.
ولقد اتبعنا في عملنا هذا الطريقة الآتية، وهي أن نمحص عن الوقائع شهادات المعاصرين أو الذين كانوا في العهد أقرب من غيرهم إليها، ومهما قيل عن النقصان الذي في روايات المؤرخين المسيحيين الذين كانوا في ذلك العهد، فإننا قد وجدنا فيها ما يستحق كثيرًا من الاعتبار بحيث إذا تطابقت مع روايات العرب جزمنا بأن الحقيقة هي هناك، وأما إن لم تطابق روايات هؤلاء روايات أولئك، فإننا ننقل حينئذ ما قاله كلٌّ من الفريقين ونبدي رأينا في ترجيح الأقرب إلى العقل، وأما المنابع التي لم نقدر أن نصل إليها فقد نبهنا عليها وأشرنا إلى أماكنها، وذلك كبعض وقائع رواها كوندي نقلًا عن كتب العرب فقد كان الأحسن أن ننقل تلك النصوص بعينها، ولكننا لم نظفر بها.
وفي آخر كتابنا هذا نذكر الشعوب التي انضمت إلى العرب، وأوشكت بالاتحاد مع العرب أن تُخضع أوربة كلها لشريعة القرآن، فنحن نطلق على الجميع اسم «سارازين» وهي لفظة لم يُجزم إلى الآن في وجه اشتقاقها، أو لفظ «المور» أي المغاربة؛ وذلك لأن العرب جاءوا أولًا إلى المغرب، ومنه دخلوا إلى إسبانية فسموا من أجل هذا مغاربة، وليعلم أنه في أثناء ما كان المسلمون يكتسحون أراضي فرنسة ويجتاحون شمالي إيطالية وبلاد سويسرة كانت منهم عصائب حاكمة في صقلية وجنوبي إيطالية، ولم يكن لغارات هؤلاء صلة بغارات أولئك، ولكن كان لها تأثير بعضها في بعض مما لم تفتنا الإشارة إليه.
ثم إنه في جميع البلاد التي احتلها العرب طويلًا أو قصيرًا كانت بقيت لهم آثار وسرت عنهم أخبار، فهنا كنت ترى قلعة كانوا يعتصمون بها عندما يجتاحون تلك الأرض، وهناك كانت مخاضة نهر أو قنطرة كانوا يأخذون عندها رسمًا على المارين، وهنالك كهف في واد كانوا يضعون فيه الغنائم، وعلى تلك الجبال أبراج متناوحة كانوا يتبادلون منها الإشارات النارية لأجل توحيد حركاتهم، وهلم جرّا، فالآثار والأخبار التي لا ترتكز على دليل وثيق من ذلك العصر نفسه لم نتعرض لها.
وكذلك لما كانت شهرة شارلمان قد غلبت شهرة الجميع فإن القُصَّاص نسبوا إلى أيامه حوادث وقعت من قبله، وحوادث أخرى وقعت من بعده، فالوقائع التي جرت في زمان شارل مارتل جعلوها في زمان شارلمان، وما زالوا ينسبون إلى أيام شارلمان غزوات جميع الإفرنج في بلاد المسلمين إلى القرن العاشر بل إلى آخر القرن الحادي عشر أي الزمن الذي استصرخ فيه مسلمو الأندلس يوسف بن تاشفين ملك المرابطين، فتأمل.
ومن هذا النمط تعمد بعض القصاص والزجالين أن ينحلوا أجداد ممدوحيهم فضل تحرير البلاد وطرد الأعداء، وذلك مثل قصيدة غيليوم ذي الأنف الأصلم الذي ينسب إليه الشاعر إجلاء العرب عن تولوز ونيم وأورانج وغيرها من مدن فرنسة.
ولنعد إلى موضوع كتابنا هذا فنقول: ليست المسألة مسألة اجتياح بعض مقاطعات محدودة بل قد بقي جانب كبير من فرنسة ميدانًا لجيوش العرب مدة طويلة، ثم تجاوزوا منها إلى «سافواي» و«بيمونت» و«سويسرة» واحتلوا أمنع الحصون من قلب أوربة، وذلك من خليج «سان تروبيس» إلى بحيرة «كونستانزة» ومن نهر الرون وجبل «جورا» إلى سهول جبل «فرات» و«لومبارديه»، ومما لا جدال فيه أن تذكار الغزوات العربية في هذه الديار لم يكن بدون تأثير في الحملات الصليبية وفي هذه الحركة العامة التي اندرأت بها أوربة على آسية وإفريقية، ووضعت أصحاب الإنجيل في وجه أصحاب القرآن مدة قرون مستطيلة.
لقد فسحنا بهذا الكتاب مجالًا للباحثين في هذا الموضوع بحيث يمكن من يأتي بعدنا أن يأتوا بمعلومات جديدة عنه، ولما كانت الشقة بعيدة بين زمن هذه الوقائع والزمان الحاضر فقد بقيت في كتابنا مواضع كثير مفتقرة إلى الجلاء، ومع هذا فإنْ كنا قد قدرنا أن نلقي بعض الشعاع على هذا القسم الذي هو أغمض قسم من تاريخ فرنسة، فلا يكون ذهب عناؤنا سدى.
انتهى ملخصًا كلام المستشرق الإفرنسي رينو في مقدمة كتابه.
ثم شرع رينو في سرد الوقائع فقال تحت عنوان: «القسم الأول في حملات العرب الأولى على فرنسة إلى عهد إخراجهم من أربونة واللانغدوق سنة ٧٥٩ مسيحية».
وقد كاد يكون هذا هو الواقع، وجاء زمن ظن الناس فيه أن جميع الربع العامر سيعنو لراية النبي ﷺ، فإنه ما مضت سنوات قلائل حتى ضرب الإسلام بجرانه على العراق وفارس والشام ومصر وإفريقية إلى سيف الأوقيانوس الأطلنتيكي، ثم من إفريقية أغار العرب على إسبانية وما زالوا يجوسون خلال البلاد إلى أن بلغوا فرنسة، وصارت جميع قارة أوربة تحت خطر استيلائهم، ثم من الجهة الأخرى تجاوزوا سيحون وجيحون وما زالوا يفتحون البلدان حتى ظن أنه لن يقف في وجههم شيء إلا أن كان من الحدود الطبيعية التي للكرة الأرضية.
هوامش
D’aprés Les auteurs Chréliens et Mahométans. Par M. Reinaud.
Membre de L’institut (Académie royale des inscriptions et belleslettres), conservateur — adjaint des manuscrits orientaux de la bibliothèque Royale, etc.
وهو يعبر عن المسلمين بلفظة «سارازين» التي قيل: إنها أُطلقت على العرب لكونهم غالبًا سمر الألوان أشبه بالحنطة السمراء التي يقال لها: «سارازين». وقيل: بل هي محرفة عن «سرا كنو» التي هي المسلمون بلغة الروم وهذه محرفة عن Scharaka أي شرقي أو «شراقة» أي شرقيين بالجمع، وقد ذكر ابن بطوطة في رحلته أن ملك القسطنطينية سأل عنه: هل هو سراكنو؟ أي مسلم.
غارة العرب على سويسرة في أواسط القرن العاشر تأليف الدكتور فرديناند كيللر من مطبوعات جمعية الآثار القديمة في زوريخ.
قلت: وجدنا في مروج الذهب للمسعودي طبعة مصر التي طُبعت بالمطبعة الأزهرية سنة ١٣٠٢ هجرية سرد هذه الرواية كما يلي: وجدت في كتاب وقع إلى الفسطاط بمصر سنة ست وثلاثين وثلاثمائة أهداه غومار الأسقف بمدينة زهرة من مدن الإفرنجة في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة إلى الحكم بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، ولي عهد أبيه عبد الرحمن صاحب الأندلس في هذا الوقت، في عهده: يا أمير المؤمنين إن أول ملوك إفرنجة «فلووزيه» وكان مجوسيًّا فتنصر هو وابنه لذريق وابنه دفشرت، ثم ولي بعده ابنه لذريق، ثم ولي بعده قركمان بن دفشرت، ثم ولي بعه ابنه تنين، ثم ولي بعده نازلة بن تنين وكانت ولايته ستًّا وعشرين سنة، وكان في أيام الحكم صاحب الأندلس، وقد تواقع أولاده ووقع الاختلاف بينهم حتى تفانت الإفرنجة بسببهم، وصار لذريق بن نازلة صاحب ملكهم فملك ثمانيًا وعشرين سنة وستة أشهر، وهو الذي أقبل إلى طرطوشة فحاصرها، ثم ولي بعده ابنه نازلة، وهو الذي تهادى مع محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، وكان محمد يخاطب بالإمام، وكانت ولايته تسعًا وثلاثين سنة وستة أشهر، ثم ولي بعده ابنه لذريق ستة أعوام، ثم وثب عليه قائد الإفرنجة المسمى برشة، وملك إفرنجة فأقام في ملكهم ثماني سنين، وهو الذي صالح المجوس عن المدة سبع سنين بستمائة رطل ذهب وستمائة رطل فضة يؤديها صاحب الإفرنج إليهم، ثم ولي بعده نازلة بن بغربرث أربع سنين، ثم ملك بعد نازلة أخوه ومكث إحدى وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، ثم ولي بعده لذريق بن نازلة وهو ملك إفرنجة إلى هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، واستوت مملكته عشر سنين إلى هذا التاريخ على حسب ما أتى إلينا من خبره. أ.هـ.
قلت: في الأسماء تحريف كثير عن الأصل، فأما «قلووزيه» فهو كلوفيس، هذا ظاهر، وإما أن له ولدًا اسمه «لذريق» فهذا الاسم بدون شك هو هنا خطأ من النساخ؛ إذ إنه لم يكن لكلوفيس أو قلووزيه ولد يقال له ذريق Rodrigue وإنما كان له ولد اسمه «كلودومير» Clodomir ولعل العرب لفظوها «قلذمير» فجاء النساخ للكتاب وقلبوها إلى لذريق، وأما «دفشرت» بن كلوفيس فهو تحريف أيضًا وأصله بدون شك «شيلدبرت» Cheldebert لأنه اسم أحد أولاد كلوفيس، وأما «تنين» فهو تحريف أيضًا وأصله «تييري» Thierry اسم أحد أبناء كلوفيس الذي كان له أربعة أولاد، هؤلاء الثلاثة، والرابع هو (كلوتير) Clotaire فأما نازلة فنظنه مجرد خطأ من النساخ، وربما كان أصل اللفظة «كلوتر» أو «كلاتر» ولم يحسنوا قراءتها وقلبوا راءها زايًا فابتعدت جدًّا عن أصلها، وأما قول المسعودي عن مؤلف هذا الكتاب إنه غومار مطران زهرة من مدن الإفرنجة، فقد تحققنا أن أصل اسمه غودمار وأنه من جيرون، وإنه كان أسقفًا على «سيريه» Ceret من مدن «روسيون» Roussilon التي هي اليوم من مدن ولاية البيرانه الشرقية من فرنسة، فزهرة تحريف عن «سيريه» أو «سره».
قلت: هذا الكتاب هو «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب للعلامة أحمد بن محمد بن أحمد المقري المغربي التلمساني المالكي الأشعري رحمه الله، وهو من أشهر كتب الأدب والتاريخ في العربية، ألفه صاحبه في سنة ١٠٣٧هـ، وذلك في الشام حيث كان قد ألقى عصا التسيار بعد أن حج البيت الحرام وزار المسجد الأقصى، وقد ذكر في مقدمة الكتاب أن له بالشام تعلقًا من وجوه عديدة؛ أولها: أن الداعي لتأليفه أهل الشام. ثانيها: أن الفاتحين للأندلس هم أهل الشام. ثالثها: أن غالب أهل الأندلس هم من عرب الشام الذين اتخذوا بالأندلس وطنًا مستأنفًا. رابعها: أن غرناطة نزل بها أهل دمشق وسموها باسمها لشبهها بها في القصر والنهر والدوح والزهر … إلخ.
أما حديث: «زُوِيَتْ لِي مَشَارِقُ الأَرضِ وَمغَارِبُهَا وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِى مَا زُوِيَ لِي مِنْها» فقد رواه مسلم وأحمد والنسائي، وهو مروي عن أبي الربيع العتكي وقتيبة بن سعيد عن حماد بن زيد (واللفظة لقتيبة): حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتى أن لا يهلكها بسنة بعامة» (وعلى رواية أخرى: بسنة عامة) وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة»، وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها (أو قال: مَن بين أقطارها) حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا». أ.هـ.