غارات العرب على فرنسة من بعد جلائهم عن أربونة إلى عهد استيلائهم على بروفانس سنة ٨٨٩ مسيحية
قال «رينو»: إن العهد الذي سنتكلم عنه الآن في هذا القسم من تاريخنا مختلف عن العهد الذي تقدمه والذي سردنا وقائعه، فقد ظهر لنا مما تقدم من الوقائع أن العرب في تغلغلهم في فرنسة لم يكونوا مقتصرين على نية الاستيلاء على هذه المملكة فقط، وإدخالها في الإسلام، بل كان هدف رميهم الاستيلاء على سائر أوربة وإضافة هذه القارة التي كادت في زمان الرومانيين تستولى على العالم، إلى سلطنة الإسلام كإحدى مقاطعاتها، ومما لا ينبغي أن ننساه أن قواد الجيش العربي الفاتح كان أكثرهم من الجزيرة العربية والشام والعراق، فكان مركز ديانتهم ومبعث قوتهم في الشرق، ومن الشرق، فكانت جميع أعراقهم تنزع بهم إلى هناك، ولم يكن في نظرهم عقبة كؤود بعد أن قاموا بتلك الفتوحات التي لا نظير لها، وكانوا كلما كانت مملكة أوسع رقعة وأكثر رجالًا وجدوها أصلح للغارة وأجدر بالفتح وبنيل المجد في الدنيا والثواب في الآخرة.
أما العهد الذي سندخل فيه الآن فلا يماثل العهد السابق؛ فإن الأمير الذي بدأ يتولى الأندلس كان بقية عائلة مالكة قد ثلَّ عرشها في الشام وأبيد رجالها بالسيف، ففر شريدًا وانسل وحيدًا إلى إسبانية، وأصبح لا يرى في إفريقية وفي سائر أقسام السلطنة الإسلامية إلا أعداء له ولأهله، ولم تكن الجزيرة الأندلسية بالقطر الذي يمكنه وحده أن يستقل بحملات عظيمة كفيلة بالاستيلاء على الأرض الكبيرة، بل كان المسلمون في ذلك القطر قد دبَّ في جوانبهم الوهن بسبب الفتن الداخلية المستمرة التي كانت بينهم، والتي كانت قد أبادت خضراءهم، وبما تأصل في طباع أهل الأندلس من غريزة حسب الانتقاض على كل سلطة مما اهتبل به المسيحيون، سكان المقاطعات الشمالية، الغرة لأجل الكرة على العرب.
ومما يدلك على بعد المدى الذي تصل إليه أهواء النفوس إذا استحكمت العداوة أن أمراء قرطبة كانوا في نزاع دائم مع خلفاء بغداد، وكان وكد كل من الفريقين النكاية بالآخر، أكثر منه في الفتوحات في بلاد المسيحيين أنفسهم، وبينما كان ملوك قرطبة يراسلون قياصرة القسطنطينية الذين كانوا في حرب مع مسلمي الشام وفارس ومصر كان خلفاء الشرق يعقدون معاهدات مع ملوك الفرنسيس الذين كانوا في حرب مستمرة مع مسلمي الأندلس، وكانت لذلك العهد العلاقات التجارية قد بدأت بين الشرق والغرب وسارت السفن تختلف بين «مرسيلية» و«فريجوس» ومرافئ سورية ومصر؛ لأجل التجارة بالبهارات والطيوب والمنسوجات الحريرية، وانضمت إلى هذه العلاقات التجارية أسباب دينية كان يستهان لأجلها بجميع الأخطار، وذلك أن المسيحيين في الغرب كانوا في أثناء الحروب بينهم وبين المسلمين لا يتأخرون ساعة عن أن يزوروا البقاع المقدسة في فلسطين.
وكان الخلفاء العباسيون يعاملون الدولة الإفرنسية أحسن معاملة، ويتبادلون وإياها التحف والألطاف، وإن كان قد وجد من عمالهم في إفريقية من يشن الغارات على سواحلنا، في الأحايين، فما ذاك إلا لتباعد المسافات بين أولئك العمال وبين مركز الخلافة العباسية.
هذا وقد اتبع شارلمان خطة أبيه «ببين» في هذا المعنى فما استوسق له الأمر حتى أخذ يداخل أمراء الأندلس، من مسلمين ومسيحيين، فكان يقول لهذا الفريق: إنه إنما يريد ليحررهم من طاعة أمير قرطبة ويساعدهم على استقلالهم ويخفض جناح الرحمة لهم، ولذلك الفريق أنه هو حامي النصرانية الطبيعي الناصر للنصرانية الحافظ للكنيسة الأصلية القامع للبدع … إلخ.
وبالاختصار كانت الجهات الشمالية من إسبانية أشبه بالثغور لفرنسة كما كانت بلادًا ثغرية للعرب، وكان العرب يسمونها إفرنجة لكونها طالما ألحقت بمملكة أكيتانيا، وكان شارلمان قد جعل أكيتانيا لابنه لويس الذي جعل كرسي ملكه طلوزة أو طولوز.
وقبل إكمال حديث «رينو» عن عبد الرحمن الأول وعبد الرحمن الثاني رأينا مناسبًا أن نذكر خلاصة تاريخ عبد الرحمن الثاني نقلًا عن نفح الطيب.
وكان عالمًا بعلوم الشريعة والفلسفة وكانت أيامه أيام هدوء وسكون، وكثرت الأموال عنده، واتخذ القصور والمتنزهات وجلب إليها المياه من الجبال، وجعل لفضلها مصنعًا اتخذه الناس شريعة وأقام الجسور، وبُنيت في أيامه الجوامع بكور الأندلس، وزاد في جامع قرطبة رواقين، ومات قبل أن يستتمه، فأتمه ابنه محمد بعده، وبنى بالأندلس جوامع كثيرة، ورتب رسوم المملكة واحتجب عن العامة. قال: وكان كثير الميل للنساء، وولع بجاريته «طروب» وكلف بها كلفًا شديدًا وهي التي بنى عليها الباب ببدر المال حين تجنت عليه وأعطاها حليًّا قيمته مائة ألف دينار. أ.هـ.
وجاء في النفح كلام طويل عن محبة هذا الأمير لطروب ولغيرها من الجواري، ولم يقل: إنه خطب ابنة شارل الأصلع ملك فرنسة، ولم أذكر أن «دوزي» الذي استقصى في الكلام عن عبد الرحمن الثاني وسيرته الشخصية ذكر شيئًا من هذا.
ونعود إلى سياق حديث «رينو» عن أمراء بني أمية ومغازيهم في إفرنجة، فهو يقول: إن عبد الرحمن الداخل كان استخلف ابنه هشامًا من بعده، وأن هشامًا لأول حكمه وجد الفتن مشتعلة في أكثر البلاد، فأراد أن يشغل الأمة عن الفتن الداخلية بجهاد العدو الخارجي؛ لأنه أجمع شيء للكلمة، وكان يريد أن يتلافى ما نقص من المملكة بغارات ببين وشارلمان الأخيرة ويخضد شوكة مسيحيي بلاد استوريش وشمالي الأندلس فأجمع على قتال المسيحيين في كل مكان، وفي أيامه كثرت القالة بأن المسلمين لا يقدرون إلا على قتال بعضهم بعضًا، وأفتى بعض الفقهاء بأنه لا يجب دفع الخراج لأمراء لا يعرفون أن يقاتلوا إلا أمة محمد وحدها، وكانوا يضربون الأمثال في خدمة الإسلام بخلفاء بغداد الذين كانوا يواصلون غزو مملكة القسطنطينية.
ومن المعلوم أن الشعراء لم يكن همهم التدقيق في المسائل التاريخية إذا أرادوا التغني بأحاديث أبطالهم وهاموا في أودية خيالهم، فأما الكتابة التي في دير «مون ماجور» فهي غير صحيحة؛ لأنها تتضمن أن شارلمان بنى ذلك الدير تمجيدًا لواقعة طرد المسلمين من آرل، والحال أن الدير قد بُني بعد ذلك بمئة وخمسين سنة.
وكانت برشلونة كما قال الشاعر «أرلمولدوس نيجلوس»: قد أصبحت للمسلمين معقلًا متينًا، وكانت تصدر عنها فرسان تلك الخيل المشهورة بخفة الحركات، فتبث الغارات في بلاد النصارى وتعود أيديها ملأى بالغنائم، وكانت من المنعة بحيث إن الفرنسيس لبثوا سنتين يحصرونها ويضيقون عليها، ويكتسحون نواحيها، ولكنهم لم يقدروا على دخولها، وقد قسم الفرنج جيشهم إلى ثلاثة أقسام: قسم منهم كان يهاجم برشلونة، وقسم ثانٍ يقوده غليوم كونت طلوزة كان يرابط في الممر الذي تفيض منه جيوش المسلمين الآتية من قرطبة لنجدة برشلونة، وقسم ثالثٌ كان يقوده الملك لويس نفسه، وكان في أعالي جبال البيرانه، يحمل على المسلمين حيث وجد الفرصة ملائمة.
وكان فتح الإفرنج لبرشلونة سنة ٨٠١ مسيحية بعد أن بقيت تسعين سنة في أيدي المسلمين، فلما دخلوها حولوا جوامعها كنائس، وأرسل الملك لويس إلى أبيه شارلمان جانبًا من الغنائم، فيها دروع وخوذ، ومنها خيول مسرجة بأفخر السروج، وبعد ذلك أصبح لفرنسة منطقتان في شمالي إسبانية إحداهما كتالونيا وقاعدتها برشلونة، والثانية غشقونية ومن جملتها ناباره وأراغون.
وفي تلك السنة جاء وفد من قبل هارون الرشيد إلى شارلمان، وكان شارلمان قبل ذلك قد أرسل رسولًا يهوديًّا اسمه إسحق مصحوبًا باثنين من الفرنسيس لأجل السلام من قبله على الخليفة العباسي، وقد أمر شارلمان هذا الوفد بأن يمر بالقدس قبل ذهابه إلى بغداد، وأن يتعهد أحوال زوار المسيحيين لبيت المقدس، ويتوسط لدى الخليفة في تسهيل هذه الزيارة حتى يزداد عدد الزوار والتجار القاصدين إلى البقاع المقدسة، وكان الفرنسيس من عهد أنيبال لم يروا في بلادهم فيلًا، فكان من جملة مهمة هذا الوفد أن يأتوا من الشرق بفيل يبتهج برؤيته أهل فرنسة، فلما وصل الوفد إلى بغداد استقبلهم الخليفة برًّا وترحيبًا ووعد بتسهيل زيارة المسيحيين لبيت المقدس وترفيه مقامهم عندما يردون إليه، ولم يكن في دار الوحوش التي عند الخليفة عندئذ سوى فيل واحد فبعث به هارون الرشيد إلى شارلمان ومعه هدايا أُخَر من منسوجات حريرية وقطنية لم يكن يوجد منها في فرنسة، ومن طيوب ومعطرات وأشياء أخر، وكان من جملة الهدية شمعدان من نحاس أصفر، عظيم الحجم، وساعة من نحاس أصفر أيضًا تتحرك بالماء وتدق اثنتي عشرة مرة بعدد ساعات النهار.
وقد ذكر دوزي الهولندي في «تاريخ الإسلام في إسبانية»: إن عمروس هذا كان من الإسبانيول الذين اتخذوا الإسلام دينًا، والحقيقة أنه لم يكن يهمه لا مذهب ولا مشرب، وإنما كانت تهمه مطامعه الدنيوية، فكاشفه الأمير الحكم بما في نفسه من أمر طليطلة التي كانت لا تنتهي من ثورة إلَّا إلى ثورة، وكانت تأبى الخضوع لوالٍ عربي، وقد أعيى الحكم أمرها، فدبر عمروس هذه المكيدة على أهالي طليطلة بالاتفاق مع الحكم، وكتب الحكم قبل ذلك إليهم قائلًا لهم: إن أعظم دليل على اعتنائنا بشأنكم أننا مرسلون إليكم الآن واليًا من أبناء جنسكم، وقد كان هذا القول صحيحًا لأن عمروس كان إسبانيوليًّا، مهتديًا للإسلام، وذهب عمروس فخدع أهالي طليطلة وتودد إليهم وزعم أنه كاشفهم سرًّا بما في نفسه من الحمية على جنسه، والاستعداد لخلع طاعة السلطان عندما تلوح أول بارقة أمل، وقال لهم: إن أكثر أسباب النزاع بينكم وبين السلطان كانت من قبل الولاة الذين كانوا يتولون طليطلة، فكانوا يضعون الجند في بيوتكم فيسلبون راحتكم، فلو بنينا في طرف من المدينة حصنًا تتخذه ثكنة للعساكر لانحسمت أسباب النزاع بينكم وبين السلطان، فوثق الأهالي بكلام عمروس، وبنوا الحصن واستقر به عمروس. وبعد ذلك أكمل عمروس المكيدة بأنه تواطأ مع السلطان على أن يرسل جيشًا إلى طليطلة بحجة أن العدو تحرك في الثغر فأرسل الحكم جيشًا تحت قيادة ولده عبد الرحمن — وكان في الرابعة عشرة من عمره — فلما وصل الجيش إلى طليطلة أشاعوا أن العدو انقبض إلى بلاده، وأن الجيش سيعود أدراجه إلى قرطبة، ولكن عمروس أشار على أعيان طليطلة بأن يأتوا للسلام على الأمير عبد الرحمن، قيامًا بواجب الحرمة للسلطان، فجاء منهم جمهور وسلموا عليه، واستقبلهم الأمير بالحفاوة والإكرام، وهم دعوه أن يطيل الإقامة عندهم، وتظاهر الأمير بادئ ذي بدء بأنه مضطر لسرعة الأوبة، ولكن أعيان البلدة ألحوا عليه بالتريث عندهم، وأمَّلوا فيه خيرًا كثيرًا، وكانوا مسرورين بكون واليهم الجديد إسبانيوليًّا من جنسهم، وبعد ذلك تقرر إعداد وليمة لأعيان طليطلة وجوارها ولكنها لم تكن مريئة المأكلة، وفي اليوم التالي جاء المدعوون أفواجًا أفواجًا ونزلوا عن ركائبهم وربطوها خارج الحصن، وصاروا يدخلون زرافات، وكان في ساحة الحصن خندق وقف بجانبه جماعة من الجلادين، فكانوا كلما أقبل جماعة يقطعون رؤوسهم ويرمون بها في الخندق، وتم كل هذا وأهل البلدة لا يعلمون بشيء مما جرى داخل الحصن.
وكان هناك طبيب من أهل طليطلة، عظيم الفراسة، لحظ عدم خروج أحد من المدعوين، فسأل الأهالي: هل رأيتم أحدًا من المدعوين إلى الحصن خرج منه؟ فأجابوه: يجوز أن يكونوا دخلوا من هذا الباب وخرجوا من الباب الآخر. فقال لهم الطبيب: بل أظن أنهم لن يخرجوا أبدًا وأنه أتى عليهم القتل. وقال ابن عذارى: إن عدد القتلى يوم الخندق هذا بلغ سبعمائة. وقال النويري وابن القوطية: إنهم أكثر من خمسة آلاف، ولكن من بعد هذه الواقعة سكنت الثورة في طليطلة مدة طويلة. انتهى كلام دوزي.
فهذه كانت عقبى غرام أهل طليطلة بالانتقاض، وعمروس الإسبانيولي هذا الذي دبر هذه المكايد هو الذي خدع أيضًا قواد الفرنسيس وتسلم منهم المواقع التي كانوا فيها، ولا يبعد على رجل كهذا، غدر ذلك الغدر بأهل وطنه، أن يغدر بالفرنسيس.
ولننظر الآن إلى رواية المؤرخ كوندى الإسبانيولي، قال: إن الحكم لم يتمتع طويلًا بالراحة التي كان وطد أطنابها بتعبه وجهاده، ففي سنة ٨٠١ مسيحية وفق ١٨٥ هجرية تحرك ملك أشتورية وأراد التجاوز على المسلمين، ولما كان يعلم نفسه أضعف من أن يقدر عليهم استنجد بشارلمان، وهذا أسرع لنجدته مؤملًا بذلك الاستيلاء على ولايات إسبانية الشمالية وضمها إلى مملكته، فجعلت أمداد شارلمان تثوب إلى الإسبانيول تحت قيادة ولده لويس ملك أكيتانية، فزحف لويس واستولى على مدينة جيرونة، وجاء فحاصر برشلونة، وانضم إليه بهلول بن مخلوق من عمال أمير قرطبة، وسار بالفرنسيس إلى طرطوشة، فزحف الحكم بنفسه ومعه عمروس ومحمد بن مفرج قائد الخيالة الذي كان عظيم الاعتماد عليه نظرًا لدهائه وإقدامه.
ولما وصل إلى سرقسطة ثارت الثورة في طليطلة بما أحرج الأهالي من عسف يوسف بن عمروس الذي كان قبض عليه الأهالي لسوء ملكته فيهم، فاستدعى السلطان والده عمروس، وعهد إليه نظرًا لدربته ودهائه بولاية طليطلة، وأرسل ولده يوسف قائدًا على تطيلة.
ثم أغار الحاكم على نابارة وبنبلونة ودخل وشقة، فخشي الأذفونش على بلاده وحشد عساكره، وزحف إليه يوسف بن عمروس فأوقعه الأذفونش في كمين وأخذه أسيرًا، فدفع عليه أبوه فدية جسيمة حتى أنقذه، وأما الحكم فكان يتوقد صدره إحنة على بهلول عامله الذي انحاز إلى الفرنسيس ومشى بين يديهم، ولما عرف أنه في جوار طركونة عمد إليه من فوره، ولم يزل في أثره حتى ثقفه في طرطوشة بعد أن هزمه، واحتزَّ رأسه، ورجع الحكم إلى قرطبة بدون أن يتعرض لبرشلونة، وذلك خوفًا من الفشل في حصارها.
وقد علق «دومارليس» على روايات كوندي عن هذه الحرب حاشية معناها: أن مؤرخي الفرنسيس يزعمون أن ملك قرطبة بعث إلى شارلمان وفدًا بطلب الصلح، وأنهم وصلوا إلى «أكسلاشابل» وتقرر الصلح على أن ينزل العرب لشارلمان عن جميع البلاد الواقعة بين نهر إيرة والبيرانه، وإن هذه المعاهدة انعقدت سنة ٨١٠.
فدومارليس يستبعد وقوع هذه المعاهدة بكون العرب لم يذكروا عنها شيئًا في تواريخهم ثم بكون لويس بن شارلمان زحف إلى كتلونية عدة مرات من بعد هذا التاريخ، فيرى دومارليس أنه يجوز أن تكون حصلت مهادنة بين الفريقين إلى حد سنة٨٢٠ أو إلى ما بعد ذلك، وأما العرب الذين شوهدوا في أكسلاشابل فربما كانوا من بعض أولئك الولاة المسلمين الذين كانوا ينقضون على ملك قرطبة ويستعينون عليه بالأجانب من قبيل بهلول بن مخلوق الذي تلقى جزاء خيانته من يد الحكم نفسه.
أساطيل الإسلام في الأندلس وإفريقية
قال رينو: وفي تلك الأيام أخذت قوة الإسلام البحرية تزداد وتنبسط في البحر المتوسط بسبب رغبة المسلمين بإنشاء الأساطيل في مرافئ الأندلس وإفريقية، وقد كان لذلك تأثير عظيم في اجتياح المسلمين لجنوبي فرنسة، ولما اقتطع عبد الرحمن الداخل بلاد الأندلس عن خلافة بني العباس وأرسل هؤلاء جيشًا في البحر، أجاز إلى الأندلس لمطاردته، علم عبد الرحمن بأنه لا بد له من قوة بحرية في وجه قوتهم البحرية.
ورأى الإمبراطور شارلمان أن الخطر قد ازداد على بلاده، وأن لا بد له من تدابير بالغة في الشدة لرد غارات المسلمين البحرية، وقد كانت إمارة الأغالبة في إفريقية تابعة للخلافة العباسية في بغداد، فكان أمير القيروان مدة خلافة هارون الرشيد يتحامى سواحل مملكة شارلمان حرمة للعهد الذي كان بين هارون والإمبراطور، ولكن عندما مات الرشيد سنة ٨٠٩ ووقعت الحرب بين ولديه الأمين والمأمون تفصى الأمير الأغلبي من ذلك العهد، وصارت مراسي تونس وسوسة بؤرة قرصان تنبث منها الغارات البحرية. وقيل: إن أمير صقلية كان يشكو إلى رسول قادم من عند الأغالبة عيث القرصان في سواحله، فأجابه الرسول: نعم منذ مات أمير المؤمنين صار الذين كانوا عبيدًا يريدون أن يكونوا أحرارًا، والذين كانوا أحرارًا ولكنهم فقراء يريدون أن يكونوا أحرارًا أغنياء.
وكان القرصان أكثر ما يتعرضون للسفن التي تتردد بالبضائع بين فرنسة وإيطالية من جهة، ومصر والشام وآسيا الصغرى من أخرى، وكان قد انضم إلى قرصان المسلمين قرصان النورمانديين وأخذوا جميعًا يعيثون في السواحل الجنوبية، فأمر شارلمان ببناء الأبراج والحصون في السواحل وعند مَصَابِّ الأنهار، وأنشأ الأساطيل لدفع عوادي القرصان، وجميع هذه الروايات جاءت في مجموعة الدون بوكيه.
باسم ربنا الإله وباسم مخلصنا يسوع المسيح، من لويس الإمبراطور السعيد بالنعمة الإلهية إلى الأساقفة والشعب في ماردة، قد اتصل بنا ما تقاسونه من العذاب من جهة الملك عبد الرحمن الذي لا يزال يرهقكم عسرًا متبعًا في ذلك طريقة أبيه أبولاز الذي كان يبتزكم أموالكم والذي كان جعل أصدقاءه أعداء وجعل الطائع عاصيًا، فاليوم يريدون أن يحرموكم حريتكم وأن يثقلوا كواهلكم بالضرائب وأن يمسوا كرامتكم ويهينوكم، وقد علمنا أنكم أبيتم تحمل الإهانة ودفعتم عنكم ظلم ملوككم ووقفتم في وجه طمعهم وغدرهم، وقد جاءنا هذا الخبر من مصادر عدة، فرأينا أن نكتب هذا الكتاب لتعزيتكم على ما أنتم فيه ولتحريضكم على الثبات في خطتكم هذه، ولما كان هذا الملك البربري عدوًّا لنا، كما هو عدو لكم، فإننا حاضرون للاشتراك معكم في قتاله. ومرادنا في هذا الصيف بعون الله تعالى أن نرسل جيشًا يجتاز البيرانه ويكون حاضرًا للعمل بإشارتكم، فإن كان عبد الرحمن سيزحف إليكم فيكون جيشنا بالمرصاد له، وترانا نعلمكم من الآن أنكم إن كنتم تخلعون طاعة عبد الرحمن وتصيرون من رعايانا فنحن حاضرون أن نعيد إليكم حريتكم الأولى، بدون مساس بها وبدون أن نطالبكم بأدنى مال تؤدونه لنا، وأنتم تختارون القانون الذي تريدون أن تسيروا عليه، ونحن نعاملكم كأصدقاء يريدون أن يشتركوا في الدفاع عن سلطتنا ونسأل الله أن يسبغ عليكم أثواب العافية. انتهى.
ولا يخفى أن هذه الوقائع كانت تتراكم كلها في أيام الإمبراطور لويس الحليم الذي كان هو بنفسه قائل الرأي ضعيف العزيمة سيئ الإدارة فاقد الإرادة، قسم مملكته بين أولاده الثلاثة، وسلم إلى كل حصته، ثم بدا له أن يعيد القسمة وأن يجعل نصيبًا لولده الرابع، فثار أولاده عليه وقاتلوه وخلعوه، ورجع إلى العرش، ولكن لم ترجع مهابته وامتلأت أيامه بالفتوق والآفات بحيث إنه أصدر سنة ٨٢٨ منشورًا يقول فيه: إن المجاعة والطاعون وسائر أصناف الآفات السماوية انقضَّت على شعوب سلطنتنا مما يدل على غضب الله تعالى من أعمالنا غير المستقيمة، ثم أمر الإمبراطور بصيام عام وباجتماع الأساقفة في أربع حواضر، منها مدينة طلوزة، وذلك لأجل المذاكرة في التدابير اللازمة لمعالجة هذه الحال.
أما العلاقات التجارية، بين مملكة شرلمان وبين مصر والشام، فلم تنقطع في وقت من الأوقات، وفي سنة ٨٣١ تجددت المواصلات بين الخلافة العباسية والسلطنة الغربية، وقد تقدم وفد من قِبل الخليفة المأمون إلى فرنسة مؤلَّف من ثلاثة، اثنان منهما مسلمان والثالث مسيحي، وجاءوا إلى الإمبراطور بهدايا منها منسوجات فاخرة ومنها أفاويه عاطرة.
ولم تكن الأندلس بأسعد حالًا في تلك الأيام؛ لأن الفتن كانت تصطلمها، والآفات تنيخ عليها بكلكلها فانضم إلى الفتن المجاعة والقحط والجراد وغزو النورمنديين الذين أخذوا ينزلون في أشبونة وأشبيلية ويفسدون في أرضهما.
وفي سنة ٨٥٠ وقعت نكبة على مسيحيي الأندلس، وحصلت حوادث في قرطبة وصل خبرها إلى فرنسة، وتحرير الخبر أن الشرع الإسلامي يطلق لأهل الذمة الحرية الدينية ولا يجبرهم إلا على أداء الجزية، ولكن إذا تزوج مسلم بمسيحية فالأولاد يجب أن ينشأوا على دين الأب، كذلك إذا أسلم مسيحي أو مسيحية فأولاده معدودون من المسلمين إذا كانوا قاصرين، فإذا بلغوا سن الرشد وأرادوا الرجوع عن الإسلام فلا يحق لهم، وكذلك إذا قذف أحد المسيحيين نبي الإسلام فليس أمامه سوى الإسلام أو الموت.
فكان لهذه الحادثة صدى بعيد وثارت من أجلها الخواطر، وكان المسيحيون كثيري العدد في الأندلس وفي نفس قرطبة مركز السلطنة وكان المسلمون تركوا لهم كثيرًا من كنائسهم وأديارهم، وكانت لهم أديار للرهبان وأخرى للراهبات، وكان من المسيحيين كثير من المستخدمين في القصر الملكي لا سيما أن القصر كان يحتوي عددًا عظيمًا من الصقالبة، فكثرت من أجل ذلك المنازعات الدينية وصارت تتقدم الشكايات على بعض المسيحيين بأنهم قذفوا بالرسول فيؤتى بهم إلى القاضي فيسألهم فلا ينكرون، فيحكم القاضي عليهم بالقتل، ولأجل أن لا يأخذ المسيحيون أجسادهم ويحنطوها ذخائر كان الحكام يحرقون أجساد المحكوم عليهم بالقتل ويرمون رمادها في النهر، وقيل: إنهم كانوا يطرحون بعضها للكلاب.
وأخيرًا عقد أساقفة المسيحيين مجمعًا قرروا فيه أن التحرش بهذا الموضوع أي القذف بنبي الإسلام عمدًا، حبًّا بالقتل ونيل الشهادة، هو مخالف لروح الإنجيل، ثم إن الملك شارل الأصلع تدخل في هذه المسألة، بناء على التماس المسيحيين منه؛ لأنه قد أصابهم في البلدان الشمالية من إسبانية ما أصابهم في قرطبة.
ولما تفاقم هذا الأمر اشتد غضب عبد الرحمن الثاني على المسيحيين، وطرد من قصره جميع الذين كانوا مستخدمين فيه منهم، ثم مات عبد الرحمن سنة ٨٥٨ وخلفه ابنه محمد، وفي أولى أمره شدد أيضًا في معاملة المسيحيين حتى فكر في إخراجهم جميعًا من مملكته، ولكنه عاد فعدل عن فكره بسبب توالي الثورات وعدم مؤاتاة الوقت له، وكانت الحرب لا تزال مشتعلة في كتلونية، وكان موسى أمير سرقسطة قد ظفر بالمسيحيين في بعض الوقائع إلا أنه انكسر في آخر الأمر وتغلب عليه ملك أشتورية فعزله الأمير محمد من إمارة سرقسطة، فاستشاط غضبًا وانحاز إلى المسيحيين، وزوج ابنته بغرسية ملك ناباره، وثارت في أثناء ذلك مدينة طليطلة.
ثم إن المسلمين غزوا أيضًا جزيرتي سردانية وكورسيكة، واشتدت الفوضى وانتشر الحبل في بلاد فرنسة، فكنت ترى الكنائس مهدمة والمدن خرابًا واللصوص أسرابًا والناس يتركون ديارهم ويضربون في الأرض طلبًا للأمان، ومنهم من فضل الموت على ترك أرضه، ومن الأهالي من كان ينضم إلى الغزاة طمعًا في السلب.
وبينما الحال هكذا في فرنسة لم تكن الأندلس بأسعد منها، إذ ثار فيها رجل يقال له: عمر بن حفصون — كان مسيحيًّا فأظهر الإسلام — وأعصوصب حوله جيش من اللصوص وقطَّاع الطرق، فثار على الأمير محمد وجاذبه الحبل وصارت الأندلس في أمر مريج، واضطر الأمير إلى مسالمة ملك فرنسة شارل الأصلع ليتفرغ لأمر ابن حفصون، وجاءت رسل شارل إلى قرطبة وكان ذلك سنة ٨٦٦ وتقرر أن تبقى كتلونية بيد الفرنسيس، وعاد رسل شارل بهدايا ثمينة من قرطبة ومعهم إبل بحدائج مزينة، وهكذا تقضي حوادث الزمن على الملوك بمصافاة ذوي الشحناء ومهاداة الأعداء.
ومات شارل الأصلع سنة ٨٧٦ وكان ناويًا أن يذهب بجيش إلى إيطالية التي كان المسلمون قد استولوا على نواحيها الجنوبية وأصبح بسبب ذلك البابا في رومة تحت الخطر، وبرغم توالي غزوات المسلمين والنرمنديين كان الشقاق بين أمراء فرنسة لا يزال قائمًا قاعدًا، حتى نهكت قوى البلاد بأجمعها، ولم يبقَ إلا أمل ضعيف يمسك بحشاشتها، وبلغ اختلاف الكلمة وتشظى العصا أقصى ما يتصور العقل.
هوامش
قلت: إن العرب يسمون شارلمان قارله كما كانوا يسمون جده شارل مارتل وسيأتي ذكر قصة الأمير سليمان هذا — الذي ملأ شارلمان على قومه — وكيف انتهى أمره.
وجاء في كتاب «أخبار مجموعة» الذي تقدم ذكره في أخبار عبد الرحمن الداخل: ثار عليه العلاء بن مغيث اليحصبي، ويقال حضرمي وسود (يعني دعا لبني العباس الذين كان شعارهم السواد) ودعا إلى طاعة أبي جعفر، وكان قد بعث إليه بلواء أسود في سن قناة، قد أدخله في أهليجة وطبع عليه، فأخرجه العلاء فجعله في رمحه وقام به في جند مضر وساعده على غيه واسط بن مغيث الطائي وأمية بن قطن الفهري فأقبلت اليمانية حتى صاروا بأشبيلية فاتهموا أمية بن قطن فأخذوه وكبلوه، وخرج الأمير إليهم، واجتمعت إليه الحشود، وأقبل حتى نزل بقرية القوم بقلعة رعواق وأقبل غياث بن علقمة اللخمي من شذونة ممدًا لهم، فلما سمع بخبره الأمير بعث إليه بدرًا مولاه في قطيع من عسكره فقطع به فنزل في الولجة التي بين وادي إيره والنهر الأعظم، ونازله بدر فتراسلا حتى انعقد بينهما صلح، ورجع غياث بن علقة اللخمي إلى بلده، ورجع بدر إلى الأمير، فلما بلغ القوم الخبر قالوا: ليس لنا إلا مدينة قرمونة فعبوا على الخروج إليها ليلًا، وجاء الخبر إلى الأمير فبعث بدرًا، وقال له: ابتدر إلى المدينة، وارفع رأس قبتك على باب قرمونة واجمع إليك أهل الطاعة إلى أن نوافيك غدوة، وركب الأمير من سحر طويل فأصبح على ظهر وتباطأ القوم فأصبح القوم في الشعراء تحت قرمونة، فلما نظر إلى القبة مضروبة على باب المدينة علم أنهم قد بدروا إليها، فماجوا وتطلعت عليهم خيل العسكر، فانهزموا وقتلوا قتلا ذريعًا، وأصيب أمية بن قطن مكبلًا فمنَّ عليه الأمير وأطلقه وقطف من رؤوسهم سبعة آلاف رأس فميز رؤوس المعروفين ورأس العلاء ومثله، ثم كتب باسم كل واحد بطاقة ثم علقت من أذنه، ثم أجزل العطية لمن انتدب لحمل تلك الرؤوس إلى إفريقية فجمعها في أخرجة وركب فيها البحر حتى انتهى إلى القيروان، فطرحها ليلًا في السوق، فلما أصبح الناس وجدوها ووجدوا كتابًا مكتوبًا بالخبر في الخرج، فانتشر ذلك حتى بلغ أبا جعفر. انتهى
قال صاحب أخبار مجموعة: فثأر أهل جليقية على المسلمين وغلظ أمر علج يقال له: بلاي قد ذكرناه في أول كتابنا فخرج من الصخرة، وغلب على كورة وستورس ثم غزاه المسلمون من جليقية وغزاه أهل أستورقة زمانًا طويلًا حتى كانت فتنة أبي الخطار وثوابة فلما كان في سنة ١٣٣ هزمهم وأخرجهم عن جليقية كلها وتنصر كل مذبذب في دينه وضعف عن الخروج وقتل من قتل … إلخ، ولا مانع من أن يكون في الذين هاجروا من شمالي إسبانية إلى فرنسة أناس أصلهم من المسلمين.
قلت: وأما كون عبد الرحمن فتح البلاد بنفسه ودوخها بصرامته، ولم يستغن في ذلك كما قال «رينو» عن إرهاف الحد، فلننقل في هذا الموضوع ما جاء في النفح عن ابن حيان: ولما ألفى الداخل الأندلس ثغرًا قاصيًا غفلًا عن حلية الملك عاطلًا أرهف أهلها بالطاعة السلطانية وحنكهم بالسيرة الملوكية، وأخذهم بالآداب فأكسبهم عما قليل المروءة، وأقامهم على الطريقة، وبدأ فدون الدواوين، ورفع الأواوين، وفرض الأعطية، وعقد الألوية، وجند الأجناد ورفع العماد وأوثق الأوتاد، فأقام للملك آلته وأخذ للسلطان عدته، فاعترف له بذلك أكابر الملوك وحذروا جانبه وتحاموا حوزته.
ولم يلبث أن دانت له بلاد الأندلس واستقل له الأمر فيها، فلذلك ظل عدوه أبو جعفر المنصور بصدق حسه وبُعد غوره وسعة إحاطته، يسترجح عبد الرحمن كثيرًا ويعد له بنفسه ويكثر ذكره ويقول: لا تعجبوا لامتداد أمره مع طول مراسه وقوة أسبابه، فالشأن في أمر فتى قريش الأحوذي الفذ في جميع شؤونه وعدمه لأهله ونشبه وتسليه عن جميع ذلك ببعد مرقى همته ومضاء عزيمته حتى قذف نفسه في لجج المهالك لابتناء مجده، فاقتحم جزيرة شاسعة المحل نائية المطمع عصبية الجند، ضرب بين جندها بخصوصيته وقمع بعضهم ببعض بقوة حيلته واستمال قلوب رعيتها بقضية سياسته حتى انقاد له عصيهم وذل له أبيهم فاستولى فيها على أريكته ملكًا على قطيعته قاهرًا لأعدائه حاميًا لذماره مانعًا لحوزته خالطًا الرغبة إليه بالرهبة منه، إن ذلك لهو الفتى كل الفتى لا يكذب مادحه. انتهى.
قلت: وكان المنصور يلقب عبد الرحمن الداخل بصقر قريش وسنذكر في الجزء التالي كلامًا آخر للمنصور عنه في هذا المعنى.
قلت: لعل المقري يعني بلذريق بن قارله لويس بن شارلمان.
وقال كوندي عن هذه الواقعة: إن الحكم سار إلى العصاة بنفسه برغم رجاء ابنه وكبار قواده أن لا يغامر بنفسه وأوقع بالثائرين حتى امتلأت الشوارع بجثث القتلى، ولكن الذين لبثوا داخل البيوت لم يصبهم شيء، وقبض الحكم على ثلاثمائة من الثوار وصلبهم على النهر، ثم أمر بدك حارة الربض كلها بعد أن أمر بنهبها ولكنه أمر بعدم التعرض للنساء، وما زال السيف عاملًا في الثوار إلى اليوم الثالث فعفا عمن بقي منهم في الحياة بشرط أن يخرجوا من قرطبة مع عائلاتهم، فرحل جانب من هؤلاء المساكين إلى طليطلة، وأجاز نحو من ثمانية آلاف إلى بر العدوة حيث تقبلهم إدريس بن إدريس في فاس وبنوا حارة فيها هي مبدأ سكنى الأندلسيين بفاس، وسار منهم خمسة عشر ألفًا إلى الإسكندرية ودخلوا البلدة واستولوا عليها، فلجأ عامل الخليفة المأمون على مصر إلى مصالحتهم وأدى لهم جانبًا من المال على أن يذهبوا ويستعمروا إحدى جزر بحر يونان، فاختاروا أقريطش، وكان المعمور منها قليلًا فنزلوا بها وكان زعيمهم منذ برحوا قرطبة أبو حفص عمر بن شعيب فجعلوه أميرًا عليهم ثم انضم إليهم كثير من المصريين والشاميين والعراقيين، وأخذوا يغزون في البحر ويغنمون ثم كان بناؤهم مدينة «قنديا».
وروى المسيو شينيه chenier أن الذي بنى قنديا هو أحد قواد الأمير عبد الله بن عبد الرحمن وكان اسمه «كندش» Candax.
فإنه بعد موت سيده فارق الأندلس خشية انتقام الحكم منه وقد ذكر كوندي رواة هذه الحادثة الحميدي ومحمد بن هشام وغيرهما، وأما دوزي فقال: إن عدد الذين نزلوا من الربضيين بالإسكندرية كان ١٥ ألفا عدا النساء والأولاد، وكانت أمور مصر يومئذ مختلة فلم يقدر العامل على منعهم من النزول، واتفقوا أولًا مع قبيلة من عرب الضواحي إلى أن تمكنوا، فاقتتلوا مع هؤلاء العرب وهزموهم واستولوا على الإسكندرية، فأرسل الخليفة المأمون جيشًا قاتلهم فقاتلوه وثبتوا إلى سنة ٨٢٦ مسيحية إلا أن عمال الخليفة تغلبوا أخيرًا عليهم فخرجوا إلى جزيرة أقريطش التي كان منها جانبًا تابعًا للقسطنطينية فاستولوا عليها وأسس قائدهم أبو حفص البلوطي — من فحص البلوط — دولة استمرت في أقريطش (أو كريت) إلى سنة ٩٦١ إذ عاد الروم فافتتحوا الجزيرة. أ.هـ
وجاء في الأنسيكلوبيديا الإسلامية باللغة الإفرنسية أن المسلمين احتلوا جزيرة أقريطش سنة ٦٧٣ مسيحية، ولكن المعلومات قليلة عن هذا الدور الأول من احتلالهم، ثم إنه في سنة ٨٢٥ استولى على هذه الجزيرة أبو حفص عمر بن شعيب البلوطي وذلك على أثر وقعة الربض في قرطبة وإجلاء الحكم الأموي أهل الربض ومجيئهم إلى الإسكندرية، فجاءوا إلى جزيرة أقريطش فافتتحوها كلها ما عدا أرض سفاكيا، وأرسل ملوك بيزنطية مرارًا بالجيوش لطرد المسلمين من هناك فلم يتمكنوا من ذلك وبقيت هذه الإمارة الإسلامية في كريت ١٣٥ سنة ثم بنى المسلمون عند رأس «شاراكس» عاصمة لهم سموها قانديا وصار هذا الاسم عامًّا لأقريطش.
وسنة ٩٦١ جاء القائد البيزنطي نيقوفور فوكاس وحاصر قانديا واستفتحها بعد حصار عدة أشهر واستصفى الجزيرة وأخذ آخر أمراء المسلمين على الجزيرة عبد العزيز أسيرًا، ومات في القسطنطينية، ودخل في خدمة ملك الروم انبه أنماس وفارق الإسلام هذه الجزيرة إذ جلا المسلمون عنها، ومن اختار البقاء تنصر.
أما استيلاء الأتراك العثمانيين على كريت فبدأ سنة ١٦٤٥ وانتهى سنة ١٦٦٧ وبقيت للبنادقة بعض مدن فسقطت في أيدي الترك سنة ١٧١٥. أ.هـ.
وقال ياقوت في معجم البلدان: أقريطش بفتح الهمزة وتكسر، والقاف ساكنة والراء مكسورة وياء ساكنة وطاء مكسورة وشين معجمة اسم جزيرة في بحر المغرب يقابلها من بر إفريقية لوبيا، وهي جزيرة كبيرة فيها مدن وقرى وينسب إليها جماعة من العلماء، قال أحمد بن يحيى بن جابر (يعني البلاذري): غزا جنادة بن أبي أمية الأزدي جزيرة أرواد في سنة ٥٤ في أيام معاوية ثم غزا أقريطش فلما كان في أيام الوليد فتح بعضها ثم أغلق، وغزاها حميد بن معيوف الهمداني في خلافة الرشيد ففتح بعضها، ثم غزاها في خلافة المأمون أبو حفص عمر بن عيسى الأندلسي المعروف بالأقريطشي فافتتح منها حصنًا واحدًا ونزله ثم لم يزل يفتح شيئًا بعد شيء حتى لم يبق فيها من الروم أحدًا وخرب حصونهم، وذلك في سنة ٢١٠ في أيام المأمون (هذه رواية البلاذري في «فتوح البلدان» عند ذكر فتح الجزائر البحرية).
وقال غير البلاذري: فُتحت أقريطش في أول أيام المأمون، وقيل فُتحت بعد ٢٥٠ على يد عمر بن شعيب المعروف بابن الغليظ، وكان من أهل قرية بوطروح من عمل فحص البلوط من الأندلس وتوارثها عقبة سنين كثيرة، وقال ابن يونس: كان أول من افتتحها شعيب بن عمر بن عيسى، وكان سمع يونس بن عبد الأعلى وغيره بمصر، ثم ندب لفتحها فسار إليها حتى افتتحها، وكانت من أعظم بلاد المسلمين نكاية على الروم إلى أن أناخ عليها نقفور بن الفقاس الدمستق في خلافة المطيع، وتملك أرمانوس بن قسطنطين في آخر جمادى الأولى سنة ٣٤٩ في اثنين وسبعين ألفًا منهم خمسة آلاف فارس، ولم يزل محاصرًا لها حتى فتحها عنوة بالحرب والجوع في نصف المحرم سنة ٣٥٠ فقتل ونهب وسبى، وأخذ صاحبها عبد العزيز بن شعيب من ولد أبي حفص عمر بن عيسى الأندلسي وأمواله وبني عمه، وحمل ذلك كله إلى القسطنطينية، وقيل: إنه حمل إلى القسطنطينية من أموالها وسبى أهلها نحوًا من ثلاثمائة مركب وهدموا حجارة المدينة وألقوها في المينا الذي دخلت مراكبهم فيه، لئلا يدخل فيه بعدهم عدو، وهي إلى الآن بيد الإفرنج، ونسب إليها بعض الرواة منهم محمد بن عيسى أبو بكر الأقريطشي حدَّث بدمشق عن محمد بن قاسم المالكي روى عنه عبد الله بن محمد النسائي المؤدب. قاله أبو القاسم. انتهى
وقال ابن عميرة في بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس: عمر بن شعيب، أبو حفص، المعروف بالغليظ البلوطي من أعمال فحص البلوط المجاور لقرطبة، ذكره أبو محمد بن حزم وقال: إنه كان من عمل الربضيين وأنه الذي غزا أقريطش وافتتحها بعد الثلاثين ومائتين وتداولها بنوه بعده إلى أن كان آخرهم عبد العزيز بن شعيب الذي غنمها في أيامه أرمانوس بن قسطنطين ملك الروم سنة ٣٥٠ وكان أكثر المفتتحين لها معه أهل الأندلس. هكذا قال. وذكره سعيد بن يونس فقال: شعيب بن عمر بن عيسى أبو عمر صاحب جزيرة أقريطش كان تولى فتحها بعد سنة ٢٢٠، وقد كان كتب شعيب هذا بالعراق، وكتب عن جده يونس بن عبد الأعلى وغيره بمصر أيضًا. هذا آخر كلام ابن يونس، فقد اختلفا في اسمه أولًا فقال أحدهما: عمر بن شعيب. وقال الآخر شعيب بن عمر، ووصفاه بالفتح، ولولا ذلك لقلنا: إن أحدهما ابن الآخر، ويحتمل أن يكونا حضرا الفتح. انتهى.
وجاء في صبح الأعشى أن عبد الله بن أبي سرح أمير مصر كان افتتح أقريطش وبقيت بأيدي المسلمين حتى تغلب عليها النصارى في سنة ٣٤٥.
وقال ابن حوقل: وكانت أقريطش وقبرص للمسلمين وأبناء المجاهدين، فداخل أهلها من الحسد والنكد ما داخل أهل الثغور الجزرية والشامية وأهل ذلك البلد من الفسق والفساد والشح والعناد والغيلة والسفاد فجعلوا عبرة للمعتبرين وموعظة للناظرين، ولا يصلح الله عمل المفسدين ولا يضيع أجر المحسنين.
وقال في محل آخر: وكان للمسلمين في بحر الروم غير جزيرة جليلة وناحية مشهورة فاستولى العدو عليها مثل قبرس وأقريطش، وكانتا جزيرتين كثيرتي الخير والمسير والتجارة الوارد منها والصادر عنها، وكانوا يغزون بلاد النصرانية وينكون فيها النكاية الظاهرة يوجلها لهم قربهم من مطالبهم ومجاورتهم بمساكنهم فصمدت النصارى صمدها ووكدت وكدها إلى أن ملكتها جميعًا، وكانت قبرص على غير ما كانت عليه أقريطش من موافقة كانت بينهم وبين المسلمين فيها، وذلك أنها قسمان، فكانت نصفًا للمسلمين ونصفًا للنصرانية، وكان للمسلمين بها أمير وحاكم، وجزيرة أقريطش حرة مذ كانت فتحت، لم يكن للنصرانية فيها مدخل ولا مخرج إلا على طريق الجهاد أو في حين الهدنة والمسالمة يدخلونها على شرائط بينهم. انتهى
ثم إنه قد ذكر المسعودي في مروج الذهب أن الخليفة المستعين بالله نفى أحمد بن الخصيب إلى أقريطش سنة ٢٤٨.
ومما يتعلق بجزيرة أقريطش عبارة لابن جبير الأندلسي في كلامه على جزيرة صقلية فقد ذكر أنه صادف رجلًا مسلمًا في مدينة أطرابونش كان قد تحول إلى النصرانية وذكر أنه قد يعرض للمسلمين هناك من الفتنة في دينهم ومن أسباب النكال ما يدعوهم إلى فراق الإسلام، قال: فمنها قصة اتفقت في هذه السنين القريبة لبعض فقهاء المدينة التي هي حضرة الطاغية، ويُعرف بابن زرعة، ضغطته العمال بالمطالبة حتى أظهر فراق دين الإسلام والانغماس في دين النصرانية، ومهر في حفظ الإنجيل ومطالعة سير الروم وحفظ قوانين شريعتهم، فعاد في جملة القسيسين الذين يستفتون في الأحكام النصرانية، وربما طرأ حكم إسلامي فيستفتى أيضًا فيه لما سبق من معرفته بالأحكام الشرعية، وكان له مسجد بإزاء داره أعاده كنيسة نعوذ بالله. ومع ذلك فأعلمنا أنه يكتم إيمانه فلعله داخل تحت الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ.
قال ابن جبير: ووصل هذه الأيام إلى هذه البلدة زعيم أهل هذه الجزيرة من المسلمين القائد أبو القاسم بن حمود المعروف بابن الحجر، وهذا الرجل من أهل بيت توارثوا السيادة كابرًا عن كابر، وهو مع ذلك من أهل العمل الصالح كثير الصنائع الأخروية من افتكاك الأسرى وبث الصدقات في الغرباء والمنقطعين من الحجاج فارتجت هذه المدينة لوصوله، وكان في هذه المدة تحت هجران من هذا الطاغية ألزمه داره بمطالبة توجهت عليه من أعدائه افتروا عليه أحاديث مزورة نسبوه فيها إلى مخاطبة الموحدين — أيدهم الله — فكادت تقضي عليه لولا حارس المدة، وتوالت عليه مصادرات أغرمته نيفًا على الثلاثين ألف دينار مؤمنية ولم يزل يتخلى عن جميع دياره وأملاكه الموروثة عن سلفه حتى بقي بدون مال، فاتفق في هذه الأيام رضى الطاغية عنه وأمره إياه بالنفوذ لمهم من أشغاله السلطانية، فنفذ لها نفوذ المملوك المغلوب على نفسه وصدرت عند وصوله إلى هذه البلدة رغبة منه في الاجتماع بنا فاجتمعنا به فأظهر لنا من باطن حاله وبواطن أحوال هذه الجزيرة ما يبكي العيون دمًا، فمن ذلك أنه قال كنت أورد لو أُباع أنا وأهل بيتي لعل البيع كان يخلصنا مما نحن فيه ويؤدي بنا إلى الحصون في بلاد المسلمين، فتأمل حالًا يؤدي بهذا الرجل مع جلالة قدره إلى أن يتمنى مثل هذا التمني مع كونه مثقلًا عيالًا بنين وبنات، فسألنا الله عز وجل له حسن التخليص مما هو فيه ولسائر المسلمين من أهل هذه الجزيرة وفارقناه باكيًا مبكيًا، واستمال نفوسنا لشرف منزعه وخصوصية شمائله وكنا أبصرنا له ولأخوته بالمدينة ديارًا كأنها القصور المشيدة، وشأنهم بالجملة كبير، وكانت له أيام مقامه هنا أفعال جميلة مع فقراء الحجاج أصلحت أحوالهم ويسرت لهم الكراء والزاد والله ينفعه بها ويجازيه الجزاء الأوفى.
قال ابن جبير: ومن أعظم ما مني به أهل هذه الجزيرة أن الرجل ربما غضب على ابنه أو على زوجته أو تغضب المرأة على ابنتها فتلحق المغضوب عليه أنفة تؤديه إلى التطارح في الكنيسة، فينتصر ويتعمد، فلا يجد الأب للابن سبيلًا ولا الأم للبنت سبيلًا، فتخيل حال من مني بمثل هذا في أهله وولده يقطع عمره متوقعًا لوقوع هذه الفتنة فيهم وأهل النظر في العواقب منهم يخافون أن يتفق على جميعهم ما اتفق على أهل جزيرة أقريطش في المدة السالفة، فإنه لم تزل بهم الملكة الطاغية بالاستدراج الشيء بعد الشيء، حالًا بعد حال حتى اضطروا إلى التنصر عن آخرهم، وفر منهم من قضى الله بنجاته.
قال: ومن عظم هذا الرجل الحمودي المذكور، في نفوس النصارى، أنهم يزعمون أنه لو تنصر لما بقي في صقلية مسلم. قال: ومن أعجب ما شهدناه من أحوالهم التي تذيب القلوب رأفة وحنانًا أن أحد أعيان هذه البلدة وجه ابنه إلى أحد أصحابنا الحجاج راغبًا في أن يقبل منه بنتا بكرًا صغيرة السن قد راهقت الإدراك فإن رضيها تزوجها وإن لم يرضها زوجها ممن يرضاه من أهل بلده؛ وذلك طمعًا في التخلص من هذه الفتنة ورغبة في الحصول في بلاد المسلمين، وطال عجبنا من حال تؤدي السماح بمثل هذه الوديعة المعلقة وإسلامها إلى يد من يغربها واحتمال الصبر عنها ومكابدة الشوق إليها، كما أنا استغربنا حال الصبية ورضاها بفراق أهلها رغبة في الإسلام واستمساكًا بعروته الوثقى، وكان استشارها الأب في ما همَّ به فقالت: إن أمسكتني فأنت مسؤول عني. انتى باختصار.
وقد أوردنا هذه الأماثيل ليعلم القارئي كيفية تلاشي الإسلام من أقريطش وصقلية وغيرهما من جزائر البحر المتوسط وبعد ذلك من الأندلس، وذلك بعد فقد المسلمين استقلالهم وسلطانهم السياسي، والدين لا يمكن حفظه بلا دنيا كما قلنا ذلك مرارًا.
قالوا: غزا معاوية بن حديج الكندي أيام معاوية بن أبي سفيان صقلية، وكان أول من غزاها، ولم تزل تغزى بعد ذلك فقد فتح آل الأغلب بن سالم الإغريقي منها نيفًا وعشرين مدينة، وهي في أيدي المسلمين (أي في القرن الثالث للهجرة) وفتح أحمد بن محمد بن الأغلب منها في خلافة أمير المؤمنين المتوكل على الله قصريانة وحصن غليانة. وقال الواقدي: سبى عبد الله بن قيس بن مخلد الدرقي صقلية فأصاب أصنام ذهب وفضة مكللة بالجوهر فبعث بها إلى معاوية فوجه بها معاوية إلى البصرة لتحمل إلى الهند فتباع هناك ليثمن بها. قالوا: وكان معاوية بن أبي سفيان يغزي برًّا وبحرًا فبعث جنادة بن أبي أمية الأزدي إلى رودس، وجنادة أحد من روي عنه الحديث، ولقي أبا بكر وعمر ومعاذ بن جبل ومات في سنة ٨٠ ففتح رودس عنوة وكانت غيضة في البحر وأمره معاوية فأنزلها قومًا من المسلمين وكان ذلك في سنة ٥٢.
قالوا: ورودس من أخصب الجزائر وهي نحو من ستين ميلًا فيها الزيتون والكروم والثمار والمياه العذبة. قال البلاذري: وحدثني محمد بن سعد عن الواقدي وغيره قالوا: أقام المسلمون برودس سبع سنين في حصن اتخذ لهم، فلما مات معاوية كتب يزيد إلى جنادة يأمره بهدم الحصن وبالقفل، وكان معاوية يعاقب بين الناس فيها وكان مجاهد بن جبر مقيمًا بها يُقرئ الناس القرآن، وفتح جنادة بن أبي أمية في سنة ٥٤ أرواد وأسكنها معاوية المسلمين وكان ممن فتحها مجاهد، وتبيع ابن امرأة كعب الأحبار وبها أقرأ مجاهد تبيعًا القرآن. ويقال: إنه أقرأه القرآن برودس. وأرواد جزيرة بالقرب من القسطنطينية (إن جزيرة أرواد هي قبالة طرطوس بالقرب من طرابلس الشام فإما أن يكون وقع خطأ من البلاذري في تعيين موقع أرواد وإما أن يكون المقصود بأرواد هذه جزيرة أخرى في الأرخبيل الرومي كان العرب يسمونها أرواد) وغزا جنادة أقريطش فلما كان زمن الوليد فتح بعضها ثم أغلق وغزاها حميد بن معيوف الهمداني في خلافة الرشيد ففتح بعضها، ثم غزاها في خلافة المأمون أبو حفص عمر بن عيسى الأندلسي المعروف بالأقريطشي وافتتح منها حصنًا واحدًا ونزله ثم لم يزل يفتح شيئًا بعد شيء حتى لم يبقَ فيها من الروم أحد وأخرب حصونهم. انتهى. وهذه الرواية قد تقدمت بحرفها.
ثم قال البلادزي: وبالمغرب أرض تُعرف بالأرض الكبيرة وبينها وبين برقة مسيرة خمسة عشر يومًا أو أقل من ذلك قليلًا أو أكثر قليلًا، وبها مدينة على شاطئ البحر تدعى باره، وكان أهلها نصارى وليس بروم غزاها جبلة مولى الأغلب فلم يقدر عليها ثم غزاها خلفون البربري، ويقال: إنه مولى لربيعة ففتحها في أول خلافة المتوكل على الله وقام بعده رجل يقال له: المفرج بن سلام ففتح أربعة وعشرين حصنًا واستولى عليها وكتب إلى صاحب البريد بمصر يعلمه خبره وأنه لا يرى لنفسه ومن معه من المسلمين صلاة إلا بأن يعقد له الإمام على ناحيته ويوليه إياها ليخرج من حد المتغلبين وبنى مسجدًا جامعًا، ثم إن أصحابه شغبوا عليه فقتلوه، وقام بعده سوران فوجه رسوله إلى أمير المؤمنين المتوكل على الله يسأله عقدًا وكتاب ولاية، فتوفي قبل أن ينصرف رسوله إليه، وتوفي المنتصر بالله وكانت خلافته ستة أشهر، وقام المستعين بالله أحمد بن محمد بن المعتصم بالله فأمر عامله على المغرب، وهو (أوتامش) مولى أمير المؤمنين، بأن يعقد له على ناحيته فلم يشخص رسوله من سر من رأى حتى قتل أوتامش وولي الناحية وصيف مولى أمير المؤمنين، فعقد له وأنفذه. انتهى.
قلت: إن الأرض الكبيرة هذه هي أرض إيطالية التي تقابل صقلية، ومدينة باره التي ذكرها البلاذري هي قاعدة مقاطعة اسمها باره وهي على بحر الأدرياتيك والطليان يقولون لها: باري Bari.
وجاء في تاريخ ابن الأثير في الجزء السابع في حوادث سنة ٢٢٨ ما ملخصه: أن الفضل بن جعفر الهمداني سار في البحر فنزل مرسى مسيني وبث السرايا فغنموا غنائم كثيرة واستأمن إليه أهل نابل وسنة ٢٢٩ خرج أبو الأغلب العباس بن الفضل في سرية فبلغ مدينة «شره» فقاتله أهلها قتالًا شديدًا، ولكنهم انهزموا وقتل منهم ما يزيد على عشرة آلاف، وفي سنة ٢٣٢ ضيق الفضل بن جعفر الهمداني على مدينة مسيني وأكمن لهم في بعض الوقائع، فوقعوا في الكمين ولم ينجُ منهم إلا القليل، فسألوا الأمان على أنفسهم وأموالهم وسلموا المدينة إلى المسلمين، وفي تلك السنة أقام المسلمون بمدينة طارنط من أرض أنكبردة وسكنوها وسنة ٢٣٤ استولى المسلمون على مدينة راغوس وهدموها وأخذوا منها ما أمكن حمله وسنة ٢٣٥ غزا المسلمون مدينة قصريانة.
وكان الأمير على صقلية محمد بن عبد الله بن أغلب وكان مقيمًا بمدينة بلارم لا يخرج منها إلا للغزو وتوفي سنة ٢٣٦، وكانت إمارته تسع عشرة سنة، ثم ذكر ابن الأثير فتح قصريانة بعد ذلك، وقال: إنه سنة ٢٤٤ فتح المسلمون قصريانة على يد العباس بن الفضل بن يعقوب الذي تولى إمارة صقلية بعد محمد بن عبد الله بن الأغلب المتوفى سنة ٢٣٦، وأن العباس هذا كان غزا نواحي قصريانة ونهب وأحرق ليخرج إليه البطريق فلم يفعل، وأنه سنة ٢٣٨ خرج العباس في جمع عظيم وأتى قطانية وسرقوسة ونويطس وراغوس فغنم من جميع هذه البلاد وفي سنة ٢٤٢ سار العباس في جيش كثيف ففتح حصونًا جمة، وسنة ثلاث وأربعين نزل على القصر الجديد وحصره وما زال يضيق عليه حتى تسلمه وأنه في سنة ٢٤٤ أرسل جيشًا في البحر فلقيهم أربعون شلنديًا للروم فاقتتلوا أشد قتال فانهزم الروم وأخذ منهم المسلمون عشرة شلنديات برجالها ثم غزا العباس قصريانة ووقع في يده رجل من هناك دله على أماكن من سور المدينة دخل منها ووضع السيف في الروم ففتحوا الأبواب وتسلم البلدة، وغنم منها ما يفوق الوصف وكان ملك القسطنطينة أرسل ثلاثمائة شلندي ملأى بالعساكر فوصلت إلى سرقوسة (سيراكوزا Syracusa) فخرج إليهم العباس وقاتلهم فهزمهم وغنم منهم مائة شلندي.
قال: وفي سنة ٢٤٦ نكث كثير من قلاع صقلية وهي سطروابلة وأبلاطونو وقلعة عبد المؤمن وقلعة البلوط وقلعة أبي ثور فخرج العباس إليهم فاقتتل مع الروم فانهزم الروم ثم سار إلى قلعة عبد المؤمن، وقلعة بلاطونو فحصرهما فجاءه الخبر بأن كثيرًا من عساكر الروم قد وصلت فزحف إليهم، فتلاقوا بجفلودي، وجرى بين الفريقين قتال شديد فانهزمت الروم وعادوا إلى سرقوسة، وسنة ٢٤٧ سار العباس إلى سرقوسة، ثم إلى غيران قرقنة، فاعتل ذلك اليوم، ومات بعد ثلاثة أيام ثالث جمادى الآخرة فدُفن هناك فنبشه الروم وأحرقوا جسده وكانت ولايته إحدى عشرة سنة، وأدام الجهاد شتاء وصيفًا وغزا أرض قلورية وانكبردة وأسكنها المسلمين. انتهى.
قلت: إن مدينة طارنت التي مر ذكرها هي في الأرض الكبيرة في مقاطعة أوثرانتة وأن أرض قلورية التي يشير إليها ابن الأثير وانكبردة هما الآن كالبرة Calabra وقد جاء ذكرها في معجم البلدان لياقوت قال: قلورية بكسر أوله وتشديد اللام وفتحه وسكون الواو وكسر الراء والياء مفتوحة خفيفة وهي جزيرة في شرقي صقلية (العرب يسمون شبه الجزيرة جزيرة) وأهلها إفرنج ولها مدن كثيرة وبلاد واسعة ينسب إليها فيما أحسب أبو العباس الفلوري روى عن أبي إسحاق الحضرمي وغيره وحدث عنه أبو داود في سننه، ومن مدن هذه الجزيرة قبوة ثم بيش ثم تامل ثم ملف ثم سلورى، قال ابن حوقل: وهي جزيرة داخلة في البحر مستطيلة أولها طرف جبل الجلالقة وبلادها التي على الساحل قسانة وستانة وقطرونية وسبرسة واسلوحراحة وبطرقوقة وبوه، ثم بعد ذلك على الساحل جون البنادقيين وفيه جزائر كثيرة مسكونة وأمم كالشاغرة وألسنة مختلفة بين إفرنجيين وألمانيين وصقالبة وبرجان وغير ذلك، ثم أرض بلبونس واغلة في البحر شكلها شكل قرعة مستطيلة (قلت: يريد بلبونس Péloponése وهي شبه جزيرة المورة، وكان العرب يقولون لكلانرة قلفرة أيضًا).
قال المسعودي في مروج الذهب عند ذكرامة النوبرد ويريد بهم اللومبرديين: إن المسلمين ممن جاورهم كانوا غلبوهم على مدن كثيرة من مدنهم مثل مدينة باره وطارينتو ثم قال: إن مدينة طارينتو ومدينة سيرين وغيرهما من مدنهم الكبار سكنها المسلمون مدة من الزمان، ثم إن النوبرد أنابوا ورجعوا على من كان في تلك المدن من المسلمين فأخرجوهم عنها بعد حرب طويل، وما ذكرنا من المدن في وقتنا هذا وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة في أيدي النوبرد. انتهى.
ومن هذا كله يُعرف أن المسلمين لم يقتصروا على فتح جزيرة صقلية، بل تجاوزوها إلى الأرض الكبيرة ولبثوا فيها زمنًا طويلًا إلى أيام فريدريك الثاني إمبراطور ألمانية وملك صقلية الذي عاش في أوائل القرن الثالث عشر للمسيح، وكان قد اتخذ جيشًا من المسلمين وكان يعرف العربية معرفة جيدة. انتهى.
وقال الأستاذ الشيخ محمد الخانجي البوسنوي من مدرسي المعهد العلمي الخسروي في مدينة سراي بوسنة في مقدمة كتابه «الجوهر الأسنى في تراجم علماء بوسنة» فُتحت جزيرة صقلية بتمامها سنة ٢١٣ على يد قاضي القيروان عالم زمانه أسد بن الفرات صاحب المدونة الأسدية وكان رجلًا صالحًا فقيها أدرك مالك بن أنس ورحل إليه، فبقيت صقلية بأيدي المسلمين مدة واهتدى أهلها فصاروا مسلمين وبنوا بها الجوامع حتى أنه كان في مدينة واحدة من مدنها وهي «بلرم» نيف وثلاثمائة مسجد، قال ابن حوقل: رأيت في بعض الشوارع من بلرم على مقدار رمية سهم عشرة مساجد، ودام مُلك المسلمين لصقلية إلى سنة ٤٦٤، وبعد زوال ملكهم منها بقي فيها الإسلام مدة مديدة، وقد ظهر من صقلية من أهل العلم عدد كثير تراجمهم موجودة، وكان الإسلام جاوز البحر من صقلية إلى أرض قلورية من بلاد إيتاليا واستولى المسلمون على عدة بلاد منها كريو وباره وطارنت وكانوا قرعوا أبواب رومية مقر البابا رئيس النصرانية، وبنى بمدينة «ريو» أبو الغنائم الحسن بن علي بن الحسين الكلبي مسجدًا كبيرًا في وسطها وذلك سنة ٣٤٠ وكل هذه البلاد التي ذكرناها خلت بمرور الزمان من الإسلام والمسلمين وعفت فيها آثارهم واندرست معالمهم وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ. انتهى.
وقد مر ابن جبير الأندلسي بجزيرة صقلية وهو قافل من الحج سنة ٥٦٠، وكانت خرجت من ملك الإسلام، ولكن كان المسلمون لا يزالون يسكنون فيها، قال ابن جبير: خصب هذه الجزيرة أكثر من أن يوصف وكفى بأنها ابنة الأندلس في سعة العمارة وكثرة الخصب والرفه مشحونة بالأرزاق على اختلافها مملوءة بأنواع الفواكه وأصنافها، لكنها معمورة بعبدة الصلبان يمشون في مناكبها ويرتعون في أكنافها والمسلمون معهم على أملاكهم وضياعهم قد أحسنوا السيرة في استعمالهم واصطناعهم ضربوا عليهم إتاوة في فصلين من العام يؤدونها وحالوا بينهم وبين سعة في الأرض كانوا يجدونها والله عز وجل يصلح أحوالهم ويجعل العقبى الجميلة مآلهم. قال: وليس في مسيني إلا نفر يسير من ذوي المهن وذلك ما يستوحش بها المسلم الغريب، وأحسن مدتها قاعدة ملكها والمسلمون يعرفونها بالمدينة والنصارى يعرفونها ببلرمة وفيها سكن الحضرميين من المسلمين ولهم فيها المساجد وسائر المسلمين بضياعها وجميع قراها وسائر مدنها كسرقوسة وغيرها لكن المدينة الكبيرة التي هي مسكن ملكها غليام أكبرها وأحفلها.
وشأن ملكهم هذا عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين وكلهم أو أكثرهم متمسك بشريعة الإسلام وهو كثير الثقة بالمسلمين وساكن إليهم في أحواله حتى أن الناظر في مطبخه رجل من المسلمين، وله جملة من العبيد السود المسلمين وعليهم قائد منهم، ومن عجيب شأن المتحدث به أنه يقرأ ويكتب بالعربية وعلامته على ما أعلمنا به أحد خدمته (الحمد لله حق حمده) وكانت علامة أبيه (الحمد لله شكرًا لأنعمه).
وأما جواريه وحظاياه في قصره فمسلمات كلهن، ومن أعجب ما حدثنا به خديمه المذكور وهو يحيى بن فتيان الطرَّاز وهو يطرز بالذهب في طراز الملك أن الإفرنجية من النصرانيات تقع في قصره فتعود مسلمة تعيدها الجواري المذكورات، وأعلمنا أنه كان في هذه الجزيرة زلازل مرجفة ذعر لها هذا المشرك، فكان يتطلع في قصره فلا يسمع إلا ذاكرًا لله ولرسوله من نسائه وفتياته وربما لحقتهم دهشة عند رؤيته فكان يقول لهم ليذكر كل أحد منكم معبوده.
وأما فتيانه الذين هم عيون دولته فهم مسلون ما منهم إلا من يصوم الأشهر تطوعًا ويتصدق تقربًا إلى الله ويفتك الأسرى ويربي الأصاغر منهم ويزوجهم، وهذا كله صنع من الله عز وجل لمسلمي هذه الجزيرة لقينا منهم بمسينة فتى اسمه عبد المسيح من وجوههم بعد تقدمة رغبة منه إلينا في ذلك فاحتفل في كرامتنا وبرنا وأخرج إلينا عن سره المكنون بعد مراقبة منه في مجلسه أزال لها كل من كان حوله ممن يتهمه من خدامه محافظة على نفسه فسألنا عن مكة قدسها الله وعن مشاهدها المعظمة وعن مشاهد المدينة المقدسة ومشاهد الشام فأخبرناه وهو يذوب شوقا وتحرقًا واستهدى منا بعض ما استصحبناه من الطرف المباركة من مكة والمدينة، وقال لنا: أنتم مدلون بإظهار الإسلام فائزون بما قصدتم له ونحن كاتمون إيماننا خائفون على أنفسنا متمسكون بعبادة الله وأداء فرائضه سرًّا فغايتنا التبرك بلقاء أمثالكم من الحجاج والاغتباط بما نتلقاه منهم من تحف تلك المشاهد المقدسة لنتخذها عدة للإيمان وذخيرة للأكفان فتعطرت قلوبنا له إشفاقًا ودعونا له بحسن الخاتمة.