خبر موسى بن نصير وطارق بن زياد
فما رسخت أقدام العرب في إفريقية حتى فكروا في عبور بحر الزقاق الفاصل بين إفريقية
وأوربة، وكان ذلك سنة ٧١٠م وأمير إفريقية من قبل الخليفة هو موسى بن نصير من أهل
الحجاز، وُلد في زمان عمر بن الخطاب ورضع مع اللبن الغرام بالغزو حبًّا في نشر عقيدة
التوحيد.
١ وكان عمره يوم قام بهذه الغزوات ثمانين سنة، ولكن كانت فيه همة الشبان
تتوقد نارها لم يفتر منها شيء، وكانت إسبانيا تحت حكم القوط وكان الأمير عليها
لذريق.
٢ وكان يتبعها من أرض فرنسة مقاطعة «روسيون»
٣ وقسم من «اللانغدوق»
٤ من (بروفنس)
٥ وكانت في إسبانية حواضر حافلة بالعمران زاهرة، إلا أن روح الانتقاض كان
كامنًا في النفوس، وفساد الأخلاق كان قد تغلغل في جسم الأمة، فلم يكن عجبًا أن تسقط
مملكة كهذه ولو عظيمة في ظاهرها بيد عدد قليل من المتدينين الأحامس الذين يسوقهم إلى
الحرب حب الغنائم، فضلًا عما يعتقدونه من أنهم مرسلون من الله لهداية البشر.
فجرّب موسى التجربة الأولى ببعض برابر أجازهم إلى طريفة
٦ فعاثوا ونهبوا ولم يصادفوا مقاومًا فاشتد بذلك عزم موسى. وفي السنة التالية
(٧١١) جرد تجريدة جديدة اثني عشر ألف مقاتل كان أكثرهم من البربر عقد عليهم لطارق بن
زياد، فهزم طارق بهذا الجيش الصغير جيش القوط كله، واحتز رأس لذريق وبعث به إلى
الخليفة
٧ في دمشق. وفي أقل من سنة تم لطارق فتح قرطبة ومالقة وطليطلة، وقد روى أحد
مؤرخي العرب أنه لأجل أن يلقي الرعب في القلوب أمر مرة بقتل بعض الأسرى الذين وقعوا في
يده، وجعل من لحومهم شواء أطعم منه عسكره. وطارق بن زياد
٨ هو الذي سمي باسمه هذا الصخر المسمى بجبل طارق، فالمسلمون المؤمنون كانوا
يرون هذا الجهاد مما يزيد سواد المسلمين ويضمن لهم الجنة، والمسلمون الذين لم يكونوا
يفكرون في أمر الآخرة قد رأوا في الأندلس قطرًا خصيبًا فياضًا بالخيرات، فيه كل ما
تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. فاجتمعت إذن في هذا الفتح مقاصد الدنيا والآخرة، وانتظم فيه
الاحتساب مع الاكتساب، ومما لا نزاع فيه أنه قد كان من أهم أسباب فوز طارق في الأندلس
عضد اليهود الذين كانوا كثيرين في إسبانية، وكان المسيحيون يغلظون في معاملتهم ويعدون
عليهم أنفاسهم فلما أقبل العرب وجدوا فيهم إخوانًا يأخذون بثأرهم
٩ وينفسون من خناقهم.
فلما بلغ موسى بن نصير ما فتحه الله على يد طارق هاج أشد هياج للأخذ بنصيبه من هذا
الفتح، وأقبل بجيش من العرب والبربر
١٠ ومعه واحد من أصحاب محمد
ﷺ عمره مائة سنة وكثير من أبناء
الصحابة.
١١ وقد انتحى موسى طريقًا غير الطريق التي سلكها مولاه طارق، وفتح بلدانًا
أخرى مثل ماردة
١٢ وسرقسطة
١٣ وكان أكثر جنده من الفرسان، وكانت تتبع كل كوكبة من فرسانه طائفة من حملة
الأرزاق بالبغال، وإن مؤرخي العرب متفقون على أن موسى بن نصير وصل بغزواته إلى فرنسة،
وأنه في «ناربون»
١٤ وجد في إحدى الكنائس سبعة تماثيل فضية منقوشة، وكذلك في قرقشونة عرضت
لمطامعه في كنيسة «سانت ماري» سبعة أعمدة كبار هائلة من الفضة.
١٥
وكان العرب يطلقون على فرنسة اسم «الأرض الكبيرة» ويعنون بها جميع الأرض الواقعة
بين
جبال البيرانه (التي يقول لها العرب: البرانس) وجبال الألب والأوقيانوس ونهر البا
ومملكة الروم، وهذه البلاد تنطبق في الحقيقة على فرنسة في زمن شارل مارتل
١٦ وابنه ببين
١٧ ولا سيما في زمان شارلمان.
١٨ وكانت الأمم التي في هذه المملكة تتكلم بعدة لغات كما يقول مؤرخو
العرب.
وقد كان أشد ما بُهت له المسيحيون أوانئذ أنهم كانوا يرون أعداءهم هؤلاء في كل مكان
وفي وقت واحد، وكانت طريقتهم في الفتح أنه إذا خضع لهم بلد بدون قتال لم يعتدوا على
سكانه في مالهم ولا في دينهم، وإنما كانوا يحولون جانبًا من الكنائس إلى جوامع ويغنمون
ما فيها من النفائس، ويضعون أيديهم على الأراضي التي نزح أهلها وعلى الخيل والأعتدة
التي كانت ضرورية لهم في تلك الغزوات المتواصلة، وكانت الجزية التي يضربونها على
الأهالي متفاوتة بحسب الأحوال، وربما أخذوا من الأهالي رهائن ليستوثقوا منهم، فأما
البلاد التي لم تخضع لهم إلا بالسيف فقد كانت عرضة لجميع المظالم التي تصحب الفتوحات،
وكان يضرب عليها ضعف جزية البلاد الخاضعة بلا قتال، وكانوا يتركون فيها حامية لحفظها،
وربما جعلوا في هذه الحامية بعض اليهود الذين كانت عداوتهم للمسيحيين أضمن سبب للثقة
بهم.
وقد ذكر مؤرخو العرب في عرض الكلام على الفتوحات العربية في فرنسة أنه قد كان مقصد
موسى بن نصير رحمه الله المعاد إلى دمشق حضرة الخلافة عن طريق ألمانيا مارًّا
بالقسطنطينية وبآسية الصغرى، بحيث يصبح البحر المتوسط كله عبارة عن بحر متوسط للمملكة
الإسلامية، يخدم مواصلات بعضها مع بعض، أما مؤرخو المسيحيين فلم يذكروا شيئًا عن دخول
موسى إلى أرض فرنسة، ولعل زحفة موسى عليها كانت قاصرة على غارات سريعة مر بها كخطفة
البازي ورجع. ومما لا مشاحة فيه أن النصرانية كانت يومئذ تحت أشد الأخطار، وأن الإنسان
ليرتجف رعبًا عندما يفكر فيما كان يمكن أن يحل بأوربة لو لم يقع الخلف من أول الأمر بين
العرب الغالبين» أ.هـ كلام رينو ملخصًا.
وقد استشهد رينو هنا بكلام المقري فوجب أن ننقل قول المقري في هذا الصدد جاء في
الصفحة ١٢٩ من الجزء الأول من نفح الطيب ما يأتي ببعض اختصار: كانت نفس موسى بن نصير
تنزعج إلى جليقية (وهي ما يسميه الإفرنج Galicie
غاليسيا وقاعدتها مدينة كان العرب يسمونها شانت
ياقو Santiago ويقول لها الإفرنج Saint-Jacques De
Compostelle) فبينما هو يعمل في ذلك ويعد له إذ أتاه مغيث الرومي
رسول الوليد بن عبد الملك يأمره بالخروج عن الأندلس والإضراب عن الوغول فيها، فساءه ذلك
وقطع به عن إرادته؛ إذ لم يكن في الأندلس بلد لم تدخله العرب إلى وقت ذلك غير جليقية،
فكان شديد الحرص على اقتحامها، فلاطف موسى مغيثًا رسول الخليفة وسأله أنظاره إلى أن
ينفذ عزمه في الدخول إليها ويكون شريكه في الأجر والغنيمة، ففعل ومشى معه حتى بلغ
المفازة فافتتح حصن بارو وحصن لك (هو في الإفرنجية
Luque) فأقام هناك وبث السرايا حتى بلوغ صخرة بلاي
على البحر الأخضر، وطاعت الأعاجم فلاذوا بالسلم وبذل الجزية، وسكنت العرب المفاوز، وكان
العرب والبربر كلما مر قوم منهم بموضع استحسنوه حطوا به ونزلوه قاطنين، فاتسع نطاق
الإسلام بأرض الأندلس، وبينما موسى كذلك في اشتداد الظهور وقوة الأمل إذ قدم عليه رسول
آخر من الخليفة يكنى: أبا نصر أردف به الوليد مغيثًا لما استبطأ موسى في القفول، وكتب
إليه يوبخه وألزم رسوله إزعاجه، فانقلع حينئذ من مدينة «لك» بجليقية وخرج على الفج
المعروف بفج موسى، ووافاه طارق في الطريق منصرفًا من الثغر الأعلى، فأقفله مع نفسه
ومَضَيا جميعًا، وقف معهما الرسولان مغيث وأبو نصر حتى احتلوا أشبيلية، فاستخلف موسى
ابنه عبد العزيز على إمارة الأندلس وأقره بمدينة أشبيلية لاتصالها بالبحر، وركب موسى
البحر إلى المشرق بذي الحجة سنة خمس وتسعين وطارق معه، وكان مقام طارق قبل دخول موسى
سنة، وبعد دخوله سنتين وأربعة أشهر، وحمل موسى الغنائم والسبي وهو ثلاثون ألف رأس
والمائدة (سيأتي ذكر ذلك كله في محله من الجزء الآتي) منوهًا بها ومعها من الجواهر ما
لا يقدر قدره، وهو مع ذلك متلهف على الجهاد الذي فاته آسف على ما لحقه من الإزعاج، وكان
يؤمل بأن يخترق ما بقي عليه من بلاد إفرنجة ويقتحم الأرض الكبيرة حتى يتصل بالناس في
الشام، متخذًا مخترقه بتلك الأرض طريقًا مهيعًا يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم
من
المشرق وإليه على البر لا يركبون بحرًا، وقيل: إنه أوغل في أرض الفرنجة حتى انتهى إلى
مفازة كبيرة وأرض سهلة ذات آثار فأصاب فيها صنمًا عظيمًا قائمًا كالسارية مكتوبًا فيه
بالنقر كتابة عربية قرئت فإذا هي: «يا بني إسماعيل انتهيتم فارجعوا» فهاله ذلك، وقال:
ما كتب هذا إلا لمعنى كبير، فشاور أصحابه في الإعراض عنه وجوازه إلى ما وراءه فاختلفوا
عليه، فأخذ برأي جمهورهم وانصرف بالناس وقد أشرفوا على قطع البلاد وتقصي الغاية
أ.هـ.
وجاء في نفح الطيب بعد ذلك بصفحتين ما يأتي: وذكر بعض المؤرخين أنهم وجدوا في الحجر
بعدما تقدم من الكتابة التي هي: ارجعوا يا بني إسماعيل … إلخ ما معناه: (وإن سألتم لم
ترجعون فاعلموا أنكم ترجعون ليضرب بعضكم رقاب بعض).
١٩ أ.هـ.
وقال ابن خلدون عن دخول موسى بن نصير إلى الأندلس ما يلي:
نهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين في عسكر ضخم من وجوه العرب والموالي وعرفاء
البربر، فوافوا خليج الزقاق ما بين طنجة والجزيرة الخضراء، فأجاز إلى الأندلس،
وتلقاه طارق فانقاد واتبع. ويقال: إن موسى لما سار إلى الأندلس عبر البحر من
ناحية الجبل المنسوب إليه المعروف اليوم بجبل موسى، وتنكب النزول على جبل طارق
وتمم الفتح وتوغل في الأندلس إلى برشلونة في جهة المشرق، وأربونة في الجوف،
وصنم قادس في الغرب، ودوَّخ أقطارها وجمع غنائمها، وأجمع أن يأتي المشرق من
ناحية القسطنطينية، ويتجاوز إلى الشام دروب الأندلس ودروبه، ويخوض إليه ما
بينهما من بلاد أعاجم أمم النصرانية مجاهدًا فيهم ومستلحمًا لهم إلى أن يلحق
بدار الخلافة من دمشق، ونمى الخبر إلى الخليفة الوليد فاشتد قلقه بمكان
المسلمين من دار الحرب، ورأى أن ما همَّ به موسى تغرير بالمسلمين، فبعث إليه
بالتوبيخ والانصراف وأسرَّ إلى سفيره أن يرجع بالمسلمين إن لم يرجع هو، وكتب له
بذلك عهده، ففتَّ ذلك في عزم موسى وقفل عن الأندلس بعد أن أنزل الرابطة
والحامية في ثغورها، واستعمل ابنه عبد العزيز لسدها وجهاد عدوها وأنزله بقرطبة
فاتخذها دار إمارة، واحتل موسى بالقيروان سنة خمس وتسعين، وارتحل إلى المشرق
سنة ست بعدها، بما كان معه من الغنائم والذخائر والأموال على العجل والظهر.
يقال: إن من جملتها ثلاثين ألف رأس من السبي. وولَّى على إفريقية ابنه عبد
الله، واندرجت ولاية الأندلس يومئذ في ولاية المغرب، فكان صاحب القيروان ناظرًا
في الجميع، وقدم موسى على سليمان بن عبد الملك وقد ولي الخلافة بعد الوليد
فسخطه ونكبه. وثارت عساكر الأندلس بابنه عبد العزيز فقتلوه لسنتين من ولايته
بإغراء الخليفة سليمان، وكان خيِّرًا فاضلًا وافتتح في ولايته مدنًا كثيرة،
وكان الذي تولى قتله حبيب بن أبي عبيدة الفهري، وكان سبب غضب سليمان على موسى
أنه لما توجه إلى المشرق وانتهى إلى مصر وصل أشرافها وفقهاءها وبلغه الخبر بمرض
الوليد، ووافاه كتابه يستحثه على القدوم، ووافاه كتاب آخر من سليمان يثبطه،
فأسرع موسى باللحاق بالوليد فقدم عليه قبل وفاته بثلاثة أيام ودفع إليه ما معه
من الذخائر والأموال، فغاظ ذلك سليمان، وأساء مكافأته حين أفضى الأمر إليه
فنكبه ونكب آل بيته أجمع، وكانت وفاة موسى رحمه الله بالمدينة المنورة سنة ثمان
وتسعين، وقيل غير ذلك. أ.هـ.
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد القيرواني: ارتدت البربر اثنتي عشرة مرة من طرابلس
إلى طنجة، ولم يستقر إسلامهم حتى عبر موسى بن نصير البحر إلى الأندلس، وأجاز معه كثيرًا
من رجالات البربر برسم الجهاد، فاستقروا هنالك فحينئذ استقر الإسلام بالمغرب وأذعن
البربر لحكمه وتناسوا الردة. أ.هـ.
وقال ابن عذارى المراكشي في «المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب» ما يلي:
وفي سنة ٩٦ توفي الوليد بن عبد الملك في جمادى الآخرة وولي الخلافة سليمان
فغضب على موسى غضبًا عظيمًا وأمر عليه فأوقف في يوم شديد الحر في الشمس، وكان
رجلًا بادنًا ذا نسمة، فوقف حتى سقط مغشيًّا عليه، وقال له سليمان: كتبت إليك
فلم تنظر كتابي هلمَّ مائة ألف دينار. فقال: يا أمير المؤمنين، قد أخذتم ما كان
معي من الأموال فمن أين لي مائة ألف؟ فقال سليمان: لا بد من مائتي ألف. فاعتذر،
فقال: لا بد من ثلاثمائة ألف دينار، وأمر بتعذيبه وعزم على قتله. فاستجار بيزيد
بن المهلب، وكانت له حظوة عند سليمان فاستوهبه منه وقال: يؤدي ما عنده. وقيل:
إن موسى افتدي من سليمان بألف ألف دينار. ذكر ذلك ابن حبيب وغيره. ثم إن يزيد
بن المهلب سهر ليلة مع الأمير موسى فقال له: يا أبا عبد الرحمن، في كم تعتد أنت
وأهل بيتك من الموالي والخدام، أتكونون في ألف؟ فقال: نعم وألف وألف. قال: فلم
ألقيت بيدك إلى التهلكة؟ أفلا أقمت في قرار عزك وموضع سلطانك؟ فقال: والله لو
أردت ذلك لما نالوا من أطرافي شيئًا، ولكني آثرت الله عز وجل ولم أرَ الخروج عن
الطاعة. أ.هـ.
قلت: لم يكن يزيد بن المهلب بالذي يجهل فضل الطاعة للخليفة وشناعة شق العصا، ولكنه
قال لموسى هذا الكلام لما أثار من غيظه عمل خليفة كسليمان بن عبد الملك برجل عظيم خدم
الإسلام ما لم يخدمه أحد مثل موسى بن نصير، فقد كافأه بما لا يكافأ به مجرم، وهو في
الحقيقة لا من أعاظم رجال الإسلام فقط بل من أعاظم رجال العالم، وحسبك أنه هو الذي دوخ
البربر المشهورين بشدة البأس وصعوبة المراس بعد أن أشعلوا ثورات، لا ينادى وليدها ولا
يحصى عديدها، وبعد أن ارتدوا عن الإسلام اثنتي عشرة مرة، فلم يستقر إسلامهم إلا على يد
موسى بن نصير، وحسبك أنه دخل الأندلس واستتم فتحها واستصفى ممالكها وهو ابن ٧٥ سنة،
وكان جميع جيشه هو وطارق لا يزيد على ثلاثين ألف مقاتل، ولو أن قائدًا معه ثلاثمائة ألف
مقاتل ما أحاط بالأندلس وأثخن فيها ما أحاطه موسى وأثخنه في ذلك الأمد القصير بين أمم
أعداء تموج حواليه كالأبحر الزاخرة، وما رأى الأندلس وحدها كفؤًا لهمته بل حدثته نفسه
التي قل مثلها في نفوس البشر في بُعد الهمة، أن يوغل في أرض الإفرنج، ويعطف منها إلى
الشرق حتى ينفذ من القسطنطينية.
وقرأت في «تاريخ دول الإسلام» للإمام الذهبي أن موسى بن نصير توفي في وادي القرى عن
٧٨ عامًا، وأنه كان يقول: لو أطاعني عسكري نفذتهم حتى أفتح رومية.
وروى ابن عذارى أنه أقام على المغرب والأندلس أميرًا نحوًا من ١٨ سنة.
ومما ذكر في وفاته أنه حج مع الخليفة سليمان فلما وصلا إلى المدينة قال موسى لأصحابه:
ليموتن بعد غد رجل قد ملأ ذكره المشرق والمغرب، وبالفعل كان موسى الرجل الذي ملأ اسمه
المشرق والمغرب، وكان في الرجولية كالصخرة التي تنحط عنها السيول.
هذا ولم يكتفِ سليمان بنكبة موسى في شخصه حتى نُكب جميع أولاده، فأمر محمد بن يزيد
أمير إفريقية بأخذ عبد الله بن موسى بن نصير وتعذيبه واستئصال أموال بني موسى، فسجنه
محمد وعذبه ثم قتله، وأما عبد العزيز بن موسى فقد رُويت في أسباب قتله روايات كثيرة،
أقربها إلى العقل أنه لما بلغه ما حلَّ بأبيه وأخيه وأهل بيته خلع طاعة بني مروان، فجاء
أمر سليمان إلى وجوه العرب بالأندلس بقتله، فقتلوه وحمل رأسه ورأس أخيه عبد الله حتى
وضعا بين يدي أبيهما موسى وهو في عذابه.
٢٠
قال ابن عذارى: «فكان فعل سليمان هذا بموسى من هفوات سليمان التي لم تزل تنقم
عليه».
قلت: من هفوات ابن عذارى أن يعبر عن أعمال سليمان هذه بلفظة هفوات، وهي في الواقع
من
الجرائم التي لا تُغفر، ولكن مما لا يجوز أن ننساه أن موسى بن نصير أخذته الغيرة مما
وفق إليه طارق بن زياد من الفتوح، وأهانه بعد أن تلاقيا في الأندلس، وكان هذا العمل
الصغير غير متناسب مع كبارة نفس موسى وعلوّ همته، ولم يخلُ من تأثير في قضية نكبته؛ لأن
طارقًا شكا إلى الخليفة ما فعله به وظاهره في ذلك مغيث الرومي رسول الوليد إلى الأندلس.
قال صاحب «أخبار مجموعة في فتح الأندلس وذكر أمرائها رحمهم الله والحروب الواقعة بينهم»
وهو من أقدم ما كتب من تواريخ الأندلس يظهر أن صاحبه حرره
٢١ في عهد الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر: أنه لما دخل موسى الأندلس كان
ذلك سنة ثلاث وتسعين ومعه ثمانية عشر ألفًا — وهذا خلاف الرواية التي نقلها المقري وهي
أنه دخلها بعشرة آلاف — وقد بلغه ما صنع طارق فحسده، فلما نزل الجزيرة قيل له: اسلك
طريقه. قال: ما كنت لأسلك طريقه. فقال له العلوج الأدلّاء: نحن ندلك على طريق هي أشرف
من طريقه، ومدائن هي أعظم خطبًا من مدائنه لم تُفتح بعد يفتحها الله عليك إن شاء الله،
فامتلأ بذلك سرورًا، فكأن فعل طارق قد غمَّه، فساروا به إلى مدينة شذونة فافتتحها عنوة
ألقوا بأيديهم إليه، ثم سار إلى مدينة قرمونة
٢٢ فقدم إليها العلوج الذين معه، وهي مدينة ليس في الأندلس أحصن منها ولا أبعد
من أن ترجى بقتال أو حصار، وقد قيل له حين دعا إليه: ليست تؤخذ إلا باللطف، فقدَّم
إليها علوجًا ممن قد أمنه، واستأمن إليه مثل (يليان) ولعلهم أصحاب يليان، فأتوهم على
حال الأفلال معهم السلاح فأدخلوهم مدينتهم، فلما دخلوها بعث إليهم الخيل ليلًا وفتحوا
لهم باب قرطبة — من أبواب قرمونة — فوثبوا على أحراسه ودخل المسلمون قرمونة، ومضى موسى
إلى أشبيلية وهي أعظم مدائن الأندلس شأنًا وخطبًا وأعجبها بنيانًا وآثارًا، وكانت دار
الملك قبل غلبة القوطيين على الأندلس، فلما غلب القوطيون حولوا السلطان إلى طليطلة،
وبقي شرف الرومانيين وفقههم ودينهم ورئاستهم في دنياهم بأشبيلية، فأتاها موسى بن نصير
حتى حصرها أشهرًا، ثم إن الله فتحها وهرب العلوج إلى مدينة باجة، فضم موسى يهودها ومضى
إلى مدينة ماردة، وكانت أيضًا دار بعض ملوك الأندلس، ذات آثار وقنطرة وقصور وكنائس تفوت
الوصف، فحصرها وقد كان أهلها خرجوا إليه وزحمهم دفعة، فقاتلوه من سورها على قدر ميل أو
أكثر قتالًا شديدًا، فلما رأى خروجهم إليه أبصر فيها حفرًا كانت مقاطع للصخر فأكمن فيها
الرجال والخيل ليلًا، فلما أصبح زحف إليهم فخرجوا إليه كهيئة خروجهم بالأمس، فركبهم
المسلمون وخرج عليهم الكمين وقتلوا قتلًا ذريعًا، ونجا من نجا منهم إلى المدينة، وهي
مدينة حصينة لها سور لم يَبنِ الناسُ مثله، فثبت عليهم يقاتلهم أشهرًا حتى عمل دبابة
فدبَّ المسلمون تحتها إلى برج من أبراجها فنقبوا صخره، فلما نزعوا صخره أفضوا في داخله
إلى الصماء التي يقال لها: «اللاشّة ماشّة» بلسان أهل الأندلس، فنبت عنها معاولهم
وفئوسهم، فبينا هم يضربون فيها إذ استفاق عليهم العلوج فاستشهد المسلمون تحت الدبابة
فسمي بذلك البرج «برج الشهداء» إلى اليوم، وما أقل من يعرف هذا، وكان فتحه لها في رمضان
سنة أربع وتسعين يوم الفطر، فلما كان من أمر الشهداء ما كان، قال العلوج: قد كسرناه،
فإن كان يومًا مجيبًا إلى الصلح فاليوم فاطلبوه إليه، فخرجوا إليه فألفوه أبيض اللحية
فراوضوه على شيء لم يوافقه ثم رجعوا، فلما كان قبل العيد بيوم خرجوا إليه ليراوضوه،
فإذا هو قد شبب لحيته بالحناء فألفوه أحمر اللحية، فعجبوا، وقال قائلهم: أظنه يأكل ولد
آدم، أو ما هذا الذي رأيناه بالأمس؟ ثم خرجوا إليه يوم الفطر فإذا اللحية سوداء فرجعوا
إلى أهل مدينتهم فقالوا: يا حماقى، إنما تقاتلون أنبياء يتخلقون، كيف شاءوا
يتشببون
٢٣ قد صار ملكهم حدثًا بعد أن كان شيخًا، اذهبوا فأعطوه ما سأل، فصالحوه على
أن جميع أموال القتلى يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جليقية للمسلمين، وأموال الكنائس
وحليها له، ثم فتحوا له المدينة يوم الفطر في سنة أربع وتسعين، ثم إن عجم أهل أشبيلية
تحيلوا على من بها من المسلمين، وجاءوا من مدينة يقال لها: لبلة. ومدينة يقال لها:
باجة. وقتلوا من بها من المسلمين — قُتل فيها ثمانون رجلًا — فقدم فلّهم على موسى بن
نصير بماردة، فلما فتح ماردة بعث ابنه عبد العزيز على جيش إلى أشبيلية فافتتحها ورجع،
ثم مضى موسى من ماردة في عقب شوال يريد طليطلة، وبلغ طارقًا إقباله فخرج معظمًا له
متلقيًا، فلقيه بكورة طلبيرة، فلما رآه نزل إليه، فوضع موسى السوط على رأسه، وونبه فيما
كان من خلاف رأيه، ثم سار به إلى مدينة طليطلة، ثم قال له: أحضرني بما أصبت
وبالمائدة
٢٤ فأتاه بها وقد اقتلع رجلًا كسرها من أرجلها فقال له: أين هذه الرجل؟ فقال:
إني لا علم لي، كذلك أصبتها. فأمر بالرِّجل فعمل لها من ذهب، وعمل لها سفط من خوص
فأدخلها فيه ثم سار حتى افتتح سرقسطة ومداينها. أ.هـ.
ولم يرد في «أخبار مجموعة» أن موسى دخل بلاد إفرنجة، ومقتضى كلام صاحب هذا التاريخ
أن
هذا حصل من بعده، فإنه يذكر بعد ولاية موسى بن نصير ولاية ابنه عبد العزيز، ولا يذكر
أن
مقتل عبد العزيز كان بإشارة من سليمان بن عبد الملك كما ذكر كثيرٌ من المؤرخين، ولا
يقول إن عبد العزيز بن موسى خرج عن الطاعة بعد ما بلغه ما فعل الخليفة بأبيه، بل بالعكس
هو يقول: إنه لما بلغ الخليفة سليمان قتل عبد العزيز شقَّ ذلك عليه وأمر عبيد الله بن
زيد عامله على إفريقية بأن يتشدد في قضية قتل عبد العزيز، وأن يقبض على حبيب بن أبي
عبيدة وزياد بن النابغة اللذين قتلاه، وأن يقفلهما إليه مع من شركهما في قتله من وجوه
الناس.
رجع إلى حديث استيلاء العرب على جنوبي فرنسة
نعود إلى كلام المستشرق «رينو» في موضوع غارات العرب على جنوبي فرنسة، فهو يذكر أن
فتن العرب المستمرة المصطلمة، بعضهم مع بعض، قد نفَّست من خناق المسيحيين في الأندلس
وإفرنجة، ويقول: إن معظم اهتمام الخلفاء كان وقتئذ توجه إلى الاستيلاء على القسطنطينية
التي كانوا أغزوها جيشًا عدته مائة وعشرون ألف مقاتل، وأسطولًا عدده ألف وثمانمائة
سفينة، ولا شكَّ أن سموهم إلى فتح شرقي أوربة شغلهم عن الزحف على غربي أوربة، ولكنه
يقول: إن مؤرخي العرب ذكروا مع ذلك بعض غارات على «اللانغدوق» في أيام ولاية الحر
الثقفي سنة ٧١٨ مسيحية.
وقد أيد هذه الرواية «أيزيدور» أسقف «باجة»
٣٠ وهو من المؤرخين الذين عاشوا في ذلك العصر، و«لذريق شيمنيس» مطران
طليطلة
٣١ وقالوا: إن العرب زحفوا إلى الأمام حتى وصلوا إلى مدينة «نيم»، ولم يجدوا
مقاومًا ورجعوا بالغنائم والسبي الكثير.
قال رينو: ولم تكن مقاطعات جنوبي فرنسة لتقدر أن تقف في وجه العرب المندفقين عليها
من
جبال البيرانه، وكان الحكم للدولة المعروفة بدولة «الكسالى»
٣٢ إذ ذاك، وكانت بلاد اللانغدوق يقال لها: «القوطية»
Gotie بسبب طول مقام القوط بها، وقد يقال لها أيضًا: «سبيتمانية»
أي «السبعية» لاشتمالها على المدن السبع: أربونة، ونيم، واقد، وبيزيه، ولوديف،
وقرقشونة، وماقلونة.
٣٣ وكانت من جملة مملكة «أود» دوق اكيتانيه
٣٤ وكان هذا يدعي أنه من ذرية الملك كلوفيس
٣٥ وبهذا السبب كان من أبناء عم ملوك فرنسة الشمالية فكان يكره بطبيعة الحال
حُجَّاب القصر، الذين قد استولوا على الأمور واستبدوا بها من دون الملوك، ولم يبقَ لهم
همٌّ إلا في توطيد سلطتهم وسلطة جنس الفرنج
٣٦ في تلك المملكة مما ثني أعنتهم عن صد العرب الموجفين على جنوبي
فرنسة.
فصارت بلاد اللانغدوق والبروفانس متروكة لأهلها الغاليين
٣٧ وكان هؤلاء شعبًا مركبًا من أعقاب الرومانيين القدماء ومن القوط، وكانت لكل
من الفريقين عادات خاصة وشرائع يمتاز بها، فلم يكن من واقٍ لجنوبي فرنسة في ذلك الوقت
أحسن من وقوع بأس العرب فيما بينهم، وذلك أن حكومة إسبانية العربية كان مرجعها القيروان
في إفريقية، وحكومة إفريقية كانت عائدة إلى دمشق دار الخلافة، فلم يكن من الممكن أن
تكون سلطة موزعة إلى هذا الحد، وأن تتعدد مراكزها كل هذا التعدد وأن يستتب بها النظام،
وأن تقيم على الطاعة رجالات نشأوا في ظلال السيوف، ثم إن النزاع كان وقع بين العرب
والبربر، وبين المسلمين وغير المسلمين من الجيوش الفاتحة، ولما كانت أراضي المسيحيين
التي دخلت في حوزة الفاتحين قد صارت إلى أيدي عدد من ذوي الأطماع، وحرم كثير من
المستحقين الفيء الذي يستحقونه، أدَّى ذلك النزاع أخيرًا إلى القتال، وسالت الدماء ومشت
الصفوف بعضها إلى بعض، وهناك سبب آخر كان به أعظم الفرج لفرنسة، نَفَّس من خناقها وأرخى
من رباقها وهو انتفاض عصابة من مسيحيي إسبانية فيهم شِماس، وصعوبة مراس ثاروا بالعرب
ثورة الضواري، وأبوا إلا الدفاع عن دينهم ووطنهم، فلجأوا إلى جبال آستورية
٣٨ وغاليسية
٣٩ ونابار.
٤٠ وهناك بدأوا بمقاومة لم تضع عصاها إلا بإجلاء المسلمين أجمع عن تلك
البلاد.
وكان الخليفة الجديد عمر بن عبد العزيز اطلع على ما دبَّ من الخلل إلى موقف العرب
بالأندلس، فأنفذ إليها السمح بن مالك الخولاني أميرًا، وعهد إليه بإصلاح الأمور ورمِّ
الثغور، وكان السمح مدبرًا حكيمًا وقائدًا باسلًا وسائسًا حازمًا، ذا دربة بتمشية
الأمور، فرتق الفتوق، ووازن بين الدخل والخرج، وأنصف الجند في الأعطيات، ووزع على
المجاهدين جانبًا من الأراضى، وعهد بما بقي منها إلى وكلاء من ذوي الأمانة ورد ريعها
إلى بيت المال، وكان الخليفة قد أمر السمح بأن يقدم له بيانًا عن البلدان المفتوحة وما
فيها من النفوس والجبايات، ليبرم في أمر الأندلس رأيًا، فقد كان عمر بن عبد العزيز شديد
الخوف على الإسلام، وكان قد هاله بقاء ذلك العدد الكبير من المسيحيين في تلك البلاد،
واستشعر من ورائهم خطرًا على مستقبل المسلمين، ففكر في إجلاء مسيحيي إسبانية وجنوبي
فرنسة إلى إفريقية حيث لا يكون من وجودهم تهلكة على الدولة، إلا أن السمح طمأن مخاوف
الخليفة قائلًا له: إن الإسلام ينمو وينتشر وتمتد شماريخه بسرعة في إسبانية، وأنه لا
يبعد اليوم الذي تصير فيه تلك البلاد بأجمعها تابعة لدين محمد. روى ذلك بعض مؤرخي العرب
وأسفوا من كون السمح بن مالك الخولاني لم يعمل برأي الخليفة في هذا الموضوع.
٤١ انتهى.
ولنقابل الآن كلام رينو وكلام من نقل عنهم من مؤرخي الإسبانيول والإفرنج بكلام العرب
لتزداد الحقائق وضوحًا فنقول: نقل المقري في النفح عن ابن حيان ما يلي:
قالوا: إن موسى اصطلح مع طارق وأظهر الرضى عنه وأقره على مقدمته على رسمه، وأمره
بالتقدم أمامه في أصحابه وسار موسى خلفه في جيوشه فارتقى إلى الثغر الأعلى، وافتتح
سرقسطة وأعمالها، وأوغل في البلاد، وطارق أمامه، لا يمران بموضع إلا فتح عليهما
وغنَّمهما الله تعالى ما فيه، وقد ألقى الله الرعب في قلوب الكفرة لم يعارضهما أحد إلا
بطلب صلح، وموسى يجيء على أثر طارق في ذلك كله ويكمل ابتداءه، ويوثِّق للناس ما عاهدوه
عليه، فلما صفا القطر كله وطمأن نفوس من أقام على سلمه، ووطَّأ لأقدام المسلمين في
الحلول به أقام لتمييز ذلك وقتًا، وأمضى المسلمين إلى إفرنجة ففتحوا وغنموا وسلموا
وعلوا وأوغلوا حتى انتهوا إلى وادي «ردونة»
٤٢ فكان أقصى أثر العرب ومنتهى موطئهم من أرض العجم، وقد دوخت بعوث طارق
وسراياه بلد إفرنجة، فملكت مدينتي برشلونة
٤٣ وأربونة
٤٤ وصخرة «أبينيون»
٤٥ وحصن «لودون»
٤٦ على وادي ردونة، فبعدوا عن الساحل الذي منه دخلوا جدًّا، وذكر أن مسافة ما
بين قرطبة وأربونة من بلاد إفرنجة ثلاثمائة فرسخ وخمسة وثلاثون فرسخًا، وقيل: ثلاثمائة
فرسخ وخمسون فرسخًا. ولما أوغل المسلمون إلى أربونة ارتاع لهم قارله ملك الإفرنجة
بالأرض الكبيرة وانزعج لانبساطهم، فحشد لهم وخرج عليهم في جمع عظيم، فلما انتهى إلى حصن
لودون، وعلمت العرب بكثرة جموعه زالت عن وجهه، وأقبل حتى انتهى إلى صخرة أبينيون فلم
يجد بها أحدًا، وقد عسكر المسلمون قدَّامه فيما بين الأجبل المجاورة لمدينة أربونة، وهم
بحال غرة لا عيون لهم ولا طلائع، فما شعروا حتى أحاط بهم عدو الله قارله، فاقتطعهم عن
اللجا إلى مدينة أربونة، وواضعهم الحرب فقاتلوا قتالًا شديدًا استشهد فيه جماعة منهم،
وحمل جمهورهم على صفوفه حتى اخترقوها ودخلوا المدينة ولاذوا بحصانتها، فنازلهم بها
أيامًا أصيب له فيها رجال، وتعذر عليه المقام وخامره ذعر وخوف مدد للمسلمين، فزال عنهم
راحلًا إلى بلده، وقد نصب في وجوه المسلمين حصونًا على وادي ردونة شكَّها بالرجال
فصيَّرها ثغرًا بين بلده والمسلمين، وذلك بالأرض الكبيرة خلف الأندلس. انتهى.
إن كلام ابن حيان هذا يجمل خبر غزوات العرب لإفرنجة أو فرنسة من أيام موسى بن نصير
وطارق بن زياد إلى زمان عبد الرحمن الغافقي، ومنه يُعرف أن غزو العرب لإفرنجة يرجع إلى
أول الفتح الأندلسي، وإن كان مؤرخو الإفرنج لا يذكرون مغازي العرب لفرنسة إلا من بعد
ولاية السمح بن مالك الخولاني، وأما المؤرخان المسيحيان أيزيدور الباجي وشيمينش مطران
طليطلة، وأولهما عاصر زمان الفتح، فإنهما يذكران غارات للعرب على فرنسة في زمان الحر
بن
عبد الرحمن بن عثمان الثقفي أمير الأندلس بعد عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي ثأر به
الجند، وقتلوه حسبما تقدم الكلام عليه.
والذي في نفح الطيب نقلًا عن ابن خلدون أن محمد بن يزيد عامل الخليفة سليمان بن عبد
الملك على إفريقية لما بلغه مهلك عبد العزيز بن موسى بن نصير بعث الحر بن عبد الرحمن
الثقفي أميرًا على الأندلس. وفي صفحة ١٤٠ من نفح الطيب من الجزء الأول الطبعة الأزهرية
يذكر أمراء الأندلس على النسق الآتي:
طارق بن زياد مولى موسى بن نصير، ثم الأمير موسى بن نصير، وكلاهما لم يتخذ سريرًا
للسلطنة، ثم عبد العزيز بن موسى بن نصير، وسريره أشبيلية، ثم أيوب بن حبيب اللخمي،
وسريره قرطبة، وكل من يأتي بعده فسريره قرطبة والزهراء والزاهرة بجانبيها إلى أن انقضت
دولة بني مروان على ما ينبه عليه، ثم الحر بن عبد الرحمن الثقفي، ثم السمح بن مالك
الخولاني، ثم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، ثم عنبسة بن سحيم الكلبي، ثم عذرة بن عبد
الله الفهري، ثم يحيى بن سلمة الكلبي، ثم عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، ثم حذيفة بن
الأحوص القيسي، ثم الهيثم بن عبيد الكلابي، ثم محمد بن عبد الله الأشجعي، ثم عبد الملك
بن قطن الفهري، ثم بلج بن بشر بن عياض القشيري، ثم ثعلبة بن سلامة العاملي، ثم أبو
الخطار بن ضرار الكلبي، ثم ثوابة بن سلامة الجذامي، ثم يوسف بن عبد الرحمن الفهري. قال:
وها هنا انتهى الولاة الذين ملكوا الأندلس من غير موارثة أفرادًا عددهم عشرون فيما ذكره
ابن سعيد، ولم يتعدوا في السمة لفظ الأمير. قال ابن حيان: مدتهم منذ تاريخ الفتح من
لذريق سلطان الأندلس النصراني، وهو يوم الأحد لخمس خلون من شوال سنة ٩٢ إلى يوم الهزيمة
على يوسف بن عبد الرحمن الفهري وتغلَّب عبد الرحمن بن معاوية المرواني على سرير الملك
قرطبة، وهو يوم الأضحى لعشر خلون من ذي الحجة سنة ١٣٨ ست وأربعون سنة وخمسة أيام.
انتهى.
وأما ابن عذارى في «البيان المغرب» فيذكر في الجزء الأول أن محمد بن يزيد أمير
إفريقية استعمل على الأندلس الحر بن عبد الرحمن القيسي، وكانت الأندلس إذ ذاك إلى والي
إفريقية كما كان أيضًا والي إفريقية من قِبَل والي مصر. ثم قال: وسنة ٩٩ توفي سليمان
بن
عبد الملك واستخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يوم وفاته فاستعمل على إفريقية
إسماعيلَ بن عبد الله بن أبي المهاجر مولى بني مخزوم. قال: «واستعمل إسماعيل بن أبي
المهاجر على الأندلس السمح بن مالك الخولاني. ثم ذكر ابن عذارى أنه عند ولاية بشر بن
صفوان على إفريقية ولي الأندلس عنبسة بن سحيم الكلبي. ثم ذكر أنه عند ولاية عبيدة بن
عبد الرحمن السلمي على إفريقية تولى عثمان بن أبي نسعة على الأندلس، ثم من بعده حذيفة
بن الأحوص القيسي، ثم الهيثم بن عبيد الكناني، ثم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي الذي
استشهد ببلاط الشهداء، ثم ذكر إمارة عبد الملك بن قطن على الأندلس، ثم ولاية بلج بعد
مقتل عبد الملك، ثم ولاية ثعلبة بن سلامة العاملي، ثم ولاية أبي الخطار الكلبي، ثم
ولاية ثوابة بن سلامة الذي ثار على أبي الخطار وهزمه، ثم ولاية يوسف الفهري آخر أمراء
الأندلس الذي دخل في زمانه عبد الرحمن بن معاوية الأموي إلى تلك البلاد.
وأما صاحب «أخبار مجموعة في تاريخ أمراء الأندلس» فذكر بعد إمارة عبد العزيز بن موسى
بن نصير إمارة أيوب بن حبيب اللخمي، كان يؤم أهل الأندلس في صلاتهم وكان رجلًا صالحًا،
فولوه أمرهم بعد قتل عبد العزيز بن موسى بن نصير، وهو ابن عمة عبد العزيز، وجاء بعده
الحر بن عبد الله الثقفي
٤٧ (ولم يقل: الحر بن عبد الرحمن الثقفي) ثم ذكر أنه لم يستقر بالحر القرار
حتى ولي عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخلافة فعزل عبد الله بن يزيد والي إفريقية (ولم
يقل: محمد بن يزيد) وولاها إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم، وذلك أن الخلفاء كانوا
إذا جاءتهم جبايات الأمصار والآفاق يأتيهم مع كل جباية عشرة رجال من وجوه الناس
وأجنادها، فلا يدخل بيت المال من الجباية دينار ولا درهم حتى يحلف الوفد بالله الذي لا
إله إلا هو ما فيها دينار ولا درهم إلا أخذ بحقه، وأنه فضل أعطيات أهل البلد من
المقاتلة والذرية بعد أن أخذ كل ذي حق حقه، فأتى وفد إفريقية بخراجها وذلك أنها لم تكن
يومئذ ثغرًا فكان ما فضل بعد أعطيات الأجناد وفرائض الناس يُنقل إلى الخليفة، فلما
وفدوا بخراج إفريقية في زمان سليمان أمروا بأن يحلفوا فحلف الثمانية، ونكل إسماعيل بن
عبيد الله مولى بني مخزوم، ونكل بنكوله السمح بن مالك الخولاني، فأعجب ذلك عمر بن عبد
العزيز من فعلهما ثم ضمهما إلى نفسه فاختبر منهم صلاحًا وفضلًا، فلما ولي عمر ولَّى
إسماعيل إفريقية، وولَّى السمح بن مالك الأندلس وأمره أن يخمِّس أرضها، ويخرج منها ما
كان عنوة خمسًا لله من أرضها وعقارها، ويقر القرى في أيدي غنَّامها بعد أن يأخذ الخمس
وأن يكتب إليه بصفة الأندلس وأنهارها، وكان رأيه انتقال أهلها منها لانقطاعهم عن
المسلمين، وليت الله كان أبقاه حتى يفعل فإن مصيرهم إلى بوار إلا أن يرحمهم الله،
فقدمها السمح سنة مائة فوضع يدًا في السؤال عن العنوة ليميزه من الصلح وفي إخراج
البعوث، وبنى القنطرة وذلك أنه كتب إلى عمر يستشيره ويعلمه أن مدينة قرطبة تهدمت من
ناحية غربها، وكان لها جسر يعبر عليه نهرها ووصفه بحمله وامتناعه من الخوض الشتاء عامة
«فإن أمرني أمير المؤمنين ببنيان سور المدينة فعلتُ فإن قِبَلي قوة على ذلك من خراجها
بعد عطايا الجند ونفقات الجهاد، وإن أحب صرفت صخر ذلك السور فبنيت جسرهم» فيقال والله
أعلم: إن عمر رحمه الله أمر ببنيان القنطرة بصخر السور، وأن يبني السور باللبن؛ إذ لا
يجد له صخرًا فوضع يدًا فبنى القنطرة في سنة إحدى ومئة.
ثم هلك عمر رحمه الله، فولَّى يزيد بن عبد الملك بشر بن صفوان أخا حنظلة بن صفوان
إفريقية، فعزل بشرُ السمحَ بن مالك وولَّى عنبسة بن سحيم الكلبي، ثم تتابعت ولاة
الأندلس بعد عنبسة، فوليها يحيى بن مسلمة الكلبي، ثم وليها بعد يحيى عثمان بن أبي نسعة
الخثعمي، ثم وليها بعد عثمان حذيفة بن الأحوص القيسي، ثم الهيثم بن عفير الكناني، ثم
عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، وعلى يديه استشهد أهالي بلاط الشهداء، واستشهد معهم
واليهم عبد الرحمن، وولي عبد الملك بن قطن المحاربي محارب فهر من قريش، وولايته الأولى
نحوٌّ من ستة أشهر، لم تطل، وكان من وصفنا من الولاة يجاهدون العدو ويتوسعون في البلاد
حتى بلغوا إفرنجة وحتى افتتحت عامة الأندلس (إلى أن يقول): إن هشام بن عبد العزيز رحمه
الله بعث على مصر عبيد الله بن الحبحاب بن الحارث مولى بني سلول من قيس، وجعل إليه أمر
إفريقية والأندلس، فأقر بشر بن صفوان على إفريقية، وولَّى عقبة بن الحجاج الأندلس (ثم
قال): فدخل الأندلس (أي: عقبة بن الحجاج) سنة عشر ومئة فأقام عليها سنين وافتتح الأرض
حتى بلغ أربونة، وافتتح «جليقية»
٤٨ و«إلبة»
٤٩ و«بنلونة»
٥٠ ولم يبقَ بجليقية قرية لم تُفتتح غير «الصخرة» فإنه لاذ بها ملك يقال له:
«بلاي» فدخلها في ثلاثمائة راجل، فلم يزالوا يقاتلونه ويناورونه حتى مات أصحابه جوعًا
وترامت طائفة منهم إلى الطاعة، فلم يزالوا ينقصون حتى بقي في ثلاثين رجلًا ليست معهم
عشر نسوة. فيما يقال: إنما كان عيشهم بالعسل، ولاذوا بالصخرة فلم يزالوا يتقوتون بالعسل
معهم جباح
٥١ والنحل عندهم في خروق الصخرة، احترزوا وأعيى المسلمين أمرهم فتركوهم
وقالوا: ثلاثون علجًا ما عسى أن يكون أمرهم؟ واحتقروهم، ثم بلغ أمرهم إلى أمر عظيم
سنذكره إذا بلغنا موضعه إن شاء الله. أ.هـ.
ثم ذكر صاحب «أخبار مجموعة»: أن عقبة بن الحجاج بقي أميرًا على الأندلس إلى سنة ١٢١
إذ ثارت البربر في إفريقية ودخلوا طنجة، وقتلوا واليها عمر بن عبد الله المرادي، وشغل
صاحب إفريقية بشر بن صفوان بهذه الثورة، فوثب عبد الملك بن قطن المحاربي على عقبة بن
الحجاج، فخلعه ولا أدري أقَتَلَهُ أم أخْرَجه؟ فملكها بقية ٢١، ٢٢، ٢٣ حتى دخل بلج بن
بشر القشيري ثم الكعبي بأهل الشام، وقد وصفنا سبب دخوله في أحاديث تأتي بعد هذا.
ثم ذكر ما معناه: أنه بعد موت بلج القشيري تولى الأندلس ثعلبةُ بن سلمة العاملي، وجار
في سياسته، وذهب وفد من الأندلس إلى حنظلة بن صفوان أمير إفريقية يشكون ما هم فيه،
فأرسل عليهم واليًا أبا الخطار حسام بن ضرار الكلبي، فأصلح الأمور ورضي به الشاميون
والبلديون، وكان رجلًا من خيار الناس وأنزل أهل الشام في الكور، وبقي أبو الخطار أربع
سنين وستة أشهر إلى أن دخل الأندلس الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن، وشمر هو الذي
قتل الإمام الحسين بن علي رضي الله عنه، وقتله بعد ذلك المختار بالكوفة، فارتحل ولد
الشمر عن الكوفة إلى الجزيرة، ثم ارتحلوا إلى الأندلس مع جند قنسرين، ورأسَ الصميل
بالأندلس ودانت له قيس فيها واقتتل مع أبي الخطار وانهزم هذا، وتولى ثوابة بن سلمة
الجذامي، ثم مات سنة ١٢٩، وتولى بعده يوسف بن عبد الرحمن بن عقبة بن نافع الفهري، وفي
أيامه اشتدت العداوة بين قيس واليمن، فانحازت مضر وربيعة إلى يوسف ومعه الصميل، واجتمعت
يمن الأندلس حِميرُها وكندتُها ومذحجُها وقضاعتُها تحت لواء أبي الخطار، وكانت بين
الفريقين أشد حرب عرفها العرب بعضهم مع بعض. قال صاحب «أخبار مجموعة»: وهي الفتنة
العظمى التي بها يخاف بوار الإسلام بالأندلس إلا أن يحفظه الله.
ومن كلام هذا المؤرخ الذي كتب هذا التاريخ في أيام الحكم المستنصر يظهر أنهم كانوا
يخشون على إسلام الأندلس البوار، لا من جهة انقطاع مسلمي الأندلس من وراء البحر فقط،
بل
من جهة الفتنة التي لا يفتر أوارها فيما بينهم، ولقد وقع ما كانوا منه يحذرون، فما كان
زوالهم من هناك بحرب الإسبانيول فحسب بل كان أقوى عامل على زوالهم من الأندلس شدة عداوة
بعضهم لبعض، وهو مرض الفرقة الذي رافقهم إلى الساعة الأخيرة من ملكهم هناك.
٥٢
رجع الحديث إلى حرب القيسية واليمانية
ذكر صاحب «أخبار مجموعة» أن ابن حريث
٥٣ وأبا الخطار زحفا إلى يوسف والصميل
٥٤ بقرطبة، فأقبلا حتى نزلا على نهر قرطبة بقبليها بقرية «شقندة»
٥٥ وعبر يوسف والصميل النهر إليهما بمن معهما، فالتقوا حين صلوا الصبح
فتطاعنوا على الخيل حتى تقصفت الرماح وثبتت الخيل وحميت الشمس، ثم تداعوا إلى البراز
فتنازلوا وتضاربوا بالسيوف حتى تقطعت، ثم تقابضوا بالأيدي والشعور ولم يكن في الإسلام
صبر مثله إلا ما يذكر من صفين.
٥٦ ولم يكن القوم بالكثير لا هؤلاء ولا هؤلاء وإنما كانوا خيار الفريقين،
وكانوا متقاربين، إلا أن اليمن كانوا أكثر قليلًا، فلما أعنى بعضهم بعضًا تواقفوا يضرب
بعضهم وجوه بعض بالقسي والجعاب، ويحثي بعضهم التراب على بعض؛ إذ قال الصميل ليوسف: ما
وفقنا إذ خلفنا جندًا نحن منهم في غفلة. قال: ومن هم؟ قال: أهل السوق بقرطبة. فرد إليهم
يوسف مولاه خالد بن يزيد وصاحب سوقه، فأخرجا منهم نحوًا من أربعمائة راجل معهم الخشب
والعصي، ومع قليل منهم السيف والمزراق، فخرج الجزارون بسكاكينهم فجاءوا إلى قوم موتى،
وقد مضت الظهر والعصر لم يصلوهما لا صلاة خوف ولا أمن، فجردوهم وقتلوا وأسروا بشرًا
كثيرًا خيارًا، وأسروا أبا الخطار وابن حريث وكانا الأميرين، وكان ابن حريث لما رأى أهل
سوق قرطبة يقتلون أصحابه تغيَّب ودخل تحت سرير الرحى التي بموضع بيع الخشب، فلما أسروا
أبا الخطار وهمُّوا بقتله قال: ليس عليّ فوت ولكن عندكم ابن السوداء ابن حريث، فدَّل
عليه فأخرج وقتلا جميعًا، وكان ابن حريث يقول: لو أن دماء أهل الشام جُمعت لي في قدح
لشربتها، فلما استخرج قال له أبو الخطار: يا ابن السوداء هل بقي في قدحك شيء لم تشربه؟
فقتلا، وأُسِر منهم بشرٌ كثير. ثم أُتي بالأسرى، وقعد الصميل في كنيسة كانت في داخل
مدينة قرطبة، وهي اليوم موضع مسجدها الجامع، فضرب أوساط سبعين منهم. فلما رأى ذلك أبو
عطاء بن حمد المري قام إليه فقال له: أبا جوشن أغمد سيفك أو ارجِع سيفك. قال له: اقعد
أبا عطاء فهذا عزك وعز قومك. فجلس ولم يغمد السيف، ثم قام إليه فقال له: يا عرابي،
والله إن تقتلنا إلا بعداوة صفين لتكفنَّ أو لأدعون بدعوة شامية، فأغمد سيفه وأمن الناس
على يدي أبي عطاء بعد بلاء عظيم، فيقال والله أعلم: إن تلك الوقيعة توجد في بعض العلم
أنها قاطعة الأرحام.
٥٧ وكانت قبل سنة إحدى وثلاثين ومئة، قال: فأعقبهم الله بالجوع والقحط، فجاعت
الأندلس سنة اثنتين وثلاثين ثم سنة ثلاث، فثار أهل جليقية على المسلمين وغلظ أمر علج
يقال له بلاي، قد ذكرناه في أول كتابنا، فخرج من الصخرة
٥٨ وغلب على كورة «واستورس»
٥٩ ثم غزاه المسلمون من جليقية وغزاه أهل «استورقة»
٦٠ زمانًا طويلًا حتى كانت فتنة أبي الخطار وثوابة.
٦١ فلما كان في سنة ثلاث وثلاثين هزمهم وأخرجهم عن جليقية كلها، وتنصر كل
مذبذب في دينه وضعف عن الخروج، وقتل من قتل وصار فلَّهم إلى خلف الجبل إلى «أستورقة»
حتى استحكم الجوع فأخرجوا أيضًا المسلمين عن أستورقة وغيرها، وانضم الناس إلى ما وراء
الدرب الآخر وإلى «قورية»
٦٢ و«ماردة»
٦٣ في سنة ست وثلاثين، واشتد الجوع فخرج أهل الأندلس إلى طنجة وأصيلا وريف
البربر ممتارين ومرتحلين، وكانت إجازتهم من واد بكورة «شذونة»
٦٤ يقال له: وادي «برباط»
٦٥ فتلك السنون تسمى سني برباط فخف سكان الأندلس، وكاد أن يغلب عليهم العدو
إلا أن الجوع شملهم. أ.هـ.
هذا ما اخترنا تلخيصه وتمحيصه من أخبار الأمراء الذين تعاقبوا على الأندلس والذين
كانوا يغزون إفرنجة أو فرنسة، ولنضف إليهم ما ذكره ابن عميرة صاحب «بغية الملتمس في
تاريخ رجال أهل الأندلس»
٦٦ فهو يذكر الحر بن عبد الرحمن القيسي ويقول: إنه عزل بعنبسة بن سحيم الكلبي.
ويقول: إن عنبسة تولى الأندلس سنة ١٠٦ من قبل بشر بن صفوان أمير إفريقية في أيام هشام
بن عبد الملك ومات سنة ١٠٧ وقيل ١٠٩.
وأما ابن خلدون فيذكر أن ولاية عنبسة بن سحيم كانت من قبل يزيد بن أبي مسلم عامل
إفريقية، لا بشر بن صفوان، وأن بشر بن صفوان كان واليًا على إفريقية وقت مقتل عنبسة،
ولما بلغه الخبر أرسل مكانه واليًا على الأندلس يحيى بن مسلمة الكلبي. ويقول ابن خلدون:
إن استشهاد عنبسة كان في أرض الفرنجة سنة ١٠٧.
وبيَّن ابن خلدون وصاحب «أخبار مجموعة» اختلاف في الأسماء، لعله من تصحيف النساخ،
ففي
نفح الطيب نقلًا عن ابن خلدون يذكر «الهيثم بن عبيد الكلابي» — وهكذا في صبح الأعشى —
وفي «أخبار مجموعة» الهيثم بن عفير الكناني، ثم إن صاحب «أخبار مجموعة» يذكر بعد الهيثم
ولاية عبد الرحمن الغافقي بلا فاصل، على حين أن ابن خلدون يذكر بعد الهيثم محمدَ بن عبد
الله الأشجعي، ولعل صاحب أخبار مجموعة أهمله لقصر مدته لأنه لم يلبث إلا شهرين.
وأما ابن عذارى فيذكر في «المُغرب» أن بشر بن صفوان تولى إفريقية مرتين، وفي الثانية
منهما ولى على الأندلس عنبسة بن سحيم. ثم يقول: إنه سنة ١٠٧ ولى على الأندلس يحيى بن
سلمة الكلبي. ومن هنا يعرف أن مقتل عنبسة بن سحيم بأرض إفرنجة غازيًا كان سنة ١٠٧، وهذه
هي رواية ابن عميرة وابن خلدون أيضًا. والمستشرق رينو
٦٧ يقول: إنه قتل سنة ٧٢٥ مسيحية، والمؤرخ كوندي الإسبانيولي يجعل قتله سنة
١٠٦ هجرية الموافقة ٧٢٤ مسيحية.
ولنرجع إلى تاريخ رينو عن غارات العرب على فرنسة فهو يقول: إن السمح بن مالك الخولاني
الذي تولى الأندلس في خلافة عمر بن العزيز بعد أن سكَّن الدهماء وأصلح الأمور في
الداخل، أعمل همته في الجهاد ليستأنف المسلمون الحرارة الأولى، وليجدد عزائمهم بعد
الالتياث، ويعقد صرائمهم بعد الانتكاث قال: وكان ذلك سنة ٧٢١ مسيحية في خلافة يزيد بن
عبد الملك، وكان مضى على فتح العرب للأندلس إحدى عشرة سنة لا غير، فأجاز السمح إلى بلاد
فرنسة، تفيض بجيوشه أقطارها، وزعم مؤرخو الإفرنجة المعاصرون أن العرب جاءوا ومعهم
نساؤهم وأولادهم؛ لأنهم كانوا على نية الاستقرار في البلاد. قالوا: وكان الفقراء
والمحاويج يأتون من جزيرة العرب والشام ومصر وإفريقية ومعهم عائلاتهم لأجل سد مفاقرهم
بالفتوحات وارتياد الرزق من وراء الغارات.
قال رينو: ولم يزل السمح يتقدم بجيشه إلى أن صار أمام أربونة فحصرها ولم يلبث أن
فتحها وقتل رجالها وسبى نساءها وذراريها، وكانت أربونة بمصاقبتها للبحر وسهولة الوصول
إليها بالسفن من إسبانية ثم بمنعتها الطبيعية من جهة البر تصلح أن تكون مسلحة للعرب في
أرض إفرنجة، فزاد السمح في تحكيم حصونها ووضع الحاميات في المدن المجاورة لها.
الكلام على مدينة أربونة Narbonne
كانت زيارتي لأربونة بعد أن قفلتُ من الأندلس، لا كما كانت زيارتي لطلوزة وقرقشونة،
أي قبل أن دخلت إليها. وأربونة هي كما لا يخفى المدينة التي توجهت إليها همة العرب أكثر
من الجميع من أرض فرنسة، وذلك لكونها على كثب من البحر ولسهولة التوصل إليها من الأندلس
على الماء، وكونها لذلك العهد أهم حاضرة إفرنسية في جوار إسبانية، فكان العرب إذا
أفاضوا من جبال البيرانه ناحرين الشمال يجدون أربونة هي المدينة الأولى التي
تستقبلهم.
وموقع أربونة هو على ارتفاع ١٠ أمتار فقط عن سطح البحر الملح، وعلى مسافة ١٤ كيلو
مترًا منه إلى الشرق، ونهر الأود يمر بالقرب منها، والسهول التي بينها وبين البحر هي
متكونة من الرواسب التي أبقاها هذا النهر بجريه من آلاف وآلاف من السنين.
وهي الآن مدينة من الدرجة الثالثة، لا يزيد عدد أهلها على ٣٠ ألفًا، ومناخها شبيه
بمناخ المدن العربية، أي: إنها لطيفة الشتاء نادرة الثلج، حارة القيظ لولا نسمات لطاف
تهبُّ عليها أحيانًا من جهة البحر فتخفف من حرارتها، وفي مدة تزيد على نصف السنة تعصف
الرياح في أربونة من الشمال الغربي، وتسفي التراب وتكدر صفو المزاج، ولكنها تفيد في
تنشيف ما حول أربونة من المستنقعات، وأكثر حاصلات أربونة من الكرم، وفيها جميع أشجار
البلاد الحارة، وقد شاهدتُ فيها التين والزيتون والصبير.
ويمر بأربونة جدول اسمه «روبين»
٦٨ مشتق من قناة الجنوب المستمدة من الأود وأربونة من أقدم مدن الأرض، عثروا
فيها على آثار الآدميين من العصر الحجري، وعلى قبور مما قبل التاريخ، وفي أواخر القرن
الثاني عشر قبل المسيح أغار السلتيون على أربونة واستقروا بها، وكانت لهم علاقات تجارية
مع اليونانيين الذين كانوا يترددون إلى سواحل بروفانس والكاتالان.
وقد جعل الجبل المسمى «بالفولسك»
٦٩ مدينة أربونة حاضرة لهم، وجاء الرومانيون سنة ١٢١ قبل المسيح فافتتحوها
وصارت في أيامهم مركزًا تجاريًّا عظيمًا تضارع مرسيلية، وكان الولاة الرومانيون يقيمون
بها، وكانت لها امتيازات لعهدهم عريضة، وبلغ عدد أهلها مائة ألف نسمة في ذلك العصر،
وسنة ١٤١٣ استولى عليها القوط، وتزوج فيها ملكهم أدولف بالأميرة «بلا سيدة
غالة»
٧٠ أخت الإمبراطور الروماني، وكانت لزفافه فيها حفلة عظيمة، ثم استولى على
أربونة «غوندبود»
٧١ ملك البرغونديين،
٧٢ لكنه لم يتمتع بها طويلًا، وعادت للقوط، وثبت هؤلاء فيها برغم غارات الفرنج
عليها.
نقلنا هذه الخلاصة عن «دليل أربونة»
٧٣ ولنذكر ما جاء في هذا الدليل بشأن العرب، قال: في أوائل القرن الثامن
للمسيح ظهر العرب على «سبتيمانية» وافتتح «زاما»
٧٤ أربونة سنة ٧١٩ بعد حصار استمر ثمانية وعشرين يومًا فقتل الرجال وسبي
النساء والأطفال، ثم نظر «زاما» إلى أهمية أربونة الجغرافية فحصنها وشحنها بالميرة.
وهكذا تمكن العرب فيها من صد غارة شارل مارتل الذي حاصر أربونة سنة ٧٣٢ بعد أن هزم
العرب في معركة بواتيه، ثم إن «ببين» القصير حاصر أربونة سنة ٧٥٢ ونكص عنها، ولم يتمكن
منها سوى شارلمان سنة ٧٥٩، وذلك بعد أن حاصرها مدة سبع سنوات، فإن الأهالي الذين في
البلدة كانوا ملوا هذا الحصار الطويل فثاروا بالحامية العربية وذبحوها، وعاد العرب سنة
٧٩٢ فحاصروا أربونة، فبعث شارلمان لنجدتها بعثًا عدته عشرون ألف مقاتل، عقد لواءه
للفارس المشهور غليوم،
٧٥ وتلاقى الجمعان بقرب أربونة، فاستأصل العرب جيش الإفرنج ولم يبقَ من هؤلاء
إلا غليوم وثلاثة عشر من رفاقه، وصُلم أنف غليوم في المعركة، ولُقب من ذلك اليوم بذي
الأنف القصير، إلا أنه أحرز مجد قتل عبد الملك أمير الجيش العربي بيده، فأما أربونة
فبرغم انكسار الإفرنج ذلك اليوم لم تسقط في أيدي العرب.
انتهى ما جاء في دليل أربونة، وهذا غير مطابق لما في تواريخ العرب. انظر إلى ما جاء
في نفح الطيب في هذا الصدد، قال: «كان هشام (ابن عبد الرحمن الداخل الأموي) يذهب بسيرته
مذهب عمر بن عبد العزيز، وكان يبعث بقوم من ثقاته إلى الكور، فيسألون الناس عن سير
عماله ويخبرونه بحقائقها، فإذا انتهى إليه حيف من أحدهم أوقع به وأسقطه أو أنصف منه ولم
يستعمله بعد، ولما وصفه زياد بن عبد الرحمن لمالك بن أنس قال: نسأل الله تعالى أن يزين
موسمنا بمثل هذا.
٧٦ وفي أيامه فُتحت أربونة الشهيرة، واشترط على المعاهدين من أهل
جليقية
٧٧ من صعاب شروطه انتقال عدد من أحمال التراب من سور أربونة المفتتحة يحملونها
إلى باب قصره بقرطبة وبنى منه المسجد الذي قدَّام باب الجنان، وفضلت منه فضلة بقيت
مكومة، وقاسى مع المخالفين له من أهل بيته وغيرهم حروبًا، ثم كانت الدائرة له. وقصد إلى
بلاد الحرب غازيًا، وقصد «ألبة»
٧٨ «والقلاع»، فلقي العدو وظفر بهم وفتح الله عليه سنة خمس وسبعين، وبعث
العساكر إلى جليقية مع يوسف بن بخت، فلقي «ابن منده»
٧٩ وهزمه، وأثخن في العدو، وفي سنة ست وسبعين بعث وزيره عبد الملك بن عبد
الواحد بن مغيث
٨٠ لغزاة العدو، فبلغ ألبة والقلاع فأثخن في نواحيها، ثم بعثه في العساكر سنة
سبع وسبعين إلى أربونة وجرندة
٨١ فأثخن فيها ووطئ أرض برطانية.
٨٢ وتوغل عبد الملك في بلاد الكفار وهزمهم، ثم بعث العساكر مع عبد الكريم بن
عبد الواحد إلى بلاد جليقية، فانتهى إلى «أسترقة»
٨٣ فجمع له ملك الجلالقة واستمد بملك الباشكنس ثم خام عن اللقاء ورجع أدراجه
وأتبعه عبد الملك، وكان هشام قد بعث بالجيوش من ناحية أخرى فالتقوا بعبد الملك وأثخنوا
في البلاد، واعترضتهم عساكر الفرنج فنالوا منهم بعض الشيء ثم خرجوا سالمين ظافرين.
أ.هـ.
فمن هنا يظهر أن العرب عادوا فافتتحوا أربونة في زمان الأمير هشام بن عبد الرحمن
الداخل، ولكن الرواية عن الفتح التام والاستقرار تضعف بقول المقري في النفح: «ثم بعثه
في العساكر إلى أربونة، وجرندة فأثخن فيها» فإذا كان قد تم له فتحها فلا محل لغزوها
ثاني مرة والإثخان فيها. وقد جاء ذكر الأمير هشام في المعلمة الإسلامية لهوتسما وباسيت
ورفاقهما، ولم يذكروا أنه فتح أربونة، وإنما قالوا: إنه أغزى مرارًا الجيوش الإسلامي
بلاد النصارى وجنوبي فرنسة، ووصلت جيوشه إلى «أسترقة» و«أوبياده»
٨٤ من المملكة التي أسسها بقايا ملوك المسيحيين في إسبانية، ممن لم يخضعوا
للعرب، من أعقاب بلاي
٨٥ وغزا جيرونة
٨٦ وأربونة، ولم يرد في الأنسيكلوبيديا الإسلامية أنه فتح أربونة.
أما المؤرخ الإسبانيولي كوندي فإنه يذكر غزوات الأمير هشام في جليقية بالجيش الذي
أرسله تحت قيادة الحاجب عبد الواحد بن مغيث، وغزواته في نواحي البيرانه بالجيش الذي
أرسله تحت قيادة عبد الله بن عبد الملك، ويقول: إن عبد الله هذا فتح جيرونة سنة ٧٩٣ وفق
١٧٧، وبعد أن فاز بفتح هذه البلدة زحف صوب الشمال فعبر البيرانه وفتح أربونة وذبح أهلها
واكتسح أقطارها، ووصل إلى قرقشونة حيث تجمعت لصده أمراء البلاد قاطبة، وناجزته الحرب
بين قرقشونة وأربونة، فظهر المسلمون في هذه المعركة، وانهزم المسيحيون انهزامًا غير
تام، يدل على ذلك أن عبد الله قفل راجعًا إلى الأندلس بعد تلك الطائلة. وقيل: إن سبب
قفوله هو خوفه أنه بطول القتال يفقد الغنائم الوافرة التي كان غنمها. وقالوا: إن هشامًا
جعل هذه الأموال في بناء جامع قرطبة، ثم إن الأمير ولى عبد الله بن عبد الملك سرقسطة،
وسرح عبد الكريم بن الحاجب عبد الواحد إلى جليقية فعاث ودمر، ولكنه سقط في كمين دبره
له
الأذفنش، وهلك فيه أكثر عسكره وقواده ومنهم يوسف قائد الفرسان.
وأما المستشرق رينو في كتابه: «غارات العرب على فرنسة ومن فرنسة على سافواي وبييمونت
وسويسرة» فإنه يذكر ما رواه مؤرخو العرب عن هذه الغزاة وما تابعهم فيه لذريق شيمينيس،
ويروي قصة أحمال التراب التي حملها أسارى المسيحيين المساكين على ظهورهم وبالعجلات من
مسافة مائتي مرحلة، ويقول: إن مؤرخي العرب زعموا سقوط أربونة تلك النوبة في أيديهم،
ولكنه يستبعد هذا الأمر بسبب كون المؤرخين المسيحيين لم يذكروا ذلك ولو بمناسبة دخول
المسيحيين ثانية إلى أربونة، ثم يقول: إن النويري الذي روى خبر هذه الغزاة ببعض تفصيل
لم يصرح بأن جيوش العرب استولت على أربونة في هذه الغزاة واستقرت فيها،
٨٧ وسنذكر بقية هذا البحث فيما يأتي عند الكلام على غزوات بني أمية في
فرنسة.
رجع الحديث إلى السمح بن مالك الخولاني وغارات العرب على فرنسة
قال رينو: وبعد أن انتهى السمح من أمر أربونة، وشجن المدن المجاورة لها بالمقاتلة،
زحف نحو طلوزة
٨٨ وكانت وقتئذ عاصمة أكيتانية
٨٩ فحشد «أود» دوق أكيتانية كل ما قدر على حشده من الجنود، وخف لصد العرب عن
المدينة، بينما كانوا قد أخذوا بمخنقها واستعملوا المنجنيقات وسائر آلات الحصار في
قتالها إلى أن أوشك أهلها أن يسلموها، وإذا باود قد أقبل بجيش يسد الفضاء حتى قال مؤرخو
العرب: إن العثير المتطاير من زحف أقدامهم كان يغطي عين الشمس من كثرتهم، فتلا السمح
لعسكره الآية القرآنية:
إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلَا غَالِبَ
لَكُمْ ولما تدانى الجمعان خيل أن الجبال تلاقى بعضها ببعض، وكانت المعركة
من أهول ما يتصوره العقل، وكان السمح يظهر في كل مكان وسيفه ينطف دمًا وهو يشدد عساكره
بقوله وبفعله، وكان كالفحل الهائج لا يرد رأسه شيء أو كالأسد الزائر يحمل على العدو فلا
يقف أحد في وجهه، فما هو إلا أن أصابته طعنة خرَّ بها صريعًا عن جواده، فلما رآه
المسلمون مجدلًا
٩٠ فتَّ في أعضادهم ونكصوا على أعقابهم، وتركوا قتلاهم بالعراء ورجعوا إلى
الوراء، وكانت هذه الواقعة في شهر مايو من سنة ٧٢١ وطاح فيها عدد من فرسان المسلمين
المغاوير الذين شهدوا الفتوحات السابقة. ولقد تولى قيادة الجيش — بعد قتل السمح وتقهقر
العرب — عبد الرحمن (الغافقي) وعاد به إلى الأندلس.
٩١
ولما شاع خبر هذه الواقعة دبت الحماسة في قلوب أهالي اللانغدوق والبيرانه وهبوا لخلع
طاعة العرب وحميت أنوفهم، إلا أن هؤلاء كانوا لا يزالون متمكنين في أربونة، وكانت قد
جاءتهم نجدات من الأندلس فعادوا يشنون الغارات منها على البلاد المجاورة، وآضت جيوشهم
تتقدم من كل مكان وتجر بخزائم الطاعة أنوف السكان، وكان الرهبان والقسيسون في ذلك الوقت
هم أصحاب الكلمة العليا، وكانت الكنائس والأديار ملأى بالنفائس والذخائر، فلم يكن من
العجب أن تتوجه همة العرب قبل كل شيء إلى اجتياح هذه المعابد وصبِّ البلاء على الرهبان،
ولم يكن من العجب أن يكون هذا القسم من تاريخنا ملآن بقصص تدمير العرب للأديار والبِيع؛
لأن الذين كانوا يكتبون إذ ذاك إنما كانوا من الرهبان والإكليريكيين، فكان معظم كلامهم
الحديث عما حل بأديارهم وتقديمها على ديارهم.
فقد جاء في تواريخ الرهبان الذين شهدوا تلك الوقائع أن العرب هدموا دير
«جوسل»
٩٢ بقرب «بيزيه»
٩٣ ودير القديس «بوزيل»
٩٤ بقرب «نيم»
٩٥ ودير «صنجيل»
٩٦ بقرب «آرل»
٩٧ والدير المشهور بالثروة المسمى بدير «الترتيل»
٩٨ بقرب «آغيمورت».
٩٩ وكان يسمى كذلك لأن الرهبان كانوا ألزموا أنفسهم فيه النشيد الدائم بتسبيح
الرب، وذلك على أنه كلما تعبت طائفة خلفتها طائفة في الترتيل فلا ينقطع الترتيل من
الدير لا ليلًا ولا نهارًا. فدهم العرب هذه الأديار كلها بغتة، منحدرين عليها انحدار
العقبان، بحيث لم يقدر الرهابين الذين فيها إلا أن يخلصوا، نجيًّا برقابهم وببعض ذخائر
القديسين التي كانت عندهم،
١٠٠ وكان العرب أول ما يعمدون إلى الأجراس والنواقيس فيكسرونها
١٠١ وكانت بعض عصائب من أهالي البلاد تقاتل العرب في الأحايين، وكان هؤلاء لا
يسيئون معاملة الذين يدخلون في طاعتهم بدون مقاومة ويكفونهم القتال.
ثم إنه في سنة ٧٢٤ تولى إمارة الأندلس عنبسة (ابن سحيم الكلبي)
١٠٢ واجتاز جبال البيرانه بجيش جرار، وأوغل في البلاد، وفتح قرقشونة وأوقع بمن
وجد فيها، ثم فتح نيم وأخذ من أهلها رهائن أرسلهم إلى برشلونة
١٠٣ وقد كانت فتوحات عنبسة بحسب رأي أيزيدور الباجي فتوحات حذق ومهارة أكثر
منها فتوحات بطش وقوة، ولذلك تضاعف في أيام عنبسة خراج بلاد الغال. وقيل: إن عنبسة نفسه
قد زاد الخراج على الأهالي، ولا يظهر أن ذلك صحيح، وإنما ازداد الخراج بتوفيره وبحسن
تدبيره، ثم إن عنبسة وقع قتيلًا في إحدى الوقائع سنة ٧٢٥ فخلفه في القيادة «حديرة»
وجاءت إلى هذا نجدات من الأندلس، وعادت ريح الإسلام فعصفت ببلاد النصرانية من كل جهة،
بحسب تعبير أحد مؤرخي العرب، فالسبتيمانية إلى حدود الرون و«الألبيجوا»
١٠٤ و«الرورغ»
١٠٥ و«الثبيلاي»
١٠٦ و«التبيلاي»
١٠٧ صارت ميدانًا لغارات العرب، وشملها الخراب من كل جهة، وما لم يؤخذ بالحديد
سلطوا عليه النار إلى حد أن كثيرين من الغزاة أنفسهم أكبروا هذا العبث الزائد في تلك
البلاد، فإنهم لم يكونوا يعفون عن شيء سوى الجواهر النفيسة والسلاح والخيل وكل ما
يزدادون به قوة على قوة.
وأكثر ما شمل الخراب مقاطعة «روديس»
١٠٨ فقد احتل العرب فيها حصنًا يظنه بعضهم حصن «رو كبريف»
١٠٩ والآخرون حصن «بالاغيه»
١١٠ وأخذوا يحتاجون جواره ولا يلقون مناهضًا ولا عرقًا نابضًا، وقد بقيت عندنا
عن تلك النوازل شهادة رجل كان يقال له: «دادون»
١١١ عندما زحف العرب خرج بسلاحه ومعه جماعة مسلحون من أهل وطنه، فجاء العرب إلى
بيته ولم يجدوا فيه سوى أمه فأخذوها من جملة السبي، وعادوا إلى الحصن الذي كانوا
تبوأوه، فجاء دادون بسلاحه ومعه رفاقه، ووقفوا أمام باب الحصن، وطلب دادون تسليم أمه،
وقال: إنه ليس ببارح حتى ينقذها فأجابه واحد من العرب: إن شئت أن نردَّ عليك أمك فادفع
إلينا الجواد الذي أنت راكبه وإلا فإننا نذبح أمك أمام عينيك. فأجاب دادون وقد كاد
الغضب يُخرجه من عقله: افعلوا بأمي ما تريدون فلا أسلم جوادي. عند ذلك جاء البربري بأم
دادون وقطع رأسها وألقاه من فوق الحصن إلى ما بين يدي ذلك المسكين، فعندما شاهد دادون
رأس والدته كادت نفسه تزهق من الألم وأخذ ينتحب ويصيح: يا للأخذ بالثأر. ولكنه لم يكن
يقدر أن يدخل إلى الحصن، فذهب وقد خولط في عقله وانقطع عن الناس، وأقام على ضفاف وادي
«دوردون»
١١٢ في المكان الذي بني فيه فيما بعد الدير المسمى بدير «كونك».
١١٣
وقد استشهد رينو على هذه الحادثة بقصيدة «أرمولدس نيجلّوس»
١١٤ التي نشرها في موراتوري
١١٥ ثم الدون بوكيه
١١٦ في مجموعة مؤرخي بلاد الغال، ثم المسيو بيرتس
١١٧ في تاريخ الجرمانيين، وقد جاءت هذه الحادثة في البيت المائتين والسبعة من
قصيدة «نيجلوس» وليس يوجد في القصيدة ولا في تاريخ دير «كونك» ما يدل على السنة التي
أغار فيها العرب على «رورغ»، ولكن إذا عرفنا أن دادون مات في أواخر القرن الثامن علمنا
الزمن الذي وقعت فيه هذه الحادثة، فأما دير «كونك» فقد بقي قائمًا إلى زمان الثورة
الفرنسوية.
ولنذكر حادثًا آخر يدل على ما بلغته من الفجائع تلك الغارات التي كان جانب عظيم من
فرنسة مرزحًا لها، وهذا الحادث وقع في دير «موناستييه»
١١٨ في جهات «فيلي»
١١٩ فقد كان المسلمون اجتاحوا مقاطعات «بوي»
١٢٠ و«كليرمون»
١٢١ وكنيسة «بريود»
١٢٢ ثم أشرفوا على دير «موناستييه» فجمع القديس «شافر»
١٢٣ رئيس الدير رهبانه، وأمرهم بأن ينسحبوا إلى الحراج المجاورة، ويأخذوا معهم
الأعلاق النفيسة والذخائر التي في الدير ويتواروا في البرية، إلى أن يتأذن الله بالفرج
وبأوقات أحسن فيعودوا فيها إلى متبوئهم الأول، أما هو، أي: القديس المذكور فقد أجمع أن
يبقى في الدير مهما كان البرابرة يريدون أن يفعلوا به، فإن أمكنه أن يردهم إلى الصراط
المستقيم فذاك، وإلا فإن قتلوه فيكون تَردَّى بالأحمر من أثواب الشهادة، فأخذ الرهبان
يبكون ويستغيثون راجين منه أن يذهب معهم إلى البرية ويطلب النجاة كما يطلبون أو أن
يتركهم يموتون معه، فأصر القديس على كلامه، وقال لهم: إن اتقاء الخطر ضروري لا سيما إذا
كان في السلامة فائدة للكنيسة، وضرب لهم مثلًا مسألة الرسول بولس الذي كان اليهود
أعداؤه يقتصون أثره في دمشق للاقتصاص منه، ففر منهم ونزل ليلًا في زنبيل تدلى به من عن
سور المدينة وخلص نجيًّا، وكذلك بطرس رئيس الحواريين كان قد أجمع الفرار من وجه نيرون
لو لم يكن سبق في إرادة الله توقيف خطواته، ثم قال لهم القديس: أما أنا فإني لست بذاهب
من هذا الدير، فإن من واجبات الراعي أحيانًا أن يضحي بنفسه في سبيل خلاص رعيته، وإني
إن
سال دمي هذه المرة فربما يسكن بانفجاره الغضب الإلهي الثائر بدون شك من خطايا
البشر.
فلما رأى الرهابين تصميم القديس هذا لم تسعهم إلا طاعته، وبعد أن سمعوا القداس وأخذوا
معهم النفائس التي في الدير خرجوا إلى البرية، وتغلغلوا في الغابات، ولكن انسلَّ منهم
اثنان فصعدوا فوق رابية مشرفة على الدير ليشهدوا ما عساه أن يقع فيه، ولم يلبث العرب
أن
حضروا فوجدوا القديس «شافر» عاكفًا على الصلاة في زاوية من الدير، فلم يأبهوا له، وإنما
أخذوا يطوفون في الدير أملًا بالعثور على شيء يغنمونه، وكان مرادهم أن يثقفوا الرهبان
وأن يأخذوا منهم أحدثهم سنًّا وأقواهم بنيةً ليبيعوهم في سوق النخاسين بالأندلس، فلما
علموا أن الرهبان قد فروا بأسرهم وأنه لم يبقَ في الدير شيءٌ من النفائس التي كانت
تحدثهم أنفسهم بها استشاطوا غضبًا وانهالوا على القديس بضربٍ مبرِّح.
وكان في ذلك اليوم عند البرابرة عيد يقدمون فيه ضحية لله، ولم يقل المؤرخ الذي ننقل
عنه هذه القصة ما شكل تلك الضحية؟ ولكنه يقول: إنهم كانوا في ذلك العيد يشربون الخمر
ويطنزون، مما يدل على أن العصابة التي أغارت على كورة «فيلاي» لم تكن عصابة مسلمة، ولكن
عصابة بربرية لا يزال أهلها غائصين في لجج الوثنية، فلما رآهم القديس قد انتبذوا مكانًا
للقيام بشعائر عيدهم جاء إليهم ونصح لهم بأنهم بدلًا من عبادة الشياطين يكون أولى بهم
أن يعبدوا خالق الأكوان الذي لولاه لم يكن شيء في هذه الدنيا، فلم يكن هذا الكلام ليقع
منهم موقع القبول بل زادهم سخطًا، وجاء أحدهم فرماه بحجر فسقط على الأرض مغشيًّا عليه،
ثم أراد البرابرة أن يحرقوا الدير ويدكوه إلى الحضيض، ولكن يقول المؤرخ: إنهم بينما هم
يهمون بأن يفعلوا سلط الله عليهم ريحًا صرصرًا عاتية وصواعق محرقة فأركنوا إلى الفرار،
وتركوا الدير، ثم مات القديس بعد أيام قلائل من أثر الضرب، بعد أن عاد الرهبان إلى
ديرهم، ولا تزال الكنيسة تحتفل بعيد القديس «شافر» في ١٩ أكتوبر من كل سنة، وأما الدير
المذكور فقد بقي قائمًا إلى زمان الثورة الفرنسية الكبرى.
ونظن أنه في ذلك العهد كانت قد وقعت غارة العرب على مقاطعة «دوفيني»
١٢٤ وعلى مدينة «ليون»
١٢٥ وعلى بلاد «برغونيا»
١٢٦ وقد ذكر أحد مؤرخي العرب هذه الغزوات قائلًا: إن الله قد قذف الرعب في قلوب
الكفار، فلم يكن واحد منهم يقف في وجه المسلمين إلا لطلب الأمان، ولم يزل المسلمون
يتقدمون في البلاد ويؤَمِّنُون العبَّاد إلى أن وصلوا إلى وادي «الرون» وهناك ابتعدوا
عن السواحل وأوغلوا إلى الداخل.
وقد نقل رينو هذا الكلام عن المقري، ولكن إن كان الكلام الذي نقله هنا هو الوارد في
النفح فإن العبارة التي اطلعنا عليها هي هذه نقلًا عن ابن حيان: إن موسى اصطلح مع طارق
وأظهر الرضا عنه، وأقره على مقدمته، على رسمه، وأمره بالتقدم أمامه في أصحابه، وسار
موسى خلفه في جيوشه، فارتقى إلى الثغر الأعلى وافتتح «سرقسطة» وأعمالها وأوغل في البلاد
وطارق أمامه لا يمران بموضع إلا فتح عليهما وغنَّمهما الله تعالى ما فيه، وقد ألقى الله
الرعب في قلوب الكفرة فلم يعارضهما أحد إلا بطلب صلح، وموسى يجيء على أثر طارق في ذلك
كله ويكمل ابتداءه ويوثق للناس ما عاهدوه عليه، فلما صفا القطر كله وطمأن نفوس من أقام
على سلمه، ووطأ لأقدام المسلمين في الحلول به، أقام لتمييز ذلك وقتًا، وأمضى المسلمين
إلى إفرنجة ففتحوا وغنموا وسلموا وعلوا وأوغلوا وانتهوا، حتى انتهوا إلى وادي «ردونة»
فكان أقصى أثر العرب ومنتهى موطئهم من أرض العجم، وقد دوخت بعوث طارق وسراياه بلد
إفرنجة فملكت مدينتي «برشلونة» و«أربونة» وصخرة «آبينيون» وحصن «لودون» على «وادي
ردونة» فبعدوا عن الساحل الذي منه دخلوا جدًّا. انتهى.
فهذه العبارة قد تقدم نقلنا إياها في الكلام عن موسى بن نصير وطارق.
رجع إلى كلام رينو. قال: ولا نعلم في الحقيقة الأمكنة التي أشرف عليها العرب ذلك
اليوم إلا بأخبار الاجتياح الذي وقع فيها، فإنه في نواحي «فيين»
١٢٧ على ضفاف «الرون» أصبحت الكنائس والأدبار كلها دكًّا، و«ليون» التي يسميها
العرب «لودون» رأيت أيضًا تخريب أعظم كنائسها، وكذلك شمل العيث «ماسون»
١٢٨ و«شالون»
١٢٩ وكذلك «بون»
١٣٠ حل فيها من العيث ما لا يوصف، ووصل العرب إلى مدينة «أوتون»
١٣١ وأحرقوا كنيسة «سان نازير»
١٣٢ وكنيسة «سان جان»
١٣٣ ودير «سان مرتين».
١٣٤ وكذلك نهبوا دير «سين أندوش»
١٣٥ في «صوليو»
١٣٦ وكذلك دمر العرب دير «بيز»
١٣٧ بقرب «ديجون».
١٣٨ وقد استشهد «رينو» على هذه الحوادث بتاريخ «مواساك» من مجموعة مؤرخي بلاد
الغال، وبتاريخ «الدون بلانشيه»
١٣٩ المسمى بتاريخ برغونيا وبتاريخ «غاليا كريستيانيا».
١٤٠
ويذهب بعضهم إلى أن غارات العرب قد امتدت إلى أبعد مما ذكرنا، وقالوا: إنهم بثوا
سراياهم إلى جهات نهر «اللوار» وأخرى بقرب «نيفير».
١٤١ وأخرى إلى مقاطعة «فرانش كونتي».
١٤٢
وقالوا: إن دير «سان كولمبان»
١٤٣ قد دكَّه العرب في تلك الغزوة، وأنهم قتلوا أكثر الرهابين والقسيسين الذين
صادفوهم في «بيزانسون». قال «رينو»: وليس في هذه الروايات شيء لا يقبله العقل ولا سيما
ما تعلق منها بمقاطعة «فرنش كونتي» التي فيها أسماء وآثار عربية كثيرة، وقالوا أيضًا:
إن الدير الذي في سفح جبال «الفوج»
١٤٤ المسمى بدير «لوكسول»
١٤٥ قد جعله العرب أيضًا أثرًا بعد عين، وذبحوا الرهابين الذين كانوا فيه تحت
رئاسة القديس «ميلين».
١٤٦ نقل هذه الروايات «رينو» عن الأب «لكوانت»
١٤٧ ونقل أيضًا عن «مابيون»
١٤٨ وقال: يظهر أن المسلمين لم يجدوا مقاومة حقيقية إلا أمام مدينة
«سانس»
١٤٩ فإن هذه المدينة كان فيها مطران ينتسب إلى عائلة نبيلة، يقال له:
«أبيول»
١٥٠ اشتهر بالفضائل والكمالات حتى جعلوه في مصاف القديسين، فهذا المطران عندما
سمع بإيجاف العرب قاصدين بلده بدأ بتحصين البلدة، وهيَّأ أسباب الدفاع عنها، بحيث لما
وصل العرب إليها وأخذوا يقذفونها بقذائف منجنيقاتهم كان أهاليها يرمونهم من أعالي
الأسوار بأجزاء محرقة كانت تلتهب بها آلاتهم الحربية.
قال «رينو»: إلا أنه يعترضنا في هذه الروايات كون المؤرخين الذين ذكروها لم يصرحوا
بأن أصحاب هذه الغارات كانوا من السرازين
١٥١ ولا ثمة لفظة تدل على أن الذين فعلوا هذه الأفاعيل هم مسلمون بدون شك، بل
كان المؤرخون يشيرون إليهم بقولهم: «فندال»
١٥٢ وطالما كانوا يطلقون هذا الاسم في النصف الأول من القرن العاشر على المجار
عندما جاء هؤلاء إلى ألمانية ودخلوا إلى فرنسة واكتسحوا «الألزاس» و«اللورين» و«فرانش
كونتي» و«برغونيا» و«شمبانيا» وغيرها.
ثم يعود رينو، فيقول: إنه على كل حال قد تحقق مجيء العرب إلى فرنسة وتغلغلهم في أحشاء
البلاد وأنهم لم يكن لهم خطة مرسومة معينة في مغازيهم ومراميهم، وأنهم لم يجدوا في
البداية من أهل فر نسة إلا مقاومة واهية وعزمًا غير جميع. نعم تختلف فرنسة عن إسبانية
في هذا الباب بأن إسبانية وجد فيها من انضم إلى العرب وسعى بين أيديهم ودان بدينهم،
وأما في فرنسة فإذا استثنينا بعض أشخاص لا يعرفون معنى للدين ولا للوطن لم يوجد من
الأهالي فئة كان لها شيء من الوجاهة والنبالة رضيت بأن تنحاز إلى العرب أو أن تصبأ عن
دينها، بل إنه في وسط مدينتي أربونة وقرقشونة، حيث أقام العرب مدة طويلة، بقي الأهلون
متمسكين بدينهم المسيحي لا يرضون به بدلًا.
وكان أود دوق أكيتانية طول هذه المدة منحرفًا عن القتال، متجنبًا الانغماس في الحرب؛
لأن غارات العرب كانت واقعة على أطراف بلاده ولم تكن في قلب البلاد مثل ذي قبل، وأما
«شارل مارتل» فكان مشغولًا بمحاربة «الغريزونيّين» و«البافاريين» و«السقسون» الذين كان
يخشى أن يعبروا عليه نهر الرين وينازعوه مركز سلطانه، وكان بينه وبين «أود» ما بين
النظراء الذين يغص بعضهم بمكان بعض، فأما مؤرخو العرب الذين لم يكن لهم اطلاع على تلك
المنافسات الداخلية بين ملوك الإفرنج فعللوا سكوت «شارل مارتل» الذي كانوا يسمونه:
«قارله» عن مقارعتهم بالتعليل الآتي. قالوا: إن كثيرًا من أمراء الإفرنج فزعوا إلى
«قارله» وشكوا له الأضرار التي حلت بهم من عيث المسلمين في البلاد، وأوضحوا له العار
الذي يلحق بها من كون جيش كالجيش العربي، مجهز بأسلحة خفيفة، يتغلب على جيوش شائكة
بأثقل الأسلحة غائصة في الزرد إلى أعناقها كالجيوش الإفرنجية، فأجابهم قارله: دعوهم
الآن يفعلون فإنهم في إبان صولتهم أشبه بالسيل الذي يجرف كل ما يقف في وجهه، وهم اليوم
قد اتخذوا من جرأتهم دروعًا ومن أقدامهم حصونًا، ولكنهم بعد أن تمتلئ أيديهم من
الغنائم، وبعد أن يألفوا نعيم الحضر ويستولى الطمع عليهم فينافس بعضهم بعضًا ويدخل
الشقاق في صفوفهم، حينئذ نزحف إليهم ونتغلب عليهم ونترك جمعهم شريدًا وقائمهم حصيدًا،
وقد نقل هذا الكلام «رينو» عن المقري صاحب النفح، ونحن راجعنا المقري فوجدناه يقول في
آخر صفحة ١٢٨ من الطبعة الأزهرية المصرية ما يلي:
وقال الحجاري في المسهب: إن موسى بن نصير نصره الله نصرًا ما عليه مزيد، وأجفلت ملوك
النصارى بين يديه حتى خرج على باب الأندلس الذي في الجبل الحاجز بينها وبين الأرض
الكبيرة، فاجتمعت الفرنج إلى ملكها الأعظم قارله — وهذه سمة لملكهم — فقالت له: ما هذا
الخزي الباقي في الأعقاب؟ كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس حتى أتوا من
مغربها واستولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدة والعدد، بجمعهم القليل وقلة
عدتهم وكونهم لا دروع لهم، فقال لهم ما معناه: الرأي عندي أن لا تعترضوهم في خرجتهم
هذه، فإنهم كالسيل يحمل من يصادره، وهم في إقبال أمرهم ولهم نيات تغني عن كثرة العدد،
وقلوب تغني عن حصانة الدروع، ولكن أمهلوهم حتى تمتلئ أيدهم من الغنائم ويتخذوا المساكن
ويتنافسوا في الرئاسة ويستعين بعضهم على بعض فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر. قال: فكان
والله كذلك بالفتنة التي طرأت بين الشاميين والبلديين والبربر والعرب والمضرية
واليمانية، وصار بعض المسلمين يستعين على بعض بمن يجاورهم من الأعداء. انتهى.
قلت: إن أعظم العوامل التي قضت برجوع بدر العرب كالعرجون القديم، بعد أن كان تمامًا
وأنار المشرق والمغرب، تعود إلى عاملين كبيرين: أحدهما الفتنة التي ذكرها صاحب المسهب
بين الشاميين والبلديين، فقد طال بينهما النزاع وتحول إلى فتنة صماء أوقفت سير الإسلام
في أوربة بعد أن مشى فيها مشي النار في يابس العرفج، وأهم من فتنة البلديين والشاميين
فتنة العرب والبربر، فقد أجمع المؤرخون من العرب والإفرنجة على أن الحرب التي اصطلت بين
المسلمين في شمالي إسبانية والتي تغلب فيها البربر على العرب وأخرجوهم بها من تلك
الديار كانت هي السبب في انتهاز الإفرنج والإسبانيول تلك الغرة اللائحة لاستئناف دولتهم
وصولتهم وطردهم للمسلمين من شمالى إسبانية. وبعد ذلك عندما جمع العرب شملهم وكروا على
البربر وأوقعوا بهم، انتقامًا عما صدر من البربر من قبل، استفاد الإسبانيول والإفرنج
فائدة كالفائدة الأولى، واغتنموا أيضًا مثل تلك الفرصة، وقد كان أنكى من الفتنتين المار
ذكرهما فتنة القيسية واليمانية وواقعة شقنده المشهورة ووقائع أخرى كانت تشغل العرب
بعضهم ببعض، فيستأسد العدو في خلالها وينهض من ورائها فيكر عليهم ويسترجع منهم قلاعًا
وحصونًا وحواضر عامرة، وقد شوهد أنه لما اشتدت الفتنة في قرطبة بين العرب والبربر في
أيام الخليفة المستضعف هشام الثاني كان كل فريق من المسلمين يستعين بالإسبانيول، وكان
هؤلاء يشترطون للنجدة كذا وكذا من الحصون، وكذا وكذا من المدن، وكان أولو الأمر في
قرطبة ينزلون لهم عنها.
١٥٣ أما العامل الثاني الذي لم يكن يقل خطرًا عن الأول فإنه ولوع العرب
بالغنائم وحرصهم عليها إلى الدرجة التي كانت سببًا في الهزائم، فإن الواقعة الكبرى التي
وقعت بين عبد الرحمن الغافقي و«شارل مارتل» الذي يقول له العرب: «قارله» كان سبب إدبار
العرب فيها، وتملص أوربة من أيديهم هو شدة الخوف على الغنائم لا غير، فإنه لما تلاقى
الجمعان أراد عبد الرحمن أن يأمر جيشه بترك الغنائم التي كانوا جمعوها حتى لا تبقي
قلوبهم مشغولة بها عن القتال، ولكنه توجس خيفة أن يكسر بذلك من قلوبهم، فتفتر عزائمهم
وتخبث نفوسهم، فأذن لهم في حفظ غنائمهم وهو كاره، فجعلوها وراء المعسكر وأعينهم فيها،
وعلم بذلك الإفرنج ولحظوا شدة حرص العرب عليها، فلما حمي الوطيس زحف جانب من جيش
الإفرنج من طريق آخر قاصدًا المعكسر الذي فيه الغنائم، فانكفأ العرب عن ميدان القتال
راجعين إلى معسكرهم الذي فيه تلك الأسلاب ليدافعوا من دونها، ولم يبقَ في الميدان قوة
كافية لصد السواد الأعظم من الجيش الإفرنجي، وهكذا كانت تلك الهزيمة الكبرى في المحل
الذي يسميه العرب ببلاط الشهداء، ويسميه الإفرنج بمعركة «پواتييه». فأنت ترى أن «قارله»
عندما قال للإفرنج قوله ذاك: «دعوا العرب يملأون أيديهم» كان كأنه يقرأ في ظهر
الغيب.
نعود إلى سياق التاريخ بحسب رواية «رينو» فنقول:
وفي سنة ٧٣٠ تولى إمارة الأندلس عبد الرحمن «الغافقي» الذي خَلَفَ السمح بن مالك
الخولاني في قيادة الجيش المحاصر «لطلوزة» عند مصرع السمح في المعركة، وكان عبد الرحمن
هذا رجلًا صارمًا عادلًا محببًا في جنده، لنزاهته ولعدم رغبته في حطام الدنيا لنفسه،
وكان أيضًا محل احترام صلحاء المسلمين لمعرفته بالحديث النبوي ومصاحبته لأحد أولاد
الخليفة عمر.
١٥٤
وقبل أن نكمل ترجمة عبد الرحمن الغافقي التي ستنتهي بواقعة بلاط الشهداء ينبغي لنا
أن
نكمل الخبر عن الفترة التي وقعت بين إمارة عنبسة بن سحيم الكلبي وإمارة الغافقي، فنقول:
قال المؤرخ الإسبانيولي «كوندي»: إن أول عمل قام به عنبسة هو تنظيم الخراج وتقسيم
الأراضي بين المسلمين بدون تجاوز على الأراضي التي لها مُلاكون أصليون من الأهالي، فكان
يستوفي العشر من الذين خضعوا لدولة العرب من أنفسهم، ويستوفي الخمس ممن لم يخضعوا إلا
بالسيف، وهو الذي بنى جسر قرطبة.
١٥٥
وطاف عنبسة في المقاطعات ينظر في مظالم الناس ويوزع بينهم العدل بدون تمييز بين
الأديان، ثم إن أهالي «طرَّسونة» انتقضوا عليه فزحف إليهم ودوخهم ودكَّ حصونهم، واقتص
من زعماء الثورة وفرض عليهم غرامة مضاعفة.
ثم أغزى جيوشه بلاد إفرنجة، فدمر وأحرق ونسف زروعًا وأسر خلقًا كثيرًا، وقيل: إنه
كان
يكره هذا العيث في بلاد العدو، إلا أنه كان يداري جنده ويحذر أن يُتهم بفتور الحمية
الإسلامية.
١٥٦ قال «كوندي»: ثم إنه في ذلك الوقت خرج في سورية نبي كذاب اسمه
«زوناريا»
١٥٧ كان يزعم أنه المسيح المنتظر عند اليهود، فلما سمع بخبره عرب الأندلس، وكان
كثير منهم من أهل الشام، صدقوا مقالته هذه وتركوا الغنائم التي كانوا غنموها والمساكن
التي كانوا ارتضوها، وعادوا إلى سورية مجفلين، فضبط عنبسة الأملاك التي تركوها، وحولها
لبيت المال، ثم في السنة التالية غزا عنبسة بلاد فرنسة ورافقه النصر في أول الأمر، وما
زال يقطع الأودية ويستقري البسائط حتى عبر نهر «الرون» إلى الشرق، ولكنه وقع في إحدى
الوقائع مثخنًا بجراحات كثيرة، مات على أثرها، وذلك سنة ١٠٦ للهجرة، وقبل أن مات استخلف
حديرة الفهري، فلم يشغل هذا المنصب إلا مدة يسيرة؛ لأن أمير إفريقية أرسل أميرًا على
الأندلس يحيى بن سلمة.
١٥٨ وكان هذا قائدًا مجربًا محبًّا للعدل صارمًا جدًّا في إعطاء الحقوق
لأصحابها، فهابه المسلمون والمسيحيون معًا، وبينما كان يطوف في الولايات الشمالية انتهز
أعداؤه الفرصة فطلبوا من أمير إفريقية عزله فأجابهم إلى ما سألوا وأرسل أميرًا على
الأندلس عثمان بن أبي نسعة
١٥٩ وكان عثمان هذا مشهورًا بالبسالة والنجدة والبصيرة بالحروب، فتولى الإمارة
واضطلع بها، ولكن وجد أصحابه فيه عودًا صليبًا وقناة لا تلين لغامز ولم يحققوا فيه
آمالهم، ولا هو عرف لهم جميل سعيهم في تأميره، بل رأوا منه ما أمضّ وأرمض، فما زالوا
يسعون به كما سعوا بسلفه حتى حملوا الخليفة هشامًا على صرفه بحذيفة بن الأحوص
١٦٠ فلم يقم هذا إلا قليلًا، وعاد أمير إفريقية فولى على الأندلس عثمان بن أبي
نسعة نفسه، ولكن ولاه وكيلًا لا أصيلًا، إلى أن قدم من دمشق بأمر الخليفة الهيثم بن
عبيد الكناني
١٦١ وكان الهيثم شاميًّا ولكنه كان فظًّا بخيلًا جاسيًا، فآسف شيوخ العرب
والبربر وساءت ملكته فيهم، فاتحدوا عليه فألقى بهم في السجون وأهلك بعضهم.
وكان من جملة المنكوبين زياد بن زيد فرفع الشكوى إلى الخليفة، هو ومن معه، واتهموا
الهيثم بأنه يسير في الأندلس سيرة لا مناص من أن تنتهي ببوار الأمة والخطوب المدلهمة،
فأرسل الخليفة هشام محمد بن عبد الله، وفوض إليه أمر التحقيق عن الشكاوى الواقعة بحق
الهيثم، وأذن له بأنه إذا ثبت لديه كون الهيثم مجرمًا يعزله ويقتص منه ويتبدل به الأمير
الذي يراه الأصلح، فجاء محمد هذا ومضى بالتحقيق اللازم على أحسن وجه، وعند ما ثبت لديه
إجرام الهيثم ألقاه في السجن وأطلق الذين كان نكبهم ورد عليهم أموالهم، ويقال: إنه قبل
أن نفى الهيثم من الأندلس إلى إفريقية أمر بتطويفه في شوارع قرطبة راكبًا على حمار،
تشهيرًا له ونكالًا وفاقًا.
وبعد ذلك فوض محمد بن عبد الله بالإمارة الأمير عبد الرحمن الغافقي فاستحسن الجميع
تولية عبد الرحمن الغافقي لما كانوا سبروا من نجابته ومن مزاياه العالية، ولم يشذ عن
الجمهور إلا عثمان بن أبي نسعة الذي كان يرى نفسه أولى بالإمارة، فتولى عبد الرحمن سنة
٧٢٨ وفق ١١٠ (هنا فرق بثلاث سنوات عن رواية نفح الطيب). وكان متوفر العناية بإقامة
العدل ورفع المظالم وإيتاء الحقوق أصحابها، ولأجل أن يتمكن من تسكين الدهماء وإرضاء
الجمهور بقي سنتين يطوف على بلد بلد ويباشر إماطة المظالم وإزاحة العلل بنفسه غير مميز
بين المسلم والمسيحي، وعزل كثيرًا من القواد والولاة الذين ثبتت مظالمهم للرعية، وكذلك
أعاد إلى المسيحيين الكنائس التي كانوا انتزعوها من أيديهم، والتى كان لهم الحق بها
وفقًا للعهود، كما أنه هدم الكنائس التي كانوا أخذوا الإذن فيها بالرشوة خلافًا
للعهود.
ولم يكن يهدأ له بال إلا بغزو فرنسة حتى يدوخها ويضمها إلى إمارته أو يضم منها
البلدان التي كانت من قديم الزمان تحت حكم القوط، فحشد جيشًا جرارًا من نخبة المقاتلة
والصابرين في الحروب، واستنجد أمير إفريقية فأرسل إليه بجنود مختارة للجهاد، تتلظى
شوقًا إلى الجلاد، ولما وصلت نجدة أمير إفريقية سرحها عبد الرحمن إلى الدروب، وبعث إلى
عثمان بن أبي نسعة أمير الثغر بأن يشاغل العدو بالغارات إلى أن يكون هو قد أطل بمعظم
الجيش، فوقع من عثمان على باقعة شديد البأس كان بدون هذا ينافس عبد الرحمن على الإمارة،
ولم يكن مرتاحًا إلى عمل يبدأ به عبد الرحمن، وينال به حسن الذكر. وقد انضاف إلى هذا
السبب في كراهيته لتلك الحرب أنه في إحدى غاراته على فرنسة وقعت في يده ابنة «أود» دوق
أكتيانية، ويقال: إنها كانت تسمى «نوميرانسه»
١٦٢ ويقال: إن اسمها «مينين»
١٦٣ ولكنها كانت مشهورة باسم «لامبيجيه»
١٦٤ وكانت بارعة في الجمال مع مكانها من بيت الملك، فهام عثمان بها حبًّا وتزوج
بها كما تزوج عبد العزيز بن موسى بن نصير بالأميرة «أيجيلونة»
١٦٥ أرملة الملك «لذريق» فمن بعد أن أصبح عثمان بن أبي نسعة صهرًا لدوق
«أكيتانية» عقد مع أبيها معاهدة سلم ومهادنة أمن بها «دوق أكيتانية» غارات العرب ولو
إلى مدة من الزمن.
فلما ورد أمر الأمير عبد الرحمن الغافقي إلى الأمير عثمان بن أبي نسعة بالزحف على
بلاد حميِّه «دوق أكيتانية» وقع في حيص بيص، وراجع الأمير قائلًا له: إنه لا يقدر أن
يخفر جواره ولا أن يخرق العهد قبل انقضاء أجله، وكان عبد الرحمن قد عرف بزواج عثمان مع
ابنة «أود» وأنه قد شغفه حبها فغضب من تلكؤ عثمان عن الزحف، وأفهمه أن ذلك العهد الذي
كان عقده مع الإفرنج بدون علمه لا يعده هو موثقًا له، وأن عليه أن يتحرك للجهاد بدون
مراجعة، فلما قطع عثمان أمله من منع عبد الرحمن عن إعمال الغارة في بلاد «أود» أرسل إلى
حميِّه يخبره بما وقع
١٦٦ حتى يأخذ حذره ويتخذ لنفسه وسائل الدفاع، فبلغ عبد الرحمن ما فعله عثمان،
فأرسل جيشًا إلى الباب تحت قيادة ابن زيان، انتخبه من أصدق رجاله، وأمره بأنه إن تمكن
يقبض على عثمان بن أبي نسعة ويرسله إليه، وإن أبى الطاعة يهدر دمه، فوصل ابن زيان
بعسكره بغتة إلى مقر عثمان، وهو ينوي القبض عليه، ففر هذا في الجبال ومعه بعض أعوانه
واستصحب أيضًا زوجته الأميرة «لامبيجيه» التي كان لا يفارقها ولا يرى الدنيا إلا بها،
فسار الجيش في إثره حتى أدركوه وأحاطوا به، فتفرق عنه أصحابه في تلك الأوعار ولم يبقَ
معه سوى زوجته الحسناء، فدافع عن نفسه وعنها دفاع الأسود حتى أردوه قتيلًا، وفي جسمه
ما
لا يحصى من طعن وضرب، فاحتزوا رأسه وأتوا به وبالأميرة الحسناء إلى الأمير عبد الرحمن،
فلما رأى عبد الرحمن هذه الغادة هتف قائلًا: والله ما كنت أظن أنه يوجد مثل هذا الصيد
في جبال البرانس. وقد وقعت هذه الواقعة سنة ٧٣٠ وفق ١١٣ ثم إن الأمير عبد الرحمن أرسل
الأميرة إلى دمشق هدية للخليفة، وهكذا انتهت حياة الأميرة «لامبيجيه» ابنة دوق
«أكيتانية» في حرم الخليفة الأموي في الشام.
١٦٧
ولما وصل خبر مصرع عثمان إلى دوق «أكيتانية» علم أن الحرب واقعة لا محالة وتأهب
للدفاع الشديد، ولكن الجيش العربي اندلق من جبال «البيرانه» اندلاق السيول من الجبال،
لا يقف في وجهه شيء، فاكتسح الأرضين من «نافارا»
١٦٨ إلى «بوردو»
١٦٩ وامتلأت أيدي المسلمين بالغنائم، ولما وصلوا إلى «بوردو» حاول أهلها أن
يدافعوا عنها فكسروهم وأخذوا البلدة عنوة ووضعوا السيف فيها ونهبوها، وكان الأهالي
الذين وقعوا في اليد يفدون أنفسهم بالمال، وأما أمير «بوردو» فقد قتل في
المعركة.
وبعد أن انتهى عبد الرحمن من فتح بوردو تقدم إلى الشمال فوجد دوق «أكيتانية» في طريقه
يحاول صده في مضيق «دوردون»
١٧٠ غير أن حملات العرب لم يكن ليصدها شيء، فانهزم «أود» وفر بجيشه، وقطع أمله
من ملكه، فتناسى جميع ما كان بينه وبين «شارل مارتل» من الأحقاد والضغائن، وأرسل
يستصرخه، فلم يمكن «شارل مارتل» أو «قارله» إلا إجابة «أود» لا لأجل الإنسانية فقط بل
لأجل السياسة؛ إذ كان جميع مصير فرنسة والممالك المجاورة لها متوقفًا على نتيجة هذه
الحرب فلو كان العرب تغلبوا ذلك اليوم على الإفرنج لما كانوا وقفوا إلا على ساحل
البلطيق.
فامتد الصريخ في كل بلاد فرنسة وزحفت المقاتلة من كل صوب، وانضم الجميع تحت لواء
«شارل مارتل» وبقي العرب يتقدمون إلى أن وصلوا إلى قريب من مدينة «تور»
١٧١ وهناك علم عبد الرحمن الغافقي أن جيشًا عظيمًا زاحف لمصادمته، وكان عبد
الرحمن مع شدة بأسه وغرامه بالحرب عاقلًا حازمًا بصيرًا بالعواقب، ففكر ساعة فيما بين
أيدي رجاله من الغنائم الثقيلة، وعلم ما يعوقهم عن القتال من اهتمامهم بحفظها، فهَمَّ
بإعطاء الأمر إلى الجيش بترك جميع ما في أيديهم من الغنائم والأسلاب، ولكنه خاف من
إغضاب عسكره فيما لو حملهم على تجرع هذه الكأس المرة؛ إذ قد تفتر همتهم وتلقس نفوسهم،
فرجع عن عزمه هذا معتمدًا على ما كمن في نفوسهم من شجاعة وصبر، ثم تقدم وحصر «نور»
وأخذها عنوة بمشهد من جيش «شارل مارتل» وخيم بساحتها، ولما دخل العرب المدينة أسرفوا
في
القتل والنكاية، ثم تلاقى الجمعان بين «تور» و«پواتييه»
١٧٢ وكان عبد الرحمن هو البادئ بالمناجزة فاستمرت المعركة مدة طويلة، قبل أن
يترجح النصر للإفرنج، ولما رأى عبد الرحمن الخلل قد ابتدأ يظهر في صفوفه ألقى بنفسه في
وسط المعمعة يصطليها بيده، ودخل حتى بين صفوف الأعداء أنفسهم، يغامر مغامرة الجندي الذي
هو من عرض الجند، إلى أن خر هناك صريعًا، فلما رأى العرب مصرع قائدهم الأكبر نزل بهم
الرعب ونكصوا على أعقابهم وبنكوصهم خمدت جمرتهم وسقط في أيديهم، فأذرع الإفرنج فيهم
القتل وطرحوا منهم بالعراء ألوفًا وما زالوا يعملون في أقفيتهم السلاح إلى
«أربونة».
١٧٣
فلما وصل خبر هذه الفاجعة إلى الأندلس وإلى إفريقية زلزل المسلمون زلزالًا شديدًا،
وعم الحزن واشتد البث ولبس المسلمون أثواب الحداد، فأسرع أمير إفريقية بإرسال عبد الملك
بن قطن الفهري، خلفًا لعبد الرحمن الغافقي، وأنفذ معه جيشًا من خيل ورجل وبعث إلى
الخليفة بدمشق يعلمه بفاجعة بلاط الشهداء وقتل الأمير عبد الرحمن الغافقي وبأنه أنفذ
عبد الملك الفهري مكانه وجرد معه جيشًا، فوافق الخليفة على عمل عامله وشمر للأخذ بالثأر
وأمر بغزو بلاد فرنسة وأخذها بالسيوف من كل ناحية، فسار عبد الملك الفهري وفي نيته أن
يأخذ بذحل المسلمين ويجبر الكسر الذي وقع، ولكن هيهات فقد كان بلغ بالمسلمين اليأس
مبلغه، وذهب كل كلام القائد في استنهاض هممهم سدى، وسار منهم مع عبد الملك جيش إلى
فرنسة لكنهم ساروا بصدور غير منشرحة وآمال غير منفسحة، وكيف يقاتل جيش تعوزه القوة
المعنوية، فانهزم جيش عبد الملك في جبال «البيرانه».
وأخيرًا أرسل الخليفة مكانه عقبة بن الحجاج (السلولي)، وكان اشتهر ببسالته وحسن
تدبيره في حرب البربر بإفريقية فوصل إلى الأندلس، وانتعشت به الآمال بما كان عليه من
زكاء السيرة والعدل وسداد التصرف، فبدأ بعزل العمال الذين عسفوا الرعية وحبس الذين غلوا
من أموال الدولة أو قاموا بجبايات غير شرعية، وانتصر للضعفاء واقتص لهم من الأقوياء،
وأمر الولاة بتجنيد فرق من الجند أرصدها لاستئصال قطاع الطرق، وأسس كثيرًا من المدارس
والمساجد على نفقة الدولة، وخصص لها الخدمة الكثيرين، وكان لا يميز في المعاملة بين
أصناف رعيته، وبالإجمال فقد كان عقبة هذا كامل العدالة تام الرجولية لا يجد قائل فيه
مطعنًا، ثم نظر في سيرة سلفه عبد الملك الفهري فلم يجد عليه ما يؤاخذه به، فجعله أميرًا
على الخيالة، وأرسله إلى الثغر، وكان في نية عقبة أن يزحف إلى فرنسة بجيش جرار
١٧٤ امتثالًا لأمر الخليفة، ولكن لما وصل إلى «سرقسطة» جاءه الخبر بأن البربر
في إفريقية ثاروا عودًا على بدء، وأمره أمير إفريقية بأن يتولى قيادة الجيش الثائر
للتنكيل بهم وأن يعبر البحر إلى طنجة، وهكذا اضطر عقبة أن يعدل عن غزو فرنسة وأجاز إلى
طنجة واشتدت به عزائم العرب في إفريقية.
وكانت هذه الواقعة سنة ٧٣٧ مسيحية وفق سنة ١٢٠ هجرية، وفي آخر هذه السنة توفي «بيلاي»
بطل «أستورية» الذي كان هو وحده بنفسه نواة المقاوة بما بقي من قوة الإسبانيول في وجه
العرب بعد أن استصفى هؤلاء جميع إسبانية وأخنوا على ملك المسيحيين بها، فإنه بطائفة
قليلة من رجاله لم يزل يفر في جبال «أشتورية» من صخرة إلى صخرة إلى أن اعتصم بمغارة
جعلها مركز قوته المنيعة، ولم يبرح معتصمًا بذلك الغار يشن منه الغارات على الأطراف
القريبة منه، وهو بمنجاة من العرب، حتى وسع رقعة إمارته، وما زالت تتسع شيئًا فشيئًا
إلى أن صارت إمارة مذكورة ثم مملكة ثم تغلبت هذه المملكة بعد عدة قرون على جميع إسبانية
وأخرجت العرب من كل أوربة، وسنذكر في الجزء التالي جميع ما يتصل بنا علمه من خبر
«بيلاي» هذا، وكيفية نشوء إمارته ونمو أعقابه إلى أن استرجعوا جميع وطنهم بعد ثمانية
قرون، ولنعد الآن إلى تاريخ «رينو» عن غزوات العرب في فرنسة، ولنمهد لكلامه بما
يلي:
واقعة بلاط الشهداء
قبل الدخول في شرح هذه الواقعة وأسبابها وما قيل فيها أرى أن أترجم للقارئ بطلي هذه
المعركة عبد الرحمن الغافقي العربي و«شارل مرتيل» الإفرنجي الذي يسميه العرب «قارلة»
وأذكرُ خلاصة خبرهما، فيكون ذلك أعون على فهم الواقعة والحوادث التي أدت إليها ونشأت
عنها.
«فشارل مرتيل» هو ابن «ببين ديريستال»
١٧٥ مولده سنة ٦٨٩ كان اتهمه أبوه بقتل أخيه الذي كان من غير أمه فاعتقله في
كولونية
١٧٦ وما زال إلى أن مات أبوه ببين سنة ٧١٤ في الاعتقال فثار الأسترازيون أي
أهالي القسم الشرقي من المملكة الميروفنجية الإفرنجية بتلك الدولة وجعلوا شارل (أو كارل
أو قارله) دوقًا عليهم وتغلبوا به على أهالي القسم الغربي من المملكة بعد وقائع متعددة
سنة ٧١٦ وسنة ٧١٧ إلى سنة ٧١٩، وعند ذلك اضطر الملك «شيلبريك» الثاني أن يتخذ شارل
حاجبًا فتسلم زمام الأمور، واستبد بها وصار مع الملك «شيلبرك» الثاني والملك «تيتري»
الرابع كما كان المنصور بن أبي عامر في الأندلس مع الخليفة الأموي هشام أو كما كان عز
الدولة ابن بويه أو ابن عمه عضد الدولة بن بويه مع الخليفة الطائع العباسي أو كما هو
المقيم العام الذي تجعله إحدى الدول الاستعمارية من قبلها في هذا العصر بجانب أحد
سلاطين الإسلام ممن ليس له من السلطنة إلا الاسم، هذا ومن ذلك الوقت أخذ شارل يمهد
البلدان التي تليه ويدوخ الشعوب التي في جواره فقهر السكون والبافاريين وغيرهم من
الألمان وكذلك كان «أود» دوق أكيتانية قد هاجمه فدحره.
ولكن لم يبلغ تلك الشهرة التي بلغها ولم يلقب بشارل مارتل، أي: المطرقة إلا بعد أن
ظهر على العرب في واقعة «پواتييه» أو بلاط الشهداء، جاء في «المعلمة التاريخية
الإفرنسية لغريغوار وموريس فال»
١٧٧ ما يلي: وكان العرب استولوا على إسبانية وسبتيمانية وتهددوا بلاد الغال
والنصرانية كلها وهزموا «أود» دوق أكيتانية، فاستصرخ هذا شارل فزحف شارل إلى العرب على
رأس جيش الأسترازيين والمقاتلة التي جاءته من وراء الرين، فانتصر على الأمير عبد الرحمن
انتصارًا عظيمًا بين «تور» و«پواتييه» سنة ٧٣٢، ويقال: إنه بعد هذه الوقعة تلقب
بمارتيل، وهي لفظة معناها المطرقة، ثم إنه بسط الملك الإفرنجي على البلاد التي يسقيها
نهر الصاوون ونهر الرون، ودخل سبتيمانيا، وطرد العرب من نيم ومدن أخرى، لكنه لم يقدر
على أربونة التي تم فتحها فيما بعد على يد ابنه ببين القصير. انتهى.
ومات شارل مارتل سنة ٧٤١ ولم يسمح لأحد من الملوك الميروفانجيين بشيء من الملك ولا
بلقب الملك، وترك سبعة أولاد ذكور، أشهرهم ببين وكارلومان، فتقاسم هذان المملكة
بينهما.
أما عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي فهو أمير الأندلس، كان مع السمح بن مالك الخولاني
في غزاة طلوزة بحسب رواية «رينو»، ولما استشهد السمح رحمه الله في تلك الغزاة تولى عبد
الرحمن قيادة جيش العرب الغازي للإفرنجة، وقفل به إلى الأندلس وآلت إليه الإمارة فيما
بعد، وقد ذكرنا في حاشية متقدمة ترجمة الأمير عبد الرحمن المذكور نقلًا عن بغية الملتمس
لابن عميرة. ولنذكر الآن شيئًا عن نسب هذا الرجل العظيم فنقول:
يقال له: الغافقي نسبة إلى غافق، وهي قبيلة من الأزد، وهو ابن الشاهد بن عك
بن عدنان بن عبد الله بن الأزد، وقيل: بل هو غافق بن الحارث بن عك بن الحارث بن
عدنان، وإليهم يُنسب الحصن المعروف بغافق في الأندلس على مسافة مرحلتين من
قرطبة. وجاء في تاج العروس: إن لهم خطة أيضًا بمصر. وذكر ياقوت في معجم
البلدان: غافق. فقال: إنها حصن بالأندلس من أعمال فحص البلوط منها أبو الحسن
علي بن محمد بن الحبيب بن الشماخ الغافقي كان من أهل النبل، وتولى الأحكام
ببلدة غافق مدة طويلة قدر ٦٥ سنة ومات سنة ٥٠٣. وقال المقري في نفح الطيب: إن
غافقًا هو ابن عك بن عدنان بن أزان بن الأزد، قال ابن غالب: من غافق أبو عبد
الله بن أبي الخصال الكاتب، وأكثر جهات شقورة ينتسبون إلى غافق. انتهى.
قلت: ومن العلماء المعروفين المنسوبين إلى غافق عبد العزيز بن علي بن عيسى بن سعيد
بن
مختار الغافقي أبو الأصبغ المعروف بالشقوري، المتوفى سنة ٥٣١ ترجمه ابن بشكوال في الصلة
وابن الأبَّار في التكملة.
ومنهم عبد الرحمن بن بشر بن الصارم الغافقي أبو سفيان، وفد على سليمان بن عبد الملك
ورجع إلى الأندلس فاستشهد بها في قتال الروم، روى عنه بكير بن الأشج وعبد الرحمن
شريح.
ومنهم أبو بكر محمد بن أبي عامر بن حجاج الغافقي الأشبيلي وهو الذي جاور بالمدينة
المنورة، وقال:
لم يبقَ لي سؤل ولا مطلب مذ
صرت جارًا للحبيب الحبيب
لا أبتغي شيئًا سوى قربه
وها أنا منه قريب قريب
جاء ذكره في نفح الطيب.
ومنهم أبو عبد الله محمد بن فطيس الغافقي الألبيري الزاهد: كان من أهل الحديث والضبط
رحل إلى المشرق وسمع من شيوخ كثيرين وعاد إلى البيرة وطنه، وتوفي بها في شوال سنة ٣١٩
عن تسعين سنة، ورد ذكره في النفح أيضًا.
ومنهم محمد بن عيسى بن دينار الغافقي من أهل قرطبة كان فقيهًا زاهدًا حجَّ وحضر
افتتاح أقريطش «أي جزيرة كريت» واستوطنها. قاله الرازي.
ومنهم اليسع بن عيسى بن حزم بن عبد الله بن اليسع بن عبد الله الغافقي، من أهل بلنسية
أصله من جيان، وسكن المرية ثم مالقة، يكنى: أبا يحيى، ترجمه صاحب نفح الطيب، وقال: إنه
كتب لبعض الأمراء بشرقي الأندلس، وله كتاب سماه «المغرب في أخبار محاسن أهل المغرب»
جمعه للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالديار المصرية بعد أن رحل إليها من الأندلس سنة
ستين وخمسمائة، وتوفي بمصر سنة ٥٧٥.
ومنهم أبو العباس أحمد بن عبد السلام الغافقي الأشبيلي الشهير بالمسيلي: رحل حاجًّا
وقفل إلى بلده، ذكره صاحب النفح.
ومنهم أبو إسحق إبراهيم بن عبد الله بن خصيب بن أحمد بن حزم الغافقي: أندلسي سكن دمشق
وتولى بها الحسبة وسمع بمصر وبغداد وطرابلس ودمشق وغيرها، كان مالكي المذهب لكنه كان
يميل إلى مذهب المعتزلة، قال المقري: ما سمعت بمالكي معتزلي غير هذا، توفي سنة ٤٠٤ ذكره
ابن عساكر.
ومنهم أبو أمية إبراهيم بن منبه بن عمر بن أحمد الغافقي من أهل المرية نزل مرسية،
وتولى القضاء والخطبة فيها وحدَّث بصحيح البخاري آخر الحجة سنة ٥٥٥ ذكره صاحب النفح،
ومنهم غير هؤلاء من الأعلام.
وأما عبد الرحمن الغافقي، أمير الأندلس، فقد ذكر المقري في النفح نقلًا عن ابن سعيد
أنه كان من التابعين، تولى إمارة الأندلس في حدود العشر ومائة وهو من أبطال الإسلام
المعدودين، كل ما ذكره المؤرخون من أخباره يدل على أنه كان من أفذاذ الرجال، جمع إلى
الشجاعة والإقدام، العدل في الأحكام، والسهر على مصالح الأنام، وبُعد النظر في
السياسة.
قال المؤرخ «رينو» إنه كان مهتمًا بأخذ ثأر المسلمين عن الغزوات التي أصيبوا فيها
في
السنين الأخيرة قبل إمارته، وكان يفكر في حملة شديدة على فرنسة يدوخ بها هذه المملكة
ثم
يجتاز منها إلى إيطالية فألمانية فالقسطنطينية ويُدخلها في حكم الإسلام، ولما كانت
الحماسة الدينية في ذلك الوقت في إبان غليانها، وكانت الأندلس وفرنسة الجنوبية بخصب
أراضيهما واعتدال هوائهما أصبحتا مقصدًا للعرب من جميع الجهات، وكان يأتيها كل يوم
رجالات أشداء من جزيرة العرب ومن جبال الأطلس، فقد كان الأمير عبد الرحمن الغافقي يمرن
هؤلاء المجاهدين على استعمال السلاح ويثير فيهم نخوة القتال، وكان مقامه بقرطبة، ولكنه
بقي مدة يطوف في الأندلس وينظر في مظالم العباد ويقتص من القوي للضعيف ويعزل الولاة
الذين حادوا عن جادة الاستقامة ويتبدل بهم ولاة معروفين بالعدل والنزاهة، وكان يعامل
المسلمين والمسيحيين على السواء تقريبًا وعلى كل حال لم يكن يخرج في معاملة المسيحيين
عن العهود المعقودة معهم.
وفي تلك الأيام كان المسلمون يوالون الغارات من أربونة وقرقشونة على البلدان المجاورة
لهما، ولكن حصل حادث نفَّس من خناق المسيحيين بعض الشيء، وذلك أن القائد الذي كان في
سردانة من جبال البيرانيه كان بحسب رواية إزيدور الباجي ولذريق شمينيس أحد أحلاس الحرب
الإفريقيين الذين بالاتحاد مع العرب فتحوا الأندلس، وكان يسمى «مونوزه» وكان من ذوي
البطش والشبا المرهوب، وكان في مبدأ أمره صارمًا جدًّا في معاملة المسيحيين، وأحرق
حيًّا أسقفًا اسمه «أنامبادوس» فلما وقعت الحرب بين البربر والعرب مال بطبيعة الحال إلى
قومه البربر، واتحد مع «أود» صاحب جنوبي فرنسة الذي لأجل أن يتمكن منه أزوجه ابنته
المسماة «لامبيجيه» وكانت فتاة بارعة في الجمال
١٧٨ بلغت شهرة عظيمة.
وقد روى «كوندي» الإسبانيولي هذه الحادثة بشكل آخر نقلًا عن مؤرخي العرب، فجعل
«مونوزه» هذا محرفًا عن عثمان بن أبي نسعة
١٧٩ الذي تولى إمارة الأندلس مرتين، وكان ينافس عبد الرحمن الغافقي على الإمارة
ويرى نفسه أولى بها، وروى «كوندي» أن ابن أبي نسعة هذا أصاب هذه الأميرة في إحدى غزواته
فسباها في من سبا وهام بحبها نظرًا لجمالها واتحد من أجلها مع «أود» أبيها، ثم لما حمله
عبد الرحمن على شن الغارات في بلاد إفرنجة اعتذر «مونوزه» أو ابن أبي نسعة بوجوب مراعاة
الميثاق الذي بينه وبين «أود» فلم يقبل عبد الرحمن منه هذا العذر وأصر عليه بالتعبية
والزحف، فأسرع ابن أبي نسعة بتحذير حميه «أود» ليكون على أهبة ضخمة في وجه عبد الرحمن،
فأرسل عبد الرحمن نخبة من جنوده إلى «البيرانه» وأمرهم بالقبض على ابن أبي نسعة حيًّا
أو ميتًا، فلما رأى هذا نفسه لا يقدر على الوقوف أمامهم فر ومعه زوجته الحسناء إلى
الجبال، فتأثروه إلى حيث ثقفوه، وتغلبوا عليه واحتزوا رأسه وأرسلوا بالرأس إلى دمشق،
وكذلك أرسلوا إلى دمشق الأميرة «لامبيجيه» التي دخلت في حرم الخليفة. روى هذه الحادثة
أيضًا إيزيدور الباجي ولذريق شيمينس، ثم رويا أن المسلمين الذين كانوا في جنوبي فرنسة
كانوا قبل واقعة «پواتييه» غزوا مدينة «أرل».
قال «رينو»: وقد أشار مؤرخو العرب إلى هذا الحصار بدون تسمية هذه المدينة ولكن بوصفهم
إياها بأنها مبنية على ضفاف نهر كبير هو أكبر نهر في تلك البلاد كانت تصعد به السفن من
البحر، ويظن بعض مؤرخي الإفرنج أن حملة العرب على مدينة آرل لم تكن إلا خدعة يقصدون بها
صرف نظر الإفرنج عن وجهة الحرب الحقيقية، وهي الجهة الشمالية، فإن عبد الرحمن بعد أن
لبث نحوًا من سنتين، يتأهب للزحف ويكتِّب الكتائب ويعبي الجنود، توجه إلى جبال
البيرانيه، وكان جيشه جرارًا يزج الأرض ويهتز شوقًا إلى القتال، والأرجح أن مروره من
هناك وقع في ربيع سنة ٧٣٢، وقد جعل طريقه على أرغون ونابارة ودخل أرض فرنسة من أودية
«بيغور»
١٨٠ و«بِيرن»
١٨١ يستدل على ذلك من آثار التدمير التي وقعت في تلك الديار فقد هدم العرب
الكنائس والأديار مثل دير «سان سافين»
١٨٢ بقرب «طارب»
١٨٣ ودير «سان سيفر دورستان»
١٨٤ في «بيغور» وخرَّب العرب «آير»
١٨٥ و«بازاس»
١٨٦ و«أوليرون»
١٨٧ و«بيرن» وكذلك دير «سانت كروا»
١٨٨ بقرب بوردو. ثم افتتحوا بوردو
١٨٩ عنوة. وأقبل أود دوق أكيتانيا بجموعه محاولًا صدهم في ممر دور
دفاون
١٩٠ نهزم. وكان عدد قتلى المسيحيين من الكثرة بحيث إن المؤرخ إيزيدور
الباجي
١٩١ قال: إن الله تعالى وحده يقدر أن يحصيهم. فلما رأى أود أن لا طاقة له
بالثبات أمام العرب استصرخ شارل مارتل الذي كان في ذلك الوقت يدافع عن مملكته فاستجاش
عصائبه القديمة من جهات الدانوب والألبا
١٩٢ والأوقيانوس، ثم إن العرب بعد أن ظفروا بأود أوغلوا حتى وصلوا إلى پواتييه
وأحرقوا دير «سانت إيميليين»
١٩٣ وكنيسة «سانت إيلير»
١٩٤ في پواتييه.
قال رينو: إنه بلغت حماسة العرب في تلك الغزوة أن بعض مؤرخيهم شبههم بريح صرصر، تقتلع
كل ما جاء أمامها، أو بسيف ماضٍ يقطع كل ما يصادمه، وكان العرب قد وضعوا نصب أعينهم
مدينة «تور» التي كان فيها دير «سان مارتين»
١٩٥ المشهور بنفائسه، وهناك تلقى العرب خبر قدوم شارل مارتل بجيوش الإفرنجة،
فقلما ذكر التاريخ معركة لها ما بعدها مثل هذه المعركة، فكان المسيحيون من جهة يذبون
عن
ديانتهم وأوضاعهم وأملاكهم وأنفسهم، وكان المسلمون من جهة أخرى معتقدين أيضًا أنهم إنما
يقاتلون في سبيل الله، خلا ما كان يهمهم من حفظ الغنائم التي في أيديهم. قال رينو: إن
مؤرخًا عربيًّا روى أن عبد الرحمن كان في آخر الأمر في خوف شديد من لهو جيشه بالغنائم
الكثيرة التي كانوا يجرونها في أثناء زحفهم؛ وأنه قد فكر في حملهم على تركها في أرضها
لئلا تشغلهم عن القتال فتكون عليهم وبالًا، لكنه لم يشأ — وهو في مأزق كذلك المأزق —
أن
يغيظهم ويخسر توجه قلوبهم، وبقي واثقًا بشجاعتهم وبيمن نقيبته في القتال، فكان لتردده
هذا تلك النتيجة المشؤومة. وقد روى هذا المؤرخ العربي أن العرب هاجموا مدينة تور، بمرأى
من شارل مارتل، وأنهم انقضوا مثل النمور الكاسرة على أهلها فذبحوهم ذبح الشياه مما لا
شك أنه قد أغضب الله تعالى فعاقبهم بنكال قريب، أما مؤرخو المسيحيين فكانت رواياتهم عن
هذه المعركة قاصرة، ولم يذكروا شيئًا عن أخذ العرب لمدينة تور، وقد بقي الجيشان يرابط
كل منهما الآخر مدة ثمانية أيام، وبعد مناوشات ليست بذات بال أجمع الجيشان على الوقعة
الفاصلة، وبحسب هذه الرواية العربية تكون الوقعة قد حصلت بقرب تور، وهذا هو رأي لذريق
شيمينيس الذي كان يروي عن مؤرخي العرب، وأما مؤرخو الإفرنجة فأكثرهم يذهبون إلى أنها
وقعت في إحدى ضواحي «پواتييه» ويستدلون على ذلك من الآثار المحفوظة في دير مواساك، ومن
الممكن الجمع بين الروايتين. وذلك بأن يقال إن بداية المعركة حصلت بقرب تور وأنها انتهت
بقرب پواتييه وقد كان ذلك في شهر أكتوبر سنة ٧٣٢ بحسب رواية بعضهم، وكان المسلمون هم
الذين بدأوا القتال، وكان الفرنج قادمين من حروب اتسق لهم فيها النصر، فكانت حماستهم
تغلي مراجلها ويزيدها فيهم وجود شارل مارتل الذي كان كلما ظهرت ثلمة خف وسدَّها بنفسه،
وقد هاجم المسلمون بخفة حركاتهم على سروات الخيل مهاجمات شديدة، يحاولون بها خرق صفوف
الإفرنج فكانوا يجدون أمامهم صفوفًا أشبه بالجدران في ثباتها، فكانت تتكسر عليها حملات
العرب، فاستمر القتال أول يوم طول النهار، ولم يحجز بينهم سوى الظلام، وفي اليوم التالي
تجدد القتال ورخصت النفوس في سوق المنايا وحمل المسلمون حملات اليائسين؛ إذ لم يكونوا
ينتظرون من الإفرنج مثل هذا الثبات ولكنهم لم ينالوا منهم وطرًا، وبينما كانوا يضاعفون
حملاتهم؛ إذ أغارت فرقة من الإفرنج على معسكر المسلمين يظن أن قائدها كان أود دوق
أكيتانية، فلما رأى المسلمون غارة جانب من الإفرنج على مخيمهم أشفقوا على الغنائم التي
كانوا حازوها فتركوا المصاف وانكفأوا إلى المخيم ليستخلصوه من أيدي الإفرنج، وعند ذلك
هرع عبد الرحمن يرد المنكفئين ويسوي الصفوف، فذهب اجتهاده عبثًا، وأصابه سهم من جهة
العدو فخرَّ صريعًا، وعند ذلك وقع الفشل في صفوف المسلمين، لكنهم تمكنوا من تخليص
مخيمهم من أيدي الأعداء وإن كانوا فقدوا كثيرًا من رجالهم، وأقبل الظلام فحال بين
الفريقين، وكان مراد شارل مارتل الكر على العرب عند الصباح، إلا أنه عندما أصبح الصباح
لم يجد منهم أحدًا، وذلك أنهم لما رأوا ما حل بهم سروا في أحشاء الليل وانحازوا إلى
الوراء قاصدين جبال البيرانه، وكان مسراهم من السرعة بحيث إنهم تركوا خيامهم منصوبة
وغنائمهم مطروحة في الأرض.
ولما رأى شارل مارتل أن العدو أقلع بقضه وقضيضه وزع على عساكره ما وجده في مخيم العرب
من الغنائم المركومة، ولكنه لم يتأثر العرب في طريقهم وهم قافلون، وعللوا ذلك بأنه خشي
أن يكون انكفاؤهم إلى الوراء استدراجًا ومكيدة، أو أنه قد أمن بعد هذه الوقعة على
مملكته وأصبح لا يخشى عليها شرًّا، فلذلك قطع نهر اللوار، راجعًا إلى الشمال، مفتخرًا
بما أحرزه من النصر الباهر، ومنذ ذلك اليوم لقبوه بمارتل (أي المطرقة) سموه بها لمتانته
ولما سد به بنفسه من الثلم التي كانت تقع في جيشه.
ولا يمكن قبول روايات بعض مؤرخي المسيحيين الذين أوصلوا عدد المسلمين الصرعى في تلك
المعركة إلى ثلاثمائة وستين ألفًا، فإن المسلمين ذلك اليوم لم يسقطوا كلهم صرعى، وما
كان من الممكن جمع جيش مؤلف من خمسمائة ألف مقاتل في تلك الأيام وقد كانت الحروب
الداخلية المستأصلة للرجال لا تنقطع، ثم على فرض المُحال وأنه كان ممكنًا حشد فيالق
جرارة كهذه فكيف كان يمكن إيجاد الميرة اللازمة لهذه الفيالق الجرارة في البلاد التي
تمر فيها، وقد كانت خربت تقريبًا من توالي الغارات والرزايا، نعم لا ينكر أن هذا الجيش
الذي قاده عبد الرحمن الغافقي، تلك النوبة، كان أعظم جيش وأحمس جيش قاده العرب إلى
وطننا الجميل، وأنه كان قد هبَّ للحرب كالريح المرسلة، وأدل دليل على ذلك هو كون فرنسة
بأجمعها جمعت ذلك اليوم جموعها وجاءت بالشوك والشجر لمقابلة ذلك الجيش العربي المغير،
وأن هذه المعركة لا تزال حتى اليوم شاغلة أعظم موقع في أذهان جميع الأوربيين.
وأما مؤرخو العرب فلم يكونوا يعلمون من تفاصيل تلك المعركة الفاصلة أكثر مما عرفه
مؤرخو الإفرنج، وغاية ما ذكر العرب أن عددًا كبيرًا من رجالهم استشهدوا في بلاط الشهداء
وهو الاسم الذي أطلقوه على تلك الواقعة، ويقولون: إنه لا يزال يسمع هناك دوي خفي هو
ضجيج الملائكة الذين ينزلون من السماء للصلاة في ذلك المكان المقدس على الشهداء الذين
لقوا فيه ربهم.
قال المستشرق رينو: وبعد هذه الهزيمة انكفأ فل الجيش العربي إلى البيرانه مدمرًا
كل
ما مر به، ومن جملة ذلك دير سولينياك.
١٩٦ وقيل: إن الإفرنج عندما انكفأ العرب أعملوا في أقفيتهم السلاح إلى أن بلغوا
أربونة، ولا يظهر أن هذه الرواية متينة
١٩٧ وقد كان تأثير هذه الهزيمة مختلفًا جدًّا بين المسلمين والمسيحيين،
فالمسيحيون استجدوا عزائمهم واستأنفوا صرائم، وهبوا في جبال البيرانه للأخذ بالثأر،
واعتقدوا أن الله عاد معهم يؤيدهم على أعدائهم، والمسلمون استولى عليهم الوهل ونزل
الوهن بعزائمهم، وأخذ الأتقياء منهم يقولون: إن ما حل بهم من الأدبار بعد الإقبال إنما
كان جزاء وفاقًا من الله تعالى على استرسالهم في معاصيهم وإمعانهم في ركوب
أهوائهم.
وكان النائب في الإمارة الذي تركه عبد الرحمن الغافقي في قرطبة قد طير الخبر بهزيمة
المسلمين في بلاط الشهداء إلى القيروان وإلى دمشق، فارتمض الخليفة لهذا الخطب وأرسل
أميرًا على الأندلس اسمه عبد الملك
١٩٨ وجهز معه جيشًا وأمره بالأخذ بثأر المسلمين وشفاء صدور المؤمنين واستنفاد
الوسع في هذا الأمر، فأقبل هذا الأمير على الأندلس، يحاول رتق الفتق ورفو الخرق، وأغذ
بجيشه إلى البيرانه، وأخذ يخطب في الغزاة والمرابطة، ويشدد من عزائمهم، ويجدل سواعد
المسلمين، ويحبك من مرائرهم ويبين فضائل الجهاد وعلو رتبة الاستشهاد، إلا أن كل هذه
الخطب في المجاهدين لم تفعل فيهم الفعل الكفيل برأب ذلك الصدع، وكان نصارى شمالي
إسبانية وجنوبي فرنسة قد رفعوا رؤوسهم بعد هذه الوقعة ونبذوا إلى المسلمين على سواء،
وروى مؤرخ من مؤرخي العرب أن جيشًا من الفرنسيس قطع وقتئذ البيرانه واستولى على
بانبلونه وجيرونه.
أما الأمير عبد الملك فأعمل الحركة أولًا إلى كتالونيا وأراغون ونافار
١٩٩ ثم تقدم إلى بلاد اللنغدوق
٢٠٠ وحصن المدن التي كانت منها في أيدي المسلمين، ثم أبعد المغار في بلاد
العدو، وكانت بلاد «السبتيمانيا» و«بروفانس» في حالة الفوضى تقريبًا، وكان كل ذي طمع
فيها قد انفرد بإمارة واستأثر بزعامة، وكان بعض من هؤلاء الزعماء ينضوون تحت جناح دوق
أكيتانية والآخرون يتفيأون في ظل شارل مارتل، وذلك مصانعة لكل منهما، ولكنهم كانوا في
الحقيقة إنما يريدون الاستقلال بإماراتهم، وكثيرًا ما كانوا يتحدون يدًا واحدة مع
المسلمين الذين كانوا في أربونة، وذلك ليتقوا بأس أولئك الملوك الكبار ومن هؤلاء
الأمراء «موروند» الذي كان يلقب بدوق مرسيلية والذى كان بيده أكثر مقاطعة
بروفانس.
وفي تلك المدة كان شارل مارتل مشغولًا يبسط سلطته على برغونية وعلى مقاطعة ليون،
حيث
كان المسلمون قد شنُّوا الغارات وأهرجوا البلاد وأمرجوها، ثم إنه زحف لقتال
«الفريزون»
٢٠١ فشغلوه أيضًا عن قتال المسلمين.
وفي سنة ٧٣٤ اتفق يوسف أمير أربونة العربي مع موروند دوق مرسيلية وزحف المسلمون بجيش
جرار، وعبروا نهر الرون واستولوا على مدينة «آرل» ونهبوا أديار الرسل والعذراء
٢٠٢ وهدموا قبر سان «سيزير»
٢٠٣ ثم تقدموا إلى أواسط بلاد البروفانس، وحاصروا مدينة «فريتا» المعروفة اليوم
«بسان ريمي»
٢٠٤ واستولوا عليها، وساروا منها نحو «آفينيون» وعبثًا حاول مقاتلة «آفينيون»
صد المسلمين في ممر «دورانس»
٢٠٥ فإن المسلمين ذللوا كل العقبات، وكانت «آفينيون» في ذلك الوقت عبارة عن
الصخرة التي بني عليها فيما بعد قصر الباباوات، وهو المكان الذي كان مؤلفو العرب يسمونه
بصخرة أبنيون، وقد بقي المسلمون في ذلك الوقت أربع سنوات محتلين بلاد
«بروفانس»
٢٠٦ وكان «أود» دوق أكيتانيا قد توفي سنة ٧٣٥ فجاء شارل مارتل واستولى على
بلاده وخضع له أولاد الدوق المذكور.
وأما الأمير عبد الملك
٢٠٧ فبعد أن أهَّب الله له ريح النصر في هذه الغزوات بأرض فرنسة، عاد إلى جبال
البيرانيه، لتدويخ الأهالي الباقين على العصيان، فصادفته أنواء وأمطار وهو في جبال
وأوعار فوقعت عليه هزيمة، وعندما بلغ الخليفة ما أصابه قلد إمارة الأندلس أميرًا غيره
اسمه عقبة
٢٠٨ ولم يبقَ في يد عبد الملك سوى إمارة المقاطعات التي في جوار
البيرانه.
وكان عقبة هذا رجلًا يتقد حمية على الإسلام ويرى في الجهاد قرة عينه، ويقول مؤرخو
العرب: إنه اختار إمارة الأندلس حبًّا بالجهاد والرباط، وكان إذا وقع في يده أسير من
المسيحيين لا يهمل أن يعرض عليه الإسلام، وفي أيامه حصَّن المسلمون جميع المواقع التي
أمكنهم تحصينها في بلاد اللنغدوق، حتى ضفاف نهر الرون، وشحنوها بالمقاتلة، وفي ذلك
الوقت أعادوا المغار كما بدا على بلاد «دوفينيه»
٢٠٩ فخربوا بلدة «سان بول» المعروفة بالثلاثة القصور و«دونزير»
٢١٠ واحتلوا «فالانس»
٢١١ وأصبحت جميع الكنائس المجاورة لمدينة «فيين»
٢١٢ على ضفتي الرون قاعًا صفصفًا.
وكان المسلمون للأخذ بثأر جيشهم الذي قهره شارل مارتل في بلاط الشهداء قد احتلوا
مدينة ليون من جديد، وبثوا الغارات منها على بلاد «بورغونية» فأخذ شارل مارتل يتأهب
لقتالهم، وقد كان وافقه الحظ من جهة الشمال والشرق حيث سكنت الثورات التي كانت ثائرة
عليه، فسرح أخاه «شيلد براند»
٢١٣ بجيش إلى ليون، وأرسل يستصرخ «لويتبراند»
٢١٤ ملك «اللومبارديين» في إيطالية ليوافيه بجيش لقتال المسلمين الذين كانوا
ألبًا واحدًا مع موروند دوق مرسيلية، وقد تمكنوا من جبال «دوفينه» و«بييمونت».
٢١٥ فجاء شيلد براند (أخو شارل مارتل) وحاصر المسلمين في آفينيون واستعمل في
حصارها الآلات المعروفة لذلك العهد، وتبعه شارل مارتل نفسه بجيش جديد، وجاء لويت براند
ملك اللومبارديين بجيش آخر من إيطالية، فاستولوا على أفينيون عنوة واستأصلوا من بها من
المسلمين، وتقدم بعد ذلك شارل مارتل صوب أربونة وكان فيها أمير يقال له بحسب تلفظ
المؤرخين القدماء: «أتيما»
٢١٦ وكانت مواصلات مسلمي الأندلس مع مسلمي سبتيمانيا أكثرها من طريق البحر
نظرًا لكون أهالي جبال البيرانيه المسيحيين حائلين بين الفريقين، فلما وصل الخبر إلى
عقبة بأن شارل مارتل قد ضيق الحصار على أربونة أرسل جيشًا في البحر، لنجدة هذه البلدة،
تحت قيادة رجل يقال له: عامر.
٢١٧ فلما عرف شارل مارتل بمجيء هذا الجيش الجديد جاءه بغتة قبل أن يتأهب للقتال
فأخذ المسلمون على غرة وكانت هزيمتهم تامة، وقتل أميرهم ولم ينجُ منهم إلا فل قليل
خلصوا إلى مراكبهم وآخرون وصلوا إلى «أربونة»، ولكن برغم هذا كله لم يتمكن شارل مارتل
من أخذ «أربونة» وصعرت له خدها، وفي تلك الأيام جاءه الخبر بأن الفريزون والسكسون
أشعلوا الثورة من جديد، فاضطر شارل أن يرحل عن «أربونة» ولكنه قبل رحيله خرب القلاع
التي كانت في «بيزيه»
٢١٨ و«أقد»
٢١٩ ودمر أبواب مدينة «نيم»
٢٢٠ الشهيرة وقسمًا من الملهى الروماني الذي كان فيها خوفًا من أن يتحصن به
العرب، وكذلك دمر مدينة «ماجلون»
٢٢١ وأخَذَ المسلمين الذين فيها أسارى ومعهم أيضًا أناس من المسيحيين أبقاهم
رهائن عنده.
ولا يمكن أن يقال: إن جميع أهالي جنوبي فرنسة كانوا يحبون شارل مارتل، ولو كان قد
دفع
عن النصرانية غارات المسلمين؛ لأن هؤلاء الأهالي كانوا ينظرون إلى هذا الرجل وقومه
كبرابرة من أهل الشمال، بينما هم يرون أنفسهم أمة ذات مدنية قديمة من زمان الرومانيين،
ولا نزاع في أن المسلمين كانوا قد خربوا الكنائس والأديار وما يخصها من الأراضي، ولكن
شارل مارتل عندما جاء ودفع عادية المسلمين عن تلك البلاد لم يرد تلك العقارات على
الرهبان والأساقفة، بل وزعها على رجال الحرب من أنصاره، فبقيت الكراسي الأسقفية خالية.
ويقال: إن «فليكارپوس»
٢٢٢ مطران «فيين» بعد أن خرج المسلمون من البلاد لم يرجع إلى أسقفيته، لخلو
الكرسي مما يقوم بأوده، فذهب إلى «فاله»
٢٢٣ حيث جعلوه رئيسًا لدير «سين موريس»
٢٢٤ وكان الأحبار ورجال الدين يؤولون هذه المصائب بأنها عقاب صبَّه الله تعالى
على هام العباد تنبيهًا لهم للرجوع إلى طريق الفضيلة.
٢٢٥ ولم يخلُ الأحبار ورجال الدين من أناس تعلقوا بشارل مارتل الذي تولى كبر
دفع المسلمين عن أوربة، وأشهر هؤلاء «هينماروس» مطران «أوكسير»
٢٢٦ الذي كان يحارب في جيش شارل مارتل بنفسه ويقاتل المسلمين في البيرانه، وهو
في ثوب الأسقفية.
وكان موروند دوق مرسيلية قد فر هاربًا من وجه شارل مارتل، وبقي متواريًا إلى أن غادر
شارل مارتل جنوبي فرنسة عائدًا إلى الشمال، فلما ذهب شارل مارتل شمالًا ظهر موروند من
مخبأه، وجدد علاقاته مع المسلمين، وقاموا بعمل واحد، فبلغ الخبر شارل مارتل، وفي سنة
٧٣٩ زحف إلى الجنوب ومعه أخوه شيلدربرند واستولى على مرسيلية ومن ذلك الوقت أصبح
المسلمون في أربونة لا يجرؤون على عبور نهر الرون.
وليست عندنا معلومات يوثق بها عن كيفية معاملة المسلمين لأهالي مقاطعة بروفانس، ويجوز
أن يكون اتفاقهم مع موروند قد جعلهم أقل ضغطًا على بلاده مما كانوا في غيرها، ولكن نزلت
على بلاد بروفانس و«لانغدوق» مصيبة ثانية، وهي غارات المسلمين البحرية التي كانت سواحل
جنوبي فرنسة دائمًا عرضة لها.
وكان المسلمون في أول الأمر لا يحبون ركوب البحر، ولكن بعد أن فتحوا سورية ومصر
وإفريقية اضطروا إلى استعمال الأساطيل البحرية، وبعد وفاة الرسول بخمس عشرة سنة غزا
معاوية أمير الشام جزيرة قبرص، وفي سنة ٦٦٩ غزا العرب جزيرة صقلية، ومن ذلك الوقت لم
تبرح سواحل سلطنة القسطنطينية عرضة للغارات البحرية الإسلامية، وكانت طوائف الأساطيل
الإسلامية، في بادئ الأمر، جمعًا مؤتشبًا من الأفاقين ومن النصارى الذين أسلموا، ومن
الشذّاذ من كل قوم، ولكن المسلمين فيما بعد تعودوا ركوب البحر والغزو فيه طمعًا في
الغنائم، ومنهم من كان يغزو في البحر جهادًا في سبيل الله وابتغاء الأجر والثواب،
وصاروا يروون أحاديث عن الرسول معناها الحث على الجهاد في البحر، حتى بلغت بهم الحماسة
إلى أن النساء صرن يغزون في البحر، ومنهن «أم حرام» امرأة أحد الصحابة التي ماتت في
غزاة بحرية في قبرص، وقيل: إنه لما ذهب الأسطول الإسلامي يغزو القسطنطينية، كان أحد
أولاد الخليفة عمر حاضرًا، فسأل أمير البحر عن ذنوب الغزاة المجاهدين، فأجابه الأمير
بأن آثامهم معلقة في أعناقهم، فأجابه ابن عمر: والذى نفسي بيده، لقد تركوا آثامهم على
الشاطئ. وعزوا إلى الرسول أنه قال: إن الجهاد في البحر فيه عشرة أمثال أجر الجهاد في
البر.
وكانت الغزوات الإسلامية البحرية، صدر الإسلام، موجهًا أكثرها إلى مملكة الروم، ولما
استولى العرب على مدينة قرطاجنة لم يفكروا في أول الأمر أن يجاهدوا فيما وراء البحر،
ولذلك بنو مدينة القيروان على مسافة بعيدة عن الشاطئ، ولما غزا موسى بن نصير الأندلس
لم
يكن عنده إلا أربع سفن لا غير، كانت تذهب وتجيء لنقل الجنود من إفريقية إلى جبل
طارق.
٢٢٧ وعند ذلك فهم موسى ضرورة بناء الأساطيل وأنشأ دور الصناعة في كثير من مرافئ
الأندلس، وكذلك كانت للعرب مرافئ كثيرة ممتدة من جبل طارق إلى طرابلس الغرب، وسنة ٧٣٦
أنشأ العرب دار صنعة عظيمة في تونس، وكان لهم في الأندلس قائد للبحر اسمه أمير
الماء
٢٢٨ ويظن أن لفظة (أميرال) محرفة عنها، وذكر مؤلفو العرب أن موسى غزا جزيرة
سردانية سنة ٧١٢، وذكر مؤرخو المسيحيين غزاة للعرب في جزيرة كورسكا
٢٢٩ وكانت جزائر سردانية وكورسكا وصقلية تابعة لملك القسطنطينية، ففي البداية
كان العرب يكتفون بانتقاصها من أطرافها ولكن أخذوا فيما بعد يتوغلون في الداخل.
وكان أول نزول العرب في سواحل فرنسة، هو في جزيرة «ليرين»
٢٣٠ بقرب عين الطيب.
٢٣١ وقد اختلف المؤرخون في التاريخ الذي يقال: إن العرب غزوا فيه هذه الجزيرة.
فقالوا: إن ذلك وقع سنة ٧٢٨. وقالوا: بل سنة ٧٣٩ وكان في هذه الجزيرة دير شهير تخرج منه
آباء للكنيسة وأساقفة مشهورون، ويوم كبسه العرب كان فيه خمسمائة راهب آتين من فرنسة
وإيطالية وسائر بلاد أوربة، وكان رئيس هذا الدير القديس «پورسير»
٢٣٢ فلما قرب المسلمون من الدير جمع القديس الرهبان بأجمعهم وقال لهم: إنه يجب
عليهم أن ينتظروا الموت، وإنما أرسل إلى البر الأحداث الذين كانوا يتعلمون في الدير،
فلما نزل المسلمون في الجزيرة فتشوا عن غنائم يأخذونها فلم يجدوا شيئًا ذا بال، فعرضوا
على الرهبان الإسلام، فلم يقبل أحد أن يترك دينه فذبحوهم جميعًا.
ومات شارل مارتل سنة ٧٤١ وخلفه ابنه بيين القصير، واشتغل في توطيد ملكه في شمالي
فرنسة وجنوبيها، بحيث كان يمكن العرب أن يغتنموا هذه الفرصة ويحددوا غاراتهم على جنوبي
فرنسة ويبلغوا منهم مرادهم، ولكن وقع الشقاق بين العرب أنفسهم فعاقهم عن كل عمل من هذا
القبيل، فإن العرب لم يكونوا في هذه الغزوات وحدهم بل كان معهم البربر، وكان القبيلان
في نزاع دائم، كما أنه كان العرب أنفسهم منقسمين إلى يمانيين وهم أبناء قحطان، وإلى
عدنانيين وهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم. وكانت الحروب دائمة بين هذين الشعبين، لشدة ما
عند العرب من العصبية، فبعد أن وقعت في بلاد العرب امتدت إلى مصر والشام ثم الأندلس
وفرنسة.
وفي ذلك الوقت أعفى العرب الأقوام الذين خضعوا لهم وساروا معهم من الجزية التي كانوا
ضربوها عليهم، ومنهم البربر، فاعتاد هؤلاء أن لا يؤدوا شيئًا، إلا أنه في سنة ٧٣٧ عاد
أمير إفريقية فتقاضى البربر الجزية فعصوا عليه، وكانوا أقوامًا أشداء نشأوا على صهوات
الخيول، فلم يقدر الأمير على تدويخهم، واضطر عقبة أمير الأندلس أن يجيز إلى بر العدوة،
أي: إلى إفريقية، لإدخال البربر في الطاعة. وهكذا تمكن شارل مارتل، في غياب عقبة في
إفريقية لإدخال البربر في الطاعة، أن يخضد شوكة العرب في جنوبي فرنسة.
٢٣٣ ثم اشتدت ثورة البربر في إفريقية ظهروا على العرب ولجأ فريق من العرب إلى
الأندلس، وكان العرب والبربر الذين في الأندلس قد تقاسموا الأراضي فيما بينهم، سواء في
الأندلس أو في جنوبي فرنسة، فخافوا من أن هذا الفريق الذي دخل الأندلس من العرب ينازعهم
على الأراضي، وقصدوا أن يجلوهم عن البلاد، وكان الأمير عبد الملك أمير الأندلس عدوًّا
لهؤلاء العرب الذين دخلوا الأندلس، فقتلوه ونصبوا رأسه على جسر قرطبة، وكان في أربونة
أمير اسمه عبد الرحمن، من أنصار عبد الملك فزحف من أربونة بجيش يقال: إنه بلغ مائة ألف
مقاتل، وكان يريد الأخذ بثأر عبد الملك، فوصل إلى قرطبة واقتتل الفريقان ورمى عبد
الرحمن قائد جيش العدو بسهم فقتله، وقفل إلى أربونة بعد أن أخذ بثأر صديقه.
٢٣٤
ولم يكن في وسع الخلفاء في دمشق أن يعيدوا السكون إلى نصابه في بلاد بعيدة كبلاد
الأندلس؛ لا سيما أن الثورات كانت تتوالى في الولايات الشرقية فتشغلهم عن المغرب، وهكذا
تغيرت الحالة في جنوبي فرنسة، وخلا الجو للمسيحيين، برغم قصر باع ببين القصير وفتور
همته، وكان المسلمون الذين في أربونة قد استولوا على مدينة نيم والمدن المجاورة لها،
ولكن الحاميات الإسلامية في تلك المدن أخذت تخف شيئًا فشيئًا، فصار في نيم وفي بيزييه
وفي ماغلون إدارة أهلية مستقلة بعض الشيء، وأصبح لكل من هذه البلدان أمير يدير أمورها
لكنه معترف بسلطان المسلمين.
٢٣٥ ومثل هذا حصل في شمالي إسبانية، أي في أشتورية ونابار وغيرهما.
وفي سنة ٧٤٧ تولى قيادة الأندلس أمير اسمه يوسف
٢٣٦ فأنفذ ابنه عبد الرحمن بجيش، إلى البيرانه، لأجل تدويخ تلك البلاد؛ ولكن
المسيحيين قاوموه بالسلاح مقاومة شديدة، وكانت طرق الاتصال بين مسلمي أربونة وبين
قرطبة، تكاد تكون منقطعة، بسبب جبال البيرانه، ولذلك لم يطل الأمر حتى ابتدأ المسيحيون
في السبتيمانية ينتفضون على المسلمين، وكان يتنازع هذه البلاد، أي المدن السبع،
فيفر
٢٣٧ بن أود دوق أكيتانيا وببين بن شارل مارتل، وكان وببين قد نال من البابا لقب
ملك، وهو اللقب الذي لم ينله أبوه برغم جميع ما بلغه من الشهرة والمكانة.
وفي سنة ٧٥٢ سار وببين بجيش إلى اللانغدوق، واستولى على نيم وأقت وماغلون
وبيزيه.
٢٣٨ وبعد ذلك زحف لحصار أربونة وضيق عليها بجميع قوته، ولما وجد أن أمر حصارها
يطول أبقى جانبًا من عساكره حولها تحت قيادة أمير من أمراء القوط اسمه
أنسماندوس
٢٣٩ إلا أن العرب قتلوا أنسماندوس هذا في كمين عملوه له، وصادف ذلك حصول مجاعة
في جنوبي فرنسة عطلت حركات الجيوش.
وكان بنو العباس في الشرق قد تغلبوا على بني أمية، ونقلوا مركز الخلافة من دمشق إلى
بغداد واستأصلوا الأمويين، وتعقبوهم في كل مكان، ففر منهم واحد إلى إفريقية ومنها أجاز
إلى مالقة فتلقاه عرب الأندلس كمنقذ لهم، وكان اسم هذا الأمير عبد الرحمن
٢٤٠ وكانت هذه الواقعة سنة ٧٥٥ وقد قدر أن يكون على يد هذا الرجل وأعقابه أعظم
مجد ممكن لمسلمي إسبانية، وفي أيامهم تأثلت المدنية العربية في الأندلس تأثلًا لا تزال
له آثار باهرة هناك إلى اليوم، وإلى يوم مجيء عبد الرحمن لم يكن لأمراء المسلمين في
الأندلس شغل إلا بقتال بعضهم بعضًا فلم يؤثروا آثارًا خالدة.
وقد لقي عبد الرحمن نفسه خطوبًا وأهوالًا، وبقي يسكن الثورات ويرتق الفتوق مدة طويلة،
ولكنه تمكن أخيرًا من توطيد سلطته وتمكين استقلاله، واستوسق له أمر الأندلس بتمامها،
إلا أنه لم يقدر أن يتجاوز إلى غيرها، فلذلك تحاشى أن يتلقب بلقب الخليفة واقتصر على
لقب أمير، وبقي أعقابه إلى القرن العاشر مكتفين بهذا اللقب، وإنما كانت عاصمتهم قرطبة
مركزًا للعلوم والصنائع ومبعثًا لأشعة المعارف.
وبعد أن رسخت قدم عبد الرحمن الأموي في الأندلس، فكر في مدينة أربونة وما يليها من
جنوبي فرنسة، وسرح جيشًا تحت قيادة أمير اسمه سليمان، زحف إلى البيرانه أملًا برفع
الحصار عن أربونة، ولكن المسيحيين كبسوهم في تلك الأوعار، فانهزموا هزيمة تامة.
ولما كان جمهور أهالي أربونة من المسيحيين، وقد ضرسهم حصار أربونة بنابه ولم يعد
لهم
طاقة بتحمل تلك الحالة، داخلوا الملك ببين سرًّا على أن ينتفضوا على المسلمين وينضموا
إلى جيشه، بشرط أنهم يكونون في المستقبل أحرارًا في بلدتهم، وتكون إدارة أمورهم بحسب
عرف القوط، وهكذا تم الاتفاق بينهم وبين ببين، فبينما كانت الحامية الإسلامية غافلة عما
يصنعون كبسوها على غفلة منها، وذبحوها بأجمعها، وفتحوا أبواب البلدة للفرنسيس، وكان ذلك
سنة ٧٥٩ فانقرضت حكومة الإسلام من أربونة، وأبقى الملك ببين جيشًا وافرًا لأجل حراسة
البلاد.
٢٤١ أ.هـ. ملخصًا من كلام رينو.