كتاب غارة العرب على سويسرة في أواسط القرن العاشر
تأليف الدكتور فرديناند كلر
Der einfall der Sarazenenen in die
Schweiz.
um die mitte des X Jahremderts.
Von dr Ferdinand Keller.
Mittheilungen der antiquarischen.
Gesellsehaft in Zurich.
وهو كتاب بالألمانية، نشرته شركة «الآثار العتيقة» في زوريخ، في سنة ١٨٥٦ وقد أطلعنا
عليه العلامة الأستاذ «البروفسور هس» مدرس التاريخ والألسن الشرقية في جامعة زوريخ من
سويسرة، وذلك في سنة ١٩١٩ وهو أول كتاب اطلعنا عليه في هذا الموضوع، فلخصناه يومئذ،
ونشرنا خلاصته في مجلة المنار لصاحبها الأستاذ العلامة السيد رشيد رضا، ثم إننا رأينا
نقل هذا الكتاب برمته إلى العربية في كتابنا هذا، ولم نختصر منه إلا في المظان التي ليس
فيها طائل.
قال فرديناند كلر في كتابه:
قال ليوبراند
(Liuprand): إنه بحسب إرادة
الله التي لا يدرك سرها، قد جرى في سنة ٨٩١ أنه جاء عشرون عربيًّا في مركب صغير
من سواحل إسبانية، قذف بهم الريح بالرغم منهم نحو خليج القديس تروبز
St Tropez في بروفانس
Provence. فنزلوا إلى البر هناك، على عادة
لصوص البحر، وكان نزولهم في جوف الليل فتسللوا إلى قرية «تروبز» وفتكوا بأهلها
المسيحيين، وملكوا الناحية، ثم اتخذوا معقلًا الجبل المسمى موروس
Maurus ليكونوا في حرز حريز من عادية الأمم
المجاورة، وكان ذلك الجبل مغطى بالأشجار الشائكة التي كانوا يحتمون بأشواكها
وألفافها، ولم يجعلوا فيها سوى شعب واحد لأنفسهم يمرون فيه، وهذا المكان يسمى
فراكسينيتوم
Fraxinétum١ يحده البحر من جهة ومن جهة أخرى غابة مؤتشبة مشتبكة الأغصان، من
نشب فيها نفذت فيه أشواك أحد من الحراب فلا يقدر أن يتقدم ولا أن يعود، فأمنوا
في هذا المكان المنيع وصار لهم سربًا وصاروا يجولون في الجهات المجاورة بدون
وجل، واثقين بمكمنهم هذا، ثم أنفذوا رسولًا إلى إسبانية لأجل أن يندب الناس من
قومهم، ليلتحقوا بهم، فمدح الرسول المكان وأطمع الناس فيه، وقال: إن أهالي تلك
البلاد لا يخشى بأسهم وليسوا بجمرة قوية فلم يلبث إلا قليلًا حتى رجع ومعه مائة
رجل من العرب، جاءوا ليتحققوا ما ذكره لهم الرسول عن هذا الموقع وطيب
نجعته.
وقد أسعف غارة العرب هذه ما كان بين أهل بلاد بروفانس، من الشقاق البعيد،
وقيام بعضهم ضد بعض، فكان بعضهم لأجل أن يستأصل البعض الآخر يستنجد هؤلاء العرب
العفارية المكارين، فكان من اختلاف أهالي تلك البلاد، ومن توالي النجدات إلى
العرب من إسبانية، أن أصبح هؤلاء آمنين في سربهم، وشرعوا يجولون ويسلبون
ويقتلون كيفما شاءوا، وكيفما لاح لهم الصيد، واجتاحوا تلك البلاد الخصيبة
اجتياحًا تامًّا وأصابوا فيها مغانم كثيرة.
هذه هي الرواية الحرفية لمؤرخ معاصر
٢ عن نزول المسلمين في سواحل بروفانس وعن طبيعة جبل «فراكسيناتوم» وكيفية
تحصينهم له، بحيث بقي مدة سنين طوال مركزًا لقوتهم في هذا الجانب من أوربة وصيصية
يمتنعون بها ويبعثون منها شراذم كثيرة أو قليلة إلى الجنوب، وإلى الشرق من جبال الألب
البحرية، وما عتموا أن صارت لهم شوكة يتحدث الناس بها، برعب الناس منهم، وباعتمادهم هم
على أنفسهم، وكانت لهم غزوات بعيدة المغار، لأجل الغنائم، فإذا لم يجدوا أمامهم من يقرع
النبع بالنبع نهبوا تلك الأديار الغنية والمدن المحصنة والمعاقل التي كان يسكنها أشراف
البلاد، وتركوها قاعًا صفصفًا كأن لم تغن بالأمس.
والذى يظهر جليًّا من روايات مؤرخي ذلك العصر أن هذه الغارة لم تكن ذات مغزى سياسي
كغيرها من الغارات، ولا كان لها غرض راجع إلى توسيع ممالك الدولة الإسلامية الأندلسية،
ولم يكن مقصد هذه العصابة إخضاع أهالي هاتيك البلدان لسلطانها. وذلك لأن عددها لم يكن
كافيًا لتحقيق دعوى كهذه، وقصارى ما كانت ترمي إليه أن تحوز الذهب والكنوز التي تعثر
عليها، وتعود بها إلى معقلها في جبل فراكسيناتوم، وأنها إذا وجدت طالع الحرب قد خانها
تشحنها في السفن الراسية في خليج فركسيناتوم وتطوير بها بجناح الريح قافلة إلى إسبانية،
وكذلك يظهر أن خليفة إسبانية لم يكن ذا علاقة بهذه العصابة التي تطوحت في ذلك الفج
السحيق ولا أتاها أدنى مدد من جهته.
٣
وأما السؤال عن الوقت الذي اجتاز فيه المسلمون جبال الألب، وتوغلوا في أرض إيطالية،
فإنه لا يجد جوابًا مستندًا على معلومات دقيقة ويجب أن يكون هذا الحادث قد وقع على كل
حال في أوائل القرن العاشر، فقد دلنا محرر المذكرات اليومية لدير «نوفاليز»
Novalese الذي على مقربة من «سوزا»
Susa بحذاء جبل «سنيس»
Senis على
أن غارة المسلمين كانت في نواحي سنة ٩٠٦، فمنذ تلك السنة كانوا في «بروفانس»
و«بورغوند»
Burgund و«شيمله»
Cimella حول «نيسه»
Nizza يجولون
ويقتلون ويحرقون، ومن المحقق أنهم في هذه السنة كانوا يتوقلون في جبل سنيس وكانوا قد
فتحوا الباب نحو بلاد سافواي وسويسرة، وفي أسفل هذا الجبل كان دير نوفاليزه الذي كان
من
أعظم الأديار وأغناها، فلما سمع الرهبان بلصوصية هؤلاء القوم وبقسوتهم، وكانوا يعرفون
جيدًا ما وراءهم حزموا ما في الدير من الأشياء الثمينة ومن جملتها خزانة النفيسة وذهبوا
بها إلى تورين لتكون بمأمن. فما كادوا يفارقون الدير حتى جاء المسلمون واكتسحوا كل شيء
وأحرقوا الكنيسة والبناء كله، وكان راهبان طاعنان في السن قد بقيا في الدير لأجل حراسته
فقبضوا عليهما وأهانوهما.
٤
وفي ذلك العهد أصبحت البلاد الواقعة بين نهري «بو»
Po و«الرون» مجالًا للغارات والعيث، فالبييمون وبروفانس وبلاد
«دوفيني»
Dauphiné و«مونتفرات»
Montferrat وبلاد «تارنتيزة»
Tarentaise كانت كل سنة عرضة للدمار والنار، وقد حدَّث مدونو الوقائع
اليومية في ذلك العصر عن حوادث ترعد لها الفرائص، مما فعله هؤلاء العرب ورووا كيف كانوا
يهجمون على التجار والزوار عابري السبيل، ويسلبونهم ما معهم وإذا حاولوا الدفاع عن
أنفسهم يقتلونهم.
٥ وكان أكابر القوم لا سيما الرؤساء الروحيون الذين يؤمون رومة واقعين تحت
الخطر الشديد من غارات العرب، بسبب ما يحملون من الذخائر وما يستصحبون من الأعلاق
النفيسة، وأما في القرى فلم يكونوا يقتصرون في النهب على الخيل والمواشي، بل كانوا
ينهبون كل ما له قيمة، ويقبضون على الرجال والنساء والأطفال ويبيعونهم في سوق الرقيق،
وكانوا إذا رأوا مقاومة من بعض البلاد وطاح منهم أناس في المعركة، انتقموا لأنفسهم
بإحراق هاتيك المدن حتى يصيروها رمادًا، وكانت تنقطع العلاقات والمواصلات أحيانًا بين
البلاد بسبب غارات العرب وكان أهالي الأماكن التي يهاجمها المسلمون يفرون ويلجأون إلى
الجبال والغابات، وربما قاوموا العرب وربما كانت لهم الغلبة عليهم، إلا أنهم لم يكونوا
يقومون عليهم بصورة نفير عام ولا كان ينتدب لهم يومئذ أدلاء مستبسلون، وأشنع شيء كان
هو
عدم الوئام بين أهالي البلاد، بسبب عداوة الأمراء بعضهم لبعض، واستنجادهم في حروبهم
الداخلية بهؤلاء الأعداء، وكان من الطبيعي أن يوجه العرب كل همتهم إلى الاستيلاء إلى
الطرق العامة، وبنوع خاص على معابر جبال الألب، لأنهم كانوا يرون في ذلك أحسن طريقة
للكسب والسلب، فكانت المتاجر والبضائع تقع هناك تحت أيديهم على طرف الثمام وكان
المسافرون الأغنياء يأخذون معهم في أسفارهم كل ما يلزم لهم، فكان في ذلك مطمع عظيم
للمسلمين، وكانوا في تلك الطرق الجبلية يتمكنون من استقبال السابلين بالسهام والحجارة،
ومن إلقائهم في الأودية والمهاوي بحيث إنهم بعدد غير كبير كانوا يقدرون على ما لا تقدر
عليه الجيوش الكبيرة.
وروى «فلودوارد»
Flodoard في تعليقاته السنوية أن
المسلمين سنة ٩٢١ أتوا على قافلة من حجاج الإنكليز كانت ذاهبة إلى رومة، فلقوها في بعض
أودية الألب، واستأصلوها، وبعد ذلك بسنتين لقوا قافلة إنجليزية أخرى وفتكوا بها، ثم
إنهم في سنة ٩٢٩ لقوا قافلة حجاج أخرى أيضًا، فاضطر هؤلاء إلى الرجوع قبل أن يقعوا في
أيديهم، ولما كان غير ممكن تعيين أماكن هذه الوقائع فلا نقدر أن نحكم في أي محل حصلت،
أفي ضمن حدود إيطالية إلى جهة سويسرة، أما في حدود فرنسة؟ وإذا فكرنا أنه كان من عادة
المسافرين الإنكليز الذين يقصدون رومة أن يجتازوا من معبر سان برنار،
٦ لزم أن نرجح كون الوقائع المذكورة جرت في ضمن حدود إيطالية، ولقد اطلعنا
على تاريخ يثبت أن كنوت
“Knnut” ملك إنكلترة والدانمرك
الذي كان يلقب بالكبير كان قد طلب من رودولف
“Rudolf”
الثالث ملك برغوند
Burgond أن يأمر بالتسهيلات اللازمة
سواء من جهة تأمين الطرق أو من جهة الإعفاء من الرسوم للقسوس والتجار والحجاج الذين من
ممالكه يؤمون رومة.
٧
في أي حقبة من القرن العاشر تمكن العرب من معبر سان برنار الذي كان يسمى حينئذ
بجبل جوفيس “Mont Jovis” وفي أية سنة بسطوا
سيادتهم على تلك البقعة؟
هذا شيء لا نقدر أن نحدده، نعم توجد كتابات، من ذلك الوقت، متعلقة بهذه الحوادث،
إلا
أنها لا تحتوي على تواريخ يمكن الاعتماد عليها، والذي يظهر من كلام رينو
٨ أنه يميل للقول بأن هذه الحوادث جرت في سنة ٩٣٩ لكننا سنرى فيما يأتي أنها
جرت قبل هذا التاريخ.
٩ ومن المحقق أن العرب نزلوا سنة ٩٤٠ من جبال سان برنار العالية إلى وادي
الرون الخصيب، حيث كان مبنيًّا دير أغاوونوم
“Agaunum”
العظيم، المؤسس على اسم سان «موريتيوس
Mauritius»
وأصحابه، والذي كان فيه ذخائر كثيرة من الذهب والفضة وأصناف الجواهر، المهداة إليه من
الملوك الكارلوفنجيين والبورغونيين، وكانت محفوظة ضمن حيطانه، ففي السنة المذكورة هجم
العرب على هذا الدير ونهبوه وأحرقوه وتركوه رمادًا، ولم يمضِ إلا قليل حتى جاء القديس
«أولريك»
Ulrich أسقف «أوغسبورغ»
Augsburg في أثناء سفرته إلى برغوند، وزار هذا المكان لأجل نقل
عظام الشهداء التي أذن له كونراد ملك بورغوند في دفنها في أوغسبورغ، ولم يكن باقيًا
هناك سوى خادم واحد يحرس البناء الذي صار طُعْمَة للنار.
١٠
ومما جاء في تاريخ «فلودوارد» أنه في سنة ٩٤٠ جاءت قافلة مؤلفة من حجاج إنكليز
وغاليين، كانوا قاصدين رومة، فبعد أن فقدت بعض رجالها رجعت من حيث أتت لأن العرب كانوا
قد استولوا على القرية والدير المذكور.
وقد ذكر مؤرخو الفرنسيس كتابًا محفوظًا موجهًا من راهب من دير سان «موريس»
St-Maurice اسمه رودولف إلى ملك فرنسة لويس الرابع
المسمى «أوترمير»
Outremer يقول له فيه: كم ألقى الله
من سلام على ملوك فرنسة من «كلوفيس» و«داغوبرت» إلى كارل الكبير
١١ لكونهم اعتنوا بهذا المكان وقدسوه، وهو يلتمس منه أن ينفق على هذا المكان
لأجل تجديد بناء الدير وترميم قبور القديسين الذين دُفنوا فيه.
وفي ذلك الوقت كانت العصابة من دعار العرب الذين جعلوا مساكنهم في جبال الألب
المعروفة بالألب البونينية
Pôninische قد بدأت تشن
الغارات على بحيرة جنيف وبلاد «فاد»
١٢ كما ذكر المؤرخون المعاصرون، ويظهر أنها كانت استولت على معابر جبال الألب
الشرقية، فإذا كان ينقصنا تواريخ مضبوطة عن دخول العرب إلى جبال الألب الغربية، وجوسهم
الأودية التي تتخللها، فإن عندنا قاعدة متينة لتاريخ وجودهم في شرقي سويسرة، بما هو
محفوظ من الوثائق التاريخية في سجلات «كور
Chur»
الأسقفية. فإن فلودوارد يذكر من جملة وقائع سنة ٩٣٦: «أن العرب شنوا الغارة على سويسرة
الألمانية وقتلوا كثيرًا من الحجاج الذين كانوا قافلين من رومة».
ومما لا ينقدح فيه أدنى عارض من شك أن جانبًا من سويسرة الألمانية وهو القسم الذي
من
«كور» إلى وادي «الرين» كان المسلمون قد اكتسحوه. وليس هذا القسم سوى جبال الألب
الراتية
Ratische العليا فإن ثبت هذا الرأي فقد
ترتب عليه إما أن تكون غارة العرب على مقاطعة «فاليس
Wallis» قبل سنة ٩٣٩ أو أن يكون احتلالهم لجبال الألب الراتية سبق
احتلالهم لجبال الألب البونينية، وليس من المحقق ما ذهب إليه فلودوارد من أن احتلال
العرب لمعابر الألب سنة ٩٣٦ أو سنة ٩٣٣ يعني به احتلالهم جبال الألب الراتية، وإنما
المحقق كون «كور» ونواحيها قد اجتاحها العرب قبل سنة ٩٤٠ وأنه ليكون ذا بال أن تتمكن
من
معرفة الطريق التي سلكها العرب عندما تبطنوا أحشاء هذه البلاد، هل جاءوا من البيامون
منقسمين شطرين، شطر منهم اتبع جبال الألب الشرقية، والشطر الآخر اتبع جبال الألب
الغربية من سويسرة؟ الجواب: ليس بمستحيل أن يكونوا قصدوا ناحية «راتين» وبلغوها برغم
قلة عددهم، معتمدين على بسالتهم والرعب الذي وقع في قلوب الناس منهم، ففتحوا طريقًا
لأنفسهم على ضفاف بحيرات لانغن
“Langen” وكومر
“Comer” وعرفوا مسالك الألب.
١٣ إن تاريخ إيطالية العليا لا يذكر هذه الحوادث ولكن قد افترضنا أن العرب
تقدموا من مارتيناخ
“Martinach” خارجًا عن مجرى نهر
الرون وتتبعوا ناحية فوركا
“Furka” والألب العليا
اللتين يفصل بينهما وادي أورزيرن
“Urseren” وساروا على
الطرق القديمة المؤدية إلى منابع الرين وأبواب معبر الألب الراتية، وهذا الافتراض لا
يستند على رواية مكتوبة وليس فيما وجد في دير ديسنتيس
“Dissentis” الواقع أمام وادي الرين ما يؤيد مرور أتباع محمد من هناك،
إلا أن المؤرخين لا يزالون يعتقدون أن العرب كما عاثوا بنواحي «كور» ونهبوا ديرها قد
اجتاحوا أيضًا دير «ديسنتيس».
وأما السند الذي ثبت به حضور العرب في وادي الرين فهو أن هرمان أمير سويسرة الألمانية
قد التمس من أوتو الكبير في المجلس الذي عقده الإمبراطور في كويد لنبورغ Quedlinburg في شهر أبريل سنة ٩٤٠ أن يهب
فالتو “Walto” أسقف كور تعويضًا عما لحقه من
اجتياح العرب لديره، وأن الإمبراطور قد أجاب رجاءه فعهد إلى الأسقف المذكور بإدارة
كنيستين إحداهما كنيسة «بلودنس» Pludenz في وادي
«دروس» Drusthale والثانية كنيسة سان مارتين في
وادي شامزر Schamserthale على شرط أن ريع الأولى
يعود إلى أساقفة كور وأن ريع الثانية يعود إلى دير الراهبات في «كازيس».
وظاهر أن العيث الذي عاثه العرب قد كان طويل الأمد، وأنه وقع منذ سنة ٩٣٩ وأن
احتلالهم للألب الراتية كان في زمن احتلالهم للألب البونينية، وأن هذا الحادث تقدم
إحراق العرب لدير سان موريس الذي يذهب رينو إلى أنه وقع عند عبور العرب من سان
برنار.
ولكن في قولنا: إنهم عاثوا واكتسحوا تلك البلاد، لا نعني أنهم أقاموا بها مستقرين
في
مكان، بل كانوا يكمنون في الجبال وينقضون من مكامنهم لدى الفرصة فلم تكن لهم قدم ثابتة
في محل، وكانت حياتهم حياة عصابة تنتجع في كل يوم جبلًا متى لاحت أمامها بارقة أمل في
الكسب أقدمت، وإلا أحجمت، فكان مطمح نظرهم كله قطع الطرق على التجار وعلى الحجاج الذين
كانوا يقصدون رومة ومعهم الأموال والذخائر، ومما لا شك فيه أنهم كانوا قد احتلوا بعض
قرى صغيرة، واتخذوها لهم مركزًا، وكانت لهم أنزال يلجأون إليها وأبراج يضعون فيها
مغانمهم، وأكثر ما كانوا يهجمون على القوافل في الأودية العميقة وفي المضايق التي لا
يمكن فيها الدفاع، وكانوا متى أعوزهم القوت صالوا على الأماكن غير الحصينة وعلى الأديار
المملوءة بالأعلاق الكنسية.
وبقيت حالتهم على ما وصفناه مدة مديدة، إلا أنه بعد دخولهم إلى البلاد باثنتي عشرة
سنة طرأ حادث فجائي وافق مصلحتهم، ومكنهم من معابر جبال الألب، فازدادت بهم جرأتهم
وتضاعف طمعهم.
وهو أن «هوغو» Hugo كونت «بروفانس» كان في سنة ٩٢٦
قد أحرز تاج مملكة «لومبارديا» Lombardie ودخل في حرب
عوان مع صهره «البريكوس» Albericus بطريق رومة. فاهتبل
العرب من هذه الحرب الغرة، واستفادوا من غياب الأمير المذكور عن بلاده، فتمكنوا من
سلسلة جبال الألب، سواء من الشمال أو من الغرب، ونهبوا البلدان التي بحذائها، ولما وصل
صريخ رعايا الكونت هوغو مما لقوه من عيث العرب، صحت عزيمته على مصالحة صهره والرجوع إلى
إيطالية العليا، ثم على مهاجمة المسلمين في معقلهم الأول «فراكسينيتوم»، ولأجل أن
يستوثق من الانتصار سعى في استمداد سلطنة القسطنطينية، لتنجده بمقدار من النار
الإغريقية يحرق بها سفن العرب الراسية في ميناء فراكسينيتوم، ويقطع عن هؤلاء كل مدد من
البحر، وكان في نيته مهاجمة العدو من جهة البر بينما يكون أسطول القسطنطينية ممسكًا
عليهم البحر، فبعد أن اتفق هوغو مع إمبراطور القسطنطينية وقبل شروطه جاءت السفن
البيزنطية إلى مرسى «سان تروبيز» بينما كان الجيش البري يزحف من جهة «بافيا Pavia» فلم يكد الأسطول البيزنطي يصل إلى المرسى حتى
أحرق سفن العرب كلها، وتقدم الملك هوغو من جانب البر فضيق عليهم الخناق حتى انهزموا
معتصمين بجبل «موروس» وكاد يستأصلهم ويأخذهم جميعًا أسرى، لولا أن حدث حادث غير منتظر
وذلك أن «برنغار» Berengar كونت «أيفريا» Ivrea حفيد الإمبراطور «برنغار» المتوفى سنة ٩٢٦
ووارثه كان قد أخذ يسعى سرًّا للحصول على تاج مملكة لومبارديا، فبلغ هوغو خبر هذه
المؤامرة فعزم أن يقبض على المتآمرين وأن يقتلهم أو يسمل أعينهم، ولكن برنغار كان على
حذر شديد فانسل من لومبارديا بغتة والتجأ إلى هرمان أمير الشفاب Schuvaben وسار إليه عن طريق سان برنار، فتلقاه الأمير هرمان برًّا
وترحيبًا، وقدمه للإمبراطور أوتو وهذا أكرمه وخلع عليه، فما كان أسرع هوغو عندما عرف
بالقضية إلى إرسال الهدايا من الذهب والفضة إلى أوتو.
وكان هوغو قد خلص ممالكه من العرب، وخضد شوكتهم، وتحول فكره إلى جهة الإمبراطور وأوجس
خيفة أن يحشد هذا عليه وينزع منه تاج لومبارديا، فعدل هوغو مع العرب عن العداوة إلى
المسالمة، وبعث إليهم في جبل مورو يعرض عليهم السلم على شرط أن يجوسوا خلال ديار برنغار
ويمنعوه بجميع الوسائل من أن يجتاز جبال الألب بجيشه.
١٤ فاشترط العرب حينئذ على هوغو أن يعترف لهم بحق احتلالهم معابر الألب
الراتية والبونينية، كما أن هوغو اشترط على العرب أن يخلوا المدن والقرى التابعة له،
ولكن لم يكن هذا الشرط الأخير مصرحًا به في المعاهدة، فالمسلمون قاموا بأحكام المعاهدة
حق القيام واحتلوا جميع معابر الألب المذكورة، يستدل على ذلك من كون برنغار عاد إلى
إيطالية مع جند قليل من أصحابه عن طريق جبال التيرول
Tyrol.
فأما العرب فقد تلقوا هذا العقد، مع الملك هوغو، بفرح عظيم، وأصبحوا يرون أنفسهم
السادة الشرعيين لهذه المعابر، وصاروا يأخذون رسومًا من السابلين، ومن لم يؤد الرسم
أخذوه أسيرًا ثم اضطر أن يفك رقبته بمبلغ عظيم من الذهب.
١٥ وتقدم العرب من سان برنار وجاسوا في بلاد «فاتلاند»
١٦ إلى «أفانشس»
Avanchez ونيوشاتل
Niochatel في جبال «جورا»
Jura وكانوا حيث مروا يعيثون وينهبون، ولقد كانت غاراتهم في شمالي
الألب الراتية من «كور»
١٧ إلى بحيرة «كونستانس»
١٨ في وادي الرين هائلة جدًّا، فقد وجد في خزانة كتب دير «كور» كتابة تفيد أن
الإمبراطور أوتو الكبير عندما مر في ٢٤ فبراير سنة ٩٥٣ بقصر «إرنشتاين»
Ehrenstein ترجاه الأسقف «هارتبرت» مطران «كور» في
تعويضهم من الرزايا التي ألحقها بهم العرب، فأقطعهم أوقافًا في «الإلزاس» وأخرى في
«كونيغسكهايم»
Konigsheim وكنيسة «موخنهايم
Mauchenheim وما يتبعها.
وقد وجدت كتابة ثالثة في «دورنبورغ» Dornburg
تاريخها ٢٨ ديسمبر سنة ٩٥٥ مآلها أن الإمبراطور «أوتو» كان منصرفًا من إيطالية فشاهد
بعينه آثار عيث العرب وبناء على التماس أخيه رئيس أساقفة «برونو» أنعم على دير كور بتلك
التعويضات، وقيل: إن جزالة هذا العطاء الذي أعطاه الإمبراطور كان من قبيل نذر نذره لأجل
عودته موفقًا من إيطالية على طريق الألب، فإنه أنعم على الأسقف بالدار التي كانت تخصه
في «زيزرس» وأمر بإعفاء سفن الأساقفة في بحيرة «فالنزي» من المكوس، وقد اتبع ذلك أعطيات
أخرى، مثل إعطائه إياهم كنيسة «ننتسينغن» في وادي «دروس» مع العقارات التابعة لها،
وإنعامه بجباية الأملاك التي كانت تخصه في كور، وبمكوسها التي كان يؤديها سابلة الجبال
من الألمان، وأخيرًا أعطاهم في سنة ٩٥٨ كنائس عدة مثل «سان لورنز» و«سان هيلاريوس»
و«سان مرتينوس» وكنيسة «كاربوفوروس» ومنحهم حق ضرب السكة، وكذلك أعطى دير «ديسنتيس» في
سنة ٩٦٥ الدار التي كانت له في «فافيكون» على بحيرة زوريخ، وأقطع فيكتور رئيس رهبان كور
سنة ٩٦٧ قطائع في «فينشغاو» و«إنغادين Engadin».
وفي ذلك الوقت أوصل العرب غاراتهم إلى «زارغانس»
Sargans و«توغنبورغ»
Togenburg
وأبنسيل
“Appenzell” وصالوا على أهالي تلك الجبال،
فقتلوا الرجال ونهبوا المواشي وأحرقوا المساكن. وقد روى الراهب «أيكهارد»
١٩ الذي حرر تاريخ دير «سانت غالن» ما يلي:
«كان العرب يبعدون جدًّا مغارهم في جبال الألب لا سيما في زمان «فالتو» ويفتكون
بأهلها بجرأة غريبة، حتى إنهم في ذات يوم رشقوا بالنبال من أعالي جبل واقع شرقي الدير
جماعة كانوا قائمين بطواف ديني يتقدمهم الصليب مرفوعًا، ولكن «فالتو»
٢٠ كان شديد البأس فأمر قومه بأن يتعقبوا العرب إلى مكامنهم، وسلحهم بالحراب
والمناجل والفؤوس، وفي الليلة الثانية كبسهم بياتًا، فقتل منهم وأسر بعضهم
٢١ وفر الباقون، ولم يقدروا أن يدركوهم لأنهم كانوا أقدر على التوغل، وأبصر
بالتوقل في الجبال، أما الذين وقعوا أسرى فسيقوا إلى الدير في الأغلال، وقد رفضوا رفضًا
باتًّا أن يأكلوا ويشربوا، وما زالوا حتى هلكوا جوعًا. وقال «أكهارد» أن الرزيئة التي
رزئ بها الدير من عيث العرب كانت من الجسامة بحيث يستلزم وصفها كتابًا.
٢٢
ولا يقدر أحد أن يعلم بالتمام كم كانت مدة إقامة العرب بشرقي سويسرة، فإن الأوراق
والوثائق التي وجدت في دير «كور» ودير «سان غالن» ودير فافرس “Pfafers” لم يوجد فيها ما يحدد هذه المدة، ولا يظهر أن رحيلهم من هناك
تأخر عن العقد السادس من القرن العاشر.
وفي سنة ٩٥٤ نفسها، وهي التي وصل فيها العرب إلى سان غالن، وقع الحادث المهم الذي
هو
هزيمة العرب والمجار معًا، فقد تمكن كونراد ملك بورغوند أو البرجان، ببسالته الشخصية
وبخدعة حربية دبرها، من استئصال طائفة مهمة من هؤلاء العرب
٢٣ وتطهير أودية بلاده منهم، إلا أنه برغم هذه الهزيمة كان العرب لا يزالون
مستولين على معابر الألب الغربية.
وليس بمحقق وجود عرب الألب الغربية في هذه الواقعة، فإن «أكهارد» الرابع، راهب دير
سان غالن الذي روى خبر هزيمة العرب في هذه الواقعة يقول: إن العرب كانوا متمكنين جيدًا
في قلب الجنوب من أوربة حتى إنهم لم يكونوا يحدثون أنفسهم بإمكان خروجهم منها، وكانوا
يتزوجون، بحسب قوله، من بنات أهل البلاد، ويسكنون أودية خصيبة، ويؤدون للملك ضرائب،
وعلى كل حال فمما لا شك فيه أن قسمًا من العرب الذين كانوا يصلون هذه الحروب قد أقاموا
في الآخر وأوطنوا، ونووا أن يؤسسوا لأنفسهم مستعمرة ويتعاطوا الفلاحة والزراعة، ولكنه
غير ممكن تعيين المكان الذي نووا أن يستعمروه، هل هو في «فاله» أو في «سافواي» أم في
غيرهما، فإن المؤرخين لم يعينوه، وفي سنة ٩٥٤ التي اشتهرت بغارة العرب من جهة، وغارة
المجار من جهة أخرى على سويسرة وقعت حادثة فرار الملكة برتا
“Bertha” مع عمها المطران «أولريك» أسقف «أوغسبورغ» والتجائهما إلى البرج
الذي كانت بنته هي في «نوشاتل» والمظنون أن هذا الحادث كان مبدأ لعمران مقاطعة
«فو».
٢٤
ولم ترد قصة العرب هذه في التواريخ العالية فقط بل جاءت في سيرة بعض القديسين،
وبالإجمال قد كانت اشتدت وطأتهم، وعم الرعب منهم، إلى أن أصبح الجميع في حنق شديد
عليهم، ومما زاد حنق الناس عليهم أنهم كانوا تعرضوا لرجل من أكبر رجال عصره، وهو القديس
مايولوس “Majolus” راهب دير كلوني “Cluny” قبضوا عليه وهو عائد من «بافيا» إلى بورغوند،
وذلك سنة ٩٧٢ وقد روى هذه القصة خلفه في رئاسة دير كلوني كما يأتي:
عبر القديس مايولوس ورفاقه في ٢٢ يوليو سنة ٩٧٣ قنن جبال الألب، ووصلوا إلى قرية
واقعة إلى الشمال من معبر سان برنار على ضفة نهر درانس
“Drance” كان يقال لها لذلك العهد «بونس أورزاريي
Pons Ursarii» وتسمى اليوم «أورزيير»
٢٥
وقد كان انضم إليه عدد من الحجاج من أقطار مختلفة أملًا بأن يكونوا بمعيته في مأمن،
فلما وصلت هذه القافلة إلى هذه القرية ومرت هناك من معبر ضيق، انقضت عليها عصابة من
العرب فأوقعت بها، ولم يكن من سبيل في ذلك المكان للدفاع، فأركنت إلى الفرار لا تلوي
على شيء، فتأثرها العرب وقبضوا على من أدركوه منها وأوثقوه بالقيود، وكان أحد العرب
يحاول طعن أحد خدمة القديس بمزراقه إذ تقدم القديس واتقى الطعنة بكفه، فنفذت الطعنة
منها، وكانت جراحة شديدة بقي أثرها في يده طول حياته، وأما الخادم ففر ناجيًا، ثم جردت
هذه العصابة العربية الحجاج من كل ما معهم، وساقتهم إلى كهف من الصخر حبستهم فيه، ولم
تستثن من الحبس القديس مايولوس، فلحظ العرب رجلًا جالسًا على حجر لا يلوح على وجهه
علامة الاهتمام بالخلاص، وبينما كانوا يهينونه كان هو مهتمًا بدعوتهم إلى الديانة
المسيحية، فازداد بذلك غضبهم منه، فقيدوا رجليه بالحديد، وأدخلوه الكهف مع الآخرين، وفي
الليلة التالية رأى مايولوس رؤيا أنه سيخلص من أيدي العرب، بواسطة الرسل الحواريين، فقد
رأى أسقف رومة بالأثواب الحبرية وفي يده المبخرة، ثم رأى رؤيا ثانية أيدت أمله في أنه
سيحتفل هو ورفاقه بعيد صعود السيدة مريم، ولما أصبح الصباح وجاء وقت الطعام عرض العرب
عليه أن يطعم من طعامهم، وكانوا يأكلون لحمًا وخبزًا يابسًا، فأجابهم مايوليوس أنه ليس
بآكل من هذا الطعام الذي لم يألفه فحينئذ عجنوا له بسرعة وخبزوا خبزًا نظيفًا طريًّا،
وقدموه له فتناوله منهم وأكل الخبز بعد أن بارك عليه بحسب عادته، وعادت إليه قوته، وكان
أحد المسلمين قد أراد قطع عصا من شجرة واحتاج إلى أن يتسلق عليها، فوضع رجله على
التوراة التي كان القديس يحملها دائمًا معه في أسفاره، فأخذ القديس يتنفس الصعداء، ولحظ
ذلك المسلمون فوبخوا أخاهم على عمله هذا، وقالوا له: لا يليق أن تفعل هذا بكتاب يتضمن
كلام الأنبياء، وذلك أن المسلمين يعظمون الأنبياء ويقولون: إن ما قاله الأنبياء عن عيسى
قد تم بشخص محمد ﷺ.
ثم إن العصابة العربية دخلت مع القديس في قضية فدائه وفداء بقية الأسرى، لا سيما بعد
أن رأوا منه ما استوجب حرمتهم له، وقد سألوه أهو من ذوي اليسار، أم معدم؟ فأجابهم بأنه
لا يملك شيئًا ولكن للدير أصحاب يقدرون أن يفكوا الأسرى بأموالهم، فأرسل مايولوس
بالاتفاق مع العرب راهبًا كان معه، وأصحبه بكتاب إلى دير «كلوني» يقول فيه: «إلى السادة
والإخوان في دير كلوني، من مايولوس المسكين المقيد بالحديد، إنني محاط بالهلاك من كل
ناحية فأسرعوا بإنقاذي وإنقاذ رفاقي وبإرسال المال اللازم للفداء» فلما قرئ هذا الكتاب
في مجتمع الرهبان، وكانوا يحبونه جميعًا ويحترمونه احترامًا زائدًا، بلغ منهم الحزن
مبلغه وسارعوا إلى جمع المال لساعتهم، ولم يضنوا بشيء ولا ادخروا منفسًا حتى أنهم بذلوا
الأشياء الضرورية فضلًا عن الكمالية وعن الذخائر والأعلاق التي كانت عندهم، وفي اليوم
المعين كان أحد الرهبان المبجلين في قرية «أورزيير» ومعه جميع المال المطلوب، فتخلص
مايولوس هو ومن معه، وتمتعوا بفرح الاحتفال بعيد صعود مريم إلى السماء كما كان رأي
القديس في المنام.
ومما يهم الاطلاع عليه هو أن العرب تقاضوا في فداء القديس مايوليوس ألف دينار فضة،
ولم يتقاضوا على الآخرين إلا دينارًا واحدًا عن كل رقبة.
ثم إنه من هذه الحالة تتجلى القوة التي تمكن بها العرب في ذلك الوقت من الاستيلاء
على
جميع معابر الألب، ومن الغريب أنهم لم يكونوا يتقاضون مكوسًا على البضائع التي تُحمل
على هذه الطرق كما كانوا يتقاضونها في الأزمنة الأولى، ولم يطلبوا في البداية شيئًا
منها من مايولوس نفسه، وذلك حتى يطمعوه في التقدم فيقطع أعالي الجبال ويصير في الجهة
الأخرى، فحينئذ ينقضون عليه ويسلبونه على حين يتعذر عليه الفرار. وهكذا حصل.
وكان الملك هوغو قد اشترط عليهم أن لا يتعرضوا للحجاج ولا يأخذوا منهم شيئًا، فرعوا
ذلك العهد إلا أنه لما مات هوغو رأوا أنهم أصبحوا غير مقيدين بعهد.
وقد قال «رينو»: إن حادثة مايولوس كان لها صدى عظيم في كل الأقطار، وارتفع الصراخ
من
كل الجهات لأخذ الثأثر، وفي ذلك الوقت كان في جوار سيسترون
“Sisteron” رجل نبيل يقال له: «بونو» أو «بوفو»
(
Bobo أو
Beuoo)
مشهور بالحمية والنجدة، عظيم الهم في تحرير وطنه، فاستنهض الناس المعروفين بالحمية على
دينهم ووطنهم، وقرروا بناء قلعة مناوحة لحصن العرب، ليتمكنوا من استئصالهم، فبوبو هذا
الذي أصبح فيما بعد معدودًا من القديسين هو الذي بدأ بتخليص نواحي سيسترون من العرب
وأخرجهم من جميع بلاد «دوفينه»
Dauphiné ثم إنهم
أخرجوا من «بروفانس»
Provence لأن غيليوم أحد
أكناد
٢٦ بروفانس هاجمهم برجال أشداء من صناديد تلك البلاد ومن رجال دوفينه السفلى
وإمارة نيقة
٢٧ وذلك في قلعتهم فراكسينيتوم المشهورة، فبعد دفاع شديد استولى الإفرنج على
القلعة وفر بعض حماتها العرب إلى الغاب الذي بقربها وطلب آخرون النجاة في الجبال وانتهى
الأمر بأن فريقًا منهم هلك وفريقًا تنصر، فاستحياهم الإفرنج واختلطوا بالأهلين.
ولما كانت فراكسينيتوم مستودعًا لجميع كنوز العرب وذخائرهم، سواء الذين منهم كانوا
في
فرنسة أو عليا إيطالية أو سويسرة، فقد أصابها الغالبون وتقاسموها فيما بينهم.
آثار كتابة في كنيسة القديس بطرس مونتجو
من أهم الآثار التي تركها العرب في بلادنا الكتابة التي في كنيسة القديس بطرس
مونتجو
٢٨ في «فاله»
Valais فقد كان هذا الوادي
مجالًا لغاراتهم ومركزًا لهم في أثناء مقامهم بجبال الألب، وهذه الكتابة هي دليل واضح
على أن تذكارهم المخيف لم يكن أمحى من قلوب الأهالي حتى من بعد مائتي سنة من جلائهم
فإنها قد كتبت في العقد الثالث أو الرابع من القرن الحادي عشر، أي زمان بناء الكنيسة
التي شيدها هوغو أسقف جنيف، وهو الذي كان ولدًا طبيعيًّا للملك البورغوني رودولف
الثالث، وتولى كرسي الأسقفية نحوًا من تسع عشرة سنة
٢٩ ودفن في كنيسة لوزان الكاتدرائية بجانب أبيه، ومما يؤسف له أن هذه الكتابة
كانت قد ذهبت في أثناء ترميم هذه الكنيسة سنة ١٧٣٩ وجعل الحجر الذي كانت منقوشة عليه
من
جملة عتبات الباب، ولقد طُمست الآن هذه الكتابة حتى لم يبقَ منها سوى حرف هاء
h وحرف ف
f وصليب
صغير، ولقد ورد نص هذه الكتابة على روايات مختلفة في بعض الكلمات لكنها متفقة في
المعنى
٣٠ وهي لاتينية معناها: «إن عصابة إسماعيلية
٣١ انتشرت في وادي الرون وألقت الرعب في البلاد بالنار والحديد ورفعت الهلال
في أودية الألب البنينية».
٣٢
وفي أسفل الكتابة تاريخ بناء الكنيسة حسبما تقدم.
أسماء عربية في البلاد
كان علماء الآثار قد بحثوا عن أسماء بلاد «فاله» ووجدوا ألفاظًا كثيرة لم يعلموا
لها
أصلًا في اللغات الغالبة على هذا الشطر من أوربة، ولما كانت هذه البلاد واقعة في معابر
«الفاله» إلى «البيامون» حيث مر العرب في القرن الحادي عشر فقد ترجح أن هذه الأسماء
عربية الأصل ونحن الآن موردون عدة أسماء لا شك في كونها عربية.
- «الماجل» في وادي زاس: هذا المكان هو قرية صغيرة في الجنوب من أعالي وادي زاس٣٣ الذي يمتد منه طريقان إلى البيامون، أحدهما يمر في وادي
«فوركا» ويسمى معبر «أنترونا» والآخر هو معبر «مورو» نسبة إلى جبل
مورو، وكلا الطريقين معروف منذ سنة ١٤٤٠ بكونه من أقدم المعابر،
فأحدهما كانت تمر منه المواشي والحيوانات الموقرة بأموال التجار،
والآخر كان يمر منه البريد الطلياني قبل تمهىد طريق السمبلون.٣٤
ولقد ثبت أن معاهدة الملك هوغو مع العرب لم تضمن لهؤلاء احتلال معبر
سان برنار فقط بل حق الاستيلاء على جميع المعابر لمنع مرور الجيوش، فمن
البديهي أن يكون العرب قد استولوا على وادي زاس ملتقى هذين الطريقين
وجعلوا هناك برجًا فيه خفراء، ومنه يأتي اسم «الماجل» بالتشديد محرفًا
عن «محل».
٣٥
- «على العين» في وادي زاس: في القسم الأعلى من وادي زاس مثلجة يقول لها أهالي تلك الجهات «مثلجة
على العين» إذ منها تخرج ساقية من سواقي نهر «فيسب» Visp الذي هو وادي زاس فتسمية ذلك المكان «على
العين»٣٦ هي في غاية المطابقة.
- «العين» في وادي زاس: إن الجبل الآلي الشرقي الذي هو منبع نهر «فيسب» كان يسميه العرب
أيضًا «ألب العين».
- «مشابل» في وادي زاس: إن أسماء القسم الغربي من وادي زاس لم تكن معروفة المعاني، إلا أن
الأستاذ «هيتزيغ»٣٧ يذهب إلى أن «مشابل» Mischabel جاءت من الأشبال أي الأسود، ويشرح ذلك
بقوله: إن هناك عدة قنن صغيرة تعلوها قنة كبيرة هي بينها أشبه بلبؤة
بين أشبالها وأنه لا يبعد مثل هذا التخيل عن أمم الجنوب، ولأجل تأييد
هذا الرأي يستشهد بكون القمم التي إلى الشرق من السمبلون تسمى بجبل
الأسد.٣٨
وأنه يوجد أسماء أخرى يظهر عليها الأصل العربي لكنها محرفة تحريفًا
يصعب معه الاهتداء إلى حقيقة أصلها، فلذلك تركناها واكتفينا منها بجبل
«مورو».
٣٩
فأول ما يعرف بجبل «مورو» الجبل الذي إلى الجنوب من حصن «فراكسينيت»
والثاني الجبل الذي فيه معبر «مورو» الذي يؤدي من حصن العرب هذا إلى
«ماكونياغا» Macugnga في
البيامون.
ويوجد أيضًا قمة يقال لها: «قمة المورو»
٤٠ إلى الجنوب من «بانيو» في وادي «انزه»
٤١ ثم قمة أخرى بهذا الاسم بين «أنترونا» ووادي «أنزه» إلى
الشمال من «بريبنونة»
Prebenone.
وكذلك إلى الشرق من معبر سان برنار قمة اسمها جبل مورو.
فانغلهارد Engelhard المؤرخ يرى في
كثرة هذه الأسماء بالجهة الإيطالية من جبال الألب أن العرب كانوا فيها
قديمًا.
أسوار وطرق وكهوف وغير ذلك
إن العرب كما هو معروف هم أهل إتقان لصنعة البناء، ولا سيما بناء الأبراج، وطالما
أثروا في هذا الباب آثارًا باهرة، فمن الغريب أن لا يكونوا تركوا عند معابر الألب شيئًا
من المعاقل والحصون، ولكن من المحتمل أن يكونوا أقاموا بالأبراج التي كانت قبل مجيئهم
قائمة عند مضايق الجبال باقية من القرنين الثامن والتاسع، فلم تكن بهم حاجة إلى بناء
حصون جديدة، وعلى كل حال ينبغي أن تكون الحوادث التي جاءت بعد خروجهم من البلاد قد أنست
الأهالي ذكراهم بالمرة.
وأما في سويسرة فليس الأمر كذلك، ولا سيما في مقاطعة لوزان، فإنك تجد برج العرب
La tour Des Sarrazins فوق «شييزاس» عند
«فيفاي».
٤٢
ودهليز العرب وغار الغرب بقرب «لوسنس» Lucens.
وفي «فيفلسبورغ»
Viflisburg يوجد حائط يقال له: حائط
العرب
٤٣ جاء ذكره في تاريخ سويسرة لـ مولر
Muller
في الجزء الأول صفحة ٢٥١.
وأن كثيرًا من الأسماء المضافة إلى «سارازين» المراد بهم العرب توجد في مدينة
«بازل»
٤٤ ونواحيها حسبما ذكر الأب «سيراسة»
Serasset في تاريخه «المباحث التاريخية والأثرية والجغرافية عن
أبرشية بازل» في الجزء الثاني صفحة ١٤٩ فهو يقول:
ويؤكدون أن هذه العصائب الفتاكة، بعد أن أحرقت دير سان موريس تقدمت نحو بحيرة
جنيف وزحفت إلى «الجورا» Jura ولم يقل لنا
التاريخ شيئًا عن توغل العرب في بلاد «روراسيا» Rauracia ولكن إن كانت الكتب قد سكتت فقد قامت الأخبار
المعنعنة المتواترة مقامها، وأن كثيرًا من أماكن بلادنا بإضافتها إلى أسماء
عربية، تشعر بوقوع هذه الغارة المخيفة، فعلى نصف مرحلة من «دفلية» Develier على الجبل، وإلى الشمال الغربي منه،
يوجد على مقربة من الطريق السلطاني الروماني فسحة صغيرة بين صخرتين، يقال لها:
غار «السارازين» وأهالي هذه النواحي يروون بالتواتر نقلًا عن آبائهم، أن هذا
المحل كان قد احتله «السارازين» أي العرب، وأنهم كانوا يذهبون ويوردون جمالهم
عند «السورن» Sorne بقرب «كورتيتيل» Courtetelle فهذا هو الاسم الذي يطلقه
الأهالي على ذلك الطريق الروماني، وعلى أحد صخور الغار محفور عدد ٢٣ بالأرقام
العربية، ولما كان لا يعرف من نقش هذا الرقم في الصخر، وكان قديمًا جدًّا،
فيترجح أنه قد نقشه العرب عندما كان لهم محرس في ذلك المحل.
وبقرب من «روسميزون»
Rossemaison بحذاء جبل
«شايبوت»
Cheibut توجد آثار طريق يقال له:
طريق السارازين.
٤٥
المسكوكات
من قديم الزمان يوجد في سويسرة مسكوكات عربية من الفضة، غير قليلة، تستجلب النظر،
ولقد تمكن العلماء باللغة العربية من إثبات مكان ضربها وزمانه، ولكن لم يكن عليهم من
السهل الجواب على كيفية وجود هذه المسكوكات تحت الأرض نظير ما وجد من المسكوكات الباقية
من الدور الروماني، فقبل أن ندخل في بحث تاريخ هذه المسكوكات يجب أن نذكر الأماكن التي
عثر عليها فيها وكيفية العثور عليها.
فأول تنقيب جرى بشكل علمي وأدى إلى نتيجة كان سنة ١٨٣٠ وذلك أنه وجد على مائة خطوة
من
قرية «شتيكبون»
Steckbon على الطريق العام ثلاثون قطعة
من الفضة، لم يعرف أحد في البداية ما هي، وقد اشترى أكثرها الماجور «شيغ»
Schiegg وبعضها دخل في حيازة البرنس لويس
نابوليون
٤٦ ثم أهداه البرنس بواسطة الأستاذ «أوكن»
Oken إلى مجموعة العاديات في زوريخ، وبعد هذا أهدى الأستاذ
«كيرن»
Kern والأب «ران»
Rahn من شتيكبورن جملة من هذه القطع إلى المجموعة المذكورة، وقد كان
أول من شرح تاريخ هذه القطع، من علماء المسكوكات، الأستاذ «فراين»
Fraehn من أعضاء أكاديمية بترسبورغ، فقال: إن هذه الدراهم هي من ضرب
عمال الخلفاء على إفريقية في الربع الأخير من القرن الثامن، وكانوا يطلقون لفظة إفريقية
على البلاد التي تتركب اليوم من تونس وطرابلس، فأقدم هذه الدراهم مضروبة سنة ١٦٩ للهجرة
وأحدثها سنة ١٨٢ أي أقدمها في زمن الخليفة الهادي وأحدثها في زمن هرون الرشيد الشهير،
وكلها مضروبة في القيروان عاصمة إفريقية في زمان الأمراء عمال الخلفاء نصر
٤٧ وهرثمة
٤٨ (ابن أعين) ويزيد.
٤٩ وأن قطعة واحدة هي مضروبة في زمان إدريس مؤسس الدولة الإدريسية.
٥٠
وهذه المسكوكات مغطاة بالكتابة، كاسم الأمير، ومكان الضرب وتاريخه، وبعض آيات من
القرآن.
وأكثر الكتابة هي بالخط الكوفي الذي يختلف عن الخط العربي الحاضر.
وأما كيفية دخول هذه المسكوكات الإسلامية إلى سويسرة فيظن الأستاذ فرين أنه كان عن
طريق فرنسة؛ لأنها وجدت مع هذه الدراهم مسكوكات مضروبة باسم كارلوس الأصلع ملك فرنسة
(٨٤٣–٨٧٧) وأن النورمنديين قد أتوا بها إلى فرنسة في أثناء غارتهم عليها، وكان
النورمانديون أتوا بها من شمالي إفريقية، في أثناء غاراتهم على سواحل تلك البلاد، ولقد
ظن ذلك بناء على أنه وجد من هذه المسكوكات في الروسية مما كان قد جاء به النورمنديون
أيضًا، إلا أنه بعد أن تحقق كون العرب أقاموا زمانًا طويلًا في نفس سويسرة لا يبقى محل
لنسبة جلب المسكوكات إلى النورمانديين.
وقد وجدت دفينة أخرى من المسكوكات العربية في «مودون» لكنهم لم يعرضوها على علماء
المسكوكات إلا منذ سنة، ولقد اعتنى بهذه المسألة المسيو «سوره» Soret من جنيف ومن أعضاء الأكادمية الذين لهم مباحث جليلة عن
مسكوكات سويسرة.
فإحدى هذه القطع مضروبة في إفريقية أيام العباسيين سنة ١٧٠ هجرية (٧٨٦–٧٨٧ للمسيح)
والثانية عليها اسم إسماعيل بن أحمد في أيام الخليفة المعتضد، ومكان ضربها الشاش، وزمان
ضربها سنة ٢٨٣ للهجرة (٨٩٦) والثالثة مضروبة في بغداد سنة ٣٦١ (٩٧٤).
وقد ترجم الأستاذ «سوره» كتابات الدراهم، فأحدها مكتوب عليه من إحدى الجهتين لا إله
إلا الله وحده لا شريك له: عضد الدولة أبو علي بويه. وعلى الدائر باسم الله، ضرب هذا
الدرهم في مدينة السلام سنة أربع وستين وثلاثمائة، ومن الجهة الأخرى لله المجد، محمد
رسول الله. الطائع لله. الملك العادل عضد الدولة أبو شجاع.
ورأي المسيو «سوره» يوافق رأي الأستاذ «فرين» بشأن المسكوكات العربية التي وجدت في
شتكبورن، وهو أنها دخلت سويسرة بواسطة النورمانديين، أما التي وجدت في مودون فإنه يراها
دخلت بواسطة العرب الذين أقاموا بسويسرة.
ومن جملة الافتراضات أن تكون هذه المسكوكات قد وصلت إلى سويسرة بطريقة سلمية، أي كثمن
بضائع، أو أن تكون وصلت إلى أيدي السويسريين في أيام الحرب الصليبية من جملة ما غنمه
الإفرنج من المسلمين، ولا نميل إلى قبول هذين الافتراضين كما نميل إلى رأي «سوره» من
كون دفينة مودون هي مما تركه العرب الذين شنوا الغارة على سويسرة.
الملابس العربية
إن في خزانة كنيسة «كور» من بقايا القرون الوسطى أشياء نفيسة إلى الغاية يندر وجود
مثلها في البداعة، فمنها حلة من الحرير يلبسها القسيس في القداس، تختلف عن بقية الملابس
الكنسية وهي مطرزة بآيات قرآنية مكتوبة بالأحرف العربية، ولا نعلم شيئًا عن كيفية حيازة
الكنيسة لهذه الحلل، ولكن يترجح أنها كانت في أيام وجود العرب في سويسرة، وكما أن رينو
يقول: إن في كنائس فرنسة كثيرًا من الحلل الدمقسية والآنية الثمينة والأقداح البلورية
التي جاءت في زمان وجود العرب بفرنسة، فلا يبعد أن يكون ما في كنيسة كور من هذه الملابس
الكهنوتية قد جاء في زمان وجودهم بسويسرة.
وإننا مضطرون للاعتراف بأن العرب كانوا في أيام ازدهار الخلافة في إسبانية، أعلى
كعبًا في الصناعات والعلوم من الأوربيين، وأن الثياب التي كانوا ينسجونها للزينة كانت
من أفخر ما يوجد، ولقد اتفقت الكلمة على كون الصنائع العربية اليدوية، من الحلي والآنية
الفضية والأسلحة، هي من الأشياء التي يتنافس الناس بها، إلا أننا نقول: إن الشيء الذي
فاق العرب به الجميع هو صنعة النسيج التي كان أكثر ازدهارها في القرن العاشر والحادي
عشر والثاني عشر، وكان الخلفاء يهدون منها أمراء أوربة وملوكها، فإنهم كانوا يتحفونهم
بنفائس الأسلحة والآنية، وأفخر ما كانت تشتمل عليه هداياهم هو الثياب المطرزة المنسوجة
بأنواع التصاوير المزركشة بالذهب والفضة مما كانت تخرجه معامل المسلمين، وكان من اصطلاح
العرب في النساجة أن يجعلوا خطوطًا عرض الواحد منها سبعة سنتيمترات، وينسجوا عليها حروف
الكتابة التي يريدونها من جهة، والتصاوير من جهة أخرى، ولم تكن هذه الكتابات وهذه
التصاوير من صنع الأيدي، بل كانت من عمل المعامل والأنوال، وكانت مادة النسج من الخز
وخيوط الفضة مصنوعة بالتطريق، وكانت تدور بخيطان الفضة بنود من الحرير الأصفر، بحيث لا
تزال الفضة تلمع في أثناء النسيج، وتنعكس عليها ألوان الأطلس الأصفر فيخال الرائي تلك
الفضة ذهبًا.
وقد ذكر ابن خلدون الكاتب العربي المشهور أن أمراء العرب وملوكها كانت تخلع على من
تريد تشريفه أو تكريمه خلعًا من هذا النوع، وكان المعمل الذي يُخرج هذه المنسوجات يسمى
بالمطراز، وقد نقل المستشرق الشهير «دساسي» عبارة ابن خلدون في المجلد الثاني صفحة ٧٨٢
من كتابه «المنتخبات العربية»
Chrestomatie Arabe كما
أنه في صفحة ٣٠٥ من هذا الكتاب ذكر ما يأتي:
إننا نعرف منسوجات كثيرة من صنع العرب، هي من النوع الذي يسميه ابن خلدون
بالطراز، وأول ما أذكره الطيلسان الذي كان يرتديه قياصرة ألمانيا عند تتويجهم،
فقد كان هذا الطيلسان يشتمل على كتابة عربية منسوجة من خيطان الذهب، كان قد
ترجمها وشرحها المرحوم المسيو «تيخسن»
Tychsen
وظهر أن هذا الطيلسان صنع في بلرم
٥١ سنة ٥٢٨ للهجرة (١١٣٣ للمسيح) ولا شك في أن ذلك كان في زمن
رجار
٥٢ لأنه لا يوجد في تلك الكتابة شيء يتعلق بالديانة الإسلامية.
ثم ذكر دساسي أسماء كتب ألمانية تتكلم عن هذا الطيلسان. ثم قال:
وأذكر قطعة ثانية من هذا النوع من الحرير والذهب محفوظة في ذخائر كنيسة
نوتردام في باريز، وهي من أنفس النسيج وعليها ألقاب الخليفة الحاكم بأمر الله
الفاطمي المتوفى سنة ٤١١ (١٠٢٠) ثم أذكر قطعة ثالثة من هذا النوع وجدت في أحد
قبور دير «سان جرمان دي
پراي»
St-Germain-Des-Près وفيها كلمتان عربيتان مكررتان كثيرًا، وقد ذكر هذه
التحف المسيو «فيلمين»
Villemin في كتابه عن
الآثار المجهولة إلى الآن والتي تنبغي معرفتها خدمة لتاريخ الصناعة، وتكلم
أيضًا عن هذه القطعة المسيو «دمارست»
Demarest
في رسالة مطبوعة سنة ١٨٠٦ ومما يلحق بهذا الباب ما وجد في قبر الإمبراطور
فريدريك الثاني
٥٣ المتوفى في ١٣ دسمبر سنة ١٢٥٠ فقد عثروا على قميص على أكمامه كتابة
عربية، وذكر ذلك في كتاب إيطالياني مطبوع سنة ١٨١٤ في نابولي يتضمن كلامًا على
قبور بلرم، ولقد نشر المسيو «دمور»
Demurr في
أحد تآليفه صورة سجادة، عليها كتابة عربية، منسوجة بمصر في زمان المستعلي بالله
أي بين سنة ١٠٩٤ وسنة ١١٠١ وهي محفوظة في خزانة الفاتيكان في رومة» انتهى كلام
دساسي.
وعاد كيلر إلى ذكر القطعة التي وجدت في دير «كور» بسويسرة، فقال: إن عليها كتابة
بالعربية «أطال الله لنا أهله» وقال: إن الأستاذ «هيتزيغ» قد ترجمها، وإذا بالترجمة هي
دعاء للمدعو له بإطالة حياة رجال ثقته وقومه، وهو تفسير غريب. والمرجح أن هذا الأستاذ
تصحفت عليه كلمة «أجله» فقرأها «أهله» لا سيما أن الكتابة هي الأحرف الكوفية، ولا بد
أن
تكون العبارة «أطال الله أجله» لأن «أطال الله أهله» ليس لها معنى. انتهى كلام كيلر
ببعض اختصار.
هوامش