نزول العرب في بروفانس وغاراتهم من هناك على سافواي وبييمونت وسويسرة إلى دور إجلائهم عن فرنسة
قال رينو: إن الدور الأخير الذي سنتكلم عنه يشابه الدور الذي نقدمه في شدة المهاجمات وفي آثار السلب والعيث، جد المشابهة، وإنما الفرق هو في كون الحوادث السابقة لم تصب إلا سواحل فرنسة خاصة، على حين أن الحوادث التي نحن بسبيلها الآن ستمتد إلى بلاد دوفيني، إلى حدود ألمانية، وأن الحوادث السابقة كانت عبور سبيل، على حين أن هذه كانت راجعة إلى مركز ثابت مستقر، وكانت تُنذر بأن تستمر.
وكان العرب يتقدمون يومًا فيومًا نحو جبال الألب تعلقًا وتسلقًا حتى وقفوا في أعلاها، وكانت مملكة آرل خاضعة للويس بن بوزون المتقدم الذكر، وكان لويس هذا سار بجيش إلى إيطالية لمقاتلة بيرانجة ملك لونباردية فترك بلاده بدون حامية تقريبًا وصارت ثفوره عورة وكان النرمنديون يعيثون في قلب فرنسة وكادوا إحدى المرار يستولون على باريز، وجاءت فرقة من البرابرة الوثنيين من الشرق وهم المجر فعاثت وخربت جانبًا من ألمانية ثم من إيطالية وأوشكت أن تدخل إلى فرنسة.
وكان صعد على عرش قرطبة سنة ٩١٢ عبد الرحمن الثالث الملقب بالكبير والذى تولى الملك خمسين سنة وجمع تحت حكمه بلاد الأندلس قاطبة، وكان من أيمن ملوك الدهر نقية. أوصل الأندلس إلى أعلى ذرى الهناء والسعادة والمجد، وهو أول من تلقب من أمرائها بالخليفة أمير المؤمنين.
وكان من عادة أهالي فرنسة وإسبانية وإنكلترا أن يذهبوا إلى رومة، ولو مرة في العمر، لزيارة قبور الرسل، ولم يكن بد من علاقات الأساقفة والقسيسين برومة كما لا يخفى، ولكن معابر الألب صارت كلها إلى أيدي العرب، وصار هؤلاء يعتدون على السابلين، وبرغم أن الناس كانت تجتمع قوافل وتسير بالأسلحة لم تكن تمضي سنة بدون أن تحصل في تلك المعابر وقائع دموية حسبما جاء في مجموعة مؤرخي فرنسة.
وجاء في مجموعة الدون بوكيه أن العرب استولوا على ناحية تارنتيس وأن قافلة كانت ذاهبة من فرنسة إلى إيطالية، فوقعت في يدهم واضطرت إلى الرجوع بعد أن قُتل عدد منها.
أما سفارة الراهب غورز من قبل ملك فرنسة، فإنها وإن لم تكن محفوفة بجميع تلك الأهمية فلم تكن خالية من الاحتفاء والاحتفال، ولقد بقي لنا عنها رحلة بقلم أحد تلاميذ الراهب المذكور يمكننا أن نلخص منها ما يلي:
وفي تلك المدة كان أوتون مشغولًا بإطفاء فتنة أثارها عليه ابنه وصهره فلما وصل السفير الإسبانيولي من قبل الخليفة أجابه الملك إلى كل ما اقترحه، وقفل الرسول إلى قرطبة وقد دبر الأمور كما شاء الخليفة، ورضي الخليفة من بعدها أن يستقبل الراهب، وكان الخليفة يعلم تقشف الراهب ومذهبه في لبس الخشن وبُعده عن مظاهر الأبهة، فبعث إليه بأنه يريد أن يستقبله كسفير من قبل الملك، وأنه لا بد له إجلالًا لقدر مرسله من قبول حالة السفارة وأنه ينبغي له أن يدخل على الخليفة بملابس لائقة، فأجابه الراهب بأنه لا يجد لبسًا أبهى ولا أفخر من ثوب رهبانيته، فظن الخليفة أنه قد يكون الراهب عاجزًا عن شراء الملابس اللازمة، فبعث إليه بعشر أقات فضة، وكانت الأقة اثنتي عشر أوقية، ولكن الراهب تصدق بهذه الفضة على الفقراء. فأرسل الخليفة إليه قائلًا إنه يقبله ويحتفل به ولو جاءه في كيس خيش.
وفي اليوم المعين للاستقبال اصطفَّت العساكر على الجانبين، ووقف العبيد الصقالبة قابضين على الحراب، ووقف آخرون بالقسي، وكانت هناك الفرسان تلعب في الميدان وفي هذه الحالة دخل الراهب السفير، وقد فُرشت أمامه مداخل القصر بالبسط والديباج، فما زال يتقدم إلى أن وصل إلى البهو الذي فيه الخليفة، فوجد الخليفة جالسًا على سرير الخلافة متربعًا على عادة الشرقيين، فعند وصوله إليه أعطاه باطن يده تمييزًا له عن غيره فقبلها الراهب، ثم أمر له بالجلوس وبعد المراسم المعتادة في المجاملة شرع الخليفة يتكلم عن الملك آتون وما بلغه من المقام السامي بين الملوك وأثنى عليه مزيد الثناء.
ثم إنه لما كان عبد الرحمن قد بلغه كون ابن الملك أوتون ثار على أبيه أنحى بشيء من اللائمة على الملك قائلًا: إنه لا ينبغي للملوك أن تقبل أقل انتقاص من سلطتها ولا ترعى في ذلك عاطفة إشارة إلى شيء كان وقع مع عبد الرحمن نفسه، فإنه عصى عليه أحد أولاده فانتهى الأمر بأن أمر بقتله.
وكان العرب لا يزال منهم جماعات محتلة لبروفنس ودوفيني ولا تزال الناس هناك تخشى عاديتهم، وكان الملوك في منازعاتهم يستعينون بهم فيكون الترجيح بواسطتهم، وكان أوتون ملك الألمان بعد أن قهر المجار واستصفى جميع ألمانيا أجبر البابا على تتويجه بتاج الإمبراطورية وتغلب على برانجة ملك لونباردية، وخرج هذا من مملكته شريدًا فقام ابنه أدالبرت للمطالبة بملك أبيه، وروى بعض المؤرخين مثل البريك المنقول تاريخه في مجموعة لاينبتز أن أدالبرت استعان بمسلمي فركسينت.
فلما وصل القديس مايول إلى ذيل الألب وجد هناك عددًا كبيرًا من الزوار القافلين من رومة والمسافرين قد علموا بمجيئه فانتظروه ليسيروا معه؛ إذ لم يكونوا يرجون أن تنتدح لهم فرصة خير من هذه لاجتياز جبال الألب، فتقدمت قافلة القديس وفيها هذا الجم الغفير، وما وصلوا إلى ضفاف الوادي سائرين في طريق منحصرة بين الجبل والنهر، حتى انهال عليهم العرب برشق من السهام من عل، وكان العرب نحوًّا من ألف مقاتل ولم يكن للمسيحيين مفر، فأحيط بهم ووقع أكثرهم في الأسر، وكان من جملة الأسرى القديس مايول، وقد جُرح في يده وهو يذب عن أحد رفاقه؛ فسيق الأسرى إلى مكان على حدة، وكان أكثرهم فقراء لا يطمع الإنسان من ورائهم في مغنم فدنا العرب من القديس وسألوه عن درجة يساره، فأجابهم القديس بأنه من قوم أغنياء ولكنه خرج من جميع أملاكه ووقف نفسه على عبادة ربه وهو الآن راهب في دير ذي أملاك وأراضٍ واسعة فتساوموا معه على فدية تبلغ ما يساوي ألف ليبرة من الفضة أو ثمانين ألف فرنك من المعاملة الحاضرة، وطلب العرب من القديس أن ينفذ رفيقه إلى دير كلوني ليحمل إليهم المال وضربوا له موعدًا قالوا له: إن فات هذا الموعد ولم يروا المال فإنهم يقتلون القديس وسائر الأسرى فكتب القديس إلى الدير قائلًا: إلى آباء كلوني والإخوان الذين فيه مايول المسكين أسير مكبل بالقيود … إلخ. فلما وصل هذا الكتاب ارتفع البكاء والعويل من كل جانب وأسرعوا بجمع الأموال واستجادوا أكف ذوي الحمية وجردوا الكنيسة من زخرفها، وأرسلوا كل ما وقع في أيديهم من المال لفكاك القديس ومن معه من الأسرى، فوصل المال قبل انقضاء الأجل وأطلق المسلمون سراحهم.
وكان القديس في أثناء وقوعه في الأسر قد حاول أن يرشد المسلمين قائلًا لهم: إن الذي يعتقدون به لا يقدر أن يخلصهم من العذاب ولا ينفعهم بشيء، فعندما سمعوا منه هذا الكلام هاجت حفيظتهم وشدوا وثاقه وصاروا به إلى أحد الكهوف وحبسوه فيه ثم إنهم عادوا فسكنوا ورجعوا إلى معاملته بالحسنى، وكان إذا اشتهى الطعام جاء أحدهم وغسل يديه وأصلح له طعامًا شهيًّا ووضعه بين يديه بكل أدب، وكان مع القديس نسخة من التوراة، فجاء أحد المسلمين ومد يده إليها بدون احترام، فلامه رفاقه وقالوا له: إن هذا كتاب مقدس ونحن معاشر المسلمين نقدس جميع الكتب السماوية، وبهذه المناسبة قال أحد كتاب ذلك العصر: إن المسلمين يحترمون مثلنا أنبياء العهد القديم ويرون المسيح نبيًّا كبيرًا وإنما يجعلونه على كل حال أصغر من محمد بقولهم: إن محمدًا كان خاتم الرسل وهم يقولون: إن محمدًا هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم.
وجاء في كتاب قديم يتعلق بهذه البلدة أن الذي جمع كلمة الأهلين وثار بهم على العرب هو رجل يقال له: غليوم فكبسوا العرب بياتًا في جميع المواقع التي كانوا يحتلونها، واستأصلوا عرقاتهم وكانت مكافأة الذين قاموا بهذه الحرب أن أخذوا نصف البلدة ونصف الأراضي وتركوا النصف الآخر للمطران والكنائس، وهكذا تحررت بلاد الدوفيني وأصبح خلاص مملكة بروفنس بعد ذلك قريبًا.
وقد استولت الكنيسة أيضًا على كثير من الأراضي التي كانت بأيدي المسلمين، وذلك لأن رجال الدين المسيحي كانوا قد أصيبوا أكثر من سواهم بهذه الغارات العربية وتهدم كثير من أديارهم فلذلك كانوا هم دائمًا في طليعة الحركة لإجلاء العرب، فنال أساقفة فريجس ونيس نصيبًا كبيرًا من الأراضي التي كانت بأيدي المسلمين، وفي طولون وقع نزاع بين الأهالي على الأراضي التي كانت للمسلمين؛ لأنه كان قد طال حكم العرب لتلك البلدة فدثرت آثار التملك القديم وأصبحت الحدود مجهولة، فجاء الكونت غليوم من آرل وأجري التقسيم بين الأديار والأهالي والأمراء، وأَرْضَى الجميع، ولذلك بقي لغليوم هذا اسم كبير في التاريخ، وأطلقوا عليه لقب أبي الوطن.
فقد تقرر إذًا أن سقوط حصن فركسينت في أيدي المسيحيين وقع في سنة ٩٧٥ وأنه من ذلك الوقت لم يبقَ للمسلمين شيء في أرض فرنسة، نعم إن بعض المؤرخين ومنهم داليين المار الذكر يزعم بقاء المسلمين في جبال الألب مستمرًا إلى ما بعد سنة ٩٨٠ بل إلى ما بعد سنة الألف، ولكننا لا نثق بهذه الرواية، ونظن أنه إن كانت قد بقيت عصابات عربية في جبال الألب من بعد تاريخ سقوط فركسينت فلا تكون عصائب محاربة بل تكون عصائب مستسلمة وقد ارتدت عن الإسلام إلى النصرانية أو صار رجالها في حكم الرقيق، وبالاختصار فمن بعد ذلك العهد لم يبقَ على أتباع الإنجيل خطر من أتباع القرآن إلا إن كان من قبيل وقائع قرصانية كان لا بد لأجل التخلص منها من مطاردة البرابرة إلى نفس بلادهم.
وكان المسلمون في الغالب فرسانًا فإذا قصدوا إلى بلاد النصارى وهزموا لهم جيشًا ذبحوا الرجال وسبوا النساء والأولاد وباعوهم رقيقًا، فكنت ترى بعد كل غزاة من غزوات المنصور أسواق قرطبة وأشبيلية وأشبونة وغرناطة مكتظة بالرقيق من ذكور وإناث، وكان تجار الرقيق يأتون بهذه الخلائق إلى إفريقية ومصر وسائر بلاد الإسلام فتنتشر فيها، وكان المنصور يرى جهاده في بلاد النصرانية أفضل قرباته إلى الله تعالى، وكان يستصحب في جميع أسفاره التابوت الذي يريد أن يوضع فيه عند موته، وكان من عادته أن ينفض الغبار الذي يعلق بثيابه في أثناء غزواته ويجعله في ذلك التابوت، ليصنع منه لبنة يضعها تحت رأسه عند الموت، فجال غزاة المسلمين تحت راياته المنصورة في قشتالة وليون وناباره وآراغون وكتلونية إلى أن وصلوا إلى غاشقونية وجنوبي فرنسة.
وجاست خيل المنصور في أماكن لم يكن خفق فيها علم إسلامي من قبل، وسقطت مدينة شانتياقب من جليقية وهي أقدس معهد مسيحي في إسبانية في أيدي المسلمين، وأحرقت تلك المدينة، وأخذت أجراس الكنيسة الكبرى المعروفة بكنيسة القديس يعقوب إلى قرطبة حيث عمل منها قناديل وعلقت في الجامع الأعظم، ولأجل أن يزيد المنصور من إذلال المسيحيين أجبرهم على حمل الأجراس المذكورة على ظهورهم من شانتياقب إلى قرطبة، وهي مسافة ثمانمائة كيلو متر، ولا ينكر أن المسيحيين عادوا عندما دخلوا قرطبة فاسترجعوا هذه الأجراس وحملوها على ظهورهم من قرطبة إلى شانتياقب، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
هوامش
هذه كانت رحلتهم الأولى، وأما الثانية فهي أنهم ذهبوا من أنبرون إلى جيوفني ديمورتانة Jiovanni Di Mortana ومنها تقدموا إلى الداخل ونهبوا وأحرقوا دير نوفاليز Novalesa ودير سانموريس في ڨاليزية.
والمؤرخون الطليان الذين تكلموا عن نزول العرب في تلك السواحل وهم: بينغوني Pingone و دي بيني Debene ودلا شيزا Dellachiesa ودورندي Durandi وسيغبرتو Sigeberto يقولون في أصل مجيء المسلمين إلى هناك: إنه سنة ٨٩١ جاء قرصان من إسبانية فساقتهم زوبعة إلى سواحل بروفنس فنزلوا إلى البر ووجدوا غابة اسمها فراسينيتو وهو اسم مشتق من أسماء النبات الغالب على تلك الأرض، ثم قاموا هناك وتحصنوا في جبل تَسَمَّى باسمهم فيقال له اليوم: جبل «مورو» ثم التحق بهم آخرون وتكاثروا وصاروا قوة مذكورة وصار أمراء البلاد يستعينون بهم في قتال بعضهم بعضًا، وانتشر المسلمون في السڨواي ودالڨينيتيو وڨاليزيا وليغورية إلى جنوة، ومن حكام الطليان الذين دعوا المسلمين لمساعدتهم ووعدوهم بالمغانم لمبرتوديسنو ليتو وادالبرتو مركيز طوسكانة. اطلعت على ذلك في خزانة كتب عمومية بمدينة جنوة.
ومن أغرب الأمور أن جميع المؤرخين تكلموا عن نزول العرب في فركسينيت عدا مؤرخي العرب أنفسهم، فتوجد عن هذه الحادثة تواريخ بالإفرنسية والألمانية والإيطالية ولكنه لا يوجد تقريبًا شيء بالعربية، وإنما جاء في المسالك والممالك لأبي القاسم بن حوقل الذي كتب رحلته على أثر سفره من بغداد سنة ٣٣١ للهجرة وذلك قوله: وجبل القلال جبل قديم على مر الزمان فيه مياه وأراض وعمارة وحرث يقوت من نجا إليه فوقع إليه قوم من المسلمين فعمروه، وصاروا في وجوه الإفرنجة لا يقدر عليهم لامتناع مواضعهم ومقداره في الطول نحو ميلين.
ذكر ابن حوقل هذا في كلامه على بحر الروم، وذكر في محل آخر جزيرة ميورقة، وقال: وميورقة جزيرة لصاحب الأندلس وكذلك جبل القلال يضاف إلى ذلك العمل.
وورد ذكر جبل القلال في معجم البلدان لياقوت في أثناء كلامه على انكبردة قال: بلاد واسعة من بلاد الإفرنج بين القسطنطينية والأندلس تأخذ على طرف بحر الخليج من محاذاة جبل القلال، وتمر على محاذاة ساحل المغرب مشرقًا إلى أن تتصل ببلاد قلورية.
قلت: يعني بها بلاد إيطاليا اليوم التي تبتدئ من محاذاة جبال الألب وتنتهي بشبه جزيرة كلابرة.
وفي صبح الأعشى يقول: قلفرية نقلًا عن تقويم البلدان قال: ويقال لها قلورية بإبدال الفاء واوًا.
قلت: وكنت أفكر أن جبل القلال هذا بالأوصاف التي وصفه بها ابن حوقل وياقوت لا تنطبق إلا على الجبل المشرف في سواحل فرنسة على حدود إيطالية، ولكني لم أكن أرضى بمجرد التخمين وكنت أود لو وقفت على كلام لمستشرقي الإفرنج في هذا الموضوع وكنت تحدثت في هذه المسألة مع الشاب الأجلِّ الفاضل المدقق السيد محمد الفاسي من آل الجد الفهريين بفاس ومن جالية الأندلس، وتقدمت إليه في أن يبحث لي في المكتبة الوطنية في باريز لعله يهتدي إلى نص أو نصوص تكشف لنا الغامض ونقدر أن نعين بها ما يريده كتاب العرب بقولهم: جبل القلال فأجابني حفظه الله بالكتاب الآتي نصه بتاريخ ٩ ذي الحجة سنة ١٣٥٠ قال: أخذت كتاب الخزانة العربية الصقلية تأليف آماري Amari وهي كما لا يخفى مجموعة نصوص تتعلق بصقلية منقولة عما يقرب من مائة كتاب عربي فوجدته ينقل كلام ابن حوقل الوارد في جبل القلال فأخذت ترجمة الخزانة الصقلية إلى الإيطالية وهي مفيدة جدًّا بالتعاليق التي جعلها عليها آماري، ويوجد فيها طبعتان كلتاهما في سنة ١٨٨٠ واحدة في جزئين من الحجم الصغير والأخرى في جزء واحد من الحجم الكبير، وجبل القلال ورد في الصفحة السابعة من الطبعة الكبيرة أما في الترجمة فإن آماري اكتفى بكتابة جبل القلال بالحروف اللاتينية، وجعل بين هلالين ترجمة للفظة قلال بمعنى رؤوس الجبال جمع قلة وذكرها بالإفرنسية هكذا Cimes وجعل على هذا تعليقًا مضمونه تلخيص كلام المستشرق رينو الذي سأنقله لك بالحرف، وأحال عليه: نشر المستشرق جوين بول كتاب مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع في ثلاثة أجزاء مع أجزاء ثلاثة أخرى للتعاليق باللاتينية، وقد ورد فيه جبل القلال في صفحة ٢٣٩ من الجزء الأول وعلق جوين بول في صفحة ٢٥ من الجزء الخامس قائلًا: إنه كتب إلى رينو الشهير في هذا الباب فأجابه بما يلي سامحًا له بنشره. وقد نقل لي ولدنا السيد محمد الفاسي كتابة رينو بنصها الإفرنسي فآثرت ترجمتها بالعربي وهي هذه:
«في تأليف نشرته سنة ألف وثمانمائة وستة وثلاثين تحت عنوان غارة العرب على فرنسة ومن فرنسة على سفواي وبييمونت وسويسرة في القرون الثامن والتاسع والعاشر من التاريخ المسيحي قد ذكرت أنه في سنة ٨٨٩ دخل بعض قرصان من الأندلس في أرض فرنسة في خليج غريمنو الذي يقال له: سانتروبيز وأنشأوا لأنفسهم في آخر الخليج على قلة جبل معقلًا هائلًا وهذا المعقل يسميه المعاصرون لذلك الوقت فركسيناتوم، والآن تسمى القرية المبنية على سفح الجبل غاردفرينه Garde-Frainet، والغابة التي تحيط بالجبل اسمها الآن غابة الموراي العرب. كلما استقر هؤلاء القرصان في ذلك الموقع المتناهي في المناعة استدعوا إليهم أفاقين آخرين جاءوهم من سواحل الأندلس وإفريقية ثم انضم إليهم بعض الجياع من أهل البلاد، وساعدتهم الفوضى التي كانت ضاربة أطنابها فيها فتقدموا في البلاد وقطعوا جبال الألب وانتشروا في السڨواي وشمالي إيطالية وسويسرة، وعندما نشرت هذا الكتاب لم تكن النسخة المخطوطة من كتاب الاصطخري قد نُشرت، وكنت أظن أن وجود هذا المعقل الإسلامي في قلب النصرانية كان لم يزل مجهولًا عند كتَّاب المسلمين في الأندلس وإفريقية وآسية فأما الآن فقد تحقق عندي أن الاصطخري وابن حوقل قد سمعا في أثناء أسفارهما بخبر فركسيناتوم من سواحل بروفنس وأن كلًّا منهما لم يهمل ذكر ذلك في كتابه.
وأعظم من هذا أن خبر هذا المعقل الإسلامي في قلب أوربة وصل إلى أقاصي بلاد العجم.
فالاصطخري في صفحة ٣٩ من طبعة كتابه المخطوط يذكر بعض الجزائر مثل صقلية وأقريطش وقبرص ثم يذكر جبل القلال، فقد يظن القارئ أن مراده به إحدى الجزر التي يحيط بها البحر، وفي الأطلس الذي تحت نمرة ١١ مذكور هذا الجبل وموضوع في وسط البحر إلى الغرب من صيقيلية يقابله المهدية وتونس من جهة وطرطوشة من الأخرى، وكذلك الحال في الخارطة التي تحت نمرة ٥ ولا فرق بينهما سوى أن الجبل في الخارطة الثانية موضوع على مسافة أبعد إلى الغرب على علو مالقة والجزائر، ومن المعلوم أن الخرائط الملحقة بكتاب الاصطخري هي ناقصة جدًّا وفيها خطأ كثير نظير الأطالس العربية على وجه الإجمال.
ولا يجوز أن ننسى أن اسم جزيرة وشبه جزيرة هو واحد عند العرب كما عند اليونان وترى الاصطخري يقول عن جبل القلال ما يطابق موقع فركسيناتوم وإليك كلامه: وأما جبل القلال فإنه كان جبلًا خرابًا وفيه ماء وأرض فوقع إليه قوم من المسلمين فعمروه وثاروا في وجوه الإفرنجة لا يقدر عليهم لامتناع مواضعهم ومقداره في الطول يومان. ثم أتى على ترجمة هذا الفصل بالفارسية: جبل القلال كوهى بوده است خراب ودر انجا اب وزمين بسيار قومي از مسلمانان انجا مقام كرفتند وآبادان كردنك وڨغر فرنك است وفرنك برايشان دست نيايدودرازي اين كوه دو روزه راه باشد.
ومن عادة ابن حوقل في رحلته أن يعلق بعض الشرح على كلام الاصطخري إلا أنه في هذا المقام كانت عبارته مختصرة جدًّا، والملاحظة المهمة التي يلاحظها القارئ في كلامه أن جبل القلال هذا تابع للأندلس، وذلك أن علماء العرب يطلقون لفظة الأندلس على جميع بلدان الجنوب الغربي من أوربة التي دخلت في طاعة المسلمين (انظر إلى ترجمتنا لجغرافية أبي الفداء صفحة ٢٣٤ وصفحة ٣٠٨)، وهكذا كانت بلاد بروفنس في القرن الثامن وفيما بعده في القرن الذي نحن الآن بصدده معدودة من الأندلس.
وهكذا أمكنهم أن يجعلوا جبل القلال من الأندلس وفيه كان المسلمون واقفين في وجه الإفرنج، فالمكان الذي وصفوه لا ينطبق إلا على فركسيناتوم؛ إذ لو أردنا أن نقول: إن ابن حوقل والاصطخري أرادا بجبل القلال جزيرة صغيرة غفلًا من الاسم واقعة بإزاء سواحل تونس أو سواحل طرابلس لكان الوصف الذي وصفه هذان الرحالتان لهذا المكان خاليًا من كل معنى (ثم ذكر رينو كلام ابن حوقل بنصه).
بقي علينا أن نفسر كلمة قلال التي أضيف لها ذلك الجبل فهذه اللفظة تحتمل تأويلات مختلفة ففي الأطالس التي وجدناها في مخطوط الخزانة الإمبراطورية الحاوي للرواية الفارسية من كتاب الاصطخري نجد لهذا الجبل شكلًا هرميًّا وأما في الأطالس التي في المخطوط العربي فإننا نجد هذا الجبل يرتفع تدريجًا فيكون اسم جبل القلال مطابقًا له.
أقول: إن أخبار وقائع العرب الذين احتلوا هذا الجبل قد رأت في أقاصي آسية، فكتاب العجم سموه كولاقلال كلمة تفيد معنى جبل القلال، وإننا نجد تحت نمرة ٣٨٤ من المخطوطات الفارسية من الخزانة الإمبراطورية هذه الكلمات:
كولا قلال جزيرة است ودر كوهي است ودر روزكار قديم خراب بوده است ونامسكون جون إسلام قوت كرفت ازن مسلمانان انجا افادندانجا مقام ساختند وساكن شدند واكنون در روي فرنك باشند ومياه ايشان وكافران پيوسته جنك باشند.
ثم قد وجد في كتاب فارسي من قبل عجائب المخلوقات للقزويني واسمه وكاسمه وموضوعه كموضوعه الجملة الآتية: قلال كوهي است ميان دريان روم خراب بودا بادان كردند ودر وجه مصالح افرنجه نهادند واكراين كولا نبودي إسلام برنج امدي.
أي جبل القلال جبل واقع في وسط بجر الروم وكان خرابًا، ولقد سكن فيه أناس وأووا إلى هذا الجبل في جهادهم للإفرنج ولولا هذا الجبل لكان على الإسلام خطر عظيم.
هذا كلام رينو بنصه ويتلخص منه أن جبل القلال ليس بجزيرة بل شبه جزيرة، وإذا رجعنا إلى جزيرة مقاطعة الفار Le Var على حدود إيطالية وجدنا أن المحل الذي يجعل فيه هذا العالم جبل القلال شبه جزيرة، ثم إني قد راجعت ما قاله رينو في كتابه فتوح المسلمين بفرنسة من صفحة ١٥٧ إلى صفحة ٢١٠ فرأيت أن وصف جبل القلال في كتاب ابن حوقل من حيث امتناعه ينطبق تمامًا على فركسيناتوم وأما قوله: إن العرب يجعلون هذا الجبل من ضمن الأندلس؛ لأنهم يسمون بهذا الاسم كل البلاد الواقعة في جنوبي أوربة إلى الغرب، فأظن أنه غير مصيب بل السبب في ذلك هو أن جبل القلال كان تحت حماية خلفاء قرطبة وقد ذكر هذا رينو نفسه في كتابه الآنف الذكر صفحة ١٨٧ فقال: إن أوتون كان أنشأ علاقات مع أعظم ملوك عصره لا سيما خليفة قرطبة الذي كان هو الحامي للمستعمرة العربية في فركسيناتوم، ويظهر من كتاب رينو أن فركسينة كانت عاصمة الممتلكات الإسلامية في فرنسة وسويسرة وإيطالية الشمالية، وهذه الأهمية التي أشار إليها ابن حوقل والاصطخري لم تكن لجزيرة سردانة، وعلى كل حال فإني أظن الآن أن جبل القلال هو فركسيناتوم ويبقى مع هذا مجال للبحث للوصول إلى الاقتناع العلمي المبني على الحجج القاطعة. انتهى كتاب محمد الفاسي رئيس جمعية طلبة شمالي إفريقية في باريز.
وبلغه انتفاض طوطة (ملكة الباشكنس) فغزاها في بنبلونة ودوخ أرضها واستباحها ورجع إلى قرطبة، ثم غزا غزوة الخندق سنة سبع وعشرين إلى جليقية فانهزم وأصيب فيها المسلمون، وقعد بعدها عن الغزو بنفسه، وصار يردد البعوث والطوائف إلى الجهاد، وبعث جيوشه إلى المغرب، فملك سبتة وفاسًا وغيرهما من بلاد المغرب وطار صيته وانتشر ذكره.
ولما هلك سانجة بن فرويلة ملك الباشكنس قامت بأمرهم بعده أمه «طوطة» كفلت ولده، ثم انتقضت على الناصر سنة خمس وعشرين فغزا الناصر بلادها وخرب نواحي بنبلونة ورد عليها الغزوات وكان قبل ذلك سنة اثنتين وعشرين غزا إلى خشتمة ثم رحل إلى بنبلونة، فجاءته طوطة بطاعتها، وعقد لابنها غرسية على بنبلونة ثم عدل إلى ألبة وبسائطها فدوخها وخرب حصونها ثم اقتحم جليقية وملكها يومئذ ردمير بن أردون فتحامى عن لقائه ودخل خشتمة فنازله الناصر فيها وهدم برغش وكثيرا من معاقلهم وهزمهم مرارًا ورجع … إلخ.
وجاء في كتاب أخبار مجموعة: وأما عبد الرحمن بن محمد الأمير فإنه وُلي الخلافة والفتنة قد طبقت آفاق الأندلس والخلاف فاشٍ في كل ناحية منها، فاستقبل الملك بسعد، لم يقابل به أحدًا ممن خالفه أو خرج عليه إلا غلبه، واستولى على ما في يديه، فافتتح الأندلس مدينة مدينة، وقتل حملتها واستذل رجالها وهدم معاقلها، وضرب المغارم الثقيلة على من استبقى من أهلها، وأذلهم بعسف العمال غاية الإذلال، حتى دانت له البلاد وانقاد له أهل العناد، فمات ابن حفصون في حصاره، وقتل سليمان ابنه محاربًا له، واستنزل سائر بنيه وأهله وأمنهم، وساروا في جنده.
وملك «ببشتر» وبناها، وحصنها، وهدم كل حصن غيرها، وذكر أنه إنما استبقاها عدة لنفسه ولولده، ليلج إليها، لما كانوا يحدثون في الآثار من أن فتنًا تهيج في الأندلس بخوارج يخرجون على أهلها يخربون البلاد ويقتلون الرجال ويسبون النساء والأولاد حتى يعم الفساد جميع أقطارها فلا يبقى فيها إلا من اعتصم بالمعاقل أو لجأ إلى البحور، وهو عندهم الفساد المتصل بالبلاء الأعظم الذي لا صلاح بعده ولا بقاء معه والله أعلم. وهو المستعان. واتصل ملك عبد الرحمن خمسين سنة في عز منيع وسلطان قاهر. وافتتاح البلدان شرقًا وغربًا إلخ.
قلت: وسنأتي بخبر الخليفة عبد الرحمن الناصر الأموي على أتم وجه إن شاء الله في الأجزاء التالية التي فيها الكلام عن نفس الأندلس.
أما في أخبار مجموعة فإنه يقول: إن عبد الرحمن الناصر في آخر أمره مال إلى اللهو واستولى عليه العجب واستمد بغير الكفاة وغاظ الأحرار بإقامة الأنذال كنجدة الحيرى وأصحابه الأوغاد فقلده عسكره وفوض إليه جليل أموره وألجأ أكابر الأجناد ووجوه القواد والوزراء من العرب وغيرهم إلى الخضوع له والوقوف عند أمره ونهيه وحال نجدة حال مثله في غيه واستخفافه وركاكة عقله فتواطأ أهل الحفاظ من رجاله ووجوه أجناده على ما كان من انهزامهم في الغزوة التي غزاها عام ستة وعشرين وثلاثمائة وسماها غزاة القدرة لاحتفاله فيها وعظيم مشهدها فهزم فيها أقبح هزيمة واتبعهم العدو أيامًا يأسرونهم ويقتلونهم في كل محلة فلم يكد ينجو منهم إلا قوم جمعوا أصحابهم على ألويتهم وتخلصوا إلى بلدانهم فلم تكن له بعدها غزوة بنفسه. أ.هـ. وذكر المسعودي في مروج الذهب هذه الغزاة فقال: وكان عبد الرحمن في مائة ألف أو يزيدون فكانت وقعة بينه وبين ردمير ملك الجلالقة في شوال سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بعد الكسوف الذي كان في هذا الشهر وكانت للمسلمين عليهم ثم أنابوا بعد أن حوصروا وأولجوا إلى المدينة فقتلوا من المسلمين بعد عبورهم الخندق خمسين ألفًا وقيل: إن الذي منع رودمير من طلب نجا من المسلمين أمية بن إسحق فقد خوفه الكمين ورغبه في ما كان في معسكر المسلمين من الأموال والعدد والخزائن ولولإ ذلك لأتى على جميع المسلمين، ثم إن أمية بعد ذلك استأمن إلى عبد الرحمن وتخلص من رودمير فقبله عبد الرحمن أحسن قبول وقد كان عبد الرحمن بعد هذه الوقعة جهز عساكر مع عدة من قواده إلى الجلالقة، وكانت لهم معهم حروب هلك فيها من الجلالقة ضعف ما قتل من المسلمين في الوقعة الأولى وكانت للمسلمين عليهم إلى هذه الغاية ورودمير ملك الجلالقة إلى هذا الوقت وهو سنة اثنين وثلاثين وثلاثمائة انتهى كلام المسعودي المعاصر لتلك الوقائع.
فلما وجموا كلهم قام منذر بن سعيد البلوطي، من غير استعداد ولا روية ولا تقدم له أحد بشيء من ذلك فخطب واستحضر وجلَّى في ذلك القصد، وأنشد شعرًا طويلًا ارتجله في الغرض، ففاز بفخر ذلك المجلس، وعجب الناس من شأنه أكثر من كل ما وقع، وأعجب به الناصر، وولاه القضاء بعدها وأصبح من رجالات المعالم، وأخباره مشهورة، وخطبته في ذلك اليوم منقولة في كتب ابن حيان وغيره.
ثم انصرف هؤلاء الرسل، وبعث الناصر معهم هشام بن هديل بهدية حافلة ليؤكد المودة ويحسن الإجابة، ورجع بعد سنتين، وقد أحكم من ذلك ما شاء، وجاءت معه رسل قسطنطين، ثم جاء رسول من ملك الصقالبة، وهو يومئذ دفوه، ورسول آخر من ملك الألمان ورسول آخر من ملك الإفرنجة وراء ألبرت، وهو يومئذ أوفوه، ورسول آخر من ملك الإفرنجة بقاصية المشرق، وهو يومئذ كلدة، واحتفل الناصر بقدومهم وبعث مع رسول الصقالبة ربيعًا الأسقف إلى ملكهم دوفوه، ورجع بعد سنتين.
وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة جاء رسول أوردون، بطلب السلم، فعقد له، ثم بعث في سنة خمس وأربعين يطلب إدخال فردالند قومس قشتيلة في عهده فأذن له في ذلك، وأدخل في عهده. وكان غرسية بن شانجة قد استولى على جليقية بعد أبيه شانجة بن فرويلة، ثم انتقض عليه أهل جليقية وتولى كبرهم قومس قشتيلة فردلند المذكور ومال إلى أوردون بن رودمير، وكان غرسية بن شانجة حافدًا لطوطة ملكة البشكينس، فامتعضت لحافدها غرسية ووفدت على الناصر سنة سبع وأربعين ملقية بنفسها في عقد السلم لها ولولدها شانجة بن رودمير الملك وإعانة حافدها غرسية بن شانجة على ملكه ونصره من عدوه، وجاء الملكان معها فاحتفل الناصر لقدومهم وعقد الصلح لشانجة وأمه، وبعث العساكر مع غرسية ملك جليقية فرد عليه ملكه، وخلع الجلالقة طاعة أوردون، وبعث إلى الناصر شكره على فعلته وكتب إلى الأمم في النواحي بذلك وبما ارتكبه فردلند (قومس قشتيلة) في نكثه ووثوبه ويعيره بذلك عند الأمم، ولم يزل الناصر على موالاته وإعانته إلى أن هلك، ولما وصل رسول كلده ملك الإفرنجة بالشرق — كما تقدم — وصل معه رسول ملك برشلونة وطركونة راغبًا في الصلح فأجابه الناصر ووصل بعده رسول صاحب رومة يخطب المودة فأجيب. انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار، وسنستوفي إن شاء الله وصف الناصر وأبهة خلافته وعظمة قرطبة في أيامه في الأجزاء التالية المتعلقة بالأندلس فإن محل ذلك هناك لا هنا وإنما نقلنا هذا الفصل عن ابن خلدون تأييدًا لما ذكره المستشرق رينو من هذا الباب.
قال: وفي سنة أربع وخمسين سار غالب إلى بلد ألبه، ومعه يحيى بن محمد التجيبي وقاسم بن مطرف بن ذي النون، فابتنى حصن، عرماج ودوخ بلادهم وانصرف، وظهرت في هذه السنة مراكب المجوس في البحر الكبير وأفسدوا بسائط أشبونة، وناشبهم الناس القتال، فرجعوا إلى مراكبهم، وأخرج الحكم القواد لاحتراس السواحل، وأمر قائد البحر عبد الرحمن رماحس بتعجيل حركة الأسطول، ثم وردت الأخبار بأن العساكر نالت منهم من كل جهة من السواحل، ثم كانت وفادة أردون بن أذفونش ملك الجلالقة وذلك أن الناصر لما أعان عليه شانجة بن ردمير، وهو ابن عمه، وهو الملك من قبل أردون وحمل النصرانية على طاعته واستظهر أردون بصهره فردلند قومس قشتيلة توقع مظاهرة الحكم لشانجة كما ظاهره أبوه الناصر، فبادر إلى الوفادة على الحكم مستجيرًا به فاحتفل لقدومه وعى العساكر ليوم وفادته وكان يومًا مشهودًا، وصفه ابن حيان كما وصف أيام الوفادات قبله، ووصل إلى الحكم وأجلسه ووعده بالنصر من عدوه، وخلع عليه، وكتب بوصوله ملقيًا بنفسه وعاقده على موالاة الإسلام ومقاطعة فردلند القومس، وأعطى على ذلك صفقة يمينه ورهن ولده غرسية، ودفعت الصلات والحملات له ولأصحابه وانصرف معه وجوه نصارى الذمة ليوطدوا له الطاعة عند رعيته ويقبضوا رهنه، وعند ذلك بعث ابن عمه شانجة بن ردمير ببيعته وطاعته مع قوامس أهل جليقية وسمورة وأساقفتهم، يرغب في قبوله، ويمت بما فعل أبوه الناصر معه، فتقبل بيعتهم على شروط شرطها كان منها هدم الحصون والأبراج القريبة من ثغور المسلمين.
ثم بعث ملكا برشلونة وطوكونية وغيرهما يسألان تجديد الصلح وإقرارهما على ما كانا عليه وبعثا بهدية وهي عشرون صبيًّا من الخصيان الصقالبة، وعشرون قنطارًا من صوف السمور، وخمسة قناطير من القصدير، وعشرة أذرع صقلبية ومائتا سيف فرنجية، فتقبل الهدية وعقد على أن يهدموا الحصون التي تضر بالثغور، وأن لا يظاهروا عليه أهل ملتهم، وأن ينذروا بما يكون من النصارى في الأجلاب على المسلمين.
ثم وصلت رسل غرسية بن شانجة ملك البشكنس في جماعة من الأساقفة والقوامس يسألون الصلح، بعد أن كان توقف وأظهر المكر، فعقد لهم الحكم، فاغتبطوا ورجعوا.
ثم وفدت على الحكم أم لذريق القومس بالقرب من جليقية، وهو القومس الأكبر فأخرج الحكم لتلقيها أهل دولته واحتفل لقدومها في يوم مشهود مشهور، فوصلت وأسعفت، وعقد السلم لابنها كما رغبت، ودفع لها ما لا تقسمه بين وفدها دون ما وصلت به هي وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام مثقلين بالذهب وملحفة ديباج، ثم عاودت مجلس الحكم للوداع فعاودها بالصلات لسفرها وانطلقت.
ثم أوطأ عساكره أرض العدوة، من المغرب الأقصى والأوسط، وتلقى دعوته ملوك زناتة من مغراوة ومكناسة فبثوها في أعمالهم وخطبوا بها على منابرهم وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما بينهم، ووفد عليه من بني الحرز وبني أبي العافعية، فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم وأحسن منصرفهم واستنزل بني إدريس من ملكهم بالعدوة في ناحية الريف وأجازهم البحر إلى قرطبة ثم جلاهم إلى الإسكندرية.
وكان محبًّا للعلوم مكرمًا لأهلها جامعًا للكتب في أنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله، قال أبو محمد بن حزم: أخبرنى تليد الخصي، وكان على خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان، أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربعة وأربعون فهرسة، وفي كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين لا غير، وأقام للعلم والعلماء سوقًا نافقًا جُلبت إليه بضائعه من كل قطر.
قال أبو محمد بن خلدون: ولما وفد على أبيه أبو علي الفالي، صاحب كتاب الأمالي، من بغداد أكرم مثواه وحسنت منزلته عنده، وأورث أهل الأندلس علمه، واختص بالحكم المستنصر واستفاد علمه، وكان يبعث في شراء الكتب إلى الأقطار رجالًا من التجار ويرسل إليهم الأموال بشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه، وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم وأمثال ذلك.
وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كله واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، إلا ما يُذكر عن الناصر العباسي ابن المستضيء، ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر وأمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر، ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم إياها عنوة.
انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار.
ويقول دلبين إنه كان لهم أمير يقال له: «موجه» Mugat جرد عليه كونت بروڨنس جيشًا انضم إليه الجنويون، ولا شك أن دلبين يريد أن يتكلم عن الأمير مجاهد الذي كان أغار على سرادنية وكان البيزانيون أو البيازنة (كما يقول العرب) ولكن قصة مجاهد هذا وغارته على سردانية متأخرة عن هذا التاريخ بنحو من ثلاثين سنة. انتهى كلام رينو.
قلت مجاهد العامري من مماليك الملك الغازي الشهير المنصور بن أبي عامر، كان بعد ذهاب دولة المنصور قد تقلبت به الأحوال، فاستولى على دانية وشن الغارة على سردانية. ترجمه ابن عميرة في بغية الملتمس فقال: مجاهد بن عبد الله العامري. أبو الجيش الموفق، مولى عبد الرحمن الناصر بن المنصور محمد. كان من أهل الأدب والشجاعة والعلوم وأهلها، نشأ بقرطبة وكانت له همة وجلادة وجرأة، فلما جاءت أيام الفتنة وتغلبت العساكر على النواحي بذهاب دولة ابن أبي عامر قصد هو في من تبعه الجزائر التي في شرقي الأندلس، وهي جزائر خصب واسعة، فغلب عليها وحماها (يريد بهذه الجزائر ميورقة ومينورقة ويابسة)، ثم قصد منها في المراكب إلى سردانية (جزيرة من جزائر الروم كبيرة) في سنة ست أو سبع وأربعمائة فغلب على أكثرها وافتتح معاقلها.
ثم اختلفت عليه أهواء الجند وجاءت أمداد الروم، وقد عزم على الخروج منها طمعًا في تفرق من يشغب عليه، فعالجته الروم وغلبت على أكثر مراكبه، فأخبرني أبو الحسن نجبة بن يحيى قال: أنبأنا شريح بن محمد عن أبي محمد بن حزم قال: إن أبا الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني قال: كنت مع أبي الجيش مجاهد في سردانية فدخل بالمراكب في المرسى نهاه عنه أبو خروب رئيس البحريين، فلم يسمع كلامه، فهبت ريح فجعلت تقذف مراكب المسلمين مركبًا مركبًا إلى الريف، والروم وقوف لا شغل لهم إلا القتل والأسر للمسلمين، فكلما سقط مركب بين أيديهم جعل مجاهدًا يبكي بأعلى صوته، لا يقدر هو ولا غيره على أكثر من ذلك، لارتجاج البحر وزيادة الريح.
إلى أن يقول: قد كنت حذرته من الدخول ههنا فلم يقبل، قال فبجريعة الذقن ما تخلصنا في يسير من المراكب، هذا آخر خبر ثابت بن محمد.
ثم عاد مجاهد إلى الجزائر الأندلسية التي كانت في طاعته واختلفت به الأحوال حتى غلب على دانية وما يليها، واستقرت إقامته فيها، وكان من الكرماء على العلماء، باذلًا للرغائب في استمالة الأدباء، وهو الذي بذل لأبي غالب اللغوي تمام بن غالب ألف دينار على أن يزيد في ترجمة الكتاب الذي ألفه في اللغة مما ألفه لأبي الجيش مجاهد على ما ذكرنا في باب التاء، وفيه يقول أبو العلاء صاعد بن الحسن اللغوي وقد استماله على البعد بخريطة مال ومركب أهداهما إليه قصيدة أولها:
وجاء في معجم البلدان لياقوت: أن المسلمين غزوا سردانية في سنة ٩٢ في عسكر موسى بن نصير والذي قرأته في التواريخ أن عبد الله بن موسى بن نصير هو الذي فتح ميورقة وأخواتها ولعله غزا سردانية.
وجاء في تاريخ ابن عذارى المراكشي المسمى بالبيان المغرب، أن المسلمين غزوا سردانية في سنة ٢٠٦ وعليهم محمد بن عبد الله التميمي فأصابوا وأصيب منهم ثم قفلوا.
وقد اطلعت في مدينة جنوة على تاريخ بالطلياني لجمهورية جنوة لمؤلف يقال له: «فريدريسي دونافر» De Naver جاء فيه: إنه في سنة ١٠١٦ ذهب أسطول جنوي إلى سردانية وتقلب على قوة مجاهد الأمير العربي الذي كان استولى عليها، وأنه في سنة ١٠٣٤ وصل الأسطول الجنوي إلى إفريقية واحتل الجنوية عنابة، وأنه في سنة ١٠٨٧ ذهبت الأساطيل الجنوية والبيزانية، ومعها أسطول امالفي (بقرب نابولي) بأمر البابا فكتور الثالث، واجتاحت سواحل تونس وطرابلس واضطر أمير إفريقية أن يدفعهم عنها بفدية تبلغ نصف مليون بحسب المعاملة في زمن صاحب التاريخ وسلم إليهم الأسرى المسيحيين الذين كانوا عنده.
ومما جاء في تاريخ جنوة هذا أنه في مدة ١٣ سنة غزا الجنوية ثماني غزوات في بلاد الإسلام، وإن فتح الصلبيين لطرابلس الشام كان على أيدي الجنوية في ١٣ تموز سنة ١١٠٩ وأن أمير ياتشي قائد الجنوية تولى مدينة جبيل، ثم إنه في سنة ١١١٠ كانت له اليد الطولى في حصار بيروت وفتح الصليبيين لها. قال: واشترك الجنويون مع غودفروا دو بويون في فتح القدس وفتحوا صور وقيسارية.
هذا وجاء في تاريخ الخلفاء للإمام السيوطي أن الوليد بن عبد الملك تولى الخلافة في شوال سنة ست وثمانين وأنه في سنة ٨٧ فتح سردانية من جملة فتوحات عدها وأنه في سنة ٨٩ فتح جزيرتي ميورقة ومينورقة.
جاء في نفح الطيب ما يلي: ومن ذلك غزوة المنصور لمدينة شنت ياقب قاصية غليسية وأعظم مشاهد النصارى الكائنة ببلاد الأندلس وما يتصل بها من الأرض الكبيرة، وكانت كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا — وللكعبة المثل الأعلى — فبها يحلفون وإليها يجمعون من أقصى بلاد رومة وما وراءها، ويزعمون أن القبر المزور فيها قبر ياقب أحد الحواريين الاثنى عشر وكان أخصهم بعيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهم يسمونه أخاه للزومه إياه وياقب بلسانهم يعقوب، وكان أسقفًا ببيت المقدس فجعل يستقري الأرضين داعيًا لمن فيها حتى انتهى إلى هذه القاصية، ثم عاد إلى أرض الشام فمات بها، وله مائة وعشرون سنة شمسية، فاحتمل أصحابه رمته فدفنوها بهذه الكنيسة التي كانت أقصى أثره، ولم يطمع أحد من ملوك الإسلام في قصدها ولا الوصول إليها لصعوبة مدخلها وخشونة مكانها وبُعد شقتها، فخرج المنصور إليها من قرطبة غازيًا بالصائفة يوم السبت لستٍّ بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وهي غزوته الثامنة والأربعون، ودخل على مدينة قورية، فلما وصل إلى مدينة غليسية وافاه عدد عظيم من القوامس المتمسكين بالطاعة، في رجالهم وعلى أتم احتفالهم، فصاروا في عسكر المسلمين وركبوا في المغاورة سبيلهم، وكان المنصور تقدم في إنشاء أسطول كبير في الموضع المعروف بقصر أبي وانس من ساحل غرب الأندلس وجهزه برجاله البحريين وصنوف المترجلين وحمل الأقوات والأطعمة والعدة والأسلحة استظهارًا على نفوذ العزيمة، إلى أن خرج بموضع برتقال على نهر دويرة فدخل في النهر إلى المكان الذي عمل المنصور على العبور منه، فعقد هنالك من هذه الأسطول جسرًا بقرب الحصن الذي هنالك، ووجه المنصور ما كان فيه من الميرة إلى الجند فتوسعوا في التزود منه إلى أرض العدو، ثم نهض منه يريد شانت ياقب فقطع أرضين متباعدة الأقطار وقطع بالعبور عدة أنهار كبار وخلجان يمدها البحر الأخضر، ثم أفضى العسكر بعد ذلك إلى بسائط جليلة من بلاد فرطارس وما يتصل بها ثم أفضى إلى جبل شامخ شديد الوعر لا مسلك فيه ولا طريق لم يهتد الأدلاء إلى سواه، فقدم المنصور الفعلة بالحديد لتوسعة شعابه وتسهيل مسالكه، فقطعه العسكر وعبروا بعده وادي منية وانبسط المسلمون بعد ذلك في بسائط عريضة وأرضين، وانتهت مغيرتهم إلى دير قشان وبسيط يلنبو على البحر المحيط، وفتحوا حصن شنت بلايه وغنموه وعبروا بساحته إلى جزيرة من البحر المحيط لجأ إليها خلق عظيم من أهل النواحي، فسبوا من فيها ممن لجأ إليها، وانتهى العسكر إلى جبل مراسية المتصل من أكثر جهاته بالبحر المحيط فتخللوا أقطاره واستخرجوا من كان فيه وحازوا غنائمه، ثم أجاز المسلمون بعد هذا خليجًا في معبرين أرشد الأدلاء إليهما ثم نهر أبلة ثم أفضوا إلى بسائط واسعة العمارة كثيرة الفائدة، ثم انتهوا إلى موضع من مشاهد ياقب صاحب القبر تلو مشهد قبره عند النصارى في الفضل يقصد نساكهم له من أقاصي بلادهم ومن بلاد القبط والنوبة وغيرهما، فغادره المسلمون قاعا، وكان النزول بعد على مدينة شانت ياقب البائسة، وذلك يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شعبان، فوجدها المسلمون خالية من أهلها فحاز المسلمون غنائمها وهدموا مصانعها وأسوارها وكنيستها وعفوا آثارها، ووكل المنصور بقبر ياقب من يحفظه ويدفع الأذى عنه، وكانت مصانعها بديعة محكمة فغودرت هشيمًا كأن لم تغن بالأمس وانتسفت بعد ذلك سائر البسائط، وانتهت الجيوش إلى مدينة شنت مانكش منقطع هذا الصقع على البحر المحيط، وهي غاية لم يبلغها قبلهم مسلم ولا وطئها لغير أهلها قدم، فلم يكن بعدها للخيل مجال ولا وراءها انتقال، وانكفأ المنصور عن باب شنت ياقب وقد بلغ غاية لم يبلغها مسلم قبله، فجعل في طريقه القصد على عمل برمند بن أردون يستقريه عائثًا ومفسدًا حتى وقع في عمل القوامس المعاهدين الذين في عسكره، فأمر بالكف عنها ومر مجتازًا حتى خرج على حصن بليقية من افتتاحه، فأجاز هنالك القوامس بجملتهم على أقدارهم، وكساهم وكسا رجالهم وصرفهم إلى بلادهم وكتب بالفتح من بليقية.
وكان مبلغ ما كساه في غزاته هذه لملوك الروم ولمن حسن غناؤه من المسلمين ألفين ومائتين وخمسًا وثمانين شقة من صنوف الخز الطرازي وواحدًا وعشرين كساء من صوف البحر وكسائين عنبريين وأحد عشر سقلاطونًا وخمسة عشر مريشًا وسبعة أنماط ديباج وثوبي ديباج رومي وفروى فنك، ووافى جميع العسكر قرطبة غانمًا وعظمت النعمة والمنة على المسلمين ولم يجد بشنت ياقب إلا شيخًا من الرهبان جالسًا على القبر فسأله عن مقامه، فقال: أونس يعقوب. فأمر بالكف عنه. قال: وحدث شعلة قال: قلت للمنصور ليلة أطال سهره فيها: قد أفرط مولانا في السهر وبدنه يحتاج إلى أكثر من هذا النوم وهو أعلم بما يحركه عدم النوم من علة العصب، فقال: يا شعلة الملك لا ينام إذا نامت الرعية ولو استوفيت نومي لما كان في دور هذا البلد العظيم عين نائمة. انتهى ما نقلته من الكتاب المذكور.
وجاء في النفح من جملة مناقبه أنه خط بيده مصحفًا كان يحمله معه في أسفاره وغزواته يدرس فيه ويتبرك به، ومن قوة رجائه أنه اعتنى بجمع ما علق بوجهه من الغبار في غزواته ومواطن جهاده فكان الخدم يأخذونه عنه بالمناديل في كل منزل من منازله حتى اجتمع له منه صرة ضخمة عهد بتصييرها في حنوطه، وكان يحملها حيث صار مع أكفانه، توقعًا لحلول منيته، وقد كان اتخذ الأكفان من أطيب مكسبه من الضيعة الموروثة عن أبيه وغزل بناته، وكان يسأل الله أن يتوفاه في طريق الجهاد فكان كذلك. انتهى.
قلت: وقبره معروف في مدينة سالم والإسبانيول يلفظونها مدينة سالي أو ثالي بالثاء.
وكانت هذه هي الغلطة الكبرى التي بدأ بها انقراض دولة المنصور ودولة بني أمية ودولة الإسلام كلها في الأندلس لأن هذا الاعتداء أغضب الكثيرين، وبدأت به الحرب الأهلية التي شغلت المسلمين بعضهم ببعض وتركت الثغور عورة، وأوجدت ملوك الطوائف يقتتلون ليلًا ونهارًا بمشهد من عدو الأمة.
وجاء في النفح أن أهل الدولة نقموا على عبد الرحمن (ولي العهد) ما فعله مما كان فيه حتفه وانقراض دولته ودولة قومه وكان أسرع الناس كراهة لذلك الأمويون والقرشيون، فغصوا بأمره وأسفوا من تحويل الأمر جملة من المضرية إلى اليمنية، فاجتمعوا لشأنهم وتمشت من بعض إلى بعض رجالاتهم وأجمعوا أمرهم في غيبة من المذكور، في غزاة من صوائفه ببلاد الجلالقة، ووثبوا بصاحب الشرطة بقرطبة فقتلوه بمقعد من باب قصر الخلافة، وخلعوا هشامًا المؤيد الذي ولي عهده عبد الرحمن بن المنصور، وبايعوا محمد بن هشام بن عبد الجبار ابن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر ولقبوه بالمهدي بالله، وطار الخبر إلى عبد الرحمن بمكانه من الثغر فانفض جمعه وقفل إلى الحضرة، وقد تسلل عنه جنده ووجوه البربر ولحقوا بقرطبة وبايعوا المهدي وأغروه بعبد الرحمن لسوء سيرته، فاعترضه من قبض عليه واحتز رأسه وحمله إلى المهدي، وذهبت دولة العامريين كأن لم تكن.
قال: وكان رؤساء البربر وزناتة قد لحقوا بالمهدي الخليفة الجديد لما رأوا من سوء تدبير عبد الرحمن، إلا أن الأمويين كانوا حاقدين عليهم لما كان من مظاهرتهم للعامريين، فلم يلبثوا أن سخطتهم القلوب وخزرتهم العيون ونهبت العامة دورهم وشكوا أمرهم إلى المهدي فلم تنفع شكواهم فتمشت رجالاتهم وأسروا نجواهم، وبايعوا هشام بن سليمان ابن أمير المؤمنين الناصر، فعوجلوا عن مرامهم ذلك وثار بهم السواد الأعظم وأزعجوهم عن المدينة، وتقبضوا على هشام وأخيه أبي بكر وأحضروهما بين يدي المهدي، وضربت أعناقهما.
وفر سليمان ابن أخيهما واجتمع في البربر في ظاهر قرطبة، فبايعوه ولقبوه المستعين بالله ونهضوا به إلى طليطلة فاستجاشوا بالنصارى، وزحف ابن أذفونش في جيش انضم إلى البربر ووصلوا إلى قرطبة وهزموا المهدي ومن معه، وقتل في ذلك اليوم ما يزيد على عشرين ألفًا، ودخل المستعين قرطبة ختام سنة أربعمائة، ولحق المهدي بطليطلة واستجاش هو أيضًا بابن أذفونش فزحف معه إلى قرطبة وهزموا المستعين والبربر أصحابهم، ودخل المهدي قرطبة وملكها ثانية.
وخرج المستعين مع البربر وتفرقوا في البسائط ينهبون ولا يبقون على أحد، ثم ارتحلوا إلى الجزيرة الخضراء، فخرج المهدي ومعه ابن أذفونش لقتالهم فكرُّوا عليهم وانهزم المهدي وابن أذفونش ومن معهما من المسلمين والنصارى، ودخل المستعين قرطبة ثاني مرة، ولكنه لم يدخلها هذه المرة خليفة بل أخرج هشامًا الخليفة القديم وبايع له وقام بأمر حجابته، ظنًّا منه أن ذلك يحسم الفتنة، وقام أهل قرطبة وأغروا أهل القصر بالمهدي وقتلوه، ظنًّا بأن قتله يحسم النزاع، وصار هشامًا هو الخليفة، وقام واضح العامري بحجابته، فعند ذلك بعث المستعين إلى النصارى يستعديهم لمظاهرته فبعث إليهم الخليفة هشام وحاجبه واضح يكفونهم عن ذلك بأن يسلموا إليهم الحصون والقلاع التي كان المنصور قد افتتحها من بلادهم وهكذا وقف الأذفونش عن مساعدة المستعين، ولكن المستعين والبربر تغلبوا على أهل قرطبة ودخلوها عنوة ونهبوها وأنزلوا المعرات في أهلها، وتولى البربر الأعمال واستقلوا بالبلاد مثل باديس بن حيوس في غرناطة، والبرزالي في قرمونة والغرني في روندة، وهزرون في شريش.
وافترق شمل الجماعة بالأندلس وسقطت هيبة الخلافة وبدأ دور الانحطاط بخمس دولة صغيرة كبني عباد بأشبيلية، وبني الأفطس ببطليوس، وبني ذي النون بطليطلة، وبني هود بسرقسطة، وابن أبي عامر ببلنسية، ومجاهد العامري بدانية والجزائر. انتهى نقلًا عن نفح الطيب.
وقال ابن عذارى في كتابه «البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب»: إن عبد الملك المظفر بن المنصور عند وفاة أبيه كتب إلى أقطار المملكة بالأندلس والعدوة، فاستوثق له الأمر ولم يرد أحد طاعته، واجتمع الناس على حبه، وكان مع غلبة النبيذ عليه واستغراقه في لذاته مراقبًا لربه باكيًا على ذنبه، وكان من فرط الحياء مع الشجاعة في غاية بعيدة، وله في بلاد الروم آثار عظيمة، غزا سبع غزوات في مدته وفي السابعة توفي، قيل مات مسمومًا وقيل مات من علة الذبحة، وكان موته بمنزل أم هانئ بمقربة من أرملاط لأربع خلون من صفر سنة ٣٩٩ فكانت مدته في الملك ست سنين وأربعة أشهر وسبعة أيام، وكانت أول غزواته إلى بلاد الإفرنج سنة ٣٩٣ ودوخ بسائط برشلونة وفتح حصن ممقصر عنوة وأسكنه المسلمين.
وقال ابن عذارى: إنه لما ذهب عبد الملك إلى مدينة سالم واقاه هنالك عدة زعماء من وجوه النصارى وفرسانهم، أرسل بهم ملك القوط يومئذ أذفونش بن أردن المعروف بابن البربرية، ومعهم آخرون ممن أرسل بهم خاله شانجة بن غرسية زعيم الجلالقة وصاحب قشتيلة وألبة، وحضر هؤلاء الأرهاط للغزو بين يدي عبد الملك على ما تضمنه شرط سلمهم المنعقد صدر هذه الدولة، وافين بالعهد حافظين للحرمة، فأحسن عبد الملك قبولهم وأصعد عن مدينة سالم نحو الشفير الأعلى، قال نقلًا عن حيان بن خلف: إنه في غزاته لأرض برشلونة افتتح ستة حصون، ولكن الحصون التي دمرها للعدو خمسة وثمانون حصنًا.
قال: وفي سنة ٣٩٥ غزا جليقية، وكان مظفرًا، وسنة ٣٩٦ غزا بنبلونة وسار إلى سرقسطة ثم إلى وشقة ثم إلى بربشتر، ومنها دخل أرض العدو ودمرها تدميرًا، وسنة ٣٩٧ غزا بلاد قشتيلة من عمل الطاغية شانجة بن غرسية بن فرلند، وهي غزاة قلونية الخامسة من غزواته المعروفة بغزاة النصر التي لقي فيها شانجة بجميع النصرانية على اختلافها، فهزمه عبد الملك هزيمة عظيمة، رزق الله المسلمين فيها النصر المبين، وعلى أثرها تسمى عبد الملك بالمظفر، وصدر له بذلك منشور من الخليفة هشام، وأضاف إلى لقب المظفر لقب سيف الدولة، وسنة ٣٩٨ غزا عبد الملك بالشاتية، وهي السادسة من غزواته، واحتل شنت مرتين، ثم غزا غزاته السابعة سنة ٣٩٨ وقال فيها نقلا عن ابن حيان: ومن كبار علل عبد الملك ومنكراتها على الإسلام ومؤذناتها بما جرى عليه بعد من الانثلام، علته الشديدة بمدينة سالم، مخرجه إليها سنة ثمان وتسعين، محتفلًا لقصد عدو الله شانجة بن غرسية بن فرلند، فصدته عن الدخول إليه بجموع المسلمين واشتدت به مدة تفرق عنه فيها أكثر المطوعة، وصارت على الإسلام مصيبة بما أوهنت من بطش عضده ونقصت من حفيل عدده، ورام مع ذلك كله الاقتحام على أعداء الله في حال تفوهه طمعًا في إتمام غزوه فكانت آخر صائفة نفذت من الحضرة، إذ هلك عبد الملك وألقت بركها الفتنة.
قال: لما دفن المظفر رحمه الله تأهب أخوه عبد الرحمن الملقب بشنجول (اسم غلب عليه من قبل أمه بنت شانجة النصراني الملك تذكرًا منها لاسم أبيها فكانت تدعوه في صغره بشنجول وكان أشبه الناس بجده شانجة) فنظر في الأمور نظرًا غير سديد وأنفق الأموال في غير وجهها، ثم لما مضى لوقته شهر ونصف تصنع للخليفة هشام بن الحكم، وطلب منه أن يوليه العهد من بعده، وأن يتسمى بولي عهد المسلمين، ففعل ذلك هشام لضعفه وسوء نظره ونقصان فطرته، فولاه عهده، فكان ذلك سبب انحراف أكابر الأندلس عن عبد الرحمن، لما تبين لهم من سخف عقله وسرعته إلى نقل المملكة عن خلفائها إليه دون غزاة ولا نصرة في حرب.
وقد شرح ابن عذارى فتنة قرطبة التي أدت إلى انهيار الإسلام في الأندلس مع أسبابها وتفاصيلها بما لم يشرحه مؤرخ قبله ولا بعده، وسنأتي على ذلك في الأجزاء التالية، وقد ذكر في عرض كلامه على استجاشة مسلمي قرطبة بالإسبانيول بعضهم على بعض أن رجلًا نصرانيًّا وقف في أعظم شوارع قرطبة فقال قولًا نال منه ﷺ، فلم يكلمه أحد بكلمة، فقال رجل من المسلمين غيرة للنبي: ألا تنكرون ما تسمعون؟ أما أنتم مسلمون؟ فقال له جماعة من أهل قرطبة: امض لشغلك، وكان الإفرنج إذا سمعوا الأذان للصلاة قالوا قولًا لا يذكر فلا يعترض عليهم أحد بشيء. انتهى.
ومن أعجب أحوال هذه الجزيرة بقاؤها على من هي في يده، مع صغر أحلام أهلها وضعة نفوسهم ونقص عقولهم وبعدهم من البأس والشجاعة والفروسية والبسالة ولقاء الرجال ومراس الأنجاد والأبطال. انتهى.
وجاء في المسالك والممالك لابن حوقل عند الكلام على بحر الروم ما يؤيد قول رينو من إدبار أمر المسلمين منذ أوائل القرن الرابع للهجرة، وذهاب ما كان فيهم من حماسة في القرون الثلاثة الأولى، واستيلاء الرخاوة عليهم حتى أصبحوا لا يمنعون ذمارهم ولا يقدرون أن يحملوا جارهم.
قال ابن حوقل: وليس في البحار أعمر حاشية من هذا البحر؛ لأن العمارات في الجانبين ممتدة غير منقطعة ولا ممتنعة وسائر البحار تعترض في شطوطها المفاوز والمقاطع، وقد ألح الروم فقي وقتنا هذا على المسلمين الذين على سواحله بالغارات واختطاف مراكبهم من كل جهة ولا غياث لهم ولا ناصر، والملك فيهم حقير ذليل وهو جامع مانع والعالم يسرق ولا يشبع، ويفتي بالتأويل على ما يختار ولا يخاف معادًا ولا مرجعًا، والتاجر فاجر لا يعاف حرامًا ولا مطعمًا، والزاهد ذئب أدرع في كل بلية يشرع وبكل ريح يقلع، فالثغور والجزائر إلى الأعداء مسلمة، والأرض إلى الله من أربابها متظلمة. انتهى
قلت: كان هذا كلام ابن حوقل في الثلث الأول من القرن الرابع للهجرة مما يدل على أن المرض قديم، وإنه لا عجب إذا آلت الحال إلى ما آلت إليه فيما بعد، لكن المسلمين هبت لهم ريح في القرن التاسع للهجرة وعاد بحر الروم كما بدا تحت سلطتهم وذلك في أيام السلطان سليمان العثماني وخير الدين بربروس وعمال السلطان على جزائر الغرب، وبقيت لهم تلك الصولة مدة طويلة إلى ان انتكث حبلها في القرون الأخيرة، وما زالت الأيام مدًّا وجزرًا مذ خلق الله العالم.
وجاء في صبح الأعشى عن الجلالقة أنهم أمة يغلب عليهم الجهل والجفاء، ومن زيهم أنهم لا يغسلون ثيابهم بل يتركونها عليهم إلى أن تبلى، ويدخل أحدهم دار غيره بغير إذن. وهم أشد من الفرنج.
ثم ذكر القلقشندي مدينة سمورة وقال: إنها قاعدة جليقية، وقال: إن المسلمين كانوا ملكوها ثم استرجعها الجلالقة زمن الفتنة، أي زمن فتنة شنجول العامري الذي باعتدائه على الخلافة مع عدم أهليته الشخصية جر على الإسلام من الفرقة ما انتهى أخيرًا بضياع الأندلس.
قلت: وقد تقدم هذا الخبر وهو أشبه بالأساطير.